النصارى وهو: لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله إذا أتى بإهلاكه وإهلاك غيره.
قوله جل جلاله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] قال ابن قتيبة: يعنون أنه من حدبه وعطفه علينا كالأب المشفق، وقيل: إن هذا من باب حذف المضاف، معناه: نحن أبناء رسل الله.
قال ابن عباس: إنما قالوا هذا حين حذرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقوبة الله.
وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] أي: لم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بذنوبهم، وهم الذين مسخهم الله تعالى قردة وخنازير من أصحاب السبت وأصحاب المائدة.
وهذا احتجاج عليهم وتكذيب لقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، لأن الوالد لا يعذب ولده والحبيب لا تطيب نفسه بتعذيب حبيبه.
ثم صرح بتكذيبهم فقال: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18] كسائر بني آدم مجزيون بالإحسان والإساءة، {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] قال عطاء: لمن يوحد، {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] من لا يوحد.
وقال السدي: يهدي منكم من يشاء فيغفر له، ويميت منكم من يشاء على كفره فيعذبه.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة: 18] أي: أنه يملك ذلك لا شريك له فيعارضه، وهو يملك المغفرة لمن يشاء والتعذيب لمن يشاء، وإليه المصير وإليه يئول أمر العباد في الآخرة.
قوله عز وجل: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} [المائدة: 19] قال ابن عباس: على انقطاع من الأنبياء.
يقال: فتر الشيء يفتر فتورا، إذا سكنت حدته وانقطع عما كان عليه.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بعد انقطاع الرسل، لأن الرسل كانت متواترة بعضها في إثر بعض إلى وقت رفع الله عيسى عليه السلام.
وقوله: أن تقولوا أي: لئلا تقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19] .(2/170)
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ {20} يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ {21} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ {22} قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {23} قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ {24} قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {25} قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {26} } [المائدة: 20-26] قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20] قال الكلبي: جعل منكم أنبياء على عهد موسى بن عمران وهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه، فانطلقوا معه إلى الجبل.
وجعلكم ملوكا: قال ابن عباس: جعل لهم الخدم والحشم.
وقال مجاهد: كل من لا يدخل عليه إلا بإذنه فهو ملك.
وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم وسخر لهم من بني آدم.
وقال السدي: يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط بمنزلة العبيد وأهل الجزية.
277 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(2/171)
قَالَ: «كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَ لأَحَدِهِمْ خَادِمٌ وَامْرَأَةٌ وَدَابَّةٌ كُتِبَ مَلِكًا»
278 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عِيسَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقُشَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الأَغْنِيَاءِ، قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا.
قَالَ: فَأَنْتَ مِنَ الْمُلُوكِ.
وروي أن الحسن تلا هذه الآية فقال: وهل المُلك إلا مركب وخادم ودار؟ وقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] قال مجاهد، والكلبي: بأن ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وفلق لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم.
قوله تعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] قال قتادة: هي الشام كلها.
وقال عكرمة، والسدي: هي أريط.
وقال الكلبي: دمشق وفلسطين.
ومعنى المقدسة: المطهرة، وتلك الأرض طهرت من الشرك، وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء.(2/172)
وقوله {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] قال ابن عباس، والسدي: أمركم بدخولها، وفرض عليكم دخولها، {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21] لا ترجعوا إلى دينكم الشرك بالله وإلى معصيته فتنقلبوا خاسرين.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] قال المفسرون: هم العمالقة فرقة من عاد.
وأراد بالجبارين: الطوال الأقوياء العظام، من قولهم: رجل جبار، إذا كان طويلا عظيما، تشبيها بالجبار من النخل، وهو الذي فات الأيدي بطوله، قال قتادة: كانت لهم أجسام وخلق عجب ليس لغيرهم.
أخبر الله تعالى أنهم أبوا على موسى دخول تلك القرية، واعتلوا بأن فيها قوما جساما أقوياء لا يطيقونهم، وأنهم لا يدخلونها حتى يخرج منها هؤلاء القوم، فذلك قوله {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22] .
قوله عز وجل: قال رجلان قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هم يوشع بن نون وكالب، {مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة: 23] الله في مخالفة أمره {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة: 23] بالإسلام، قال عطاء: بالصلاح والفضل واليقين.
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة: 23] الآية: قال المفسرون: إنهما قالا لبني إسرائيل: نحن أعلم بالقوم، إنهم قد ملئوا منا رعبا، إنا رأيناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة وإنكم تغلبونهم.
وذلك قوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة: 23] في نصره إياكم على الجبارين {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] مصدقين بما أتاكم به رسوله.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة: 24] قال المفسرون: إن عشرة من النقباء نقضوا العهد، وقالوا لبني إسرائيل: رأينا حصونا منيعة وجبابرة، ولا يدان لكم بهم.
فجبن القوم وخافوا، ولم يثقوا بنصر الله، وقالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] قال الحسن: هذا القول كفر منهم بالله.(2/173)
وقال المفسرون: إنما قالوا هذا جهلا منهم، وفسقوا بذلك، لأن الله تعالى سماهم فاسقين في هذه القصة، وكذلك موسى سماهم فاسقين، وهو قوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] ، وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] .
قال الزجاج: أعلمَ اللهُ أن أهل الكتاب لم يزالوا غير قابلين من الأنبياء قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الخلاف شأنهم.
279 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَسَدٍ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا حَمْدَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ الْمِقْدَادُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنا لا نَقُولُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا أنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنِ امْضِ وَنَحْنُ مَعَكَ، فَكَأَنَّهُ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ عُمَرَ
280 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَرَجَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَسَكَتَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: إِنَّمَا يُرِيدُكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: اذْهَبْ(2/174)
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا أنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَنَا حَتَّى تَبْلُغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَكُنَّا مَعَكَ
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] قال الكلبي: لما قالوا: اذهب أنت وربك. . . غضب موسى، وكان رجلا حديدا، ف {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة: 25] يقول: لم يطعني منهم إلا نفسي وأخي، والمعنى: لا أملك إلا طاعة نفسي وأخي.
{فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] فاقض واحكم بيننا وبين القوم العاصين.
قال فإنها: فإن الأرض المقدسة محرمة عليهم: ممنوعة منهم دخولها أربعين سنة: قال ابن عباس: حرم الله على الذين عصوا دخول بيت المقدس فماتوا في التيه، ولم يدخل بيت المقدس ممن خرج من مصر أحد، لا موسى ولا هارون إلا الرجلان اللذان قالا: ادخلوا عليهم الباب، يوشع وكالب، دخلا بأبناء الذين خرجوا من مصر بعدما تاهوا أربعين سنة.
وقال الكلبي: قال الله تعالى لموسى: إذ سميتهم فاسقين فإنها محرمة عليهم.
وقوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 26] يقال: تاه يتيه توْها وتيْها إذا تحير ولم يهتد، وأرض تيه، وتيهاء، ومتيهة: يتيه فيها الإنسان.
قال مجاهد والحسن: كانوا يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا.
وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] قال ابن عباس: يريد: لا تحزن على القوم الذين عصوك وعصوني.(2/175)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {27} لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ {28} إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ {29} فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ {30} فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ {31} مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ {32} } [المائدة: 27-32] قوله عز وجل: واتل عليهم: واقرأ على قومك نبأ: خبر ابني آدم: قابيل وهابيل بالحق: كما كان {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا} [المائدة: 27] كان هابيل صاحب غنم فنظر إلى خير كثير فتقرب إلى الله تعالى، ونظر قابيل إلى شر قمحه فتقرب به إلى الله تعالى، فنزلت نار من السماء فاحتملت قربان هابيل، ولم تحمل قربان قابيل، فعلم أن الله تعالى قد قبل من أخيه ولم يقبل منه فحسده، وهو قوله: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ} [المائدة: 27] هابيل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] قال ابن عباس: قال له هابيل: إنما يتقبل الله ممن كان زاكي القلب.
والمعنى: من المتقين للمعاصي.
قوله جل جلاله: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة: 28] يقول هابيل لأخيه: لئن بدأتني بالقتل فما أنا بالذي أبدؤك بالقتل {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] في قتلك.(2/176)
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: تحتمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي.
وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة: 29] بالإثمين، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 29] قال ابن عباس: يريد: إن جهنم جزاء من قتل أخاه ظلما.
قوله جل جلاله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] قال مجاهد: شجعته نفسه على قتل أخيه.
وقال قتادة: زينت له نفسه.
وقال ابن زباب: سهلت له ذلك.
واختاره الأزهري فقال: المعنى: سهلت له نفسه قتل أخيه، أي: جعلته سهلا وهونته.
وتقدير الكلام: فصورت له نفسه أن قتل أخيه طوع له سهل عليه.
{فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] قال ابن عباس: خسر دنياه وآخرته، أما الدنيا فأسخط والديه وبقى بلا أخ، وأما الآخرة فأسخط ربه وصار إلى النار.
281 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِيهِ كِلاهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ
282 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ(2/177)
الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ عَلَيْهِ نِصْفُ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ»
283 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْغَازِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرَّفَّاءُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْد، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْقَى النَّاسِ رَجُلانِ: عَاقِرُ نَاقَةِ ثَمُودَ، وَابْنُ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ، مَا يُسْفَكُ عَلَى الأَرْضِ دَمٌ إِلَّا لَحِقَهُ مِنْهُ شَيْءٌ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ "
قوله عز وجل: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 31] قال المفسرون: إن قابيل لما قتل أخاه تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به، لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، فحمله في جراب على ظهره حتى أَرْوَحَ {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 31] يثير التراب من الأرض.
قال ابن عباس: وكانا غرابين اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، وقابيل ينظر، ثم بحث في الأرض حتى جعل له حفرة فدفنه فيها، ففعل قابيل مثلما فعل الغراب.(2/178)
وتقدير الكلام: يبحث في الأرض على غراب ميت {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] كيف يستر جيفة أخيه قال قابيل: يا ويلتى أي: قد لزمني الويل بحملي جيفة ميت، {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] على حمله والتطواف به حين رأى الغراب فعل ذلك.
قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} [المائدة: 32] أي: بسبب قتل قابيل أخاه {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] قال عطاء: قضينا.
وقال الكلبي: فرضنا على بني إسرائيل.
{أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة: 32] وجب عليه القصاص {أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 32] يعني: الإشراك بالله، {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] قال مجاهد: من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها، كما يصلاها لو قتل الناس جميعا.
وقال الحسن: يجب عليه القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه القتل لو قتل الناس جميعا.
وقال سعيد بن جبير: من استحل قتل نفس فهو كذلك في دماء الناس كلهم لا يتحرج لها، ومن أحياها: مخافة من الله، وتحرجا من قتلها فكذلك يرى دماء الناس كلهم حراما.
وهذا كما يروى عن قتادة، والضحاك أنهما قالا: عظم الله أجرها، وعظم وزرها، فمن استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا، لأنهم لا يسلمون منه، ومن أحياها فحرمها وتورع عن قتلها {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] لسلامتهم عنه.
قال مجاهد: ومن لم يقتلها فقد أحياها.
قوله: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة: 32] قال ابن عباس: بأن لهم صدق ما جاءوا به من الفرائض والحلال والحرام.
{ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32] مجاوزون حد الحق.
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي(2/179)
الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {33} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {34} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {35} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {36} يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ {37} } [المائدة: 33-37] قوله عز وجل: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية: نزلت في قصة العرنيين، وهي ما
284 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَجِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنا كُنَّا أَهْلَ ضَرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، فَاسْتَوْخَمْنَا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا، فَقَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الزَّوْدَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالِهِمْ قَالَ قَتَادَةُ: ذَكَرَ لَنَا أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، إِلَى قَوْلِهِ قَتَادَة(2/180)
ومعنى {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] يعصونهما ولا يطيعونهما، وكل من عصاك فهو حرب لك.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] أي: بالقتل والسرقة وأخذ الأموال، فكل من أخذ السلاح على المسلمين فهو محارب لله ورسوله، وإن كان في بلد كالمكابر في البلاد، وهذا قول مالك، والأوزاعي، ومذهب الشافعي.
وقوله تعالى: أن يقتلوا إلى قوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] قال الوالبي، عن ابن عباس: أو دخلت للتخيير ومعناها: الإباحة، إن شاء الإمام قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء نفى.
وهذا قول الحسن، وسعيد بن المسيب، ومجاهد.
وقال ابن عباس في رواية عطية: أو ليست للإباحة، إنما هي مرتبة للحكم باختلاف الجناية، فمن قتل وأخذ المال صلب وقتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع، ومن سفك الدماء وكف عن الأموال قتل، ومن أخاف السبيل ولم يقتل نفي، وهذا قول قتادة، والسدي، ومذهب الشافعي.
قال الشافعي: ويحد كل واحد بقدر فعله، فمن وجب عليه القتل والصلب قتل قبل صلبه كراهية تعذيبه، ويصلب ثلاثا ثم ينزل، ومن وجب عليه القتل دون الصلب قتل، ودفع إلى أهله يدفنونه، ومن وجب عليه القطع دون القتل قطعت يده اليمنى ثم حسمت، ثم رجله اليسرى، ثم حسمت، وذلك معنى قوله: من خلاف.
وقوله: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] قال ابن عباس: هو أن يهدر الإمام دمه، فيقول: من لقيه فليقتله، هذا فيمن لم يقدر عليه.
فأما المقبوض عليه فنفيه من الأرض بالحبس والسجن، لأنه إذا سجن وضع من التقلب في البلاد فقد نفي منها.
أنشد ابن قتيبة، وابن الأنباري قول بعض المسجونين:
خرجنا من الدنيا ونحن مِنَ اهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا موتى(2/181)
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وقوله {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] أي: فضيحة وهوان، {وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وهذا للكفار الذين نزلت فيهم الآية.
ثم جرى حكم هذه الآية على المحاربين من المسلمين، فبقى العذاب العظيم في الآخرة للكافرين.
والمسلم إذا عوقب بجنايته في الدنيا كانت عقوبته كفارة له.
قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] أكثر أهل التفسير: على أن المراد بهذا الاستثناء المشرك المحارب إذا آمن وأصلح قبل القدرة عليه سقط عنه جميع الحدود التي ذكرها الله تعالى، ولا يطالب بشيء مما أصاب، لا مال ولا دم، وكذلك لو آمن من بعد القدرة عليه لم يطالب بشيء.
قال الزجاج: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ليكون ذلك أدعى إلى الدخول في الإسلام.
فأما المسلم المحارب إذا تاب واستأمن من قبل القدرة عليه، فقال السدي: هو كالكافر إذا آمن لا يطالب بشيء إلا إذا أصيب عنده مال بعينه فإنه يرد إلى أهله.
وبهذا حكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في حارثة بن بدر، وكان قد خرج محاربا وذلك ما(2/182)
285 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ حَارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ التَّمِيمِيُّ أَفْسَدَ فِي الأَرْضِ وَحَارَبَ، فَأَتَى سَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ فَانْطَلَقَ سَعِيدٌ إِلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا جَزَاءُ مَنْ حَارَبَ وَسَعَى فِي الأَرْضِ فَسَادًا؟ قَالَ: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ، قَالَ: فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، قَالَ: تُقْبَلُ تَوْبَتُه، قَالَ: فَإِنَّهُ حَارِثُ بْنُ بَدْرٍ فَأَتَاهُ بِهِ فَأَمَّنَهُ، وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا
وقال الشافعي: يسقط عنه بتوبته قبل القدرة عليه حد الله، ولا تسقط حقوق بني آدم ما كان قصاصا أو مظلمة في مال.
قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة: 35] أي: اتقوا عقابه بطاعته، وابتغوا: اطلبوا {إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] : ومعنى الوسيلة: الوصلة والقربة من وسل إليه، إذا تقرب إليه.
قال ابن عباس: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] القربة.
وقال قتادة: تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه.
وقال الكلبي: اطلبوا إليه القربة بالأعمال الصالحة.
{وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة: 35] في طاعته لعلكم تفلحون كي تسعدوا وتبقوا في الجنة.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 36] الآية: أخبرنا الله تعالى أن(2/183)
الكافر يوم القيامة لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها، ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء، ثم أخبر أنهم خالدون في النار لا يخرجون، فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ} [المائدة: 37] وإرادتهم الخروج يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرج منها، كما قال الله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20] .
والثاني: أنهم يتمنون ذلك ويردونه بقلوبهم، كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون: 107] ، قال الله تعالى {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37]
286 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنِ احْتَرَقُوا، قَالَ: قُلْتُ: أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] قَالَ: اقْرَأْ مَا قَبْلَهَا، إِنَّمَا هَذِهِ لِلْكُفَّارِ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} [المائدة: 36] الآيَةَ كُلَّهَا
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {38} فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {39} أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {40} } [المائدة: 38-40] قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] قال الحسن، والسدي، والشعبي: أراد الأيمان.(2/184)
وكذلك في قراءة عبد الله: فاقطعوا أيمانهما وأراد: يمينا من هذا ويمينا من هذه فجمع، قال الفراء، والزجاج: كل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا جمع، فقيل: قد هشمت رءوسهما، وملئت ظهورهما وبطونهما ضربا.
ومثله قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وذلك أن الإضافة تبين أن المراد بالجمع التثنية، فإذا قلت: شبعت بطونهما، علم أن للاثنين بطنين، والتثنية في هما أغنتك عن التثنية في بطن.
وهذه الآية مجملة في إيجاب القطع على السارق، وتفصيل ذلك مأخوذ من السنة، وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] قال الزجاج: نصب لأنه مفعول له، والمعنى: فاقطعوهما لجزاء فعلهما، وكذلك: {نَكَالا مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] قال ابن شهاب: نكل الله بالقطع في السرقة عن أموال الناس.
والله عزيز: في انتقامه من السارق، حكيم: فيما أوجبه من قطع يده.
قال الأصمعي: كنت أقرأ { [المائدة وبجنبي أعرابي، فقرأت هذه ال:، فقلت: نكالا من الله والله غفور رحيم.
سهوا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام الله.
قال: أعد.
فأعدت: والله غفور رحيم.
فقال: ليس هذا كلام الله.
فتنبهت وقرأت:] وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] ، فقال: أصبت هذا كلام الله.
قلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا.
قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ قال: يا هذا، عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.
قوله عز وجل: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] قال ابن عباس: أي تاب بنية صادقة، وترك ظلم الناس، فإن الله يتجاوز عنه ولا يسقط عنه القطع بالتوبة.
قال مجاهد: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] تاب الله عليه، والحد كفارة له.
وقال الكلبي: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] العمل بعد القطع والسرقة فإن الله يتجاوز عنه.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40] قال الضحاك: يعذب من يشاء على الذنب الصغير إذا قام عليه، {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 40] الذنب الكبير إذا نزع عنه.
وقال السدي: يهدي من يشاء فيغفر له، ويعذب من يشاء فيميته على كفره.(2/185)
{يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {41} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {42} وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ {43} إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ {44} } [المائدة: 41-44] قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة: 41] قال الزجاج: أي: لا يحزنك مسارعتهم في نصرة الكفر إذ كنت موعودا النصر عليهم.
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] قال ابن عباس: هم المنافقون {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 41] يعني: يهود المدينة {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] أي: فريق سماعون للكذب يسمعون منك ليكذبوا عليك، أي: إنما يجالسونك ويسمعون منك ليكذبوا عليك، ويقولوا إذا خرجوا من عندك: سمعنا منه كذا وكذا ولم يسمعوا ذلك منك.
{سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [المائدة: 41] يعني: يهود خيبر.
قال الزجاج: أي: هؤلاء عيون لأولئك الغُيَّبِ، ينقلون إليهم أخبارك.
{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] من بعد أن وضعه الله مواضعه، يعني: آية الرجم، يقولون يعني: يهود(2/186)
خيبر ليهود المدينة: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشرف أهل خيبر زنيا فكان حدهما الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فبعثوا الزانيين إلى بني قريظة ليسألوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا، ما حدهما، قالوا: إن أفتاكم بالجلد فخذوه واجلدوا الزانيين، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا به.
فذلك قوله تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} [المائدة: 41] يعني: الجلد، فخذوه: فاقبلوه واعملوا به، {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ} [المائدة: 41] يعني: الجلد، فاحذروا أن تعملوا بغير الجلد.
287 - حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، إِمْلاءً سَنَةَ عَشْرٍ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأَبِيوَرْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِيٍّ مُحَمَّمًا مَجْلُودًا، فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَدَعَا رَجُلا مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَكَذَا تَجِدُونَ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِكُمْ؟ قَالَ: لا، وَلَوْلا أَنَّكَ نَشَدْتَنِي لَمْ أُخْبِرْكَ، نَجِدُ حَدَّ الزَّانِي فِي كِتَابِ الرَّجْمِ، وَلَكِنَّهُ كَثُرَ فِي أَشْرَافِنَا، فَكُنَّا إِذَا أَخَذْنَا الشَّرِيفَ تَرَكْنَاهُ، وَإِذَا أَخَذْنَا الْوَضِيعَ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللَّهِ، فَقُلْنَا: تَعَالَوْا نَجْتَمِعُ عَلَى شَيْءٍ نُقِيمُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ، فَاجْتَمَعْنَا عَلَى التَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ مَكَانَ الرَّجْمِ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَكَ إِذْ أَمَاتُوهُ» ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِلَى قَوْلِهِ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41] يَقُولُونَ: ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالتَّحْمِيمِ وَالْجَلْدِ فَخُذُوا بِهِ، وَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِالرَّجْمِ فَاحْذَرُوا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ
وقوله: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41] قال ابن عباس، ومجاهد: ضلالته.
وقال الحسن، وقتادة: عذابه.
وقال(2/187)
الزجاج: قيل: فضيحته.
وقيل: كفره.
{فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41] لن تغني عنه، ولن تدفع عذاب الله عنه، {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] وقال ابن عباس: أن يخلص نياتهم.
وقال الزجاج: أن يهديهم.
ودلت هذه الآية على أن الله تعالى غير مريد إسلام الكافر، وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك، ولو فعل ذلك لآمن، فهذه الآية من أشد الآيات على القدرية.
وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [المائدة: 41] خزي المنافقين: هتك سترهم بإطلاع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كفرهم، وخزي اليهود: فضيحتهم بظهورهم وكذبهم في كتابه الرجم وأخذ الجزية منهم.
{وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41] وهو الخلود في النار.
قوله جل جلاله: سماعون للكذب: قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذب عندهم في دعواهم، ويأتيهم برشوة فيأخذونها ويأكلونها، فسمعوا كذبه، وأكلوا رشوته فهو قوله: أكالون للسحت: وهو كل حرام قبيح الذكر يلزم منه العار، والمراد بالسحت ههنا: الرشوة في الحكم.
قال مسروق: كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود، فقال له رجل: ما السحت؟ قال: الرشى في الحكم.
288 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَيْرُوزٍ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ السَّامِيُّ،(2/188)
حَدَّثَنَا خُلَيْدُ بْنُ دَعْلَجٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَخَذَ رِشْوَةً فِي الْحُكْمِ كَانَتْ سِتْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ»
وقوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] هذا تخيير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه، إن شاء حكم وإن شاء ترك.
قال إبراهيم، والشعبي، وعطاء، وقتادة: هذا التخيير ثابت اليوم لحكام المسلمين، إن شاءوا حكموا بينهم بحكم الإسلام، وإن شاءوا أعرضوا.
وقال الحسن، وعكرمة، والسدي: هذا التخيير منسوخ بقوله {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يجب على الحاكم منا أن يحكم بين أهل الذمة الذين قبلوا الجزية، ورضوا بجريان أحكامنا عليهم إذا تحاكموا إليه، لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم.
وقوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] قال عكرمة، عن ابن عباس: كان النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل رجل النضير رجلا من قريظة أدى مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قُتل، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله.
فقالوا: بيننا وبينكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فأتوه فنزلت: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] النفس بالنفس.
قوله عز وجل: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/189)
من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم الزاني وحدّه، ثم إعراضهم وتركهم القبول لحكمه، فعدلوا عما يعتقدونه حكما إلى ما يجحدون أنه من عند الله طلبا للرخصة، فظهر جهلهم في هذه القصة.
وقوله: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة: 43] قال ابن عباس: يريد: الرجم، {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [المائدة: 43] أي: يعرضون عما في التوراة من الحكم، {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 43] وما أولئك الذين يعرضون عن الرجم بالمؤمنين.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى} [المائدة: 44] بيان الحكم الذي جاءوا يستفتون فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونور: بيان أن أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] من لدن موسى إلى عيسى.
قال ابن عباس: وذلك أن الله بعث في بني إسرائيل ألوفا من الأنبياء ليس معهم كتاب، إنما بعثهم بإقامة التوراة، وهو قوله: الذين أسلموا أي: الذين انقاضوا لحكم التوراة.
للذين هادوا: قال ابن عباس: تابوا من الكفر، أي: يحكمون بالتوراة لهم وفيما بينهم.
والربانيون والأحبار فقهاء اليهود وعلماؤهم، واحدها حَبْر وحِبْر {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] قال ابن عباس: بما استودعوا وكلفوا حفظه من كتاب الله، {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44] كانوا شهداء على الكتاب أنه من عند الله، {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} [المائدة: 44] في إظهار صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واخشون في كتمان ذلك والخطاب لعلماء اليهود ولا تشتروا: ولا تستبدلوا بآياتي: بأحكامي وفرائضي ثمنا قليلا يعني: متاع الدنيا وهو قليل، لأنه ينقطع ويذهب.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] اختلفوا في هذا وفيما بعده من قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فقال جماعة: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال له كافر، وهذا قول قتادة، والضحاك، وأبي صالح، ورواية البراء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/190)
289 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَوْثٍ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَمَ يَهُودِيًّا وَيَهُودِيَّةً، ثُمَّ قَالَ: " {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] قَالَ: نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ
قال قتادة في الآيات الثلاث: ليست والله كما تأولها أهل الشبهات وأهل البدع وأهل الفرى على الله وعلى كتابه، وإنما أنزل ما تسمعون في أهل الكتاب حينما نبذوا كتاب الله، وعطلوا حدوده، وتركوا أمره، وقتلوا رسله.
وقال الوالبي عن ابن عباس: من جحد شيئا من حدود الله فقد كفر، ومن أقرها ولم يحكم بها فهو ظالم فاسق.
وقال طاووس: قلت لابن عباس: ومن لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر؟ قال: هو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله.
وقال عبد العزيز بن يحيى: إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، وكل من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، وأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم بما أنزل الله من الشرائع فليس هو من أهل هذه الآية.
وقال ابن مسعود، والحسن، والسدي: هذه الآيات عامة في اليهود، وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم، فحكم بغير حكم الله فقد كفر.(2/191)
290 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمَّارٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ ظَالِمٌ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ فَاسِقٌ
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] قوله عز وجل: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] قال الوالبي عن ابن عباس: أخبر الله بحكمه في التوراة وهو أن النفس تقتل بالنفس، إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] : فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين، ويفقئون بالعين العينين.
وقال مجاهد عن ابن عباس: إن الله كتب على بني إسرائيل القصاص في القتل، ليس بينهم دية في نفس ولا جرح، وذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} [المائدة: 45] تقتل {بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ} [المائدة: 45] تفقأ بالعين.
ومن رفع العين فإنه عطف جملة على جملة، ولم يجعل الواو للاشتراك في الناصب كما جعله من نصب.
وقوله: والجروح قصاص: تعميم بعد التخصيص، لأنه ذكر العين بالعين والأنف بالأنف وما بعدهما، وهذا من(2/192)
الجروح أيضا، والقصاص في الجروح إنما يثبت فيما يمكن أن يقتص فيه، مثل الشفتين والذكر والأنثيين والقدمين واليدين، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضة لحم أو كسر عظم أو جراحة في البطن ففيه أرش.
وقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} [المائدة: 45] أي: عفا عن القصاص الذي وجب له {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] قال ابن عباس: مغفرة له عند الله وثواب عظيم.
وقال الشعبي: كفارة لمن تصدق به.
291 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْنَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بِشَيْءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَدْرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ»
{وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ {46} وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {47} } [المائدة: 46-47] قوله جل جلاله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] أي: جعلناه يقفو آثار النبيين الذين كانوا قبله، أي: يتبعهم في شرعهم وكتابهم، وهو قوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] بعث عيسى بتصديقه.
{وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} [المائدة: 46] ليس هذا تكريرا للأول، لأن الأول(2/193)
لعيسى، والثاني للإنجيل، لأن الإنجيل أنزل وفيه ذكر التصديق بالتوراة، كما أن عيسى جاء يدعو الناس إلى التصديق بالتوراة.
وقوله: وهدى وموعظة معناه: هاديا وواعظا للمتقين: الذين يتقون الشرك.
قوله جل جلاله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47] هذا إخبار عما فرض عليهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل.
والتقدير: قلنا: وليحكم أهل الإنجيل، ثم حُذف القول، وحَذْف القول في القرآن كثير، واللام في ليحكم لام الأمر، ولذلك جزم: وليحكم، وقرأ حمزة: وَلِيَحْكُمَ بكسر اللام وفتح الميم على معنى: آتيناه الإنجيل ليحكم، فيكون كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105] .
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {48} وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ {49} أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {50} } [المائدة: 48-50] قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 48] الآية: قال قتادة: لما أخبر الله تعالى بصنيع أهل الكتاب قبلكم وبحكمهم بغير ما أنزل الله، وعظ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بموعظة بليغة، فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 48] قال مقاتل: يعني: القرآن لم ينزل عبثا.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] قال ابن عباس: يريد: كل كتاب أنزله الله تعالى على الأنبياء.
ومهيمنا عليه: قال الوالبي، والسدي، وقتادة، والحسن: أمينا وشاهدا على الكتب التي خلت قبله، فما أخبر(2/194)
أهل الكتاب بأمر، فإن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا.
وقال جماعة من أهل اللغة: المهيمن: الرقيب الحافظ، يقال: هيمن الرجل يهيمن هيمنة إذا كان رقيبا على الشيء، وهو قول الخليل، وأبي عبيدة، قال أبو عبيدة: المهيمن: الشاهد المصدق، واحتج بقول حسان:
إن الكتاب مهيمن لنبينا ... والحق يعرفه ذوو الألباب
وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48] يعني: بين اليهود بالقرآن، والرجم على الزانيين، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48] يقول: لا تتبعهم عما عندك من الحق فتتركه وتتبعهم، كما تقول: لا تتبع زبدا عن رأيك، أي: لا تترك رأيك وتتبعه.
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] الشرعة والشريعة واحدة، وهي ما شرع الله للعباد من الصلاة والصوم والنكاح والحج وغيره، معناها في اللغة: الطريقة، لشروع الناس فيها.
والمنهاج الطريق الواضح، يقال: نهج الأمر.
وأنهج.
لغتان، إذا وضح، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: شرعة ومنهاجا: سبيلا وسنة.
قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد صلوات الله عليهم أجمعين: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، والدين واحد لا يقبل الله إلا الإخلاص.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48] على أمر واحد، ملة الإسلام، ولكن ليبلوكم أي: ليختبركم {فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48] أعطاكم من الكتاب والسنن، فاستبقوا الخيرات: سارعوا في الأعمال الصالحات، {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 48] أنتم وأهل الكتاب {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] من الفرائض والدية والسنن.
وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ، قد ذكرنا أن هذا ناسخ للتخيير في قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] .
ومعنى بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بحدود الله وما أنزل في كتابه.
{وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] قال مقاتل: إن رؤساء اليهود(2/195)
قال بعضهم لبعض: انطلق بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه، فإنما هو بشر.
فأتوه، وقالوا له: قد علمت أنا إن اتبعناك لاتبعك الناس، وإن لنا خصومة، فاقض لنا على خصومنا إذا تحاكمنا إليك ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] قال ابن عباس: يردوك إلى أهوائهم.
قال أبو عبيدة: كل من صرف عن الحق إلى الباطل، وأميل عن القصد فقد فتن.
وقوله: فإن تولوا: فإن أعرضوا عن الإيمان والقرآن {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ} [المائدة: 49] إن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا بالقتل والجلاء والجزية، ببعض ذنوبهم، ويجازيهم بالباقي في الآخرة، {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49] يعني: اليهود.
قوله جل جلاله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] قال المفسرون: معناه: أتطلب اليهودُ في حكم الزانيين حكما لم يأمر الله تعالى به، وهم أهل الكتاب كما يفعل أهل الجاهلية.
وقرا ابن عامر: تبغون بالتاء: على معنى: قل لهم يا محمد: أفحكم الجاهلية تبغون؟ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] قال الزجاج: أي: من أيقن تبين عدل الله في حكمه.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {51} فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ {52} وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ {53} } قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] قال عطية: جاء عبادة بن الصامت، فقال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثير عددهم حاضر نصرهم، وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله من ولاية اليهود، وآوي إلى الله ورسوله.
فقال عبد الله بن أبي: لكن أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود، فأنزل الله تعالى فيهما هذه الآية والتي بعدها.(2/196)
ومعنى لا تتخذوهم أولياء: لا تعتمدوا على الاستنصار بهم، ولا توالوهم.
292 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ فِيمَا أَجَازَ لِي، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ وَفَدَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدَنَا نَصْرَانِيًّا كَاتِبًا مِنْ حَالِهِ وَحَالِهِ، فَقَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] أَلَا اتَّخَذْتَ حَنِيفًا؟ قَالَ: قُلْتُ: دِينُهُ لَهُ، وَلِي كِتَابَتُهُ , قَالَ: لا أُكَرِّمُهُمْ إِذْ أَهَانَهُمُ اللَّهُ، وَلا أُعِزُّهُمْ إِذْ أَزَلَّهُمُ اللَّهُ، وَلا أُدْنِيهِمْ إِذْ أَقْصَاهُمُ اللَّهُ، ثُمَّ أَوْعَدَ عَلَى مَوْالاتِهِمْ فَقَالَ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] "
قال ابن عباس: كافر مثلهم، وقال الزجاج: من عاضدهم على المسلمين فإنه معهم.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] قال ابن عباس: لا يرشد الكافرين ولا المشركين ولا المنافقين.
قوله جل جلاله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المائدة: 52] يعني: عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين يسارعون فيهم: قال الكلبي، ومجاهد: يسارعون في موالاة اليهود ومصانعتهم، وقال الزجاج: في معاونتهم على المسلمين.
{يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة: 52] نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه من جدب أو قحط ولا يعطوننا الميرة والقرض.
{فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52] يعني: فتح مكة.
في قول الكلبي، والسدي، وقال الضحاك: فتح قرى اليهود.
وقال قتادة، ومقاتل: بالقضاء الفصل من نصر محمد على من خالفه.(2/197)
{أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52] أي: خصب وسعة لمحمد وأصحابه، وقال مقاتل: يعني: القتل والجلاء لليهود.
فيصبحوا يعني: المنافقين {عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ} [المائدة: 52] من موالاة اليهود ودس الأخبار لهم نادمين.
قوله عز وجل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 53] ، وقرأ أبو عمرو ويقولَ الذين نصبا على معنى: وعسى أن يقول الذين آمنوا، وقرأ أهل الحجاز يقول بغير واو استغناء عن حرف العطف لملابسة هذه الآية بما قبلها.
قال الزجاج: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 53] في وقت إظهار الله نفاق المنافقين: أهؤلاء يعني: المنافقين، {الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53] حلفوا بالله بأغلظ الأيمان إنهم مؤمنون، إنهم لمعكم أي: إن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كفرهم وحلفهم بالباطل، قال الله تعالى: حبطت أعمالهم: بطل كل خير عملوه بكفرهم وغشهم المسلمين، فأصبحوا خاسرين خسروا الدنيا بافتضاحهم، والآخرة بفوت الثواب والمصير إلى النار.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {54} إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ {55} وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ {56} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {57} وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ {58} قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ {59} قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ {60} وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ {61} وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ(2/198)
السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {62} لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ {63} وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {64} } [المائدة: 54-64] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54] وقرأ أهل الحجاز: يرتدد بإظهار دالين، قال الزجاج: وهو الأصل، لأن الثاني إذا سكن من المضاعف ظهر التضعيف نحو إن يمسسكم ويجوز في اللغة: «إن يمسكم» ، لأنه يحرك الثاني بالفتح عند الإدغام.
قال الحسن: علم الله أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم، فأخبر أنه: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] واختلفوا في ذلك القوم من هم؟ فقال علي بن أبي طالب، والحسن، والضحاك، وقتادة، وابن جريج: هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومنكري الزكاة.
قال قتادة: لما قبض الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتد عامة العرب، إلا أهل مكة وأهل المدينة وأهل البحرين من عبد قيس، فقال المرتدون: أما الصلاة فنصلي، وأما الزكاة فلا تغصب أموالنا، فكلم أبو بكر في ذلك، فقال: والله لا أفرق بين ما جمع الله، قال الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ، والله لو منعوني عقالا مما أدوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه.
فبعث الله عصائب مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة المفروضة، قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بدا من الخروج على إثره.(2/199)
وقال ابن مسعود: كرهنا ذلك في الابتداء، وحمدناه في الانتهاء، ورأينا ذلك رشدا.
وقال الحسن: لولا ما فعل أبو بكر لألحد الناس في الزكاة إلى يوم القيامة.
وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا حصين يقول: ما ولد لآدم في ذريته بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر، ولقد قام يوم الردة مقام نبي من الأنبياء.
وقال آخرون: المراد بقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54] الآية: الأشعريون وهو تفسير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما
293 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الْحَوْضِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ قَوْمُ هَذَا» يَعْنِي: أَبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ السَّمَّاكِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ شُعْبَةَ
وقوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] قال ابن عباس: تراهم للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وهم في الغلظة على الكافر كالسبع على فريسته، وهذا كقوله: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
قال الزجاج في هذه الآية: يقول الله تعالى: إن ارتد أحد عن دينه الذي هو الإيمان فسوف يأتي الله بقوم مؤمنين غير منافقين، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54] ، أي: جانبهم لين للمؤمنين ليس أنهم أذلة مهانون، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] ، أي: جانبهم غليظ على الكافرين.
قوله: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] لأن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله أن الصحيح الإيمان لا يخاف في نصرة الدين بيده ولسانه لومة لائم.(2/200)
294 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَقْرٍ السُّكَّرِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ السّخيتِ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ بَيَانٍ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَرَادَ الْجَنَّةَ لا شَكَّ فَلا يَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ»
وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] أي: محبتهم لله ولين جانبهم للمؤمنين، وشدتهم على الكافرين، تفضل من الله عليهم، لا توفيق لهم إلا به.
قوله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [المائدة: 55] الآية: قال ابن عباس في رواية عطية العوفي: نزلت في قصة عبد الله بن أبي، وعبادة بن الصامت حين تبرأ من اليهود، وقال: أتولى الله ورسوله والذين آمنوا.
وقال جابر بن عبد الله: إن اليهود هجروا من أسلم منهم ولم يجالسوهم، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا، وأقسموا أن لا يجالسونا.
فنزلت هذه الآية، فقال: رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء.
والآية عامة في جميع المؤمنين، فكل مؤمن ولي لكل مؤمن، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، ونحو هذا روي عن أبي جعفر الباقر، قال: نزلت في الذين آمنوا.
فقيل له: إن ناسا يقولون: إنها نزلت في علي بن أبي طالب.
فقال: عليّ من الذين آمنوا.(2/201)
وقوله: وهم راكعون قال ابن عباس: يعني: صلاة التطوع بالليل والنهار، وإنما أفرد الركوع بالذكر تشريفا له.
قوله جل جلاله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 56] يعني: يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين، قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار، {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] معنى الحزب في اللغة: الجماعة، وحزب الرجل: أصحابه الذين معه على رأيه، والمؤمنون حزب الله، والكافرون حزب الشيطان.
قال الحسن: حزب الله: جند الله.
وقال أبو روق: أولياء الله.
ومعنى هم الغالبون: أنهم غلبوا اليهود فقتلوا قريظة، وأجلوا بني النضير من ديارهم، وغلبوهم عليها، وبقي عبد الله بن سلام وأصحابه الذين تولوا الله ورسوله والذين آمنوا.
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 57] قال ابن عباس: كان رجال من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكان ناس من المسلمين يودونهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعنى اتخاذهم الدين هزو ولعبا: تلاعبهم بالدين وإظهارهم ذلك باللسان واستبطانهم الكفر.
وقوله: والكفار يعني: كفار مكة، وهو نسق على قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 57] يعني اليهود.
ومن نصب: كان نسقا على قوله: {لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا} [المائدة: 57] كأنه قال: ولا تتخذوا الكفار {أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا(2/202)
اللَّهَ} [المائدة: 57] بطاعته {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57] بوعده ووعيده، أي: فلا توالوهم واتركوا موالاتهم.
قوله عز وجل: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58] أي: إذا دعوتم الناس إلى الصلاة بالأذان، والنداء: الدعاء بأرفع الصوت.
قال المفسرون: كان المؤذن إذا أذن للصلاة تضاحكت اليهود فيما بينهم، وتغامزوا على طريق السخف والمجون، استهزاء بالصلاة، وتجهيلا لأهلها، وتنفيرا للناس عنها، وعن الداعي إليها.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] ما لهم في إجابتهم لو أجابوا إليها، وما عليهم في استهزائهم بها.
قوله جل جلاله: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [المائدة: 59] الآية يقال: نقمت على الرجل، أنقم.
إذا أنكرت عليه شيئا وبالغت في كراهته، قال ابن عباس: إن نفرا من اليهود سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن يؤمن به من الرسل، فقال: أومن {بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 136] إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] ، فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا أشر من دينكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي بعدها.
ومعنى {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59] هل تكرهون منا وتنكرون علينا {إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59] وهذا مما ينكر أو يعاب به.
وقوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59] قال الزجاج: المعنى: هل تكرهون إلا إيماننا وفسقكم.
أي: إنما كرهتم(2/203)
إيماننا وأنتم تعلمون أننا على حق لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لمحبتكم الرياسة وكسبكم الأموال، وهذا معنى قول الحسن: لفسقكم نقمتم علينا.
قوله جل جلاله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} [المائدة: 60] يقول الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل لليهود: هل أخبركم بشر مما نقمتم من إيماننا ثوابا وجزاء: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} [المائدة: 60] أي: هو من لعنه الله، وغضب عليه يعني: اليهود {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60] يعني ب القردة: أصحاب السبت، وبالخنازير: كفار مائدة عيسى.
وقال الوالبي عن ابن عباس: إن المسخين من أصحاب السبت، لأن شبابهم مسخوا قردة، ومشايخهم خنازير.
وقوله: وعبد الطاغوت: قال الزجاج: عبد نسق على لعنه الله لأن المعنى: لعنه الله وعبد الطاغوت، أي: أطاع الشيطان فيما سول له.
وقرأ حمزة وعبُد بضم الباء، الطاغوتِ بالكسر على تأويل: وجعل منهم عبد الطاغوت، وأراد بالعبُد: العبْد، فضمت الباء للمبالغة، قال أوس بن حجر:
أبني لبينى إن أمكمو ... أمة وإن أباكمو عبد
أراد: عبدا، فضم الباء.(2/204)
وليس عبد لفظ جمع، لأنه ليس في أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، كقوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] .
وقوله: أولئك أي: أهل هذه الصفة شر مكانا: من المؤمنين، قال ابن عباس: لأن مكانهم سقر، ولا شر في مكان المؤمنين حتى يقال: اليهود شر مكانا منهم، ولكن هذا مبني على كلام الخصم وكذلك قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} [المائدة: 60] لأنهم قالوا: لا نعرف أهل دين شرا منكم، فقيل لهم: شر منهم من كان بهذه الصفة.
وقوله: {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] أي: عن قصد الطريق.
قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} [المائدة: 61] الآية: قال الكلبي: إن جماعة من اليهود دخلوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: صدقنا أنك رسول الله وهم يسرون بالكفر، وهو قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] أي: دخلوا وخرجوا كافرين، والكفر معهم في كلتي حالتيهم.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} [المائدة: 61] أي: من نفاقهم وإبطانهم الكفر.
{وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 62] قال ابن عباس: يجترئون على الخطأ والتعدي على الناس بما لا يحل.
وأكلهم السحت يعني: الرشي في الحكم، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62] ذم لفعلهم.
قوله: لولا: هلا ينهاهم: عما يرتكبونه من القبيح الربانيون والأحبار: فقهاء اليهود وعلماؤهم، {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] .
قال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي من هذه الآية، أساء الله الثناء على الفريقين على اليهود وعلى العلماء بترك النكير عليهم فيما صنعوا.
ودلت الآيتان على أن: تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه.
قوله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] قال المفسرون: إن الله تبارك وتعالى كان قد بسط على(2/205)
اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية، فلم عصوا الله في محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من النعمة، فعند ذلك قالت اليهود: يد الله مغلولة.
أي: مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل، وهذا قول قتادة، والضحاك، وعكرمة، والكلبي.
وقال الزجاج: أخبر الله تعالى بعظيم فريتهم فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] أي: يده ممسكة عن الإسباغ علينا، كما قال عز وجل: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أي: لا تمسكها عن الإنفاق.
وقوله: غلت أيديهم أي: جعلوا بخلاء وألزموا البخل، فهم أبخل قوم، ولا يلقى يهودي أبدا غير لئيم بخيل.
وقال الحسن: غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة، أي: شدت إلى أعناقهم.
وتأويله: أنهم جوزوا على هذا القول بأن غلت أيديهم في نار جهنم، {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64] أي: عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار.
295 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَزْوِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِصْمَةَ نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَعَنَ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِلَّعْنَةٍ أَهْلا، رَجَعَتِ اللَّعْنَةُ عَلَى الْيَهُودِ بِلَعْنَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ»(2/206)
وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] هذا جواب لليهود، ورد لما افتروه، وإبطال لما بهتوا فيه، أُجيبوا على قدر كلامهم لما قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] يريدون به: تبخيل الله، فقيل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] أي: هو جواد، {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] ، ومعنى التثنية في يداه: المبالغة في الجود والإنعام.
ومذهب قوم إلى أن معنى اليد في هذه الآية: النعمة، فقالوا في قوله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] نعمة الله مقبوضة، وفي قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] نعمتاه.
أي: نعمة الدنيا والآخرة، {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] يرزق كما يريد، إن شاء قتر وإن شاء وسع.
وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [المائدة: 64] أي: كلما أنزل عليك شيء من القرآن كفروا به فيزيد كفرهم، {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64] أي: بين اليهود والنصارى، عن الحسن، ومجاهد، وقيل: أراد: طوائف اليهود، وهو اختيار الزجاج، قال: جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين، وهو أحد الأسباب التي أذهب الله بها جدهم وشوكتهم.
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] قال ابن عباس: كلما أرادوا محاربتك ردهم الله تعالى، وألزمهم الخوف منك ومن أصحابك.
وهذا قول الحسن.
وقال قتادة: هذا عام في كل حرب طلبتها اليهود، فلا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس.
وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 64] قال الزجاج: أي يجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كتبهم.(2/207)
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ {65} وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ {66} يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {67} } [المائدة: 65-67] قوله جل جلاله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا} [المائدة: 65] صدقوا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتقوا: اليهودية والنصرانية، {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} [المائدة: 65] التي عملوها قبل أن تأتيهم، والمعنى: محونا ذنوبهم التي سلفت بالإيمان بك.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة: 66] قال ابن عباس: عملوا بما فيها من التصديق بك والوفاء لله، وأظهروا ما فيها {لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66] قال ابن عباس: لأنزلت عليهم القطر، وأخرجت لهم من نبات الأرض كلما أرادوا.
قوله: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} [المائدة: 66] أي: مؤمنة، وهم العادلة غير الغالية ولا المقصرة، ومعنى الاقتصاد في اللغة: الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] بئس شيئا عملهم، قال ابن عباس: عملوا القبيح وما لا يرضي الله تعالى مع التكذيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] قال الحسن: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله بعثني بالرسالة فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس مكذبيّ، فأوعدني فيها: لأبلغها أو ليعذبنني ".
وقال ابن الأنباري: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ويخفي بعضه، إشفاقا على نفسه من(2/208)
تسرع المشركين إليه وإلى أصحابه، فلما أعزه الله بالمؤمنين قال له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] .
والمعنى: بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهرا به، فإن أخفيت منه شيئا لخوف يلحقك {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] قال ابن عباس: يقول: إن كتمت آية مما أنزلت إليك لم تبلغ رسالتي.
يعني: أنه إن ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ، وحاشا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتم شيئا مما أوحي إليه، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: من زعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] .
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أي: يمنعك أن ينالوك بسوء من قتل أو أسر.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] فأخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من القبة، فقال: يأيها الناس انصرفوا عني فقد عصمني الله.
296 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا الْحِمَّانِيُّ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْرَسُ وَكَانَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ يُرْسِلُ كُلَّ يَوْمٍ رِجَالا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَحْرُسُونَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَأَرَادَ عَمُّهُ أَنْ يُرْسِلَ مَعَهُ مَنْ يَحْرُسُهُ، فَقَالَ: يَا عَمَّاهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ(2/209)
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] قال ابن عباس: لا يرشد من كذبك وأعرض عن ذكري.
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {68} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {69} } [المائدة: 68-69] وقوله جل جلاله: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المائدة: 68] قال ابن عباس: لستم على شيء من الدين، حتى تُعلموا بما في الكتابين من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان صفته ونعته، وهو قوله: {حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [المائدة: 68] أي: تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيها، وقد سبق تفسير هذا إلى قوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 68] ، وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: لا تحزن على أهل الكتاب إن كذبوك.
قوله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 69] ، سبق تفسير هذه الآية في { [البقرة، وارتفع: الصابئون في هذه ال: بالابتداء على التقديم في الكلام والتأخير، على تقدير: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن منهم بالله. . . إلى آخر الآية، والصابئون والنصارى كذلك أيضا كما تقول: إن عبد الله ومحمد قائم.
تريد: إن عبد الله قائم ومحمد كذلك، هذا مذهب الخليل، وسيبويه.
] لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ {70} وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {71} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ(2/210)
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {72} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {74} مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {75} قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {76} قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ {77} } [المائدة: 70-77] قوله جل جلاله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 70] مفسر إلى آخر الآية في { [البقرة.
قوله تعالى:] وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [سورة المائدة: 71] قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذبهم، ولا يبتلوا بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل.
وقرئ: ألا تكونُ رفعا، على تقدير: أنه لا تكون، ثم خففت المشددة وحذف الضمير.
وقوله: فعموا وصموا أي: عن الهدى فلم يعقلوه، قال الزجاج: تأويله أنهم لم يعملوا بما سمعوا، وبما رأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصم.
{ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 71] بإرساله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعيا إلى الصراط المستقيم، فكانوا بذلك معرضين للتوبة، {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} [المائدة: 71] بعد تبين الحق، يعني: الذين لم يؤمنوا منهم، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71] من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل.(2/211)
قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 72] إلى قوله: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72] .
297 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ قَالَ: «مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ
298 - وأَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ الْكَتَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُعَلِّمُكُمْ مَا عَلَّمَ نُوحٌ ابْنَهُ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي آمَرُكَ أَنْ لا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، فَإِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَأَنْهَاكَ عَنِ الْكِبْرِ، فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ فِيهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ "(2/212)
قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] قالت النصارى، لعنهم الله: الإلهية مشتركة بين الله ومريم وعيسى، وكل واحد من هؤلاء إله، والله أحد ثلاثة آلهة، يبين هذا قول الله تعالى للمسيح: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ؟ ولا بد أن يكون في الآية إضمار واختصار، لأن المعنى أنهم قالوا: إن الله ثالث ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة لأن المعنى مفهوم، ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به الآلهة، لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] .
والذي يبين أنهم أرادوا بالثلاثة: الآلهة، قوله في الرد عليهم: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ} [المائدة: 73] من الكفر والشرك {لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} [المائدة: 73] أي: ليصيبن الذين أقاموا على هذا القول عذاب أليم.
قوله: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} [المائدة: 74] قال الفراء: هذا أمر في لفظ الاستفهام، وكقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا، والمعنى: إن الله يأمرهم بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم.
قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [المائدة: 75] أي: إنه رسول ليس بإله، كما أن من قبله من الرسل لم يكونوا آلهة، وأمه صديقة: صدقت بآيات الله، كما قال في صفتها: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] .
{كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] كانا يعيشان بالغذاء كما يعيش سائر الآدميين، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام؟ قال ابن عباس: يريد: هما لحم ودم يأكلان ويشربان ويبولان ويتغوطان.
قال ابن قتيبة: هذا ألطف ما يكون من الكناية، لأنه عبر عن الحدث بالطعام، وذلك أن من أكل الطعام فلا بد له من أن يحدث، فلما ذكر أكل الطعام صار كأنه أخبر عن عاقبته، والطعام والحدث ليسا من أوصاف الآلهة.
قوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ} [المائدة: 75] قال ابن عباس: نفسر لهم أمر ربوبيتي.
{ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] يصرفون عن(2/213)
الحق الذي يؤدي إلى تدبر الآيات، يقال: أفكه يأفكه إفكا.
إذا صرفه، وكل من صرف عن شيء فهو مأفوك عنه.
قل: للنصارى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [المائدة: 76] لأنه لا يملك النفع والضر إلا الله تعالى، {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [المائدة: 76] لكفركم العليم: بضميركم.
قوله: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77] تقدم تفسيره في { [النساء.
قوله: غير الحق معناه: مخالفا للحق، أي: في دينكم المخالف للحق، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه،] وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [سورة المائدة: 77] يعني: رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم وأن يقلدوهم فيما هووا.
والأهواء: جمع هوى، والمراد بها: المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة.
وقوله: وأضلوا كثيرا يعني: من اتبعهم على هواهم، {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] عن قصد الطريق، والمعنى: إنهم ضلوا بإضلال غيرهم.
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {78} كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {79} تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ {80} وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ {81} } [المائدة: 78-81] قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 78] يعني: أصحاب السبت وأصحاب المائدة: أما أصحاب السبت، فإنهم لما اعتدوا، قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية ومثلا لخلقك فمسخوا قردة.
وأما أصحاب المائدة: فإنهم لما أكلوا من المائدة ولم يؤمنوا، قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب(2/214)
السبت.
فأصبحوا خنازير. . . وهذا قول الحسن، وقتادة، ومجاهد.
قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} [المائدة: 78] الله والرسل، {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78] : يتجاوزون ما أمر به.
299 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ الْولاهِيجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْخُوَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْعَلَوِيُّ، حَدَّثَنِي عَمِّي مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " دُورُوا مَعَ الْقُرْآنِ حَيْثُمَا دَارَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ نُطِقْ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُونُوا كَحَوَارِيِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ شُقُّوا بِالْمَنَاشِيرِ فِي اللَّهِ، وَصُلِّبُوا فِي جُذُوعِ النَّخْلِ فِي اللَّهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ نُطِقْ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَتْلٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَلَكَتْهُمْ مُلُوكٌ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِمْ فَغَيَّرُوا سُنَنَهُمْ، وَعَمِلُوا فِيهِمْ بِغَيْرِ الْحَقِّ، فَلَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جَوْرِهِمْ أَنْ حَابَوْهُمْ وَضَاحَكُوهُمْ وَآكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَونَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَيَدْعُوا عَلَيْهِمْ خِيَارَكُمْ فَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ "
وقوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن المناكير.(2/215)
قال ابن عباس: كان بنو إسرائيل ثلاث فرق، فرقة اعتدت في السبت، وفرقة نهتهم ولكنهم لم يدعوا مجالستهم ولا مواكلتهم، وفرقة لما رأوهم يعتدون ارتحلوا عنهم، وبقيت الفرقتان المعتدية والناهية المخالِطة فلعنوا جميعا.
ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ويلعنكم كما لعنهم» .
ثم ذم فعلهم بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] .
قوله: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ} [المائدة: 80] قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن: يعني من المنافقين {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة: 80] اليهود، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [المائدة: 80] بئس ما قدموا من العمل لمعادهم {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 80] والباقي ظاهر إلى قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ {82} وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {83} وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ {84} فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ {85} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {86} } [المائدة: 82-86] {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} [المائدة: 82] الآية: قال المفسرون: إن اليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ينبغي أن يكونوا أقرب إلى المؤمنين لأنهم يؤمنون بموسى والتوراة، والكفار كانوا يكذبون بهما، ولكنهم حسدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.(2/216)
قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة: 82] قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والسدي: يعني: النجاشي ووفده الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وآمنوا به، ولم يرد جميع النصارى، مع ظهور عداوتهم للدين.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] ، قال الزجاج: القس والقسيس: من رؤساء النصارى، ويجمع القسيس: قسيسين.
وقال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم.
والرهبان جمع راهب، مثل فارس وفرسان، والرهبانية مصدر الراهب، والترهب: التعبد في صومعة.
قال ابن الأنباري: مدحهم الله تعالى بالتمسك بدين عيسى، وأنهم استعملوا في أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أخذ عليهم في التوراة والإنجيل.
فتأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82] ذلك بأن منهم علماء بوصاة عيسى عليه السلام.
الدليل على ذلك قوله: {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] أي: عن اتباع الحق والإذعان إليه كما استكبر اليهود وعبدة الأوثان.
قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ} [المائدة: 83] الآية: قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: النجاشي وأصحابه، قرأ عليهم جعفر الطيار بالحبشة: كهيعص، فما زالوا يبكون حتى فرغ من القراءة، فذلك قوله: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] يريد: الذي نزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الحق.
300 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ(2/217)
الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالُوا: لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَقُتِلَ فِيهَا صَنَادِيدُ الْكُفَّارِ، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّ ثَأْرَكُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَبَعَثُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ، وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْثِ قُرَيْشٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَابْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَعَا جَعْفَرًا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ فَآمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَفَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا أنا نَصَارَى إِلَى قَوْلِهِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82 - 83]
قال ابن عباس: مع أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين يشهدون بالحق.
وقال الزجاج: مع من شهد من أنبيائك ومؤمني عبادك بأنك لا إله غيرك.
وقوله: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [المائدة: 84] الآية: قال المفسرون: إن هؤلاء الوفد لما رجعوا إلى قومهم لاموهم على ترك دينهم فأجابوهم بهذا.(2/218)
وقوله: {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84] يعني: أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دليله قوله تعالى: {يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] .
قوله: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} [المائدة: 85] الآية: إنما علق الثواب بمجرد القول لأنه سبق من وصفهم ما يدل على إخلاصهم فيما قالوا، وهو المعرفة في قوله: {مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83] ، والبكاء المؤذن بحقيقة الإخلاص، واستكانة القلب ومعرفته إذا اقترن به القول فهو الإيمان الحقيقي الموعود عليه الثواب.
وقال ابن عباس في قوله: بما قالوا يعني: بما سألوا من قولهم: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83] ، وقولهم {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة: 84] ، وهذا يدل على مسألتهم الجنة.
وعلى هذا التفسير القول معناه: المسألة.
وقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85] يعني: الموحدين المؤمنين.
ولما ذكر الله الوعد لمؤمني أهل الكتاب، ذكر الوعيد لمن كفر منهم وكذب، فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 86] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {87} وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ {88} } [المائدة: 87-88] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الطيبات: اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب.
قال المفسرون: هَمَّ قوم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرفضوا الدنيا، ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة، والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ويخصوا أنفسهم، فأنزل الله هذه الآية.
واعلم أن الطيبات لا ينبغي أن تجتنب، وسمى الخصاء اعتداء، فقال: ولا تعتدوا أي: لا تجبوا أنفسكم، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم.(2/219)
301 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا يَذْكُر، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا لَهُ: أَلا نَسْتَخْصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْنٍ، عَنْ خَالِدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، كِلاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا أَحَلَّ لَهُمْ فَقَالَ: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا} [المائدة: 88]
قال ابن عباس: يريد: من طيبات الرزق اللحم وغيره.
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] قال المفسرون: إن القوم لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح حلفوا على ذلك، فلما نزل قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] قالوا: يا رسول الله وكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وتقدم الكلام في معنى لغو اليمين في { [البقرة.
وقوله:] وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [سورة المائدة: 89] ، وقرئ بالتشديد، والتخفيف، وبالألف، يقال: عقد فلان(2/220)
اليمين والعهد، إذا وكده وأحكمه وعقد وعاقد.
قال مجاهد: هو ما عقد عليه قلبك وتعمدته.
وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] لكل مسكين مد، وهو ثلثا مَنٍّ، وهذا قول ابن عباس، وزيد بن ثابت، والحسن، ومذهب الشافعي.
وقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وقوتا وسطا وقوتا دون ذلك، فأمروا بالوسط، وهو يعود إلى ما ذكرنا من قدر المد، لأنه وسط في طعام الواحد ليس بسرف ولا تقتير.
وقوله: أو كسوتهم: الكسوة معناها: اللباس، وهي كل ما يكتسى به، والتي تجزئ في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة، إذا رأوا رداء، أو قميصا، أو سراويل أو عمامة، أو مقنعة، ثوب واحد لكل مسكين.
وقوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] يعني: إعتاق رقبة، ويجب أن تكون سليمة من عيب يمنع من العمل، ولا يجوز إعتاق الرقبة الكافرة في شيء في الكفارات، والحالف مخير بين هذه الثلاثة.
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] قال قتادة: من ليس عنده ما يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته فهو غير واجد، وجاز له الصيام.
قال الشافعي: إذا كان قوته، وقوت عياله يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة(2/221)
بالإطعام، وإن لكم يكن عنده هذا القدر فله الصيام، وهو صيام ثلاثة أيام متتابعات في قول ابن عباس، والحسن، وقتادة.
وقال مجاهد: هو مخير في التتابع والتفريق.
وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] أي: ذلك الذي يغطي على آثامكم وحنث أيمانكم، واحفظوا أيمانكم: عن الحنث فلا تحنثوا، وقال ابن عباس: لا تحلفوا.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ {91} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ {92} لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {93} } [المائدة: 90-93] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] الآية:
302 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: إِنَّ أَوَّلَ مَا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَصْحَابًا لَهُ شَرِبُوا فَاقْتَتَلُوا، فَكُسِرَ أَنْفُ سَعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] .
303 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى(2/222)
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَالْعَقْلَ، فَأُنْزِلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] فَدُعِيَ عُمَرُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْبَيَانَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَالْعَقْلَ، فَأُنْزِلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْبَيَانَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْمَالَ وَالْعَقْلَ، فَأُنْزِلَتِ الآيَةُ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حَتَّى بَلَغَ إِلَى قَوْلِهِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90 - 91] فَقَالَ عُمَرُ: انْتَهَيْنَا يَا رَبّ
قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ} [المائدة: 90] يريد الخمر من جميع الأشربة التي تخمر حتى تشتد وتسكر.
304 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَمَانٍ بن حَبِيبٌ الْحَضْرَمِيُّ، أَنَّ مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ حَدَّثَهُمْ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عِنْدَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ كَثِيرٍ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ السَّرِيَّ بْنَ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ الشَّعْبِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الْحِنْطَةِ خَمْرًا، وَمِنَ الشَّعِيرِ خَمْرًا، وَمِنَ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنَ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ»
305 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الإِسْفَرَائِينِيُّ إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عُقَيْلٍ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْسَقَانِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»(2/223)
306 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، كِلاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
307 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ رَجُلا حَدَّثَهُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَهُوَ فِي الْحِجْرِ بِمَكَةَ وَسُئِلَ عَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ الشَّيْخُ مِثْلِي وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ يَكْذِبُ فِي هَذَا الْمُقَامِ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَاءَنِي رَجُلٌ وَأَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَسَأَلَنِي عَنِ الْخَمْرِ، فَقُلْتُ: ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذْهَبْ فَسَلْهُ وَارْجِعْ إِلَيَّ فَأَخْبِرْنِي مَا قَالَ لَكَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ حَتَّى قَعَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ لِي: سَأَلْتُهُ عَنِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأُمُّ الْفَوَاحِشِ، مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلاةَ وَوَاقَعَ أُمَّهُ وَخَالَتَهُ وَعَمَّتَهُ»
308 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا كَوْثَرُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَالْمُعْتَصِرَ وَالْجَالِبَ وَالْمَجْلُوبَ إِلَيْهِ وَالْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِي وَالسَّاقِي وَالشَّارِبَ، وَحَرَّمَ ثَمَنَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ»(2/224)
309 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنِ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ، وَمَنْ شَرِبَهَا لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ صَلاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَإِنْ مَاتَ وَهِيَ فِي بَطْنِهِ مَاتَ مَيْتَةَ جَاهِلِيَّةٍ»
310 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَازِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ وَاقِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَصْبَهَانِيُّ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ»(2/225)
311 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ فُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَيْرُوزٍ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نَافِعٍ الْعَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الشَّامِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُجَالِسُوا شَرَبَةَ الْخَمْرِ، وَلا تُشَيِّعُوا جَنَائِزَهُمْ، وَلا تُزَوِّجُوهُمْ وَلا تَتَزَوَّجُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُسْوَدًّا وَجْهُهُ مُزْرَقَّةً عَيْنَاهُ، يُدْلِعُ لِسَانَهُ عَلَى صَدْرِهِ، يَسِيلُ لُعَابُهُ عَلَى بَطْنِهِ، يَقْذُرُهُ مَنْ يَرَاهُ»
والميسر: القمار كله، وتقدم معنى الكلام فيه.
والأنصاب: قال ابن عباس: آلهتهم التي نصبوها يعبدونها، واحدها: نُصُب، والأزلام سهام مكتوب عليها: خير وشر، ومعنى الكلام فيه الأنصاب والأزلام.
وقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] أي: قبيح مستقذر، يقال: رَجَس الرجل رجَسا، ورَجُس إذا عمل قبيحا.
قال الزجاج: بالغ الله تعالى في ذم هذه الأشياء فسماها رجسا، وأعلم أن الشيطان يسول ذلك لبني آدم، وقد قرن الله تعالى تحريم الخمر بتحريم عبادة الأوثان تغليظا وإبلاغا في النهي عن شربها.
لذلك قال ابن عباس: لما حرمت الخمر مشى أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم إلى بعض، فقالوا: حرمت الخمر وجعلت عدلا للشرك.
وقوله: فاجتنبوه أي: كونوا جانبا منه، لعلكم تفلحون.
قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] أما الخمر فقال(2/226)
ابن عباس: إن رجلا من الأنصار كان مؤاخيا لسعد بن أبي وقاص، فدعاه إلى الطعام وشربوا مسكرا، فوقع بين الأنصاري وبين سعد مراء ومفاخرة، فأخذ الأنصاري لحي بعير فضرب به وجه سعد حتى أثر في وجه سعد.
وأما الميسر فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيقمر ويبقى حريبا سليبا، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء إلى ماله في يدي غيره.
وقوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] وذلك أن من اشتغل بشرب الخمر أو القمار ألهاه ذلك عن ذكر الله وعبادته.
ثم أمر بالانتهاء عن هذه الأشياء، فقال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] قال ابن عباس: قالوا: انتهينا ربنا.
قال ابن الأنباري: بين تحريم الخمر في قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] إذ كان معناه: فانتهوا.
قال الفراء: ردد علي أعرابي: هل أنت ساكت، هل أنت ساكت.
وهو يريد: اسكت، اسكت.
ولما ذكر الأمر باجتناب الخمر وما بعدها، أمر بالطاعة، فقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] فيما يأمرانكم، واحذروا: المحارم والمناهي، فإن توليتم: أعرضتم عما أمرتم، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92] معناه: الوعيد، كأنه قيل: فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب لتوليكم عما بلغ رسولنا.
والبلاغ معناه: التبليغ، والمبين الظاهر، أي: ليس على رسولنا إلا أن يبلغ ويبين.
وقوله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية: قال المفسرون: لما نزل تحريم الخمر والميسر، قالوا: يا رسول الله، ما نقول في إخواننا الذين مضوا وهم يشربون ويأكلون الميسر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله: {فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] يعني: من الخمر والميسر.(2/227)
وقوله: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} [المائدة: 93] يعني: المعاصي والشرك، ثم اتقوا: داموا على الاتقاء، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} [المائدة: 93] اتقوا ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه.
312 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعَالِبِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فِي الْمَائِدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الأَحْزَابِ، قَالَ فِي ذَلِكَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُصِيبَ فُلانٌ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفُلانٌ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَهَا، وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآيَةَ
يقول: شربها القوم على تقوى من الله وإحسان، وهي يومئذ حلال، ثم حرمت فيما بعد.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {94} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {95} أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {96} } [المائدة: 94-96] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة: 94] الآية، أي: ليختبرن طاعتكم من معصيتكم بصيد البر خاصة، وكان هذا عام الحديبية، كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم كثيرة وهم محرمون، فنهوا عنها ابتلاء قوله: تناله أيديكم يعني: الفراخ وصغار الوحش ورماحكم يعني: الكبار ليعلم الله: ليرى الله {مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94] من يخاف الله ولم يره، كقوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق: 33] .
{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} [المائدة: 94] بعد النهي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 94] قال ابن عباس: يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه.(2/228)
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] حرم الله تعالى قتل الصيد على المحرم، فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرما.
قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطأ.
يعني: أن المخطئ في قتل الصيد ألحق بالمتعمد في وجوب الجزاء عليه بالسنة.
وهذا مذهب عامة الفقهاء.
قال ابن جريج: قلت لعطاء {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] ، فمن قتله خطأ يغرم، وإنما جعل الغرم على من قتله متعمدا؟ قال: يعظم بذلك حرمات الله، ومضت به السنن.
وقوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] أي: فعليه جزاء مماثل للمقتول: ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الضبع كبش، وفي الظبي شاة، وفي الغزال جمل.
ومن قرأ: فجزاءُ مثلِ ما قتل على الإضافة إلى مثل كان معناه: فجزاء ما قتل، ويكون المثل صلة كما تقول: أنا أكرم مثلك.
أي: أكرمك، ومعنى القراءتين سواء.
وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] قال ابن عباس: يريد: يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم: من أهل ملتكم ودينكم، فقيهان عدلان، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به.
{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] قال ابن عباس: يريد: إذا أتى مكة ذبحه وتصدق به.
{أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95] يعني: أو عليه بدل الجزاء الكفارة، وهي طعام مساكين.(2/229)
وقرئ بإضافة كفارة إلى طعام، وذلك أنه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء: الهدي والطعام والصيام، استجيزت الإضافة لذلك، كأنه قيل: كفارة طعام، لا كفارة هدي، ولا كفارة صيام.
قال الشافعي: إذا قتل صيدا فإن شاء جزاه بمثله، وإن شاء قوّم المثل دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاما، ثم يتصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يوما، وهو قوله {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] .
قال الفراء: العدل: ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل: المثل.
قال ابن الأعرابي: عَدل الشيء وعِدله سواء: مثله.
والجزاء إنما يجب فيما يؤكل لحمه من الدواب والطيور، فأما ما لا يؤكل لحمه فلا جزاء في قتله.
313 - أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ "
قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] قال عطاء وإبراهيم وسعيد بن جبير: إذا عاد إلى قتل الصيد محرما بعد ما حكم عليه في المرة الأولي حكم عليه ثانيا، فهو بصدد الوعيد لقوله: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] أي: يكافئه عقوبة بما صنع والله عزيز: منيع، ذو انتقام: من أهل معصيته، أي: ذو مكافأة لهم بالعقوبة.(2/230)
قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] قال ابن عباس: يريد: ما أصيب من داخل البحر، وعني ب البحر: جميع المياه، والأنهار داخلة في هذا.
وقوله: وطعامه يعني: ما لفظه البحر أو حسر عنه الماء {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] منفعة للمقيم والمسافر، تأكلون وتبيعون، ويتزود منه عابر السبيل.
{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] كل صيد صاده المحرم من البر أو صيد له بأمره لم يحل له أكله، واتقوا الله: فلا تستحلوا الصيد في الإحرام، ثم حذرهم بقوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] فيجزيكم بأعمالكم.
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {97} اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {98} } [المائدة: 97-98] قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} [المائدة: 97] قال مجاهد: سمى البيت كعبة لتربيعها.
وقال ابن أبي النجيح: إنما سميت الكعبة لأنها مربعة مكعبة على عمل الكعب.
والبيت الحرام معناه: أن الله تعالى قد حرم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلاء وأن يعضد شجره، وما عظم من حرمته.
قوله: قياما للناس أي: سببا لقيام الناس إليها بالحج وقضاء النسك، فيصلح بذلك دينهم، لأنه يحط عنهم الذنوب والأوزار عندها، ويغفر لهم ما اقترفوه قبل حجها.
وقال جماعة من المفسرين: جعل الله حج الكعبة البيت الحرام قياما لمعاش الناس ومكاسبهم بما يحصل لهم في زيارتهم من التجارة وأنواع البركة.
قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه.
وقوله: والشهر الحرام يريد:(2/231)
الأشهر الحرم، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتغاورون ويسكفون الدماء بغير حقها، فإذا دخل الشهر الحرام أمنوا على أموالهم وأنفسهم وانبسطوا في متاجرهم، وكذلك إذا أهدى الرجل هديا، أو قلد بعيره من لحاء شجر الحرم أمن كيف تصرف، وذلك قوله: والهدي والقلائد ولو لم يؤمن الله العرب بهذه الأشياء لفسدت الأرض وفني الناس.
وقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المائدة: 97] قال ابن قتيبة: فعل الله ذلك لعلمه بما فيه صلاح شئونهم، ليعلموا أنه كما علم ما فيه من الخير لهم أنه يعلم أيضا ما في السموات وما في الأرض.
قال ابن الأنباري: ذكر الله في هذه ال { [غيوبا كثيرة من أخبار الأنبياء عليهم السلام وتباعهم، وأشياء من أحوال المنافقين واليهود كانت مستورة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، فلما دل عليها قال:] ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سورة المائدة: 97] أي: ذلك يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، وأنه لا تخفى عليه خافية.
قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 98] قال الكلبي: لمن استحل الحرام، {وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98] لمن تاب.
314 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَارِجَةُ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
ولما أنذر الله بشدة العقاب، أخبر أنه ليس على الرسول إلا التبليغ، فقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] .
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ} [المائدة: 99] أي: فقد بلغ وأنذر وبشر، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] أي: لا يخفى عليه شيء مما تظهرون وما تسرون.(2/232)
{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {100} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {101} قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ {102} مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ {103} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ {104} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {105} } [المائدة: 100-105] قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] روى جابر، أن رجلا قال: يا رسول الله، إن الخمر كانت تجارتي، وإني اعتقدت من بيعها مالا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أنفقته في حج، أو جهاد، أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب» .
وأنزل الله تصديقا لقول رسوله: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] ، قال عطاء، والحسن: الحرام والحلال، {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] معنى الإعجاب: السرور بما يتعجب منه، تقول: يعجبني المال والغنى.
أي: يسرني، قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أن أهل الدنيا يعجبهم كثرة المال وزينة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى.
ثم أمر بالتقوى، فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [المائدة: 100] الآية.
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضبا خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا إلا أخبرتكموه.
فقام رجل من بني سهم كان يطعن في نسبه وهو عبد الله بن حذافة، فقال: يا نبي الله من أبي؟(2/233)
فقال: " أبوك حذافة بن قيس.
وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: في النار.
وقام آخر فقال: يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويحك، وما يؤمنك أن أقول نعم، والله لو قلتُ: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم.
فأنزل الله هذه الآية.
وسأل عن موضع أبيه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في النار فهو مما يسوء السائل بيانه.
وأما من سأل عن نسبه، فإنه لم يأمن من أن يلحقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير أبيه، فيفتضح فضيحة تبقى عليه بسؤال لم يكلف ذلك.
وأما السائل عن الحج فقد سأل عما كان مرفوعا عنه، لأنه كان ظاهر ما نزل من فرض الحج كفاية، فلو كان العدد في الوجوب مرارا لبين في التنزيل أو على لسان الرسول، فسؤاله إذا عن شيء عفا الله، وهو قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] .
وهذا مؤخر في النظم مقدم في المعنى: لأن التقدير: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم عفا الله عنها.
ومعنى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} [المائدة: 101] أي: كف وأمسك عن ذكرها، فلم يوجب فيها حكما.
قال الزجاج: أعلم الله أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، فإذا ظهر فيه الجواب ساء ذلك، ولا وجه في المسألة عما عفا الله عنه، ولا فيما فيه إن ظهر فضيحة على السائل.
وقوله: {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا} [المائدة: 101] أي: عن أشياء {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ} [المائدة: 101] فيها من فرض أو إيجاب أو نهي أو حكم، ومست حاجتكم إلى ما هو من جملة ما نزل فيه القرآن، وليس في ظاهرها دليل على شرح ما بكم إليه حاجة، فإذا سألتم عنها حينئذ {تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101] .
قوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 102] أي: سأل الآيات التي بهم غنى عنها فتكلفوا سألتها، كقوم عيسى: سألوا المائدة ثم كفروا بها، وقوم صالح: سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها.
قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] أي: ما أوجبها ولا أمر بها.
والبحيرة: فعيلة من البحر وهو الشق، يقال: بحر ناقته.
أي: شق أذنها، وهي بمعنى المفعولة.
قال المفسرون: البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن شقوا أذنها، وامتنعوا عن ركوبها وذبحها، ولا يجز(2/234)
لها وبر، ولا يحمل على ظهرها، ولا تمنع من ماء ولا مرعى.
وقوله: ولا سائبة: قال أبو عبيدة: كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر نذر نذرا، أو شكر نعمة، سيب بعيرا، فكان بمنزلة البحيرة في جميع ما حكموا لها.
وقال الفراء: إذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلها إناث سيبت فلم تركب.
وقال ابن عباس: هي التي تسيب للأصنام، أي: تعتق لها.
وقال سعيد بن المسيب: السائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم.
وقوله: ولا وصيلة: الوصيلة من الغنم: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاه فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
وقوله: ولا حام: قال ابن عباس، وابن مسعود: إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره وسيب لأصنامهم فلا يحمل عليه.
قال قتادة: كان هذا كله تشديد شدده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم وتغليظا.
وإن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي.
315 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا(2/235)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ غَانِمٍ حَدَّثَهُمْ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيِّ، أَنَّ أَبَا صَالِحٍ السَّمَّانَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرُّ قَصَبَهُ فِي النَّارِ، وَأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِسْمَاعِيلَ، وَنَصَبَ الأَوْثَانَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ»
وقوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103] قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحى وأصحابه يتقولون على الله الأباطيل في تحريم هذه الأنعام، وهم جعلوها محرمة، لا الله عز وجل حرمها.
وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103] قال الشعبي، وقتادة: يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب وافتراء على الله من الرؤساء الذين حرموا هذه الأنعام.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [المائدة: 104] يعني: لهؤلاء المشركين الذين يحرمون على أنفسهم هذه الأنعام: {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 104] في القرآن من تحليل ما حرمتم على أنفسكم {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] من الدين والمنهاج، {(2/236)
أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] مضى تفسيره.
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] قال الفراء، وابن الأنباري: هذا أمر من الله، تأويله: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي.
قال الزجاج: إذا قلت: عليك زيدا، فتأويله: الزم زيدا، وعليكم أنفسكم معناه: الزموا أمر أنفسكم، فإنما ألزمكم الله أمرها.
{لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] من أهل الكتاب إذا اهتديتم، ولا تدل الآية على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأن يتأول فيقال: إذا حفظ المرء نفسه عن المعاصي، وكان مهتديا لم يضره ضلال غيره من أهل دينه، ولا يجب عليه الأمر بالمعروف، وقد صرح أبو بكر الصديق رضي الله عنه بهذا فيما
316 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ»
قال أبو عبيدة: خاف الصديق أن يتأول الناس الآية على غير متأولها فيدعوهم إلى ترك الأمر بالمعروف، فأراد أن يعلمهم أنها ليست كذلك، وأنه لو كان وجهها ذلك ما تكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخلافها.
والذي أذن الله في الإمساك عن تغييره من المنكر: الشرك الذي ينطق به المعاهدون من أجل أنهم أهل ملل يتدينون بها.
ثم قد صولحوا على أن شرطهم ذلك.
فأما الفسوق والعصيان والريب من أهل الإسلام، فلا تدخل في هذه(2/237)
الآية والذي يدل على صحة هذه الجملة ما
317 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلِيفَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ضَرِيرٌ فِي بَصَرِهِ، وَذَكَرَ عَتِيقَ بْنَ عُثْمَانَ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَعَدَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ سُمِّيَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ عَلَيْهَا مِنْ مِنْبَرِهِ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَبِيبَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ إِذْ تَأَوَّلَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَسَّرَهَا، وَكَانَ تَفْسِيرُهُ لَهَا أَنْ قَالَ: نَعَمْ، لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ عُمِلَ فِيهِمْ بِمُنْكَرٍ وَسُنَّ فِيهِمْ بِقَبِيحٍ، فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ إِلَّا وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعُمَّهُمْ بِالْعُقُوبَةِ جَمِيعًا ثُمَّ لا يُسْتَجَابُ لَهُمْ.
ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ فَقَالَ: إِلَّا أَكُنْ سَمِعْتُهَا مِنَ الْحَبِيبِ قَصَمْتُهَا
ولابن مسعود رضي الله عنه في هذه الآية طريقة أخرى وهي ما
318 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ:(2/238)
كَانُوا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَوَقَعَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى قَامَ كُلُّ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلَا أَقُومُ إِلَيْهِمَا فَآمُرَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَاهُمَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَسَمِعَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: مَهْ، لَمْ يَجِئْ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ بَعْدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ حِينَ نَزَلَ كَانَ مِنْهُ آيٌّ مُضِيَ تَأْوِيلُهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ، وَمِنْهُ آيٌّ وَقَعَ تَأْوِيلُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ آيٌّ وَقَعَ تَأْوِيلُهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِنِينَ، وَمِنْهُ آيٌّ يَقَعُ تَأْوِيلُهَا عِنْدَ السَّاعَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ، وَمِنْهُ آيٌّ يَقَعُ تَأْوِيلُهَا عِنْدَ الْحِسَابِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمُرُوا وَانْهَوْا، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرِؤٌ وَنَفْسَهُ
ويدل على صحة ما ذهب إليه ابن مسعود في تأويل هذه الآية ما
319 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا عُقْبَةُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ، حَدَّثِني عَمْرُو بْنُ جَارِيَةَ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ، قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ، فَقُلْنَا: كَيْفَ نَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ فَقُلْتُ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «(2/239)
نَعَمْ، ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ الأَمْرَ لا يُدَانِ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ» ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وقوله: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [المائدة: 105] قال عطاء: مصيركم من خالقكم.
{فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105] قال: يجازيكم بأعمالكم.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ {106} فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ {107} ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {108} } [المائدة: 106-108] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] الآية: قال المفسرون: إن تميما الداري وأخاه عديا كانا نصرانيين، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما مهاجرا، خرجوا تجارا، فلما قدموا الشام مرض بديل، فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه، وطرحه في جوالقه ولم يخبر صاحبيه بذلك، وأوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله، ومات بديل رحمه الله فأخذا من متاعه إناء من فضة منقوشا بالذهب، ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، ففتشوا فأصابوا الصحيفة بذكر ما كان معه وفيه ذكر الإناء، فقالوا لتميم، وعدي: إنا فقدنا من متاعه إناء من فضة فيه ثلاث مائة مثقال، فقالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيء،(2/240)
وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عز وجل هذه الآية والتي بعدها.
فقوله: شهادة بينكم: قال الفراء: أي: ليشهدكم اثنان {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: 106] أي: أسبابه ومقدماته حين الوصية: وقت وصيته {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] من أهل دينكم وملتكم، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] من غير أهل ملتكم في قول عامة المفسرين.
قال شريح: إذا كان الرجل بأرض غربة، ولم يجد مسلما يشهده على وصيته، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو أي كافر فشهادته جائزة.
وقال آخرون: لا تجوز شهادة أهل الذمة في شيء من أحكام المسلمين، ولا يقبل قولهم، ولا يثبت بشهادتهم حكم، وعليه الناس اليوم.
وقالوا في قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] أي: من حيكم وقبيلتكم، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أي: من غير قبيلتكم ورفقتكم.
هو قول الحسن، والسدي، وابن موسى، قالوا: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] قال: كلهم مسلمون.
قوله: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106] إن سافرتم وسرتم فيها، {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] قال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر، وأهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الأكاذيب والحلف الكاذب، فيقسمان: فيحلفان {بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ} [المائدة: 106] شككتم في قول الآخرين الذين ليسا من أهل ملتكم.
وقوله: {لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [المائدة: 106] أي: لا نبيع عهد الله بعرض نأخذه من الدنيا، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة: 106] ولو كان المشهود له ذا قربى، والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحدا ولو كان ذا قربى، {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} [المائدة: 106] أضيف الشهادة إلى الله(2/241)
لأمره بإقامتها والنهي عن كتمانها، {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ} [المائدة: 106] أي: إن كتمناها لكنا من الآثمين.
ولما رفعوها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت الآية، أمرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستحلفوهما: بالله الذي لا إله إلا هو، ما قبضنا له غير هذا ولا كتمنا.
فحلفا على ذلك وخلي سبيلهما، ثم اطلع على إناء من فضة معهما، فارتفعوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزل قوله: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [المائدة: 107] أي: فإن اطلع على أنهما أتيا خيانة، واستوجبا إثما بيمينهما الكاذبة، {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} [المائدة: 107] أي: مقام الشاهدين اللذين من غيركم {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] أي: من ورثة الميت وهم الذين استحق عليهم الوصية الأوليان أي: الأقربان للميت.
وقرأ حمزة الأولين: وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في هذه الآية في قوله: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} [المائدة: 107] ، وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم الإيصاء.
وإنما قيل لهم الأولين لتقدم ذكرهم في قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] ، وكذلك: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] ، وذكر في اللفظ قبل قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] وقرأ حفص استَحَقَّ بفتح الحاء والتاء بمعنى وجب، والمعنى: فآخران من الذين وجب عليهم الإيصاء بتوصية ميتهم وهم ورثته.
وقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107] قال ابن عباس: ليميننا أحق من يمينهما.
وسميت اليمين ههنا شهادة، لأن اليمين كالشهادة على ما يجب عليه أنه كذلك، وما اعتدينا: فيما قلنا من أن شهادتنا أحق من شهادتهما.
فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا بالله أنهما ما خانا(2/242)
وكذبا، فدفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت.
قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين أدنى إلى الإتيان بالشهادة على ما كتب، أو يخافوا أي: أقرب إلى أن يخافوا {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ} [المائدة: 108] على أولياء الميت بعد أيمانهم: فيحلفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفتضحوا ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك الحكم.
واتقوا الله: أن تحلفوا أيمانا كاذبة، أو تخونوا أمانة، واسمعوا: الموعظة، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 108] وعيد لهم بحرمان الهداية.
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {109} إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {110} وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ {111} إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {112} قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ {113} قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {114} قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ {115} وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {116} مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {117} إِنْ(2/243)
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {118} قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {119} لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {120} } [المائدة: 109-120] قوله عز وجل: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109] الآية: انتصب اليوم بفعل محذوف على تقدير: احذروا واذكروا يوم يجمع الله الرسل، {فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] قال الكلبي: ماذا أجابكم قومكم في التوحيد.
ومعنى المسألة من الله للرسل: التوبيخ للذين أرسلوا إليهم.
{قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] قال ابن عباس: إن للقيامة زلازل وأهوالا حتى تزول القلوب عن مواضعها، فإذا رجعت القلوب شهدوا لمن صدقهم وعلى من كذبهم، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، قالوا: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب، ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم.
وحكى ابن الأنباري، عن جماعة من أهل التفسير أنهم قالوا: معنى الآية لا حقيقة لعلمنا إذ كنا نعلم جوابهم وما كان من أفعالهم وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان منهم بعد وفاتنا، وإنما الجزاء يستحق بما يقع به الخاتمة مما يموتون عليه، فلما خفي عليهم الذي ماتت عليه الأمم لم يكن لعلمهم حقيقة، فقالوا: {لا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109] .
يدل على صحة هذا التأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] أي: أنت الذي يعلم ما غاب ونحن نعلم ما نشاهد، ولا نعلم ما في البواطن.(2/244)
قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 110] مفسر في { [البقرة وآل عمران إلى قوله:] وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ} [سورة المائدة: 110] أي: منعتهم عن قتلك {إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [المائدة: 110] يعني: ما ذكر في هذه الآية من معجزات عيسى عليه السلام، {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة: 110] أي: ما هذا الذي جئت به إلا سحر.
ومن قرأ: إلا ساحر أشار به إلى الشخص، يعني: عيسى.
قوله: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ} [المائدة: 111] قال عامة المفسرين: أي: ألهمتهم، كما قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] أي: ألهمها وقذف في قلوبها، وباقي الآية ظاهر.
قوله: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة: 112] قال ابن الأنباري: لا يجوز لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله، ولا يدل قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} [المائدة: 112] على أنهم شكوا في استطاعته، وهذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ وهو يعلم أنه مستطيع للقيام، لكنه يريد: هل يسهل عليك؟ وهل يخف عليك؟ وكذلك في الآية: هل يقبل ربك دعاءك، وهل يسهل عليك إنزال المائدة؟ وقرأ الكسائي: تستطيع بالتاء، ربَّك نصبا على معنى: هل تستطيع سؤال ربك، ومرادهم بالاستفهام: التلفظ في استدعاء السؤال، كما تقول لصاحبك هل تستطيع كذا؟ وأنت عالم أنه يستطيع، ولكن قصدك بالاستفهام التلفظ.(2/245)
قال ابن عباس: قال عيسى لأصحابه: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما، ثم لا تسألون شيئا إلا أعطاكم.
فصاموا ثلاثين يوما، ثم قالوا: يا معلم الخير، قد فعلنا الذي أمرتنا، فسل من أمرتنا أن نصوم له أن يطعمنا، فذلك قوله: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112] .
والمائدة: الخوان بما عليه من الطعام.
قال: عيسى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112] أي: اتقوا الله أن تسألوه شيئا لم تسأله الأمم قبلكم.
قوله: {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} [المائدة: 113] أي: نريد سؤال المائدة من أجل هذا، وتطمئن قلوبنا: تزداد يقينا، وذلك أن الدلائل كلما كثرت قويت المعرفة في النفس {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] في أنا إذا صمنا ثلاثين لا نسأل الله شيئا إلا أعطانا.
وقوله: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 113] أي: نقر لله بالوحدانية ولك بالنبوة من جهة ذلك الدليل الذي نراه في المائدة، فدعا عيسى، وقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] أي: نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه عيدا، نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا.
وآية منك: دلالة على توحيدك وصحة نبوة نبيك وارزقنا: عليها طعاما نأكله {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114] .
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} [المائدة: 115] أي: بعد إنزال المائدة {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] يعني: جنسا من العذاب لا يعذب به غيرهم.
قال الزجاج: فهذا العذاب جائز أن يعجل لهم في الدنيا، وجائز أن يكون لهم في الدنيا، وجائز أن يكون في الآخرة.
واختلف العلماء في نزول المائدة: فقال الحسن: والله ما نزلت المائدة، وإن القوم لما سمعوا الشرط في(2/246)
قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ} [المائدة: 115] استعفوا، وقالوا: لا نريدها، وهذا أيضا قول مجاهد.
والصحيح أنها نزلت، قال ابن عباس: نزلت الملائكة بمائدة من السماء عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، فأكلوا منها حتى شبعوا.
وقال الكلبي: نزلت وعليها خبز ورز وبقل.
320 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ قَزَعَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ خِلاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتِ الْمَائِدَةُ مِنَ السَّمَاءِ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأُمِرُوا أَنْ لا يَخُونُوا وَلا يَدَّخِرُوا لِغَدٍ، فَخَافُوا وَادَّخَرُوا، وَرُفِعُوا فَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ»
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] الآية، هذا استفهام معناه التوبيخ لمن ادعى ذلك على المسيح، ويكذبهم المسيح فيكون ذلك توبيخا لهم، وهو قوله: قال سبحانك أي: برأتك من السوء، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116] أي: لست أستحق العبادة فأدعو الناس إليها، {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] لأنه لا يخفى عليك علم شيء، {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] قال ابن عباس: تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك.(2/247)
والمعنى: تعلم ما أخفيه من سري وغيبي، ولا أعلم ما تخفيه أنت ولم تطلعنا عليه، فلما كان سر عيسى يخفيه في نفسه، جعل أيضا سر الله مما يخفيه الله في نفسه ليزدوج الكلام ويحسن النطم.
وقال الزجاج: النفس في اللغة تقع عبارة عن حقيقة الشيء، فمعنى {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] أي: تعلم ما أضمره {وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] أي: لا أعلم ما في حقيقتك وما عندي علمه.
والتأويل: إنك تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم، يدل على هذا قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] .
ثم ذكر ما قال لقومه فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117] فسر ذلك فقال: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] أي: أمرتهم بعبادتك لأنك ربي وربهم، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] كنت أشهد على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم، فلما توفيتني يعني: وفاة الرفع إلى السماء من قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] ، {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] الحفيظ عليهم تحفظ أعمالهم، {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] قال ابن عباس: شهدت مقالتي فيهم وبعد ما رفعتني إليك شهدت ما يقولون بعدي.
قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] الآية: قال الحسن وأبو العالية إن تعذبهم: فبإقامتهم على كفرهم، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} [المائدة: 118] فبتوبة كانت منهم.
وقال ابن الأنباري: هذا على التبعيض، أي: إن تعذب بعضهم الذين أقاموا على الكفر فهم عبادك، وإن تغفر لبعضهم الذين انتقلوا عن الكفر إلى الإسلام فأنت في ذلك قاهر غالب عادل لا يعترض عليك معترض.
وهذا اختيار الزجاج لأنه قال: والذي عندي: أن عيسى عليه السلام قد علم أن منهم من آمن ومنهم من أقام على الكفر، فقال عيسى في جميعهم: إن تعذب من كفر بك فإنهم عبادك، أنت العادل فيهم، وإن تغفر لهم لمن أقلع منهم وآمن فأنت في مغفرتك لهم عزيز لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك.
قوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] أي: ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم في هذا اليوم، ولأنه يوم الجزاء، وما تقدم في الدنيا الصدق إنما يتبين نفعه في هذا اليوم.
قال المفسرون: هذا تصديق لعيسى فيما قال، وذلك أنه كان صادقا في الدنيا، ولم يقل للنصارى: اتخذوني إلها فنفعه صدقه.(2/248)
ومن قرأ هذا يومُ بالرفع فعلى الابتداء والخبر، جعل اليوم خبر المبتدأ الذي هو هذا، والمعنى: قال الله: هذا اليوم يوم منفعة الصادقين.
ومن قرأ بالنصب فعلى الظرف على تقدير {قَالَ اللَّهُ هَذَا} [المائدة: 119] يعني: ما تقدم ذكره في يوم ينفع الصادقين صدقهم، أي: قال الله هذا في يوم القيامة.
وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة: 119] أي: بطاعتهم، ورضوا عنه: بثوابه {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] قال الحسن: فازوا بالجنة ونجوا من النار.
قال مقاتل: ثم عظم نفسه عما قالت النصارى من أن معه إلها فقال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المائدة: 120] قال الحسن: يريد خزائن السموات وهي المطر وخزائن الأرض وهي النبات.
قوله: {وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] إشارة إلى أن الآمال يجب أن تتعلق بالله تعالى لعظيم ملكه وسعة قدرته.(2/249)
سورة الأنعام
مكية وآياتها خمس وستون ومائة عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: أنزلت سورة الأنعام ومعها سبعون ألف ملك.
321 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَفَّافُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُنْزِلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وَتَبِعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَنْعَامِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ أُولَئِكَ السَّبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ بَعِدَدِ كُلِّ حَرْفٍ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ يَوْمًا وَلَيْلَةً»
322 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ زَاذَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَجَّاجِ رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ قَرَأَ ثَلاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ(2/250)
سُورَةِ الأَنْعَامِ حِينَ يُصْبِحُ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَحْفَظُونَهُ، وَكَتَبَ لَهُ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَزَلَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مَعَهُ مِرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِهِ شَيْئًا مِنَ الشَّرِّ ضَرَبَهُ بِهَا، وَجَعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ، ابْقَ تَحْتَ ظِلِّي، وَكُلْ مِنْ ثِمَارِ جَنَّتِي، وَاشْرَبْ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ، وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاءِ السَّلْسَبِيلِ، فَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، لا حِسَابَ عَلَيْكَ وَلا عَذَابَ "
أخبرنا عبد الرحمن بن حمدان العدل، أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسين هارون، حدثنا إسحاق بن محمد بن مروان، وحدثنا أبي، حدثنا نصر بن مزاحم، عن محمد بن عبيد الله، عن أبي إسحاق الشيباني: بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ {1} هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ {2} وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ {3} } [الأنعام: 1-3] الحمد لله قال ابن عباس: يريد: على كل فعال، وبكل لسان، وعلى نعم الإسلام، وعلى صحة الأبدان.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 1] قال الزجاج: ذكر أعظم الأشياء المخلوقة، لأن السماء بغير عمد ترونها، والأرض غير مائدة بنا، {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] جعل ههنا: بمعنى خلق، كقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] ، وقال الحسن: أراد بالظلمات: الكفر، والنور: الإيمان، وقال السدي: يعني: الليل والنهار.
وقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنعام: 1] يعني عبدة الأوثان {بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] قال مجاهد: يشركون به غيره.
يقال: عدل الكافر بربه عدلا وعدولا، إذا سوى به غيره فعبده، والعدل: التسوية، عدَل الشيء بالشيء إذا سواه به.(2/251)
قال الزجاج: أعلم الله تعالى أنه خالق ما ذكر في هذه الآية، وأن خالقها لا شيء مثله , ثم أعلم أن الكفار يجعلون له عدلا فيعبدون الحجارة والموات.
قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام: 2] قال ابن عباس: يعني: آدم، والخلق من نسله، {ثُمَّ قَضَى أَجَلا} [الأنعام: 2] يعني: أجل الحياة إلى الموت {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2] يعني: أجل الموت إلى البعث وقيام الساعة.
وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل.
قال ابن عباس: إن الله تعالى قضى لكل نفس أجلين، من مولده إلى موته ومن موته إلى مبعثه، فإذا كان الرجل صالحا واصلا لرحمه زاد الله له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث، وإذا كان غير صالح ولا واصل لرحمه نقصه الله من أجل الحياة وزاد في أجل البعث، وذلك قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] .
ثم أنتم يا معشر المشركين بعد هذا البيان تمترون تشكون وتكذبون بالبعث.
قوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] قال الزجاج، وابن الأنباري: هو المعبود في السموات والأرض، كما تقول: هو الخليفة في الشرق والغرب.
{يَعْلَمُ سِرَّكُمْ} [الأنعام: 3] : ما تسرون مما لا يطلع عليه غيركم، {وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3] : ما تجهرون به وتعلنونه، {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام: 3] معنى الكسب: الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضر، ولهذا لا يوصف فعل الله سبحانه بأنه كسب.
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ {4} فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {5} أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ(2/252)
نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ {6} } [الأنعام: 4-6] قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 4] قال عطاء: يريد القرآن {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4] تاركين التفكر فيها.
فقد كذبوا يعني: مشركي مكة {بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [الأنعام: 5] قال ابن عباس: بما جاءهم به الصادق الأمين عن الله تعالى، {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 5] أي: أخبار استهزائهم وجزاؤه فهذا وعيد لهم على استهزائهم بالقرآن.
والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم إذا عذبناهم.
قوله: ألم يروا يعني: مشركي مكة {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6] من أمة وجماعة، يعني: من أهلك من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل، والقرن: الأمة من الناس، وأهل كل مدة قرن.
قوله: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ} [الأنعام: 6] قال ابن عباس: أعطيناهم ما لم نعطكم، يعني: وسعنا عليهم في كثرة العبيد والمال والأنعام.
يقال: مكنته ومكنت له، إذا أقدرته على الشيء بإعطاء ما يصح به الفعل من العدة، وفي هذا رجوع من الخبر إلى الخطاب.
وأرسلنا السماء يعني: المطر عليهم مدرارا كثير الدر.
يقال: سحاب مدرار وغيث مدرار.
إذا تتابع منه المطر.
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأنعام: 6] : بكفرهم وتكذيبهم، وأنشأنا خلقنا وأوجدنا {مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] .
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ {7} وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ {8} وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ {9} وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ {10} } [الأنعام: 7-10] قوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] قال الكلبي: قال مشركون مكة: لن نؤمن لك يا محمد حتى(2/253)
تأتينا بكتاب من عند الله معه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية.
والقرطاس: كأنه يتخذ من بردي يكون بمصر، وكل كاغد قرطاس.
قوله: فلمسوه بأيديهم: قال قتادة: فعاينوا ذلك معاينة ومسوه بأيديهم، {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7] قال الزجاج: لو رأوا الكتاب ينزل من السماء لقالوا سحر، أخبر الله سبحانه أنهم يدفعون الدليل حتى لو أتاهم الدليل مدركا بالحس لنسبوه إلى السحر.
قوله: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] قال المفسرون: طلبوا ملكا يرونه يشهد، فقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام: 8] لأهلكوا بعذاب الاستئصال.
وقال مجاهد، وعكرمة: لقامت الساعة.
{ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8] قال ابن عباس: لا يؤخرون لتوبة، لأنه يجب أن يجروا على سنة من قبلهم ممن طلبوا الآيات فلم يؤمنوا فأهلكوا كعاد وثمود.
قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا} [الأنعام: 9] أي: لو جعلنا الرسول ملكا كما يطلبون لجعلناه رجلا: لأنهم لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته، ولذلك كانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة الإنس.
{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] يقال: لبست الأمر ألبسه لبسا.
إذا شبهته وجعلته مشكلا، قال الضحاك: ولخلطنا عليهم ما يخلطون حتى يشكوا فلا يدروا أملك هو أم آدمي؟ ثم عزى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تكذيب المشركين، فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} [الأنعام: 10] قال عطاء: فحل.
وقال الربيع: نزل.
وقال الضحاك: أحاط.
وقال الفراء: يقال: حاق بهم يحيق حيقا وحيوقا.
وقال الزجاج: أحاط بهم العذاب(2/254)
الذي هو جزاء استهزائهم.
كما تقول: أحاط بفلان عمله، وأهلكه كسبه.
أي: جزاء كسبه، ثم حذر كفار مكة عذاب الأمم الخالية فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] قل سيروا: سافِروا {فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} [الأنعام: 11] اعتبروا {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11] مكذبي الرسل، قال قتادة: دمر الله عليهم، ثم صيرهم إلى النار.
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {12} وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {13} قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {14} قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {15} مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ {16} وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {17} وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {18} قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {19} } [الأنعام: 12-19] قوله: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 12] هذا أمر من الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسؤال قومه، ثم أمره بالجواب فقال: قل لله: جاء السؤال والجواب من جهة واحدة، وهذا إخبار عن عظم ملكه.
ثم أخبر أنه أوجب على نفسه الرحمة تلطفا في الاستدعاء إلى الإنابة فقال: كتب ربكم {عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12] قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين.
323 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَارِثِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الأَثَرِيُّ بِجُرْجَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا(2/255)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ
وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام: 12] هذا ابتداء كلام، واللام فيه: لام القسم، كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة.
قال الزجاج: معناه: ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه، وهو اليوم الذي لا ريب فيه، {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأنعام: 12] أي: بالشرك بالله تعالى أوبقوا أنفسهم {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 12] لما سبق لهم من القضاء بالشقاوة والخسران.
قوله: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] قال ابن عباس: له ما استقر في الليل والنهار ممن خلق.
وهذا عام في كل مخلوق، لأن كل ما طلعت عليه الشمس وما غربت فهو من ساكني الليل والنهار، ولهذا قال ابن الأعرابي: وله ما حل في الليل والنهار.
وقال أهل المعاني: في الآية محذوف، والتقدير: وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار، فحذف ذكر الحركة واكتفى بذكر السكون، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] يعني: الحر والبرد.
قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] هذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا أتخذ وليا غير الله ولا أعبد سواه، {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 14] خالقهما ابتداء لا على مثال سبق، والفطرة: ابتداء الخلقة.
قال ابن عباس: كنت لا أدري ما: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 14] حتى احتكم إلى أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأت حفرها.
وقال ابن الأعرابي: يقال: هو أول من فطر هذا، أي: ابتدأه.
قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] قال السدي،(2/256)
والكلبي: يَرزق ولا يُرزق، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] من هذه الأمة، أي: قيل لي: كن أول المسلمين، {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14] أي: أمرت بدين الحنفية، ونهيت عن الشرك.
قل: للمشركين: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الأنعام: 15] فيما أمرت به ونهيت عنه {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] وهو يوم القيامة.
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} [الأنعام: 16] العذاب {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} [الأنعام: 16] فقد أوجب الله له الرحمة لا محالة، أي: له مع صرف العذاب عنه الرحمة.
وقرأ حمزة يَصْرِف بفتح الياء وكسر الراء، أي: يصرف الله عنه العذاب يومئذ، يعني: يوم القيامة فقد رحمه، {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام: 16] لأنه فاز بالرحمة ونجا من العذاب.
وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الأنعام: 17] أي: إن جعل الضر يمسسك ويصيبك، وهو اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان من فقر ومرض وزمانة، كما أن الخير: اسم جامع لكل ما ينتفع به الإنسان.
قوله: {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [الأنعام: 17] أي: لا يكشف ذلك الضر الذي أصابك غير الله، ولا يصرفه عنك غيره.
وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} [الأنعام: 17] يصبك بغنى وسعة في الرزق وصحة في الجسم، {فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام: 17] من الغنى والفقر.
324 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَيْبَانَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ، عَنْ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:(2/257)
أُهْدِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ، أَهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى فَرَكِبَهَا بِحَبْلٍ مِنْ شَعْرٍ ثُمَّ أَرْدَفَنِي خَلْفَهُ، ثُمَّ سَارَ مَلِيًّا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: " يَا غُلامُ، فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، فَقَدْ مَضَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ جَهِدَ النَّاسُ أَنْ يَنْفَعُوكَ بِمَا لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ جَهِدَ النَّاسُ أَنْ يَضُرُّوكَ بِمَا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَعَ الصَّبْرِ النَّصْرَ، وَأَنَّ مَعَ الْكَرْبِ الْفَرَجَ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ الْيُسْرَ "
قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] القهر: الغلبة، والله القاهر القهار، قهر خلقه بقدرته وسلطانه فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها، يقال: أخذت الشيء قهرا.
إذا أخذته دون رضا صاحبه، ومعنى القاهر في صفة الله تعالى: يعود إلى أنه القادر الذي لا يعجزه شيء.
ومعنى فوق ههنا: أن قهره قد استعلى عليهم فهم تحت التسخير والتذليل بما علاهم من الاقتدار الذي لا ينفك عنه أحد، {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18] العالم بالشيء.
قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً} [الأنعام: 19] قال المفسرون: قال أهل مكة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بمن يشهد لك بالنبوة فإن اليهود والنصارى ينكرونك، فنزلت هذه الآية، قال مجاهد: أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسأل قريشا، ثم أمر أن يخبرهم فيقول: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] .(2/258)
قال الزجاج: أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحتج عليهم بأن شهادة الله في نبوة نبيه أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به يشهد له أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] يريد: من أمتي إلى يوم القيامة.
قال الفراء: المعنى: ومن بلغه القرآن من بعدكم، وكان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآن فهو داع ونذير.
ثم قرأ هذه الآية، وقال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكلمه.
قوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى} [الأنعام: 19] هذا استفهام معناه الجحد والإنكار عليهم بهذه الشهادة، ثم أمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفي هذه الشهادة عن نفسه بقوله: {قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام: 19] ، ثم أمره بتوحيده والتبري مما سوى الإسلام فقال: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19] .
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {20} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {21} وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {22} ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ {23} انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {24} } [الأنعام: 20-24] قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 20] يعني: اليهود والنصارى يعرفونه: يعرفون محمد بالنبوة والصدق بما يجدونه مكتوبا عندهم في صفته ونعته {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ} [الأنعام: 20] .
وقد تقدم تفسير هذا في { [البقرة، وباقي ال: مفسر في هذه السورة.
قوله:] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] قال ابن عباس: ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبا فأشرك به الآلهة، والمعنى: لا أحد أظلم منه.
{أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21] يعني: القرآن، وهم اليهود والنصارى كذبوا القرآن ومعجزاته، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 21] قال ابن عباس: لا يسعد من جحد ربوبية ربه، وكذّب رسله.(2/259)
قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [الأنعام: 22] انتصب يوم بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم.
يعني: يوم القيامة يجمع الله فيه الكفار والمشركين ثم يسألهم سؤال توبيخ عما أشركوا بالله من الأوثان وهو قوله: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] قال المفسرون: إن المشركين كانوا يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، فقيل لهم يوم القيامة: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون أنها تشفع لكم؟ قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: 23] وقرئ بالياء لأن الفتنة بمعنى الافتتان فجاز تذكيره، وقرئ فتنتهم رفعا ونصبا، فمن رفع جعله اسم كان، وجعل: {إِلا أَنْ قَالُوا} [الأنعام: 23] الخبر، ومن نصب جعل: {إِلا أَنْ قَالُوا} [الأنعام: 23] الاسم وفتنتهم الخبر.
قال الزجاج: تأويل هذه الآية تأويل حسن لطيف، وذلك أن الله تعالى ذكر فيما تقدم أمر المشركين وأنهم مفتونون بشركهم، ثم أعلم أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه إلا أن تبرءوا منه وانتفوا عنه، وهو قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] .
قرئ ربِّنا بالخفض على نعت الله، ومن نصب جعله منادى مضافا.
قال الله عز وجل: انظر: يا محمد {كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 24] باعتذارهم بالباطل وجحد شركهم في الآخرة، قاله قتادة وعطاء.
قوله: وضل عنهم أي: زال وبطل {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24] بعبادته من الأصنام فلم تغن عنهم شيئا، وذلك(2/260)
أنهم كانوا يرجون شفاعتها ونصرتها لهم، فبطل ذلك في ذلك اليوم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ {25} وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {26} وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {27} بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {28} } [الأنعام: 25-28] وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] الآية، نزلت في نفر من المشركين منهم النضر بن الحارث، جلسوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ القرآن، فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟ فقال: أساطير الأولين مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية.
وقوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} [الأنعام: 25] الأكنة: هو ما ستر الشيء، يقال: كننت الشيء وأكننته: سترته، قال ابن عباس: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] يعني: القرآن {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأنعام: 25] غطاء أن يفهموه ويعوه.
قال الزجاج: والتقدير: كراهة أن يفقهوه، فحذف المضاف.
{وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] الوقر: الثقل في الأذن، قال ابن عباس: صمما.
وقال الضحاك: ثقلا.
وليس المعنى أنهم لم يعلموا ولم يسمعوا، ولكنهم حرموا الانتفاع به، فكانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع.
وهذه الآية دلالة صريحة على أن الله تعالى يقلب القلوب، فيشرح بعضها للهدى، ويجعل بعضها في أكنة فلا يفقه صاحبها كلام الله تعالى ولا يؤمن به، وهو قوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام: 25] أي: كل علامة تدلهم على نبوتك لا يصدقوا بها، هذا حالهم في البعد عن الإيمان {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} [الأنعام: 25] يخاصمونك في الدين {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25] ما هذا القرآن إلا ما سطره الأولون، أي: كتبوه من أحاديثهم، وواحد الأساطير: أسطورة، مثل أحدوثة وأحاديث، وقال أبو زيد الأخفش: لا واحد لها مثل عبابيد وأبابيل.(2/261)
قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] يعني: المشركين ينهون الناس عن اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] : يتباعدون عنه فلا يؤمنون.
وهذا قول الكلبي، والحسن، والسدي.
والنأي: البعد، نأى ينأى نأيا.
وقال ابن عباس، وعمرو بن دينار، وسعيد بن جبير: نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتباعد عما جاء به.
وقوله: وإن يهلكون أي: وما يهلكون بالتباعد عنه {إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] أنهم يهلكونها.
قوله: ولو ترى: يا محمد المشركين {إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] أي: عاينوها ووقفوا عندها، فهم موقوفون على أن يدخلوها، {فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام: 27] إلى الدنيا، يتمنون الرد لكي يؤمنوا ويصدقوا وهو قوله: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] ، فقد شاهدنا وعاينا ما لا نكذب معه أبدا.
ومن نصب ولا نكذب، ونكون قال الزجاج: نصب على الجواب بالواو في التمني، كما تقول: ليتك(2/262)
تصير إلينا ونكرمك.
المعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، والمعنى: ليت ردنا وقع وأن لا نكذب ونكون من المؤمنين.
قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ} [الأنعام: 28] بل ههنا: رد لكلامهم، يقول الله تعالى: ليس على ما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا، بل بدا لهم {مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 28] فلذلك اعتذروا وتمنوا الرد، وذلك أن المشركين كانوا يجحدون الشرك في بعض المواقف كما أخبر عنهم بقوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر، فذلك حين بدا لهم، أي: ظهر لهم ما كانوا يخفون: يكتمون ويسترون من الشرك، ولو ردوا: إلى الدنيا {لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] قال ابن عباس: إلى ما نهوا عنه من الشرك.
وإنهم لكاذبون في قولهم: {وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ {29} وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {30} } [الأنعام: 29-30] وقالوا يعني: منكري البعث {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الأنعام: 29] ما الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ولا حياة بعدها، وهو قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام: 29] .
قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30] أي: على مسألة ربهم وتوبيخه إياهم بكفرهم، وهو قوله: {قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 30] يقول الله لهم: أليس هذا البعث حقا؟ فيقرون حين لا ينفعهم ذلك، ويقولون: بلى وربنا، فيقول الله تعالى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 30] أي: بكفركم بالبعث.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ {31} وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {32} } [الأنعام: 31-32] قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام: 31] إنما وصفوا بالخسران لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم في ذلك البيع.
ومعنى بلقاء الله: بالبعث والثواب والعقاب والمصير إلى الله.
قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام: 31] يعني: الوقت الذي تقوم فيه القيامة، والبغتة: الفجأة، يعني:(2/263)
إنها تأتي فجأة لا يعلمها أحد فينتظرها، و {قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام: 31] التفريط: التضييع والترك.
أي: على ما تركنا وضيعنا من عمل الآخرة في الدنيا.
{وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] الأوزار: الأثقال من الإثم، قال ابن عباس: يريد: آثامهم وخطاياهم.
قال المفسرون: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبه ريحا، فيقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم، فذلك قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} [مريم: 85] أي: ركبانا.
وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شيء صورة وأخبثه ريحا، فيقول: أنا عملك السيئ طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم، وذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] ، وهذا قول قتادة، والسدي.
وقوله: {أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [الأنعام: 31] يقال: وزرت الشيء آزره وزرا إذا حملته.
قال ابن عباس: بئس الحمل حملوا.
قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 32] يعني: الحياة في هذه الدار {إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الأنعام: 32] أي: باطل وغرور لأنها تنقضي وتفنى، كاللعب واللهو لذة فانية عن قرب.
وللدار الآخرة يعني: الجنة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 32] الشرك أفلا يعقلون أنها كذلك فيصلوا لها.
وقرأ ابن عامر: ولدار الآخرة بالإضافة، قال الفراء: يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كقولهم: بارحة الأولى، ويوم الخميس، وحق اليقين.(2/264)
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ {33} وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ {34} وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ {35} إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {36} } [الأنعام: 33-36] قوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] هذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعزية عما يواجهه به قومه من التكذيب.
قال أبو ميسرة: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي جهل وأصحابه فقالوا: يا محمد إنا والله لا نكذبك، وإنك عندنا صادق، ولكن نكذب ما جئت به.
فنزلت هذه الآية.
وقوله: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، ومقاتل: هذا في المعاندين الذين عرفوا صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه غير كاذب فيما يقول، ولكنهم عاندوا وجحدوا، فأنزل الله تعالى فيهم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} [الأنعام: 33] في العلانية إنك كذاب مفتر، {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] في السر يعلمون أنك صادق، وقد عرفوا صدقك فيما مضى، {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33] بالقرآن بعد المعرفة.
وقال قتادة: يعلمون أنك رسول الله ولكن يجحدون، كقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] وقرأ الكسائي لا يكذبوك مخففا، واحتج بأن العرب تقول: كذبت الرجل.
إذا نسبته إلى الكذب وإلى صنعة الأباطيل من القول، وأكذبته إذا أخبرت أن الذي تحدث به كذب ليس هو الصانع له.(2/265)
وقال الفراء: معنى التخفيف: لا يجعلونك كذابا، ولكن يقولون: إن ما جئت به باطل.
ويجوز أن يكون معنى القراءتين سواء، يقال: كذبته وأكذبته، إذا نسبته إلى الكذب.
ثم أخبر الله تعالى أن الرسل قبله قد كذّبتهم الأمم، فقال: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: 34] قال ابن عباس: من لدن نوح إليك.
{فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} [الأنعام: 34] رجاء ثوابي، وأوذوا: حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار {حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34] بتعذيب من كذبهم {وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 34] لا ناقض لما حكم به، وقد حكم في كتابه بنصر أنبيائه كقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21] ، وكقوله: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا} [الصافات: 171] الآيات.
{وَلَقدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34] أي: خبرهم في القرآن، وكيف أنجيناهم ودمرنا قومهم.
قوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} [الأنعام: 35] أي: عظم عليك وشق أن أعرضوا عن الإيمان بك وبالقرآن.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص على إيمان قومه أشد الحرص، وكانوا إذا سألوه آية أراد أن يريهم الله ذلك طمعا في إيمانهم، فقال الله عز وجل: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 35] وهو السَّرَب له مخلص إلى مكان آخر، {أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ} [الأنعام: 35] يقول الله تعالى: إن استطعت أن تغوص في الأرض، أو ترقى في السماء فتأتي قومك بآية فافعل.
قال الزجاج: أعلم الله أنه بشر لا يقدر على الإتيان بالآيات، وفي تعجيزه عن الإتيان بما سألوا أمر له بالصبر إلى أن يدخل وقت العقاب.
قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] أخبر الله تعالى أنهم إنما تركوا الإيمان بمشيئة الله، ونافذ قضائه فيهم، ولو شاء الله لاجتمعوا على الإيمان، كما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99] .
قوله: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 35] فإنه يؤمن بك بعضهم دون بعض، وإنهم لا يجتمعون على الهدى، ثم ذكر من يؤمن، فقال: {(2/266)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] قال مجاهد، وقتادة: يعني المؤمنين الذين يسمعون الذكر فينتفعون به، وقال الزجاج: يعني الذين يسمعون سماع قابلين.
{وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36] يعني: الكفار، يقول الله سبحانه وتعالى: إنما يستجيب للحق المؤمنون، فأما الموتى وهم الكفار فإن الله يبعثهم في الآخرة {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [الأنعام: 36] يرجعون فيجزيهم بأعمالهم.
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {37} وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ {38} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {39} } [الأنعام: 37-39] وقالوا يعني: رؤساء قريش: لولا: هلا {نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأنعام: 37] يعنون نزول ملك يشهد بالنبوة، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37] ما عليهم في الآية من البلاء في إنزالها.
قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 38] قال ابن عباس: يريد: كل ما دب على الأرض وجميع البهائم.
وقال الزجاج: جميع ما خلق الله في الأرض من حيوان لا يخلو إما أن يدب وإما أن يطير، وهو قوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وذكر الجناح تأكيد، كقولك: نعجة أنثى، وكلمته بفمي، ومشيت برجلي.
وقوله: {إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] قال مجاهد: أصناف مصنفة تعرف بأسمائها.
يريد: أن كل جنس من الحيوان أمة تعرف باسمها، كالطير والظباء والذئاب والأسود مثل بني آدم يعرفون بالإنس والناس.
وقال الزجاج: يعني أمثالكم في أنهم يبعثون، لأنه قال: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 36] ، ثم أعلم أنه ما من دابة ولا طائر إلا أمثالكم في الخلق والموت والبعث.(2/267)
يدل على صحة هذا التأويل ما
325 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَّادٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] قَالَ: يُحْشَرُ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْبَهَائِمُ وَالدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَكُلُّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا
وقال القتيبي: يريد: أنهما مثلنا في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقي المهالك.
وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] قال ابن عباس في رواية عطاء: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم.
وهذا من العام الذي أريد به الخاص، لأن المعنى: ما فرطنا في الكتاب من شيء بالعباد إليه حاجة إلا وقد بيناه، إما نصا، وإما دلالة، وإما مجملا، وإما مفصلا، كقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين.
وقال في رواية الوالبي: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب.
وعلى هذا القول: المراد ب الكتاب: اللوح المحفوظ المشتمل على ما كان ويكون، كما روي في الخبر: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» .(2/268)
وقوله: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] أي: مع الخلق إلى الموقف للحساب والجزاء كما روينا عن أبي هريرة.
وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] .
قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 39] يعني: بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صم: عن القرآن لا يسمعونه، وبكم: عن القرآن لا ينطقون به، {فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 39] يعني: ظلمات الشرك والكفر.
ثم أخبر أنهم صاروا كذلك بمشيئة الله تعالى، فقال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الأنعام: 39] الآية.
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {40} بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ {41} } [الأنعام: 40-41] وقوله: قل أرأيتكم قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك وهم يريدون: أخبرني، كما تقول: أرأيتك إن فعلت كذا ماذا تفعل؟ أي: أخبرني، وتترك التاء إذا أردت هذا المعنى موحدة على كل حال، تقول: أرأيتك وأريتكما، وأرأيتكن.
وحذف الكسائي همزة الرؤية فقرأ: أرايتكم بالتخفيف كما قالوا: وَيْلُمِّهِ، وقرأ نافع بتليين الهمزة ولم يحذفها.(2/269)
قال ابن عباس: قل، يا محمد لهؤلاء المشركين: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} [الأنعام: 40] يريد: الموت {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} [الأنعام: 40] القيامة {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40] يريد: إلى من تتضرعون؟ إلى هذه الأصنام.
يريد: إنكم عند العذاب وعند الموت والشدائد تخلصون وتوحدون، وأنتم اليوم لا تصدقونني، احتج الله عليهم بما لا يدفعون، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله ولم يلجأوا في كشفه إلا إليه، لأنه لا يملك كشف البلاء إلا هو.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] جواب قوله: أرأيتكم لأنه بمعنى أخبروني، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين أخبروني من تدعون عند نزول البلاء بكم؟ {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 41] نفى دعاءهم غير الله في الشدائد، وأثبت دعاءهم إياه، {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} [الأنعام: 41] أي: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتموه {إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] تتركونهم فلا تدعونهم لأنه ليس عندهم نفع ولا ضر.
{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ {42} فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {43} فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ {44} فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {45} } [الأنعام: 42-45] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ} [الأنعام: 42] في الآية محذوف تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا فخالفوهم، بالبأساء يعني: الشدة والفقر، والضراء وهي الأمراض والأوجاع لعلهم يتضرعون لكي يتضرعوا، ومعنى التضرع: التذلل والانقياد للطاعة.
فلولا: فهلا {إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا} [الأنعام: 43] عذابنا تضرعوا.
قال الزجاج: أعلم الله نبيه أنه قد أرسل قبله إلى قوم بلغوا من القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا ولم يتضرعوا، وهو قوله: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43] ، فأقاموا على كفرهم، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] قال ابن عباس: زين لهم الشيطان الضلالة التي هم عليها، فأصروا على معاصي الله.(2/270)
قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به.
وقال مقاتل: تركوا ما دعاهم إليه الرسل.
{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] قال ابن عباس، ومقاتل، والسدي: رخاء الدنيا ويسرها وسرورها.
وقال الزجاج: أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} [الأنعام: 44] حتى ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ففرحوا بذلك الرخاء والنعمة.
أخذناهم بغتة: فاجأهم عذابنا من حيث لا يشعرون.
قال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر إليه فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا.
326 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَادِقٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذِان، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي لِلْعَبْدِ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ» ، ثُمَّ تَلا {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] إِلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ
وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] الإبلاس: اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، قال ابن عباس: آيسون من كل خير.
وقال الزجاج: المبلس: الشديد الحسرة البائس الحزين.
قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: 45] دابر القوم: آخرهم الذي يدبرهم، ودابر الرجل: عقبه، ويقال:(2/271)
دبر فلان القوم يدبرهم دبرا ودبورا.
إذا كان آخرهم، قال الكلبي: دابر القوم دابرهم الذي يختلف في آخر القوم.
والمعنى: أنهم استؤصلوا بالعذاب فلم تبق منهم باقية.
قوله: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45] قال الزجاج: حمد الله نفسه على أن قطع دابرهم، لأن ذلك نعمة على الرسل الذين كذبوهم، فذكر الحمد ههنا تعليم لهم ولمن آمن بهم أن يحمدوا الله على كفايته شر الذين ظلموا، وليحمد محمد وأصحابه ربهم إذا أهلك المشركين المكذبين.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ {46} قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ {47} } [الأنعام: 46-47] قوله: قل أرأيتم: أيها المشركون {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] أي: أذهبها أصلا حتى لا تبصروا ولا تسمعوا، {وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنعام: 46] حتى لا تعرفوا شيئا مما تعرفون من أمور الدنيا، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] أي: بما أخذ منكم، يعني: هل يقدر أحد على رد هذه الأعضاء عليكم غير الله؟ وهذا كقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] .
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} [الأنعام: 46] نبين لهم في القرآن العلامات التي تدل على توحيد الله ونبوة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 46] قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: ثم هم يعرضون.
والصدوف: الميل عن الشيء، يقال: صدف.
إذا عدل ومال.
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} [الأنعام: 47] قال ابن عباس، والحسن: ليلا أو نهارا.
{هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47] قال الزجاج: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم لأنكم كفرتم وعاندتم، فقد علمتم أنكم ظالمون.(2/272)
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {48} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {49} } [الأنعام: 48-49] وقوله: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ} [الأنعام: 48] بالثواب لمن آمن، ومنذرين: بالنار لمن كفر، أي: إنما قصدهم التبشير والإنذار، لا أن يأتوا بما يقترح عليهم من الآيات.
ثم ذكر ثواب من صدق فقال: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام: 48] العمل {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: 48] ، وذكر عقاب المكذبين فقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 49] الآية.
{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50] وقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [الأنعام: 50] الخزائن: جمع الخزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء.
قال الزجاج: أعلمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي ولا الغيب، فيخبرهم بما غاب عنه مما مضى وما سيكون، وليس بملك يشاهد من أمور الله ما لا يشاهده البشر، وهو قوله: {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] أي: ما أنبأتكم من غيب فيما مضى وفيما سيكون فهو بوحي من الله.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: 50] قال قتادة: الكافر والمؤمن.
وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك: الضال والمهتدي.
أفلا تتفكرون: أنهما لا يستويان.
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {51} وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ {52} وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ {53} وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ(2/273)
وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {54} وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ {55} } [الأنعام: 51-55] قوله: وأنذر به: قال ابن عباس: خوّف بالقرآن {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] يريد: المؤمنين يخافون يوم القيامة وما فيها من الأهوال علما بأنه سيكون، {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ} [الأنعام: 51] أي: غير الله {وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] لأن شفاعة الرسل والملائكة للمؤمنين إنما تكون بإذن الله تعالى، لعلهم يتقون كي يخافوا فينتهوا عما نهيتهم.
قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] الآية.
327 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بن مُحَمَّد بْن أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ، قَالَ: جَاءَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فَوَجَدَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا مَعَ بِلالٍ وَعَمَّارٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ فِي نَاسٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَّرُوهُمْ فَأَتَوْهُ فَخَلَوْا بِهِ، فَقَالُوا: أنا نُحِبُّ أَنْ تَجْعَلَ لَنَا مِنْكَ مَجْلِسًا تَعْرِفُ لَنَا بِهِ الْعَرَبُ فَضْلَنَا، فَإِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَأْتِيكَ فَنَسْتَحْيِي أَنْ تَرَانَا الْعَرَبُ قُعُودًا مَعَ هَؤُلاءِ الأَعْبُدِ، فَإِذَا نَحْنُ(2/274)
جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا، فَإِذَا نَحْنُ فَرَغْنَا فَاقْعُدْ مَعَهُمْ إِنْ شِئْتَ، قَالَ: نَعَمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا
ومعنى قوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52] يعبدون الله تعالى بالصلوات المكتوبة، في قول عامة المفسرين، وقال قتادة: يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر.
وقوله: يريدون وجهه: قال ابن عباس: يطلبون ثواب الله، ويعملون ابتغاء مرضاة الله.
والمعنى: يريدون الله بطاعتهم، ويذكر لفظ الوجه للتعظيم، كما تقول: هذا وجه الرأي.
قال الزجاج: أي: لا يقصدون بعبادتهم إلا إياه.
328 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ زُهَيْرٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ غَسَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اقْبَلُوا هَذَا وَدَعُوا هَذَا، فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ: مَا عَلِمْنَا إِلَّا خَيْرًا، فَيَقُولُ اللَّهُ: هَذَا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي، وَهَذَا مَا لَمْ يُرَدْ بِهِ وَجْهِي، وَلا أَقْبَلُ إِلَّا مَا أُرِيدَ بِه وَجْهِي "(2/275)
قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] أي: من حساب رزقهم من شيء فتملهم وتطردهم، {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 52] أي: ليس رزقك عليهم ولا رزقهم عليك، وإنما يرزقك وإياهم الله، فدعهم يدنوا منك، ولا تطردهم {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52] .
قال الأنباري: عظم الأمر في هذا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخوف بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء وأولي الأموال على الضعفاء وذوي المسكنة، فأعلمه الله أن ذلك غير جائز.
قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام: 53] أي: كما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضا هؤلاء بعضهم ببعض، كما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} [الفرقان: 20] .
قال الكلبي: ابتلى هؤلاء الرؤساء من قريش بالموالي، فإذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله أنف أن يسلم ويقول: سبقني هذا بالإسلام فلا يسلم، وهو قوله: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53] يريدون الفقراء والضعفاء.
والاستفهام ههنا معناه الإنكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة أو خصوا بمنة، فقال الله تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] أي: بالذين يشكرون نعمته إذا من عليهم بالهداية، أي: إنما يهدي الله إلى دينه من يعلم أنه يشكر نعمته.
والاستفهام في قوله: أليس الله: معناه التقرير، أي: أنه كذلك.
قوله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54] الآية.
قال الحسن، وعكرمة: نزلت في الذين سأل المشركون طردهم، فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رآهم بدأهم بالسلام، ويقول: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» .
وهو قوله: {فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال ابن عباس: قضى لكم ربكم على نفسه الرحمة.(2/276)
وقال الزجاج: معنى كتب: أوجب ذلك إيجابا مؤكدا.
قوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} [الأنعام: 54] يعني: أنه بجهله آثر العاجل القليل على الآجل الكثير، كقوله: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] .
وقوله: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} [الأنعام: 54] أي: رجع عن ذنبه ولم يصر على ما فعل، وأصلح: عمله، {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] ، واختلفوا في قوله: أنه وفأنه: فمن فتحهما جعل الأولى تفسيرا للرحمة، كأنه قيل: كتب ربكم على نفسه الرحمة: أنه من عمل منكم، ثم جعل الثانية بدلا من الأولي كقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] .
ومن كسرها، كسر الأولى على الحكاية، كأنه لما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] قال: إنه من عمل منكم سوءا بجهالة، وكسر الثانية لأنها دخلت على ابتداء وخبر وهي مستأنفة.
وأما نافع فإنه أبدل الأولى من الرحمة ففتحها، واستأنف ما بعد الفاء.
قوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الأنعام: 55] يقول: وكما فصلنا ذلك في هذه ال { [دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نميز ونبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل.
ومعنى التفصيل: التمييز للبيان.
قوله: ولتستبين عطف على المعنى، كأنه قيل: ليظهر الحق وليستبين.
والسبيل يذكر ويؤنث، فلذلك قرئ ولتستبين بالتاء والياء، هذا فيمن رفع السبيل، ومن نصب السبيل كانت التاء للخطاب، أي ولتستبين: يا محمد سبيلَ المجرمين، يقال: استبان الشيء واستبنته.(2/277)
قال ابن عباس: ولتستبين يا محمد سبيلَ المجرمين فيما جعلوا لله من الشركاء، وما بينت من سبيلهم يوم القيامة ومصيرهم إلى الخزي.
] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ {56} قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ {57} قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ {58} وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {59} وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {60} وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ {61} ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ {62} } [سورة الأنعام: 56-62] قوله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 56] يعني: الأصنام، نهيت عن عبادتها، {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} [الأنعام: 56] قال ابن عباس: يريد: دينكم.
قال الزجاج: أي: إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البينة والبرهان، فأنا لا أتبعكم على ذلك.
{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} [الأنعام: 56] إن عبدتها {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 56] الذين سلكوا سبيل الهدى.
قوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57] البينة: الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل.
قال ابن عباس: يريد: على يقين من ربي، وقال الزجاج: أنا على أمر بين لا متبع لهوى.
وكذبتم به أي: بالبيان الذي أتيتكم به وهو القرآن، والبينة والبيان بمعنى واحد.
{مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ(2/278)
بِهِ} [الأنعام: 57] قال ابن عباس، والحسن: يعني العذاب، كانوا يقولون: يا محمد ائتنا بالذي تعدنا، كقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج: 47] .
{إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ما الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب إلا لله، {يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام: 57] أي: يقول الحق، ومعناه: إن جميع ما أنبأ به وأمر به فهو من أقاصيص الحق، وقرئ: يقضي الحق ومعناه: يقضي القضاء الحق.
{وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] خير من يفصل بين الحق والباطل.
قوله: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام: 58] قال ابن عباس: يقول لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل: لو أن عندي ما تستعجلونه به من العذاب لم أمهلكم ساعة، وهو قوله: {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 58] أي: لو كان الأمر بيدي لأنبأتكم بما تستعجلون به من العذاب ولفصل الأمر بيني وبينكم، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: 58] يعني: أنتم ظلمتم إذ كذبتموني بعد علمكم بصدقي وأمانتي، والله أعلم بكم إن شاء عاجلكم بالعقوبة، وإن شاء أخرها.
قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} [الأنعام: 59] قال ابن عباس، والضحاك، ومقاتل، والحسن، والسدي: مفاتح الغيب: خزائن الغيب.
329 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُوَيْدٍ،(2/279)
حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إِلَّا اللَّهُ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ
وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] ، قال مجاهد: البر: القفار، والبحر: كل قرية فيها ماء، لا يحدث فيهما شيء إلا بعلم الله، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] ، قال الزجاج: المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله إلا وأنا أعرفه في حال مجيئه فقط.
وقوله: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ} [الأنعام: 59] يعني: في الثرى تحت الأرض.
{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] قال ابن عباس: يريد: ما ينبت ومالا ينبت.
{إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] قال الزجاج: يجوز أن يكون الله أثبت ذلك في كتاب من قبل أن يخلق الخلق، كما قال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] فأعلم الله أنه أثبت ما خلق من خلقه.(2/280)
330 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنِي حَمُّوَيْهِ بْنُ الْحُسَيْنِ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْخَلِيلِ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا مِنْ زَرْعٍ عَلَى الأَرْضِ، وَلا ثِمَارٍ عَلَى أَشْجَارٍ، إِلَّا عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا رِزْقُ فُلانِ ابْنِ فُلانٍ "، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]
قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] قال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم، {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ} [الأنعام: 60] ما كسبتم من العمل {بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام: 60] يرد إليكم أرواحكم.
قال قتادة: البعث ههنا: اليقظة.
{لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60] أي: أعماركم المكتوبة، قال السدي: يعني: أجل الحياة إلى الموت، {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} [الأنعام: 60] بعد الموت، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] يخبركم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] تقدم تفسيره، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] قال ابن عباس: من الملائكة يحصون أعمالكم، كقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] .
وقال قتادة: يحفظون يابن آدم رزقك وعملك وأجلك، فإذا وفيت ذلك قبضت إلى ربك.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] يعني: أعوان ملك الموت، {وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61] لا يضيعون ولا يغفلون ولا يتوانون. . {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 62] يعني: العباد يردون بالموت إلى الله مولاهم الحق: الذي يتولى أمورهم {أَلا لَهُ(2/281)
الْحُكْمُ} [الأنعام: 62] أي: القضاء فيهم، {وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62] إذا حاسب فحسابه سريع، كقوله: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] وقد مضى.
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {63} قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ {64} قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ {65} } [الأنعام: 63-65] قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ} [الأنعام: 63] وقرئ بالتخفيف، وهما لغتان، يقال: نجاه وأنجاه، قال الله تعالى: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24] وقال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} [فصلت: 18] .
وقوله: {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] قال ابن عباس: من أهوالهما وكرباتهما، قال: وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فإذا ضلها الطريق وخافوا الهلاك دعوا الله مخلصين، فأنجاهم.
قال الزجاج: {ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] شدائدهما، والعرب تعبر عن الشدة بالظلمة يقولون لليوم الشديد: يوم مظلم.
وقوله: تدعونه تضرعا أي: تظهرون إليه الضراعة في الدعاء، وهو شدة الفقر إلى الشيء والحاجة إليه، وخفية: سرا بالنية، أي: تضمرون فقركم وحاجتكم إليه كما تظهرون.
وقرئ وخِفية بكسر الخاء وهما لغتان.(2/282)
{لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ} [الأنعام: 63] الظلمات والشدائد {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63] من المؤمنين الطائعين لله.
وقرأ أهل الكوفة لئن أنجانا، حملوه على الغيبة، لقوله قبله: تدعونه.
قوله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا} [الأنعام: 64] أي: من تلك الشدائد التي دعوتموه لينجيكم منها، {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64] وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، يقال: كربه الغم، وإنه لمكروب.
قال الزجاج: أعلمهم الله أن الذي دعوه وأقروا به هو ينجيهم، ثم هم يشركون معه الأصنام التي قد علموا أنها لا تنفع ولا تضر.
ثم أعلمهم أنه قادر على تعذيبهم فقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال ابن عباس: يريد من السماء كما حصب قوم لوط، وكما رمى أصحاب الفيل {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] يريد: كما خسف بقارون.
وهو قول السدي، وابن جريج، ومقاتل، قالوا: {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] الصيحة والحجارة والريح والغرق بالطوفان، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65] الرجفة والخسف.
وقوله: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} [الأنعام: 65](2/283)
قال الزجاج: بمعنى يلبسكم: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق.
والشيع: جمع شيعة، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، والجمع شيع وأشياع.
قال ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، والسدي: يبث فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقا يقاتل بعضكم بعضا، ويخالف بعضكم بعضا، وهو معنى قوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] أي: بالخلاف والقتال.
331 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَرَرْنَا عَلَى مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا، فَنَاجَى رَبَّهُ طَوِيلا، ثُمَّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاثًا، سَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلَّا يَجْعِلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ
وقال أبي بن كعب في هذه الآية: هي أربع خلال كلهن عذاب، فجاء منهن اثنتان بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس وعشرين سنة، لبسوا شيعا وذاق بعضهم بأس بعض.
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ} [الأنعام: 65] أي: نبين لهم الآيات في القرآن لعلهم يفقهون يعلمون.
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ {66} لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {67} وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى(2/284)
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {68} وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {69} } [الأنعام: 66-69] قوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] يعني: بالقرآن {وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] قال الحسن: لست عليكم بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وأعمالكم، إنما أنا منذر والله المجازي بأعمالكم.
والمعنى: لم أوكل بحفظكم ومنعكم من الكفر، وهذا مما نسخته آية القتال.
{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] لكل خبر يخبره الله تعالى وقت ومكان يقع فيه من غير خلف ولا تأخير.
قال مجاهد: لكل نبأ حقيقة: إما في الدنيا، وإما في الآخرة.
وسوف تعلمون: ما كان في الدنيا فسوف ترونه، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم.
قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} [الأنعام: 68] قال المفسرون: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، فشتموا واستهزءوا، فأمرهم الله تعالى ألا يقعدوا معهم فقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] .
وقال ابن عباس: أمر الله تعالى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إذا رأيت المشركين يكذبون بالقرآن وبك، ويستهزئون فاترك مجالستهم حتى يكون خوضهم في غير القرآن.
{وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} [الأنعام: 68] وقرأ ابن عامر: ينسّينّك بالتشديد، وأفعل وفعّل يجريان مجرى واحدا.
قال ابن عباس: يريد: إن نسيت فقعدت، {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: 68] ، وقم إذا ذكرت.
{مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68] يعني: المشركين.
قوله: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 69] قال ابن عباس: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ(2/285)
المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت، فنزل: {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 69] أي: الشرك والكبائر والفواحش من حسابهم: من آثامهم {مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى} [الأنعام: 69] يقول: ذكروهم بالقرآن، فرخص لهم في مجالستهم على ما أمروا به من المواعظ لهم لعلهم يتقون: الاستهزاء والخوض.
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70] قوله: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} [الأنعام: 70] يعني: الكفار الذين إذا سمعوا بآيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا عن ذكرها، وذكر به: وعظ بالقرآن {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70] قال الحسن، ومجاهد، وعكرمة: تسلم للهلكة.
والإبسال: أن يبسل الرجل فيخذل، يقال: أبسلته بجنايته، أي: أسلمته بها، وهو الترك.
ومعنى الآية: وذكرهم بالقرآن إسلام الجانين بجناياتهم لعلهم يخافون فيتقون.
وقوله: ليس لها أي: للنفس المبسلة {مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70] يعني في الآخرة.
{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} [الأنعام: 70] وإن تفد كل فداء {لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70] قال ابن عباس: إن تفد بالدنيا وما فيها لا يؤخذ منها.
وقال قتادة: لو جاءت بملء الأرض ذهبا لم يقبل منها.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا} [الأنعام: 70] أسلموا للهلاك {لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الأنعام: 70] وهو الماء الحار، وعذاب أليم: موجع مؤلم {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70] بكفرهم بالله والقرآن.
{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا(2/286)
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {71} وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {72} وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ {73} } [الأنعام: 71-73] قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71] قال ابن عباس: يقول: أنعبد من دون الله ما ليس عنده منفعة لنا إن عبدناه، وإن عصيناه لم يكن عنده لنا مضرة.
والمعنى: أنه جماد لا يقدر على فعل شيء.
وقوله: {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأنعام: 71] قال الكلبي: نرد وراءنا إلى الشرك بالله كالذي استهوته: استمالته وزينت له هواه الشياطين يقال: استهواه الشيطان بكيده إذا استغواه {فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام: 71] قال ابن عباس: هذا مثل ضربه الله تعالى للآلهة ومن يدعو إليها وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجل ضل عن الطريق إذ نادى مناد: يا فلان بن فلان، هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه: يا فلان هلم إلى الطريق، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق.
قوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [الأنعام: 71] رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجر عن إجابته، كأنه قيل: لا تفعل ذلك لأن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره.
{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71] قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك لتفعل، وأن تفعل، وبأن تفعل.
والمعنى: أمرنا لننقاد ونطيع لرب العالمين.
قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} [الأنعام: 72] أي: أمرنا أيضا بإقامة الصلاة والاتقاء، {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنعام: 72] تجمعون إلى الموقف للحساب.
قوله: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 73] الباء ههنا بمعنى اللام، أي: خلقها للحق،(2/287)
أي: لإظهار الحق، وهو إظهار صنعه وقدرته ووحدانيته، قوله ويوم يقول أي: وقدر وقضى يوم يقول: كن فيكون أي: جميع ما يخلق في ذلك الوقت.
المعنى: ويوم يقول للشيء كن فيكون، وهذا يدل على سرعة أمر البعث والساعة، كأنه قال: ويوم يقول للخلق: موتوا فيموتون، وانتشروا فينتشرون.
قوله الحق ابتداء وخبر، أي: قوله الصدق الكائن الواقع لا محالة، أي: إن ما وعده الله حق كائن.
{وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} [الأنعام: 73] كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] والمعنى: إن الملوك يومئذ ملكهم زائل، فتكون حقيقة الملك لله وحده، كما قال: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] ، وله الأمر في كل وقت، ولكن لا أمر لأحد في ذلك اليوم مع أمر الله تعالى.
والصور: قرن ينفخ فيه في قول جميع المفسرين.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] يعلم ما غاب عن العباد وما يشاهدونه، فليس يغيب عن علمه شيء {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73] .
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {74} وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ {75} فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ {76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ {77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {78} إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {79} } [الأنعام: 74-79] قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74] قال جماعة من المفسرين: آزر أبو إبراهيم.
قال الفراء، والزجاج: ليس بين النسابين اختلاف أن اسم أبي إبراهيم تارح، والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر، فكأن آزر لقب له.(2/288)
قال ابن الأنباري: قد يغلب على اسم الرجل لقبه حتى يكون به أشهر منه باسمه، فجائز أن يكون آزر لقبا أبطل الاسم لشهرته، فخبر الله تعالى بأشهر اسميه، لأن اللقب مضارع للاسم.
وقوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} [الأنعام: 74] هذا استفهام معناه الإنكار والتوبيخ لمن عبد الصنم، {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] .
وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 75] قال الزجاج: ومثل ما وصفنا من قول إبراهيم لأبيه نريه {مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 75] للاعتبار والاستدلال.
والملكوت: بمنزلة الملك، لأن التاء زيدت للمبالغة كالرغبوت والرهبوت.
قال مجاهد، وسعيد بن جبير: كشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرض.
332 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا زِيَادٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصَرَ رَجُلا عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَبْصَرَ آخَرَ عَلَى فَاحِشَةٍ فَدَعَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ تَعَالَى: لا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ عَبْدٌ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ، وَإِنَّمَا أنا مِنْ عَبْدِي عَلَى ثَلاثِ خِلالٍ إِمَّا أَنْ يَتُوبَ فِي آخِرِ زَمَانِهِ فَأَقْبَلُ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ أُخْرِجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً تَعْبُدُنِي، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَلَّى فَإِنَّ جَهَنَّمَ مِنْ وَرَائِهِ
وقال قتادة: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار، وذلك(2/289)
أن الله تعالى أراه هذه الأشياء حتى نظر إليها مستدلا بها على خالقها، وهو قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السموات والأرض، أي: ليستدل بها وليكون من الموقنين.
وقوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام: 76] يقال: جن عليه الليل، إذا ستره بظلمته جنا وجنانا وجنونا، وأجنه الليل أيضا: إذا أظلم عليه.
وقوله: رأى كوكبا: قال المفسرون: لما شب إبراهيم في السرب الذي ولد فيه قال لأبويه: أخرجاني، فأخرجاه من السرب، وانطلقا به حين غابت الشمس، فنظر إبراهيم إلى الإبل والخيل والغنم، فقال: ما لهذه بد من أن يكون لها رب وخالق.
ثم تفكر ونظر في خلق السموات والأرض، فقال: إن الذي خلقني ورزقني ربي، ما لي إله غيره.
ثم نظر فإذا المشتري قد طلع، ويقال الزهرة.
وكانت تلك الليلة في آخر الشهر، فرأى الكوكب قبل القمر، ف {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] أي: تقولون: هذا ربي، وإضمار القول في القرآن كثير، كقوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] أي: يقولان ربنا.
وكأن إبراهيم قال لقومه: تقولان هذا ربي، أي: هذا الذي يدبرني.
لأنهم كانوا أصحاب نجوم يرون التدبير في الخليقة لها.
وقيل: إنه قال: هذا ربي على جهة الاحتجاج على قومه، كأنه قال: هذا ربي عندكم وفيما تظنون وفي زعمكم.
كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] أي: عند نفسك، والوجهان ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري.
وفي قوله: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] دلالة على أن ما غاب بعد ظهوره فليس برب، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبرا مسخرا مصرفا، وذلك ينافي صفة الإله المعظم.
قوله: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا} [الأنعام: 77] يقال: بزغ القمر إذا ابتدأ في الطلوع.
اعتبر إبراهيم في القمر والشمس، كما اعتبر في النجم، وكانت حجته فيها على قومه كالحجة على الكواكب، وهو قوله: {هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: 77] .(2/290)
ومعنى {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} [الأنعام: 77] لئن لم يثبتني على الهدى، ليس أنه لم يكن مهتديا، والأنبياء لم يزالوا يسألون الله عز وجل الثبات على الإيمان، وإبراهيم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] .
قوله: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] قال ابن الأنباري: إنما قال: هذا، والشمس مؤنثة لأن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على التأويل، وأعان على التذكير أيضا أن الشمس ليس فيها علامة التأنيث، وأنشد قول الأعشى:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
فذكر أبقل إذ كانت الأرض عارية من علامات التأنيث.
وقوله: هذا أكبر أي: من الكوكب والقمر، فلما توجهت الحجة على قومه {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] .
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله عز وجل، وباقي الآية مفسر فيما تقدم.
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ {80} وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {81} الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ {82} وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {83} } [الأنعام: 80-83] قوله عز وجل: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80] : قال ابن عباس: خاصموه وجادلوه في آلهتهم وخوفوه بها، فقال منكرا عليهم {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: 80] أي: في توحيد الله، {وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] أي: بين لي ما به اهتديت والتشديد على النون(2/291)
لاجتماع النونين وإدغام أحدهما في الآخر، وحذف نافع إحدى النونين تخفيفا.
قوله: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} [الأنعام: 80] أي: هذه الأشياء التي تعبدونها لا تضر ولا تنفع ولا أخافها، {إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} [الأنعام: 80] ، لكن أخاف مشيئة ربي أن يعذبني، {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] علمه علما تاما وتعلق به علمه، أفلا تتذكرون أفلا تتعظون فتتركون عبادة الأصنام.
ثم أنكر خوفه آلهتهم، فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام: 81] ؟ وهذا سؤال تعجيز عن تصحيح الخوف، {وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] قال ابن عباس: يريد: ما ليس لكم في إشراكه بالله حجة.
{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} [الأنعام: 81] أحق بأن يأمن من العذاب: الموحد أو المشرك؟ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81] .
ثم بين أن الأحق بالأمن هو، فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] قال جماعة المفسرين: لم يخلطوا إيمانهم بشرك، ونحو هذا روي مرفوعا.
333 - أَخْبَرَنَا الْحَاكِمُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَو َمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَالْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ، وَيُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْمَرْوَرُّوذِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ السِّمْنَانِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:(2/292)
لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا تَرَوْنَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لابْنِهِ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ".
رَوَاهُ /مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ
334 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، جَمِيعًا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيُّنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: " لَيْسَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٍ
وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} [الأنعام: 82] قال ابن عباس: من العذاب، وهم مهتدون: قال: أرشد إلى دين الله.
335 - أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ حِيرِيُّ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُعَلَّى، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَخْبَرَةَ، عَنْ سَخْبَرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنِ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ، وَأُعْطِيَ فَشَكَرَ، وَظَلَمَ فَاسْتَغْفَرَ، وَظُلِمَ فَغَفَرَ، ثُمَّ سَكَتَ، فَقَالُوا: مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟(2/293)
قَالَ: أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ "
قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] الآية: يعني: ما جرى بينه وبين قومه من المجادلة وإلزامه إياهم الحجة.
قال ابن عباس: يريد: ألهمناها إبراهيم وأرشدناه إليها.
{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] أي: بالعلم والفهم والفضيلة والعقل، كما رفعنا درجة إبراهيم حتى اهتدى وحاج قومه في التوحيد، {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83] .
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلَّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {84} وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ {85} وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ {86} وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {87} ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {88} أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ {89} أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ {90} } [الأنعام: 84-90] ووهبنا له: لإبراهيم إسحاق: ولدا لصلبه ويعقوب: ولدا لإسحاق، كما قال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] .
كلا: مِن هؤلاء المذكورين هدينا: أرشدنا إلى ديننا {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 84] هؤلاء، ومن ذريته: قال عطاء: يريد من ذرية إبراهيم، وقال الفراء: الهاء في ذريته لنوح.
قال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعا قد جرى.(2/294)
والعلماء بالنسب يقولون: الكناية تعود إلى نوح، لأنه ذكر في جملة مَن عُد مِن هذه الذرية يونس ولوطا، ولا شك أنهما لم يكونا من ذرية إبراهيم.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: 84] .
{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 85] .
وقوله: وإسماعيل واليسع: وقرأ حمزة والليسع بتشديد اللام وتخفيفها، وكلاهما واحد في أنه اسم لنبي معروف، واللام الواحدة أشهر في اسمه.
قال الزجاج: يقال فيه اليسع والليسع بتشديد اللام وتخفيفها، وكلاهما خارج عما عليه الأسماء الأعجمية في حال التعريف، نحو إبراهيم وإسماعيل، ألا ترى أنه لم يجئ شيء منها على هذا النحو، وإذا كان كذلك يقضى على اللام بالزيادة، كما أنشده الفراء:
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله
وقوله: {وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 86] يعني: وكلا من المذكورين ههنا فضلنا على عالمي زمانهم.(2/295)
قوله: ومن آبائهم: قال الزجاج: أي: هدينا هؤلاء الذين ذكرناهم وهدينا بعض آبائهم، وذرياتهم وإخوانهم فمِن ههنا: للتبعيض، واجتبيناهم: واصطفيناهم {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 87] يعني: التوحيد دين الله.
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ} [الأنعام: 88] قال ابن عباس: يريد ذلك دين الله الذي هم عليه {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام: 88] يهدي بذلك الدين من يشاء إلى صراط مستقيم.
{وَلَوْ أَشْرَكُوا} [الأنعام: 88] : قال: يريد: لو عبدوا غيري لحبط: لبطل وزال عنهم {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] لأن العمل لا يقبل مع الشرك.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 89] يعني: الكتب التي أنزلها عليهم، والحكم يعني: العلم والفقه، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} [الأنعام: 89] بآياتنا هؤلاء يعني: أهل مكة، {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا} [الأنعام: 89] أرصدنا لها قوما، ووفقناهم للإيمان وهم المهاجرون والأنصار، وهو قوله: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] .
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [الأنعام: 90] يعني: النبيين الذين ذكرهم الله فبهداهم اقتده: قال الكلبي: بشرائعهم وسننهم أعمل.
وقال الزجاج: أي: أصبر كما صبروا على تكذيب قومهم.
وأكثر القراء أثبتوا الهاء في: اقتده ساكنة في الوصل والوقف موافقة للمصحف، والوجه عند النحويين: الإثبات في الوقف، والحذف في الوصل، لأن هذه الهاء للسكت، فلا تثبت في الإدراج.
وقرأ ابن عامر بكسر الهاء، وخطّأه ابن مجاهد، وقال: هذه هاء وقف لا تحرك في حال من الأحوال.
وقال أبو علي الفارسي: جعل ابن عامر الهاء كناية عن المصدر، لا هاء الوقف، كأنه قال: فبهداهم اقتد الاقتداء،(2/296)
والفعل يدل على المصدر، فكنى عنه كما حكى سيبويه من قولهم: من كذب كان شرا له، أي: كان الكذب شرا له.
وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] أي: على القرآن، لا أطلب مالا تعطونيه ولا جعلا، إن هو يعني القرآن {إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] قال ابن عباس: موعظة للخلق أجمعين.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ {91} وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {92} } [الأنعام: 91-92] قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] قال ابن عباس: ما عظموا الله حق تعظيمه.
وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته.
وقال أبو عبيدة: ما عرفوه حق معرفته.
{إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] قال ابن عباس في رواية الوالبي: قالت اليهود: يا محمد، أنزل الله عليك كتابا؟ قال: نعم.
قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] يعني: التوراة نورا: ضياء، وهدى: هاديا للناس تجعلونه قراطيس: قال المفسرون: تكتبونه في قراطيس مقطعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم، وهو قوله: {(2/297)
تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91] قال الفراء: تبدون ما تحبون وتكتمون صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقرأ أبو عمرو يجعلونه وما بعده بالياء على الغيبة، لقوله {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] .
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} [الأنعام: 91] الأكثرون على أن هذا خطاب لليهود.
يقول: علمتم على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم تعلموا.
قال الحسن: جعل لهم ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضيعوه ولم ينتفعوا به.
وقال مجاهد: هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة مما علمهم على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: قل الله: جواب لقوله: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} [الأنعام: 91] ؟ قل الله أي: الله أنزله، {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ} [الأنعام: 91] في باطلهم وما يخوضون فيه من الكذب يلعبون: يعملون ما لا يجدي عليهم، والعرب تقول لمن كان عمل عملا لا ينتفع به: إنما أنت لاعب.
وحقيقة هذا الكلام التهديد.
ثم ذكر القرآن فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] معنى المبارك: الكثير الخير، ومعنى البركة: ثبوت الخير على الازدياد والنماء، وأصلها في اللغة: الثبوت.
قال الكلبي: المبارك: فيه مغفرة لذنوبهم، وتوبة من أعمالهم.(2/298)
وقال أهل المعاني: معنى قوله للقرآن: مبارك أنه كثير خيره، دائم منفعته، يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية، إلى ما لا يعد من بركاته.
وقوله: {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام: 92] موافق لما تقدمه من الكتب.
وقوله: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الأنعام: 92] قال الزجاج: المعنى: أنزلناه للبركة والإنذار.
وأم القرى: مكة، سميت أم القرى، لأن الأرض كلها دحيت من تحتها، فهي أصل الأرض كلها.
والمعنى: ولتنذر أهل أم القرى، فحذف المضاف.
ومن حولها قال ابن عباس: يريد: جميع الآفاق.
ومن قرأ ولينذر بالياء، جعل الفعل للكتاب.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: 92] أي: من آمن بالآخرة حقيقة آمن بالقرآن، فأما من آمن بالآخرة ولم يؤمن بالقرآن فإنه لم يؤمن بالآخرة إيمانا حقيقيا، فلم يعتد بإيمانه مع كفره بالقرآن، ألا ترى أنه قال: {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92] ، فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصلوات.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ {93} وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ {94} } [الأنعام: 93-94] قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 93] تقدم تفسيره في هذه ال { [،] أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [سورة الأنعام: 93](2/299)
قال قتادة: يعني: مسيلمة الكذاب.
{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] قال ابن عباس: يريد: المستهزئين.
وهو اختيار الزجاج، قال: هذا جواب لقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} [الأنفال: 31] .
وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 93] يعني: الذين ذكرهم من المغترين، والمدعين الوحي إليهم كذبا، والقائلين: سأنزل مثل ما أنزل الله، {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] شدائده ومكارهه، جمع غمرة، وهي ما تغشى الإنسان مما يكرهه.
والملائكة يعني: ملائكة العذاب باسطوا أيديهم: بالتعذيب يضربونهم ويعذبونهم، أخرجوا أنفسكم أي: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم.
قال المفسرون: إن نفس المؤمن تنشط في الخروج للقاء ربه، ونفس الكافر تكره ذلك، ويشق عليها الخروج، لأنها تصير إلى أشد العذاب، فهؤلاء الكفار تكرههم الملائكة على نزع الروح كرها.
وجواب لو مضمر على تقدير: ولو رأيت ذلك لرأيت عجبا أو أمرا فظيعا.
وقوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93] الهون: الهوان، ومنه قوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ} [النحل: 59] .
قال الزجاج: يعني العذاب الذي يقع به الهوان الشديد.
ثم ذكر أن هذا العذاب جزاء كذبهم على الله فقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93] عن الإيمان بالقرآن لا تصدقونه ولا تؤمنون به.
وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام: 94] قال الفراء: فرادى جمع، وإحداها فرد وفرد وفريد وفردان.
قال ابن عباس: يريد: بلا مال ولا ولد.
قال ابن كيسان: جئتمونا مفردين مما كنتم تعبدون ومن المظاهرين لكم.(2/300)
قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94] حفاة عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] أي: ما ملكناكم، يقال: خوله الشيء، أي: ملكه إياه.
قال ابن عباس: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} [الأنعام: 94] يريد: من النعيم والمال والعبيد والرباع والمواشي.
{وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 94] قال المفسرون: إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء الله وشفعاءهم عنده، والمعنى: أنهم شركاء لي في عبادتكم.
وقوله: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] قال الزجاج: الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز على معنى: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم.
وقال ابن الأنباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف ما لوضوح معناه.
وقال ابن عباس: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] ، يريد وصلكم ومودتكم.
وقال الحسن: لقد تقطع الأمر بينكم.
وقال قتادة: ما بينكم من الوصل.
{وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] ذهب عنكم ما كنتم تكذبون في الدنيا.
{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {95} فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {96} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ(2/301)
يَعْلَمُونَ {97} وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ {98} وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {99} } [الأنعام: 95-99] قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95] قال الكلبي: الحب: ما لم يكن له نوى مثل البر والشعير، والنوى: مثل نوى التمر والخوخ وغيرهما.
فلقهما الله تعالى بالنبات.
وقال الحسن، وقتادة، والسدي: فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة.
وقال الزجاج: يشق الحبة اليابسة والنواة واليابسة فيخرج منها ورقا أخضر.
وقال مجاهد: يعني: الشقين اللذين فيهما.
وقوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: 95] قال ابن عباس: يخرج من النطفة بشرا حيا، ثم يخرج النطفة الميتة من الحي.
وقال عطاء: يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن.
قال الزجاج: يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] قال ابن عباس: يريد: الله وحده يفعل هذا، فكيف تكذبون؟ والمعني: كيف تصرفون عن الحق بعد هذا البيان؟ قوله: فالق الإصباح: الصبح والصباح والإصباح: أول ما يبدو من النهار، يقال: فلق الله الصبح.
أي: أبداه وأوضحه.
ومعنى فالق الإصباح: مبديه وموضحه، وذلك أن الفلق معناه في اللغة: الشق، وذلك راجع إلى الإبداء والإيضاح.
وقوله: وجاعل الليل سكنا: السكن: ما سكنت إليه، يريد: أن الناس يسكنون في الليل سكون الراحة، بأن جعل الله لهم ذلك سكنا.(2/302)
قال الكلبي: يسكن فيه الخلق ويرجعونه إلى أوطانهم، وهو مثل قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] وقرأ أهل الكوفة وجعل الليل لأن اسم الفاعل الذي قبله بمعنى الماضي، فلما كان فاعل بمنزلة فَعَل عطف عليه فَعَل لموافقته له في المعنى، ويدلك أنه بمنزلة فعل قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الأنعام: 96] بالنصب، ألا ترى أنه لما كان المعنى في جاعل جَعَل نصب الشمس والقمر، لأن الليل في موضع نصب في المعنى، فرد الشمس والقمر على معناه.
وأما الحسبان: فهو مصدر كالحساب، يقال: حسبت أحسب حسابا وحسبانا.
وقال الأخفش، وأبو عبيدة، والمبرد: هو جمع حساب كركاب وركبان، وشهاب وشهبان.
ومعنى {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96] أي: بحساب لا يتجاوزانه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} [الأنعام: 96] في ملكه يصنع ما أراد، العليم بما قدر من خلقهما.
قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وذلك أن راكبي البحار، وسالكي القفار إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بالنجوم لولاها لضلوا ولم يهتدوا.
{قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ} [الأنعام: 97] بيَّنَّا الدلائل على قدرتنا لقوم يعلمون.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: 98] يعني: آدم، فمستقر ومستودع: قال ابن الأنباري: أراد فلكم مستقر ومستودع.
قال ابن عباس: مستقر في الرحم، ومستودع في الصلب.
وقال كريب: كتب حبر تيماء إلى ابن عباس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه: المستودع: الصلب، والمستقر: الرحم.(2/303)
وأما من كسر القاف، فقال العوفي: كل مخلوق قد فرغ من خلقه فهو المستقِر الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع: قد استودع في الصلب.
وقال عكرمة: المستقر: الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع: الذي قد استودع في الصلب.
والتقدير على هذه القراءة: فمنكم مستقر ومستودع، والمستقَر بفتح القاف اسم للمكان وهو بمعنى المَقر، وبكسر القاف بمعنى القار، يقال: قر مكانه واستقر.
والمستودع مثل المودع، يقال: استودعته الشيء وأودعته.
وهو الإنسان المودع في الصلب.
336 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ تَزَوَّجْتَ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ مُسْتَوْدَعٍ فِي ظَهْرِكَ فَسَيُخْرِجُهُ اللَّهُ تَعَالَى
قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99] يعني: المطر، {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] لأن كل ما ينبت فنباته بالماء، {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا} [الأنعام: 99] الخضر: مثل الأخضر، كالعور مثل الأعور.
يعني: ما كان رطبا أخضر مما ينبت من القمح والشعير وغيرهما، نخرج منه: من الخضر حبا متراكبا: بعضه على بعض في سنبلة واحدة.
قوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا} [الأنعام: 99] وهو أول منها من العذق قنوان دانية: قال قتادة: عذوق متدلية، وهي جمع قنو، وإذا ثنيت قلت: قنوانِ بكسر النون، قاله أبو عبيدة، ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين، مثل: صنو وصنوان، والإعراب في النون للجمع، وليس لهما في كلام العرب نظير، ومعنى دانية تدنو ممن يجتنيها.(2/304)
قال الزجاج: ولم يقل: منها قنوان بعيدة اكتفاء بذكر القريبة، كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] قال ابن عباس في رواية الوالبي قنوان دانية يعني: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض.
وقوله: {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} [الأنعام: 99] الوجه كسر التاء لأنها في موضع نصب نسقا على قوله: خضرا أي: فأخرجنا خضرا وجنات من أعناب، ومن رفع فقال ابن الأنباري: رفعت بمضمر بعدها، تأويله: وجنات من أعناب أخرجناها، فجرى مجرى قول العرب: أكرمت عبد الله وأخوه، يريدون: وأخوه أكرمته أيضا.
وقوله: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} [الأنعام: 99] يعني: وشجر الزيتون وشجر الرمان {مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 99] قال المفسرون: مشتبها ورقهما مختلفا ثمرهما، {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99] انظروا إليه أول ما يعقد نظر الاستدلال واعتبار، والثمر: جمع ثمرة، ويجمع على ثمار أيضا، وثُمُر مثل خشبة وخشب وأكمة وأكم.
وينعه: والينع: النضج، يقال: ينع يينع بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، ويقال أيضا: بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] قال ابن عباس: يصدقون أن الذي يخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ {100} بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {101} ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {102} لا(2/305)
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ {103} } [الأنعام: 100-103] قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} [الأنعام: 100] المراد بالجن ههنا: الشياطين، قال الحسن: أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان فيجعلوهم شركاء لله.
وتقدير الآية: وجعلوا الجن شركاء لله، ويجوز أن يكون الجن بدلا من الشركاء مفسرا لها.
وقوله: وخلقهم: يجوز أن تكون الكناية عن هؤلاء الذين جعلوا لله شركاء، والمعنى: إن الله خلقهم ثم جعلوا له شركاء لا يخلقون، ويجوز أن تعود الكناية على الجن فيكون المعنى: والله خلق الجن فكيف يكون شركاء لله؟ وقوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} [الأنعام: 100] قال الفراء: معنى خرقوا: افتعلوا ذلك كذبا وكفرا، وخرقوا واخترقوا، وخلقوا واختلقوا بمعنى واحد، يقال: خلق فلان الكلمة واختلقها، وخرقها واخترقها، إذا افتعلها وابتدعها كذبا.
وقرأ نافع وخرَّقوا مشددة، والتشديد للمبالغة والتكثير، قال المفسرون: إن كفار العرب قالوا: الملائكة بنات الله، وزعمت النصارى بأن المسيح ابن الله، واليهود أن عزيرا ابن الله، فأعلم الله أنهم اختلقوا ذلك بغير علم أي: لم يذكروه، وإنما تكذبا.
قوله: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] من أين يكون له ولد، ولا يكون الولد إلا من صاحبة؟ {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] أي: أنه خالق كل شيء، وخالق الأشياء لا مثل له، والولد لا يصح إلا مع المماثلة، ومن لا يصح أن يكون له مثل لا يصح أن يكون له ولد.
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] لأنه هو الخالق له.
وقوله: ذلكم الله أي: ذلك الذي خلق كل شيء وعلم كل شيء {رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} [الأنعام: 102] قال ابن عباس: فأطيعوه.
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام: 102] بالحفظ له والتدبير فيه.
قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] الإدراك: الإحاطة بكنه الشيء وحقيقته، وهو غير الرؤية، لأنه يصح أن يقال: رآه وما أدركه.
فالأبصار ترى الباري عز وجل ولا تحيط به، كما أن القلوب تعرفه ولا تحيط به، قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] .(2/306)
قال ابن عباس في رواية عطاء: كلت أبصار المخلوقين عن الإحاطة به، وقال سعيد بن المسيب: لا تحيط به الأبصار.
وعلى هذا التفسير نقول: إن الباري سبحانه يرى ولا يدرك، لأن معنى الإدراك: الإحاطة بالمرئي، وإنما يجوز ذلك على من كان محدودا وله جهات.
وذهب جماعة من أهل التفسير إلى تخصيص هذه الآية، قال ابن عباس في رواية أبي صالح: تنقطع عنه الأبصار في الدنيا.
وقال مقاتل: لا تراه الأبصار في الدنيا وهو يرى في الآخرة.
والدليل على أن هذه الآية مخصوصة بالدنيا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} } [القيامة: 22-23] ، فقيد النظر إليه بيوم القيامة وأطلق في هذه، والمطلق يحمل على المقيد.
أخبرنا أبو بكر الحارثي، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ، حدثنا أبو بشر محمد بن عمران بن الجنيد، حدثنا أبو بكر الصفار، حدثنا عباد بن صهيب، عن عمرو، عن الحسن في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] قال: في الدنيا.
وقال الحسن: يراه أهل الجنة في الجنة.
واحتج بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ {22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {23} } [القيامة: 22-23] ، قال: ينظرون إلى وجه الله عز وجل.
وقوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] أي: يراها وهي لا تراه مع رؤيته إياها، وهذا لله تعالى لأنه يَرى ولا يُرى.(2/307)
وإنما خص الأبصار بإدراكه إياها مع أنه يدرك كل شيء للمعنى الذي ذكرنا، لأن غير الله تعالى لا يجوز أن يرى البصر ولا يراه البصر.
وقوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103] قال الأزهري: معناه الرفيق بعباده.
وروى عمرو بن أبي عمرو، عن أبيه، قال: اللطيف: الذي يوصل إليك إربك في رفق، يقال: لطف الله لك، أي: أوصل إليك ما تحب برفق.
قال ابن عباس: وهو اللطيف: بأوليائه، الخبير بهم.
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ {104} وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {105} اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ {106} } [الأنعام: 104-106] قوله: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 104] البصائر: جمع البصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به.
قال الكلبي: يعني بينات القرآن.
{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} [الأنعام: 104] فمن صدق القرآن وآمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلنفسه عمل، ومن عمي عن الحق ولم يصدق فعليها: فعلى نفسه جنى العذاب لأن الله غني عن خلقه، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام: 104] قال الحسن: أي: برقيب على أعمالكم حتى أجازيكم بها.
قال الزجاج: أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم.
وهذا قبل الأمر بالقتال، فلما أمر بالقتال صار حفيظا عليهم.
قوله: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} [الأنعام: 105] قال ابن عباس: نبين الآيات في القرآن في كل وجه يدعوهم بها ويخوفوهم.
وليقولوا درست قال ابن الأنباري: هذا عطف على مضمر في المعنى، التقدير: يصرف الآيات ليلزمهم الحجة وليقولوا درست، واللام في: وليقولوا لام العاقبة والصيرورة، لأن عاقبة تصريف الآيات أدت إلى هذا القول الذي قالوه، كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا} [القصص: 8] .(2/308)
ومعنى درست: قرأت على غيرك، يقال: درست الكتاب أدرسه درسا ودراسة.
قال ابن عباس: وليقولوا يعني: أهل مكة حين يقرأ عليهم القرآن، درست تعلمت من يسار، وجبر وقرأت علينا تزعم أنه من عند الله، وقال الفراء: تعلمت من يهود.
وقال الزجاج: قرأت كتب أهل الكتاب.
ومن قرأ: دارست فمعناه: قرأت على اليهود وقرأوا عليك، وذاكرتهم حتى تعلمت منهم، وقرأ ابن عامر: دَرَسَتْ أي: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست، تقادمت وانمحت من قولهم: درس الأثر يدرس دروسا.
وقوله: {وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 105] قال ابن عباس: يريد: أولياءه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد.
قال ابن الأنباري: يعني: إن تصريف الآيات ليشقى بها قوم ويسعد آخرون، فمن قال: درست ودارست فهو شقي، ومن تبين الحق فهو سعيد.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ {107} وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {108} } [الأنعام: 107-108] {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام: 107] أي: لو شاء الله لجعلهم مؤمنين، {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [الأنعام: 107] أي: لم تبعث(2/309)
لتحفظ المشركين من العذاب، إنما بعثت مبلغا، فلا تهتم لشركهم، فإن ذلك بمشيئة الله تعالى.
قوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنعام: 108] الآية: قال قتادة: كان المسلمون يسبون أوثان الكفار فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم بالله.
وقال الوالبي عن ابن عباس: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك.
فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] أي: ظلما بالجهل، يقال: عدا فلان عدوا وعدوانا، أي: ظلم ظلما جاوز القدر.
وقال السدي وغيره: معناه: لا تسبوا الأصنام فيسبوا مَن أمركم بما أنتم عليه من عيبها فيعود ذلك إلى الله، لأنهم كانوا لا يصرحون بسب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون بأن الله خالقهم وإن أشركوا.
قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] يعني: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان بالحرمان والخذلان، وكذلك زينا لكل أمة عملهم من الخير والشر، والطاعة والمعصية.
قال ابن عباس: يريد: زينت لأوليائي وأهل طاعتي محبتي وعبادتي، وزينت لأعدائي وأهل معصيتي كفر نعمتي وخذلتهم حتى أشركوا.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ {109} وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {110} وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ {111} } [الأنعام: 109-111] قوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] قال الكلبي، ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه.
والمعنى: اجتهدوا في المبالغة في اليمين: {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] سألت قريش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم(2/310)
بآية، وحلفوا ليؤمنُن بها، وسأل المسلمون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، وعلم الله أنهم لا يؤمنون، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 109] أي: إنه هو القادر على الإتيان بها متى شاء، وما يشعركم أي: وما يدريكم إيمانهم، فحذف مفعول يشعركم.
قال الزجاج: أي: لستم تعلمون الغيب، ولا تدرون أنهم يؤمنون.
ثم أستأنف فقال: إنها إذا جاءت لا يؤمنون، ومن قرأ: أنها بالفتح فهو بمعنى لعلها، كأنه قال: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، وأن بمعنى لعل كثير في كلامهم.
تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا.
أي: لعلك، ذكر ذلك الخليل، والفراء.
قال الفراء: ويجوز على هذه القراءة أن تجعل لا صلة فيكون التقدير: وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون.
والمعنى على هذا أنها إذا جاءت لم يؤمنوا، والخطاب للمؤمنين.
وقرأ حمزة: تؤمنون بالتاء، والخطاب على هذه القراءة في قوله: وما يشعركم للكفار الذين أقسموا.
وهو قول مجاهد، قال: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت.
قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: 110] التقليب والقلب واحد: وهو تحويلك الشيء عن وجهه، ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار: هو أن الواجب من مقتضى الآية أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فعرفوها بقلوبهم ورأوها بأبصارهم، فإذا لو يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي يجب أن يكون عليه، وهو معنى ما قاله المفسرون: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات.
وفي الآية محذوف تقديره: فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة.
والكناية في به يجوز أن تعود على القرآن، ويجوز أن تعود على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] قال عطاء: أخذلهم وأدعهم في ضلالتهم يتمادون.(2/311)
قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111] كان المشركون يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرنا الملائكة يشهدون لك بالنبوة، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول أم باطل.
فقال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111] كما سألوا ورأوهم عيانا، وكلمهم الموتى، فشهدوا لك بالنبوة، وحشرنا: جمعنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 111] في الدنيا قبلا، وقبلا، أي: معاينة، يقال: لقيت فلانا قُبُلا وقِبلا وقبيلا ومقابلة، أي: مواجهة.
قال أبو عبيدة، والفراء، والزجاج: أي: معاينة.
{مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] أخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما سبق في علمه وقضائه من الشقوة عليهم، وأنهم لا يؤمنون بالله تعالى، إلا أن يهديهم الله ويسهل ذلك عليهم، وهو معنى قوله: {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] لا يعلمون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {112} وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ {113} } [الأنعام: 112-113] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} [الأنعام: 112] الآية: قال المفسرون: هذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك عدوا ليعظم ثوابه على ما يقاسي أذاه.
وعدوا في معنى أعداء.(2/312)
ثم فسر العدو فقال: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] يعني: مردة الإنس والجن، والشيطان: كل عات متمرد من الجن والإنس.
قال قتادة، ومجاهد، والحسن: إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين، وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن، وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغواه بالمؤمن ليفتنه.
يدل على هذا ما روي أن النبي قال لأبي ذر: " هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس؟ قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم، هم شر من شياطين الجن ".
وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن.
وذلك إني إذا تعوذت بالله من شيطان الجن ذهب عني، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا.
وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [الأنعام: 112] أي: يلقي ويسر إليه زخرف القول: باطله وكذبه، والزخرف: الباطل من الكلام الذي زين بالكذب، يقال: فلان يزخرف كلامه، إذا زينه بالباطل والكذب.
والمعنى: إن هؤلاء الشياطين يزينون الأعمال القبيحة لبني آدم ويغرونهم، {غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] ولو شاء لمنعهم من الوسوسة، {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] قال ابن عباس: يريد: ما زين لهم إبليس وغرهم به.
قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الأنعام: 113] الصغو: الميل، يقال: صغا إلى كذا يصغو.
إذا مال إليه.
وقال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة.
وليرضوه: وليرضوا الباطل من القول فيحبوه، {وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 113] أي: ليكتسبوا وليعملوا ما هم عاملون.
والاقتراف: الكسب، يقال: اقترف ذنبا، أي: عمله.(2/313)
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {114} وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {115} وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {116} إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ {117} فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ {118} وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ {119} وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ {120} وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ {121} } [الأنعام: 114-121] قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114] الحكم والحاكم واحد، قال الكلبي، والعوفي: قل لأهل مكة أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم، {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا} [الأنعام: 114] مبينا فيه أمره ونهيه، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} [الأنعام: 114] يعني: علماء أهل الكتاب يعلمون أنه: أن القرآن {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [الأنعام: 114] من الشاكين أنهم يعلمون ذلك.
قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [الأنعام: 115] يعني: ما ذكر من وعد ووعيد، وثواب وعقاب، ومن قرأ على الواحد أراد الجمع أيضا، والكلمة تقع على الكثير، تقول العرب: قال زهير في كلمته.
يعنون: قصيدته.
وقوله: صدقا وعدلا: قال ابن عباس: يريد: لا خلف لمواعيده، لا في أهل طاعته، ولا في أهل معصيته.
وقال قتادة، ومقاتل: صدقا فيما وعد وعدلا فيما حكم.
{لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115] قال ابن عباس: لا راد لقضائه،(2/314)
ولا مغير لحكمه، ولا خلف لموعده.
وهو السميع لتضرع أوليائه، ولقول أعدائه، العليم بما في قلوب الفريقين.
قوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 116] قال ابن عباس: يريد: الذين ليسوا على دينك، وهم أكثر من المؤمنين، إن تطعهم في أكل الميتة {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] دين الله الذي رضيه لك.
ذلك أن المشركين جادلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين في أكل الميتة، وقالوا: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [الأنعام: 116] يريد: دينهم الذي هم عليه ظن وهوى، لم يأخذوه عن بصيرة وحجة، {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] يكذبون ويفترون.
قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 117] قال الزجاج: موضع مَن رفع بالابتداء ولفظها لفظ الاستفهام.
المعنى: إن ربك هو أعلم أيّ الناس يضل عن سبيله.
وهذا قول الكسائي، والفراء، والمبرد، أخبر الله تعالى أنه أعلم بالفريقين: بالضالين عن سبيله والمهتدين، فيجازي كلا بما يستحق.
قوله: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] جواب لقول المشركين: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ والمعنى: كلوا مما ذكر عليه اسم الله، والميتة لم تذبح على اسم الله، فلا يجوز أكلها، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 118] تأكيد أن ما أباحه الشرع فهو طيب يحل تناوله.
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 119] وأي شيء يقع لكم في ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] يعني: في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي: بينت لكم المحرمات مفصلة مبينة، فاتركوها وكلوا مما ذبح على اسم الله.
وقوله: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] أي: دعتكم الضرورة لشدة المجاعة إلى أكله مما حرم.
{وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119] أي: يضلون باتباع أهوائهم، والمعنى: يضلون بامتناعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه وغير ذلك مما لا شيء يوجبه في شرع، نحو السائبة والبحيرة ومما كان يفعله أهل الجاهلية.
ومن قرأ: ليُضلون بضم الياء، أراد: عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين الذين اتخذوا البحائر(2/315)
والسوائب، قال الزجاج: يعني الذين يحلون الميتة ويناظرونكم في إحلالها.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام: 119] يعني: المجاوزين الحلال إلى الحرام.
قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] أكثر المفسرين: على أن ظاهر الإثم الإعلان بالزنا، وباطنه الاستسرار به.
قال ابن عباس: كانت العرب يحبون الزنا، وكان الشريف يتشرف أن يزني فيستر ذلك، فحرم الله الزنا فقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] .
وقال آخرون: هذا عام في كل إثم، قال مجاهد: يعني: معصية الله في السر والعلانية.
وهذا قول قتادة.
وقال ابن الأنباري: يريد: وذروا الإثم من جميع جهاته.
وقال الزجاج: الذي يدل عليه الكلام: اتركوا الإثم ظهر أو بطن، أي: لا تقربوا ما حرم عليكم سرا ولا جهرا.
ثم أوعد على فعل الإثم بالجزاء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 120] .
قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] قال ابن عباس: يريد: الميتة والمنخنقة.
إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] .
وقال الكلبي: يعني ما لم يذكّ، أو ذبح لغير الله، وقال عطاء: نهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش والعرب على الأوثان.
قوله: وإنه لفسق يعني: وإن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة لفسق، أي: خروج عن الحق والدين، {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] أي: يوسوس الشيطان لوليه فيلقي في قلبه الجدال بالباطل، وهو ما ذكر من أن المشركين جادلوا المؤمنين في الميتة، قال ابن عباس: أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف(2/316)
تعبدون شيئا لا تأكلون ما يقتل، وأنتم تأكلون ما قتلتم؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية: وإن أطعتموهم يعني: في استحلال الميتة إنكم لمشركون.
قال الزجاج: وفي هذا دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك.
فإن قيل: كيف أبحتم ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية والآية كالنص في التحريم؟ قلنا: إن المفسرين فسروا: ما لم يذكر اسم الله عليه في هذه الآية بالميتة، ولم يحمله أحد على ذبيحة المسلم إذا ترك التسمية.
وفي الآية أشياء تدل على أن الآية في تحريم الميتة منها قوله: وإنه لفسق، ولا يفسق أكل ذبيحة المسلم التارك للتسمية، ومنها قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] ، والمناظرة إنما كانت في الميتة بإجماع من المفسرين، لا في ذبيحة تارك التسمية من المسلمين، ومنها قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، والشرك: استحلال الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها.
337 - وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ الأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الرُّجَلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى فَمِ كُلِّ مُسْلِمٍ»
338 - وَأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُوٍر، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا(2/317)
مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، وَإِنْ نَسِيَ أَنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ فَلْيُسَمِّ وَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ ثُمَّ لِيَأْكُلْ»
339 - وأَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطُّفَاوِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قَوْمًا يَأْتُونَنَا بِاللَّحْمِ لا نَدْرِي أَذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أَمْ لا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَمُّوا اللَّهَ عَلَيْهِ وَكُلُوا»
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {122} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {123} وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ {124} فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ {125} } قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] يعني: كافرا ضالا فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122] يعني: دينا وهدى وإيمانا، قال قتادة: النور ههنا: كتاب الله بينة من الله عز وجل مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي.
{كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122] أي: كمن هو في الظلمات، والمثل: صلة، يعني: الكافر يكون في(2/318)
ظلمات الكفر والضلالة، {لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] ليس بمؤمن أبدا.
وقال زيد بن أسلم: نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي جهل لعنه الله.
وقال الحسن: الآية عامة في كل مؤمن وكافر.
وهو اختيار الزجاج: قال: الآية عامة في كل من هداه الله وكل من أضله، فأعلم الله تعالى أن مثل المهتدي مثل الميت الذي أحيي وجعل مستضيئا في الناس بنور الحكمة والإيمان، ومثل الكافر مثل من هو في الظلمات التي لا يخلص منها.
وقوله: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122] قال ابن عباس: يريد: زين لهم الشيطان عبادة الأصنام.
قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام: 123] يعني: كما أن فساق مكة أكابرها، كذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها.
قال ابن عباس: أكابر مجرمي مكة: المستهزئون، وأراد بالأكابر: الرؤساء المترفين.
قال الزجاج: وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية لأنهم بما أعطوا من الرياسة والسعة أقرب إلى المكر والكفر بدليل قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27] .
وقوله: ليمكروا فيها: قال مجاهد: هو أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخبروهم أنه شاعر كاهن، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 123] لأن وبال مكرهم يعود عليهم، كأنه قيل: وما يضرون بذلك المكر إلا أنفسهم.
قال ابن عباس: لأنهم يقتلون ويصيرون إلى أشد العذاب، وما يشعرون: أنهم يمكرون بها.
قوله: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ} [الأنعام: 124] لك، لن نصدقك {حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124] قال ابن عباس: حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل فيخبرنا أن محمدا صادق، كما قالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] .(2/319)
وقال الضحاك: سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52] .
وقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] يعني: إنهم ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لئن كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا.
فأنزل الله هذه الآية.
قال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مَطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه إليهم فيقال: إنما كانوا أكابر ورؤساء فاتبعوا.
فكان الله أعلم حيث يجعل الرسالة ليتيم أبي طالب دون أبي جهل والوليد بن المغيرة وأكابر مكة.
وقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام: 124] قال الزجاج: أي هم وإن كانوا أكابر في الدنيا فسيصيبهم عند الله صغار ومذلة.
والصغار: المذلة، يقال منه: صغر يصغر صُغرا وصغارا فهو صاغر.
قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125] يقال: شرح الله صدره فانشرح، أي: وسع صدره لقبول الخير فتوسع.
وقال ابن الأعرابي: الشرح: الفتح، والشرح: البيان، وقوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الزمر: 22] أي: فتحه ووسع له.
روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ هذه الآية فقال: " إن النور إذا دخل القلب انشرح وانفسح، فقيل له: وهل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ".
وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125] ، وقرأ ابن كثير: ضيْقا ساكنة الياء، وهو من باب: الميْت والميّت، في أن المخفف مثل المشدد في المعنى.(2/320)
والحرج: الشديد الضيق، وقد حرج صدره إذا ضاق.
وقرئ: حرِجا بكسر الراء، فمن فتح الراء كان وصفا بالمقدر، والمعنى: ذا حرج، كما قالوا: رجل دَنف، أي: ذو دنف، ومن كسر فهو نعت مثل دنِف وفرق.
والمعنى: أن قلبه غير مشروح للإيمان، قال ابن عباس: إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه، وإذا ذكر شيئا من عبادة الأوثان ارتاح إلى ذلك.
قوله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] أي: يتصعد في السماء، فأدغمت التاء في الصاد.
وقرأ أبو بكر: يصاعد، وهو مثل يتصعد في المعنى، وقرأ ابن كثير: يصعد من الصعود.
والمعنى: أنه في نفوره عن الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يكلف ما لا يطيقه، كما أن صعود السماء لا يستطاع.
قال الزجاج: كأنه قد كلف أن يتصعد إلى السماء يجد من ثقل ذلك مثلما يجد من الصعود إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه.
قال ابن عباس: يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء، فكذلك لا يقدر على أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه.
قوله: كذلك أي: مثل ما قصصنا عليك {يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] قال ابن عباس: هو الشيطان، أي: يسلطه عليهم.
وقال عطاء، وابن زيد: الرجس: العذاب.
وقال الزجاج: الرجس: اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة.
وانقطع كلام القدرية لعنهم الله عند هذه الآية، وخرست ألسنتهم، فإنها قد صرحت بتعلق إرادة الله بالهداية والإضلال وتهيئة أسبابهما.(2/321)
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ {126} لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {127} } [الأنعام: 126-127] قوله: {وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 126] قال ابن عباس: يعني التوحيد.
وقال ابن مسعود: يعني القرآن.
وقال عطاء: يريد: هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك مستقيما.
ومعنى استقامة صراط الله: أنه يؤدي سالكه إلى دار الخلود في النعيم.
وقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 126] قال عطاء: يريد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلوا مواعظ الله تعالى وانتهوا عما نهاهم الله عنه.
قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} [الأنعام: 127] قال الحسن، والسدي: السلام: هو الله عز وجل، وداره: الجنة.
ومعنى السلام في اسم الله تعالى: ذو السلام أي: السلامة من الآفات والنقائص.
قال الزجاج: يجوز أن تكون الجنة سميت دار السلام لأنها دار السلامة الدائمة التي لا تنقطع.
وقوله: عند ربهم أي: مضمونة لهم عند ربهم حتى يدخلوها.
وقوله: وهو وليهم أي: يتولى إيصال المنافع ودفع المضار عنهم {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127] في الدنيا من الطاعات.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {128} وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {129} يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ {130} ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ {131} وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {132} } [الأنعام: 128-132] قوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [الأنعام: 128] يعني: الإنس والجن يجمعون في موقف القيامة فيقال لهم: {يَا مَعْشَرَ(2/322)
الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ} [الأنعام: 128] أي: من إغواء الإنس وإضلالهم، وقال أولياؤهم يعني: الذين أضلهم الجن {مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128] ومعنى: استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي.
واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها حتى يسهل عليهم فعلها ويشهُّونها، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، واختيار الزجاج، والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين.
قوله: {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] يعني: أجل البعث والنشور، {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام: 128] ، قال ابن عباس: يريد: فيها مقامكم {خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] قال ابن عباس: استثنى الله تعالى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما على هذا القول بمعنى من.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128] حكم للذي استثنى بالتصديق، وعلم ما في قلوبهم من البر والتقوى.
قوله: وكذلك أي: وكما خذلنا عصاة الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض {نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} [الأنعام: 129] نسلط بعضهم على بعض حتى كان منهم ما كان {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129] من المعاصي.
قوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأنعام: 130] المعشر: كل جماعة أمرهم واحد، والجمع: المعاشر.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] قال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا وينذرونهم، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29] .
وقوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأنعام: 130] يقرءون عليكم كتبي {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الأنعام: 130] يخبرونكم ويخوفونكم بيوم القيامة، {قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} [الأنعام: 130] شهدنا أنهم قد بلغوا، يقول الله تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام: 130] حين لم(2/323)
يؤمنوا ولم يصدقوا الرسل، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] ، قال مقاتل: يعني: حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر.
قوله: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ} [الأنعام: 131] أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل وأمر عذاب من كذبهم، لأنه لم يكن ربك {مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [الأنعام: 131] قال الكلبي: لم يكن ليهلكهم بذنوبهم من قبل أن تأتيهم الرسل.
وقوله: بظلم يعني: بظلمهم الذي هو ذنوبهم ومعاصيهم.
وقوله: وأهلها غافلون يعني: أهل القرى غافلون لم ينذروا ولم تبلغهم الرسل.
وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132] أي: ولكل عامل بطاعة الله درجات جزاء من أجل ما عملوا، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] قال ابن عباس: يريد: عمل المشركين، وهذا وعيد لهم بالجزاء على أعمالهم.
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ {133} إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ {134} } [الأنعام: 133-134] وربك الغني: عن عبادة خلقه، ذو الرحمة قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته.
وقال الكلبي: ذو الرحمة وذو التجاوز.
{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [الأنعام: 133] وعيد لأهل مكة بالإهلاك، {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ} [الأنعام: 133] وينشئ من بعدكم خلقا آخر كما أنشأكم: خلقكم ابتداء {مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133] يعني: آباءهم الماضين.
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} [الأنعام: 134] من مجيء الساعة والحشر والنشر {لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام: 134] بفائتين، يقال: أعجزني فلان.
أي: فاتني فلم أقدر عليه.
{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 135] وقوله: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135] قال الزجاج: اعملوا على ما أنتم عليه، يقال للرجل إذا(2/324)
أمرته أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان.
أي: اثبت على ما أنت عليه.
ومعنى هذا الأمر: هو المبالغة في الوعيد.
وقرئ مكاناتكم والوجه: الإفراد، لأنه مصدر، والمصادر في أكثر الأمر مفردة، وقد يجمع في بعض الأحوال.
ومعنى الآية: اعملوا ما أنتم عليه عاملون، إني عامل ما أمرني ربي، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [الأنعام: 135] قال ابن عباس: يعني: الجنة ألكم أم لنا؟ وقرئ يكون بالياء، العاقبة: غير حقيقي، فهو كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] .
وقوله: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 135] قال ابن عباس: يريد: لا يسعد من كفر نعمتي وأشرك بي.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ {136} وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ {137} وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {138} وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى(2/325)
أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ {139} قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {140} } [الأنعام: 136-140] قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} [الأنعام: 136] ، قال ابن عباس وجماعة من المفسرين: كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وثمارهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا، فما كان للأوثان أنفق عليها، وما كان لله أطعم الضيفان والمساكين ولا يأكلوا من ذلك كله شيئا، فما سقط مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه، وقالوا: إن الله غني عن هذا.
وإن سقط مما جعلوه للأوثان في نصيب الله التقطوه وردوه إلى نصيب الصنم، وقالوا: إنه فقير.
فذلك قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ} [الأنعام: 136] .
قال ابن عباس: مما خلق من الثمر والقمح والضأن والمعز والإبل والبقر.
{نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] بكذبهم واعتقادهم الفاسد وهذا لشركائنا يعني: ما جعلوه لآلهتهم من أموالهم، والآلهة كانوا شركاءهم في أموالهم حيث جعلوا لها نصيبا.
قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] قال الحسن، والسدي: هو أنه إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله، ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله.
وقال قتادة: كانوا إذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزءوا لله، ووفروا ما جزءوا لشركائهم، فذلك قوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ} [الأنعام: 136] يعني: من تمام الحرث والأنعام {فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 136] يعني: إلى المساكين، وإنما قال: إلى الله لأنهم كانوا يفرزونه لله ويسمونه نصيبا لله، وما كان لله من التمام فهو يصل إلى آلهتهم.
ثم ذم فعلهم فقال: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136] بئس الحكم حكمهم حيث صرفوا ما جعلوا لله على جهة التبرر إلى الأوثان.(2/326)
قوله: وكذلك أي: ومثل ذلك الفعل القبيح {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] قال مجاهد: شركاؤهم شياطينهم أمروهم بأن يئدوا أولادهم خشية العيلة.
وسميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى، وأضيفت الشركاء إليهم لأنهم اتخذوها، كقوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] .
وقرأ ابن عامر: زُيِّن بضم الزاي، قتلُ رفعا، أولادَهم بالنصب شركائهم بالجر على تقدير: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، ولكنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به وهو الأولاد، والمفعول به: مفعول المصدر.
قال أبو علي الفارسي: وهو قبيح قليل الاستعمال، ولكنه قد جاء في الشعر، كما أنشده أبو الحسن الأخفشي:
فزججتها متمكنا ... زج القلوص أبي مزاده
وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء وإن لم يتولوا ذلك، لأنهم هم الذين زينوا ودعوا إليه فكأنهم فعلوا ذلك.
وقوله: ليردوهم قال ابن عباس: يريد في النار.
والإرداء: الإهلاك، ومنه قوله: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] .(2/327)
وقوله: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} [الأنعام: 137] قال ابن عباس: يدخلوا عليهم الشك في دينهم، وكانوا على دين إسماعيل فرجعوا عنه بلبس الشياطين، وتزيينها لهم القبائح.
ثم أخذ أن جميع ما فعلوا كان بمشيئته فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137] ، ثم أوعدهم: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 137] يتقولون على الله الكذب.
قوله: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] الحجر في اللغة: الحرام، والمعنى: أنهم حرموا أنعاما وحرثا، وجعلوه لأصنامهم فقالوا: {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 138] أعلم الله تعالى أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة لهم فيه ولا برهان.
{وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} [الأنعام: 138] نحو البحيرة والسائبة والحامي {وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الأنعام: 138] يذبحونها لآلهتهم ولا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه: للافتراء على الله، وهو أنهم زعموا أن الله تعالى أمرهم بذلك.
{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} [الأنعام: 139] يعني: أجنة البحائر والسوائب: ما ولد منها حيا فهو خالص للرجال دون النساء، وما ولد ميتا أكله الرجال والنساء، وهو قوله: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] يعني: النساء.
وإنما قيل: خالصة لأن ما في قوله: {مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ} [الأنعام: 139] عبارة عن الأجنة، فجاء تأنيث خالصة لتأنيث معنى ما، وجاء تذكير محرم على لفظ ما.
وقوله: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً} [الأنعام: 139] قرأ ابن كثير بالياء، ميتةٌ بالرفع لأن المراد بالميتة: الميت.
والميتة: تقع على المذكر والمؤنث كالدابة والشاة.
وابن عامر يلحق الفعل علامة التأنيث لأن الميتة في اللفظ مؤنثة.
وقرأ عاصم تكن بالتاء، ميتةً بالنصب على معنى: وإن تكن الأجنة ميتة.
ومن قرأ بالياء، ميتةً بالنصب كان التقدير: وإن يكن ما في بطون الأنعام ميتة، ولفظ ما مذكر.
وقوله: {فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} [الأنعام: 139] يعني: الرجال والنساء سيجزيهم وصفهم: سيجزيهم الله تعالى جزاء وصفهم الذي(2/328)
هو كذب، وهو أنهم أحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله، ونسبوا ذلك إلى الله، والله أحكم وأعلم من أن يفعل ذلك، وهو قوله: {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 139] .
قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ} [الأنعام: 140] يعني: الذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء.
قال قتادة: هذا صنيع أهل الجاهلية كان أحدهم يقتل بنته مخافة السبي عليها والفاقة، ويغذو كلبه.
{سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 140] أي: كانوا يفعلون ذلك للسفه والجهل من غير أن أتاهم في ذلك علم {وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140] يعني: حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث، وقالوا: إن الله أمرنا به.
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {141} وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {142} ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {143} وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {144} } [الأنعام: 141-144] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ} [الأنعام: 141] أي: أظهر وأبدع جنات معروشات يعني: ما يعرش له من الكروم، وغير معروشات: ما قام على ساق كالشجر والزرع، {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} [الأنعام: 141] يعني: ثمر النخل وحب الزرع لكل واحد منهما طعم غير طعم الآخر، فمن ثمر النخل: الحامض والمر والحلو والجيد والرديء، وكل حب من الحبوب له طعم آخر، {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 141] تقدم تفسيره.
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] أمر إباحة، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وحِصاده وهما لغتان كالجزاز والجزاز، والقطاف والقطاف.(2/329)
قال ابن عباس، والحسن، وسعيد بن المسيب: يعني: العشر ونصف العشر، وهذا في النخيل لأن ثمارها إذا حصدت وجب إخراج ما يجب منها من الصدقة.
والزرع محمول عليه في وجوب الإخراج، إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخر ذلك إلى زمان التنقية.
وقوله: ولا تسرفوا: قال ابن عباس في رواية الكلبي: عن ثابت بن قيس الأنصاري: فصرم خمس مائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله ذلك له وأنزل: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] ، أسرف حين لم يترك لأهله شيئا.
قال الزجاج: والتأويل على هذا أن الإنسان إذا أعطى كل ماله، ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف، لأنه قد جاء في الخبر: ابدأ بمن تعول فهذا مجاوزة حد الإعطاء.
قال سعيد بن المسيب: معناه لا تمنعوا الصدقة، وتأويل هذا: لا تتجاوزوا الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة.
قوله: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: 142] أي: وأنشأ من الأنعام حمولة: وهي ما أطاق العمل من الإبل، وفرشا: وهو الصغار من الإبل التي لا تحمل.
{كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142] قال الزجاج: لا تحرموا ما حرمتم مما جرى ذكره، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [الأنعام: 142] لا تسلكوا طريقه، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأنعام: 142] ظاهر العداوة أخرج أباكم من الجنة، وقال لأحتنكن ذريته.(2/330)
قوله: ثمانية أزواج وهي الضأن والمعز والإبل والبقر، وجعلها ثمانية وهي أربعة، لأنه أراد ذكرا وأنثى من كل صنف، فالذكر زوج والأنثى زوج، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [النجم: 45] .
وهو قوله: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] يعني: الذكر والأنثى.
والضأن: ذوات الصوف من الغنم.
{وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] ، وقرئ بفتح العين، وهما لغتان، والمعز: ذوات الشعر من الغنم.
وقوله: {قُلْءَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] كان المشركون يحرمون أجناسا من النعم بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال، فاحتج الله عليهم بهذه الآية والتي بعدها فقال: قل آلذكرين: من الضأن والمعز حرم الله عليكم أم الأنثيين فإن حرم الذكرين منهما فكل ذكورهما حرام، وإن حرم الأنثيين منهما فكل الإناث حرام.
وقوله: {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ} [الأنعام: 143] يقول: وإن كان قد حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين من الضأن والمعز فقد حرم الأولاد، وكلها أولاد، فكلها حرام.
وقوله: نبئوني بعلم: قال الزجاج: أي: فسروا ما حرمتم بعلم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 143] أن الله حرم ذلك.
وقوله: {وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 144] مفسر إلى قوله {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} [الأنعام: 144] أي: هل شاهدتم الله حرم هذا إذ كنتم لا تؤمنون برسول.
ثم بين أنهم فعلوا ذلك كذبا على الله فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144] قال ابن عباس: يريد: عمرو بن لحي ومن جاء بعده.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144] قال: يريد: المشركين.
ثم أعلم أن التحريم والتحليل إنما يثبت بالوحي والتنزيل، فقال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ(2/331)
خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {145} وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {146} فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {147} } [الأنعام: 145-147] {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] على آكل يأكله {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] أي: إلا أن يكون المأكول ميتة، ومن قرأ تكون بالتاء، كان التقدير عنده اسما مؤنثا، كأنه قيل: إلا أن تكون العين أو النفس أو الجثة ميتة.
وقرأ ابن عامر إلا أن تكون بالتاء، ميتةٌ بالرفع، على معنى: إلا أن تقع أو تحدث ميتة.
وقوله: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] يقال: سفح الدم، والدم سفحا.
إذا صبه، وسفح هو سفحا.
إذا سال.
قال ابن عباس: يريد: ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، ولا يدخل في هذا الكبد والطحال لجمودهما، ولا ما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل.
340 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُحِلَّتْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: الْمَيْتَتَانِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ.
وَالدَّمَانِ: الْكَبِدُ وَالطُّحَالُ "
وقوله: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145] قال ابن عباس: يريد: ما ذبح على النصب.
والمحرمات من المطعومات أكثر من هذا، ولكن الذي حرم بوحي القرآن هو ما ذكره في هذه الآية، والباقي حرم بالسنة.
قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] قال ابن عباس: هو البعير والنعامة، {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ(2/332)
حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] يعني: شحوم الجوف، وهي الثروب وشحم الكليتين.
قوله: {إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] قال قتادة: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما.
أو الحوايا وهي المباعر، واحدتها: حاوية وحوية وحاوياء.
يعني: وما حملت من الشحم.
{أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] يعني: شحم الإلية في قول جميعهم.
وقال ابن جريج: كل شحم في القوائم والجنب والرأس والأذنين والعينين فهو مما اختلط بعظم، وهو حلال لهم، إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية.
وقوله: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] أي: ذلك التحريم عقوبة لهم بقتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل، فهذا بغيهم، وهذا كقوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء: 160] الآية.
وقوله: وإنا لصادقون أي: في الإخبار عن التحريم وعن بغيهم وفي كل شيء.
فإن كذبوك: فيما تقول {فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147] لذلك لا يعجل عليكم بالعقوبة، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ} [الأنعام: 147] عذابه إذا جاء الوقت {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 147] يعني: المكذبين.
{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ {148} قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ {149} قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ {150} قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ(2/333)
عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {151} وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {152} وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {153} } [الأنعام: 148-153] {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [الأنعام: 148] إذا لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما هم عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] قال المفسرون: إن المشركين جعلوا قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] حجة على إقامتهم على الشرك، فقالوا: إن الله تعالى رضي منا ما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به، ولو لم يرض ذلك منا لحال بيننا وبينه.
ولا يكون هذا حجة لهم على أن ما هم عليه من الدين حق، لأن الأشياء كلها تجري بمشيئة الله تعالى، فلو كانوا على صواب لأن ذلك بمشيئة الله لكان من خالفهم وجب أن يكون عندهم أيضا على صواب، لأنهم أيضا على ما شاء، فينبغي ألا يقولوا: إنهم ضالون، فبان أنه لا حجة لهم في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] ولو كان الأمر على ما قالوه، لأنهم تركوا أمر الله تعالى وتعلقوا بمشيئة الله.
وأمر الله بمعزل عن إرادته، لأنه يريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع الأمر، وليس له أن يتعلق بالإرادة بعد ورود الأمر.
قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: 148] كما كذب هؤلاء كذب كفار الأمم الخالية أنبياءهم {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148] شدة عذابنا، {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] قال ابن عباس: من كتاب نزل من عند الله في تحريم ما حرمتم.
إن تتبعون: ما تتبعون فيما أنتم عليه إلا الظن، لا العلم واليقين، {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] وما أنتم إلا خارصين كاذبين.
قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149] قال الزجاج: حجته البالغة: تبيينه أنه الواحد وإرساله الأنبياء بالحجج التي يعجز عنها المخلوقون.
وهذا معنى قول المفسرين: ولله الحجة البالغة بالكتاب والرسول والبيان.(2/334)
{فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] وهذا يدل على أنه ما شاء إيمان الكافر ولو شاء لهداه.
أخبرنا الأستاذ أبو منصور البغدادي، أخبرنا محمد بن جعفر بن مطر، أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد الفريابي، حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا جويرية بن أسماء، قال: سمعت علي بن زيد تلا هذه الآية: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] ، فنادى بأعلى صوته: انقطع والله ههنا كلام القدرية.
قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] الآية، هلم: كلمة دعوة إلى شيء، تقول: هلم يا رجل، وكذلك للاثنين والجمع والمؤنث موحد، وهذه الكلمة تستعمل تارة بمعنى دعاء المخاطب كقولك: هلم إلي.
أي: ادن مني وتعال، وتارة تستعمل بمعنى التعدية كقولك: هلم الطعامَ.
وورد القرآن بالمعنيين، قال الله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18] ، وقال في هذه الآية: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] .
قال الزجاج: هاتوا وقربوا شهداءكم {الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150] يعني: ما ذكر من الحرث والأنعام مما حرمه المشركون، يقول: ائتوا بمن يشهد لكم أن هذا التحريم جاءكم من الله.
فإن شهدوا هم وقالوا: نشهد بذلك، {فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150] لا توافقهم على دينهم ومقالتهم، {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 150] يعني: هؤلاء(2/335)
المحرمين ما أحل الله، {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 150] يشركون الأصنام.
قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآية: يجوز أن يكون عليكم من صلة أتل كأنه قال: أتل عليكم ما حرم ربكم، ويجوز أن تكون من صلة التحريم.
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون عليكم إغراء وانقطع عند قوله: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: 151] ثم قال: عليكم ألا تشركوا به شيئا، كما قال عليكم أنفسكم.
وقوله: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151] قال الزجاج: يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى، فيكون: أتل عليكم ألا تشركوا، والمعنى: أتل عليكم تحريم الشرك.
قال: وجائز أن يكون على معنى: أوصيكم ألا تشركوا به شيئا، لأن قوله: وبالوالدين إحسانا محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحسانا.
قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151] يقال: أملق الرجل فهو مملق.
إذا افتقر، قال ابن عباس: يريد: مخافة الفقر، وقد صرح بهذا في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] .
وهذا في النهي عن الوأد: كانوا يدفنون البنات أحياء خوف الفقر، فضمن الله لهم الرزق فقال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] قال ابن عباس: كانوا يكرهون أن يزنوا علانية فيفعلون ذلك سرا، فنهاهم الله عن الزنا سرا وعلانية.
قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] قال ابن عباس: إلا بالقود، يعني: القصاص.
341 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كمارَوَيْهِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا(2/336)
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَابِقٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " كَانَ فِيمَا أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى مُوسَى فِي الأَلْوَاحِ: وَلا تَقْتُلِ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمْتُ إِلَّا بِالْحَقِّ فَتَضِيقَ عَلَيْكَ الأَرْضُ بِرَحْبِهَا، وَالسَّمَاءُ بِأَقْطَارِهَا، وَتَبُوءَ بِسَخَطِي فِي النَّارِ "
وقوله: ذلكم يعني: ما ذكر في هذه الآية وصاكم: أمركم {بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] لكي تعرفوا ذلك.
قوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] قال عطاء عن ابن عباس: يريد: إن كنت وصيا فأصلحت ماله، وقمت لله في ضيعته أكلت بالمعروف إن احتجت إليه، وإن كنت غنيا عنه فعف عن أكله.
وقال الزجاج: التي هي أحسن: هو حفظ ماله عليه، وتثميره بما يوجد السبيل إليه.
وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] الأشد: مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة.
قال الفراء: واحدها شد في القياس ولم أسمع لها بواحد.
وفسر بلوغ الأشد في هذه الآية بالاحتلام، وقال أبو إسحاق: بلوغ أشده: أن(2/337)
يؤنس منه الرشد مع أن يكون بالغا، فحينئذ يجب دفع المال إليه.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ} [الأنعام: 152] أتموه ولا تنقصوا منه شيئا، والميزان أي: وزن الميزان بالقسط: بالعدل، لا بخس ولا شطط، {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] إلا ما يسعها ولا تضيق عنه، وذلك أنه لو كلف المعطي الزيادة لضاقت نفسه عنها، وكذلك لو كلف الآخذ الرضا بالنقصان.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152] قال ابن عباس: إذا شهدتم أو تكلمتم فقولوا الحق، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] أي: ولو كان المشهود له وعليه ولدك وقرابتك، {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152] أي: وبما عاهدتم الله عليه فأوفوا به {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] لتتذكروه وتأخذوا به.
قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} [الأنعام: 153] قال الفراء: تفتح أن بمعنى: وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما.
وإن شئت قلت: ذلكم وصاكم به وبأن هذا.
وسيبويه يقول: التقدير: ولأن هذا صراطي مستقيم فاتبعوه، كقوله: {وَأَنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] ، قال سيبويه: ولأن هذه أمتكم.
وقرأ ابن عامر: وأنْ مفتوحة مخففة من المشددة، والتقدير: وأنه هذا، ثم حذف الضمير وخففت، ومن كسر إن استأنف بها.
قال ابن عباس: يريد: ديني دين الحنيفية أقوم الأديان وأحسنها.
وقال مقاتل: الذي ذكر في هذه الآيات من أمره ونهيه صراطي مستقيما.
{فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153] قال ابن عباس: اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأصنام.
وقال مجاهد: يعني: البدع والشبهات.
وقال مقاتل: يعني: طريق الضلالة فيما حرموا على(2/338)
أنفسهم من الأنعام والحرث.
{فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] فتضل وتميل وتخالف بكم عن دينه، قال المفسرون: هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار.
{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ {154} وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {155} أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ {156} أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ {157} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ {158} } [الأنعام: 154-158] وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] ثم أوجب تأخير الخبر بعد الخبر الأول، يريد: ثم أخبركم بعد ما أخبرتكم بنزول التوراة على موسى.
فدخلت ثم لتأخير الخبر، لا لتأخير النزول.
ذكر ذلك الزجاج، وابن الأنباري.
قوله: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] أي: على الذي أحسنه موسى من العلم وكتب الله القديمة، فيكون أحسن بمعنى: علم، وأراد بقوله: تماما: على ذلك: زيادة على ذلك.
قال الزجاج: وتماما منصوب مفعول له، وكذلك وتفصيلا.
والمعنى: آتينا للتمام والتفصيل {لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [الأنعام: 154] .
وقوله: {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 154] قال ابن عباس: كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب.
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] يعني: القرآن، {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} [الأنعام: 155] : اتبعوا حلاله، واتقوا حرامه، لعلكم ترحمون: لتكونوا راجين للرحمة.
أن تقولوا: قال الفراء: أن متعلقة ب اتقوا، والتأويل: اتقوا أن تقولوا.
وعند البصريين معناه:(2/339)
أنزلناه كراهة أن تقولوا، ثم حذف المضاف، {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} [الأنعام: 156] يعني: التوراة والإنجيل {عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] يعني: اليهود والنصارى، {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156] وما كنا عن تلاوة كتبهم إلا غافلين.
قال المفسرون: الخطاب لأهل مكة.
والمراد: إثبات الحجة عليهم بإنزال القرآن كيلا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على طائفتين من قبلنا وكنا غافلين عما فيهما.
فقطع الله معاذيرهم بإنزال القرآن.
قال الكسائي: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156] لا نعلم ما هي، لأن كتابهم لم يكن بلغتنا.
فأنزل الله كتابا بلغتهم كيلا يعتذروا بأن الكتاب لم يأتهم، وأن الرسول لم يبعث إليهم، وهذا معنى قوله: أو تقولوا، يا معشر العرب: {لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] من اليهود والنصارى {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 157] رسول من ربكم بلسان عربي مبين حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين، وهدى ورحمة يعني: القرآن، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأنعام: 157] بعد هذا البيان، وصدف: أعرض عنها، ثم أوعدهم فقال {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 157] الآية.
قوله: هل ينظرون: معنى ينظرون: ينتظرون، وهل استفهام معناه النفي، أي: لا ينتظرون {إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنعام: 158] عند الموت لقبض أرواحهم، وهذا خبر بمعنى النهي، أي: يجب أن لا ينتظروا بعد تكذيبك إلا أن تأتيهم الملائكة عند الموت فيقعوا في العذاب.
{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158] قال ابن عباس: يتنزل أمر ربك فيهم بالقتل.
وقال الزجاج: المعنى: أو يأتي إهلاك ربك إياهم بعذاب عاجل أو بالقيامة.
{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] قال عامة المفسرين: يعني: طلوع الشمس من مغربها، وهذا إنما ينتظره من تأخر في الوجود من مكذبي هذه الأمة.
{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] أي: لا ينفعها الإيمان عند الآية التي تضطرهم إلى الإيمان، لأن الله تعالى لو بعث على كل من لم يؤمن عذابا لاضطر الناس إلى الإيمان وسقط التكليف والجزاء.(2/340)
342 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَإِذَا طَلَعَتْ مِنَ الْمَغْرِبِ آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَذَلِكَ حِينَ {لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]
وقوله: قل انتظروا قال ابن عباس: انتظروا يا أهل مكة، إنا منتظرون: بكم العذاب يوم القيامة أو قبلها في الدنيا.
{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {159} مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {160} } [الأنعام: 159-160] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} [الأنعام: 159] قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، والسدي، والكلبي: هم اليهود والنصارى، وذلك أنهم اختلفوا فصاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا، وآمنوا ببعض ما في أيديهم وكفروا ببعض، وذلك قوله: وكانوا شيعا أي: فرقا وأحزابا في الضلالة.
وقرأ حمزة: فارقوا دينهم أي: باينوه وخرجوا عنه، وهذا يأول إلى معنى: فرقوا ألا ترى أنهم لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض فارقوه كله، فخرجوا عنه ولم يتبعوه.
وروي عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة: " يا عائشة، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] هم أصحاب البدع وأهل الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ".(2/341)
343 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُصَفَّى، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ: " {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الأنعام: 159] هُمْ أَصْحَابُ الأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الضَّلالَةِ "
قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] قال المفسرون: يقول: لست من قتالهم في شيء ثم نسخته آية القتال.
هذا إذا كان المراد بالآية اليهود والنصارى على ما روي مرفوعا، معنى قوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] أي: أنت منهم برئ وهم منك براء، أي: لم تتلبس بشيء من مذاهبهم، والعرب تقول: إن فعلت كذا فلست مني ولست منك، أي: كل واحد منا برئ من صاحبه.
قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام: 159] يعني: في الجزاء والمكافأة، {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] إذا وردوا القيامة.
وقوله: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] قال عطاء عن ابن عباس: يريد: من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [الأنعام: 160] يريد: الخطيئة، {فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] أي: إلا جزاء مثلها، لا يكون أكثر منها.
344 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشَرَةُ أَمْثَالِهَا أَوْ أَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلِهَا أَوْ أَغْفِرُ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ(2/342)
345 - حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ إِمْلاءً، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمّلِ بْنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «الْحَسَنَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى الزِّيَادَةِ وَالسَّيِّئَةِ بِوَاحِدَةٍ، وَأَنَا أَغْفِرُ لابْنِ آدَمَ إِنْ لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ قُرَابُ الأَرْضِ ذُنُوبًا غَفَرْتُ لَهُ، وَلا أُبَالِي»
346 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنَ التَّيْمِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا يَنْفَعُنِي، قَالَ: " إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ حَسَنَةً فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنَ الْحَسَنَاتِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ هِيَ أَحْسَنُ الْحَسَنَاتِ
قوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160] قال ابن عباس: لا ينقص ثواب أعمالهم.
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {161} قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ {163} قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ(2/343)
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {164} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {165} } [الأنعام: 161-165] قوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا} [الأنعام: 161] قال الزجاج: أما نصب دينا فمحمول على المعنى، لأنه لما قال: {هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 161] دل على عرفني، فكأنه قال: عرفني.
قوله: قيِّما قال ابن عباس: مستقيما، ومن قرأ: قِيَما فهو مصدر كالصغر والكبر والشبع، وذكرنا معنى قيما في أول { [النساء، وقوله:] مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [سورة الأنعام: 161] ملة بدل من دينا قيما، وحنيفا منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى: عرفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته.
قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162] قال ابن عباس: يريد: ذبيحتي.
وقال مقاتل: حججي.
وقال الزجاج: كل ما تقربت به إلى الله تعالى، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح.
وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام: 162] أي: حياتي وموتي {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] أي: هو يحييني ويميتني.
وقرأ نافع: ومحياي ساكنة الياء، وهو شاذ غير مستعمل لأن فيه جمعا بين الساكنين لا يلتقيان على هذا الوجه، قال الزجاج: أما ياء محياي فلا بد من فتحها لأن قبلها(2/344)
ساكنا، ومثل هذا ما جوزه يونس من قوله: اضربنان زيدا، واضربنان زيدا، وسيبويه ينكر ذلك من قول يونس.
ومعنى الآية: أنه يخبر بأنه إنما يتوجه بالصلاة وسائر المناسك إلى الله تعالى، لا إلى غيره كما كان المشركون يذبحون لأصنامهم، فأعلم أنه لله وحده، {لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 163] .
وقوله: وبذلك أمرت: قال ابن عباس: بذلك أوحي إلي.
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] قال قتادة: أول المسلمين من هذه الأمة.
وقال مقاتل: أول المخلصين من أهل مكة.
347 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْكُوفِيُّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَا فَاطِمَةُ قُومِي إِلَى أُضْحِيَّتِكِ فَاشْهَدِيهَا، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ عِنْدَ أَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلْتِيهِ، وَقُولِي: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ عِمْرَانُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكَ وَلأَهْلِ بَيْتِكَ خَاصَّةً، فَأَهْلُ ذَلِكَ أَنْتُمْ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: بَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً "
قوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 164] قال ابن عباس: سيدا وإلها وهو سيد كل أحد، {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] لا تجني نفس ذنبا إلا أخذت به وكان إثمه على الجاني نفسه، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قال ابن عباس: إن الوليد بن المغيرة كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم.
فقيل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ(2/345)
وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى، أي: لا يؤخذ أحد بذنب غيره، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الأنعام: 164] .
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} [الأنعام: 165] هو الذي جعلكم يا أمة محمد، خلائف الأمم الماضية في الأرض بأن أهلكهم وأورثكم الأرض بعدهم، {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] ، في المعاش والغنى والرزق.
قاله الكلبي، ومقاتل، والسدي، {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] ليختبركم فيما رزقكم، والمعنى: ليظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب.
{إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأنعام: 165] لأعدائه، يعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهلاك أعدائه وقتلهم، وإنه لغفور: لأوليائه، رحيم: بهم.
348 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لاتَّكَلْتُمْ عَلَيْهَا وَمَا عَمِلْتُمْ إِلَّا قَلِيلا، وَلَوْ تَعْلَمُونَ قَدْرَ غَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى لَظَنَنْتُمْ أَنْ لا تَنْجُوا وَأَنْ لا يَنْفَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ»(2/346)
سورة الأعراف
مكية وآياتها ست ومائتان أخبرنا الشيخ الإمام الصالح الزاهد أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد الفرخاني السمناني، بعد أن قدم حاجا في شوال سنة تسع عشرة وخمس مائة، قال: أخبرنا الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، رحمة الله عليه، في سنة ست وستين وأربع مائة، قال: تفسير سورة الأعراف
349 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُؤَذِّنُ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَعْرَافِ جَعَلَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِبْلِيسَ سِتْرًا، وَكَانَ آدَمُ شَفِيعًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
بسم الله الرحمن الرحيم {المص {1} كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {2} اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ {3} وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ {4} فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {5} فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ(2/347)
أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ {6} فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ {7} وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {8} وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ {9} } [الأعراف: 1-9] المص: قال ابن عباس: «أنا الله أعلم وأفصل» .
كتاب أي: هذا كتاب {أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2] قال ابن عباس: ضيق.
والمعنى: لا يضق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به.
وقوله: لتنذر به قال الفراء: اللام في لتنذر، منظوم بقوله: أنزل على تقدير: كتاب أنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين: ومواعظ للمصدقين.
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] اتبعوا القرآن، قال الحسن: يابن آدم، أمرت باتباع كتاب الله، والله ما نزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيم أنزلت، وما معناها.
{وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله، {قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] قليلا يا معشر المشركين، تذكركم واتعاظكم، والأصل: تتذكرون، فادغمت التاء في الذال، وحذف حمزة التاء فخفف الذال، وقرأ ابن عامر: يتذكرون، بياء وتاء، أي: قليلا ما يتذكرون هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب.
ثم خوفهم بإهلاك من كذب قبلهم فقال: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] يعني: أهلكنا أهلها، فحذف المضاف، {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا} [الأعراف: 4] عذابنا ليلا، يقال: بات يبيت بياتا وبَيَّتَهُ.
والبيات هنا مصدر يراد به الصفة، أي: جاءهم(2/348)
يأسنا بائتين نائمين، {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] القيلولة: الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، قال الزجاج: «جاءهم بأسنا مرة ليلا ومرة نهارا، فاعتبروا بهلاك من شئتم منهم» .
ومعنى الآية: إنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له، إما ليلا وهو نائمون، أو نهارا وهو قائلون.
{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} [الأعراف: 5] أي: دعاؤهم وتضرعهم، والدعوى: اسم يقوم مقام الادعاء والدعاء، حكى سيبويه: «اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين» .
وقوله: {إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5] : 4 قال ابن الأنباري: يقول لم يكن قولهم أن جاءهم العذاب، إلا الاعتراف بالظلم، والإقرار بالإساءة.
قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} [الأعراف: 6] قال الضحاك: الذين أرسل إليهم: الأمم الذين أتاهم الرسل يسألون هل بلغكم الرسل ما أرسلوا به إليكم.
ولنسألن المرسلين يعني: الأنبياء، هل بلغتم قومكم ما أرسلتم به؟ وماذا أجابكم قومكم؟ وقال السدي: تُسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ويُسأل الرسل هل بلغوا ما أرسلوا به.
{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7] أي: لنخبرنهم بما عملوا مَنًّا، {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف: 7] عن الرسل والأمم، وما بلغت، وما رد عليهم قومهم.
قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] يعني يوم السؤال.(2/349)
وعامة المفسرين: على أن المراد بهذا الوزن وزن أعمال العباد.
قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان، فأما المؤمن فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفه الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته، فذلك قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، وهذا كقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] الآية، وإنما قال موازينه على الجمع، لأن من في معنى الجمع، ألا ترى أنه قال: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] بالجمع، وبعض المفسرين يذهب إلى أن الوزن يعود إلى الصحف التي فيها أعمال العباد.
قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 9] قال ابن عباس: يؤتى بعمل الكافر في أقبح صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه، فذلك قوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 9] أي: صاروا إلى العذاب {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 9] بجحودهم بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
350 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، أنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا أَبِي، أنا عِصَامُ بْنُ طُلَيْقٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،(2/350)
قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمًا فِي حِجْرِي، فَقَطَرَتْ دُمُوعِي عَلَى خَدِّهِ فَاسْتَيْقَظَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: ذَكَرْتُ الْقِيَامَةَ وَهَوْلَهَا، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهَالِيكُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَمَّا فِي ثَلاثَةِ مَوَاطِنَ لا يَذْكُرُ أَحَدٌ فِيهَا أَحَدًا إِلَّا نَفْسَهُ، عِنْدَ الْمِيزَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ الصُّحُفِ حَتَّى يَعْلَمَ أَيَأْخُذُ صَحِيفَتَهُ بِيَمِينِهِ أَمْ بِشِمَالِهِ، وَعِنْدَ الصِّرَاطِ حَتَّى يُجَاوِزَهُ»
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة، باتباعهم في الدنيا الحق، وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة، باتباعهم في الدنيا الباطل، وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف.
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ {10} وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ {11} قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ {12} قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ {13} قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {14} قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {15} قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ {16} ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17} قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ {18} وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {19} فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ {20} وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ {21} فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ {22} قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23} قَالَ اهْبِطُوا(2/351)
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {24} قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ {25} } [الأعراف: 10-25] قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 10] قال ابن عباس: ملكناكم في الأرض، يريد ما بين مكة إلى اليمن، وما بين مكة إلى الشام، ومعنى التمكين في الأرض التمليك والقدرة والخطاب لقريش، وكان الله تعالى قد فضلهم على العرب، وكانوا يتجرون فيما بين مكة والشام واليمن آمنين، ويكسبون الأموال، وهو قوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف: 10] وهي جمع المعيش والمعيشة وهي ما يعاش به من المكاسب والتجارات، وقوله: {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] قال ابن عباس: يريد أنكم غير شاكرين لأنعمي ولا طائعين.
ولقد خلقناكم يعني: آدم، وإنما قال بلفظ الجمع لأنه أبو البشر، وفي خلقه خلق من يخرج من صلبه، ثم صورناكم يعني ذريته في ظهر آدم، كما روي: «إن الله تعالى أخرج ذرية آدم من ظهره في صورة الذر» .
ويجوز أن يكون المراد بقوله: {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] آدم، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله: ثم صورناكم تصوير ذريته في الأرحام، لقوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الأعراف: 11] لأن هذا كان قبل تصوير ذرية آدم في الأرحام.
قوله عز وجل: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] معنى هذا السؤال: التوبيخ لإبليس لعنه الله وإظهار(2/352)
عناده للأمر، ولا في قوله: ألا تسجد: قال الفراء: هي صلة، والمعنى: ما منعك أن تسجد، ونحو هذا قال الكسائي، والزجاج.
وقوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] معناه: منعني من السجود له فضلي عليه، وأني خير منه، إذ كنت ناريا وكان طينيا، وهو قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] قال ابن عباس: «كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وقاس، وأول من قاس إبليس، فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس، وإنما كفر إبليس، لأنه قاس في مخالفة النص، وإنما يذم من القياس ما خالف النص» .(2/353)
قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا} [الأعراف: 13] أي: أنزل من السماء {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] قال ابن عباس: يريد: أن أهلها ملائكة متواضعون خاشعون.
{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13] الأذلاء، قال الزجاج: إن إبليس استكبر بإبائه السجود، فأعلمه الله أنه صاغر بذلك.
قال فأنظرني: أمهلني وأخرني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] إلى يوم البعث، فأبى الله ذلك عليه، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم، لأنه بين مدة المهلة في موضع آخر، وإن لم تبين في هذه ال { [وهو قوله:] فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ {37} إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ {38} } [سورة الحجر: 37-38] وهو النفخة الأولى {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف: 16] قال ابن عباس: أضللتني.
وقال ابن الأنباري: أي: فبما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء.
والباء للقسم، أي: بإغوائك إياي، والمعنى: بقدرتك علي ونفاذ سلطانك فيّ، {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] على الطريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنة، وهو دين الله الإسلام، بأن أزين لهم الباطل، وما يكسبهم المأثم.
351 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو عَمْرٍو الْجَبَّرِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَرِيرٍ النَّسَائِيُّ، نا(2/354)
أَبُو النَّضْرِ، نا أَبُو عُقَيْلٍ، نا مُوسَى بْنُ الْمُسَيَّبِ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي فَاكِهٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإِسْلامِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ؟ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ؟ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ مَثَلُ الْفَرَسِ فِي الطُّولِ، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: هُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ، فَتُقْتَلُ، وَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ، فَعَصَاهُ، فَجَاهَدَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُمْ وَمَاتَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ "
قوله: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 17] قال ابن عباس في رواية الوالبي: يعني: من الدنيا، ومن خلفهم من الآخرة، أتاهم من بين أيديهم، فزين لهم الدنيا ودعاهم إليها، ومن خلفهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة، ولا نار.
وقوله: وعن أيمانهم، قال الوالبي عن ابن عباس: من قبل حسناتهم، وعن شمائلهم: من قبل سيئاتهم.
وهذا قول قتادة، قال: وعن أيمانهم: من قبل حسناتهم أبطئهم عنها، وعن شمائلهم: أزين لهم السيئات والمعاصي، وأدعوهم إليها وآمرهم بها، أتاك يابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله تعالى.
وقال أهل المعاني: ذكر الله تعالى هذه الجهات مبالغة في التوكيد، والمعنى: ثم لآتينهم من جميع الجهات.
وهو اختيار الزجاج، قال الزجاج: الحقيقة والله أعلم: أتصرف لهم في الإضلال من جميع جهاتهم.
وقوله: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] قال ابن عباس: يريد أن أكثرهم لإبليس طائعون، ولله عاصون.
قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا} [الأعراف: 18] قال الكلبي: من الجنة.
مذءوما: الذأم: الاحتقار، يقال: ذأمت الرجل، أذأمه.(2/355)
إذا احتقرته وذممته وعبته، قال ابن قتيبة: مذءوما: مذموما بأبلغ الذم.
مدحورا: منفيا مطرودا، والدحر: الطرد والإبعاد.
وقوله: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 18] أي: من ولد آدم، واللام لام القسم، على تقدير: والله لمن تبعك منهم {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] قال ابن عباس: لمن أطاعك منهم {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 18] يعني المشركين والمنافقين والكافرين وقرناءهم من الشياطين.
{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [الأعراف: 19] الآية مفسرة في { [البقرة، وقوله:] فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [سورة الأعراف: 20] الوسوسة حديث النفس، قال الله تعالى: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] ، والمعنى: حدثهما الشيطان في أنفسهما ليبدي لهما: هذه لام العاقبة، وذلك أن عاقبة تلك الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، وإنما كانت الوسوسة للمعصية، لا لظهور العورة، ولكن تأدت العاقبة إلى ذلك فصار كقوله: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] ليكون له عدوا.
وقوله: {مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا} [الأعراف: 20] أي: ما ستر، من الموارا ومنه قوله: {يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] .
قال ابن عباس: كانا قد ألبسا ثوبا يستر العورة منهما، فلما عصيا تهافت عنهما ذلك الثوب.
{وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] لا تموتان إلى يوم القيامة، كما لا تموت الملائكة، والتقدير: إلا أن لا تكونا، وعند البصريين: إلا كراهة أن تكونا ملكين {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20] أي: لا تموتان فتبقيان أبدا.
وقاسمهما: قال ابن عباس، وقتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما، وإنما يخدع المؤمن بالله تعالى، قال إبليس: إني خلقت قبلكما، وأن أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما.
وكان بعض أهل العلم يقول: «إنه من خادعنا بالله خدعنا» .
وقوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 21] أي: إني(2/356)
أنصح لكما من دعائكما إلى أكل هذه الشجرة.
قوله: فدلاهما بغرور التدلية: إرسال الدلو في البئر، والمعنى ههنا: غرهما وأطمعهما، قال الأزهري: " أصله تدلية العطشان في البئر ليروى من الماء، فلا يجد الماء، فيكون مدلى بالغرور، ثم وضعت التدلية موضع الإطماع فيما لا يجدي نفعا، فيقال: دلاه إذا أطمعه في غير مطمع.
قال ابن عباس: غرهما باليمن، وكان آدم لا يظن أن أحدا يحلف بالله كاذبا.
قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [الأعراف: 22] قال الكلبي: " فلما أكلا منها تهافت لباسهما عنهما، فأبصر كل واحد منهما عورة صاحبه، فاستحييا، {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22] يقال: طفق يفعل كذا: إذا أخذ في فعله، ومعنى يخصفان: يطبقان على أبدانهما الورق، وقال الزجاج: يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سؤاتهما.
وقال قتادة: أقبلا، وجعلا يرقعان، ويصلان عليهما من ورق الجنة، وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب.
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] قال عطاء: بلغني أن الله تعالى ناداهما: أفرارا مني يا آدم؟ قال: لا، بل حياء منك يا رب، ما ظننت أن أحدا يحلف باسمك كاذبا.
وقوله: {وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] قال ابن عباس: بيّن العداوة حيث أبى السجود لآدم، وقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف: 16] ثم أقرا على أنفسهما بالظلم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية، وذكرنا أن هذه الكلمات التي كانت سبب قبول توبتهما، وقوله: قال اهبطوا إلى آخر الآية مفسر في { [البقرة.
قوله تعالى:] قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ} [سورة الأعراف: 25] الآية: قال الكلبي: في الأرض تعيشون، وفي الأرض قبوركم، ومن الأرض تخرجون من قبوركم للبعث.
ولما ذكر عري آدم من علينا باللباس الذي يستر به العورة.
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ(2/357)
يَذَّكَّرُونَ {26} يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ {27} وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {28} قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ {29} فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ {30} } [الأعراف: 26-30] فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 26] قال صاحب النظم: إن الله تعالى أنزل المطر، فأنبت به النبات، فاتخذ الناس من النبات اللباس، فأوقع الإنزال على اللباس لما كان يسببه ما ينزل، وهو المطر، وقوله: وريشا، وقرئ: ورياشا، وهما المال والمعاش، قال أبو عبيدة: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس.
وقال الفراء: يجوز أن يكون الرياش جمع ريش كما قالوا: لبس ولباس.
وقال زيد بن علي: اللباس: هذا الذي تلبسون، يواري سوءاتكم، والريش والرياش الذي تتجملون به من الثياب.
وقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] قرئ: بالنصب والرفع، فمن قرأ بالنصب حمل على أنزل، من قوله: قد أنزلنا والمعنى على هذه القراءة هو أن يتقي الله، فيستر عورته فلا يطوف عاريا كفعل أهل الجاهلية.
قال ابن الأنباري: ولباس التقوى هو اللباس الأول، وإنما أعاده لما أخبر عنه بأنه خير من التعري، إذ كان جماعة من أهل(2/358)
الجاهلية يتعبدون بالتعري في الطواف بالبيت.
ومن رفع: فعلى أنه مبتدأ، ومعناه على هذه القراءة ما قال قتادة، والسدي: لباس التقوى الإيمان.
وقال عطية: العمل الصالح.
وقال سعيد بن جبير: السمت الحسن.
وقال الكلبي: العفاف.
والمعنى: لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب له إلى الله تعالى مما خلق له من اللباس والرياش للتجميل.
وقوله: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} [الأعراف: 26] أي: إنزاله اللباس، وخلقه إياه مما يدل على التوحيد لعلهم يذكرون لكي يتعظوا.
قوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف: 27] قال ابن عباس: لا يخدعنكم.
وعنه أيضا: لا يضلنكم.
{كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] يعني: آدم وحواء {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] أضاف نزع اللباس إلى الشيطان وإن لم يتول ذلك، لأنه كان بسبب منه، فأسند ذلك إليه، ليريهما سوءاتهما ليري آدم سوءة حواء، ويري حواء سوءة آدم، واللام في ليريهما لام العاقبة.
وقوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف: 27] قال ابن عباس: هو وولده.
وقال ابن زيد: نسله.
وقال ابن قتيبة: أصحابه(2/359)
وجنده.
وقال مجاهد: قبيلة الجن والشياطين.
{مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] قال ابن عباس: إن الله تعالى جعلهم يجرون من ابن آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، كما قال: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] ، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم.
وقال قتادة: والله إن عدوا يراك من حيث لا تراه لشديد المؤنة، إلا من عصمه الله.
وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27] قال الزجاج: سلطناهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] الآية.
وقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [الأعراف: 28] قال ابن عباس، ومجاهد: يعني طوافهم بالبيت عراة رجالا ونساء.
وقال عطاء: يريد: الشرك.
وقال الزجاج: الفاحشة ما يشتد قبحه من الذنوب.
قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29] قال ابن عباس: بلا إله إلا الله.
وقال الضحاك: بالتوحيد.
وقال السدي: بالعدل.
وقال الزجاج: هذا رد لقولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] .
وقوله: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ(2/360)
مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] قال مجاهد، والسدي: وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة.
{وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] وحدوه ولا تشركوا به شيئا، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] قال ابن عباس: يبعث المؤمن مؤمنا والكافر كافرا.
وقال سعيد بن جبير: كما كتب عليكم تكونون.
وقال القرظي: من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة، صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، ومن ابتدأ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدأ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء كإبليس والسحرة.
وهذا القول اختيار القفال، قال: بدأكم في الخلق شقيا وسعيدا، وكذلك تعودون على الشقاء والسعادة.
ويدل على صحة هذه الأقوال ما
352 - حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ شَيْخُ الإِسْلامِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ مُحَمَّدٍ السُّلَمِيُّ، أنا جَدِّي، أنا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، أنا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرٍ
وقال الحسن، ومجاهد: كما بدأكم، فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.
وهذا القول اختيار الزجاج، لأنه قال: احتج الله تعالى عليهم في إنكارهم البعث فقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] أي: فليس بعثكم بأشد من ابتدائكم.
واختاره أبو علي الفارسي، وقال: الآية من باب حذف المضاف، والتقدير: كما بدأ خلقكم، ثم حذف المضاف.
وقيل: كما بدأكم: قوله: تعودون معناه: يعود خلقكم، ثم حذف المضاف، وصارت المخاطبة في الفعل، فقيل: تعودون.
وقوله: فريقا هدى: قال ابن عباس: أرشد إلى دينه وهم أولياؤه.
{وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30] وهم أولياء الشيطان، فخذلهم الله، فصاروا أولياء لإبليس، ومعنى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30] أي: بالكلمة الأزلية، والإرادة السابقة.(2/361)
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31} قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {32} قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {33} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ {34} } [الأعراف: 31-34] قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]
353 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَطَّارُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ، نا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، نا شُعْبَةُ، نا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسْلِمًا الْبَطِينَ يُحَدِّثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَعَلَى فَرْجِهَا خِرْقَةٌ، وَهِيَ تَقُولُ: الْيَوْمُ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَلْبَسُوا ثِيَابَهُمْ وَلا(2/362)
يَتَعَرَّوْا
وقال الكلبي: الزينة ما وارى العورة عند كل مسجد كطواف أو صلاة.
وقال طاوس: لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج، ولكن كان أهل الجاهلية يطوف أحدهم بالبيت عريان، ففي ذلك يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] .
وهذا قول جماعة المفسرين.
وقوله: وكلوا واشربوا كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام في أيام حجهم إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: نحن أحق أن نفعل.
فقال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] بتحريم ما أحللت لكم من اللحم والدسم، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] يعني: الكافرين الذين فعلوا ذلك.
قوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] أي: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] يعني: ما حرموه على أنفسهم أيام حجهم من اللحم والدسم، {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] قال الفراء: {قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 32] مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة.(2/363)
وهذا معنى قول ابن عباس والمفسرين: شارك المسلمين المشركون في الطيبات في الحياة الدنيا، فأكلوا من طيبات طعامها، ولبسوا من خيار ثيابها، ونكحوا من صالح نسائها، ثم يخلص الله تعالى الطيبات في الآخرة للذين آمنوا، وليس للمشركين فيها شيء.
وقرأ نافع: خالصةٌ رفعا على أنه خبر بعد خبر كما تقول: زيد عاقل لبيب.
والمعنى: قل هي ثابتة للمؤمنين في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة.
قوله: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الأعراف: 32] نبينها، لقوم يعلمون: أني أنا الله لا شريك لي.
قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] قال ابن عباس: يريد: سر الزنا وعلانيته.
والإثم: قال الضحاك: الذنب الذي لا حد فيه.
وقال السدي: الإثم المعصية.
وقال عطاء: يريد الخمر.
قال ابن الأنباري: الإثم لا يكون من أسماء الخمر، لأن العرب ما سمتها إثما قط، لا في الجاهلية ولا في الإسلام ولكن قد تكون الخمر داخلة تحت الإثم كقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] .
والبغي ظلم الناس وهو أن يطلب ما ليس له، و {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [الأعراف: 33] قال مقاتل: ما لم ينزل به كتابا فيه حجة بأن معه شريكا.
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] يعني: من تحريم الحرث والأنعام.
في قول مقاتل، وقال غيره: هذا عام في تحريم القول في الدين من غير يقين.
قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الأعراف: 34] قال عطاء،(2/364)
والحسن، وابن عباس: يعني أجل الهلاك والعذاب، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34] للعذاب لا يتأخرون ولا يتقدمون حتى يعذبوا، وذلك حين سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العذاب، فأنزلت هذه الآية.
{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {35} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {36} فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ {37} قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ {38} وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ {39} } [الأعراف: 35-39] قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} [الأعراف: 35] قال ابن عباس: فرائضي وأحكامي.
فمن اتقى: قال: يريد: اتقاني، وخافني، وأصلح: ما بيني وبينه {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 35] إذا خاف الناس {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] إذا حزنوا، ثم ذكر المكذبين فقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 36] الآية.
قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: 37] أيّ ظلم أشنع من الكذب على الله؟ ومعنى {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: 37] قال ابن عباس: جعل له صاحبة وولدا وشريكا.
{أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأعراف: 37] بالقرآن، {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: 37] ما كتب لهم من العذاب، وقضي عليهم وهو سواد الوجه، وزرقة العيون.
قال عطية عن ابن عباس: كتب لمن يفتري على الله تعالى أن وجهه مسود واحتج بقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] وقال الربيع، وابن زيد، والقرظي: {نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: 37] ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار والآجال، فإذا فنيت {جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} [الأعراف: 37] قال ابن عباس: يعني الملائكة يقبضون(2/365)
أرواحهم.
{قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 37] سؤال تبكيت وتقريع، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [الأعراف: 37] بطلوا وذهبوا، {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأعراف: 37] اعترفوا عند معاينة الموت، وأقروا على أنفسهم بالكفر.
قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38] أي: قال الله لهم ادخلوا في أمم، يعني: مع أمم كافرة {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} [الأعراف: 38] من هذه الأمم النار، لعنت أختها يعني التي تسبقها إلى النار، وهي أختها في الدين لا في النسب، قال ابن عباس: يريد: يلعنون من كان قبلهم.
وقال الزجاج: لعنت أختها لأنهم ضل بعضهم بإتباع بعض.
{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا} [الأعراف: 38] تداركوا وتلاحقوا فيها {جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 38] يعني: آخرهم دخولا النار وهم الأتباع، لأولاهم دخولا النار وهم القادة والرؤساء: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38] قال ابن عباس: لأنهم شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها، {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف: 38] أَضْعِفْ عليهم العذاب، بأشد ما تعذبنا به، قال: الله تعالى: لكل ضعف أي: للتابع والمتبوع عذاب مضاعف، لأنهم قد دخلوا في الكفر جميعا، {وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38] ما لكل فريق من الكافرين منكم من العذاب.
{وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39] قالت الرؤساء للأتباع: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [الأعراف: 39] تخفيف من العذاب، لأنكم كفرتم كما كفرنا.(2/366)
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ {40} لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {41} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {42} وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {43} } [الأعراف: 40-43] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 40] أي: بحججنا وأعلامنا التي تدل على نبوة الأنبياء، وتوحيد الله تعالى، واستكبروا عنها: ترفعوا عن الإيمان بها، والانقياد لها {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف: 40] أي: لدعائهم ولا لأعمالهم، ولا لشيء مما يريدون به الله تعالى، وقال الضحاك، عن ابن عباس: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، وتفتح لأرواح المسلمين.
{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] الولوج: الدخول، والسم: ثقب الإبرة، والخياط: ما يخاط به، والمعنى: لا يدخلون الجنة أبدا، وذلك: أن الشيء إذا علق كونه بما لا يجوز كونه، استحال كونه، كما يقال: لا يكون هذا حتى يشيب الغراب ويبَيضّ القار.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40] ومثل ما وصفنا نجزي من كذب بآياتنا واستكبر عن الإيمان بها.
قوله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف: 41] أي:(2/367)
فراش، وهو كل ما يمهد: أي: يبسط ويفرش، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] وهي: كل ما يغشاك، أي: يسترك.
قال المفسرون: هذا إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب، فلهم منها غطاء ووطاء، وفراش ولحاف، {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 41] قال ابن عباس: يريد الذين أشركوا به، واتخذوا من دونه إلها.
قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42] وسع الإنسان: ما يقدر عليه، وليس معنى الوسع بذل المجهود وأقصى الطاقة، والله تعالى لم يكلف العباد ما يشق ويتعذر عليهم ولكنه كلفهم ما يطيقون، ولا يعجزون عنه، وقد قال معاذ بن جبل في الآية: إلا يسرها، لا عسرها، ولو كلفها طاقتها لبلغت مجهودها.
وقوله: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42] فصل بين الابتداء والخبر بما ليس بأجنبي، لأنه ذكر عملهم الصالح، ذكر أن ذلك العمل مما يسعهم ولا يعسر عليهم.
قوله تعالى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] النزع: قلع الشيء من مكانه، والغل: الحقد الكامن في الصدور، والمعنى: أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في الدنيا، وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه، فقال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير من الذين قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] .
354 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، نا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ فِي قَوْلِهِ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، وَعَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُخَلَّصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ، فَيُحْبَسُونَ عَلَى(2/368)
قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا، أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ.
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَحَدِهِمْ أَهْدَى بِمَنْزِلَةٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا»
وقوله: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] إذا استقر أهل الجنة في منازلهم، قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف: 43] أي: لهذا الثواب، بما وفقنا له من العمل الذي أدى إلى هذا، وهذا معنى قول الزجاج: هدانا لما صيَّرنا إلى هذا.
وقوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43] دليل على أن المهتدي مَن هداه الله، وأن من لم يهده الله لم يهتد، وقوله: {لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] هذا من قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا، قالوا: لقد جاءت رسل ربنا بالحق، {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} [الأعراف: 43] قيل لهم هذه تلكم الجنة التي وعدتم بها في الدنيا، أورثتموها: أوتيتم ميراثا من الكفار بإيمانكم وكفرهم، وذلك أنه ما من أحد إلا وله منزل في الجنة، ثم يقال لأهل الكفر يوم القيامة بعد ما يرون منازلهم في الجنة: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله.
ثم يقال: يا أهل الجنة، رثوهم بما كنتم تعملون، فيقسم بين أهل الجنة منازلهم.
355 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ الْمُطَوَّعِيُّ، أنا جَدِّي، أنا أَبُو عَمْرٍو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرَشِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْوَرَّاقُ، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصَّفَّارُ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلٌ مِنَ النَّارِ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّهُ يَرِثُ الْمُؤْمِنَ مَنْزِلَهُ مِنَ النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ يَرِثُ الْكَافِرَ مَنْزِلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ»
فذلك قوله: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] قال ابن عباس: توحدون الله تعالى وتقومون بفرائضه.(2/369)
{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ {44} الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ {45} } [الأعراف: 44-45] قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} [الأعراف: 44] قال ابن عباس: وجدنا ما وعدنا ربنا في الدنيا من الثواب حقا.
{فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] وهذا سؤال تعيير وتقرير، قالوا نعم، وقرأ الكسائي: نعِم بكسر العين، وهما لغتان في بعض الكلام، والمعروف بفتح العين، {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44] فنادى مناد أسمع الفريقين: {أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44] وقرئ مخففا: أن لعنة الله رفعا، على معنى أنه لعنةُ الله، ثم حذف الإضمار وخففت، كقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، ثم وصف الظالمين فقال {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأعراف: 45] يمنعون الناس عن طاعة الله، ويبغونها عوجا: قال ابن عباس: يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه الله.
وهم بالآخرة أي: بالدار الآخرة والمصير إلى الله كافرون.
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ {46} وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {47} } [الأعراف: 46-47] وبينهما يعني: بين أهل الجنة وأهل النار حجاب: وهو الأعراف التي قال الله تعالى فيها: وعلى(2/370)
الأعراف: وهي جمع عرف وهو كل عال مرتفع، قال ابن عباس: يريد سور الجنة، وهو سور بين الجنة والنار.
وقوله: رجال قال ابن عباس والمفسرون: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فمنعتهم حسناتهم من النار ومنعتهم سيئاتهم من الجنة، فيقومون على سور الجنة، ثم يدخلهم الله الجنة برحمته، وهم آخر من يدخل الجنة.
وقوله: {يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46] يعرفون أصحاب الجنة ببياض وجوههم، وأهل النار بسواد وجوههم، لأن موضعهم مرتفع، فهم يرون الفريقين، {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 46] إذا نظروا إلى أهل الجنة سلموا عليهم، لم يدخلوها: لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون: في دخولها.
قال حذيفة: لم يكن الله ليخيب طمعهم.
وقال الحسن: والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم.
{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف: 47] التلقاء: جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، يقال: هو تلقاؤك كقولك هو حذاؤك، قال الكلبي: إذا نظروا إلى أهل النار تعوذوا بالله منها، وقالوا {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 47] .(2/371)
{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ {48} أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ {49} } [الأعراف: 48-49] قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 48] ينادي أصحاب الأعراف قوما من أهل النار رؤساء المشركين، فيقولون لهم: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} [الأعراف: 48] الأموال واستكبارهم عن عبادة الله ثم يرون في الجنة جماعة من ضعفاء المسلمين وفقراءهم، وهم: مثل بلال، صهيب، عمار، خباب، فيقولون للمشركين: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} [الأعراف: 49] حلفتم وأنتم في الدنيا: {لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف: 49] ، وهذا استفهام إنكار، ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 49] حين يخاف أهل النار، {وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49] حين يحزنون.
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ {50} الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ {51} } [الأعراف: 50-51] قوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 50] الآية: قال عطاء، عن ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس، فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فنظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم، فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل جهنم، فلم يعرفوهم، قد اسودت وجوههم، وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50] قال السدي، وابن زيد: يعني: الطعام، قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان معذبا.
فأعلمهم أهل الجنة أن الله حرم طعامهم وشرابهم على أهل النار بقولهم: {إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] ، وهذا تحريم منع، لا تحريم تعبد.
356 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْمَارَوْدِيُّ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدُوَيْهِ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ(2/372)
مَنْصُورٍ الشِّيعِيُّ، نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، نا مُوسَى بْنُ الْمُغِيرَةِ، نا أَبُو مُوسَى الصَّفَّارُ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ أَوْ سُئِلَ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ، أَمَا رَأَيْتَ أَهْلَ النَّارِ لَمَّا اسْتَغَاثُوا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالُوا: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ "
357 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَجَاءٍ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، نا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، نا أَبُو قُبَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: مَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ بَاعَدَهُ اللَّهُ بِهَا مِنَ النَّارِ بِقَدْرِ شَوْطِ فَرَسٍ
358 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سَمَاعَةَ الْحَضْرَمِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، نا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ سَقَى شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ، حَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ بِكُلِّ شَرْبَةٍ سَبْعِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَإِذَا سَقَاهَا حَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ عَشْرَ رِقَابٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ»
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50] قال: ينادي الرجل أخاه: يا أخي، قد احترقت فأغثني، فيقول: إن الله حرمهما على الكافرين.(2/373)
359 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي عُمَرَ النَّيْسَابُورِيُّ، أنا حَمْزَةُ بْنُ شَبِيبٍ الْمَعْمَرِيُّ، أنا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أنا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أنا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقَرَظِيُّ، بَلَغَنِي، أَنَّهُ لَمَّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ شَكْوَاهُ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، قَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَرْسِلْ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ، فَيُرْسِلُ إِلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْجَنَّةِ الَّتِي ذَكَرَ شَيْئًا يَكُونُ لَكَ شِفَاءً، فَخَرَجَ الرَّسُولُ، حَتَّى وَجَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ جَالِسًا مَعَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عَمَّكَ يَقُولُ لَكَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي كَبِيرٌ ضَعِيفٌ سَقِيمٌ، فَأَرْسِلْ إِلَيَّ مِنْ جَنَّتِكَ هَذِهِ الَّتِي تَذْكُرُ مِنْ طَعَامِهَا وَشَرَابِهَا شَيْئًا يَكُونُ لِي فِيهِ شِفَاءٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَرَجَعَ إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ: بَلَّغْتُ مُحَمَّدًا الَّذِي أَرْسَلْتُمُونِي بِهِ فَلَمْ يَجْرِ إِلَيَّ شَيْئًا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ، فَحَمَلُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى أَرْسَلَ رَسُولا مِنْ عِنْدِهِ، فَوَجَدَهُ الرَّسُول فِي مَجْلِسِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا»
قوله: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} [الأعراف: 51] قال ابن عباس: يريد: المستهزئين، والمعنى: تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم، واستهزءوا به، فاليوم ننساهم: قال ابن عباس: نتركهم في جهنم.
{كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51] كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، يعني: تركهم العمل بطاعة الله لذلك اليوم، {وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51] ، ما: في موضع جر، بالعطف على ما في قوله كانوا، وما بمعنى المصدر، أي: ولجحودهم بآياتنا.
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {52} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {53} } [الأعراف: 52-53] قوله: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ} [الأعراف: 52] يعني القرآن، {فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: 52] بيناه بعلم لم يقع منا فيه سهو ولا غلط، هدى ورحمة: قال الزجاج: أي: فصلناه هاديا وذا رحمة لقوم يؤمنون: به، وهذا يدل على أن القرآن جعل هدى لقوم أريد به هدايتهم دون غيرهم ممن كذب به، قوله: هل ينظرون أي: ما ينظرون إلا تأويله، يريد: عاقبته، وما وعد الله فيه من البعث والنشور، والعقاب والحساب، والمعنى: كأنهم ينتظرون ذلك وإن كانوا جاحدين،(2/374)
لأنه يأتيهم لا محالة.
وقوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] قال ابن عباس: يريد يوم القيامة.
{يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 53] أي: تركوا العمل له، والأيمان به من قبل مجيئه.
{قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53] آمنوا وصدقوا حين لا ينفعهم ذلك، {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [الأعراف: 53] يطلبون شافعا يشفع لهم، أو: هل نرد: إلى الدنيا {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف: 53] نوحد الله ونؤمن برسله.
قال الله تعالى: {قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 53] أهلكوها بالعذاب وصاروا إلى الخزي، {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53] سقط عنهم ما كانوا يقولون من أن مع الله إلها آخر.
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {54} ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55} وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {56} وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57} وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ {58} } [الأعراف: 54-58] قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] قال المفسرون: أراد في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فكيف يكون يوم ولا شمس ولا سماء.
وهذا معنى قول مجاهد: إن ذلك رتب على الأيام الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة فاجتمع الخلق فيه.
قال ابن الأنباري: أراد الله أن يوقع في كل يوم أمرا من خلقه، تستعظمه الملائكة وجميع المشاهدين له.
وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] أي: أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك بعد خلق السموات والأرض.
وهذا قول(2/375)
الفراء، وأبي العباس، والزجاج، وقال آخرون: استوى معناه: استولى، واحتجوا بقول البعيث:
ثم استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق
وخص العرش بالإخبار عن الاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات.
وقوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف: 54] ، وقرئ: بالتشديد والإغشاء والتغشية إلباس الشيء بالشيء، قال الزجاج: والمعنى: أن الليل يأتي على النهار ويغطيه، ولم يقل: ويغشي النهار الليل، لأن في الكلام دليلا عليه، وهذا كما قال: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ولم يذكر البرد للعلم به، وقوله: يطلبه حثيثا: الحثيث: المعجل السريع، يقال: حثثت فلانا إذا أمرته بالعجلة، قال ابن عباس: يطلب الليل النهار لا غفلة له.
والمعنى: أن الليل يستمر في طلب النهار على منهاج من غير فتور يوجب التأخر عن وقته.
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] أي: وخلق هذه الأشياء جاريات في مجاريها بأمر الله تعالى، ومعنى تسخيرهن: تذليلهن لما يراد منها من طلوع وسير وأفول على حسب إرادة المدبر فيهم، وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الاستئناف، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} [الأعراف: 54] لأنه خلقهم، والأمر، له أن يأمر في خلقه بما يشاء، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] قال ابن عباس: تبارك الله، أي: ارتفع، والمتبارك: المرتفع.
وقال ابن الأنباري: تبارك الله: باسمه يتبرك في كل شيء.
وقال أهل المعاني: تبارك الله، استحق التعظيم فيما لم يزل ولا يزال.(2/376)
وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] التضرع: التذلل والتخشع والخفية خلاف العلانية، ويقال: خِفية بالكسر، والسنة والأدب في الدعاء أن يكون خفيا لهذه الآية، ولما روي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خير الرزق ما يكفي، وخير الذكر الخفي» .
وقال الحسن: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا، ولقد أدركنا أقواما ما كان وجه الأرض من عمل ويقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله سبحانه يقول {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وأن الله ذكر عبدا صالحا، ورضي فعله، فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] .
قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] أي: بالجهر في الدعاء.
قاله الكلبي، ومعنى المعتدين: المجاوزين ما أمروا به.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 56] قال المفسرون: الإفساد في الأرض: العمل فيها بالمعاصي وسفك الدماء.
وقوله: بعد إصلاحها بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا معنى قول الحسن، والسدي، والضحاك، والكلبي، وقال عطية: معناه: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم.
وعلى هذا معنى قوله: بعد إصلاحها بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب، {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف: 56] قال ابن عباس: خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه.
{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] قال الزجاج: إنما قيل قريب لأن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد.
ونحو هذا قال الأخفش.(2/377)
وأما الرحمة بمعنى الإنعام، فلذلك ذكر، وقال سيعد بن جبير: الرحمة ههنا الثواب.
وقال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] .
قوله: وهو الذي يرسل الرياح نشرا جمع نشور، مثل رسول ورسل، والنشور بمعنى المنشر، كالركوب بمعنى المركوب، يقال: أنشر الله الريح، فنشرت.
أي: أحياها، فحييت، وخفف ابن عامر العين فقرأ: نشرا، كما يقال: كتب ورسل، وقرأ حمزة: نشرا وهو مصدر نشرت الشيء ضد طويته، والمراد بالمصدر المفعول، أرسلها الله منشورة بعد انطوائها، وقرأ عاصم بشرا بالباء جمع بشور، أي: تبشر بالمطر والرحمة، من قوله: {يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا} [الأعراف: 57] .
وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ(2/378)
رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] قال الكلبي: قدام مطره، والرياح تتقدم المطر وتؤذن به.
{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} [الأعراف: 57] أي: حملت هذه الرياح سحابا ثقالا: بما فيها من الماء، يقال: أقل فلان الشيء إذا حمله، {سُقْنَاهُ} [الأعراف: 57] سقنا السحاب لبلد ميت: قال ابن الأنباري: إلى بلد يحتاج إلى المطر لانقطاعها عنه، فأنزلنا به: بذلك البلد {الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ} [الأعراف: 57] بذلك الماء {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى} [الأعراف: 57] نحيي الموتى مثل ذلك الإحياء الذي وصفناه في البلد الميت، فإحياء الأموات كإحياء الأرض بالنبات، لعلكم تذكرون: قال الزجاج: لعلكم بما بيناه لكم تستدلون على توحيد الله، وأنه قادر على بعث الأموات.
قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] الآية: قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض العذبة التربة، وبالأرض السبخة الملحة، شبه المؤمن الذي إذا سمع القرآن وعاه وعقله، وانتفع به، فبان أثره عليه بالبلد الطيب، إذ كان البلد الطيب يمرع يخصب، ويحسن أثر المطر عليه، وشبه الكافر الذي يسمع القرآن، ولا يؤثر فيه أثرا محمودا بالبلد الخبيث إذ كان لا يمرع، ولا يخصب ولا يتبين أثر المطر فيه.
وقوله: والذي خبث: قال الكلبي: هو السبخة من الأرض.
{لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: 58] النكد: العسر الممتنع من إعطاء الخير، والمصدر النكد، يقال: نكد نكدا فهو نكد وأنكد.
قال ابن الأنباري: النكد: العسر البطيء البعيد الخير، وأنشد:
لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت تافها نكدا
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {59} قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {60} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي(2/379)
رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {61} أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {62} أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {63} فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ {64} } [الأعراف: 59-64] قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] قرئ: رفعا وخفضا، فأما من خفض، فقال الفراء: يجعل غيرِه نعتا للإله وقد يرفع، فيجعل تابعا للتأويل في إله ألا ترى أن الإله لو نزعت منه مِن كان رفعا؟ ونحو هذا قال الزجاج سواء، قال: الرفع على معنى: ما لكم إله غيره، ودخلت من مؤكدة، ومن خفض جعله صفة لإله.
وقوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} [الأعراف: 62] وقرأ أبو عمرو: أبْلِغكم مخففة من الإبلاغ، وكلاهما قد جاء في التنزيل، فالتخفيف قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود: 57] والتشديد قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] .
وقوله: وأنصح لكم قال ابن عباس: أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه، وأحب لكم ما أحب لنفسي.
{وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62] وأعلم أن ربي غفور لمن رجع عن معاصيه، وأن عذابه أليم شديد لمن أصر على معاصيه.
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 63] قال ابن عباس: موعظة من الله.
{عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} [الأعراف: 63] قال الفراء: على بمعنى مع ههنا.
وقال ابن قتيبة: على لسان رجل منكم.
وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64] قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة(2/380)
الله وقدرته وشدة بطشه.
وقال الزجاج: عموا عن الحق والإيمان، يقال: رجل عم.
إذا كان أعمى القلب، ورجل أعمى.
في البصر.
قال زهير:
ولكنني عن علم ما في غد عم
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ {65} قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {66} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {67} أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ {68} أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {69} قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {70} قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ {71} فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ {72} } [الأعراف: 65-72] وقوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65] أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، يعني: ابن أبيهم، قال الكلبي: ليس بأخيهم في الدين ولكن في النسب.
{قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف: 65] قال ابن عباس: وحدوا الله.
{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] أفلا تخافون نقمته؟ {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] في حمق وجهل، قال(2/381)
ابن عباس: تدعونا إلى دين لا نعرفه.
{وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] فيما جئت به، وقال مقاتل: فيما تقول من نزول العذاب.
وقوله: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68] قال الضحاك: أمين على الرسالة.
وقال الكلبي: كنت فيكم قبل اليوم أمينا.
وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] يذكرهم النعمة عليهم، يقول: اذكروا أن الله أهلك قوم نوح واستخلفكم بعدهم، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69] فضيلة في الطول، قال ابن عباس: يريد: أنكم أجسم وأتم من آبائكم الذين ولدوكم.
وكان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا، {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} [الأعراف: 74] نعم الله عليكم، وإحداها ألًى وإليٌ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69] قال ابن عباس: كي تسعدوا وتبقوا في الجنة.
وقوله: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 70] من نزول العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70] في أن العذاب نازل إلينا، وقال عطاء: إن كنت من الصادقين في نبوتك وإرسالك إلينا.
قوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 71] أي: وجب ونزل، ومثله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134] أي: أصابهم ونزل بهم.
وقوله: {مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} [الأعراف: 71] قال ابن عباس: عذاب وسخط.
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [الأعراف: 71] قال المفسرون: كانت لهم أصنام يعبدونها، سموها أسماء مختلفة، فلما دعاهم الرسول إلى التوحيد استكبروا.
وقوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] أي: من حجة وبرهان لكم في عبادتها، {فَانْتَظِرُوا} [الأعراف: 71] العذاب، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71] للذي يأتيكم من العذاب، في تكذيبكم إياي، وما بعد هذه الآية ظاهر إلي قوله: {(2/382)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73} وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {74} قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ {75} قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {76} فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ {77} فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {78} فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ {79} } [الأعراف: 73-79] {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73] أي: دالة على قدرة الله ورسالته، ولهذا جاز أن يكون آية حالا لأنها بمعنى دالة، فكانت تلك الناقة آية من سائر النوق، لأنها خرجت من حجر صلد تمخض واضطرب، كاضطراب المرأة عند الولادة، وقوله: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ} [الأعراف: 73] أي: سهل الله عليكم أمرها، فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها، {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73] ولا تصيبوها بعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] وعيد لهم، {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} [الأعراف: 74] أي: أهلكهم واستخلفكم بعدهم، {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 74] أعطاكم فيها منازل ومساكن، وهو قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف: 74] قال ابن عباس: تبنون القصور بكل موضع، {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74] كانوا يشققون بيوتا في الجبال يسكنونها شتاء، ويسكنون القصور بالصيف، ويروى: أنهم لطول أعمارهم كانوا يحتاجون إلى أن ينحتوا بيوتا في الجبال، لأن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم.
قوله: قال الملأ: قال الفراء: الملأ: القوم من الرجال ليس فيهم امرأة.
وقال ابن عباس: يريد الأشراف.
الذين استكبروا أي: عن عبادة الله، للذين استضعفوا يريد: المساكين {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] بدل من قوله: للذين استضعفوا لأنهم المؤمنون {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} [الأعراف: 75] استفهام(2/383)
إنكار، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 75] أقرُّوا بالإيمان بصالح وبما أرسل به، فقال المستكبرون: {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ {76} فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: 76-77] قال الأزهري: العقر عند العرب قطع عرقوب البعير، ثم جعل النحر عقرا، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره.
وقوله: {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 77] يقال: عتا يعتو عتوا.
إذا استكبر، ومنه يقال: جبار عات.
قال مجاهد: العتو: الغلو في الباطل.
والمعنى: عصوا الله، وتركوا أمره في الناقة، وكذبوا نبيهم، وقالوا: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 77] من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77] {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [الأعراف: 78] قال الفراء، والزجاج: هي الزلزلة الشديدة.
وهو قول الكلبي، يقال: رجف الشيء يرجف رجفا ورجفانا.
إذا تحرك، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ} [الأعراف: 78] يعني: بلدهم، {جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78] قال ابن عباس: خامدين ميتين لا يتحركون.
وقال ابن الأنباري: قال المفسرون: معنى جاثمين: بعضهم على بعض، أي: عند نزول العذاب بهم سقط بعضهم على بعض كما يجثم الطير.
360 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدُوَيْهِ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّنْعَانِيُّ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَّادٍ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجْرِ، قَالَ: " لا تَسْأَلُوا الآيَاتِ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمُ صَالِحٍ، فَكَانَتِ النَّاقَةُ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ، وَتَصْدُرُ(2/384)
مِنْ هَذَا الْفَجِّ، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَعَقَرُوهَا، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، فَأَهْمَدَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلا وَاحِدًا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ، قِيلَ: مَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَبُو رِغَالٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ "
قوله: فتولى عنهم لما نزل بهم العذاب تولى صالح عنهم {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79] قال ابن عباس: خوفتكم من الله ومن عقابه.
{وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79] لا تجيبونهم إلى ما يدعونكم إليه، وخطابه إياهم بعد كونهم جاثمين كخطاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلى بدر، فقيل له: أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم، لكنهم لا يقدرون على الجواب.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ {80} إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ {81} وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ {82} فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ {83} وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ {84} } [الأعراف: 80-84] قوله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] يعني: إتيان الذكران، في قول جميع المفسرين {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] قالوا: ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط.
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} [الأعراف: 81](2/385)
يعني: الفاحشة، وهذا استفهام إنكار، {شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} [الأعراف: 81] يقال: شها يشها شهوة إذا اشتهى، والمعنى: تشتهونهم، فتأتونهم وتتركون النساء، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] مجاوزون ما أمرتم به.
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ} [الأعراف: 82] يعني: لوطا وأتباعه من المؤمنين، {مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يتنزهون عن أدبار الرجال، وهذا إخبار عن ربهم على نبيهم بأقبح جواب حين جعلوا تنزههم عن الفاحشة سببا لإخراجهم إياه من القرية، وهذا معنى قول قتادة: عابوهم بغير عيب، وذموهم بغير ذم.
فأنجيناه وأهله يعني: ابنتيه، إلا امرأته يعني: زوجته {كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83] الباقين في عذاب الله.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا} [الأعراف: 84] أمطر الله عليهم حجارة من السماء، كما قال في آية أخرى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر: 74] .
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {85} وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {86} وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {87} قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ {88} قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا(2/386)
وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ {89} وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ {90} فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ {91} الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ {92} فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ {93} } [الأعراف: 85-93] قوله: وإلى مدين وهم قبيلة من ولد إبراهيم، بعث الله إليهم شعيبا وهو قوله: أخاهم شعيبا وهو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم الخليل.
وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 85] قال عطاء: موعظة.
{فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف: 85] قال المفسرون: إن قوم شعيب كانوا أهل كفر بالله، وبخس للمكيال والميزان، فأمرهم شعيب بتوحيد الله، وإتمام الكيل والميزان.
{وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85] يعني: من المكيل والموزون، {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 85] لا تعملوا فيها بالمعاصي، بعد أن أصلحها الله بالأمر بالعدل وإرسال الرسل، {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف: 86] قال الكلبي، والسدي، وقتادة: لا تقعدوا على طريق الناس تخوفون أهل الإيمان بشعيب.
{وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ} [الأعراف: 86] قال الوالبي، عن ابن عباس: كانوا يجلسون في الطريق، فيخبرون من يأتي عليهم أن شعيبا كذاب فلا يفتننكم عن دينكم.
وتبغونها عوجا قال مجاهد: تلتمسون لها الزيغ.
وقال الحسن: لا تستقيمون على طريق الهدى.
وقال الزجاج: يريد الاعوجاج والعدول عن القصد.
وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] قال الكلبي: كثر عددكم، وذلك أنه كان مدين بن إبراهيم وزوجه بنت لوط فولدت، حتى كثر عدد أولادها.
{وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86] يعني: آخر أمر قوم(2/387)
لوط.
{وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا} [الأعراف: 87] أي: إن اختلفتم في رسالتي فصرتم فريقين: مكذبين، ومصدقين {فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا} [الأعراف: 87] أي: بتعذيب المكذبين وانجاء المصدقين.
{وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف: 87] لأنه الحكم العدل الذي لا يجور فكان من جواب قومه أن {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف: 88] عن عبادة الله وتوحيده: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] ولا نقاركم على مخالفتنا، فقال شعيب: {أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88] يعني: أوتجبروننا على ملتكم وإن كرهنا ذلك؟ {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} [الأعراف: 89] وذلك أنهم كانوا يدعون أن الله أمرهم بما كانوا عليه من الكفر، فقال شعيب: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف: 89] أي: من ملتكم إن عدنا فيها كنا مفترين على الله، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] أي: ما كنا لنرجع في ملتكم بعد إذ وقفنا على أنها ضلالة إلا أن يريد الله إهلاكنا، فإن الله يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، قال الزجاج: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأعراف: 89] قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون.
{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف: 89] في كل أمورنا، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي: احكم واقض.
وقال الفراء: وأهل عمان يسمون القاضي: الفاتح لأنه يفتح مواضع الحق.
وقال الزجاج: المعنى: أظهر أمرنا، حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف بأن تنزل بهم من العذاب والهلكة ما يظهر أن الحق معنا.
وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92] أي: كأن لم يقيموا في دارهم ولم يكونوا هناك بعد الإهلاك، يقال: غني القوم في مكانهم.
إذا أقاموا به، والمغنى المنزل.
وقوله: {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93] أي: كيف يشتد حزني عليهم إذا أهلكهم الله؟ يقال: آسيت على الشيء آسى أسى.
إذا اشتد حزنك عليه، وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا آسى عليهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ {94} ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {95} وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {96} }(2/388)
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94] قال ابن عباس: يريد في مدينة.
والقرى في كتاب الله كله المدائن، وقوله: من نبي هو محذوف الصفة لأن التقدير من نبي فكذب، أو فكذبه أهلها {إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأعراف: 94] يعني: الفقر والجوع والأسقام لعلهم يضرعون أي: يتذللون ويستكينون، {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: 95] يعني بالسيئة: البؤس والمرض، وبالحسنة: الغنى والصحة، والمعنى: أنه يعطيهم بدل ما كانوا فيه من البؤس والمرض، المال والصحة، أخبر الله أنه يأخذ أهل المعاصي بالشدة تارة وبالرخاء تارة، وقوله: حتى عفوا أي: كثروا وزادوا وكثرت أموالهم، يقال: عفا الشعر والوبر إذا كثر، وقال مجاهد: كثرت أموالهم وأولادهم.
{وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف: 95] يعني: لما صاروا على الرخاء قالوا: قد مس آباءنا من الدهر الشدة والرخاء، وتلك عادة الدهر ولم يكن ما مسنا عقوبة من الله فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم لم يقلعوا عن دينهم بما مسهم من الضراء.
وقوله: فأخذناهم بغتة أي: لما فسدوا على الأمرين جميعا أخذناهم بغتة، آمَنَ ما كانوا ليكون أعظم في الحسرة، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 95] بنزول العذاب، وإنما أخبر الله تعالى بهذا عن الأمم السالفة، فليعتبر أولئك المشركون الذين كانوا يكذبون محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96] قال ابن عباس: وحدوا الله واتقوا الشرك.
{لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96] قال: يريد: الأمطار والخصب وكثرة المواشي والأنعام، ولكن كذبوا الرسلَ فأخذناهم بالجدوبة والقحط {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] من الكفر والمعصية ثم خوف كفار مكة فقال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ {98} أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {99} أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ {100} } [الأعراف: 97-100] {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى} [الأعراف: 97] قال ابن عباس: يعني: مكة وما حولها {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} [الأعراف: 97] عذابنا بياتا ليلا {وَهُمْ نَائِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ} [الأعراف: 97-98] هذه واو العطف دخلت عليه همزة استفهام، وقرأ نافع أو بسكون الواو فيكون المعنى: أفأمنوا إحدى هذه العقوبات، والضحى صدر النهار وقت انبساط الشمس.(2/389)
قال الحسن: المعنى: أنهم لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلا ولا نهارا بعد تكذيب الرسل، وقوله: وهم يلعبون أي: وهم في غير ما ينفعهم ويعود عليهم بنفع، ومن اشتغل بدنياه وأعرض عن آخرته فهو كاللاعب، وقوله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: 99] قال المفسرون: مكر الله استدراجه إياهم بالنعمة والصحة ليبطروا ويتمادوا في المعصية والغي، فيكون ذلك في الحقيقة اضرارا بهم من حيث لا يشعرون.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: 100] يعني: كفار مكة ومن حولهم، يقول: أو لو نبين لهم أنا {لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] أي: أخذناهم وعاقبناهم كما عاقبنا من قبلهم، وقوله: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف: 100] قال الزجاج: هذا مستأنف منقطع عما قبله لأن قوله أصبنا ماض، ونطبع مستقبل، والمعنى: ونحن نطبع على قلوبهم.
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون معطوفا على أصبنا إذا كان بمعنى نصيب.(2/390)
وفي هذا تكذيب للقدرية، وبيان بأن الله إذا شاء طبع على قلب، فلا يفقه هدى، ولا يعي خيرا.
{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ {101} وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ {102} } قوله: {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا} [الأعراف: 101] يعني القرى التي أهلك أهلها، نتلو عليك من أخبارها، لما فيها من الاعتبار بما كانوا عليه من الاغترار، حتى أتاهم العذاب، {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [الأعراف: 101] بالمعجزات والآيات، {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأعراف: 101] بعد ما رأوها بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101] أي: مثل ذلك الذي طبع على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كتب عليهم ألا يؤمنوا أبدا.
قوله: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] قال ابن عباس: يريد: الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه حين أخرجهم من صلب آدم، حيث يقول: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] عاصين ناقضين للعهد.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {103} وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {104} حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {105} قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {106} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ {107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ {108} قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {109} يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {110} قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {111} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {112} } [الأعراف: 103-112](2/391)
قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 103] من بعد الأنبياء الذين جرى ذكرهم، موسى بآياتنا بما آتيناه من المعجزات {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا} [الأعراف: 103] قال ابن عباس: فكذبوا بها.
قال الزجاج: جعلوا بدل الإيمان بها الكفر.
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 103] فانظر بعين قلبك كيف فعلنا بهم، وكيف عاقبناهم.
قوله: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 105] ، على ههنا بمعنى الباء، قال الفراء: العرب تجعل على بمعنى الباء، يقولون: رميت على القوس، وبالقوس، وجئت على حال حسنة وبحال حسنة.
وفي حرف عبد الله: حقيق بأن لا أقول، والمعنى: أنا حقيق بأن لا أقول، وقرأ نافع: عليّ مشددة بالياء، قال الزجاج: المعنى واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق وهو أنه لا إله غيره، والمعنى: أن موسى عليه السلام قال: واجب علي أن لا أقول في وصف الله تعالى إلا ما هو الحق وهو توحيده، وتنزيهه عن الشريك.
{قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 105] قال ابن عباس: يعني: العصا.
{فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 105] أطلق عنهم وخلِّهم، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشاقة من نحو ضرب اللبن، ونقل التراب، وقوله: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107] الثعبان: الحية الضخم الذكر، وهو من أعظم الحيات، قال الكلبي: ملأت الحية دار فرعون، ثم فتحت فاها، فإذا شدقها ثمانون ذراعا، ثم شدت على فرعون لتبتلعه، فوثب فرعون عن سريره وهرب، وقام به بطنه ذلك اليوم أربع مائة مرة، ولم يستمسك بطنه بعد ذلك اليوم حتى هلك، ثم أدخل موسى يده جيب مدرعته، ثم أخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين لها شعاع ساطع يغلب شعاع الشمس، يضيء ما بين السماء والأرض، فذلك قوله: ونزع يده أي: أخرجها من جيبه، {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 108] ، فلما رأوا ذلك قالوا: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] يعنون أنه حاذق بالسحر، نسبوا ذلك إلى السحر.
{يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ} [الأعراف: 110] يا معشر القبط، من أرضكم: ويزيل ملككم(2/392)
بتقوية بني إسرائيل عليكم، فقال فرعون لما قال الملأ ذلك: فماذا تأمرون: قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به علي؟ {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111] ، وقرئ بالهمزة، وهما لغتان، يقال: أرجأت الأمر وأرجيته.
إذا أخرته، ومنه قوله تعالى: {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] ، و {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] ، فيهما القراءتان، والمعنى أخّره، وأخر أمره، ولا تعجل عليه، ثم(2/393)
طلبوا معارضة المعجزة بالحيلة، فقالوا: {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الأعراف: 111] قال ابن عباس: يريد: في مدائن صعيد مصر رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة، وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد، {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف: 112] {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {113} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {114} قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ {115} قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ(2/394)
عَظِيمٍ {116} وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {117} فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {118} فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ {119} وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {120} قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ {121} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {122} قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {123} لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ {124} قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ {125} وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ {126} } [الأعراف: 113-126] {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} [الأعراف: 113] مالا تعطينا {إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف: 113] لموسى، قال نعم أجابهم فرعون إلى ما سألوا من المال على الغلبة، كأنه قال: نعم لكم ذلك.
{وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف: 114] عندي في المنزلة.
قال الزجاج: أي: ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي، فقالت السحرة لموسى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ} [الأعراف: 115] عصاك، {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف: 115] ما معنا من الحبال والعصي، قال لهم موسى: ألقوا ما أنتم ملقون، {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ} [الأعراف: 116] قلبوها عن صحة إدراكها بما موهوا من تلطف الحيلة، حتى رأوا الحبال حيات، واسترهبوهم قال المبرد: أرهبوهم والسين زائدة.
وقال المؤرج: أفزعوهم.
وقال الزجاج: استدعوا رهبة الناس.
{وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا، فإذا هي حيات قد ملأت الوادي، يركب بعضها بعضا، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقّف: تبتلع وتلقم، وقرأ حفص تلقف مخففا، يقال: لقفت الشيء ألقفه لقفا.
إذا أخذته فأكلته وابتلعته، ومثله: تلقفته والتقفته.
قال المفسرون: لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وهو قوله: ما يأفكون يأتون بالإفك وهو الكذب، وذلك أنهم زعموا أن حبالهم حيات وكذبوا في ذلك، إنما كانوا جعلوا فيها الزئبق وصوروها بصور الحيات فاضطرب الزئبق، لأنه لا يستقر، قوله فوقع الحق قال الحسن، ومجاهد: ظهر.
وقال الفراء: فتبين الحق من السحر.
وذلك أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد، فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله تعالى، فذلك قوله: {وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 118] أي: زال وذهب بأن فقد ما عملوا به السحر من الحبال والعصي، فغلبوا هنالك أي: غلب فرعون وقومه عند ذلك الجمع، وانقلبوا، وانصرفوا من ذلك الموضع صاغرين ذليلين، {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] قال ابن عباس: خروا لله سامعين مطيعين.
{قَالُوا آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 121] قال فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: لا، {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {122} قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 122-123] أصدقتم موسى من قبل أمري إياكم؟ {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ} [الأعراف: 123] قال الكلبي:(2/395)
لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر، قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر، {لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123] عاقبة ما صنعتم، لأقطعن أيديكم الأيمان، وأرجلكم اليسرى، وهو قوله: من خلاف يعني من كل شق طرفا، {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف: 124] قالوا: {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الأعراف: 125] قال ابن عباس: راجعون إلى ربنا بالتوحيد والإخلاص.
{وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا} [الأعراف: 126] وما تكره منا شيئا ولا تطعن علينا، قال ابن عباس: ما لنا عندك من ذنب، ولا ركبنا منك مكروها تعذبنا عليه، إلا إيماننا بآيات ربنا.
يعني: ما أتى به موسى آمنوا بها أنها من عند الله، لا يقدر على مثلها إلا الله، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [الأعراف: 126] قال مجاهد: اصبر علينا الصبر عند الصلب والقطع حتى لا نرجع كفارا، وتوفنا مسلمين مخلصين على دين موسى.
{وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ {127} قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ {128} قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ {129} } [الأعراف: 127-129] قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 127] هذا إغراء من الملأ لفرعون على موسى، وإنكار أن يتركه مقيما على مخالفته، وأرادوا بالإفساد في الأرض: دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته، وتجهيلهم إياه، وقوله: ويذرك قال ابن الأنباري: الواو نائبة عن الفاء.
وهو قول الزجاج، قال: نصب ويذرك على جواب الاستفهام بالواو، والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى، وأن يذرك موسى وآلهتك وهي جمع إله، قال الكلبي عن ابن عباس: كان فرعون صنع لقومه(2/396)
أصنام صغارا، وأمرهم بعبادتها، وقال: أنا ربكم، ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] .
{قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [الأعراف: 127] قال ابن عباس: كان فرعون قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل، فلما كان من أمر موسى ما كان، أمر بإعادة القتل عليهم.
{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] وإنا على ذلك قادرون، فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال موسى لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف: 128] على ما يفعل بكم، {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] أطمعهم موسى أن يعطيهم الله أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم، والعاقبة للمتقين: قال ابن عباس: الجنة لمن اتقى الله.
وقال غيره: العاقبة ههنا النصر والظفر.
قالوا أوذينا بالقتل الأول، {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا} [الأعراف: 129] بالرسالة، {وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف: 129] بإعادة القتل على أبنائنا، {قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 129] فرعون وقومه، {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ} [الأعراف: 129] يملككم ما كان يملك فرعون وقومه، {فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129] قال الزجاج: فيرى ذلك بوقوعه منكم، لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم، إنما يجازيهم على ما يقع منهم.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {130} فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {131} وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ {132} فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ {133} وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ(2/397)
مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {134} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ {135} فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ {136} وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ {137} } [الأعراف: 130-137] قوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130] قال الزجاج: السنين في كلام العرب الجدوب، يقال: مسَّتْهم السنة، والمعنى السنة، وشدة السنة.
قال الفراء: بالسنين بالقحط والجدوبة عاما فعاما.
قال المفسرون: والسنين لأهل البوادي، {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130] لأهل القرى {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] قال الزجاج: وذلك أن أحوال الشر ترقق القلب، وترغب فيما عند الله، وفي الرجوع إليه، ألا ترى إلى قوله تعالى {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] ، قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} [الأعراف: 131] يعني الغيث والخصب والثمار والمواشي والألبان والسعة في الرزق والعافية والسلامة، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} [الأعراف: 131] أي: إنا مستحقوه على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا في بلادنا، ولم يعلموا أنه من الله تعالى، فيشكروا عليه، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الأعراف: 131] يعني القحط والجدب، {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131] يتشاءموا بهم، وقالوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 131] قال ابن عباس: شؤمهم عند الله ومن قبل الله، أي: إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] أن الذي أصابهم من الله تعالى.
قوله: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} [الأعراف: 132] ، مهما كلمة تستعمل للشرط والجزاء، أصلها: ما ما، الأولى للجزاء والثانية زيدت توكيدا، كما يزاد في سائر حروف الجزاء، نحو إما، ومتى ما، ثم أبدلوا من ألف ما الأولى هاء كراهة لتكرار اللفظ فصار مهما.
هذا قول الخليل وجميع البصريين، ومعنى الآية: أنهم قالوا لموسى: متى ما أتيتنا بآية مثل اليد والعصا لتسحرنا بها: جعلوا ذلك سحرا، فإنا لنا نؤمن بك ولن نصدقك، فلما كذبوه أرسل الله عليهم أنواع العذاب، وهو قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: 133] وهو الماء الذي يغشى كل مكان،(2/398)
قال المفسرون: لما أبى فرعون وقومه الإيمان دعا عليهم موسى فأرسل الله عليهم السماء بالماء، فامتلأت بيوت القبط ماء، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة، ودام ذلك عليهم سبعة أيام، فقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134] يكشف عنا فنؤمن لك.
فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، فأنبت الله لهم في تلك السنة ما لم ينبته قبل ذلك من الكلأ والزرع، فقالوا: ما كان ذلك الماء إلا نعمة علينا.
فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم حتى إن كانت لتأكل الأبواب والسقوف.
قال عطاء: بلغني أن الجراد لما سلط على قوم فرعون أكل أبوابهم، حتى أكل مساميرهم، وكانت لا تدخل بيوت بني إسرائيل، ولا يصيبهم من ذلك شيء.
ومما يذكر من الأخبار في الجراد ما
361 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ خَلَفٍ الْخَيَّاطُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، نا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ ابْنِهِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/399)
أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو عَلَى الْجَرَادِ، يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَهْلِكِ الْجَرَادَ، اللَّهُمَّ اقْطَعْ دَابِرَهُ، اللَّهُمَّ اقْتُلْ كِبَارَهُ، وَأَهْلِكْ صِغَارَهُ، وَأَفْسِدْ بَيْضَهُ، وَخُذْ بِأَفْوَاهِهِ مِنْ مَعَايِشِنَا وَأَرْزَاقِنَا، إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»
وأَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ، نا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ لُؤْلُؤ جَعْفَر بْن مُسْلِمِ بْنِ عُمَرَ الْخَرّازُ، نا دَاوُدُ بْنُ بَكْرٍ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنِي النَّصْرُ بْنُ وَاضِحٍ، نا أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ يَعْلَى، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِي صَدْرِ الْجَرَادِ مَكْتُوبٌ: جُنْدُ اللَّهِ الأَعْظَمُ " وروى أبو أمامة الباهلي، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن مريم بنت عمران سألت ربها أن يطعمها لحما لا دم له، فأطعمها الله الجراد» .
وقال الأوزاعي: " كان ببيروت رجل يذكر أنه رأى رجلا راكبا على جرادة، وعليه خفان طويلان، ويقول بيده: هكذا.
فحيثما أشار انساب الجراد إلى ذلك الموضع، فبلغنا أن ذلك كان ملك الجراد.
363 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَبِيبٍ الْوَرَّاقُ، نا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الشَّيْبَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، نا(2/400)
سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ، نا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنِي [محمد بن] عِيسَى بْنُ شَبِيبٍ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَلَّ الْجَرَادُ فِي سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاغْتَمَّ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ رَاكِبًا إِلَى الْيَمَنِ وَرَاكِبًا إِلَى الشَّامِ وَرَاكِبًا إِلَى الْعِرَاقِ يَسْأَلُونَ: هَلْ رَأَى مِنَ الْجَرَادِ شَيْئًا أَمْ لا؟ فَأَتَاهُ الرَّاكِبُ الَّذِي دَخَلَ الْيَمَنَ بِقَبْضَةٍ مِنْ جَرَادٍ، فَأَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا رَآهُ كَبَّرَ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «خَلَقَ اللَّهُ أَلْفَ أُمَّةٍ، مِنْهَا سِتُّ مِائَةٍ فِي الْبَحْرِ، وَأَرْبَعُ مِائَةٍ فِي الْبَرِّ، وَأَوَّلُ كُلِّ شَيْءٍ يَهْلِكُ مِنْ هَذِهِ الأُمَمِ الْجَرَادُ، فَإِذَا أُهْلِكَتْ تَتَابَعَتْ مِثْلُ النِّظَامِ إِذَا قُطِعَ سِلْكُهُ»
قال المفسرون: فعَجُّوا من ذلك، وأعطوا موسى عهد الله لئن كشف الله ذلك أن يؤمنوا، فدعا موسى فكشف الله الجراد، وكان قد بقى من غلاتهم بقية، فقالوا: قد بقى لنا ما هو كافينا، فما نحن بتاركي ديننا.
فبعث الله عليهم القمل، وهو الدَّبَى الصغار التي لا أجنحة لها.
وهذا قول مجاهد، والسدي، وقتادة، وقول ابن عباس في رواية عطاء، وقال في رواية سعيد بن جبير: القمل: السوس الذي يخرج من الحنطة.
وهو قول الحسن قال: القمل دواب سود صغار فتتبع القمل ما بقى من حروثهم، فأكله ولحس الأرض، فجزعوا وخافوا الهلاك، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا الدبى، فقالوا: ما نحن لك بمؤمنين ولا مرسلين معك بني إسرائيل.
فدعا عليهم موسى، فأوحى الله إليه أن يقوم على حافة النيل، ويشير بعصاه إلى أدناه وأقصاه، ففعل ذلك موسى، فتداعت الضفادع بالنقيق من كل جانب حتى أعلم بعضهم بعضا، ثم خرجت مثل الليل الدامس، حتى دخلت بيوتهم بغتة، وامتلأت منها أبنيتهم وأفنيتهم وأطعمتهم، فكان لا يكشف أحدهم ثوبا ولا إناء ولا طعاما ولا شرابا إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه، وينام أحدهم فيستيقظ وقد ركبته الضفادع ذراعا، بعضها فوق بعض وصارت عليه ركاما حتى ما يستطيع أن يتحول بشقه الآخر وكان أحدهم يفتح فاه لأكلته، فيسبق الضفدع أكلته إلى فيه، وكانوا لا يعجنون عجينا إلا تشدخت فيه، ولا يطبخون قدرا إلا امتلأت ضفادع، فضجر آل فرعون من ذلك، وضاق عليهم أمرهم، فبكوا وشكوا إلى موسى، وقالوا: اكشف عنا هذا البلاء، فإنا نتوب هذه المرة، فأخذ بذلك عهودهم ومواثيقهم، ثم دعا(2/401)
موسى ربه فكشف عنهم الضفادع ثم نقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، فسال النيل عليهم دما، وصارت مياههم كلها دما، فما يستقون من الآبار إلا وجدوه دما عبيطا، قال قتادة: ذكر لنا أن فرعون كان يجمع بين الرجلين في إناء واحد، القبطي والإسرائيلي، فكان ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما.
وقال مجاهد: كان يستقي الإسرائيلي من النيل ماء طيبا ويستقي الفرعوني دما.
فذلك قوله: آيات مفصلات، قال المفسرون: وكان العذاب يمكث عليهم من السبت إلى السبت، وبين العذاب إلى العذاب شهر.
وقوله: {فَاسْتَكْبَرُوا} [الأعراف: 133] أي: عن عبادة الله، {وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الأعراف: 133] .
قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [الأعراف: 134] أي: نزل بهم العذاب يعني الجراد وما ذكر بعده، {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف: 134] أي: بما أمرك وأوصاك أن تدعوه به، {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {134} فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} [الأعراف: 134-135] يعني إلى الأجل الذي غرقهم الله فيه، {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف: 135] ينقضون العهد، فانتقمنا منهم كافأناهم عقوبة بما صنعوا {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الأعراف: 136] في البحر، {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136] تاركين الاعتبار بها والتفكير فيها، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ} [الأعراف: 137] يعني: بني إسرائيل كان قوم فرعون قد استذلوهم بقتل أبنائهم، واستخدام نسائهم، فأهلكهم الله بالغرق ومكنهم من منازلهم، ومساكنهم، وأعطاهم أرضهم، وهو قوله: {مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] يريد: جهات شرق أرض الشام ومصر وجهات غربها: {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] بإخراج الزروع والثمار والنبات والأشجار والأنهار، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 137] قال ابن عباس: مواعيد ربك التي لا خلف فيها ولا ناقض لها.
قال الزجاج: يعني ما وعدهم الله تعالى من إهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض، وهو قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص: 5] إلى قوله: {يَحْذَرُونَ} [القصص: 6] .
وقوله: بما صبروا أي: على عذاب فرعون وصنيعه بهم، {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ(2/402)
فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] قال مقاتل: أهلكنا ما عمل فرعون وقومه بأهل مصر، وما بنوا من المنازل والبيوت.
قال ابن عباس: يعرشون: يسقفون من القصور والبيوت.
وقال الزجاج: يقال: عَرَشَ يَعْرِش ويَعْرش.
إذا بنى.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138} إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {139} قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {140} وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ {141} } [الأعراف: 138-141] وقوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف: 138] يقال: جاوز الوادي إذا قطعه وجاوز بغيره عبر به، {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] قال ابن عباس: يعبدونها مقيمين عليها، يقال لكل من لزم شيئا وواظب عليه: عكف يعكِف ويعكُف.
قال قتادة: كان أولئك القوم نزولا بالرقة.
فلما رأوا ذلك {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] هذا إخبار عن عظيم جهل بني إسرائيل حيث توهموا أنه يجوز عبادة غير الله بعد ما رأوا الآيات، ولذلك قال لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138] قال ابن عباس: جهلتم نعمة ربكم فيما صنع بكم.
364 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا(2/403)
سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَى حُنَيْنًا مَرَّ بِشَجَرَةٍ يُعَلِّقُ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ وَأَمْتِعَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتَ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى، اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»
قوله: إن هؤلاء يعني: الذين كانوا يعبدون الأصنام، {مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} [الأعراف: 139] مُهلَك ما هم فيه من العبادة، والتبار: الهلاك، والتتبير: الإهلاك، {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] قال ابن عباس: يريد: أن عملهم للشيطان ليس لله فيه نصيب.
قال لهم موسى: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ} [الأعراف: 140] أطلب لكم {إِلَهًا} [الأعراف: 140] معبودا، وهذا استفهام وإنكار، {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 140] قال ابن عباس: أكرمكم من بين الخلائق أجمعين.
{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأعراف: 141] مفسر إلى آخر الآية في { [البقرة.
] وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ {142} وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ(2/404)
الْمُؤْمِنِينَ {143} قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ {144} وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ {145} سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ {146} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {147} } [سورة الأعراف: 142-147] قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] تقدير الآية: واعدناه انقضاء ثلاثين ليلة يترقب بعدها المناجاة، قال المفسرون: كان تلك الثلاثين ذو القعدة أمره الله أن يصوم فيها ليكلمه.
قال ابن عباس: صامهن ليلهن ونهارهن فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول شيئا من نبات الأرض فمضغه، فأوحى الله إليه لا كلمتك، حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إلي من ريح المسك، وأمره بصيام من ذي الحجة، فذلك قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] أي: تم الوقت الذي قدره الله لصوم موسى أربعين، {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142] لما أراد موسى الانطلاق إلى الجبل للمناجاة استخلف أخاه هارون على قومه، فقال له: اصلح.
قال ابن عباس: يريد: الرفق بهم والإحسان إليهم.
ومعناه: أصلح أمرهم، {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] أي: لا تطع من عصى الله ولا توافقه على أمره.
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 143] أي: في الوقت الذي وقتنا له، وكلمه ربه: خصه الله بأن أسمعه كلامه من غير أن يكون بينهما أحد، قال المفسرون: لما أراد الله أن يكلم موسى أهبط إلى الأرض ظلمة سبع فراسخ.
فلما دنا موسى من الظلمة طرد عنه شيطانه، وطرد هوام الأرض ونحى عنه ملكا، ثم كلمه الله وكشطت له السماء، فرأى الملائكة قياما في الهواء، ورأى العرش بارزا، وكان بعد ذلك لا يستطيع أحد أن ينظر إليه لما غشي وجهه من النور، ولم يزل على وجهه برقع حتى مات، وقالت له امرأته: أنا أيم منك مذ كلمك ربك.
فكشف لها عن وجهه(2/405)
فأخذها مثل شعاع الشمس، فوضعت يدها في وجهه، وخرت لله ساجدة، وقالت: ادع الله أن يجعلني زوجتك في الجنة.
قال موسى: لك ذلك إن لم تتزوجي بعد فإن المرأة لآخر أزواجها.
365 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، نا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ خُرَّزَاذَ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ حَمَّادٍ، نا عَمْرُو بْنُ هَاشِمٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَصَايَا كُلّهَا، فَكَانَ فِيمَا نَاجَاهُ أَنْ قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى لَمْ يَتَصَنَّعِ الْمُتَصَنِّعُونَ بِمِثْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتَقَرَّبِ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ الْوَرَعِ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ الْمُتَعَبِّدُونَ بِمِثْلِ الْبُكَاءِ مِنْ خِيفَتِي، قَالَ مُوسَى: يَا إِلَهَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهُمْ، قَالَ: أَمَّا الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا فَأُبِيحَهُمْ جَنَّتِي حَتَّى يَتَبَوَّءُوا فِيهَا حَيْثُ شَاءُوا، وَأَمَّا الْوَرِعُونَ عَمَّا حَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَمْ يَبْقَ عَبْدٌ إِلَّا نَاقَشْتُهُ الْحِسَابَ.
وَأَمَّا الْبَكَّاءُونَ مِنْ خِيفَتِي فَأُولَئِكَ لَهُمُ الرَّفِيقُ الأَعْلَى لا يُشَارَكُونَ فِيهِ "
وقوله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال الزجاج: المعنى: أرني نفسك أنظر إليك أني قد سمعت كلامك، فإني أحب أن أراك.
ولو كانت الرؤية لا تصح في وصف الله، ما سأل موسى ذلك لأنه كان أعلم بالله من أن يسأل ما يستحيل في وصفه، وفي قوله: لن تراني دليل على جواز الرؤية لأنه لو كان مستحيل الرؤية لقال: لا أرى.
قال ابن عباس في رواية عطاء: لن تراني في الدنيا.
قال مقاتل: لما قال موسى: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] قال له ربه: لن تراني، ولكن اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك، وهو الجبل، {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} [الأعراف: 143] أي: سكن وثبت فسوف تراني، وإن لم يستقر مكانه فإنك لا تطيق رؤيتي، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ} [الأعراف: 143] أي: ظهر وبان للجبل قال الكلبي: هو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير، جعله دكا أي: مدقوقا، يقال: دككت الشيء أدكه دكا إذا دققته.
قال الأخفش: كأنه قال: دكه دكا.
ومن قرأ: دكاء، فمعناه: جعله مثل(2/406)
دكاء، فحذف المضاف، والدكاء الناقة التي لا سنام لها، وقال المبرد: جعله أرضا دكاء، وهي الأرض التي لا تبلغ أن تكون تلا، قال المفسرون: ساخ الجبل في الأرض، فهو يذهب حتى الآن.
366 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أَنَّ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بَالُوَيْهِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الصَّيْمَرِيُّ، نا النَّضْرُ بْنُ مَسْلَمَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زُبَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ الضَّالِّ، عَنِ الْخَالِدِ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا صَارَ لِعَظَمَتِهِ سِتَّةَ أَجْبُلٍ فَوَقَعَتْ ثَلاثَةٌ بِالْمَدِينَةِ: أُحُدٌ، وَوَرْقَانُ، وَرَضْوَى، وَوَقَعَ ثَلاثَةٌ بِمَكَّةَ: ثَوْرٌ، وَثُبَيْرٌ، وَحِرَاءُ "
وقوله: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143] قال ابن عباس، والحسن، وابن زيد: مغشيا عليه.
فلما أفاق: من غشيته قال سبحانك: تنزيها لك عن(2/407)
السوء، تبت إليك: من مسألتي الرؤية، وذلك أنه سألها من غير استئذان من الله، فلذلك تاب، {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] قال مجاهد، والسدي: أول قومي إيمانا.
وقال أبو العالية: أول من آمن أنه لا يراك أحد قبل يوم القيامة.
وقال الزجاج: أي: أول المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا.
قال: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144] أي: اتخذتك صفوة برسالاتي وبكلامي يعني: تخصيصه بكلامه من غير واسطة وذلك أن من أخذ العلم عن العالم المعظم كان أجل رتبة ممن أخذه عن واحد أخذه عنه كما تقول في الأسانيد إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أقربها إليه أعزها وأجلها.
وقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} [الأعراف: 144] قال ابن عباس: ما فضلتك به وكرمتك، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144] لأنعمي والطائعين لي.
قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ} [الأعراف: 145] قال ابن عباس: يريد ألواح التوراة.
وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة، وكان طول اللوح اثنى عشر(2/408)
ذراعا» .
وقال الكلبي: كانت من زبرجدة خضراء.
وقال مقاتل: وكتبنا له في الألواح كنقش الخاتم.
وقال ابن جريج: كتبها جبريل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور.
وقوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] قال السدي: مما أمروا به ونهوا عنه.
وهذا معنى قول ابن عباس: مما افترض، وأحل وحرم، ونهى وأمر.
موعظة نهيا عن الجهل، {وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145] هداية إلى كل أمر هو لله رضا، فخذها بقوة قال ابن عباس: بجد، والمعنى: بصحة وعزيمة.
لأنه لو أخذها بضعف نية لأداه إلى فتور العمل به، وقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145] قال عطاء، عن ابن عباس: يحلوا حلالها، ويحرموا حرامها، ويتدبروا أمثالها، ويعملوا بمحكمها، ويقفوا عند متشابهها.
وقال قطرب: يأخذوا بأحسنها أي: بحسنها وكلها حسن.
وقال أهل المعاني: أحسنها الفرائض والنوافل وهي ما يستحق عليها الثواب، وأدونها في الحسن المباح لأنه لا يستحق عليه حمد ولا ثواب.
{سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145] قال عطاء، والحسن، ومجاهد: هي جهنم.
أي: فلتكن منكم على ذكر لتحذروا أن(2/409)
تكونوا منهم، وهذا تهديد لمن خالف أمر الله، وقال قتادة: سأدخلكم الشام فأريكم منازل القرون الماضية الذي خالفوا أمر الله، لتعتبروا به.
قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] قال ابن عباس: يريد: الذين يتجبرون على عبادي، ويحاربون أوليائي حتى لا يؤمنوا بما جئت به.
وشرحه ابن الأنباري، والزجاج، فقال ابن الأنباري: المعنى: سأصرفهم عن قبول آياتي والتصديق بها لعنادهم الحق، وعوقبوا بحرمان الهداية، وهذا كقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وقال الزجاج: أي: أجعل جزاءهم الإضلال عن هداية آياتي.
قال: ومعنى يتكبرون أنهم يرون أنهم أفضل الخلق وأن لهم من الحق ما ليس لغيرهم، وقال ابن جريج: الآيات خلق السموات والأرض.
يعني: أصرفهم عن الاعتبار بما فيها، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ} [الأعراف: 146] يعني: الهدى والبيان الذي جاء من الله، {لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا} [الأعراف: 146] دينا، {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ} [الأعراف: 146] طاعة الشيطان وضلالته، يتخذوه سبيلا دينا ذلك بأنهم: قال الزجاج: فعل الله ذلك بأنهم.
كذبوا بآياتنا: جحدوا الإيمان بها، وكانوا عنها أي: عن النظر فيها والتدبر لها {غَافِلِينَ} [الأعراف: 146] .
قوله: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ} [الأعراف: 147] يعني: ولقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب، حبطت أعمالهم: صارت كأنها لم تكن، وقوله: {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 147] هذا استفهام تقرير يعني: أنهم لا يجزون إلا بما يستحقون من العقاب، وهو قوله: {إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 147] أي: إلا بما كانوا، أو على ما كانوا يعملون.
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ {148} وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {149} } [الأعراف: 148-149] قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ} [الأعراف: 148] أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات، من حليهم: الحلي جمع حلي مثل ثدي وثدي، ومن كسر الحاء،(2/410)
فقال الزجاج: اتّبع الحاء كسرة اللام.
قال المفسرون: إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه، ويستعيرون من القبط الحلي، فاستعاروا حلي القبط لذلك اليوم، فلما أخرجهم الله من مصر وغرقهم الله بقيت تلك الحلي في أيديهم، فجمعها السامري، فصاغها عجلا، وأعلمهم أن إلههم وإله موسى عنده فذلك قوله: {عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف: 148] .
وأكثر أهل التفسير على أنه صار جسدا ذا لحم ودم، وقال وهب: جسدا لحما ودما.
وقال قتادة: جعله الله لحما ودما له خوار.
وقال الحسن: قبض السامري قبضة من أثر فرس جبريل يوم قطع البحر، فقذف ذلك التراب في فم العجل، فتحول لحما ودما، وخار خورة واحدة.
قال الله تعالى منكرا عليهم: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف: 148] أي: لا يستطيع كلاما، فيدعو إلى رشد أو يصرف عن غي، {وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا} [الأعراف: 148] أي: لا يرشدهم إلى دين، وقوله: {اتَّخَذُوهُ} [الأعراف: 148] أي: إلها ومعبودا، كقوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51] ، وكانوا ظالمين قال ابن عباس: مشركين.
قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] قال ابن عباس، والمفسرون: ندموا على عبادة العجل.
قال الفراء، والزجاج: يقال: للنادم على ما فعل، المتحسر على ما فرط فيه: قد سقط في(2/411)
يده، وأسقط.
قال الزهري: والمراد: سقط الندم في يده.
{وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} [الأعراف: 149] وعلموا أنهم قد ابتلوا بمعصية الله، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} [الأعراف: 149] الآية: وهذا الندم والاستغفار إنما كان بعد رجوع موسى إليهم.
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {150} قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {151} إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ {152} وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {153} } [الأعراف: 150-153] قوله: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} [الأعراف: 150] الأسف: الشديد الغضب، يقال: آسفني فأسفت.
أي: أغضبني، ومنه قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] ، وقال السدي، والكلبي: الأسف: الحزين، قال موسى لقومه: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} [الأعراف: 150] يقال: خلفه بما يكره إذا عمل خلفه ذلك العمل، قال ابن عباس: يريد اتخاذهم العجل وكفرهم بالله.
وقوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 150] قال ابن عباس: يعني: ميعاد ربكم، فلم تصبروا له.
ونحو هذا قال الحسن: وعد ربكم الذي وعدتم من الأربعين ليلة.
وقال الكلبي: أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم.
وألقى الألواح: التي فيها التوراة.
روى ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ليس الخبر كالمعاينة، إن الله قد أخبر موسى أن قومه قد ضلوا، فلم يكسر الألواح، فلما عاين ذلك كسر الألواح» .
وقوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف: 150] قال الكلبي: بذؤابة أخيه وشعره بيده اليمنى ولحيته باليسرى، لأنه توهم أنه عصى الله بمقامه فيما بينهم وتركه اللحوق به، فقال له هارون: يا ابن أم أراد: أمي، فحذف الياء، وأبقى الكسرة دليلا على المحذوف كما قالوا: يا غلام أقبل.
ومن فتح(2/412)
الميم جعل ابن وأم شيئا واحدا، نحو خمسة عشر، وقوله: {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} [الأعراف: 150] قال الكلبي: استذلوني وقهروني وكادوا وهموا أن يقتلوني، {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ} [الأعراف: 150] يعني أصحاب العجل، ولا تجعلني في موجدتك علي {مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150] الذين عبدوا العجل.
قوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الأعراف: 151] أي: ما صنعت إلى أخي من الإنكار عليه، وهو برئ مما يوجب العتب عليه، ولأخي إن قصر في الإنكار على عبدة العجل، {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} [الأعراف: 151] قال عطاء: في جنتك، {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151] .
367 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ السُّلَمِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ رُسْتُمَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ بِنْتِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، نا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّامِيُّ، نا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: " رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَدَاةِ الْحُدَيْبِيَةِ فَنَزَلَ عَلَى مَاءِ لِقَوْمٍ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ الْقَوْمُ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ وَإِذَا امْرَأَةٌ تَحْطِبُ تَنُّورًا لَهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَ الْوَهَجُ نَحَّتْ بِابْنٍ لَهَا عَنْ وَهَجِهِ، فَأَتَتْنَا، فَقَالَتْ: أَفِيكُمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قُلْنَا لَهَا: نَعَمْ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: بَلَى، قَالَتْ: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، قَالَ لَهَا: بَلَى، قَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ أَوَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَفَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ بِالْعِبَادِ مِنَ الأُمَّهَاتِ بِأَوْلَادِهِنَّ؟ قَالَ لَهَا: بَلَى، قَالَتْ: أَوَ لَسْتَ تَزْعُمُ هَذَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ الْوَالِدَةَ لا تَطِيبُ نَفْسُهَا أَنْ تُلْقِيَ وَلَدَهَا فِي النَّارِ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُخْضِلَتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا الْمَارِدَ الْمُتَمَرِّدَ الَّذِي يَتَمَرَّدُ عَلَى رَبِّهِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ "
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [الأعراف: 152] يعني: اليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عيرهم بصنع آبائهم، ونسبه إليهم.
قوله: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [الأعراف: 152] عذاب في الآخرة، {وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الأعراف: 152] يعني: الجزية، وقال عطاء: يعني ما أصاب قريظة والنضير من(2/413)
الجلاء والنفي.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] قال ابن عباس: كذلك أعاقب من اتخذ إلها من دوني.
وقال سفيان بن عيينة: هذا لكل مبتدع ومفتر إلى يوم القيامة.
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 153] قال ابن عباس: يريد: الشرك.
{ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} [الأعراف: 153] أي: رجعوا عنها وتركوها، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ} [الأعراف: 153] لهم، {رَحِيمٌ} [الأعراف: 153] بهم.
وقوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ {154} وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ {155} وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ {156} الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {157} قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {158} } [الأعراف: 154-158] {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154] أي: سكن وذهبت حدته وفورته، أخذ الألواح: التي كان ألقاها، وفي نسختها وفي المكتوب فيها، وذلك المكتوب انتسخ من أصل فسمي نسخة، هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب، {لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154] يريد الخائفين من ربه واللام في لربهم زيادة للتوكيد كقوله: ردف لكم، وقد يزاد حرف الجر توكيدا وإن كان مستغنى عنه، يقال: ألقى يده، وبيده.
وفي القرآن: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] .
قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] معناه: من قومه، فحذفت مِن ووصل الفعل فنصب، قال(2/414)
السدي: أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلا ليعتذروا، فلما سمعوا كلام الله قالوا: أرنا الله جهرة ف أخذتهم الرجفة وهي: الرعدة والحركة الشديدة حتى كادت أن تبين مفاصلهم، وتنقض ظهورهم، وخاف موسى عليهم الموت فبكى ودعا، وخاف أن يتهمه بنو إسرائيل على السبعين إذا عاد إليهم ولم يصدقوه بأنهم ماتوا.
{قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 155] خروجنا، {وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155] فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني، {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] هذا استفهام على تأويل الجحد أراد: لست تفعل ذلك، أي: لا تهلكنا بما فعل عبدة العجل.
هذا قول ابن الأنباري، وقال المبرد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تهلكنا.
وقوله: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] أي: تلك الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك، أي: اختبارك وابتلاؤك أضللت بها قوما فافتتنوا، وهديت قوما فعصمتهم حتى ثبتوا على دينك، فذلك معنى قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا} [الأعراف: 155] ناصرنا والذي يتولى أمورنا، {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً} [الأعراف: 156] قال ابن عباس: اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة.
وفي الآخرة يريد: وفي الآخرة حسنة، وهي الجنة، {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] قال جميع المفسرين: تبنا ورجعنا إليك بتوبتنا، والهود: الرجوع.
{قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ} [الأعراف: 156] قال ابن عباس: يريد: على الذنب اليسير، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] قال الحسن، وقتادة: إن رحمته وسعت في الدنيا البر والفاجر، وهو يوم القامة للمتقين خاصة.
قال عطية العوفي: إن الكافر يرزق ويدفع عنه بالمؤمن، فيعيش فيها فإذا صار إلى الآخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه.(2/415)
368 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ، أنا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، أنا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَن الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلاةِ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمُ مَعَنَا أَحَدًا، فَلَمَّا سَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلأَعْرَابِيِّ: «لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا» يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ
وقال قتادة، وسفيان بن عيينة في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] قال: قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فأنزل الله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] إلى آخر الآية، فتمنتها اليهود والنصارى وقالت: نحن نؤمن بالتوراة والإنجيل، ونؤدي الزكاة، فاختلسها الله من إبليس واليهود والنصارى فجعلها لهذه الأمة خاصة، فقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] ، وهو نبيكم كان أميا لا يكتب، {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} [الأعراف: 157] في التوراة والإنجيل يجدون نعته ونبوته وأمره.(2/416)
369 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، نا مَأْمُونُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَأْمُونٍ، نا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الضَّوْءِ، عَنْ أَبِيهِ الصَّلْصَالِ بْنِ الدَّلَهْمَسِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَنَا: إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَلِيلٌ امْضُوا بِنَا لِنَعُودَهُ، فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّنَا، وَاتَّبَعْنَاهُ فَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ يُمَرِّضُ ابْنًا لَهُ فَمَالَ إِلَيْهِ فَقَالَ: «يَا يَهُودِيُّ هَلْ تَجِدُونَنِي عِنْدَكُمْ مَكْتُوبًا فِي التَّوْرَاةِ؟» فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ الْيَهُودِيُّ بِرَأْسِهِ يُعْلِمُهُ أَنَّهُمْ لا يَجِدُونَهُ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْيَهُودِيِّ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجِدُونَكَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبًا وَلَقَدْ طَلَعْتُ، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَسِفْرًا مِنَ التَّوْرَاةِ يَقْرَأُ فِيهِ صِفَتَكَ، وَصِفَةَ أَصْحَابِكَ، وَذَكَرَكَ، فَلَمَّا رَآكَ سَتَرَهُ عَنْكَ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَكَانَتْ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْغُلامُ حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقِيمُوا عَلَى أَخِيكُمْ حَتَّى تَقْضُوا حَقَّهُ، قَالَ: فَحُلْنَا بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَبَيْنَهُ وَتَوَلَّيْنَا أَمْرَهُ، حَتَّى وَارَيْنَاهُ وَانْصَرَفْنَا
وقوله: يأمرهم بالمعروف: قال ابن عباس: يريد: مكارم الأخلاق وصلة الأرحام، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] عبادة الأوثان وقطع الأرحام، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] يعني: ما كان يحرمه أهل الجاهلية من البحائر والسوائب وغيرها، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] الميتة والدم وما ذكر معهما، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] قال الزجاج: الإصر: ما عقدته من عقد ثقيل.
قال سعيد بن جبير: هو شدة العبادة.
{وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] قال المفسرون: هي الشدائد التي كانت عليهم كقطع أثر البول، وقتل النفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، ووجوب القصاص دون الدية، وترك العمل بتة في السبت، فشبهت هذه الشدائد بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق تمثيلا، {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} [الأعراف: 157] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود، وعزروه ووقروه،(2/417)
ونصروه على عدوه، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف: 157] يعني القرآن، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] وما يليها ظاهر التفسير.
{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ {159} وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {160} وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {161} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ {162} } [الأعراف: 159-162] قوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} [الأعراف: 159] قال أكثر المفسرين: إنهم قوم وراء الصين آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتركوا تحريم السبت، يجمعون ولا يتظالمون.
يهدون بالحق: يدعون إلى الحق، وبه يعدلون: وبالحق يحكمون، وقال قتادة: كان بعض أهل العلم يحدثنا أن موسى لما أخذ الألواح قال: رب إني أجد في الألواح أمة، خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، رب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: إني أجد في الألواح أمة وهم الآخرون في الخلق والسابقون في دخول الجنة، رب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها، وكان من قبلهم يقرءونها نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا شيئا ولم يعوه، رب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، يقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال، رب فاجعلهم أمتى، قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، رب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بسيئة لم يكتب عليه بشيء وإن عملها كتبت له سيئة واحدة رب فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
فذكر لنا أن موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال: اللهم اجعلني من أمة أحمد فأعطي موسى اثنتين، قال الله تعالى: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] .
وقال: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] ، فرضي نبي الله موسى كل الرضا.
قال أبو(2/418)
العالية، وابن جريج، والربيع بن أنس: هم قوم موسى تمسكوا بطريقته ولم يزيغوا، ولما وقع الاختلاف في القوم اعتزلوا وصاروا إلى أن بلغوا وراء الصين، وقال آخرون: هم عبد الله بن سلام وأصحابه.
قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ} [الأعراف: 160] يعني: قوم موسى يقول: فرقناهم: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} [الأعراف: 160] يعني: أولاد يعقوب، وكانوا اثنى عشر ابنا لكل واحد منهم سبطا، فكانوا اثنى عشر سبطا، قال الفراء: وإنما قال اثنتي عشرة والسبط مذكر لأن بعده أمما، فذهب التأنيث إلى الأمم، وقال الزجاج: المعنى: وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة أسباطا، فالأسباط من نعت الفرقة والتأنيث في العدد، وإنما وقع لتقدير الفرقة في الكلام، ولهذا جمع الأسباط، وإن كان ما فوق العشرة من العدد لا يفسر بالجمع.
والأسباط في الحقيقة نعت المفسر المحذوف وهو الفرقة، وقوله: فانبجست بجس الماء وانبجاسه: انفجاره، يقال: بجس الماء يبجس وانبجس وتبجس.
إذا تفجر، وهذه الآية واللتان بعدها مفسرة في { [البقرة.
] وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {163} وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {164} فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {165} فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ {166} وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {167} } قوله تعالى: واسألهم يعني: أسباط اليهود، سؤال تقرير وتوبيخ، يقررهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قديم كفرهم ومخالفة أسلافهم الأنبياءَ في ارتكاب المعاصي، ويخبرهم بما لا يعلم إلا بوحي، وتلك القرية هي أيلة.
في قول ابن عباس برواية الوالبي، وقوله: {(2/419)
الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} [سورة الأعراف: 163] أي: التي هي مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه، {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف: 163] أي: يظلمون فيه بصيد السمك، قال ابن عباس: يصيدون الحيتان ويفعلون ما نهوا عنه.
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163] ظاهرة على الماء جمع شارع وشارعة.
قال المفسرون: إن اليهود أمروا بتعظيم السبت وحرم عليهم فيه الصيد، فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر إلى السبت المقبل، بلاء ابتلوا به، فذلك قوله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] أي: يوم لا يفعلون سبتهم لا تأتيهم الحيتان، وانقطع الكلام، ثم قال: كذلك نبلوهم أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم، ويجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله: كذلك والمعنى: لا تأتيهم الحيتان مثل ذلك الإتيان الذي يأتي يوم السبت، ثم استأنف فقال: {نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] أي: نشدد عليهم المحنة بفسقهم وعصيانهم الله تعالى، والوجهان ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} [الأعراف: 164] قال أهل التفسير: افترق أهل القرية ثلاث فرق فرقة صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الأولى الناهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164] لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين، فقالت الفرقة الناهية: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164] أي: موعظتنا إياهم معذرة، والمعنى: أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله تعالى، ومن نصب معذرة فعلى معنى نعتذر معذرة.
وقوله: ولعلهم يتقون أي: وجائز عندنا أن ينتفعوا بالموعظة فيتقوا الله ويتركوا المعصية.
قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأعراف: 165] قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165] يعني: الفرقة الناهية، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] قال المفسرون: بشديد من العذاب، يقال: بؤس يبؤس بؤسا.
إذا اشتد، فهو بئيس.
وقرأ نافع: بيس جعل بئس الذي(2/420)
هو فعل اسما فوصف به ومثله ما روي: أن الله تعالى ينهى عن قيل وقال.
وقراءة ابن عامر كقراءة نافع إلا أنه حقق الهمزة، وقراءة أبي بكر بَيْئَس مثل: ضيغم، وحيدر، وهو كثير في الصفة، ثم فسر ذلك العذاب الشديد فقال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} [الأعراف: 166] المعنى: عتوا عن ترك ما نهوا عنه واستكبروا عن تركه، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166] وهذا مفسر في { [البقرة.
وروى ابن جريج، عن عكرمة، قال: دخلت على ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: هل تعرف أيلة؟ قلت: وما أيلة؟ قال: قرية كان بها ناس من اليهود حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، وكانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا، تأتي واردة إلى الماء بيضاء سمانا كأمثال المخاض بأفنيتهم وأبنيتهم، فإذا كان في غير يوم السبت لم يدركوها ولم يجدوها إلا بمشقة، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا يوم السبت فربطه إلى رد في الساحل، وتركه في الماء حتى إذا كان الغد أخذه فأكله، ففعل ذلك أهل بيت منهم حتى فشا ذلك فيهم وكثر، فافترقوا عند ذلك ثلاث فرق، وقالت الفرقة الناهية للفرقة الظالمة: والله لا نبايتكم في مكان.
وفارقوهم فغدوا عليهم يوما وضربوا باب السور، فلم يجبهم أحد، فتسور عليهم واحدا فقال: يا عباد الله قد صاروا قردة، والله، لها أذناب تتعاوى، ثم فتح الباب ودخل الناس عليهم فعرفت القرود أنسابها من الإنس، فيأتي القرد إلى نسيبه من الإنس فيحتك به ويقول الإنسان: أنت فلان؟ فيشير برأسه أي: نعم.
ويبكي، فيقول لهم الإنس: أما إنا حذرناكم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف أو مسخ.
قال ابن عباس: فاسمع الله يقول:] أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة الأعراف: 165] فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة.
فقال عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك ألا تراهم قد أنكروا حيث قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164] ، وإن لم يقل الله: أنجيتهم لم يقل أيضا أهلكتهم.
فأعجبه قولي فرضي وأمر لي ببردين فكسانيهما.
وهذا أيضا قول الحسن قال: نجت فرقتان وهلكت فرقة، وقال ابن زيد: نجت الناهية وهلكت الفرقتان، وهذه الآية أشد آية في ترك النهي عن المنكر، قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} [الأعراف: 167] تأذن بمعنى: أذن أي: أعلمَ وقال ربك، ليبعثن عليهم على اليهود، {إِلَى يَوْمِ(2/421)
الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 167] قال المفسرون: هم العرب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، بعثهم الله على اليهود إلى يوم القيامة يقاتلونهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} [الأعراف: 167] لمن استحق تعجيله لأنه لا يتأخر عن وقت إرادته.
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {168} فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {169} وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ {170} } [الأعراف: 168-170] {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} [الأعراف: 168] فرقهم الله فتشتت أمرهم ولم تجتمع لهم كلمة، منهم الصالحون قال ابن عباس، ومجاهد: هم الذين أدركوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنوا به، {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] يريد: الذين كفروا، وبلوناهم عاملناهم معاملة المبتلي المختبر، بالحسنات وهي: الخصب والعافية، والسيئات وهي الجدب والشدائد، وكل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة: أما النعم فلارتباطها والازدياد منها، وأما النقم فلكشفها، والسلامة منها، وقوله: لعلهم يرجعون قال ابن عباس: كي يتوبوا.
فخلفَ بعد هؤلاء الذين قطعهم الله، خلفٌ من اليهود، وهم أولادهم الذين أتوا بعدهم، قال ابن السكيت: يقال: هذا خلف صدق، وهذا خلف سوء، وهؤلاء خلف سوء، جمعه وواحده سواء، وأنشد:
وبقيتُ في خلف كجلد الأجرب
وقال الزجاج: يقال للقرن الذي يجيء في أثر قرن: خلف.
وقوله: ورثوا الكتاب يعني التوراة، أخذوها من آبائهم، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} [الأعراف: 169] جميع متاع الدنيا عرض، يقال: الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر.
قال ابن عباس: ما أشرف لهم من الدنيا أخذوه.
وأراد بالأدنى العالم الأدنى، وهو الدار الفانية، {(2/422)
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169] قال المفسرون: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب، إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما، ويتمنون على الله المغفرة، وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه، قال الله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [الأعراف: 169] قال ابن عباس: وكد الله عليهم في التوراة ألا يقولوا على الله إلا الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا على الله من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار.
{وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169] وقرأوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك، ولو عقلوا لعملوا للدار الآخرة، وهو قوله: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169] .
قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170] يقال: مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به وامتسكت به.
وروى أبو بكر، عن عاصم: يُمْسِكون مخففة، وهو رديء لأنه لا يقال أمسكت بالشيء، وإنما يقال: أمسكت الشيء.
ومعنى يمسكون بالكتاب: يؤمنون به ويحكمون بما فيه، قال عامة المفسرين: نزلت في بني إسرائيل مؤمني أهل الكتاب.
{وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171] قوله تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} [الأعراف: 171] أي: رفعناه باقتلاع له من أصله، يقال: نتقه ينتقه نتقا.
إذا قلعه من أصله.
وقوله: كأنه ظلة: كل ما أظلك من سقفِ بيت أو سحابة أو جناحِ حائط فهو ظلة والجمع ظلل، وقوله: {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171] أي: علموا وأيقنوا، وذكرنا تفسير هذه الآية في { [البقرة عند قوله:] وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [سورة البقرة: 63] الآية.
370 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْميرَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ، نا نَصْرُ بْنُ بَابٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ لأَيِّ شَيْءٍ سَجَدَتِ الْيَهُودُ عَلَى حَرْفِ جِبَاهِهَا لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سَجَدُوا، فَجَعَلَ أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ بِشِقِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ مَتَى يَقَعُ عَلَيْهِ الْجَبَلُ فَكَانَتْ سَجْدَةٌ رَضِيَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ فَاتَّخَذُوهَا سُنَّةً
وباقي الآية مفسرة في { [البقرة.
](2/423)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {173} وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {174} } [سورة الأعراف: 172-174] قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172] الآية:
371 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، أَنَّ عَبْدَ الْحَمِيدِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَخْبَرَهُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] الآيَةَ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلُهُ بِهِ النَّارَ "، رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ ابْنِ الأَخْرَمِ، عَنْ حَامِدِ بْنِ أَبِي(2/424)
حَامِدٍ الْمُقْرِئِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مَالِكٍ
372 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، نا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، نا جَرِيرٌ، وَعَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قُبُلا مُعَايَنَةً، فَقَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ تَلاها إِلَى قَوْلِهِ {الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173]
قوله تعالى: من ظهورهم: قال الزجاج: هو بدل من بني آدم، المعنى: وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم.
وقال الكتاني: لم يذكر ظهر آدم، وإنما أخرجوا جميعا من ظهره، لأن الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالده الأبناء من الآباء، فاستغنى عن ذكر آدم لما علم أنهم كلهم بنوه وأخرجوا من ظهره.
قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: لما خلق الله آدم مسح ظهره، فأخرج من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فنودي يومئذ أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقال مقاتل: إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى، فأخرج منها ذرية بيضاء كهيئة الذر يتحركون، ثم مسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منها ذرية سوداء كهيئة الذر يتحركون، فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، ثم قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
فقال للبيض: هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين.
وقال للسود: هؤلاء في النار ولا أبالي وهم أصحاب الشمال.
ثم أعادهم جميعا في صلبه، فأهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء.
قال الله تعالى: فيمن نقض العهد الأول: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] ، وهذا قول جماعة المفسرين، وقالت طائفة(2/425)
منهم: إن أهل السعادة من الذرية أقروا طوعا، وإن أهل الشقاوة أقروا تقية وكرها، وذلك معنى قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وقال الزجاج: جائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذر فهما يعقل به، كما قال: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] ، وكما قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] .
وقوله: شهدنا قال الكلبي: لما قالت الذرية بلى.
قال الله للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا.
وقال السدي: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم.
ويحسن الوقف على قوله: بلى، لأن كلام الذرية قد انقطع.
وقوله: أن تقولوا معناه لئلا تقولوا، كما قال: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] ، ويجوز أن يكون التقدير: شهدنا كراهية أن تقولوا.
وقرأ أبو عمرو بالياء، لأن الذي تقدم من الياء على الغيبة، وكلا الوجهين حسن لأن الغيب هم المخاطبون في المعنى، قال المفسرون: وهذه الآية تذكير بما أخذ على جميع المكلفين من الميثاق، واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار إنا كنا عن هذا الميثاق غافلين لم نحفظه ولم نذكره.
ونسيانهم لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر الله بذلك على لسان صاحب المعجزة، وإذا صح ذلك بقول الصادق قام في النفوس مقام الذكر، فالاحتجاج به قائم، ثم قطع عذر الكفار بقوله: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 173] لا يستطيع أحد من الذرية الكافرة أن يقول يوم القيامة: إنما أشرك آباؤنا من قبلنا، ونقضوا العهد، {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 173] فاقتدينا بهم، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173] أفتعذبنا بما فعل المشركون المكذبون بالتوحيد؟ فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله بأخذ الميثاق بالتوحيد على كل واحد من الذرية، قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الأعراف: 174] أي: وكما بينا في أخذ الميثاق نبين الآيات ليتدبرها العباد فيرجعوا إلى مدلولها ويعملوا بموجبها، وهو بمعنى قوله: ولعلهم يرجعون أي: ولكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر إلى التوحيد.(2/426)
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ {176} سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ {177} مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {178} } [الأعراف: 175-178] قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: 175] أي: اقرأ وقص على قومك خبر الذي علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته، فانسلخ منها أي: خرج منها وفارقها، فأتبعه الشيطان: لحقه وأدركه، {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175] قال ابن عباس: أطاع الشيطان فكان من الضالين، نزلت الآية في بلعم بن باعوراء، كان عنده اسم الله الأعظم فقصد موسى بلده الذي هو فيه وغزى أهله وكانوا كفارا، فلم يزل قوم بلعم به حتى دعا عليهم، وكان مجاب الدعوة بذلك الاسم الذي كان عنده فاستجيب له، ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائهم، فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ قال: بدعاء بلعم.
قال موسى: فكما سمعت دعاءه علي، فاسمع دعائي عليه.
فدعا موسى عليه أن ينزع منه الاسم الأعظم والإيمان، فنزع الله منه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم، وكان يعلم اسم الله الأكبر، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه وقالوا: إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يردهم عنا، قال: إني إن دعوت عليهم ذهب دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله مما كان عليه.
وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] وفقناه للعمل بها فكنا نرفع به منزلته، {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف: 176] سكن إلى الدنيا ومال إليها، والأرض في هذه الآية عبارة عن الدنيا، وذلك أن الدنيا هي الأرض، لأن ما فيها من العقار والرياع والضياع كلها أرض وسائر متاعها يستخرج منها، وقوله: واتبع هواه انقاد لما دعاه إليه الهوى، قال ابن زيد: كان هواه مع القوم، وهذه الآية هي أشد الآي على ذوي العلم، وذلك أن الله تعالى أخبر أنه أتاه آياته من اسمه الأعظم، والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا(2/427)
وإتباع الهوى تغيير النعمة عليه والانسلاخ منها، ومن الذي يسلم من هاتين الخلتين إلا من عصمه الله، ثم ضرب الله له مثلا فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 176] يقال: لهث الكلب يلهث لَهْثا ولُهاثا.
إذا دلع لسانه، قال مجاهد: هذا مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به، والمعنى: أن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب فإنه إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا، وإن ترك وربض كان لاهثا، وذلك أن بلعم زجر ونهي عن الدعاء على موسى، وخاطبته أتانه التي كان يركبها بذلك، فلم ينزجر ولم ينتفع بالزجر، وهذا التمثيل لم يقع لكل كلب وإنما وقع بالكلب اللاهث، وذلك أحسن ما يكون وأبشعه.
ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 176] وقال ابن عباس: يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم إلى طاعة الله، فلما جاءهم من لا يشكون في صدقه كذبوه، فلم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما دعوا بالرسول والكتاب.
وقوله: فاقصص القصص قال عطاء: قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم، لعلهم يتفكرون: يتعظون.
قوله: ساء مثلا يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيء إذا قبح، قال ابن عباس: يريد: بئس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا.
قال الزجاج: وتقدير الكلام: ساء مثلا مثل القوم، ثم حذف المضاف وانتصب مثلا على التمييز، وساء ههنا بمنزلة بئس.
{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178] من يتول الله هدايته فهو المهتدي، ومن يضلل: من أضله الله وخذله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178] خسروا الآخرة ونعيمها.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [الأعراف: 179] الآية: أخبر الله تعالى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة، ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها.
373 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ الْقَطَّانُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ(2/428)
السُّلَمِيُّ، نا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، نا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ فَخَلَقَ لَهَا أَهْلا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ فَخَلَقَ لَهَا أَهْلا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سُفْيَانَ
374 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُفِيدُ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، نا بَكَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السِّيرِينِيُّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «(2/429)
إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلابِ آبَائِهِمْ وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ مُجْملا عَلَيْهِمْ لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلا وَخَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ مُجْملا عَلَيْهِمْ لا يُزَادُ فِيهِمْ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] قال الكلبي: لا يعقلون بها الخير والهدى.
{وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] سبيل الهدى والرشاد، {وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] مواعظ الله والقرآن، والمعنى: أنهم في تركهم الحق وإعراضهم عنه بمنزلة من لا يفقه، ولا يبصر، ولا يسمع، وقوله: أولئك كالأنعام قال مقاتل: يأكلون ويشربون، ولا يلتفتون إلى الآخرة كما تأكل الأنعام وتشرب لا هم لها إلا الأكل كذلك الكافر، {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] قال الزجاج: وذلك أن الأنعام تبصر منافعها ومضارها فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند فيقدم على النار، {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] عن أمر الآخرة وما فيها من العذاب.
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {180} وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ {181} وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ {182} وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ {183} أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ {184} أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ {185} مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {186} } [الأعراف: 180-186] قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] قال المفسرون: هي ما ذكره أبو هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما:
375 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الْحُمَيْرِيُّ، نا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ(2/430)
قوله: فادعوه بها: دعاؤه بها تعظيمه بذكرها كقولك: يا قدير، يا عليم، يا عزيز، يا كريم، {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] معنى الإلحاد في اللغة: الميل عن القصد، وقال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق المدخل فيه ما ليس منه.
يقال: قد ألحد في الدين ولحد به، وبه قرأ حمزة: يلحدون من لحد، و {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] هم المشركون عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه فسموا بها أوثانهم، وزادوا فيها، ونقصوا منها فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان.
وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقال الكلبي: ويقال: الذين يلحدون في أسمائه الذين يكذبون، وعلى هذا فكل من سمى الله بما لم يسم به نفسه، ولم ينطق به كتاب ولا ورد به توقيف، فقد كذب في ذلك ومال عن الحق، وقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180] أي: جزاء ما كانوا يعملون في الآخرة جزاء ما كانوا في الدنيا.
قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ} [الأعراف: 181] الآية: قال عطاء، عن ابن عباس: يريد الله: أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان.
وقال قتادة: بلغنا أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذه لكم، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 182] قال الكلبي: يعني أهل مكة، كذبوا بمحمد والقرآن، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] قال ابن عباس: سنمكر بهم.
وقال الضحاك: كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة.
وقال الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون، وذلك أن الله تعالى يفتح عليهم من النعيم ما يغتبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون، وأملي لهم الإملاء:(2/431)
الإمهال وإطالة المدة، وهو نقيض الإعجال، يقول: أمهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم ليتمادوا في المعاصي، {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] قال ابن عباس: إن مكري شديد.
قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} [الأعراف: 184] قال الحسن وقتادة: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام ليلا على الصفا يدعو قريشا فخذا فخذا، فيقول: يا بني فلان، يا بني فلان.
يحذرهم بأس الله وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت حتى الصباح.
فأنزل الله هذه الآية وحثهم على التفكر في أمر الرسول ليعلموا أنه إنما دعا للإنذار لا لما نسبه إليه الجهال، والمعنى: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، والجنة حالة من الجنون، إن هو: ما محمد إلا نذير: منذر مخوف إياكم عذاب الله، {مُبِينٌ} [الأعراف: 184] يبين لكم الهدى وطريق الرشد، ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 185] ليستدلوا على أن لها صانعا مدبرا دبرها على ما أراد، ومضى تفسير ملكوت السموات والأرض في { [الأنعام، وقوله:] وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأعراف: 185] أي: وفيما خلق الله من الأشياء كلها، قال ابن عباس: يريد من جليل وصغير.
{وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 185] أي: وفي أن لعل آجالهم قريبة فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185] يعني: بأي كتاب غير ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصدقون؟ يعني: أنه لا نبي بعده ولا كتاب بعد كتابه، فإن لم يؤمنوا بكتابه لم يؤمنوا بكتاب بعده لأنه لا وحي بعده، ثم ذكر سبب إعراضهم عن الإيمان فقال: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186]
376 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ الزِّيَادِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ ابْنِ عَائِشَةَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْجَابِيَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، فَقَالَ نَصْرَانِيٌّ: تركس تركس، فَقَالَ عُمَرُ: مَا يَقُولُ؟ قَالُوا: يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَهْدِي وَلا يُضِلُّ، قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، اللَّهُ خَلَقَكَ وَهُوَ أَضَلَّكَ وَهُوَ يُدْخِلُكَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَوْلا قُرْبُ عَهْدٍ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ
وقوله: ويذرهم رفع بالاستئناف والانقطاع مما قبله، وقرأ أبو عمرو بالياء لتقدم اسم الله تعالى، وقرأ حمزة بالياء والجزم ووجه ذلك فيما يقول سيبويه: أنه عطف على موضع الفاء وما بعدها من قوله: {فَلا هَادِيَ(2/432)
لَهُ} [الأعراف: 186] لأن موضعها جزم بجواب الشرط والحمل على الموضع كثير.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {187} قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ(2/433)
السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {188} } [الأعراف: 187-188] قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] قال الحسن، وقتادة: هم قريش قالت لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أسر إلينا متى الساعة.
قال الزجاج: الساعة ههنا الساعة التي يموت فيها الخلق.
أيان مرساها متى يقع إثباتها، ومعنى أيان: الاستفهام عن الوقت الذي لم يجئ، والمرسى ههنا مصدر بمعنى الإرساء وهو الإثبات، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا} [الأعراف: 187] أي: العلم بوقتها ووقوعها، {عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا} [الأعراف: 187] لا يظهرها في وقتها إلا هو والتجلية: إظهار الشيء، وقوله {ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 187] قال ابن عباس: ثقلت على أهل السموات وأهل الأرض.
يريد: كلهم خائفون منها المحسن والمسيء، {لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً} [الأعراف: 187] فجأة على غفلة منكم وذلك أشد لها.
377 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْكَعْبِيُّ، أنا حَمْدَانُ بْنُ صَالِحٍ الأَشَجُّ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى رَجُلٍ فِي فِيهِ لُقْمَةٌ فَلا يَلُوكُهَا وَلا يُسِيغُهَا، وَعَلَى رَجُلَيْنِ قَدْ نَشَرَا بَيْنَهُمَا ثَوْبًا فَلا يَتَبَايَعَانِهِ وَلا يَطْوِيَانِهِ»
وقوله: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] تقديره: يسألونك عنها كأنك حفي بها ثم حذف الجار والمجرور، وحفي من الإحفاء وهو الإلحاح في السؤال، والمعنى: كأنك عالم بها، أكثرت المسألة عنها.
وهذا قول مجاهد، والضحاك، وابن زيد، {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187] أنه عند الله حين سألوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما لم أطلعه عليه، وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [الأعراف: 188] الآية: قال الكلبي: حين نزلت قال أهل مكة: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فشتري من الرخيص لتربح عليه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترحل منها؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا} [الأعراف: 188] الآية، أي: اجتلاب نفع بأن أربح، ولا ضرا أي: دفع ضر بأن ارتحل من الأرض قبل أن تجدب إلا ما شاء الله أن أملكه، {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأعراف: 188] ما يكون قبل أن يكون، {لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف: 188] لادخرت في زمان الخصب لزمان الجدب، {وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] وما أصابني الضرر والفقر، إن أنا ما أنا إلا نذير: قال ابن عباس: لمن لا يصدق بما جئت به.
{وَبَشِيرٌ} [الأعراف: 188] لمن اتبعني وآمن بي.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {189} فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {190} أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ {191} وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ {192} وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ {193} } [الأعراف: 189-193] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: 189] يعني آدم، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189] ليأنس بها ويأوي إليها، فلما تغشاها جامعها، قال الزجاج: كنى أحسن الكناية.
والغشيان: إتيان الرجل امرأته، وقد غشيها وتغشاها إذا علاها، وقوله: {حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا} [الأعراف: 189] يعني النطفة والمني، فمرت به بذلك الحمل الخفيف أي: قامت وقعدت، لم يثقلها، فلما أثقلت: صارت إلى حال الثقل ودنت ولادتها، {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] يعني حواء وآدم: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} [الأعراف: 189] بشرا سويا مثلنا، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 189] لك على ذلك.
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] قال المفسرون: لما حملت حواء أتاها إبليس في غير صورته التي عرفته، فقال لها: ما الذي في بطنك؟ قالت: ما أدري.
قال: إني أخاف أن يكون بهيمة أو كلبا أو خنزيرا وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك؟ أم ينشق بطنك؟ فخافت(2/434)
حواء فذكرت ذلك لآدم، فلم يزالا في هم من ذلك ثم أتاهما، وقال لها: إن سألت الله أن يجعله خلقا آخر سويا مثلك، ويسهل عليك خروجه حتى تلقيه من بطنك سهلا أتسمينه: عبد الحارث، ولم يزل بها حتى غرها، فلما ولدت ولدا سوى الخلق سمته: عبد الحارث، برضا آدم وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذلك قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ} [الأعراف: 190] أي: لله شركاء يعني: إبليس، فأوقع الجميع موقع الواحد، أراد: جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث، ولا ينبغي أن يكون عبدا إلا لله.
وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خدعهما مرتين، خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض» .
قال قتادة: أشركا في الاسم ولم يشركا في العبادة.
ويعني أنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة أمه، وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به أنه مملوك كما قال الشاعر:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
وقرأ نافع: شِركا بكسر الشين ووجهه: أنه حذف المضاف بتقدير: جعلا له ذا شرك، أي: شريكا، وتم الكلام ثم عاد إلى الخبر عن الكفار، ونزه نفسه عن إشراكهم فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] قال ابن عباس: يريد: أهل مكة.
وهذا قول مقاتل، والسدي، ثم أنكر عليهم فقال: أيشركون بالله في العبادة، {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا} [الأعراف: 191] يعني: الأصنام، وهم يخلقون يريد: وهم مخلوقون.
{وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} [الأعراف: 192] قال ابن عباس: إن الأصنام لا تنصر من أطاعها، {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 192] قال الحسن: لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بشر أو نحوه، ثم خاطب المؤمنين فقال: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} [الأعراف: 193] وإن تدعوا المشركين إلى الإسلام، لا يتبعوكم، وقرأ نافع بالتخفيف، وهما لغتان: اتبعه وتبعه تبعا.
{سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ} [الأعراف: 193] إلى الدين وعبادة الله، {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193] أي: صمتُّم عن ذلك الدعاء، لتركهم الانقياد للحق، وهذا كقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [يس: 10] .(2/435)
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {194} أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ {195} إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ {196} وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ {197} وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ {198} } [الأعراف: 194-198] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 194] قال المفسرون: يعني الأصنام، عباد أمثالكم: قال الكلبي: مملوكون.
وقال الأخفش: عباد أمثالكم في التسخير.
أي: إنهم مسخرون مذللون لأمر الله، {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [الأعراف: 194] قال ابن عباس: فاعبدوهم هل يثيبونكم أو يجازونكم.
{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف: 194] إن لكم عندهم منفعة وثوابا، أو شفاعة ونصرة، ثم فضل بني آدم عليهم، وقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] مشي بني آدم، {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ} [الأعراف: 195] كما لبني آدم، يبطشون يأخذون بها ومعنى البطش: التناول والأخذ بشدة، عرفهم الله تعالى أنهم مفضلون عليهم بالأرجل الماشية والأيدي الباطشة والأعين البصيرة والآذان السامعة فكيف يعبدون من هم أفضل منه؟ وفي هذا بيان جهالتهم، قل لهم يا محمد: ادعوا شركاءكم الذين تعبدون من دون الله، ثم كيدون أنتم وشركاؤكم فلا تنظرون لا تمهلوني واعجلوا في كيدي، قال الحسن: إنهم كانوا يخوفونه بآلهتهم فقال: الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} [الأعراف: 195] الآية.
ثم ذكر أن الله يتولى حفظه ونصرته، فقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196] أي: القرآن، أي: إنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنزال الكتاب، {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] قال ابن عباس: يريد الذين لا يعدلون بالله شيئا، أي: إن الله يتولاهم بنصره، فلا يضرهم عداوة من عاداهم.
وقوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198] قال الحسن: يعني المشركين.
والمعنى: وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الهدى لا يسمعوا، أي: لا يعقلوا ذلك بقلوبهم فلا يجيبونكم، {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 198] بأعينهم، {وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] بقلوبهم.
والمفسرون على أن الآية في صفة الأصنام وبيان ما هي عليه من النقص، ومعنى: ينظرون إليك: قال ابن الأنباري: يخيل إليك أنهم مبصرون لأن لها أعينا مصنوعة مركبة بالجواهر، وهم غير مبصرين في الحقيقة.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ {199} وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {200} إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ {201}(2/436)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ {202} وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ {203} } [الأعراف: 199-203] قوله تعالى: خذ العفو الآية:
378 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الأَصْبَهَانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ وَكِيعٍ
العفو: ما أُتي بغير كلفة، ذكرنا ذلك عند قوله: {مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] ، قال مجاهد، والحسن: أمر أن يأخذ عفو أخلاق الناس.
والمعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فيتولد منه البغضاء، وأمر بالعرف العرف، والعارفة، والمعروف: ما يعرف كل أحد صوابه، وتستحسنه النفوس، قال مقاتل، وعروة، والضحاك: وأمر بالمعروف، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] صن نفسك عن مقابلتهم، على سفههم، قال قتادة: في هذه الآية أخلاق أمر الله بها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودله عليها: «وهذه الآية أجمع لمكارم الأخلاق» .
379 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ،(2/437)
أنا أَبُو الْيَمَانِ، نا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
قال ابن زيد: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كيف يا رب والغضب؟» فنزل قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} [الأعراف: 200] نزغ الشيطان: وساوسه ونخسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي.
قال ابن عباس: يريد: يعرض لك من الشيطان عارض.
وقال الزجاج: إن نالك من الشيطان أدنى وسوسة.
فاستعذ بالله: اطلب النجاة من تلك الوسوسة بالله، أي: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه سميع: لدعائك، {عَلِيمٌ} [الأعراف: 200] بما عرض لك.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الأعراف: 201] قال ابن عباس: يريد المؤمنين الذين اتقوا الكفر والشرك والفواحش.
{إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} [الأعراف: 201] ، وقرئ: طيف، قال الليث: طائف الشيطان، وطيف الشيطان: ما يغشى الإنسان من وساوسه.
وقال الفراء: الطائف والطيف سواء وهو ما كان كالخيال، والشيء يلم بك.
وقال أبو عمرو: الطائف ما يطوف حول الشيء، وهو هنا ما يطوف به من وسوسة الشيطان، والطيف اللمة والوسوسة.
قال ابن عباس: إذا مسهم عارض من وسوسة الشيطان.
وقال مجاهد، وسعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل يغضب الغضبة، فيذكر الله فيكظم الغيظ.
وروى ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه، وهو قوله: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] أي: يبصرون مواقع خطئهم بالتذكر والتفكر، قال السدي: إذا زلوا زلة(2/438)
تابوا.
وقال مقاتل: إن المتقي إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف أنها معصية، فأبصرها فنزع من مخالفة الله.
وقوله: {وَإِخْوَانُهُمْ} [الأعراف: 202] يعني: إخوان المشركين من الشياطين، قال الكلبي: لكل كافر أخ من الشياطين.
{يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} [الأعراف: 202] يطولون لهم الإغواء حتى يستمروا عليه، كقوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] ، ومن قرأ: بضم الياء من الإمداد فقد استعمل ما هو للخير في ضده، وذلك أن الإمداد إنما جاء فيما يحمد، كقوله: وأمددناهم بفاكهة، {نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] أتمدونني بمال.
وقوله: {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] الإقصار: الكف عن الشيء، يقال: أقصر عن الشيء.
إذا كف عنه وانتهى، قال الضحاك، ومقاتل: يعني المشركين، لا يقصرون عن الضلالة ولا يبصرونها بخلاف ما قال في المؤمنين: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ، وروي عن ابن عباس أنه قال: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم، وعلى هذا قوله: {ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202] من فعل المشركين والشياطين جميعا.
قوله: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا} [الأعراف: 203] قال الفراء: العرب تقول: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته.
إذا افتعلته من قبل نفسك.
قال الكلبي: إن أهل مكة كانوا يسألون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا: لولا اجتبيتها أي: هلا أحدثتها وأنشأتها.
وقال قتادة: هلا افتعلتها من قبل نفسك؟ وقال ابن زيد: لولا تقولتها وجئت بها من قبل نفسك؟ فأعلمهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الآيات من قبل الله تعالى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203] أي: ليس الأمر إلي إنما أتّبع الوحي من الله تعالى.
قوله: هذا أي: هذا القرآن الذي أتيت به، {بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 203] دلائل تقود إلى الحق، وقال المفسرون: حجج وبرهان من ربكم.(2/439)
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {204} وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ {205} إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ {206} } [الأعراف: 204-206] قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ} [الأعراف: 204] الآية نزلت في تحريم الكلام في الصلاة، وكانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأمر بالاستماع إلى قراءة القرآن والسكوت للاستماع، وهو قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ، وقال قوم: نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام.
380 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، أنا الأَوْزَاعِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: نَزَلَتْ فِي رَفْعِ الأَصْوَاتِ وَهُوَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلاةِ
ولا تدل الآية على ترك القراءة خلف الإمام لأن هذا الإنصات المأمور به إنما هو نهي عن الكلام في الصلاة أو عن الجهر كما ذكرنا، وعلى هذا فحكم الظاهر ممتثل عند الشافعي لأن السنة عنده أن يسكت الإمام بعد فراغه من الفاتحة فيقرأ المأموم الفاتحة في حال سكتة الإمام على أن قراءة الفاتحة مخصوصة بالسنة لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كنتم خلفي فلا تقرءوا إلا بفاتحة الكتاب فإن لا صلاة إلا بها» .
وقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} [الأعراف: 205] قال ابن عباس: يعني: بالذكر القراءة في الصلاة.
تضرعا وخيفة قال ابن زيد:(2/440)
يريد يتضرع إلي ويخاف مني.
أمر في صلاة الإسرار أن يقرأ في نفسه، وفيما يرفع فيه الصوت بالقراءة أمر أن يقرأ دون الجهر، وهو قوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} [الأعراف: 205] ، والمسنون دون الجهر لقوله في آية أخرى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء: 110] الآية.
وقوله: بالغدو والآصال الغدو جمع غدوة، والآصال واحدها أصل، وواحد الأصل أصيل، قال الزجاج: الآصال العشيات جمع الجمع.
قال ابن عباس: يريد بكرة وعشيا، يعني الصلوات.
قال قتادة: أمر الله بذكره، ونهى عن الغفلة.
وهو قوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] .
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206] يعني: الملائكة، قال الزجاج: يعني أنهم بالقرب من رحمة الله تعالى ومن فضله.
{لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206] أي: لا يتعظمون عن عبادته، {وَيُسَبِّحُونَهُ} [الأعراف: 206] يذكرونه بالتسبيح، كأنه قيل: من هو أكبر منك شأنا أيها الإنسان لا يستكبرون عن عبادة الله وتسبيحه والصلاة له، وهو قوله: وله يسجدون.
381 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهْ أُمِرَ هَذَا بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِي النَّارُ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ
382 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ، نا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الأَسْلَمِيُّ، قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآتِيهِ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ، فَقَالَ: " سَلْنِي، فَقُلْتُ: مُرَافَقَتُكَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: أَوَغَيْرَ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعْنِي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ مُوسَى، عَنْ هِقْلٍ(2/441)
383 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الإِسْفَرَائِينِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَانِي، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنِي كَثِيرٌ الأَعْرَجُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا فَاطِمَةَ، يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْثِرْ مِنَ السُّجُودِ فَإِنَّهُ لا يَسْجُدُ عَبْدٌ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِه خَطِيئَةً»(2/442)
سورة الأنفال
مدنية وآياتها خمس وسبعون
384 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأَنْفَالِ وَبَرَاءَةً فَأَنَا لَهُ شَفِيعٌ وَشَاهِدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَيُرْفَعُ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَكَانَ الْعَرْشُ وَحَمَلَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا»
بسم الله الرحمن الرحيم {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {1} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ {2} الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {3} أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {4} } [الأنفال: 1-4] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآية: النفل: الغنيمة وجمعه أنفال، قال المفسرون: اختلف أهل بدر في الغنائم، فقال الشبان: لنا الغنائم لأنا أبلينا.
وقالت الأشياخ: كنا ردءا لكم، ولو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلا تذهبوا بها دوننا.
فأنزل الله هذه الآية، ومعنى يسألونك عن الأنفال أي: عن حكمها وعلمها سؤال استفتاء، قال الزجاج: إنما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم.
وقال صاحب النظم: معناه: يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ يدل على هذا قوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] يحكمان فيها على ما أرادا ويضعانها حيث شاءا، فلما نزلت هذه الآية قسمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/443)
بين أهل بدر على السواء.
وقوله: فاتقوا الله أي: بطاعته واجتناب معاصيه، {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] أي: المنازعة الواقعة بينكم في الأنفال، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 1] قال الزجاج: اقبلوا ما أمرتم به في الغنائم وغيرها، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] يعني: أن الإيمان يوجب القبول من الله ورسوله، وهذه الآية منسوخة بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية، وكانت الغنائم يومئذ خاصة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنسخها الله بالخمس.
قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] تأويله: إذا ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاه فزعت قلوبهم، يقال: وجل يوجل فهو وجل.
إذا خاف، يقول: إنما المؤمن الذي إذا خوف بالله فرق قلبه، وانقاد لأمره خوفا من عقابه، وفيه إشارة إلى إلزام أصحاب بدر بطاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يرى من قسمة الغنائم.
وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] قال ابن عباس: تصديقا ويقينا.
والمعنى: أنهم يصدقون بالأولى والثانية والثالثة، وكل ما يأتي من عند الله فيزيد تصديقهم، {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] قال ابن عباس: يتقون لا يرجون غيره.
ثم زاد في وصفهم فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال: 3] الآية، ثم حقق لهم الإيمان فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] قال ابن عباس: برئوا من الكفر.
وقال مقاتل: أولئك هم المؤمنون لا شك في إيمانهم كشك المنافقين.
{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنفال: 4] قال عطاء: يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم.
ورزق كريم يعني: ما أعد الله لهم في الجنة.
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ {5} يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ {6} وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ {7} لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ {8} } [الأنفال: 5-8] قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} [الأنفال: 5] أي: أمرك بالخروج ودعاك إليه، من بيتك يعني المدينة، {بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5] أي: بالوحي ذلك أن جبريل أتاه وأمره بالخروج، قال المفسرون: إن الله تعالى أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخروج من المدينة(2/444)
لطلب عير قريش، وكره ذلك طائفة من المؤمنين لأنهم علموا أنهم لا يظفرون بالعير عفوا دون قتال، فذلك قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] يعني: كراهة الطبع التي تلحق في السفر والقتال، ومعنى الكاف في كما قال الفراء، والزجاج: أي: امض لأمر الله في الغنائم كما مضيت لأمره في الخروج وهم له كارهون.
قال الزجاج: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] ، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5] ويكون التأويل نفل من شئت وإن كرهوا، كما أخرجك ربك من بيتك وإن كرهوا.
قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ} [الأنفال: 6] قال المفسرون: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه خرجوا لطلب عير قريش، فمنعت قريش عيرها بالنفير فالتقوا وأمروا بالقتال، ولم يكونوا أعدوا له أهبة فشق ذلك عليهم، وقالوا: هلا أخبرتنا فكنا نعد له.
وجادلوه طلبا للرخصة في ترك القتال، إذ كانوا رجالة ولم يكن فيهم إلا فارسان فخافوا، فذلك قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6] أي: لشدة كراهتهم للقتال كأنهم يساقون إلى الموت عيانا.
قوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] يعني: العير والنفير، وقال قتادة: الطائفتان إحداهما: أبو سفيان أقبل بالعير من الشام، والطائفة الأخرى: أبو جهل معه نفير قريش، وقوله: أنها لكم يدل على إحدى، {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال: 7] أي: تودون أن الطائفة التي ليس فيها حرب ولا سلاح وهي العير تكون لكم، والمراد بالشوكة: السلاح، {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ} [الأنفال: 7] يظهره ويعليه، {بِكَلِمَاتِهِ} [الأنفال: 7] بعِدَاتِهِ التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 7] يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد، يعني كفار العرب.
ليحق الحق أي: يقطع دابرهم ليحق الحق بإظهاره وإعلائه أمره، ويبطل الباطل بإهلاكه وافنائه على كره من المشركين، وهو قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8] .
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ {9} وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {10} إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ {11} إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ {12} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {13} ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ {14} } [الأنفال: 9-14] قوله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] أي: تطلبون منه المعونة والغوث، قال المفسرون: تستجيرون به من عدوكم وتدعونه بالنصر عليهم.(2/445)
385 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّيْنَبِيُّ، نا بُنْدَارٌ، نا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: «اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ» فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] الآيَةَ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ
وقوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] متتابعين بعضهم في إثر بعض، وقال أبو حاتم: ومعناه: بألف من الملائكة جاءوا بعد المسلمين على آثارهم.
يقال: ردفه وأردفه.
إذا جاء بعده، ومن قرأ بفتح الدال(2/446)
فمعناه بألف أردف الله المسلمين بهم.
قال مجاهد: الإرداف إمداد المسلمين بهم.
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} [الأنفال: 10] الآية مفسرة في { [آل عمران.
وقوله:] إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [سورة الأنفال: 11] ذكرنا تفسيره عند قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] الآية، والمعنى: أن الله أمنهم أمنا حتى غشيهم النعاس ومن قرأ: يُغْشيكم أو يُغَشيكم، أسند الفعل في هذا إلى الله، وقوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] قال الوالبي، عن ابن عباس: إن المسلمين لما بايتوا المشركين ببدر أصابت منهم جماعة جنابات، وكان المشركون سبقوهم إلى الماء وغلبوهم عليه، فساءهم عدم الماء عند حاجتهم إليه، فأنزل الله تعالى مطرا سال منه الوادي حتى اغتسلوا وتطهروا.
وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] يعني: وسوسته التي تكسب عذاب الله، وذلك أن الشيطان وسوس إليهم، وقال لهم: كيف ترجون الظفر وقد غلبوكم على الماء.
وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم نبيه؟ وقوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنفال: 11] الربط معناه: الشد، يقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه.
وعلى صلة، والمعنى: وليربط قلوبكم بما أنزل الله من الماء فتثبت ولا تضطرب بوسوسة الشيطان، وقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال: 11] وذلك أن المسلمين كانوا قد نزلوا على كثيب تغوص فيه أرجلهم فلبده المطر حتى تثبت عليه الأقدام.
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ} [الأنفال: 12] يعني: الذين أمد بهم المسلمين، أني معكم بالعون والنصرة، {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12] قال مقاتل: يعني: بشروهم بالنصر، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل، ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم، وقال الزجاج: جائز(2/447)
أن يكونوا يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوبهم تقوى بها.
وقال الحسن: «فثبتوا الذين آمنوا بقتالكم المشركين» .
وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 12] قال عطاء: يريد الخوف من أوليائي، {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] يعني الرءوس لأنها فوق الأعناق، قال عطاء: يريد كل هامة وجمجمة.
وجائز أن يكون هذا أمر للمؤمنين، وجائز أن يكون أمرا للملائكة وهو الظاهر، قال ابن الأنباري: إن الملائكة حين أمرت بالقتال لم تعلم أين تقصد بالضرب من الناس، فعلمهم الله تعالى أن يضربوا الرءوس , وقوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] قال ابن عباس، وابن جريج، والسدي: يعني الأطراف من اليدين والرجلين.
وقال الفراء: يعني الأيدي والأرجل.
قال ابن الأنباري: البنان أطراف الأصابع فاكتفى الله به من جملة اليد والرجل.
ذلك بأنهم أي: ذلك الضرب بأنهم {شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] قال ابن عباس: حاربوا الله ورسوله.
والمعنى: خالفوا أمر الله ورسوله، ثم أوعد المخالف لهما بباقي الآية، ذلكم أي ذلك الضرب، {فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14] وعيد للكفار بعذاب النار بعد ما نزل بهم من ضرب الأعناق وكل بنان.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {16} فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {17} ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ {18} } [الأنفال: 15-18] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] أي متدانين لقتالكم، قال الليث: الزحف: جماعة يزحفون إلى عدو لهم بمرة فهو الزحف وجمعه الزحوف.
قال الزجاج: إذا واقفتموهم للقتال فلا تنهزموا.
وهو قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] أي: لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم.
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ} [الأنفال: 16] يعني: يوم لقاء الكفار، {دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنفال: 16] أي: منعطفا كأنه يطلب عودة يمكنه إصابتها، ينحرف عن وجهه ويرى أنه منهزم، ثم يكر، أو متحيزا أي: متنحيا منضما إلى فئة جماعة من المسلمين يريدون العودة إلى القتال، ومعنى الآية: النهي عن الانهزام بين يدي الكفار إلا أن يكون متحرفا لقتال أو(2/448)
منضما إلى جماعة يعودون للقتال، فإذا انهزم ونوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم ويعود إلى القتال لم يلحقه هذا الوعيد، وهو قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] وأكثر المفسرين على أن هذا الوعيد خاص فيمن انهزم يوم بدر، ولم يكن لهم أن ينحازوا لأنه لم يكن يومئذ في الأرض فئة للمسلمين، فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض.
وهذا قول أبي سعيد الخدري، وابن عباس في رواية الكلبي، والحسن، وقتادة، والضحاك.
386 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُونُسَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَأَتَيْنَا الْمَدِينَةَ فَتَخَبَّأْنَا بِهَا، وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، قَالَ: «بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ وَأَنَا فِئَتُكُمْ» .
رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ(2/449)
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ مَنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ إِذَا لَمْ يَزِيدُوا عَلَى ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ
وقوله: ومأواه جهنم لا يدل على التخليد، ومعناه: أن مرجعه إليها إلى وقت الرحمة والشفاعة، قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] قال الكلبي: بالملائكة: جبريل ومن معه.
وقال أهل المعاني: لأن الله تعالى تولى نصرهم بأن شجع قلوبهم، وألقى الرعب في قلوب المشركين.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] قال المفسرون: إن جبريل قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرش فأخذ قبضة من حصبة الوادي، فرمى بها وجه القوم وقال: شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا دخل عينه منها شيء وشغل بعينه فكان ذلك سبب هزيمتهم.
قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن كفا من حصباء لا يملأ عيون ذلك الجيش الكبير برمية بشر، وأنه تعالى تولى إيصال ذلك إلى أبصارهم فقال: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] .
{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17] ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر والمثوبة، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الأنفال: 17] لدعائكم، عليم بنياتكم.
قوله: ذلكم أي: الأمر ذلكم الذي ذكرت، {وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18] بإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم، قال ابن عباس: يقول: إني قد أوهنت كيد عدوكم حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم.
{إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] قال ابن عباس: إن أبا جهل قال يوم بدر قبل القتال: اللهم انصر أفضل الفريقين وأكرم الدينين، وأرضاهما عندك فنزلت هذه الآية.
قال عبد الله بن ثعلبة: كان المستفتح أبا جهل، وإنه قال حين التقى القوم: اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف، فافتح عليه الغداة، فأنزل الله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال: 19] إن تستنصروا لأهدى الفئتين فقد جاءكم النصر، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والسدي، والضحاك.(2/450)
وقوله: وإن تنتهوا أي: عن الشرك بالله، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا} [الأنفال: 19] لقتال محمد، نعد عليكم بالقتل والهزيمة، {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} [الأنفال: 19] جماعتكم {شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} [الأنفال: 19] في العدد، {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] بالعون والنصر، فمن كسر إن فهو منقطع عما قبله، ومن فتح كان وجهه: ولأن الله مع المؤمنين أي لذلك لن تغني عنكم فئتكم شيئا.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ {20} وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ {21} إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ {22} وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ {23} } [الأنفال: 20-23] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: 20] ولا تعرضوا عنه، وأنتم تسمعون موعظتي وما أعددت لأوليائي وأعدائي من الثواب والعقاب، وقال ابن عباس: لا تولوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتم تسمعون ما نزل من القرآن.
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] قال ابن عباس: يعني اليهود قريظة، والنضير.
قال الزجاج: معنى قوله: {سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال: 21] أنهم سمعوا سماع عداوة وبغضاء، فلم يتفقهوا ولم يتفكروا فيما سمعوا، فكانوا بمنزلة من لم يسمع.
وقال مقاتل: يعني المنافقين الذين يقولون سمعنا سماع قابل وليسوا كذلك.
قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} [الأنفال: 22] قال ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل: يريد نفرا من بني عبد الدار كانوا صما عن الحق فلا يسمعونه بكما عن التكلم به.
فكل ما دب على الأرض فهو من جملة الدواب، بين الله تعالى أن هؤلاء الكفار شر ما دب على وجه الأرض من الحيوان، وقوله: {الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: 22] أي: الذين لا يقبلون القرآن ولا يعقلون الموعظة.
قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] لو علم أنهم يصلحون بما يورده عليهم من حججه وآياته(2/451)
لأسمعهم إياها سماع تفهم وتعليم، ولو أسمعهم بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، و {لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {24} وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {25} وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {26} } [الأنفال: 24-26] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 24] أجيبوهما بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم قال السدي: هو الإيمان وهو حياة القلب، والكفر موته.
وقال قتادة: يعني القرآن، وفيه الحياة والنجاة والعصمة، والقرآن سبب الحياة بالعلم.
والأكثرون على أن معنى قوله: لما يحييكم الجهاد، قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بالجهاد لأن أمرهم إنما يقوى به.
وقال الزجاج: أي: لما يكون سببا للحياة الدائمة في نعيم الآخرة وهو الجهاد.
وقال ابن قتيبة: يعني: الشهادة لأن الشهداء أحياء عند ربهم وسبب الشهادة الجهاد.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.
وهذا قول ابن عباس، وسعد بن جبير، وعطاء، وقال السدي: يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه.
وقوله: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24] أي: للجزاء على الأعمال.
قوله: واتقوا فتنة قال الزبير بن العوام: نزلت هذه الآية ونحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وما أرانا من أهلها، وإذا نحن المعنيون بها.
يعني: ما كان يوم الجمل، قال السدي، ومقاتل، والضحاك، والحسن، وقتادة: هذا في قوم مخصوصين من أصحاب(2/452)
محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابتهم الفتنة يوم الجمل، أمر الله تعالى باتقاء الفتنة التي تتعدى المظالم، فتصيب الصالح والطالح جميعا، ولا تقتصر على الذين ظلموا دون غيرهم.
قال الكلبي: تصيب الظالم والمظلوم، ولا تكون للظلمة وحدهم خاصة دون غيرهم ولكنها عامة.
وقال ابن زيد: أراد بالفتنة افتراق الكلمة، ومخالفة بعضهم بعضا.
قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] قال المفسرون: يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه حين كانوا بمكة في ابتداء الإسلام قبل الهجرة مستضعفين، في الأرض قال ابن عباس: في أرض مكة، تخافون إن خرجتم منها {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} [الأنفال: 26] يستلبكم المشركون من العرب، فآواكم يعني: جعل لكم مأوى ترجعون إليه، يعني: المدينة دار الهجرة، وأيدكم بنصره وقواكم بالأنصار، وقال الكلبي: يعني يوم بدر قواكم بالملائكة، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الأنفال: 26] أحل لكم الغنائم ولم تحل لأحد قبلكم، والمعنى: قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن بتلك الحالة المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة وتشكروا عليه، وهو قوله: لعلكم تشكرون {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {27} وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ {28} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {29} } [الأنفال: 27-29] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [الأنفال: 27] نزلت الآية في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قريظة لما حاصرهم وكان أهله وولده فيهم، فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى لنا؟ أننزل على حكم سعد فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، أي: إنه الذبح فلا تفعلوا، فكانت تلك منه خيانة لله ورسوله، قال أبو لبابة: ما زالت قدماي من مكاني حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله.
وقوله: وتخونوا أماناتكم عطف على النهي، المعنى: ولا تخونوا أماناتكم، قال ابن عباس في رواية الوالبي: الأمانات: الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد.
يقول: لا تنقصوها.
يقول الكلبي: أما خيانة الله ورسوله فمعصيتهما، وأما خيانة الأمانة فكل أحد مؤتمن على ما افترض الله عليه، إن شاء خانها وإن شاء أداها، لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى.
وقوله: وأنتم(2/453)
تعلمون أي: تعلمون أنها أمانة من غير شبهة، وقال صاحب النظم: وأنتم تعلمون أن ما فعلتم من الإشارة إلى الخلق خيانة لله ورسوله.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] أي: محنة يظهر بها ما في النفس من اتباع الهوى أو تجنبه، وكان لأبي لبابة مال وولد وأهل في قريظة، لذلك مال إليهم في إطلاعهم على أن حكم سعد فيهم القتل، وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] قال ابن عباس: يريد: لمن نصح لله ولرسوله وأدى أمانته، وقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] إن تتقوه باجتناب المعاصي {يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم بنصره إياكم عليهم.
وهذا قول مقاتل، وقال عكرمة، والسدي: فرقانا نجاة، يعني: أن الله يفرق بينكم وبين من تخافون، فتنجون.
والفرقان مصدر لفرق، {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [الأنفال: 29] يمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29] أي: أنه يملك الفضل العظيم فاكتفوا بالطلب من عنده دون غيره.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: إن مشركي قريش تآمروا في دار الندوة في المكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم: قيدوه نتربص به ريب المنون.
وقال بعضهم: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه.
وقال أبو جهل: ما هذا برأي ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل، فيضربون بأسيافهم ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فيرضون بأخذ الدية، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك وأمره بالخروج إلى المدينة، فخرج إلى الغار، فذلك قوله: ليثبتوك أي: ليوثقوك ويشدوك وكل من شُدَّ فقد أُثبت لأنه لا يقدر على الحركة في الذهاب والمجيء، وقال السدي: ليحبسوك في بيت.
أو يقتلوك كما قال اللعين أبو جهل، أو يخرجوك من مكة إلى طرف من أطراف الأرض، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30] قال الزجاج: ومكر الله بهم إنما هو مجازاة ونصر للمؤمنين.
{وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] : لأنه أهلك هؤلاء الذين دبروا لنبيه الكيد، وخلصه منهم، وذكرنا معنى هذا عند قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] الآية.(2/454)
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} [الأنفال: 31] الآية: قال المفسرون: كان النضر بن الحارث خرج إلى الحيرة تاجرا، فاشترى أحاديث كليلة ودمنة، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عليهم، فلما قص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شأن القرون الماضية، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا، إن هذا إلا ما سطر الأولون في كتبهم.
فذمهم الله تعالى بدفعهم الحق كذبا وافتراء، وإدعائهم الباطل بعد ما أبان التحدي إفكهم، وأنهم عجزوا عن إتيان { [مثله، وذكرنا معنى الأساطير في سورة الأنعام.
] وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {32} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ {33} وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {34} وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {35} } [سورة الأنفال: 32-35] وقوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32] الآية: قال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد حقا من عندك {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] كما أمطرتها على قوم لوط، {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] أي: ببعض ما عذبت به الأمم.
وإنما قالوا هذا لشبهة تمكنت من نفوسهم، ولو عرفوا بطلان ما هم عليه ما قالوا مثل هذا القول مع علمهم بأن الله قادر على ذلك، فطلبوا إمطار الحجارة من السماء إعلاما أنهم في غاية الثقة في أن أمر محمد ليس بحق، وإذا لم يكن حقا لم يصبهم هذا البلاء الذي طلبوه من عند أنفسهم، لأنهم شرطوا كونه حقا.
أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم المقري، أنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أنا الحسن بن(2/455)
محمد بن إسحاق، نا محمد بن زكريا الغلابي، نا العباس بن بكار، نا عامر بن عبد الله، عن أبي الزناد، قال: قال معاوية لرجل من أهل اليمن: أجهل قومك حيث قالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} [سبأ: 19] ، وحيث ملكوا أمرهم امرأة؟ ! فقال: أجهل من قومي قومك، حيث قالوا حين دعاهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ(2/456)
السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] ، ألا قالوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له؟ ! وجميع المفسرين على أن هذا من قول النضر بن الحارث، وروي في الصحيحين أن هذا من قول أبي جهل لعنه الله.
387 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَاكِمِ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الشَّيْبَانِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، نا أَبِي، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] فَنَزَلَتْ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ
قال المفسرون: ما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم.
قال ابن عباس: لم تعذب قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفيهم المؤمنون يستغفرون، قال ابن عباس: وهم يستغفرون يعني المؤمنين.
قال ابن الأنباري: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33] والمؤمنون بين أظهرهم يستغفرون، فأوقع العموم على الخصوص ووصفوا بصفة بعضهم.
وقال ابن عباس في رواية الوالبي، وعطاء: وهم يستغفرون أي: وفيهم من قد سبق لهم من الله الدخول في الإيمان.
يريد: أن كان معهم قوم كان في علم الله أن يسلموا، منهم: أبو سفيان بن حرب أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، والحارث بن هشام، وحكيم بن حزام، وهذا القول اختيار الزجاج قال: وما كان الله معذبهم وفيهم من يئول أمره(2/457)
إلى الإسلام، والمراد بالتعذيب في هذه الآية تعذيب الاستئصال، ثم ذكر المشركين خاصة وأنه معذبهم بالسيف غير عذاب الاستئصال، فقال: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] أي: لم لا يعذبهم الله بالسيف، {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: 34] يعني: المؤمنين يمنعونهم أن يطوفوا بالبيت، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال: 34] قال الحسن: إن المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام.
فرد الله عليهم وقال: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34] ليس أولياء المسجد إلا المتقين الكفرَ والشركَ والفواحشَ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34] ذلك.
قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 35] المكاء: الصفير، يقال: مكا يمكو مكوا ومكاء.
إذا جمع يديه ثم صفر فيهما، والتصدية: التصفيق وهو ضرب اليد على اليد، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون.
فقال الزجاج: أعلم الله أنهم كانوا مع صدهم أولياء المسجد الحرام وكان تقربهم إلى الله بالصفير والتصفيق.
قال ابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها المكاء والتصدية، فألزمهم ذلك أعظم الأوزار.
وقوله: فذوقوا العذاب يعني: عذاب السيف يوم بدر، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال: 35] تجحدون توحيد الله.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ {36} لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {37} } [الأنفال: 36-37] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] الآية، قال مقاتل، والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل بن هشام، وأخوه الحارث بن هشام، والنضر بن الحارث، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف، وعتبة،(2/458)
وشيبة ابنا ربيعة، ومنبه، ونبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والعباس بن عبد المطلب.
قوله: {لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] أي: ليمنعوا الناس عن الإيمان بتوهين الدين والطعن في الإسلام، ثم أخبر بباقي الآية أن عاقبة إنفاقهم الحسرة، وكونهم مغلوبين، والحشر إلى النار، وهو قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ {36} لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 36-37] أي: إنما يحشرون إليها ليميز بين الكافر والمؤمن بأن يجعل الكفار في جهنم، وهو قوله: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال: 37] يعني: في جهنم يضيقها عليهم، فيركمه جميعا الركم جمعك شيئا فوق شيء حتى يصير مركوما ركاما كالرمل والسحاب، أي: يجمع الخبيث حتى يصير كالسحاب المركوم، وهو أن بعضهم يكون فوق بعض في النار مجتمعين فيها، وهو قوله: {فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37] لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الله في الآخرة.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ {38} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {39} وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ {40} } [الأنفال: 38-40] قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 38] يعني: أبا سفيان وأصحابه: إن ينتهوا عن تكذيب محمد وقتاله والشرك بالله، {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] تقدم منهم من الزنا والربا والشرك والقتل، وإذا أسلم الكافر الحربي كان كيوم ولدته أمه لا ذنب له، قال يحيى بن معاذ في هذه الآية: إن توحيدا لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب.
وإن يعودوا لقتالك، {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 38] بنصر الله رسله ومن آمن على من كفر.
وقاتلوهم يقول: قاتلوا كفار مكة، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 39] شرك بالله وكفر، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] ويكون الدين خالصا لله وليس فيه شرك بالله تعالى، يعني في جزيرة العرب لا يعبد غير الله، فإن انتهوا عن الشرك والقتال، {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] عالم بأعمالهم يجازيهم مجازاة البصير.
وإن تولوا عن الإيمان وأبوا أن يدعوا الشرك، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} [الأنفال: 40] ناصركم، وهذا تطييب لنفوس المؤمنين عند إعراض الكافرين بأن العاقبة لهم لأن الله ناصرهم ومعينهم، وهو قوله: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] {(2/459)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {41} إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ {42} إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {43} وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {44} } [الأنفال: 41-44] قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] أي: أخذتموه من أموال المشركين قسرا، {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] هذا افتتاح كلام لأن الأشياء كلها لله، وقوله: وللرسول كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس الخمس من الغنيمة يصنع فيها ما شاء، وأما اليوم فإنه يصرف إلى مصالح المسلمين والأهم السلاح والكراع، وقوله: ولذي القربى هم: بنو هاشم وبنو المطلب خاصة دون سائر قريش، يقسم بينهم خمس الخمس حيث كانوا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ، وهم الذين حرمت عليهم الصدقة المفروضة، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى أغناكم عن أوساخ الناس بهذا الخمس» .
388 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا مُطَرِّفُ بْنُ(2/460)
مَازِنٍ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَتَيْنَاهُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلاءِ إِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ فِيهِمْ أَرَأَيْتَ إِخْوَانَنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا قُرُبَاتُهُمْ وَقُرُبَاتُنَا وَاحِدَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»
قوله: واليتامى هم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم، والمساكين قال ابن عباس: يريد: المحتاجين وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
وابن السبيل المنقطع في سفره فلا يُترك صنف من هذه الأصناف بغير حظ في قسمة الخمس، ويجوز تفضيل بعضهم على بعض بمقدار الحاجة، هذا الذي ذكرناه كيفية قسمة الخمس من الغنيمة وهي المذكورة في القرآن، والباقي في أربعة أخماس، وهي للغانمين الذين باشروا القتال: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم عند الشافعي، وعند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم.
389 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا(2/461)
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلْقِينَ، عَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى، قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْمَالِ؟ قَالَ: " لِلَّهِ خُمُسُهُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِهَؤُلاءِ يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: فَهَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَ: لا وَلَوِ انْتَزَعْتَ سَهْمًا مِنْ جَنْبِكَ لَمْ تَكُنْ بِهِ أَحَقَّ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ "
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41] قال الزجاج: المعنى: اعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول يأمر أن فيه ما يريد، {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41] ، أي: فاقبلوا ما أمرتم في الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله يعني قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] ، لأن هذا نزل عليه يوم بدر حين اختلفوا في الغنائم، وإذا آمنوا بهذا صدروا في أمر الغنيمة عن أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا صدروا عن أمره عملوا فيها بموجب هذه الآية.
وقوله: يوم الفرقان قال الوالبي عن ابن عباس: يعني: يوم بدر، فرق الله فيه بين الحق والباطل، وهو: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] حزب الله وحزب الشيطان.
أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد، أنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه، نا أحمد بن الحسين الجنيد، نا زياد بن أيوب، نا هشيم، نا إسماعيل بن سالم، سمعت الشعبي، يقول: ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41] قال ابن عباس: قدير على نصركم وأنتم أقلة أذلة.
وقوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} [الأنفال: 42] قال ابن السكيت: عدوة الوادي، وعدوته جانبه، والجمع عدى وعدى، والدنيا تأنيث الأدنى، وضدها(2/462)
القصوى وهي تأنيث الأقصى، وما كان من النعوت على فعلي من بنات الواو فإن العرب تحوله إلى الياء، نحو الدنيا من دنوت، والعليا من علوت لأنهم يستثقلون الواو مع ضم الأول، وليس في هذا اختلاف إلا أن أهل الحجاز قالوا: القصوى فأظهروا الواو، وهو نادر وغيرهم يقولون القصيا، قال المفسرون: إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأدنى في المدينة، وعدوكم نزول بشفير الوادي الأقصى إلى مكة، وكان الجمعان قد نزلا الوادي الذي ببدر على هذه الصفة.
والركب جمع راكب يعني: العير، أبا سفيان وأصحابه، أسفل منكم في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر، ولو تواعدتم للقتال، {لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال: 42] لكثرتهم وقلتكم، ولكن جمعكم الله من غير ميعاد، {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} [الأنفال: 42] أي: في علمه وحكمه، وهو أنه أراد أن يعز الإسلام وأهله ويذل الشرك وأهله.
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] أكثر أهل العلم على أن المراد بالهلاك ههنا الكفر والضلال، وبالحياة الاهتداء والدين، والمعنى: ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه فقطعت عذره، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، وهو قوله: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ} [الأنفال: 42] لدعائكم، {عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] بنياتكم.
قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا} [الأنفال: 43] أي: في عينك التي هي موضع النوم، قال ابن عباس: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا} [الأنفال: 43] أي: لتحتكرهم وتجترئ عليهم، {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ} [الأنفال: 43] لجبنتم وتأخرتم عن حربهم، {وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [الأنفال: 43] اختلفتم فيما بينكم {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43] سلمكم من المخالفة والفشل، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43] قال ابن عباس: علم ما في صدوركم من الحب لله.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا} [الأنفال: 44] قال مقاتل: لما التقوا قلل الله المشركين في أعين المسلمين.
قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا ببدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، وأسرنا رجلا، فقلنا: كم أنتم؟ قال: ألف.
وقوله: {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] قال ابن عباس: ليجترئوا عليكم بالقتال ولا تنهزموا.
وقال الكلبي: استقل المؤمنون المشركين ليجترئ يعضهم على بعض.
{لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} [الأنفال: 44] من نصر المسلمين على المشركين، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [الأنفال: 44] قال ابن عباس: وبعد هذا مصيركم إلي، فأكرم أوليائي وأعاقب أعدائي.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {45} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46} وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ(2/463)
خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {47} وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {48} إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {49} } [الأنفال: 45-49] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] قال الكلبي: إذا لقيتم جماعة العدو فاثبتوا لعدوكم.
واذكروا الله قال قتادة: أمر الله بذكره، وهم أشغل ما يكونون عند الضراب بالسيف.
وقال غيره: أراد بالذكر ههنا الدعاء بالنصر والظفر.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 46] فيما يأمركم به، ولا تنازعوا لا تختلفوا فيما بينكم، فتفشلوا فتجبنوا عن عدوكم، وتذهب ريحكم جلدكم وجدكم، وقال مجاهد: نصرتكم.
وقال السدي: جرأتكم، وقال الأخفش: دولتكم.
والريح ههنا: كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، والعرب تقول: هبت ريح فلان.
إذا أقبل أمره على ما يريد، وركدت ريحه.
إذا أدبر أمره، وقال ابن زيد، وقتادة: يعني: ريح النصر، لم يكن نصر قط إلا ريح يبعثها الله يضرب بها وجوه العدو، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور» .
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} [الأنفال: 47] الآية: قال جماعة المفسرين: يعني: قريشا خرجوا من مكة ليحموا غيرهم، فخرجوا معهم القيان والمعازف يشربون الخمور وتعزف عليهم القيان، فذلك قوله: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47] قال الزجاج: البطر: الطغيان في النعمة وترك شكرها، والرياء: إظهار الجميل ليرى مع إبطان القبيح، يقال: راءى يرائي رياء ومراءاة، قال قتادة: هؤلاء(2/464)
أهل مكة خرجوا ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادك ورسولك» .
فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصرة الدين، وقوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 47] أي: بمعاداة المسلمين، وتكذيب الداعي إليها، قال ابن عباس: يضلون عن دين الله.
{وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47] أي: أنه عالم بما يعملون فهو يجازيهم.
قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [الأنفال: 48] قال الكلبي: يعني مسيرهم إلى بدر، {وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: 48] وذلك أنهم لما أجمعوا السير خافوا بني كنانة لأنهم كانوا يطلبونهم بدم، فأتاهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني، وقال: أنا جار لكم على بني كنانة، وذلك قوله: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} [الأنفال: 48] أي: حافظ لكم منهم فلا يصل إليكم من جهتهم مكروه، {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ} [الأنفال: 48] التقى الجمعان من المسلمين والمشركين، وصارتا بحيث رأى أحدهما الآخر، رأى إبليس جبريل ينزل ومعه الملائكة، فولى مدبرا، وهو قوله: {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] يقال: نكص ينكص نكوصا.
إذا تأخر عن الشيء وجبن، قال ابن عباس: رجع موليا.
وقال ابن قتيبة: رجع القهقرى.
وقال الكلبي: كان إبليس لعنه الله في صف المشركين على صورة سراقة آخذا بيد الحارث بن هشام، فرأى الملائكة حين نزلت من السماء فنكص على عقبيه، فقال له الحارث: يا سراقة أفرارا من غير قتال؟ فقال له: يا حارث، {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] ، ودفع في صدر الحارث، وانطلق وانهزم الناس.
قال قتادة: صدق عدو الله في قوله: {إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] ، وكذب في قوله: {إِنِّي(2/465)
أَخَافُ اللَّهَ} [الأنفال: 48] ، والله ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له، فأوردهم وأسلمهم، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه.
وقال عطاء: إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك.
قوله {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} [الأنفال: 49] قال ابن عباس: من الأوس والخزرج وأهل المدينة.
{وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأنفال: 49] قوم من قريش كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا، فخرجوا مع من خرج من مكة لقتال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، فلما رأوا قلة عدد المسلمين، قالوا: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} [الأنفال: 49] إذ خرجوا مع قلة عددهم لحرب قريش مع كثرتهم، ولا يشكون في أن قريشا تغلبهم، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 49] أي: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به وبقضائه فإن الله قوي عزيز، يفعل بأعدائه ما شاء، حكيم في خلقه.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {50} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ {51} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {52} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {53} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ {54} } [الأنفال: 50-54] قوله: ولو ترى يا محمد، {إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال: 50] يعني الذين قتلوا ببدر، يضربون وجوههم إذا أقبلوا على المسلمين، وأدبارهم إذا ولوا، وذوقوا ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق: قال ابن عباس: يقولون لهم ذلك بعد الموت.
وقال الحسن: كان مع الملائكة مقامع كلما ضربوا التهبت النار في الجراحات، فذلك قوله: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {50} ذَلِكَ} [الأنفال: 50-51] أي: ذلك العذاب الذي وقع بكم، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [الأنفال: 51] بما كسبتم وجنيتم من قبائح أعمالكم، {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51] لا يظلم عباده بعقوبتهم على كفرهم، وإن كان كفرهم مخلوقا له، لأن له أن يتصرف في مملوكه كما شاء فيستحيل نسبة الظلم إليه.
قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [الأنفال: 52] قال الزجاج: معناه: عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون في كفرهم.
قال ابن عباس: هو أن آل فرعون أيقنوا أن موسى نبي من الله فكذبوه، كذلك هؤلاء جاءهم محمد بالصدق والدين فكذبوه، وجحدوا نبوته، فأنزل الله بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون.
وذلك قوله: {كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ} [الأنفال: 52] قادر لا يغلبه شيء، شديد العقاب لمن كفر به وكذب رسله، قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ} [الأنفال: 53] أي: ذلك الأخذ والعقاب لأن الله لا يغير ما أنعم به على قوم لو لم يغيروا هم بالكفران وترك الشكر، فإذا غيروا هم غيّر اللهُ ما بهم فسلبهم النعمة وأخذهم بالعقاب، قال السدي:(2/466)
والنعمة التي أنعم الله عليهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنعم الله به على قريش فكفروا به وكذبوه، فنقله إلى الأنصار كدأب أي: كصنيع آل فرعون كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ، يعني: أهل مكة كذبوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، كما كذبوا هم بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة، فأهلكناهم بذنوبهم يعني أهل مكة، أهلكهم الله ببدر، {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} [الأنفال: 54] ذكر عقوبة الفريقين لما شبه فعل أحدهما بفعل الآخر، وكل من الفريقين، كانوا ظالمين، ثم ذكر اليهود.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {55} الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ {56} فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {57} وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ {58} وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ {59} وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ {60} وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {61} وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ {62} وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {63} } [الأنفال: 55-63] فقال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنفال: 55] أراد بالدواب الإنس خاصة، كأنه قال: إن شر الناس عند الله الذين كفروا قال مقاتل: يعني يهود قريظة منهم: كعب بن الأشرف وأصحابه، وهم الذين قال الله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 56] أي: من اليهود، {ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} [الأنفال: 56] أي: كلما عاهدتهم نقضوا العهد ولم يفوا به، {وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} [الأنفال: 56] نقض العهد.
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ} [الأنفال: 57] قال الليث: يقال: ثقفنا فلانا في موضع كذا.
أي أخذناه.
قال الزجاج: ومعناه الإدراك بسرعة.
قال الكلبي: أي: أسرتهم في الحرب.
وقال مقاتل: إن أدركتهم في القتال وأسرتهم.
{فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] التشريد: التنفير والتفريق، والمعنى: فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل بهم فعلا من القتل والتنكيل يفرق عنك من خلفهم من أهل مكة، وأهل اليمن، قال ابن عباس: نكل بهم تنكيلا، يشرد غيرهم من ناقضي العهد.
لعلهم يذكرون النكال فلا ينقضون العهد، والتأويل: فشرد بقتلهم والاتكاء فيهم مَن بعدهم يكن ذلك تخويفا لهم من نقض العهد فلا ينقضوا.
قوله: وإما تخافن قال ابن عباس: تعلمن.
{مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] نقضا للعهد، {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ} [الأنفال: 58] انبذ عهودهم التي عاهدتهم عليها إليهم، يقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم ليكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد(2/467)
بنصب الحرب، وهذا معنى قوله: {عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] الذين يخونون في عهودهم وغيرها.
قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا} [الأنفال: 59] قال ابن الأنباري: معنى الآية أن أولئك الذين انهزموا يوم بدر، أشفقوا من هلكة تنزل بهم، فلما لم تنزل طغوا وبغوا، فقال الله: لا تحسبن أنهم سبقوا بسلامتهم الآن، فإنهم لا يعجزوننا فيما يستقبل من الأوقات، ومن قرأ لا يحسبن بالياء، فقال الأخفش: ولا يحسبن النبي الذين كفروا سبقوا.
وقرأ ابن عامر: أنهم بفتح الألف على تقدير: لا تحسبنهم سبقوا لأنهم لا يفوتون.
قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] كل ما يتقوى به على حرب العدو من آلة الجهاد فهو مما عنى الله بقوله: من قوة والمفسرون يقولون: يعني السلاح من السيف والرماح والقسي والنشاب.
390 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُطَوَّعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، نا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ ثُمَامَةَ بْنِ شُفَيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مَعْرُوفٍ
قوله: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] يعني: ربطها واقتناءها للغزو، وهي من أقوى عدد الجهاد، ترهبون به تخيفون به، {عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] يعني: مشركي مكة وكفار العرب {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] قال مجاهد، ومقاتل: يعني قريظة.
قال السدي: هم فارس،(2/468)
وقال الحسن، وابن زيد: هم المنافقون لا تعلمونهم لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 60] من آلة وسلاح وصفراء وبيضاء في طاعة الله، يوف إليكم يوفر لكم أجره، {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] لا تنقصون من الثواب.
قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] قال المفسرون: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه.
قال الكلبي: يعني قريظة.
وقال الحسن: يعني المشركين.
وأكثر المفسرين على أن هذا منسوخ بآية السيف، قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61] أي: ثق به، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [الأنفال: 61] لقولكم، {الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] بما في قلوبكم.
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ} [الأنفال: 62] بالصلح لتكف عنهم، {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} [الأنفال: 62] فإن الذي يتولى كفايتك الله، {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 62] يوم بدر، وبالمؤمنين يعني الأنصار، {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] يعني بين قلوب الأوس والخزرج، وهم الأنصار، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 63] للعداوة التي كانت بينهم في الجاهلية، {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63] لأن قلوبهم بيده يؤلفها كيف يشاء، قال الزجاج: وهذا من الآيات العظام، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، ونصرة بعضهم لبعض بحيث لو لطم رجل من قبيلة لطمة قاتل عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، فألف الإيمان بين قلوبهم حتى قتل الرجل أخاه وابنه وأباه.
قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} [الأنفال: 64] أي: في كفاية كل ما تحتاج إليه، {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] يعني المهاجرين والأنصار.
391 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الأَصْبَهَانِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا صَفْوَانُ بْنُ الْمُغَلِّسِ، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، نا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الرَّمَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،(2/469)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلا وَامْرَأَةً، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ أَسْلَمَ فَصَارُوا أَرْبَعِينَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِقَوْلِهِ: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {64} يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {65} الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {66} } [الأنفال: 64-66]
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] قال الفراء: المعنى: يكفيك الله ويكفي من اتبعك من المؤمنين.
قال: وإن شئت جعلت من في موضع رفع وهو أحب إلي.
قال الزجاج: ومن رفع فعلى العطف على الله، والمعنى: فإن حسبك الله وأتباعك من المؤمنين.
قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] التحريض: الحث على الشيء، قال ابن عباس: حضهم على نصر دين الله، {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] يريد الرجل من المسلمين بعشرة من الكفار في القتال، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ} [الأنفال: 65] أيها المؤمنون مئة رجل {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 65] قرئ يكن بالياء، والتاء: فمن قرأ بالياء فلأنه يراد بالمائة المذكر لأنهم رجال في المعنى، يدل على ذلك قوله: يغلبوا، ومن قرأ بالتاء فللتأنيث في لفظ المائة، وكان أبو عمرو يقرأ هذا، قوله: فإن يكن منكم مائة صابرة بالتاء لأن التأنيث ههنا أشد مبالغة، حيث وصفت المائة بالصابرة، ولم يقل: صابرون.
وهناك قال: يغلبوا فكان إلى التذكير أقرب، وقوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] أي: أن المشركين يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، فلا يثبتون إذا صدقتموهم القتال لأنهم يقاتلون على جهالة، قال الوالبي، عن ابن عباس: أمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار، فشق ذلك عليهم فرحمهم وأنزل: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] .
قال الكلبي: هون الله عليكم وعلم أن فيكم ضعفا، وقرئ: ضُعْفًا وهما لغتان مثل الفقر والفُقْر، {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] قال ابن عباس: صار الرجل برجلين، كان كتب عليهم ألا يفر رجل من عشرة، ثم قال: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] وكتب عليهم ألا يفر مائة من مائتين.
وقوله: بإذن الله بيان أن لا تقع الغلبة، إلا أن يريد الله ذلك، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] قال ابن عباس: يريد الذين صبروا على دينهم وعلى طاعة الله.(2/470)
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {67} لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {68} فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {69} } [الأنفال: 67-69] قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الآية:
392 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاوُسِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ وَجِيءَ بِالأَسْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاءِ الأَسْرَى؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَوْمُكَ وَأَصْلُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأْنِ بِهِمْ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ عُمَرُ: كَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ بِدَمِهِمْ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْ عَلَيْهِمْ نَارًا، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُجِبْهُمْ ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيُلِينُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُشَدِّدُ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عِيسَى قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ مُوسَى، قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] الآيَةَ، وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ، قال {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ، أَنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةٌ، فَلا يُمْتَلَكَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبِ عُنُقٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] إِلَى آخِرِ الآيَاتِ الثَّلاثِ
393 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا أَبُو نُوحٍ قُرَادٌ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، نا سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ أَبُو زُمَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَؤُلاءِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ وَالإِخْوَانِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدْيَةَ، فَيَكُونُ مَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ قُوَّةً لَنَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَعَسَى أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ فَيَكُونُوا لَنَا عَضُدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟» قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ مَا أَرَى مَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنِي مِنْ فُلانٍ قَرِيبٍ لِعُمَرَ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنَ حَمْزَةَ مِنْ فُلانٍ أَخِيهِ فَيَضْرِبَ(2/471)
عُنُقَهُ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا هَوَادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ، هَؤُلاءِ صَنَادِيدُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ، فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قَالَ عُمَرُ، فَأَخَذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: غَدَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَإِذَا هُمَا يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا يُبْكِيكَ وَصَاحِبَكَ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ عَلَى أَصْحَابِكَ مِنَ الْفِدَاءِ لَقَدْ عُرِضَ عَلَى عَذَابِكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ لِشَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى إِلَى قَوْلِهِ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 67 - 68] .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ هَنَّادِ بْنِ السَّرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ
قال المفسرون: يقول: ما كان لنبي أن يحبس كافرا قدر عليه من عبدة الأوثان للفداء وللمن قبل الإثخان في الأرض.
قال قتادة: كان هذا يوم بدر، فاداهم رسول الله بأربعة آلاف، ولعمري، ما كان أثخن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ، وكان أول قتال قاتل المشركين، ومعنى: {يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] قال الزجاج: يبالغ في قتل أعدائه.
وقال الفراء: حتى يغلب على كثير من الأرض.
وقال ابن الأعرابي: أثخن إذا غلب وقهر.
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67] تريدون الفداء، {وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67] قال ابن عباس: يريد لكم الجنة.
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] أن الغنائم لك ولأمتك حلال، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] من الفداء، عذاب عظيم.
هذا قول سعيد بن جبير، وقتادة، ورواية الوالبي، وأبي الجوزاء عن ابن عباس، وقال الحسن: إنهم أخذوا الفداء قبل أن يؤمروا به فعاب الله ذلك عليهم.
وقال محمد بن إسحاق: لولا كتاب من الله سبق أني لا أعذب إلا بعد النهي، ولم يكن نهاهم، لعذبتكم.
وهذا قول ابن مسعود، ومجاهد، وقال ابن زيد، وجماعة: سبق من الله العفو عنهم وألا يعذب أحدا منهم شهد بدرا، ولم يكن أحد من المؤمنين ممن حضر إلا أحب الغنائم غير عمر جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو عذبنا في هذا الأمر ما نجا غير عمر» .(2/472)
وقال ابن عباس: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر» .
وقال مجاهد: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: «كاد أن يصيبنا في خلافك بلاء» .
ولما نزل هذا أمسكوا أيديهم عن الغنائم، فنزل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69] قال ابن عباس: غفر لكم ما أخذتم من الفداء، ورحمكم لأنكم أولياؤه.
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {70} وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {71} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {72} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ {73} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ {74} وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {75} } [الأنفال: 70-75] قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال: 70] صدقا وإسلاما، {يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 70] من الفداء، نزلت في العباس، وكان أسر يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب كان خرج بها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر، ولم يكن بلغتْه النَّوْبَةُ حتى أُسر، فأُخذتْ معه، فأخذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه، قال: فكلمتُهُ أن يجعل ذلك في فدائي، فأبى علي، وقال: «أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا» ، قال: فأعطاني الله خيرا مما أخذ مني، عشرين عبدا كلهم يضرب بمال كثير، وأدناهم يضرب عشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربي.
وهو قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70] .
قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ} [الأنفال: 71] الآية: نزلت في العباس وأصحابه من الأسارى، قال ابن جريج: أراد بالخيانة ههنا الخيانة في الدين وهو الكفر، يعني: إن كفروا بك، {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [الأنفال: 71] أي: كفروا بالله، فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم وأسروهم، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى القتال ومعاداة المؤمنين، والله عليم بخيانة إن خانوها، حكيم في تدبيره عليهم ومجازاتهم أياهم.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72] يعني: المهاجرين الذين هجروا ديارهم وأموالهم(2/473)
وقومهم في نصرة الدين، {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] يعني: الأنصار أسكنوا المهاجرين ديارهم ونصروهم على أعدائهم، {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 72] قال المفسرون: يعني في الميراث كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث قريبه المهاجر، وهو قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] ، وقرئ من ولايتهم بكسر الواو وفتحه، وهما لغتان من الولي والوالي كالوكالة والوكالة وبابهما، والفتح أجود لأنه أكثر في الدين، والكسر في السلطان، قال ابن الأنباري: كان الله تعالى تعبدهم في أول الهجرة بأن لا يرث المسلمين المهاجرين إخوانُهم الذين لم يهاجروا، ولا يرثون هم أخوانهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] .
وقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الأنفال: 72] أي: وإن استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا فلا تخذلوهم، وانصروهم، إلا أن يستنصروكم {عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] عهد فلا تغدروا ولا تنقضوا العهد.
قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] حض الله المؤمنين على التواصل فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولايته في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال: إلا تفعلوه قال ابن عباس: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به.
وقال ابن جريج: يقول: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين.
{تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 73] يعني: الشرك، وفساد كبير وذلك أنه إذا لم يتول المؤمن المؤمن توليا يدعو غيره ممن لا يكون مؤمنا إلى مثل ذلك، ولم يتبرأ من الكافر بما يصرفه عن كفره، أدى ذلك إلى الضلال والفساد في الدين، فإذا هجر المسلم أقاربه الكفار، ونصر أقاربه المسلمين كان ذلك أدعى إلى الإسلام، وترك الكفر لأقاربه الكفار.
وقوله: والذين آمنوا، إلى قوله: {هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 74] أي: هم الذين حققوا إيمانهم بما يقتضيه من الهجرة والنصرة خلاف من أقام بدار الشرك، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] قال ابن عباس: يريد: الذين هاجروا بعد الحديبية، وهي الهجرة الثانية.
وقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] قال جماعة المفسرين: هذا نسخ للميراث بالهجرة، ورد للمواريث إلى أولي الأرحام، وذلك أنهم كانوا لا يتوارثون بالرحم، إنما يتوارثون بالهجرة، كان الأخوان إذا أسلما فهاجر أحدهما فمات لم يرثه الذي لم يهاجر حتى فتحت مكة فرد الله الميراث إلى أولي الأرحام.
روى عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخا بين أصحابه فكانوا يتوارثون بذلك حتى نزلت: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] ، فتوارثوا بالنسب.
وقوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] قال الزجاج: في حكم الله.
ويجوز أن يعني بالكتاب ههنا القرآن، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم، {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنفال: 75] مما خلق وفرض وحدّ، عليم.(2/474)
سورة التوبة
مدنية وآياتها تسع وعشرون ومائة
394 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا عَوْفٌ، عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَهِدْتُمْ إِلَى الأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةٍ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُمُوهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَالِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ، يَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذا، وَكَانَتِ الأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، وَقُبِضَ فِيهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، وَظَنَنَّا أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطُّوَالِ
395 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، نا أَبُو الْوَلِيدِ، نا شُعْبَةُ، نا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، يَقُولُ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {1} فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ {2} وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {3} إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {4} فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ(2/475)
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {5} وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ {6} } [التوبة: 1-6] قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 1] الآية: قال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهودا بينها وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمره الله أن ينقض عهودهم.
قال الزجاج: أي: قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذ نكثوا.
والخطاب في: عاهدتم لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمتولي للعقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكنهم أدخلوا في الخطاب، لأنهم راضون بفعله.
وقوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] يقال: ساح يسيح سياحة وسيوحا.
قال الزجاج: معناه: اذهبوا فيها وأقبلوا وأدبروا.
وقال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين أربعة أشهر، فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطه إلى الأربعة، ومن كانت مدته أقل من أربعة رفعه إلى الأربعة.
قال الزهري: الأربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال.
قال ابن عباس في رواية الوالبي: حد الله للذين عاهدوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث ما شاءوا، وأحل من ليس له عهد عند انسلاخ الأشهر الحرم، فإذا انسلخ الأشهر الحرم أمره أن يضع السيف فيهم حتى يدخلوا في الإسلام.
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: 2] قال ابن عباس: حيثما كنتم وحيثما توجهتم لا يعجز الله عن نقمته فيكم.
وقال الزجاج: أي: وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا الله.
{وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة: 2] بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة، والإخزاء: الإذلال بما فيه من الفضيحة والعار، قوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] الأذان: الإعلام وهو اسم من الإيذان، يقال: آذن إيذانا، وأذانا.
وقوله: إلى الناس أي: للناس، يقال: هذا إعلام لك، وإليك.
وأراد بالناس: المؤمن والمشرك والكافر لأن الكل داخلون في هذا الإعلام، قوله: {يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] اختلفوا فيه: فقال عمر، وسعيد بن المسيب، وابن الزبير، وعطاء، وطاوس، ومجاهد: إنه يوم عرفة.
ونحو هذا روى المسور بن مخرمة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرفوعا.
396 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، نا(2/476)
مُحَمَّدُ بْنُ حَيُّوَيْهِ، وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، قَالا: نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ الْعَيْشِيُّ، نا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَاتٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وقال ابن عباس في رواية عطاء: يوم الحج الأكبر يوم النحر.
وهو قول الشعبي، والنخعي، والسدي، وسعيد بن جبير، ورواية ابن أبي أوفى، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
397 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ شَاهِينَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، نا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَاضِي حَلَبَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الأَضْحَى: «هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ»
ومعنى الحج الأكبر: الحج بجميع أعماله، والحج الأصغر العمرة، وقال قوم: يوم الحج الأكبر حين الحج أيامه كلها، كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم بعاث لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة.
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 3] أي: من عهد المشركين فحذف المضاف، ورسوله(2/477)
رفع بالابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسوله أيضا برئ، قال المفسرون: لما فتح الله مكة سنة ثمان من الهجرة، وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك، وأرجف المنافقون الأراجيف، جعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلقاء عهودهم إليهم، فلما كانت سنة تسع بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أميرا على الموسم، ليقيم للناس الحج، وبعث معه بأربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا فقال: اخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا.
فخرج علي على ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العضباء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة، فرجع أبو بكر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء؟ قال: لا ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض؟ قال: بلى يا رسول الله.
فسار أبو بكر أميرا على الحج وعلي ليؤذن ب براءة.
وذكر الزجاج: السبب في تولية علي تلاوة براءة قال: إن العرب جرت عادتها في عقد عهودها ونقضها أن يتولى ذلك عن القبيلة رجل منها، وكان جائزا أن يقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من الرسول مَن هو مِن غير رهطه: هذا خلاف ما نعرف فينا في نقض العهود.
فأزاح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العلة في ذلك، وشرح عمرو بن بحر الجاحظ هذه القصة فقال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا بكر أميرا على الحجاج وولاه الموسم، وبعث عليا يقرأ على الناس آيات من سورة براءة وكان أبو بكر الإمام، وعلي المؤتم به، وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع، وكان أبو بكر الرافع الموسم ولم يكن لعلي أن يرفع حتى يرفع أبو بكر، وأما قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يبلغ عني إلا رجل مني فإن هذا ليس بتفضيل منه لعلي على غيره، ولكن عامل العرب على مثل ما كان بعضهم يتعارفه من بعض كعادتهم في عقد الحلف وحل العقد، كان لا يتولى ذاك إلا السيد منهم أو رجل من رهطه دينا، كأخ أو عم، فلذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا القول.
ويدل على هذا ما لجملة الحديث الصحيح الذي
398 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ، بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى، أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِ بَرَاءَةٍ وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ
وقوله: فإن تبتم رجع إلى خطاب المشركين، يريد: فإن رجعتم عن الشرك إلى توحيد الله، {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الأنفال: 19] من الإقامة على الشرك وإن توليتم عن الإيمان، {فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ(2/478)
غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: 3] لا تعجزونه عن تعذيبكم ولا تفوتون بأنفسكم من أن يحل بكم عذابه في الدنيا، ثم أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 3] .
قوله: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 4] قال المفسرون: استثنى الله طائفة وهم بنو ضمرة، حي من كنانة، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتمام عهودهم، وكان قد بقى لهم من مدة عهدهم تسعة أشهر، وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ} [التوبة: 4] أي: من شروط العهد، {شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة: 4] لم يعاونوا عليكم عدوا، {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] أي: إلى انقضاء مدتهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 4] يحب من اتقاه بطاعته واجتناب معاصيه.
قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] أي: مضى وذهب، وذهابها بانسلاخ المحرم، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] أي: في الحل والحرم، وخذوهم بالأسر، واحصروهم قال ابن عباس: يريد: إن تحصنوا فاحصروهم، والحصر ههنا المنع عن الخروج من محيط، {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة: 5] أي: على كل طريق يأخذون فيه، والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، فإن تابوا من الشرك، وأقاموا الصلاة المفروضة، وآتوا الزكاة من الأموال العين والمواشي والثمار، فخلوا سبيلهم حتى يذهبوا حيث شاءوا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [التوبة: 5] لمن تاب وآمن، رحيم به، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 6] الذين أمرتك بقتلهم استجارك طلب منك الأمان والجوار، فأجره من القتل، {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] القرآن وما أمر به ونهى عنه، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] الموضع الذي يأمن فيه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} [التوبة: 6] أي: الأمر ذلك، وهو أن يعرفوا ويجاروا لجهلهم، فربما يعرفون فيسلمون، ثم قال على وجه الإنكار: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {7} كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ {8} اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {9} لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ {10} فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {11} وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ {12} } [التوبة: 7-12] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} [التوبة: 7] أي: لا يكون لهم عهد وهم يغدرون وينقضون، {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 7] وهم بنو ضمرة الذين ذكرنا، {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ} [التوبة: 7] في وفاء العهد فاستقيموا لهم على الوفاء بإتمام أجلهم، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] من اتقى الله في أداء فرائضه والوفاء بعهده لمن عاهده.
قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة: 8] أي: كيف يكون للمشركين عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم: يقدروا عليكم، ويظفروا بكم، {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ} [التوبة: 8] لا يحفظوا فيكم، إلًّا قرابة، ولا ذمة عهدا، يرضونكم بأفواههم يقولون كلاما حلوا، وتأبى قلوبهم الوفاء بما يقولون، وأكثرهم فاسقون كاذبون ناقضون للعهد.
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [التوبة: 9] استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} [التوبة: 9] فأعرضوا عن طاعته، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] من اشترائهم الكفر بالإيمان، ثم ذمهم بترك المراقبة للعهد والذمة للمؤمنين بقوله: {(2/479)
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 10] المجاوزون للحلال إلى الحرام بنقض العهد، فإن تابوا من الشرك، {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [التوبة: 11] قال ابن مسعود: أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فمن لم يزك فلا صلاة له.
وقال ابن زيد: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه، أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة.
وقال المفسرون: المآخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة مع الشهادة، لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] أي: فهم إخوانكم في الدين، ونفصل الآيات نبينها، لقوم يعلمون أنها من عند الله.
قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 12] جمع يمين بمعنى القسم، يعني مشركي قريش، يقول: إن نقضوا عهودهم، يقال: نكث العهد إذا نقضه، ونكث يمينه إذا خالف موجبها، وقوله: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} [التوبة: 12] أي: عابوا دينكم، قال الزجاج: وهذه الآية توجب قتل الذمي إذا طعن في الإسلام لأن العهد معقود عليه ألا يطعن فإن طعن فقد نكث.
وقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] يعني رءوس قريش وقادتهم وهم: أبو جهل، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، والأصل في أيِمَّة: أَأْمِمَة لأنها جمع إمام مثل: مثال وأمثلة، ولكن لما اجتمعت الميمان أدغمت الأولى في الثانية، وألقيت حركتها على الهمزة فصارت أئمة، فأبدل من الهمزة المك { [ياء، كراهة لاجتماع الهمزتين، وهذا هو الاختيار عند جميع النحويين، ومن قرأ بهمزتين راعى الأصل وليس بالوجه، وقوله:] إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 12] قال الفراء: لا عهود لهم، والمعنى: لا إيمان لهم صادقة لأنه قد أثبت لهم الأيمان في قوله: نكثوا إيمانهم، فالمنفي غير المثبت، ومن قرأ بالكسر، فقال الفراء: يريد أنهم كفرة لا إسلام لهم، قال: وقد يكون المعنى لا تؤمنوهم فيكون مصدر قولك: أمّنتُه إيمانا.
وهذا هو الوجه، لأن المشرك(2/480)
لا يقر على دينه فلا يؤمن كما يؤمن أهل الذمة، فالإيمان ههنا يراد به الذي هو ضد التخويف، فإن جعلته الذي هو ضد الكفر كان تكريرا، لأن قوله: أئمة الكفر يدل على أنه لا إيمان لهم، وقوله: لعلهم ينتهون قال ابن عباس: كي ينتهوا عن الشرك بالله، ثم حض المؤمنين على قتالهم، فقال: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {13} قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ {14} وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {15} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {16} مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ {17} إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ {18} } [التوبة: 13-18] {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13] وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجرا لغيرهم عن النكث، وأراد بنكث اليمين ههنا أنهم نقضوا عهد الصلح بالحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة، وهم كانوا حلفاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13] يعني: حين اجتمعوا في دار الندوة للمكر به {وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13] يعني بالقتال يوم بدر، وذلك أنهم قالوا حين سلم العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه، وقال جماعة من المفسرين: أراد أنهم قاتلوا حلفاءك خزاعة، فبدأوا بنقض العهد، وقوله: أتخشونهم أي: أتخافون أن ينالكم من قتالهم مكروه فتتركون قتالهم، {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13] فمكروه عذاب الله أحق أن يخشى في ترك قتالهم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13] مصدقين بعقاب الله وثوابه، ثم وعدهم النصر بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] أي: بقتلهم بسيوفكم ورماحكم، ويخزهم يذلهم بالقهر والأسر {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] قال ابن عباس، والسدي، ومجاهد: يعني: بني خزاعة، وذلك أن قريشا أعانت بني بكر عليهم حتى نكأوا فيهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبي والمؤمنين، وذلك أن الصريخ أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة وأنشده:
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وبيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا(2/481)
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا نصرت إن لم أنصركم» .
وغضب لهم، وخرج إلى مكة، ونصر الله رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشفى صدور خزاعة، وهو قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 15] يعني كربها ووجدها بمعونة قريش بكرا عليهم، {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15] يعني من المشركين كأبي سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، تاب الله عليهم وهداهم للإسلام، والله عليم بنيات المؤمنين، حكيم فيما قضى، ثم رجع إلى خطاب المنافقين، فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16] أي: العلم الذي يجازي عليه وهو العلم بالشيء بعد وجوده، {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] قال الفراء: الوليجة: البطانة من المشركين يتخذونهم فيفشون إليهم أسرارهم، ووليجة الرجل من يختص بدَخْلَة أمره دون الناس، الواحد والجمع فيه سواء، قال ابن عباس: ولم يتخذوا أولياء من المشركين.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 17] الآية: لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، فقال: إنا لنعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، فرد الله ذلك عليه بهذه الآية، ومعنى ما كان لهم ذلك أنه أوجب على المسلمين منعهم من ذلك، وأكثر المفسرين: حملوا العمارة ههنا على دخول المسجد الحرام والقعود فيه، قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام.
وذهب آخرون إلى العمارة المعروفة من بناء المسجد ورمه عند الخراب، وهذا أيضا محذور على الكافر، يمنع منه حتى لو أوصى به لم تقبل وصيته، وقرأ أبو عمرو: مسجد الله على التوحيد، لقوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] وقال الفراء: ربما ذهبت العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، وقوله: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] قال ابن عباس: شهادتهم على أنفسهم(2/482)
بالكفر سجودهم لأصنامهم.
{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [التوبة: 17] لأنها لغير الله، وقال الزجاج: كفرهم أذهب ثواب أعمالهم.
ثم ذكر أهل عمارة المسجد فقال {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة: 18] الآية.
399 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا أَبُو عُتْبَةَ أَحْمَدُ بْنُ الْفَرَجِ، نا بَقِيَّةُ، نا ابْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] "
400 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ»
401 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ التَّاجِرُ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَرْبِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ سَلْمَانُ بْنُ جَابِرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ الْعَلاءِ الْقُشَيْرِيُّ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَسَّانٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الْمَسَاجِدُ سُوقٌ مِنْ أَسْوَاقِ الآخِرَةِ فَمَنْ دَخَلَهَا كَانَ ضَيْفًا لِلَّهِ، فَجَزَاؤُهُ الْمَغْفِرَةُ وَتَحِيَّتُهُ الْكَرَامَةُ، عَلَيْكُمْ بِالإِرْتَاعِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الإِرْتَاعُ؟ ، قَالَ: الدُّعَاءُ وَالرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ "
402 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي، نا عَبْدُ(2/483)
الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ
403 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ طَاهِرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ الدَّقَّاقُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا سُلَيْمَانُ الشُّرَحْبِيلِيُّ، نا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا كَثِيرٌ الْمُؤَذِّنُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَلَوْ قَدْرَ مَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ الَّتِي بِطُرُقِ مَكَّةَ؟ قَالَ: وَتِلْكَ "
قال أهل المعاني في هذه الآية: من كان بهذه الصفة التي ذكرها من الإيمان بالله وإقامة الصلاة وما بعدها كان من أهل عمارة المسجد، وليس المعنى أن من عمرها كان بهذه الصفة، غير أنه قلّ من يعمرها إلا وقد جمع هذه الصفات، وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} [التوبة: 18] أي: لم يخف في باب الدين إلا الله، ولم يترك أمرا لله لخشية غيره، {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] أي: فأولئك من المهتدون، وعسى من الله واجبة، والمهتدون: المتمسكون بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {19} الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ {20} يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ {21} خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ {22} } [التوبة: 19-22](2/484)
قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التوبة: 19] الآية:
404 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ شَرِيكٍ الإِسْفَرَائِينِيُّ، نا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، نا أَبُو تَوْبَةَ، نا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلامٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلامٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلا بَعْدَ الإِسْلامِ إِلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ، وَقَالَ آخَرُ: مَا أُبَالِي أَلَّا أَعْمَلَ عَمَلا بَعْدَ الإِسْلامِ إِلَّا أَنْ أُعَمِّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَقَالَ آخَرُ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ، فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ وَقَالَ: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَلَكِنْ إِذَا صَلَّيْتُ الْجُمُعَةَ دَخَلْتُ فَاسْتَفْتَيْتُ لَكُمْ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] الآيَةَ إِلَى آخِرِهَا.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ
وقال ابن عباس في رواية الوالبي: قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية.
والسقاية مصدر كالسقي وسقاية الحاج سقيهم الشراب.(2/485)
قال الحسن: وكان نبيذ ذبيب يسقون الحاج في الموسم، وقوله: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة: 19] قال ابن عباس: يريد تدبيره وتخليقه، {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 19] أي: كإيمان من آمن بالله، يقول الله منكرا عليهم: أسويتم بين سقي الحاج وعمارة المسجد، وبين إيمان المؤمنين بالله، {لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 19] في الثواب، قال ابن عباس: أخبر أن عمارتهم المسجد وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله، وأن الإيمان بالله والجهاد مع نبيه خير مما هم عليه.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة: 19] سماهم الله ظالمين بشركهم، ثم نعت المهاجرين فقال: الذين آمنوا إلى قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 20] أي: من الذين افتخروا بعمارة البيت، وسقي الحاج، ومن كل أحد، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20] الذين ظفروا بأمنيتهم من الخير، {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21] قال الزجاج: يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الرحمة والرضوان، والجنات التي {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21] النعيم نقيض البؤس، وهو لين العيش، والمقيم: الدائم لا يزول.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {23} قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {24} } [التوبة: 23-24] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ} [التوبة: 23] الآية: قال ابن عباس: كان قبل فتح مكة من آمن ولم يهاجر لم يقبل الله إيمانه حتى يهجر أقاربه الكفار.
والمعنى: لا تتخذوهم أصدقاء تؤثرون المقام بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام، إن استحبوا أي: اختاروا، وكان الكفر أحب إليهم من الإيمان، ثم أوعدهم على ذلك فقال {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23] قال ابن عباس: مشركون مثلهم.
فلما نزلت هذه الآية قال: يا نبي الله إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين نقطع أبناءنا وعشيرتنا وتذهب تجارتنا وتخرب ديارنا، فأنزل الله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} [التوبة: 24] الآية، وقوله: وعشيرتكم عشيرة الرجل: أهله الأدنون، وقرئ: وعشيراتكم وهو رديء، قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع من عشيرة عشيرات إنما يجمعونها عشائر، وقوله: وأموال اقترفتموها أي: كسبتموها، والاقتراف الكسب ومنه قوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} [الشورى: 23] ، يقول: إن كانت هذه(2/486)
الأشياء أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله، فتربصوا قال ابن عباس: فتربصوا بما تحبون فليس لكم عند الله ثواب في إيمانكم.
وقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24] الأكثرون قالوا: يعني فتح مكة.
يقول: بأن كنتم تؤثرون المقام في دوركم وأهليكم، وتتركون الهجرة فأقيموا غير مثابين، حتى يفتح الله مكة فيسقط فرض الهجرة، والأمر بالتربص أمر تهديد، قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {26} ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {27} } [التوبة: 25-27] {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] أي: في أمكنة ومقامات، يخاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، ويوم حنين أي: وفي يوم حنين، وهو واد بين مكة والطائف، قاتل عليه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هوازن، وثقيفا بعد فتح مكة، {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة: 25] قال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا.
وقال مقاتل: كانوا أحد عشر ألفا وخمس مائة، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف.
وقال عطاء، عن ابن عباس: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى حنين في ستة عشر ألفا وكان معه رجل من الأنصار يقال له: سلمة بن سلامة بن وقش، فعجب لكثرة الناس فقال: لن نغلب اليوم من قلة.
فساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل.
فذلك قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] لم تنفعكم كثرتكم ولم تدفع عنكم شيئا، {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 25] أي: برحبها وسعتها ضاقت عليكم، فلم تجدوا فيها موضع يصلح لفراركم، وهو قوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] قال الزجاج: أعلم الله أنهم ليس بكثرتهم يغلبون، إنما يغلبون بنصر الله إياهم، ووكلوا ذلك اليوم إلى كثرتهم فانهزموا، ثم تداركهم الله بنصره حتى ظفروا، وذلك قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 26] يعني: الأمنة والطمأنينة.
405 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عُمَارَةَ وَلَّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّ، وَلَكِنْ عَجِلَ سَرَعَانُ النَّاسِ فَرَشَقَتْهُمْ هَوَازِنُ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِرَأْسِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ(2/487)
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ
قال الزجاج: أنزل الله عليهم السكينة، حتى عادوا وظفروا وأراهم في ذلك اليوم من آياته ما زادهم يقينا في الدين، وهو قوله: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] قال ابن عباس: يعني: الملائكة.
وقال سعيد بن جبير: أمد الله نبيه عليه السلام بخمسة آلاف من الملائكة.
وقال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم حتى إذا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، فتلقانا رجال بيض الوجوه حسان، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا.
فرجعنا، وركبوا أكتافنا.
وذلك قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26] بالقتل والأسر وسبي الأولاد، {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {26} ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 26-27] من عباده فيهديهم إلى الإسلام ولا يؤاخذه بما سلف منه، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 27] بمن آمن، قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] قال الليث: النجس: القذر من الناس ومن كل شيء، يقال: رجل نجس، وقوم أنجاس.
ولغة أخرى رجل نجس، وقوم نجس، ورجلان نجس، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] قال ابن عباس: يريد لا يغتسلون من الجنابة، ولا يتوضئون لله تعالى، ولا يصلون لله.
{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] أي: لا يدخلوا الحرم بعد سنة تسع، أمر المسلمون بمنع المشركين من الحج ودخول الحرم، ولما منعوا من دخول الحرم، قال المسلمون: إنهم كانوا يأتون بالميرة ويتبايعون، فالآن تنقطع المتاجر ويضيق العيش.
فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 28] قال ابن عباس: يتفضل عليكم بما هو أوسع وأكثر.
قال مقاتل: ثم أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله ما كانوا يتخوفون، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 28] قال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم من المشركين.
قوله: {(2/488)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومعنى لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، أي: كإيمان الموحدين لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، فإذا كان ذلك فإيمانهم غير إيمان من يقر بالحشر، وإعادة الأرواح، وحشر الأجساد.
{وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] من الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، قال قتادة: الحق هو الله ودينه الإسلام.
وقال أبو عبيدة: لا يطيعون طاعة أهل الإسلام والدين الطاعة.
وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] يعني: أهل الكتابين، {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] وهي ما يعطيه المعاهد على عهده، عن يد قال ابن عباس: هو أنهم يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانا، ولا يرسلون بها، وهو قوله: وهم صاغرون أي: ذليلون مقهورون يجرون إلى الموضع الذي تقبض منهم فيه بالعنف حتى يؤدوها من يدهم.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {30} اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {31} يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33} } [التوبة: 30-33] قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] قال ابن عباس في رواية العوفي: إن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فنسخها الله من صدورهم ورفع التابوت عنهم، فدعا اللهَ عزيرٌ وابتهل إليه أن يرد الذي نسخ من صدورهم، فنزل نور من السماء فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فنادى في قومه، قد رد الله إلي التوراة.
وطفق يعلمهم، فقالوا: والله ما أوتي عزير إلا لأنه ابن الله.
واختلف القراء في عزير فقرئ بالتنوين، وبغيره،(2/489)
قال الزجاج: الوجه إثبات التنوين لأن ابن خبر، وإنما يحذف التنوين في الصفة نحو قولك: جاءني زيد بن عمرو.
فيحذف التنوين لالتقاء الساكنين، فإذا كان خبرا فالتنوين، وقد يجوز حذفه على ضعف لالتقاء الساكنين.
وقد قرئت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ {1} اللَّهُ الصَّمَدُ {2} } [الإخلاص: 1-2] بحذف التنوين لسكونه وسكون اللام، وقوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] هذا كقولهم: إن الله ثالث ثلاثة، {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] أي: ليس فيه برهان ولا بيان إنما هو قول بالفم لا معنى تحته، يضاهون قول الذين كفروا من قبل: المضاهاة المشابهة، وقرأ عاصم بالهمز وهو لغة، يقال: ضاهيت وضاهأت، قال مجاهد: يضاهون قول المشركين حين قالوا: اللات والعزى ومناة بنات الله تعالى.
وقال الحسن: شبه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، وقال قتادة، والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل فقالت النصاري: المسيح ابن الله.
كما قالت اليهود: عزير ابن الله.
وقوله: قاتلهم الله قال المفسرون: معناه لعنهم الله.
قال ابن الأنباري: المقاتلة أصلها من القتل، فإذا أخبر عن الله بها كانت بمعنى اللعنة، لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك، وقوله: أنى يؤفكون الإفك: الصرف، يقال: أفك الرجل عن الخير أي: قلب وصرف، يقول: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل حتى يجعلوا لله الولد؟ وفي هذا تعجيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تركهم الحق وإتيانهم الباطل.
قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] الأحبار الفقهاء والعلماء، واحدها حبر وحبر، والرهبان جمع راهب، وهو متمسك النصارى، وقال ابن عباس: فقهاؤهم وعبادهم.
وقال الضحاك: علماؤهم وقرّاؤهم.
406 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَصْفِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ،(2/490)
نا مَسْرُوقُ بْنُ الْمَرْزُبَانِ، نا عَبْدُ السَّلامِ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ غُطَيْفِ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: " يَا عَدِيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ، قَالَ: فَطَرَحْتُهُ، ثُمَّ انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ بَرَاءَةً فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، قَالَ: أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ "
وهذا بيان أن مخالف أمر الله في التحليل والتحريم كالمشرك في عبادة الله لأن استحلال ما حرم الله كفر بالإجماع.
وقوله: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] قال ابن عباس: اتخذوه ربا.
وما أمروا في التوراة والإنجيل، {إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31] ، وهو الذي {لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] تنزيها له عن شركهم.
قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 32] قال ابن عباس: يخمدوا دين الله بتكذيبهم، يعني أنهم يكذبون به، ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك.
{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] إلا أن يظهر دينه، أي: لا يفعل إلا ذلك، ولو كرهوا ذلك، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} [التوبة: 33] محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بالهدى أي: بالقرآن، ودين الحق الحنيفية وهي الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] ليعليه على جميع الأديان، وذلك عند نزول عيسى عليه السلام، وقال أهل المعاني: أي: بالحجة والغلبة.
وحجة هذا الدين أقوى الحجج، والغلبة لهذا الدين على سائر الأديان.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ {35} } [التوبة: 34-35] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} [التوبة: 34] قال السدي: أما الأحبار فمن اليهود، وأما الرهبان فمن النصارى، وقوله: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [التوبة: 34] يعني: ما كانوا يأخذونه من الرشى(2/491)
في الحكم وما كانوا يصيبونه من المأكل من سفلتهم، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ويصرفون الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] أكثر المفسرين على أنه مستأنف نازل في هذه الأمة، وقال قوم: إنا لفينا وفيهم.
ومعنى الكنز في كلام العرب الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز، والمراد بهذا الكنز جميع المال الذي لا تؤدى زكاته، قوله تعالى: {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] قال ابن عباس: لا يؤدون زكاتها، وما أدي زكاته فليس بكنز.
قال ابن عمر: كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونا، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن لم يكن مدفونا.
والكناية في: ولا ينفقونها تعود إلى الفضة وترك الذهب لأنه داخل في الفضة فاكتفي بذكر أحدهما عن صاحبه، وقال ابن الأنباري: لأن الفضة أقرب إلى العائد وأعم وأغلب.
وقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] أي: اجعل الوعيد لهم بالعذاب موضع البشرى والنعيم.
407 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ الْعَطَّارُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَنْ تَرَكَ كَنْزًا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يَتْبَعُهُ وَيَقُولُ: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ الَّذِي تَرَكْتَهُ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُهُ حَتَّى يُلْقِمَهُ يَدَهُ فَيَقْضَمُهَا، ثُمَّ يُتْبِعَهُ سَائِرَ جَسَدِهِ "
وقوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 35] يقال: أحميت الحديدة في النار إحماء، حتى حميت حميا.
وذلك إذا أوقدت عليها، وقال ابن عباس: يحمى عليها، أي: على الكنوز، لأن المراد بالذهب والفضة الكنوز.
{فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ} [التوبة: 35] قال المفسرون: من كان له مال في الدنيا لم يؤد زكاته أحمى على دراهمه ودنانيره في نار(2/492)
جهنم، وكويت بها هذه المواضع، لا يوضع دينار مكان دينار ولا درهم مكان درهم، ولكن يوسع جلده فيوضع بكل دينار ودرهم كية على جلده.
وكان أبو ذر، رضي الله عنه يقول: بشر الكانزين بكي في الجباه، وبكي في الجنوب، وبكي في الظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم.
ولهذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي لأن داخلها جوفا بخلاف اليد والرجل، وكان أبو بكر الوراق يقول: خصت هذه المواضع لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وزوى ما بين عينيه، وطوى عنه كشحه وولاه ظهره.
408 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ لَهُ مَالٌ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إِلَّا جُمِعَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَنْبَاهُ وَظَهْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ بَزِيغٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ
قوله: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 35] أي: يقال لهم: هذا الذي تكون به هو ما جمعتم لأنفسكم، وبخلتم به عن حق الله، {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35] أي: ذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {36} إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ(2/493)
الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {37} } [التوبة: 36-37] قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] الآية: قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن عدة شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنى عشر شهرا على منازل القمر واستهلال الأهلة.
وقوله: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36] يعني: اللوح المحفوظ، قال ابن عباس: في الإمام الذي عند الله كتبه يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم.
ومعنى الحرم: أنه يعظم انتهاك المحارم فيها بأشد مما يعظم في غيرها، وقوله: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36] ومعنى الدين ههنا الحساب، ومنه يقال: الكيس من دان نفسه.
أي: حاسبها، والقيم معناه: المستقيم.
قال المفسرون: ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدد المستوي، وقوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] قال ابن عباس: يريد: تحفظوا على أنفسكم فيها واجتنبوا الخطايا، فإن الحسنات فيها تضاعف والسيئات فيها تضاعف.
وقال قتادة: الظلم في الأشهر الحرم أعظم وزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما.
وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] قال ابن عباس: جميعا، يريد قاتلوهم كلهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم، وهو قوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] قال الزجاج: كافة نصب على الحال، وهو مصدر على فاعله كما قالوا: العافية، والعاقبة.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36] قال: تأويله: أنه ضامن لهم النصر، قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] النسيء في الشهور تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ليست له تلك الحرمة، وهو مصدر بمعنى الإنساء كالنذير بمعنى الإنذار، والنكير بمعنى الإنكار، والإنساء: التأخير وكانت العرب تحرم الشهور الأربعة، وذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل وهم كانوا أصحاب حروب وغارات، وربما كان يشق عليهم أن ينكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه، ويستحلون المحرم إلى صفر فيحرمونه، ويستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يردون التحريم إلى المحرم، ولا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، فينادي(2/494)
مناد: أن افعلوا ذلك لحرب أو لحاجة، قال ابن عباس: ومعنى زيادة الكفر: أنهم أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله.
قوله: {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37] هذه قراءة العامة، وقراءة أهل الكوفة يُضَلُّ بضم الياء وفتح الضاد، والمعنى: أن كبراءهم يضلونهم بحملهم على التأخير، وروي عن أبي عمرو يضِل به الذين كفروا أي: يضلون بذلك تابعهم والآخذين بذلك، وقوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] قال ابن عباس: إذا قاتلوا فيه أحلوه وحرموا مكانه صفرا، وإذا لم يقاتلوا فيه حرموه، {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37] وهو أنه لم يحلوا شهرا من الحرم إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرم لئلا تكون الحرم أكثر من الأربعة كما حرم الله، فتكون موافقة للعدد.
فتلك المواطأة وهي الموافقة، يقال: واطأت فلانا على كذا إذا وافقته، وقوله: {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة: 37] قال ابن عباس: يريد زين لهم الشيطان هذا.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ {38} إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {39} إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {40} انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {41} } [التوبة: 38-41] وقوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ} [التوبة: 38] هذه الآية حث لمن تثاقل عن غزوة تبوك، وذلك كان في زمان عسرة من الناس، وجدب في البلاد وشدة من الحر، فشق على الناس الخروج إلى القتال، فأنزل الله هذه الآية، وحرض المسلمين على ذلك، وقوله: ما لكم استفهام معناه التوبيخ، وقوله: {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ(2/495)
اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة: 38] إذا قيل لكم اخرجوا إلى قتال العدو تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم وأحببتم المقام بها، يقال: نفر القوم ينفرون نفرا ونفيرا.
إذا خرجوا إلى مكان لأمر أوجب الخروج، وقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} [التوبة: 38] قال ابن عباس: يريد قدمتم الدنيا على الجنة.
{فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 38] قال: يريد الدنيا كلها، {فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] .
409 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ طَاهِرٍ، قَالا: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُسْتَوْرِدَ أَخَا بَنِي فِهْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ فَيَنْظُرُ بِمَا يَرْجِعُ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى
ثم توعدهم على ترك الخروج فقال: إلا تنفروا قال مقاتل: إلا تخرجوا مع نبيكم إلى الجهاد.
{يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] قال الزجاج: هذا وعيد شديد في التخلف عن الجهاد.
قال المفسرون: هذه الآية خاصة فيمن استنفره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينفر، وقوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] هذا استعتاب من الله تعالى لأولئك القوم، ووعيد لهم أنهم إن تركوا الغزو من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى الله بقوم آخرين ينصر بهم رسوله، وهو قوله: {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39] لأنه لا يخذله إن تثاقلتم، ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره فلن يضره ذلك شيئا كما لم يضره قلة ناصريه حين كان بمكة، وهم به الكفار فتولى الله نصره وهو قوله: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] أي: أعانه الله على أعدائه، {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] حين قصدوا إهلاكه كما ذكرنا في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 30] ، وقوله: ثاني اثنين قال الزجاج: هو نصب على الحال، المعنى: فقد نصره الله أحد اثنين، أي: نصره منفردا إلا من أبي بكر.
وهذا معنى قول الشعبي: عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر.
وقال المفسرون: ثاني اثنين(2/496)
هو وأبو بكر.
{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] الغار ثقب في الجبل عظيم، قال قتادة: هو غار في جبل مكة يقال له ثور.
وقال مجاهد: مكثا في الغار ثلاثا.
410 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْعَوْفِيُّ، نا هَمَّامٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حِبَّانَ، عَنْ هَمَّامٍ
411 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَمْرُو بْنُ زِيَادٍ، نا غَالِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَرْقَسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: «هَلْ قُلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا؟ قُلْ حَتَّى أَسْمَعَ» قَالَ: قُلْتُ:
وَثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ الْمُنِيفِ وَقَدْ ... طَافَ الْعَدُوُّ بِهِ إِذْ صَاعد الْجَبَلا
وَكَانَ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ الْخَلائِقِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ بَدَلا
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] يعني: يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] .(2/497)
412 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا يُونُسُ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَيُّكُمْ يَقْرَأُ سُورَةَ التَّوْبَةِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، فَلَمَّا بَلَغَ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ: أَنَا وَاللَّهِ صَاحِبُهُ
413 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِرُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ الأَزْرَقِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُبَيْطٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ نُبَيْطٍ يَعْنِي ابْنَ شَرِيطٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَقَالَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي بَكْرٍ: سَيْفَانِ فِي غِمْدٍ لا يَصْطَلِحَانِ، ثُمَّ قَالَ: مَنِ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الثَّلاثُ؟ {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40] مَنْ هُمَا؟ {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} [التوبة: 40] مَنْ صَاحِبُهُ {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] مَعَ مَنْ؟ قَالَ: فَبَسَطَ يَدَ أَبِي بَكْرٍ وَضَرَبَ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: بَايِعُوا، فَبَايَعَ النَّاسُ أَحْسَنَ بَيْعَةٍ
قال المفسرون: قال أبو بكر لما خاف الطلب: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة.
فكان حزن أبي بكر شفقة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخوفا أن يطلع عليه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحزن إن الله معنا» .
قال الزجاج: لما أصبح المشركون اجتازوا بالغار، فبكى أبو بكر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يبكيك؟» قال: أخاف أن تقتل فلا يعبد الله بعد اليوم.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تحزن إن الله معنا، إن الله يمنعهم منا وينصرنا.(2/498)
قال: هكذا يا رسول الله؟ قال: نعم ".
فرقأ دمع أبي بكر وسكن.
روى جابر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو كنت متخذا خليلا لأتخذت أبا بكر خليلا، ولكن قولوا كما قال الله: صاحبي "، وقال الحسين بن فضل: من أنكر أن يكون عمر أو عثمان أو أحد من الصحابة كان صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كذاب مبتدع، ومن أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان كافرا لأنه رد نص القرآن ".
وقوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: على أبي بكر: فأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت السكينة عليه قبل ذلك، وقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40] قال ابن عباس: وقواه بالملائكة يدعون الله له.
والهاء عائدة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال الزجاج: أيده بملائكة يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه.
وقال مجاهد، والكلبي: قواه وأعانه بالملائكة يوم بدر، أخبر الله أنه صرف عنه كيد أعدائه وهو في الغار، ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر، وقوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 40] يعني كلمة الشرك، السفلى لأنها سفلت فبطلت، وكلمة الله وهي لا إله إلا الله، كلمة التوحيد هي العليا لأنها علت وظهرت يوم بدر.
وهذا قول أكثر المفسرين، وقال ابن كيسان: كلمة الذين كفروا: ما قدر بينهم في الكيد به ليقتلوه، فلم ينالوا أملهم، وكلمة الله: وعد الله أنه ناصره.
وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، والله عزيز في انتقامه من أهل الكفر، حكيم في تدبيره.
وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] قال أكثر المفسرين: شبابا وكهولا، وروى عطاء، عن ابن عباس: رجالا وركبانا.
وروى عنه أيضا: خفافا قال: أهل الميسرة من المال، وثقالا أهل العسرة.
وهو اختيار الزجاج قال: موسرين ومعسرين.
وعلى العكس من هذا، قال أبو صالح: خفافا من المال أي: فقراء، وثقالا منه أي: أغنياء، واختاره الفراء فقال: الخفاف ذوو العسرة وقلة العيال، والثقال ذوو العيال والميسرة.
وقال أهل المعاني: هذا عام في كل أحد لأنه ما من أحد إلا وهو ممن تخف عليه الحركة، أو تثقل، فهو ممن أمر في هذه الآية بالنفير.
وقال عطاء الخرساني عن ابن عباس: نسخت هذه الآية(2/499)
بقوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] .
وقال السدي: لما نزلت اشتد شأنها على الناس، فنسخها الله وأنزل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] الآية، قوله: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] هذا يدل على أن الموسر يجب عليه الجهاد بالمال إذا عجز عن الجهاد بالبدن لزمانة أو علة، فوجوب الجهاد بالمال كوجوبه بالبدن على الكفاية، وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [التوبة: 41] أي: من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41] ما لكم من الجزاء والثواب.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {42} عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ {43} لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ {44} إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ {45} وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ {46} لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {47} لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ {48} } [التوبة: 42-48] قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} [التوبة: 42] نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، والمعنى: لو كان ما دعوا إليه عرضا قريبا غنيمة قريبة، وَسَفَرًا قَاصِدًا قريبا هينا، لاتَّبَعُوكَ طمعا في المال، {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} [التوبة: 42] المسافة، وقال الكلبي: يعني السفر إلى الشام.
والشقة السفر البعيد لأنه يشق على الإنسان، وَسَيَحْلِفُونَ بِالله يعني المنافقين إذا رجعتم إليهم: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة: 42] لو قدرنا وكان لنا سعة في المال، يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالكذب والنفاق، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] لأنهم كانوا يستطيعون الخروج وكانوا مياسير، ذوي زاد وسلاح وعدة، قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، قال عمرو بن ميمون الأودي: اثنان فعلهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون.
قال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف: بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب.
قال قتادة: ثم أنزل بعده نسخ هذه الآية: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] .
وقوله: {(2/500)
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] أي: في التخلف عنك، قال ابن عباس: وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعرف يومئذ المنافقين.
قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [التوبة: 43] الآية، أي: حتى تعرف من له العذر في التخلف، ومن لا عذر له، فيكون إذنك لمن أذنت له على عذر.
قوله: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 44] الآية.
قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوه في القعود عن الجهاد.
وقال الزجاج: أعلم الله نبيه أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان، وإلا فالاستئذان من الإمام في القعود عن الجهاد غير مذموم.
والمعنى: في أن يجاهدوا، حذف في.
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ أي: في القعود عن الجهاد، {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 45] قال ابن عباس: شكوا في دينهم.
{فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] في شكهم يتمادون، {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة: 46] يعني: هؤلاء المنافقين لو أرادوا أن يخرجوا معك، {لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] من الزاد والماء والظهر، لأن سفرهم بعيد، فترْكهم العدة دليل على إرادتهم التخلف، والمعنى: أنهم كانوا مياسير قادرين على أخذ العدة لو أرادوا الخروج، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46] انطلاقهم وخروجهم معك، يقال: بعثته لأمر كذا فانبعث.
أي: نفذ فيه، وقوله: {فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] التثبيط: ردك الإنسان عن الشيء يفعله، قال ابن عباس: فخذلهم وكسلهم عن الخروج.
{وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] قال مقاتل: وحيا إلى قلوبهم، يعني: أن الله ألهمهم أسباب الخذلان وأوحى إلى قلوبهم أن اقعدوا مع القاعدين، ويجوز أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض.
ثم أعلم الله لم كره خروجهم فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} [التوبة: 47] أي: فيما بينكم، يعني معكم، {مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا} [التوبة: 47] الخبال: الفساد والشر في كل شيء، قال ابن عباس: يريد عجزا وجبنا، أي: أنهم كانوا يجبنونكم عن لقاء العدو بتهويل الأمر عليكم، وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي: لأسرعوا في الدخول بينكم بالتضريب والإفساد بالنميمة، والإيضاع: الإسراع، وخلال الشيء وسطه، وقوله: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي: يطلبون لكم العنت، قال الضحاك: يخوفونكم بالعدو ويخبرونكم أنكم مهزومون، وأن عدوكم سيظهر عليكم، {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47] عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47] قال ابن عباس: يريد المنافقين، ثم ذكر قبيح ما فعلوا قبل هذا فقال: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 48] طلبوا لك العنت والشر من قبل تبوك وهو أن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا(2/501)
على طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليفتكوا به فسلمه الله منهم.
وقال جماعة من المفسرين: طلبوا صد أصحابك عن الدين، وردهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنك قبل هذا.
{وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ} [التوبة: 48] ، واجتهدوا في الحيلة عليك، والكيد بك وأداروا الأمور ليردوا أمرك، {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ} [التوبة: 48] حتى أخزاهم الله بإظهار الحق وإعزاز الدين على رغم منهم وكره، وهو قوله: {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 48] .
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ {49} إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ {50} قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {51} قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ {52} } [التوبة: 49-52] قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة: 49] نزلت في الجد بن قيس المنافق، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل لك في جهاد بني الأصفر؟ يعني الروم، تتخذ منهم سراري ووصفاء.
فقال: ائذن لي في القعود عنك، ولا تفتني بذكر النساء فقد علم قومي أني مغرم بهن، وأني أخشى أن لا أصبر عنهن.
قال ابن عباس: اعتل جد بن قيس بقوله: ولا تفتني.
ولم يكن له علة إلا النفاق.
قال الله عز وجل: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] أي: في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم، وخلافهم أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن كيسان: أراد اعتلالهم بالباطل هو الفتنة لأنه الشرك والكفر.
{وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة: 49] قال يمان: وهي محدقة بمن كفر بالله جامعة لهم.
وقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} [التوبة: 50] نصر وغنيمة، تَسُؤْهُمْ، وتحزنهم، {وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [التوبة: 50] من القتل والهزيمة، {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 50] أي: قد عملنا بالحزم حين تخلفنا، فسلمنا مما وقعوا فيها، وَيَتَوَلَّوْا يعرضوا عن الإيمان، وَهُمْ فَرِحُونَ معجبون بما فعلوا.
قوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا} [التوبة: 51] قل لهم يا محمد لن يصيبنا خير وشر وشدة ورخاء {إِلا(2/502)
مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] قضى الله لنا، وكتب في اللوح المحفوظ، هُوَ مَوْلانَا ناصرنا والذي يتولى حياطتنا، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم على الرضا بتدبيره.
414 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ عُتْبَةَ، سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ حَلْبَسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ لا يَبْلُغُ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ»
قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} [التوبة: 52] أي: قل للمنافقين هل تنتظرون أن يقع بنا، {إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52] إما الغنيمة والفتح، أو الشهادة والمغفرة.
415 - وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، أنا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يَخْرُجُ إِلَّا إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ»
وقوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} [التوبة: 52] قال ابن عباس: ننتظر بكم، {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة: 52] بقارعة من السماء كما أصاب الأمم الخالية، أَوْ بِأَيْدِينَا يأذن لنا ربنا في قتلكم فنقتلكم، {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52] فانتظروا مواعيد الشيطان إنا منتظرون مواعيد الله من إظهار دينه، قال الزجاج: يقول: أنتم تربصون بنا إحدى الحسنيين، ونحن نتربص بكم إحدى الشرين.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ {53} وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا(2/503)
وَهُمْ كَارِهُونَ {54} فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ {55} وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ {56} لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ {57} } قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [التوبة: 53] نزلت في جد بن قيس حين قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائذن لي بالقعود وهذا مالي أعينك به.
قال الزجاج، والفراء: وهذا لفظ أمر، ومعناه معنى الشرط والجزاء، أي: إن أنفقتم طائعين أو كارهين لن يتقبل منكم.
قال ابن عباس: يريد أنه لا يتقبل من أعدائه صدقاتهم ونفقاتهم.
{إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53] عاصين لله، على غير طريقة الإسلام.
وقوله: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ: ويقبل بالياء لأن النفقة بمعنى الإنفاق فيكون كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ، التقدير: وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله، وهذا يدل على أن الكافر لا يقبل منه عمل، {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى} [التوبة: 54] جمع كسلان مثل سكران وسكارى، وذلك أنهم لا يرجون لها ثوابا وإن تركوها لم يخافون عليها عقابا، {وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] لأنهم يعدون الإنفاق مغرما.
قوله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} [التوبة: 55] يعني بالإعجاب السرور بما يتعجب منه، يقول: لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد فإن العبد إذا كان مستدرجا كثر ماله وولده.
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة: 55] الكناية تعود إلى الأموال دون الأولاد، والمعنى: ليعذبهم بها، بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله، والمصايب فيها، والتعب في جمعها، والوجل في حفظها، {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 55] قال الزجاج: وتخرج أنفسهم وهم على الكفر.
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} [التوبة: 56] يحلفون بالله أنهم مؤمنون كما أنتم مؤمنون، {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56] لأنهم يبطنون الكفر، {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] يخافون أن يظهر ما هم عليه، {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً} [التوبة: 57] مكانا يتحصن فيه، قال ابن عباس: مهربا.
أَوْ مَغَارَاتٍ وهو المكان الذي تغور فيه أن تستتر، من قولهم: غار الماء في الأرض.
قال ابن عباس: يعني سراديب.
أَوْ مُدَّخَلا أصله: مدتخل، فأبدلت التاء دالا وأدغم فيه الأول، قال قتادة: سربا.
وقال الحسن: وجها يدخلونه.
لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لرجعوا إليه وأدبروا إليه، وَهُمْ يَجْمَحُونَ مثل ما يجمح الفرس، والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لا بصيرة لهم في الدين ولا احتساب، وإنما هم(2/504)
كالمسخرين، حتى ولو وجدوا أحد هذه الأشياء لأسرعوا إليه طلبا للفرار.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ {58} وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ {59} إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {60} } [التوبة: 58-60] قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] يقال: لمزت الرجل ألمزه وألمزه.
إذا عبته، وكذلك هَمَزْتُهُ، والهمزة واللمزة الذي يغتاب الناس ويغضّهم، أي: يعيبك في أمر الصدقات وتفريقها، ويطعن عليك فيها، يعني: المنافقين كانوا يقولون: لا يعطيها محمد إلا من أحب.
416 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ قَسْمًا، إِذْ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ وَهُوَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ؟» فَنَزَلَتْ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] الآيَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مَعْمَرٍ
قال الضحاك: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بينهم ما آتاه الله من قليل المال وكثيره، فكان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه، وأما المنافقون فإن أعطوا كثيرا فرحوا، وإن أعطوا قليلا سخطوا، وذلك قوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} [التوبة: 58] الآية.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] أي: قنعوا بما قسم لهم رسول الله، {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59] ما نحتاج إليه، {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59] في الزيادة، لكان خيرا لهم وأعود عليهم.
وهذا جواب لو، وهو محذوف في اللفظ.
ثم بين لمن الصدقات فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ يعني صدقات الأموال، لِلْفُقَرَاءِ(2/505)
وَالْمَسَاكِينِ قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن زيد: الفقير المتعفف الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل.
وقال الأصمعي: الفقير الذي له ما يأكل، والمسكين الذي لا شيء له.
وقال الشافعي، رضي الله عنه: الفقراء: الزمني الضعاف الذين لا حرفة لهم، وأهل الحرف الضعيفة الذين لا تقع حرفتهم من حاجتهم موقعا، والمساكين: السؤّال ممن لهم حرفة، فالفقير أشدهما حالا.
وهذا قول قتادة، قال: الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج، والفقير والمسكين الذي يجوز دفع الزكاة إليه: هو من لا يفي دخله بخرجه.
قوله: وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا يعني: السعاة، وهؤلاء يعطون من الصدقات بقدر أجور أمثالهم، وقوله: وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هم قوم من أشراف العرب استألفهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليردوا عنه قومهم، ويعينوه على عدوه، منهم: عباس بن مرداس، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كان يعطيهم سهما من الزكاة، وقد أغنى الله المسلمين عن ذلك، قوله: وَفِي الرِّقَابِ يعني: وفي فك الرقاب قال ابن عباس: يريد: المكاتبين.
وسهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به، وقوله: وَالْغَارِمِينَ وهم الذين لزمهم الديون في غير معصية ولا إسراف، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] يعني: الغزاة والمرابطين، ويجوز أن يعطى الغازي من الزكاة وإن كان غنيا إذا طلب، وقوله: وَابْنِ السَّبِيلِ يعني المسافر المنقطع يأخذ من الصدقات وإن كان غنيا في بلده، قوله: فَرِيضَةً مِنَ الله يعني: أن الله افترض هذا على الأغنياء في أموالهم لهؤلاء وَالله عَلِيمٌ بخلقه، حَكِيمٌ فيما حكم فيهم.
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {61} يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ {62} أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ {63} يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ {64} وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ {65} لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ {66} } [التوبة: 61-66] وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] الآية: نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبلغون حديثه إلى المنافقين، ويقولون: نقول ما شئنا ثم نأتيه ونحلف ما قلنا فيصدقنا، لأنه أذن.
فأنزل الله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة: 61] يعني من المنافقين من يؤذيه بنقل حديثه وعيبته، {وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة: 61] يسمع من كل أحد ما(2/506)
يقوله، قال الحسن: قالوا: ما هذا الرجل إلا أذن من شاء صرفه كيف شاء، ليست له عزيمة، فقال الله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] أي: مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد، وروى البرجمي: أذنٌ خير لكم بالتنوين على وصف الأذن بخير، ومعناه: أن يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل قولكم، وقوله: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] أي: يسمع ما ينزله الله، فيصدقه، ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه، أي: إنما يصدق المؤمنين لا المنافقين.
قوله: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61] أي: وهو رحمة الله لأنه كان سبب إيمان المؤمنين، وقرأ حمزة: ورحمة بالجر عطفا على خير كأنه أذن خير ورحمة، أي: مستمع رحمة، ثم أوعد هؤلاء المنافقين فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61] .
قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62] أي: يحلف هؤلاء المنافقون فيما يبلغكم عنهم من أذى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن عليه أنهم ما قالوا ذلك، قال الزجاج: حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم، ليرضوا المؤمنين بيمينهم.
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 62] أي: إن كانوا على ما قالوا من الإيمان كان ترك عيبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والطعن عليه أولى ليكونوا مؤمنين بقبول قوله وترك عيبه، ثم أوعدهم بقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 63] قال ابن عباس: من يخالف الله ورسوله بتكذيب نبيه، والإظهار باللسان خلاف ما في القلب.
والمحادة كالمجانبة والمخالفة، والمعنى: ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن من عادى الله ورسوله استحق العذاب؟ وهو قوله: {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] الآية.
قوله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ الآية: قال مجاهد: كان المنافقون يعيبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما بينهم، ويقولون: عسى الله ألا يفشي علينا سرنا، فأنزل الله هذه الآية.
ومعنى يحذر المنافقون الإخبار عنهم بما كانوا يخافون من هتكهم وفضيحتهم، وهو قوله: {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 64] أي: على المؤمنين {سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 64] بما في قلوب المنافقين من الحسد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعداوة للمؤمنين، وقوله: قُلِ اسْتَهْزِئُوا أمر وعيد، {إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ} [التوبة: 64] مظهر مَا تَحْذَرُونَ ظهوره، ثم فعل ذلك بأن ألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معرفتهم فقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] .
قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ} [التوبة: 65] الآية: قال الكلبي، ومقاتل: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راجعا من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر يسيرون فجعل رجلان منهم يستهزئان بالقرآن، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثالث يضحك، فأطلع الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ} [التوبة: 65] أي: في الباطل من الكلام كما يخوض الركب نقطع به الطريق، وَنَلْعَبُ، فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] .
417 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَوْزَقِيُّ، أنا أَبُو سَهْلٍ بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ بِشْرٍ، نا أَبُو جَعْفَر بْن مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْحُلْوَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْخَيَّاطُ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ دَاوُدَ الْمِخْرَاقِيُّ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَسِيرُ قُدَّامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحِجَارَةُ تَنْكِيهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65](2/507)
قوله: لا تَعْتَذِرُوا أي: لا تأتون بعذر مما قلتم، {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] قال الزجاج: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان.
{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} [التوبة: 66] يعني الذي ضحك، قال محمد بن إسحاق: الذي عفا عنه رجل واحد يقال له مخشي بن حمير الأشجعي، أنكر عليهم بعض ما سمع، وجعل يسير مجانبا لهم، فلما نزلت هذه الآية برئ من النفاق.
ويجوز أن يسمى الواحد طائفة كما يسمى الواحد باسم الجماعة، وقوله: نُعَذِّبْ طَائِفَةً يعني: الهازئين، {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66] بالاستهزاء.
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {67} وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ {68} كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {69} أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {70} } [التوبة: 67-70] وقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة: 67] قال ابن عباس: أي: على دين بعض.
والمعنى: بعضهم مضاف إلى بعض بالاجتماع على النفاق، وأن أمرهم واحد، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {(2/508)
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67] عن اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإيمان به، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن النفقة في سبيل الله تعالى، نَسُوا الله: تركوا ما أمرهم الله به من طاعته، فَنَسِيَهُمْ فتركهم من كل خير، وخذلهم في الشك، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] الخارجون عن أمر الله وطاعته، ثم ذكر ما وعدهم في الآخرة فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [التوبة: 68] الآية ظاهرة إلى قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [التوبة: 69] رجع من الخبر عنهم إلى مخاطبتهم، وشبههم في العدول عن أمر الله، والاشتغال بالدنيا، بمن قبلهم، والمعنى: أنتم كالذين من قبلكم، يعني الأمم الخالية، ثم وصفهم بقوله: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69] يقول: رضوا بنصيبهم في الدنيا من أنصابهم في الآخرة، وفعلتم أيضا مثل ما فعلوه، وهو قوله: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كما فعلوا هم وَخُضْتُمْ في الطعن على الدين وتكذيب نبيكم كما خاضوا هم في الطعن على أنبيائهم، {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا} [التوبة: 69] لأنها لم تقبل منهم، وفي الآخِرَةِ لأنهم لا يثابون عليها، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69] بفوت المثوبة والمصير إلى العقوبة، ثم خوفهم الله بإهلاك من كان قبلهم من الأمم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [التوبة: 70] من الأمم، قال الزجاج: ألم يأتهم خبر الذين أهلكوا في الدنيا بذنوبهم فيتعظوا، ثم ذكرهم إلى قوله: وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ قال ابن عباس: يريد: نمروذ بن كنعان.
وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ يعني: قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة، ومدين اسم بلدهم، وَالْمُؤْتَفِكَاتِ يعني قرى قوم لوط، جمع مؤتفكة، وهي المنقلبة، وتلك القرى انقلبت فصار أعلاها أسفلها، يقال: أفكه فائتفك.
أي: قلبه فانقلب، أتت هؤلاء الأمم، رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ: فكذبوا بها {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ} [التوبة: 70] قال ابن عباس: ليهلكهم حتى يبعث إليهم نبيا لينذرهم.
{وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70] قال الزجاج: أخبر الله أن تعذيبهم كان باستحقاقهم.
قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {71} وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {72} } [التوبة: 71-72] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] قال ابن عباس: في الرحمة والمحبة.
والمعنى: بعضهم يوالي بعضا، فهم يد واحدة في النصرة، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بكلمة: لا إله إلا الله، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] عن الشرك بالله، ثم ذكر سائر أوصافهم فقال وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ إلى آخر الآية.
قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [التوبة: 72] ، إلى قوله: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً قال ابن عباس: يريد: قصور الزبرجد والدر والياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمس مائة عام.
418 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْوَاعِظُ الصَّابُونِيُّ إِمْلاءً، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى الْفَقِيهُ، أنا أَبُو حَامِدٍ(2/509)
مُحَمَّدُ بْنُ هَارُونَ الْحَضْرَمِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، نا قُرَّةُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالا: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] قال: «قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَارًا مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَرِيرٌ، عَلَى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِرَاشًا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا مِنَ الطَّعَامِ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً، وَيُعْطَى الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ غَدَاةٍ مَا يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْمَعَ»
وقوله: جنات عدن يقال: عدن بالمكان يعدن عدونا.
إذا أقام به، ومعنى جنات عدن: جنات إقامة، قال عطاء، عن ابن عباس: هي قصبة في الجنة، وسقفها عرش الرحمن.
وقال الضحاك: هي مدينة الجنة، وفيها الرسل، والأنبياء، والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم، والجنات حولها.
وقال مقاتل، والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله تعالى، حتى ينزلها أهل الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، وفيها قصور الدر والياقوت والذهب.
419 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ بَحْرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا جَنَّاتُ عَدْنٍ؟ قَصْرٌ فِي الْجَنَّةِ لَهُ خَمْسَةُ آلافِ بَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، لا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ وَهَنِيئًا لِصَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَأَشَارَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ صِدِّيقٍ، وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، أَوْ شَهِيدٌ، وَأَنَّى لِعُمَرَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْ هَذَا قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسُوقَ إِلَيَّ الشَّهَادَةَ(2/510)
وقوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] قال ابن عباس: أكبر مما يوصف.
وقال الزجاج: أكبر مما هم فيه من النعيم.
وإنما صار الرضوان أكبر من الثواب لأنه لا يوجد شيء من الثواب إلا بالرضوان إذ هو الموجب له، وقال الحسن: لأن ما يصل إلى قلب المؤمن من السرور برضوان الله أكبر من جميع ذلك.
420 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، نا أَمِينُ بْنُ بِسْطَامٍ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا أَدْخَلَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةَ الْجَنَّةَ قَالَ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ هَذَا؟ قَالُوا: أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: رِضْوَانِي
421 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى بْنِ مَاسَرْجَسَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: لأَعْطِيَنَّكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلا أَسْخَطُ بَعْدَهُ عَلَيْكُمْ أَبَدًا ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ كِلاهُمَا، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ(2/511)
{يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {73} يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {74} } [التوبة: 73-74] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73] قال ابن عباس: أمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان.
وقال ابن مسعود: يجاهد بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.
وقوله: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: يريد: شدة الانتهار، والنظر بالبغضة والمقت.
وقال ابن مسعود: هو أن يكفهر في وجوههم.
قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74] لما بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المنافقين يسيئون فيه القول، ويطعنون فيه وفي القرآن، أنكر عليهم، فحلفوا: ما قالوا، فكذبهم الله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74] يعني سبهم الرسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطعنهم في الدين، وقوله: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74] يعني: أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجه يباهي به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم ينالوا ما هموا به، وقال الكلبي، والضحاك: هموا أن يفتكوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلا في مسيره في غزوة تبوك، فاعلمه الله ذلك، فأمر من نحاهم عن طريقه، وقوله: {وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 74] قال ابن عباس: يريد: مما كانوا غنموا حتى صارت لهم العقد والأموال، وكانوا قبل قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضنك من عيشهم، لا يركبون الخيل، ولا يحوزون الغنيمة، فلما قدم عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استغنوا بالغنائم، وذكرنا معنى: نقم، عند قوله: {هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا} [المائدة: 59] ، وقوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} [التوبة: 74] قال الكلبي: لما نزلت هذه الآية قام الجلاس بن سويد وكان ممن طعن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما قلته، فقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توبته.
وَإِنْ يَتَوَلَّوْا: يعرضوا عن الإيمان، قال ابن عباس: كما تولى عبد الله بن أبيّ.
{يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} [التوبة: 74] بالقتل وَفي الآخِرَةِ: بالنار {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74] لا يتولاهم أحد من الأنصار، قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ {75} فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ {76} فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {77} أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ {78} } [التوبة: 75-78] {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] الآية:(2/512)
422 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أنا أَبُو عِمْرَانَ مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الْجَوْنِيُّ، نا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ السَّلامِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، أَنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الأَنْصَارِيَّ، أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالا، فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُهُ، ثُمَّ قَالَ مَرَّةً أُخْرَى: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ اللَّهِ؟ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْتَ أَنْ تَسِيلَ مَعِي الْجِبَالُ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَالَتْ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْتَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالا لأُوتِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالا فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودَ فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُمَا، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إِلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ تَنْمُو كَمَا يَنْمُو الدُّودُ حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ؟ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ غَنَمًا وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ وَأَخْبَرُوهُ بِخَبَرِهِ، فَقَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ ثَلاثًا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] الآيَةَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَرَائِضَ الصَّدَقَةِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ رَجُلا مِنْ جُهَيْنَةَ وَرَجُلا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَتَبَ لَهُمَا كَيْفَ يَأْخُذَانِ الصَّدَقَةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ لَهُمَا: مُرَّا بِثَعْلَبَةَ وَبِفُلانٍ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ فَسَأَلاهُ الصَّدَقَةَ وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا انْطَلِقَا حَتَّى تَفْرُغَا، ثُمَّ تَعُودَانِ إِلَيَّ، فَانْطَلَقَا وَأَخْبَرَا السُّلَمِيَّ فَنَظَرَ إِلَى خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمْ بِهَا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالا: مَا يَجِبُ هَذَا عَلَيْكَ وَمَا نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَ هَذَا مِنْكَ، قَالَ: بَلْ خُذُوهُ فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ فَأَخَذُوهَا مِنْهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مَرَّا بِثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُونِي كِتَابَكُمَا أَنْظُرُ فِيهِ، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ انْطَلِقَا حَتَّى أُرَى رَأْيٌ فَانْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُمَا، قَالَ: يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ، قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا، وَدَعَا لِلْمُسْلِمِينَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَخْبَرُوهُ بِالَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ إِلَى قَوْلِهِ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 - 77] وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ فَسَمِعَ ذَلِكَ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ صَدَقَتَهُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ، فَجَعَلَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُكَ وَقَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي، فَلَمَّا أَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ "، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتُخْلِفَ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ مَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعِي فِي الأَنْصَارِ فَاقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقْبَلُهَا؟ فَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَبُو بَكْرٍ، فَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ وَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَقُبِضَ عُمَرُ ثُمَّ وَلِيَ عُثْمَانُ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا أَبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ وَأَنَا أَقْبَلُهَا مِنْكَ؟ فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ عُثْمَانُ، وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ(2/513)
قوله: ومنهم أي: من المنافقين، {مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} [التوبة: 75] أي قال: على عهد الله، {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 75] مالا لنصدقن لنعطين الصدقة، {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والنفقة في الخير، {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة: 76] ما طلبوه من المال بَخِلُوا بِهِ ولم يفوا بما عاهدوا، وهو قوله: وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي: عن عهدهم مع الله بالصدقة والإنفاق، {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 77] صير عاقبة أمرهم النفاق، يقال: أعقبت فلانا ندامة.
أي: صيرت عاقبة أمره ذلك، وقال مجاهد: أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس.
وقوله: {إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] دليل على أنه مات منافقا، بإخلافه وعد الله، وكذبه في عهده، وهو قوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] ، ثم ذكر أنه مطلع على سرائرهم فقال: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] الآية.
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {79} اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {80} } [التوبة: 79-80] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} [التوبة: 79] الآية: قال قتادة: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله يتقرب به إلى الله، فقال: يا نبي الله، هذا نصف مالي قد آتيتك به، وتركت نصفه لعيالي.
فدعا الله له أن يبارك له فيما أمسك وفيما أعطى، فلمزه المنافقون، وقالوا: ما أعطى هذا إلا رياء وسمعة.
وأقبل رجل من المسلمين يقال له: الحبحاب أبو عقيل، فقال: يا رسول الله، بت أجر بالجرير على صاعين من تمر، فأما صاع فأمسكته لأهلي وأما صاع فهو ذا.
فلمزه المنافقون وقالوا: إن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل.
فأنزل الله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي: يعيبون ويغتابون، المطوعين الذين يعطون ما ليس بواجب عليهم تطوعا، {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ} [التوبة: 79] يعني: أبا عقيل، والجهد الطاقة، قال الليث: الجهد شيء قليل يعيش به المُقِلُّ، وقوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] أي: جازاهم جزاء سخريتهم حيث صاروا إلى النار.(2/514)
423 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا حَوْثَرَةُ بْنُ أَشْرَسَ، حَدَّثَنِي سُوَيْدٌ أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: طُولُ الْقُنُوتِ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: جَهْدُ الْمُقِلِّ، قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْمَلُ إِيمَانًا؟ قَالَ: أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا "
قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله قد خيرني في الاستغفار للمنافقين، وسأزيد على السبعين لعل الله أن يغفر لهم» .
فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6] الآية، وذكر السبعين حصر لهذا العدد، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «والله لأزيدنهم على السبعين؟» .
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ {81} فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ {82} فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ {83} وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ {84} وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ {85} } [التوبة: 81-85] قوله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ يعني المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، فالمخلف المتروك خلف من مضى، وقوله: بِمَقْعَدِهِمْ أي: بقعودهم، والمقعد ههنا مصدر بمعنى القعود، خلاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الزجاج، وقطرب، والمؤرج: مخالفة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ سار، وأقاموا.
وقال أبو عبيدة، والأخفش: خِلافَ رسول(2/515)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي: بعده.
{وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة: 81] مع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك، {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81] يعلمون أن مصيرهم إليها، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا في الدنيا لأن الدنيا تفنى وتنقطع، وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا في النار بكاء لا انقطاع له، قال الحسن: هذا وعيد من الله لهم.
وقال ابن عباس: إن أهل النفاق ليبكون في النار عمر الدنيا، فلا يرقأ لهم دمع، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت.
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82] أي: في الدنيا من النفاق والتكذيب، {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة: 83] قال ابن عباس: إن ردك الله إلى المدينة.
{إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 83] يعني المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى الغزو، {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} [التوبة: 83] إلى غزاة، {وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] من أهل الكتاب، {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ} [التوبة: 83] عني، أَوَّلَ مَرَّةٍ حين لم تخرجوا إلى تبوك، {فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83] قال الحسن، والضحاك، وقتادة: يعني: النساء والصبيان، وهم الذين يخلفون الذاهبين إلى السفر، يقال: خلفه يخلفه.
إذا قام بعده.
قوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84]
424 - أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، نا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو بَكْرٍ أَخُو ابْنِ اللَّيْثِ، نا السَّكُونِيُّ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَاءَ ابْنُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ " قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] الآيَةَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاهُمَا، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ
قال الزجاج: إنما أجاز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة عليه لأن ظاهره كان الإسلام، فأعلمه الله أنه إذا علم منه النفاق فلا صلاة عليه.
وقوله: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له، فنهى عن ذلك في حق المنافقين لأنهم كفرة، وهو قوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 84] الآية.
{وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ} [التوبة: 85] تقدم تفسيره في هذه ال { [.(2/516)
] وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ {86} رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ {87} لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {88} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {89} } [سورة التوبة: 86-89] قوله: {وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ} [التوبة: 86] أي: بأن آمنوا، ومعناه بالإيمان بالله والجهاد مع رسوله، اسْتَأْذَنَكَ في التخلف عنك، {أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ} [التوبة: 86] يعني أهل الغنى والسعة في المال، يعني: الذين لا عذر لهم في التخلف، {وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ {86} رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة: 86-87] قال المفسرون: يعني النساء اللاتي يخلفن في البيوت فلا يبرحن.
{وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 87] قال ابن عباس: بالنفاق كقوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] ، {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87] لا يعلمون أمر الله، ثم أثنى على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين الذين جاهدوا معه بقوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 88] ، إلى قوله: {لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} [التوبة: 88] قال الأخفش، وأبو عبيدة، والمبرد: الخيرات جمع خيرة، وهن الجواري الفاضلات الحسان.
وذكر في الآية الثانية ما وعدهم، فقال: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [التوبة: 89] الآية.
{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 90] وقوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ} [التوبة: 90] قال الفراء، والزجاج، وابن الأنباري: أراد: المعتذرون، فأدغمت التاء في الذال.
قال محمد بن إسحاق: هم أعراب من بني غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله.
وقال أبو عمرو بن العلاء: كلا الفريقين كان مسيئا: جاء قوم فعذروا، وجنح آخرون فقعدوا.
يرد أن قوما تكلفوا عذرا بالباطل، فهم الذين عناهم الله بقوله: وجاء المعذرون، وتخلف آخرون من غير تكلف عذر وإظهار علة، جرأة على الله ورسوله، وهو قوله: {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 90] يعني: لم يصدقوا في إيمانهم، وهم المنافقون ثم أوعدهم بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 90] الآية.
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {91} وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ(2/517)
قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ {92} } [التوبة: 91-92] قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ} [التوبة: 91] يعني الزمني والمشايخ والعجزة، {وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة: 91] جمع مريض، {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91] يعني المقلين، {حَرَجٌ} [التوبة: 91] ضيق في القعود عن الغزو، {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] إذا أخلصوا إيمانهم وأعمالهم من الغش والنفاق، ولم يغتنموا عذرهم بل يتمنون أن لم يكن لهم عذر، فيتمكنوا من الجهاد، وهم الذين أرادهم الله بقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] أي: طريق بالعقوبة لأنه قد سد بإحسانه طريق العذاب على نفسه، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91] لمن كان محسنا.
قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة: 92] هؤلاء نفر من قبائل شتى سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحملهم على الخفاف والنعال ليغزوا، وقال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أجد ما أحملكم عليه» .
لأن الشقة بعيدة والرجل يحتاج إلى بعيرين بعير يركبه، وبعير يحمل ماءه وزاده، فانصرفوا وهم يبكون، وهو قوله: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] أي: جرت أعينهم عن امتلاء من حزن في قلوبهم لعدم النفقة.
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {91} وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ {92} } [التوبة: 91-92] قوله: إِنَّمَا السَّبِيلُ بالعقوبة، {عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} [التوبة: 93] في التخلف، وَهُمْ أَغْنِيَاءُ موسرون، وباقي الآية فسرناه آنفا، قوله: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ بالأباطيل، {إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 94] من غزوة تبوك، {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة: 94] لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94] أخبرنا الله بسرائركم وما تخفي صدوركم، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94] فيما تستأنفون من النفاق تبتم أم أقمتم عليه، ثُمَّ تُرَدُّونَ للجزاء، {إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة: 94] إلى من يعلم ما غاب عنا من ضمائركم، {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94] فيخبركم بما كنتم تكتمون من النفاق.
قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} [التوبة: 95] رجعتم، إِلَيْهِمْ أي: أنهم ما قدروا على الخروج لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عنهم، وتتركوا لومهم، فقال الله تعالى: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ اتركوا كلامهم وسلامهم، إِنَّهُمْ رِجْسٌ إن عملهم قبيح من عمل الشيطان، يَحْلِفُونَ لَكُمْ يعني المنافقين، لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ وذلك أن عبد الله بن أبيّ حلف ألا يتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطلب أن يرضى عنه، وحلف(2/518)
ابن أبي سرح لعمر بن الخطاب، وطلب أن يرضى عنه، فقال الله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: 96] بحلفهم، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96] قال ابن عباس: يريد الذين ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم.
{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {97} وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {98} وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {99} } [التوبة: 97-99] قوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة: 97] قال ابن عباس: نزلت في أعاريب أسد، وغطفان، وأعراب من حول المدينة.
أخبر الله أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر، وَأَجْدَرُ وأولى، {أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] يعني: الحلال والحرام والفرائض، وَالله عَلِيمٌ بما في قلوب خلقه، حَكِيمٌ فيما يفرض من فرائضه.
قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ} [التوبة: 98] في الجهاد، مَغْرَمًا لأنه لا يرجو له ثوابا، {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98] ينتظر أن تنقلب الأمور عليكم بموت أو قتل، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] يدور عليهم البلاء والحزن فلا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم، والسوء بالفتح: الرداءة والفساد، وبالضم: الضرر والمكروه، وَالله سَمِيعٌ لقولهم، عَلِيمٌ بنياتهم.
قوله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 99] قال ابن عباس: يعني: من أسلم من أعراب أسد، وجهينة، وغفار.
{وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 99] يتقرب بإنفاقه إلى الله، وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ يعني: دعاءه بالخير والبركة، قال عطاء: يرغبون في دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} [التوبة: 99] قال ابن عباس: يريد: نور لهم ومكرمة عند الله.
يعني صلوات الرسول، والقربة: ما يدني من رحمة الله، وقرأ نافع بضم الراء وهو الأصل، ثم خفف كالكتب والرسل، ولا يجوز أن يكون الأصل التخفيف، ثم يثقل، {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} [التوبة: 99] في جنته، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [التوبة: 99] لذنوبهم، {رَحِيمٌ} [التوبة: 99] بأوليائه وأهل طاعته.
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 100] قال أبو موسى، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وابن(2/519)
سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وقال عطاء: هم الذين شهدوا بدرا.
وقال الشعبي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان.
وقد فسرت الآية على أن المراد بها جميع الصحابة الذين أدركوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحصل لهم السبق بإدراكه وصحبته.
وذلك ما
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد التميمي، أنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان، نا الوليد بن أبان، نا الفضل بن حماد، نا عبد الله بن صالح، حدثني خالد بن حميد، عن أبي صخر حميد بن زياد، قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي يوما: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما كان من رأيهم؟ وإنما أريد الفتن.
فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم، ومسيئهم.
قلت: في أي موضع أوجب لهم الجنة في كتابه؟ فقال: سبحان الله، ألا تقرأ قوله تعالى: والسابقون الأولون إلى آخر الآية، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطا لم يشترطه عليهم.
قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول: يقتدون بأعمالهم الحسنة ولا يقتدون بهم في غير ذلك.
قال أبو صخر: فوالله لكأني لم اقرأها قط، وما عرفت تفسيرها حتى قرأ علي محمد بن كعب.
425 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، نا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَن الأَشَجِّ، عَنْ وَكِيعٍ
426 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، نا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، نا وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ يَزِيدَ الْبَهِيِّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «(2/520)
اللَّهُمَّ إِنَّكَ بَارَكْتَ لأُمَّتِي فِي صَحَابَتِي فَلا تَسْلِبْهُمُ الْبَرَكَةَ، وَبَارَكْتَ لأَصْحَابِي فِي أَبِي بَكْرٍ فَلا تَسْلِبْهُ الْبَرَكَةَ، وَاجْمَعْهُمْ عَلَيْهِ وَلا تَنْشُرْ أَمْرَهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُؤْثِرُ أَمْرَكَ عَلَى أَمْرِهِ، اللَّهُمَّ وَأَعِزَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَصَبِّرْ عُثْمَانَ، وَوَفِّقْ عَلِيًّا، وَاغْفِرْ لِطَلْحَةَ، وَثَبِّتِ الزُّبَيْرَ، وَسَلِّمْ سَعْدًا، وَوَفِّقْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَأَلْحِقْ بِي السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ»
وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] قال ابن عباس: والذين اتبعوهم على دينهم من أهل الإيمان إلى أن تقوم الساعة.
وقال عطاء: يريد: يذكرون المهاجرين والأنصار بالجنة والرحمة والدعاء لهم، ويذكرون محاسنهم.
{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [التوبة: 100] أعمالهم، وَرَضُوا ثواب الله، قال الزجاج: رضي أفعالهم، ورضوا بما جازاهم به.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} [التوبة: 101] يعني مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفارا، {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 101] من الأوس والخزرج منافقون، {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] يقال: مرد يمرد مردا فهو مارد ومريد.
إذا أعتى وطغى، وقال الفراء: يريد: مرنوا عليه.
وقال محمد بن إسحاق: لجوا فيه، وأبوا غيره.
وقال ابن زيد: أقاموا عليه، ولم يتوبوا.
لا تَعْلَمُهُمْ أنت يا محمد، {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] قال السدي، والكلبي: أول العذاب أنه أخرجهم من المسجد، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام خطيبا يوم الجمعة، فقال: «يا فلان، أخرج فإنك منافق» .
فأخرج من المسجد ناسا وفضحهم، والعذاب الثاني: عذاب القبر.
وقال مجاهد: بالقتل والسبي وعذاب القبر.
وروى خصيف عنه قال: عذبوا بالجزع مرتين.
{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] قال: عذاب جهنم.
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {102} خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {103} أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {104} وَقُلِ اعْمَلُوا(2/521)
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {105} } [التوبة: 102-105] قوله: وَآخَرُونَ أي: ومن أهل المدينة آخرون اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أقروا بها عن معرفة، نزلت في قوم من المؤمنين كانوا تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك وتذمموا، وقوله: {خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] يعني: غزوهم مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقاعدهم عن غزوة تبوك، عَسَى الله واجب من الله، {أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] قال أبو عثمان النهدي: ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية.
427 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، أنا أَبُو الْهَيْثَمِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ، نا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا عَوْفٌ، نا أَبُو رَجَاءٍ، نا سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، فَابْتَعَثَانِي فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ وَلَبِنٍ فِضَّةٍ فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَ لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقِعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ فَوَقَعُوا فِيهِ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا، فَذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، قَالا لِي: إِنَّ هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَا مَنْزِلُكَ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ، فَإِنَّهُمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ "
قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] قال المفسرون: لما عذر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هؤلاء، قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفَتْنا عنك فتصدق بها عنا، وطهرنا، واستغفر لنا.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» .
فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلث أموالهم.
قال الحسن: هذه الصدقة هي كفارة الذنوب التي أصابوها، وليست بالزكاة المفروضة.
وقال عكرمة: هي صدقة الفرض.
وقوله: تُطَهِّرُهُمْ قال ابن عباس: تطهرهم من الذنوب.
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ترفعهم بهذه الصدقة، من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي: أدع لهم، {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] إن دعواتك مما تسكن نفوسهم إليه، وقال الكلبي: طمأنينة لهم أن الله قد قبل منهم، وَالله سَمِيعٌ لقولهم، عَلِيمٌ بندامتهم.
428 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ مَطَر، أنا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، نا الْحَوْضِيُّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: كَانَ أَبِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلانٍ» فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَوْضِي، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَنْ وَكِيع كِلاهُمَا، عَنْ شُعْبَة(2/522)
ولما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم؟ فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] يقبلها، {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104] يرجع إلى من رجع إليه بالرحمة والمغفرة.
429 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، أنا الرَّبِيعُ، أنا الشَّافِعِيُّ، أنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ عَجْلانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طَيِّبًا، إِلَّا كَأَنَّمَا يَضَعُهَا فِي يَدِ الرَّحْمَنِ، فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا كَمِثْلِ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ» ثُمَّ قَرَأَ {أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104]
قوله: وَقُلِ اعْمَلُوا قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: يا معشر عبادي المحسن والمسيء، {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] يريد: إن الله يطلع المؤمنين على ما في قلوب إخوانهم من الخير والشر، إن كان خيرا أوقع في قلوبهم لهم المحبة، وإن كان شرا أوقع في قلوبهم لهم البغضة، وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان» .
وقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105] قال ابن عباس، رضي الله عنه: يقفكم على أعمالكم فيثيب المحسن ويعاقب المسيء.
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106] قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] نزلت في كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، كانوا مياسير تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك من غير عذر، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل غيرهم، فوقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرهم، ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم حتى نزل قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآية، وسنذكر قصتهم هناك، ومعنى {مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] مؤخرون ليقضي الله فيهم ما هو قاض، وهو قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] قال الزجاج: إما لأحد الشيئين، والله عز وجل عالم بما يصير إليه أمرهم إلا أنه خاطب العباد بما يعلمون.
والمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء، فقال ناس: إنهم هلكوا إذ لم ينزل لهم عذر.
وقال آخرون: عسى الله أن يغفر لهم.
قوله: وَالله عَلِيمٌ أي: بما يئول إليه حالهم، حَكِيمٌ فيما يفعله بهم.(2/523)
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ {107} لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ {108} أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {109} لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {110} } [التوبة: 107-110] وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [التوبة: 107] قال المفسرون: هؤلاء كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء، منهم: وديعة بن ثابت، وخزام بن خالد، وجارية بن عامر، ونبتل بن الحارث، وزيد بن جارية، وعثمان بن حنيف، وجارية بن عامر مجمع بن جارية، وبجاد بن عثمان، والضرار: محاولة الضر، قال الزجاج: وانتصب ضرارا لأنه مفعول له، والمعنى: اتخذوه للضرار.
قال ابن عباس: ضرارا للمؤمنين، وكفرا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما جاء به.
وذلك أنهم اتخذوا ذلك المسجد ليكفروا فيه بالطعن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإسلام، {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 107] يفرقون به جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الافتراق واختلاف الكلمة، وقوله: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107] يعني: أبا عامر الراهب، وكان قد خرج إلى الشام ليأتي بجند من عند قيصر ليحارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأرسل إلى المنافقين أن ابنوا لي مسجدا، فبنوا هذا المسجد وانتظروا مجيء أبي عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد، قال الزجاج: والإرصاد: الانتظار.
وقوله: مِنْ قَبْلُ يعني: من قبل بناء مسجد الضرار، {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى} [التوبة: 107] يحلف المنافقون ما أردنا ببنيانه إلا الفعلة الحسنى وهي الرفق بالمسلمين، والتوسعة على أهل الضعف والعلة والعجز عن السير إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنهم قالوا: إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية.
{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107] فيما قالوا وحلفوا، ولما فرغوا من بناء المسجد قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحب أن تأتينا وتصلي لنا فيه، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقميصه ليأتيهم، فأنزل الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108] قال ابن عباس: لا تصل فيه أبدا.
ثم بين أي المسجدين أحق بالقيام فيه، فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} [التوبة: 108] بني على الطاعة وبناه المتقون، {أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة: 108] وهو مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة في قول ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وروي ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال ابن عباس في رواية الوالبي: هو مسجد قباء، وهو قول قتادة، وسعيد بن(2/524)
المسيب، وقوله: فِيهِ رِجَالٌ يعني من الأنصار، {يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] قال جميع المفسرين: يعني: غسل الأدبار بالماء.
430 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنِي عُتْبَةُ ابْنُ أَبِي حَكِيمٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ نَافِعٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطُّهُورِ، فَمَا طُهُورُكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَتَوَضَّأُ وَنَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهَلْ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُهُ؟ قَالُوا: لا غَيْرَ أَنَّ أَحَدَنَا إِذَا خَرَجَ مِنَ الْغَائِطِ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ، وَقَالَ: هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ "
قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] أي: من الشرك والأنجاس والأقذار والنفاق، وقوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 109] البنيان: مصدر يراد به المبنى ههنا، والتأسيس إحكام أسس البناء وهو أصله، وقرأ نافع: أُسس بضم الألف بنيانُه رفعا، وهذا في المعنى الأول لأنه إذا أسس بنيانه، فتولى ذلك غيره بأمره كان كبنائه، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف الله ويرجو ثوابه ورضوانه خَيْرٌ؟ أم المؤسس بنيانه غير متق؟ وهو قوله: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] وشفا الشيء حرفه، والجرف ما يجرفه السيل من الأودية، وهو جانبها الذي ينحفر بالماء أصله فيبقى واهيا، وهار مقلوب من هاير، يقال: هار الجرف يهور.
إذا انشق من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه فهو هاير، ثم يقلب فيقال: هار، قال الزجاج: المعنى: أن من أسس بنيانه على التقوى خير ممن أسس بنيانه على الكفر.
يعني: أن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارا كبناء على حرف جهنم يتهور بأهله فيها، وهو قوله: فَانْهَارَ بِهِ أي: بالباني {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109] قال ابن عباس: يريد: صيرهم النفاق إلى النار.
وقوله: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 110] قال الضحاك: يقول: لا يزالون في شك منه إلى الموت.
والمعنى: أنهم لا يزالون شاكين مترددين في الحيرة يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين إلى الممات، وهو قوله: {إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة: 110] أي: حتى تقطع(2/525)
وتفتت قلوبهم بالموت، وقرأ حمزة: تقطع بفتح التاء بمعنى تتقطع، وهذا يدل على أنهم يموتون على النفاق، فإذا ماتوا عرفوا بالموت ما كانوا تركوه من الإيمان وأخذوا به من الكفر.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {111} التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {112} } [التوبة: 111-112] قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية: قال القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة بمكة، وهم سبعون نفسا، قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال: " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ولنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم.
قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة.
قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل.
فنزلت هذه الآية، ومعنى هذا: أن المؤمن إذا قاتل في سبيل الله حتى يقتل فتذهب روحه، أو أنفق ماله في سبيل الله، أخذ من الله في الآخرة الجنة جزاء لما فعل، فجعل هذا اشتراء، هذا معنى قوله: {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] قال ابن عباس: يريد: بالجنة.
قال الحسن: اسعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن.
وقال قتادة: ثامنهم فأغلى ثمنهم.
وقوله: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ قال ابن عباس: يقتلون أعدائي ويقتلون في طاعتي.
وقرأ حمزة: فَيُقْتُلُونَ وَيَقْتَلُونَ وهذا كالذي تقدم لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم، وقوله: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ} [التوبة: 111] يعني: أن الله وعدهم هذا الوعد، وبين ذلك في هذه الكتب التي أنزلها، ثم قال: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 111] أي: لا أحد أوفى بما وعد من الله، {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] فافرحوا بهذا البيع أيها المؤمنون وهو أنكم إذا بذلتم أنفسكم وأموالكم في الجهاد أخذتم من الله الجنة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] .
قوله: التَّائِبُونَ قال الفراء: استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام فحسن الاستئناف.
وقال الزجاج: الذي عندي أن قوله: التائبون رفع بالابتداء وخبره مضمر، المعنى: التائبون إلى آخر الآية لهم الجنة(2/526)
أيضا، أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد فله الجنة أيضا.
وهذا الذي قاله الزجاج حسن: لأنه وعد لجميع المؤمنين بالجنة خاصا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات، قال ابن عباس: التائبون: الراجعون عن الشرك.
وقال قتادة: التائبون من الشرك ثم لم ينافقوا في الإسلام.
الْعَابِدُونَ الذين يرون عبادة الله تعالى واجبة عليهم، الْحَامِدُونَ الله على كل حال، السَّائِحُونَ قال عامة المفسرين: الصائمون، قال الوالبي، عن ابن عباس: كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سياحة أمتي الصيام» .
قال الحسن: هذا صوم الفرض.
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ قال ابن عباس: الذين يصلون لله بنية صادقة.
الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإسلام وفرائض الله وحدوده، {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 112] عن ترك حدود الله وفرائضه، {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112] قال الزجاج: القائمون بأمر الله.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {113} وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ {114} وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {115} إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {116} } [التوبة: 113-116] قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [التوبة: 113] الآية:
431 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، نا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: " أَيْ عَمِّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَالا يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى(2/527)
قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَسْتَغْفِرَنَّ عَنْكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَنَزَلَتْ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ كِلاهُمَا، عَنِ الزُّهْرِيِّ
432 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الصَّيْدَلانِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ مَسْرُوقِ بْنِ الأَجْدَعِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ فِي الْمَقَابِرِ وَخَرَجْنَا مَعَهُ، فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا ثُمَّ تَخَطَّى الْقُبُورَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَنَاجَاهُ طَوِيلا، ثُمَّ ارْتَفَعَ نَحِيبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاكِيًا، فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَقْبَلَ إِلَيْنَا فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الَّذِي أَبْكَاكَ؟ فَقَدْ أَبْكَانَا وَأَفْزَعَنَا فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْنَا فَقَالَ: " أَفْزَعَكُمْ بُكَائِي؟ فَقُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِي فِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي زِيَارَتِهَا فَأَذِنَ لِي، وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الاسْتِغْفَارِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فِيهِ وَنَزَلَ عَلَيَّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] حَتَّى خَتَمَ الآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا فَأَخَذَنِي مَا أَخَذَ الْوَلَدُ لِلْوَالِدَةِ مِنَ الرِّقَّةِ فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي "
ومعنى قوله: {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] من بعد ما بان لهم أنهم ماتوا كافرين، ثم أعلم الله تعالى كيف كان استغفار إبراهيم لأبيه فقال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] قال عطاء عن ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم أن يؤمن بالله، ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر تبين لإبراهيم عداوة أبيه لله فترك الدعاء له.
وعلى هذا القول الكناية في إياه تعود إلى إبراهيم، والواعد أبوه، ويجوز أن يعود إلى أب إبراهيم، ويكون الواعد إبراهيم، وذلك أنه وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه، وأن ينقل الله أباه باستغفاره له من الكفر إلى الإسلام، فلما مات مشركا، ويئس من مراجعته الحق، تبرأ منه وقطع الاستغفار له، والدليل على صحة هذا قراءة الحسن: وعدها أباه بالباء وهذا الوعد من إبراهيم ظاهر في قوله تعالى: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم: 47] ، وقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ} [التوبة: 114] قال ابن عباس: الأواه: الدعاء الكثير الدعاء والبكاء.
قال الفراء: هو الذي يتأوه من الذنوب، يقال: تأوه الرجل تأوها، وأوه تأويها إذا قال آه.
للتوجع.
ومنه قول المثقب العبدي:(2/528)
إذا ما قمتُ أَرْحَلُها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين
وقوله: حَلِيمٌ قال ابن عباس: لم يعاقب أحدا إلا في الله، ولم يقتص من أحد إلا لله.
قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: 115] أي: ما كان الله ليوقع الضلالة في قلوبهم بعد الهدى حتى يبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، وذلك أنه لما حرم الاستغفار للمشركين على المؤمنين، بين أنه لم يكن الله ليأخذهم به قبل أن يبين تحريمه، فإذا لم يحرموه عند ذلك يستحقون الإضلال، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {117} وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {118} } [التوبة: 117-118] {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة: 117] يعني: من إذنه للمنافقين في التخلف، وذكرنا ذلك عند قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة: 43] ، وقوله: وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يعني من هم منهم بالتخلف عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ساروا معه إلى تبوك، {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] يعني: عسرة الظَّهْر وعسرة الماء وعسرة الزاد، كان العشرة يخرجون على بعير يتعقبونه وربما مص التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها بينهم، وكانوا يعصرون الفرث ويشربونه من العطش، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 117] يميل بعضهم إلى التخلف والعصيان، قال الكلبي: هَمَّ ناس من المسلمين بالتخلف ثم لحقوه.
وقال الزجاج: من بعد ما كادوا ينصرفون عن غزوتهم للشدة، ليس أنه زائغ عن الإيمان.
وقرأ حمزة يزيغ بالياء، قال الفراء: الفعل المسند إلى المؤنث إذا تقدم عليه جاز تذكيره وتأنيثه، فذكر يزيغ كما ذكر كاد لتشابه الفعلين، وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 117] كرر ذكر التوبة لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم الله تعالى ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبهم، ثم أعاد ذكر التوبة.
وقوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] قال ابن عباس، ومجاهد: خلفوا عن التوبة عليهم.
وهؤلاء هم المعنيون بقوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ} [التوبة: 106] .
433 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أنا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] قَالَ: هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ كُلُّهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ(2/529)
وأما قصة توبة الله على هؤلاء فهي ما
434 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ الْعَرُوضِيُّ، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُؤَمَّلِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عِيسَى، نا الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ الْبَيْهَقِيُّ، نا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا يَعْقُوبُ، نا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، وأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، نا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ يُوسُفَ السَّقَطِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي ذَرٍّ الْمُقَدَّمِيُّ، نا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، نا صَالِحُ بْنُ أَبِي الأَخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وأَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، نا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ، أَنَّ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: " لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ إِلَّا بَدْرًا، وَلَمْ يُعَاتِبِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا خَرَجَ يُرِيدُ الْعِيرَ فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مُغِيثِينَ لِعِيرِهِمْ فَالْتَقَوْا عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا أُحِبُّ أَنِّي كُنْتُ شَهِدْتُهَا مَكَانَ بَيْعَتِي لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حَيْثُ تَوَاثَقْنَا عَلَى(2/530)
الإِسْلامِ ثُمَّ لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، حَتَّى كَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَآذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، وَأَرَادَ أَنْ يَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ وَذَلِكَ حِينَ طَابَ الظِّلالُ وَطَابَتِ الثِّمَارُ، وَقَلَّ مَا أَرَادَ غَزْوًا، إِلَّا وَارَى خَبَرَهَا وَيَقُولُ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنْ يَتَأَهَّبَ النَّاسُ أُهْبَتَهُمْ، وَأَنَا أَيْسَرُ مَا كُنْتُ قَدْ جَمَعْتُ رَاحِلَتَيْنِ، وَأَنَا أَقْدَرُ شَيْءٍ فِي نَفْسِي عَلَى الْجِهَادِ وَخِفَّةِ الْحَاذ ِ، وَأَنَا فِي ذَلِكَ أَصْغُو إِلَى الظِّلالِ وَطِيبِ الثِّمَارِ فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَادِيًا بِالْغَدَاةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَأَصْبَحَ غَادِيًا، قُلْتُ: أَنْطَلِقُ غَدًا إِلَى السُّوقِ فَأَشْتَرِي جِهَازِي ثَمَّ أَلْحَقُ بِهِمْ فَانْطَلَقْتُ إِلَى السُّوقِ مِنَ الْغَدِ فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: أَرْجِعُ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَلْحَقُ بِهِمْ فَعَسُرَ عَلَيَّ بَعْضُ شَأْنِي أَيْضًا فَلَمْ أَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى الْتَبَسَ بِي الذَّنْبُ وَتَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَأَطُوفُ بِالْمَدِينَةِ فَيُحْزِنُنِي أَنَّنِي لا أَرَى أَحَدًا إِلَّا رَجُلا مَغْمُوضًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ وَكَأَنَّ لَيْسَ أَحَدٌ تَخَلَّفَ إِلَّا رَأَى أَنَّ ذَلِكَ سَيُغْفَرُ لَهُ، وَكَانَ النَّاسُ كَثِيرًا لا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَثَمَانِينَ رَجُلا، وَلَمْ يَذْكُرْنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ فَلَمَّا بَلَغَ تَبُوكَ قَالَ: مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِي: خَلَّفَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بُرْدَاهُ وَالَّنَظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ هُمْ بِرَجُلٍ يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ وَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ جَعَلْتُ أَتَذَكَّرُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي حَتَّى إِذَا قِيلَ: هَذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَبِّحُكُمْ بِالْغَدَاةِ زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لا أَنْجُو إِلَّا بِالصِّدْقِ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُحًى فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ إِذَا جَاءَ مِنْ سَفَرٍ فَعَلَ ذَلِكَ، دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ، فَجَعَلَ يَأْتِيهِ مَنْ تَخَلَّفَ فَيَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، وَيَقْبَلُ عَلانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فَلَمَّا رَآنِي تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرًا؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَمَا خَلَّفَكَ؟ قُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْ بَيْنَ يَدَيَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرَكَ جَلَسْتُ لَخَرَجْتُ مِنْ سَخَطِهِ عَلَيَّ بِعُذْرٍ لَقَدْ أُوتِيتُ جَدَلا وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَنِّي إِنْ أُخْبِرْكَ الْيَوْمَ بِقَوْلٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ وَهُوَ حَقٌّ فَإِنِّي أَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، وَإِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثًا تَرْضَى عَنِّي فِيهِ وَهُوَ كَذِبٌ، أَوْشَكَ اللَّهُ أَنْ يُطْلِعَكَ عَلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَيْسَرُ وَلا أَخَفُّ حَاذًا مِنِّي حَيْثُ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَكُمُ الْحَدِيثَ قُمْ عَنِّي حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ فَقُمْتُ فَثَارَ عَلَى أَثَرِي نَاسٌ مِنْ قَوْمِي يُؤَنِّبُونَنِي فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا فَهَلَّا اعْتَذَرْتَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُذْرٍ يَرْضَى عَنْكَ فِيهِ؟ وَكَانَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَأْتِي مِنْ وَرَاءِ ذَنْبِكَ، وَلَمْ تُقِفْ نَفْسَكَ مَوْقِفًا لا تَدْرِي مَاذَا يَقْضِي لَكَ فِيهِ فَلَمْ يَزَالُوا يُؤَنِّبُونِي، حَتَّى هَمَمْتُ أَنْ أَرْجِعَ، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي فَقُلْتُ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ غَيْرِي؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَهُ هِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، فَذَكَرُوا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدُوا بَدْرًا لِي فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ لا أَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي هَذَا أَبَدًا وَلا أُكَذِّبُ نَفْسِي، قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كَلامِ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ غَيْرِنَا فَاجْتَنَبَ النَّاسُ كَلامَنَا، وَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فَلا يُصَلِّي عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكُونُ مِنَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ فَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلا يُصَلِّي عَلَيَّ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَخْرُجُ إِلَى السُّوقِ وَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَتَنَكَّرَ لَنَا النَّاسُ حَتَّى مَا هُمْ بِالَّذِي نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الْحِيطَانُ حَتَّى مَا هِيَ بِالْحِيطَانِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَتَنَكَّرَتْ لَنَا الأَرْضُ حَتَّى مَا هِيَ بِالأَرْضِ الَّتِي نَعْرِفُ، وَكُنْتُ أَقْوَى أَصْحَابِي فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَآتِي الْمَسْجِدَ فَأَدْخُلُ وَآتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالسَّلامِ؟ فَإِذَا قُمْتُ أُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ نَظَرَ إِلَيَّ بِمُؤَخَّرِ عَيْنَيْهِ فَإِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ أَعْرَضَ عَنِّي وَاسْتَكَانَ صَاحِبَايَ فَجَعَلا يَبْكِيَانِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يُطْلِعَانِ رُءُوسَهُمَا.
قَالَ: فَبَيْنَمَا أَنَا أَطُوفُ بِالسُّوقِ إِذَا بِرَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ جَاءَ بِطَعَامٍ لَهُ يَبِيعُهُ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ(2/531)
مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ فَأَتَانِي بِصَحِيفَةٍ مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ وَأَقْصَاكَ وَلَسْتَ بِدَارِ مَضْيَعَةٍ وَلا هَوَانٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ: هَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ وَالشَّرِّ فَسَجَرْتُ التَّنُّورَ وَأَحْرَقْتُهَا فَلَمَّا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً إِذَا رَسُولٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي فَقَالَ: اعْتَزِلِ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا؟ قَالَ: لا وَلَكِنْ لا تَقْرَبَنَّهَا فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَعِيفٌ فَهَلْ تَأْذَنْ لِي أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِنْ لا يَقْرَبَنَّكِ، قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ لِشَيْءٍ مَا زَالَ مُكِبًّا يَبْكِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا طَالَ عَلَيَّ الْبَلاءُ اقْتَحَمْتُ عَلَى أَبِي قَتَادَةَ حَائِطَهُ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، فَقُلْتُ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا أَبَا قَتَادَةَ أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ عَنِّي حَتَّى قُلْتُ ثَلاثًا.
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ فِي الثَّالِثَةِ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَلَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ بَكَيْتُ ثُمَّ اقْتَحَمْتُ مِنَ الْحَائِطِ خَارِجًا حَتَّى مَضَتْ خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا فَصَلَّيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا صَلاةَ الْفَجْرِ ثُمَّ جَلَسْتُ وَأَنَا بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْنَا أَنْفُسُنَا إِذْ سَمِعْتُ نِدَاءً مِنْ ذَرْوَةِ سَلْعٍ أَنْ أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَاءَ بِالْفَرَجِ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ يَرْكُضُ عَلَى فَرَسٍ يُبَشِّرُنِي فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعُ مِنْ فَرَسِهِ، فَأَعْطَيْتُهُ ثَوْبِي بِشَارَةً وَلَبِسْتُ ثَوْبَيْنِ آخَرَيْنِ، قَالَ: وَكَانَتْ تَوْبَتُنَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تُبَشِّرُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ؟ فَقَالَ: إِذَنْ يُحَطِّمُكُمُ النَّاسُ وَيَمْنَعُوكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلِ، فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي تَحْزَنُ لأَمْرِي، فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحَوْلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَهُوَ يَسْتَنِيرُ كَاسْتِنَارَةِ الْقَمَرِ، وَكَانَ إِذَا سُرَّ بِالأَمْرِ اسْتَنَارَ فَجِئْتُ فَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِكَ؟ قَالَ: بَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} [التوبة: 117] الآيات، وفينا أنزلت أيضا {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صِدْقًا وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لَكَ، قُلْتُ: فَإِنِّي أَمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ قَالَ: فَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ نِعْمَةً بَعْدَ الإِسْلامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَدَقْتُهُ أَنَا وَصَاحِبَايَ، وَأَلَّا نَكُونَ كَذَبْنَا فَهَلَكْنَا كَمَا هَلَكُوا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا يَكُونَ اللَّهُ أَبْلَى أَحَدًا فِي الصِّدْقِ مِثْلَ الَّذِي أَبْلانِي، مَا تَعَمَّدْتُ الْكَذِبَةَ بَعْدُ وَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ " قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
وقوله: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة: 118] قال المفسرون: ضيق الأرض عليهم بأن المؤمنين(2/532)
منعوا من كلامهم ومعاملاتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معرضا عنهم.
وقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 118] يعني: ضيق صدورهم بالهم الذي حصل فيها، وَظَنُّوا أيقنوا، {أَنْ لا مَلْجَأَ} [التوبة: 118] لا معتصم مِنَ الله من عذاب الله، إِلا إِلَيْهِ الآية، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] إعادة للتوكيد لأن ذكر التوبة على هؤلاء قد مضى في قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] ، ومعنى {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118] لطف لهم في التوبة ووفقهم لها.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ {119} مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {120} وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {121} وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ {122} } [التوبة: 119-122] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] روينا أن هذه الآية نازلة في كعب بن مالك وصاحبيه، وقال الكلبي، ومقاتل: يعني: مؤمني أهل الكتاب يأمرهم بالجهاد وأن يكونوا مع المهاجرين، وسمى الله المهاجرين في هذه السورة صادقين.
وقال نافع: يريد بالصادقين محمدا والأنبياء.
وقال الزجاج: والمعنى: على أنهم أمروا بأن يكونوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشدة والرخاء.
435 - أَخْبَرَنَا أَحَمْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْوَرَّاقُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ الْكَذِبَ لا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلا هَزْلٌ وَلا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ شَيْئًا، ثُمَّ لا يُنْجِزَهُ لَهُ اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] فَقَالَ: هَلْ تَرَوْنَ رُخْصَةً فِي الْكَذِبِ؟(2/533)
وقوله: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ} [التوبة: 120] قال ابن عباس: يعني: مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار.
{أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة يغزوها، {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة: 120] ولا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحر والمشقة، يقال: رغبت بنفسي عن هذا الأمر.
أي: ترفعت عنه، ذَلِكَ أي: ذلك النهي عن التخلف، {بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة: 120] وهو شدة العطش، وَلا نَصَبٌ إعياء وتعب، {وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 120] مجاعة في طاعة الله، {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} [التوبة: 120] ولا يقفون موقفا ولا يضعون قدما في موضع يغضب الكفار، {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا} [التوبة: 120] أسرا وقتلا وهزيمة، قليلا ولا كثيرا إلا كان ذلك قربى لهم عند الله، وهو قوله: {إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120] قال عطية العوفي: في الآية من الفقه أن من قصد طاعة كان قيامه وقعوده ونصبه ومشيه وحركاته كلها حسنات مكتوبة له وكذلك في المعصية، فما أعظم بركة الطاعة وما أعظم شؤم المعصية.
وقوله: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} [التوبة: 121] قال ابن عباس: تمرة فما فوقها.
وَلا يَقْطَعُونَ ولا يجاوزون وَادِيًا في مسيرهم مقبلين ولا مدبرين، {إِلا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121] آثارهم وخطاهم، {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ} [التوبة: 121] أي: بأحسن {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 121] .
قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] قال المفسرون: لما عيب من تخلف عن غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن سرية أبدا.
فلما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالسراية إلى العدو نفر المسلمون جميعا إلى الغزو، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة وحده، فأنزل الله هذه الآية، وهذا نفي معناه: النهي لهم عن الخروج إلى العدو جميعا.
وقوله: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] أي: فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة، ويبقى مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جماعة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] يعني: الفرقة القاعدين يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلمه القاعدون قالوا لهم إذا رجعوا إليهم: إن الله قد أنزل بعدكم على نبيكم قرآنا، وقد تعلمناه فتتعلمه السرايا، فذلك قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ أي: وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به {إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فلا يعملون بخلافه.
وهذا قول ابن عباس في رواية الوالبي.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {123} وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ {124} وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ {125} أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ {126} وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ {127} } [التوبة: 123-127] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] يريد الذين يقربون منكم، قال ابن(2/534)
عباس: أمروا أن يقاتلوا الأدنى فالأدنى من عدوهم مثل قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك.
{وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] قال ابن عباس: شجاعة.
وقال مجاهد: شدة.
وقال الحسن: صبرا منكم على الجهاد.
وقال الضحاك: عنفا.
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ} [التوبة: 124] من المنافقين {مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا} [التوبة: 124] يقوله المنافقون بعضهم لبعض هزوا، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة: 124] قال ابن عباس: تصديقا ويقينا وقربة من الله.
وذلك إنهم إذا أقروا بال { [عن ثقة ازدادوا تصديقا إلى ما كانوا عليه من التصديق، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول السورة،] وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [سورة التوبة: 125] شك ونفاق، {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] كفرا إلى كفرهم لأنهم كلما كفروا ب { [ازداد كفرهم، قوله: أَوَلا يَرَوْنَ من قرأ بالتاء فهو خطاب للمؤمنين، ومن قرأ بالياء فهو تقريع للمنافقين بالإعراض عن التوبة، وقوله:] أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} [سورة التوبة: 126] الآية، أي: يمتحنون بالأمراض والأوجاع وهي روائد الموت، {ثُمَّ لا يَتُوبُونَ} [التوبة: 126] من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض، وقوله: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} [التوبة: 127] الآية: قال ابن عباس: كان إذا أنزلت { [فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم فنظر بعضهم إلى بعض يريدون الهروب من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقولون: هل يراكم من أحد من المؤمنين إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد، وذلك قوله: ثُمَّ انْصَرَفُوا، قال الحسن: ثم انصرفوا على عدم التكذيب بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به.
وقال الزجاج: وجائز أن يكونوا ينصرفون عن المكان الذي استمعوا فيه.
] صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [سورة التوبة: 127] عن كل خير ورشد وهدى، ذلك {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127] عن الله دينه، قال الزجاج: أي: أضلهم الله مجازاة على فعلهم، وقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ {128} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ {129} } [التوبة: 128-129] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال ابن عباس: يريد محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدته وله(2/535)
فيهم نسب.
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] شديد عليه عنتكم وهو لقاء الشدة والمشقة بدخول النار، والمعنى: شديد عليه ما يلحقكم من الضرر بترك الإيمان، يقال: عنت الرجل يعنت عنتا.
إذا وقع في مشقة، حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ على إيمانكم، على أن تؤمنوا، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] قال ابن عباس: سماه الله باسمين من أسمائه.
فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان بك، {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] خص العرش بالذكر لأنه الأعظم فيدخل فيه الأصغر.
436 - نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْدِيُّ، نا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، نا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قَرَأَ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ، عَنِ الأَصَمِّ، عَنْ بَكَّارِ بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنِ الْعقَدِيِّ، عَنْ شُعْبَةَ(2/536)
سورة يونس
مكية وآياتها تسع ومائة
437 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ الزَّاهِدُ الْعَدْلُ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا الْمَدِينِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ يُونُسَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِيُونُسَ وَكَذَّبَ بِهِ وَبِعَدَدِ مَنْ غَرِقَ مَعَ فِرْعَوْنَ»
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ {1} أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ {2} إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {3} إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ {4} هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {5} إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ {6} } بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر} [يونس: 1] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد أنا الله الرحمن.
وعنه أيضا: أنا الله أرى.
{تِلْكَ(2/537)
آيَاتُ الْكِتَابِ} [يونس: 1] قال: يريد: هذه الآيات التي أنزلت على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيات الكتاب الْحَكِيمِ يعني: القرآن المحكم من الباطل، أي: الممنوع من الفساد لا كذب فيه ولا اختلاف، قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} [يونس: 2] الآية: قال المفسرون: عجبت قريش من إرسال الله محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى العباد، وقالوا: أما وجد الله من يرسله إلينا إلا يتيم أبي طالب؟ فأنزل الله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} [يونس: 2] والألف في أكان للتوبيخ والإنكار، {أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} [يونس: 2] يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرفون أباه وأمه، {أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} [يونس: 2] يعني: أهل مكة، {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] قال مجاهد، والحسن: يعني: الأعمال الصالحة يقدمون عليها.
وقال الوالبي، عن ابن عباس: يقول: سبقت لهم السعادة في الذكر الأول.
أخبرنا نصر بن أبي نصر الواعظ، أنا عبد الله بن محمد بن نصير، أنا محمد بن أيوب، أنا عبد الله بن عمران، نا يحيى بن الضريس، عن خالد بن صبيح البلخي، عن مقاتل بن حيان، في قوله: {قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2] قال: شفيع صدق، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2] قال ابن عباس: أخرجوا محمدا من علمهم فيه بالأمانة والصدق، إلى غير علمهم فكفروا وأرادوا بالساحر محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن قرأ: لسحر أراد: الذي أوحي إليه سحر، قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ} [يونس: 3] مفسر فيما سبق إلى قوله: يُدَبِّرُ الأَمْرَ قال ابن عباس: يخلق ما يكون.
وقال مجاهد: يقضي الأمر.
{مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3] قال الكلبي: ما من شفيع من الملائكة والنبيين إلا من بعد أمره في الشفاعة.
ذَلِكُمُ الله الذي فعل هذه الأشياء، {رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] أفلا تتعظون يا أهل مكة بالقرآن ومواعظه.
{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} [يونس: 4] إلى الله مصيركم يوم القيامة، وَعْدَ الله وعدكم الله ذلكم وعدا حقا، {(2/538)
إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 4] رد على المشركين الذين أنكروا البعث {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} [يونس: 4] قال ابن عباس: بالعدل.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ} [يونس: 4] وهو الماء الحار.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} [يونس: 5] أي: ذات ضياء، وَالْقَمَرَ نُورًا أي: ذا نور، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ أي: قدر له، فحذف الجار، والمعنى: هيأ ويسر له منازل، {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] يعني: حساب الشهور والسنين والأيام والساعات، {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ} [يونس: 5] يعني ما تقدم من الشمس والقمر ومنازله، إِلا بِالْحَقِّ إلا للحق من إظهار صنعه، وقدرته والدلالة على وحدانيته، يُفَصِّلُ الآيَاتِ يبينها، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يستدلون بالأمارات على قدرة الله.
{إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [يونس: 6] في تعاقبهما ومجيئهما وذهابهما، {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [يونس: 6] من الشمس والقمر والنجوم والبروج والأفلاك وَفي الأَرْضِ من الجبال والبحار، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6] الشركَ، فيستدلون بهذه الآيات على وحدانية الله وقدرته.
{إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ(2/539)
الْعَالَمِينَ} [يونس: 7-10] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] قال ابن عباس، ومقاتل: لا يخافون البعث لأنهم لا يؤمنون به.
والرجاء ههنا بمعنى الخوف كقوله: {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] ، {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 7] بدلا من الآخرة، وَاطْمَأَنُّوا بِهَا ركنوا إليها لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس: 7] يعني: آيات القرآن وما فيها من الفرائض والأحكام.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9] قال المفسرون: يهديهم ربهم إلى الجنة ثوابا لهم بإيمانهم.
وقال مجاهد: يكون لهم نور يمشون به.
وقال مقاتل: يهديهم بالنور على الصراط إلى الجنة.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [يونس: 9] أي: بين أيديهم وهم يرونها من أسرتهم وقصورهم، وقوله: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الدعوى مصدر كالدعاء، ذكرنا ذلك في قوله: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} [الأعراف: 5] ، قال ابن عباس: كلما اشتهى أهل الجنة شيئا قالوا: سبحانك اللهم.
فجاء ما يشتهون فإذا طعموا مما يشتهون قالوا: الحمد لله رب العالمين.
فذلك قوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] .
وقوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [يونس: 10] يحيي بعضهم بعضا بالسلام وتحية الملائكة إياهم، وتحية الله سلام، {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] قال الزجاج: أعلم الله أنهم يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه.
{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 11-14] قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} [يونس: 11] التعجيل: تقديم الشيء قبل وقته، والاستعجال: طلب العجلة، قال قتادة: هو دعاء الرجل على نفسه وولده وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له.
وقال ابن قتيبة: إن الناس عند الغضب والضجر يدعون على أنفسهم وأهليهم وأولادهم بالموت وتعجيل البلاء، كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال، يقول: فلو أجابهم الله إذا دعوا بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] .
قال عامة المفسرين: لماتوا وهلكوا جميعا وفرغ من هلاكهم.
وتحقيق التأويل: لو أجيبوا إلى ما يدعون به من الشر والعذاب لفرغ إليهم من أجلهم بأن ينقضي الأجل فيموتوا ويحصلوا في العذاب والبلاء، وقرأ ابن عامر لقَضى إليهم أجلهم بفتح القاف على إسناد الفعل إلى الله لأن ذكره قد تقدم، وذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ} [الأنفال: 32] الآية، يدل على صحة هذا قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس: 11] يعني: الكفار الذين لا يخافون البعث، قوله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ} [يونس: 12] أي: مضطجعا على جنبه، قال ابن عباس: إذا أصاب الكافر ما يكره من فقر أو مرض أو بلاء أو شدة أخلص في الدعاء مضطجعا كان أو قائما أو قاعدا.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ} [يونس: 12] طاغيا على ترك الشكر ولم يتعظ بما ناله، {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] قال الحسن: نسي ما دعا الله فيه وما صنع الله به فيما كشف عنه من البلاء، {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12] أي: كما زين لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء زين للمسرفين عملهم، يريد المشركين، قال ابن كيسان: أسرفوا على أنفسهم إذ عبدوا الوثن.
قال عطاء: نزلت الآية في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة.
قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13] يخوف كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية، {وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [يونس: 13] بالمعجزات الظاهرة، {وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [يونس: 13] قال ابن الأنباري: ألزمهم الله ترك الإيمان لمعاندتهم الحق وإيثارهم الباطل.
وقال الزجاج: أعلم الله أنهم لا يؤمنون ولو بقاهم أبدا، لأنه جعل جزاءهم بكفرهم الطبع على قلوبهم.
كما(2/540)
قال: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس: 74] الآية، وقوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس: 13] أي: نعاقب ونهلك المكذبين بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فعلنا بمن قبلهم، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ} [يونس: 14] قال ابن عباس: يريد أهل مكة، والمعنى: استخلفكم في الأرض من بعد القرون الماضية، {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] قال ابن عباس: لنختبركم ونختبر أعمالكم.
وقال قتادة: ما جعلنا الله خلائف إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {15} قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {16} فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ {17} } [يونس: 15-17] قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ} [يونس: 15] أي: على مشركي مكة، آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ يعني: القرآن، {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 15] لا يخافون البعث، {ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] أي: بقرآن ليس فيه عيب آلهتنا، وذكر البعث والنشور، أَوْ بَدِّلْهُ أي: تكلم به من ذات نفسك، فبدِّل منه ما نكره، {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] ما ينبغي لي أن أبدله غيره من قبل نفسي، قال الزجاج: أي: الذي أتيت به من عند الله لا من عند نفسي فأبدله.
وهو قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] قال ابن عباس: يريد: ما أخبركم إلا ما أخبرني الله به، وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} [يونس: 16] قال ابن عباس: يقول: لو شاء الله ما قرأت عليكم القرآن.
{وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16] ولا أعلمكم الله بالقرآن وأدراني الله به، والمعنى: لو شاء الله ألا ينزل القرآن ما أعلمكم به ولا أمرني بتلاوته عليكم، {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] قال ابن عباس: أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثكم بشيء من القرآن ولا آتيكم به، أَفَلا تَعْقِلُونَ أنه ليس من قِبَلِي.
قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأعراف: 37] أي: لا أحد أظلم ممن يظلم ظلم الكفر فيزعم أن لله ولدا وشريكا، قال ابن عباس: يريد: أني لم أفتر على الله ولم أكذب عليه، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أن معه شريكا وعبدتم الأوثان وكذبتم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من عند الله تعالى.
{إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17] لا يسعد من كذب أنبياء الله.
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ {18} وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ(2/541)
يَخْتَلِفُونَ {19} وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ {20} } [يونس: 18-20] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ} [يونس: 18] إن لم يعبدوه، وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] قال الحسن: شفعاء في إصلاح معاشهم في الدنيا، لأنهم لا يقرون بالبعث.
{قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس: 18] قال الضحاك: أتخبرون الله أن له شريكا ولا يعلم الله لنفسه شريكا في السموات ولا في الأرض.
والمعنى: أتخبرون الله بالكذب فيما يعلم أنه ليس بموجود؟ ثم نزه نفسه عما افتروه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18] .
قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً} [يونس: 19] أي: مجمعة على دين واحد يعني: من لدن إبراهيم عليه السلام إلى أن غير الدين عمرو بن لحي، فَاخْتَلَفُوا.
قاله ابن عباس في رواية عطاء، وقال في رواية الكلبي: يعني: أمة كافرة على عهد إبراهيم، فاختلفوا فآمن بعضهم وكفر بعضهم.
وقال مجاهد، والسدي: كانوا على ملة الإسلام إلى أن قتل أحد ابني آدم أخاه، وقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [يونس: 19] بتأخير هذه الأمة، وأنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بنزول العذاب، وتعجيل العقوبة للمكذبين، فكان ذلك فصلا بينهم فيما فيه يختلفون، قوله: وَيَقُولُونَ يعني: أهل مكة: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20] مثل العصا واليد، {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ} [يونس: 20] يعني أن قولكم: هلا أنزل عليه آية غيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، فَانْتَظِرُوا نزول الآية، {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 20] لنزولها، قوله: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ {21} هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ {22} فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {23} } [يونس: 21-23] {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} [يونس: 21] يعني مطرا وخصبا وغنى، {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} [يونس: 21] من بعد قحط وبؤس وفقر، {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [يونس: 21] سعي في دفع القرآن والتكذيب به، أي: إذا أخصبوا بطروا فكذبوا بالقرآن، {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [يونس: 21] أي: أن ما يأتيهم من العذاب أسرع في إهلاكهم مما أتوه من المكر في إبطال القرآن، قال مقاتل: فقتلهم الله يوم بدر وجازى(2/542)
مكرهم في آياته بعقاب ذلك اليوم، فكان أسرع في إهلاكهم من كيدهم في إهلاك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإبطال آياته، ثم أوعدهم بالجزاء في الآخرة بقوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس: 21] يعني: بالرسل الحفظة.
قوله: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ} [يونس: 22] على الدواب، وَفي الْبَحْرِ على السفن، يقال: سيرته من مكان إلى مكان.
أي: شخصته وقرأ ابن عامر: ينشركم من النشر بعد الطي، وحجته قوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] ، وقوله: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ} [يونس: 22] يعني السفن، وَجَرَيْنَ بِهِمْ عاد بعد المخاطبة إلى الإخبار عنهم، وقوله: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أي: رخاء لينة، وَفَرِحُوا بِهَا بتلك الريح للينها واستوائها، جَاءَتْهَا جاءت الفلك، رِيحٌ عَاصِفٌ، شديد الهبوب وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ وهو ما ارتفع من الماء، {مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22] من البحر، وَظَنُّوا أيقنوا {أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22] دنوا من الهلاك {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22] قال ابن عباس: تركوا الشرك وأخلصوا لله الربوبية، وقالوا: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ} [يونس: 22] الريح العاصف، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22] الموحدين الطائعين.
{فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 23] يعملون فيها بالفساد والمعاصي والجرأة على الله، يَأَيُّهَا النَّاسُ يعني: أهل مكة، {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 23] أي: بغي بعضكم على بعض، وما تنالونه، إنما تتمتعون به في الحياة الدنيا، فهو متاع في الدنيا، ومن نصب فعلى المصدر، والمعنى: تتمتعون متاع الحياة الدنيا، ويدل انتصاب المصدر على المحذوف، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} [يونس: 23] في الآخرة، {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 23] نخبركم في الآخرة بأعمالكم لأنا أثبتناها عليكم.
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {24} وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {25} } [يونس: 24-25] قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 24] ضرب الله تعالى مثلا للحياة في هذه الدار الفانية، فشبهها بمطر، وهو قوله: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ} [يونس: 24] يعني: التف وكثر وتداخل بذلك الماء من كل نوع من المرعى والكلأ والبقول والحبوب والثمار، وهو قوله: {مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس: 24] قال ابن عباس: زينتها وحسنها وخصبها.
يعني: حسن ألوان الزهر الذي يروق البصر، قال الزجاج: الزخرف كمال حسن الشيء.
وهو قوله: وَازَّيَّنَتْ أي: تزينت، وَظَنَّ أَهْلُهَا أي: أهل تلك الأرض، {أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس: 24] أي: على نباتها الذي أنبتته، قال ابن عباس: على حصادها وجذاذها وقطعها.
{أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا} [يونس: 24] قال ابن عباس: عذابنا.
والمعنى: أمرنا بهلاكها، فَجَعَلْنَاهَا(2/543)
حَصِيدًا محصودا لا شيء فيها، والحصيد: المقطوع المستأصل، {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24] خلت كأن لم تكن أمس، ولم تقم على الصفة التي كانت فيما قبل، من قولهم: غني القوم بالمكان.
إذا أقاموا به، والمراد: الغلة التي أخرجتها الأرض، وما سبق من الكلام يدل على الغلة، وقال الزجاج: كأن لم تعمر بالأمس.
قال: والمغاني: المنازل التي يعمرها أهلها بالنزول بها.
ونحو هذا قال ابن قتيبة: كأن لم تكن عامرة بالأمس.
وعلى هذا المراد به الأرض وتأويل الآية: أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وزهرة الدنيا مما يروق ويعجب حتى إذا استتم ذلك وكثر عند صاحبه وظن أنه ممتع به، سلب ذلك بموته أو بحادثة تهلكه كما أن الماء سبب لالتفاف النبات، وكثرته حتى تتزين به الأرض وتظهر بهجتها، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك أهلكها الله وردها إلى الفناء حتى كأن لم تكن، قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] أي: يبعث الرسول، ونصب الأدلة يدعو إلى الجنة، ذكرنا ذلك عند قوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] ، وقوله: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] عم بالدعوة وخص بالهداية من شاء، لأن الحكم له في خلقه يفعل ما يشاء.
438 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَبْدَانَ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُعَيْمٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنِي طَاهِرُ بْنُ يَحْيَى الْبَيْهَقِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ: " إِنِّي رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: اضْرِبْ لَهُ مَثَلا، فَقَالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُكَ وَمَثَلُ أُمَّتِكَ كَمَثَلِ مَلِكٍ اتَّخَذَ دَارًا، ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مَأْدُبَةً ثُمَّ بَعَثَ رَسُولا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى طَعَامِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ فَاللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَالدَّارُ الإِسْلَامُ، وَالْبَيْتُ الْجَنَّةُ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ الرَّسُولُ فَمَنْ أَجَابَكَ دَخَلَ الإِسْلامَ، وَمَنْ دَخَلَ الإِسْلامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ أَكَلَ مِنْهَا "
{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {26} وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {27} } [يونس: 26-27] قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] قال ابن عباس: للذين قالوا لا إله إلا الله الجنة.
وَزِيَادَةٌ وهي النظر إلى(2/544)
وجه الله في قول أبي بكر الصديق، وأبي موسى الأشعري، وحذيفة، وابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي، ونحو ذلك فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح الذي
439 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَعْلَى، وَعَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ، قَالَ أَبُو يَعْلَى: وحَدَّثَنَا حَوْثَرَةُ بْنُ أَشْرَسَ قَالا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ صُهَيْبٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، قَالَ: " إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَ مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ فَيَقُولُونَ: مَا هُوَ؟ أَلَمْ تُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا؟ وَتُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَتُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّينَا مِنَ النَّارِ، فَيُكْشَفُ لَهُمُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَا مِنْ شَيْءٍ أُعْطَوْهُ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ ".
هَذَا حَدِيثُ هُدْبَةَ، وَفِي حَدِيثِ حَوْثَرَةَ، قَالَ: الْحُسْنَى: الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ
{وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس: 26] بعد نظرهم إليه عز وجل.
قال حوثرة في أثر هذا الحديث: كنا نسمع حمادا يحدث بهذه الأحاديث على رءوس الناس فلا ينكرونها حتى جاء قوم يزعمون أن الله عز وجل لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة وكذبوا.
رواه مسلم، عن هدبة بن خالد.
وقوله: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} [يونس: 26] أي: لا يغشاها، يقال: رهقه ما يكره.
أي: غشيه ومصدره الرهق، قال ابن عباس: ولا يصيب وجوههم قتر يعني: سواد الوجوه من الكآبة.
قال عطاء: يريد دخان جهنم.
وَلا ذِلَّةٌ كما تصيب أهل جهنم.
قوله: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ} [يونس: 27] قال ابن عباس: عملوا الشرك.
{جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] قال الفراء: فلهم جزاء السيئة بمثلها.
والمعنى: أنهم يجزون بمثل ما عملوا، وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يصيبهم الذل والخزي والهوان، {مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [يونس: 27] ما لهم من عذاب الله من مانع يمنعهم، كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ ألبست، {وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ} [يونس: 27] طائفة من الليل وبعضا منه، مُظْلِمًا قال الفراء، والزجاج: هو نعت لقوله قطعا، والمعنى: وصف وجوههم بالسواد حتى كأنها ألبست سوادا من الليل، ومن قرأ: قطَعا مفتوحة الطاء فهي جمع قطعة، ومظلما على هذه القراءة حال من الليل، المعنى: أغشيت وجوههم قطعا من الليل في حال ظلمته.(2/545)
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ {28} فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ {29} هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {30} } [يونس: 28-30] قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 28] قال ابن عباس، ومقاتل: ويوم نجمع المشركين وشركاءهم، والكفار وآلهتهم، {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] ، قال الزجاج: مكانكم منصوب على الأمر، كأنهم قيل لهم: الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم حتى نفصل بينكم.
ومعنى وشركاؤكم أي: الذين جعلتموهم شركاء في العبادة، فَزَيَّلْنَا فرقنا وميزنا بينهم، قال المفسرون: فرقنا بين المشركين وبين شركائهم من الآلهة والأصنام، وذلك حين تبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده.
وهو قوله: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] قال ابن عباس: أنكروا عبادتهم.
وذلك أن الله تعالى ينطق الأوثان فتقول: ما كنا نشعر بأنكم إيانا تعبدون.
فَكَفَى بِالله الآية، هذا كلام معبوديهم لما تبرأوا منهم قالوا: يشهد الله على علمه فينا، ما كنا عن عبادتهم إلا غافلين، لأنه لم تكن فينا روح وما كنا نسمع ولا نبصر.
هُنَالِكَ أي: في ذلك الوقت، تَبْلُو تختبر، {كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] قدمت من خير أو شر، وذلك أن من قدم خيرا أو شرا جوزي عليه، فيختبر الخير ويجد ثوابه، ويختبر الشر ويجد عقابه، وقرئ: تتلو بتاءين، ومعناه: تقرأ كتابها، وما كتب من أعمالها التي قدمتها، {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ} [يونس: 30] إلى حكمه، فينفرد فيهم بالحكم، مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الذي يتولى ويملك أمرهم، وَضَلَّ أي: وزال وبطل، {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] في الدنيا من التكذيب.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ {31} فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ {32} كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {33} قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ {34} قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ {35} وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ {36} } [يونس: 31-36] قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [يونس: 31] يريد: من ينزل القطر من السماء ويخرج النبات من الأرض؟ {أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} [يونس: 31] أي: من يملك خلق السمع والأبصار، {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [يونس: 31] أي: المؤمن من الكافر، والنبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والطير من البيضة، والسنبلة من الحب، والنخلة من النواة،(2/546)
وعلى الضد من ذلك، {وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [يونس: 31] أمر الدنيا والآخرة، فَسَيَقُولُونَ الله أي: الله الذي يفعل هذه الأشياء، وذلك أنهم علموا أن الرزاق والمدبر هو الله، فإذا أقروا بعد الاحتجاج {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] قال ابن عباس: أفلا تخافون الله فلا تشركوا به شيئا.
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يونس: 32] قال ابن عباس: يريد هذا الذي كله فعله هو الحق، ليس هؤلاء الذين جعلتم معه شركاء لا يملكون شيئا من هذا.
وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] قال مقاتل: يعني: بعد عبادة الله إلا الضلال يعني عبادة الشيطان.
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ قال ابن عباس: كيف تصرف عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق، ولا يحيي ولا يميت.
وقوله: كَذَلِكَ أي: مثل ذلك الصرف، {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} [يونس: 33] يعني: خرجوا في الكفر إلى أفحشه، {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33] وهو قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} [السجدة: 20] الآية، وغيرها من آي الوعيد للكفا، {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} [يونس: 34] الذين تعبدونهم مع الله، {مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] يخلق أولا ثم يعيده ثانيا، {قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [يونس: 34] فكيف تصرفون عن الحق؟ {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ} [يونس: 35] يعني: آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، {مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [يونس: 35] يرشد إلى دين الإسلام؟ {قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] أي: إلى الحق، {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي} [يونس: 35] أي: إن الله الذي يهدي ويرشد إلى الحق أهل الحق أحق أن يتبع أمره، أم الصنم الذي لا يهدي أحدا، ولا يهتدي إلى الخير، وقرئ يهدي، ويهدي، ويهدي، ويهدي، وكلها يفتعل وإن اختلفت ألفاظها، وأصلها يهتدي، فأدغمت التاء في الدال، فمن فتح الهاء ألقى عليه حركة التاء المدغم، ومن كسر الهاء فلأنها كانت ساكنة واجتمعت مع الحرف المدغم الساكن، فحرك الهاء بالكسر لالتقاء ساكنين، ومن سكن الهاء جمع بين الساكنين، ومن كسر الياء والهاء أتبع الياء ما بعدها من الكسر، قال الزجاج: وهو رديء لثقل الكسر في الياء.
فأما معنى: لا يهتدي إلا أن يهدي، فالأصنام وإن هديت لا تهتدي لأنهم موات من حجارة، ولكن الكلام يدل على أنها إن هديت اهتدت لأنهم لما اتخذوها آلهة عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل، ووصفت صفة من يعقل، وإن لم تكن في الحقيقة كذلك، قوله: فَمَا لَكُمْ قال الزجاج: ما لكم كلام تام، كأنهم قيل لهم: أي: شيء لكم في عبادة الأصنام.
ثم قيل لهم: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35] قال مقاتل: كيف تقضون حين زعمتم أن مع الله شريكا؟ {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا} [يونس: 36] ما يستيقنون أنها آلهة، بل يظنون شيئا، فيتبعون ظنا لأنهم لم يأتهم بذلك كتاب ولا رسول، {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] لا يدفع من عذاب الله شيئا، أي: ظنهم أن الأصنام آلهة، وأنها تشفع لهم لا يغني عنهم شيئا، قال عطاء: يريد: ليس الظن كاليقين، يعني: يقوم مقام العلم.
{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ {37} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ(2/547)
صَادِقِينَ {38} بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ {39} وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ {40} وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ {41} وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ {42} وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ {43} إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {44} وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {45} } [يونس: 37-45] قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 37] هذا جواب لقولهم: {ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا} [يونس: 15] وأن مع يفترى بمنزلة المصدر يعني: وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله، {وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس: 37] ولكن كان تصديق ما قبله من الكتب، وأخبار الأمم والأنبياء الماضين، وهذا احتجاج عليهم بأن القرآن من عند الله بتصديقه الذي بين يديه، وقوله: وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ وتبيين ما في الكتاب من الحلال والحرام والفرائض والأحكام، ثم احتج عليهم بأن يأتوا بمثله إن كان مفترى، فقال: أَمْ يَقُولُونَ بل: أيقولون يعني المشركين: {افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [يونس: 38] ادعوا إلى معاونتكم من المعارضة كل من تقدرون عليه، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] في أنه افتراء، وهذا كقوله في { [البقرة:] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [سورة البقرة: 23] .
قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] أي: بما في القرآن من الجنة والنار والبعث والقيامة والثواب والعقاب، {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] لم يأتهم بعد حقيقة ما وعدوا في الكتاب مما يئول إليه أمرهم من العقوبة، {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 39] أي: بالبعث والقيامة، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] يعني: كان عاقبتهم العذاب والهلاك بتكذيبهم.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ} [يونس: 40] وهذا إخبار عما سبق في علم الله تعالى، قال الكلبي: نزلت في أهل مكة.
{وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} [يونس: 40] قال عطاء: يريد المكذبين وهذا تهديد لهم.
{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي} [يونس: 41] الآية: قال مقاتل، والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية الجهاد.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] قال ابن عباس: نزلت في المستهزئين كانوا يستمعون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للاستهزاء والتكذيب، فلم ينتفعوا باستماعهم.
قال الله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ} [يونس: 42] قال الزجاج: أي: ظاهرهم ظاهر من يستمع، وهم لشدة عداوتهم بمنزلة الصم.
{وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42] يريد: أنهم أشد من الصم لأن الصم لهم عقول وقلوب، وهؤلاء قد أصم الله قلوبهم.
أخبر الله تعالى أن هؤلاء بمنزلة الصم الجهال، إذ لم ينتفعوا بما سمعوا.
قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] قال ابن عباس: يريد: متعجبين منك، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] يريد: أن الله تعالى قد أعمى قلوبهم، فلا يبصرون شيئا من الهدى، كما قال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج: 46] الآية، قال الزجاج: ومنهم من يقبل عليك بالنظر وهو(2/548)
كالأعمى من بغضه لك، وكراهية ما يراه من آياتك.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] لما ذكر الله تعالى في الآيتين السابقتين فريقين ووصفهما بالشقوة، ينظرون، ولا يسمعون ولا يعقلون ولا يؤمنون، وذلك للقضاء السابق عليهم، أخبر في هذه الآية أن تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلما منه لأنه يتصرف في ملكة كيف يشاء وهم إذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم، وهو قوله: {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] وذلك أن الفعل منسوب إليهم، وإن كان القضاء من الله سبحانه، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس: 45] قال ابن عباس: كأن لم يلبثوا في قبورهم إلا قدر ساعة من النهار.
وقال الضحاك: قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم فصار كالساعة من النهار، لهول ما استقبلوا من أمر البعث والقيامة.
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ بتوبيخ بعضهم بعضا، يقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وأنت كسبتني دخل النار بما علمتني وزينته لي.
{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [يونس: 45] خسر ثواب الجنة الذين كذبوا بالبعث.
{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ {46} وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {47} وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {48} قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ {49} قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ {50} أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ {51} ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ {52} } قوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46] قال المفسرون: كانت وقعة بدر ما أراه الله حال حياته مما وعد المشركين من العذاب.
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك، فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ بعد الموت فنجزيهم بأعمالهم، قال الزجاج: أعلم الله أنه إن لم ينتقم منهم في العاجل ينتقم منهم في الآجل.
وقوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] أي: من محاربتك وتكذيبك.
قوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47] قال ابن الأنباري: رسول يرسله الله إليهم سفيرا بينه وبينهم مبشرا ومنذرا.
فإذا جاءهم الرسول في الدنيا، {قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 47] حكم عليهم عند اتباع المؤمنين وعناد الكافرين بالمعصية والطاعة، والضلالة والهدى، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] قال عطاء: لا ينقص الذين صدقوا من ثوابهم، ولا يزاد الذين كذبوا من مساوئ أعمالهم.
ولما أخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [يونس: 46] قالوا: متى هذا العذاب الذي تعدنا؟ وهو قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] أنت واتباعك؟ {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي} [يونس: 49] هذه الآية إلى آخرها مفسرة في آيتين من { [الأعراف.
قوله:] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} [سورة يونس: 50] قال الزجاج: البيات كل ما كان بليل.
يقول: أعلمتم(2/549)
أيها المستعجلون للعذاب إن أتاكم العذاب ليلا أو نهارا، {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50] أي: ماذا يستعجلون منه؟ وهو استفهام معناه: التفظيع والتهويل، كما يقول لمن هو في أمر يستوخم عاقبته: ماذا تجني على نفسك؟ وهو جواب لقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يونس: 48] ؟ وقوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} [يونس: 51] كان المشركون يقولون: نكذب العذاب ونستعجله، ثم إذا ما وقع آمنا به، فقال الله تعالى موبخا لهم: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51] العذاب وحل بكم آمنتم به؟ فلا يقبل منكم الإيمان، ويقال لكم: الآنَ تؤمنون، {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 51] مستهزئين معاندين للحق، وهو قوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [يونس: 52] الآية: وذلك: أن العذاب إذا لحق الكافرين أفضوا منه إلى عذاب الآخرة.
{وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ {53} وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {54} أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ {55} هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {56} } [يونس: 53-56] قوله عز وجل: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] أي: البعث والعذاب، أي: يستخبرونك عن ذلك، {قُلْ إِي وَرَبِّي} [يونس: 53] قال الزجاج: نعم وربي، إِنَّهُ لَحَقٌّ إن العذاب نازل بكم، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53] بعد الموت، قال ابن عباس: يريد أن الله لا يعجزه شيء ولا يفوته.
{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} [يونس: 54] أشركت، {مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ} [يونس: 54] لبذلته لدفع العذاب عنها، {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 54] أي: أخفى الرؤساء في الكفر الندامة من الذين أضلوهم، وستروها عنهم.
هذا قول عامة المفسرين وأهل التأويل، وقال أبو عبيدة: الإسرار من الأضداد، يقال: أسررت الشيء.
أخفيته، وأسررته.
أعلنته، قال: ومن الإعلان قوله: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس: 54] أي: أظهروها.
واختار المفضل هذا القول، وقال: ليس ذلك اليوم يوم تصبر ولا تصنع.
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [يونس: 54] أي: بين الرؤساء، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 54] لأنهم يجازون بشركهم.
قوله: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55] قال ابن عباس: يريد: ما وعد لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [يونس: 55] يريد المشركين.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ {57} قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {58} } [يونس: 57-58] يَأَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني قريشا.
{قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 57] يعني القرآن، وما فيه من المواعظ التي تدعو إلى الصلاح، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] أي: دواء لداء الجهل، والقرآن مزيل للجهل وكاشف لعمى القلب، وَهُدًى وبيان للضلالة، {وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] ونعمة من الله تعالى لأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ(2/550)
فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن.
وهذا قول عامة المفسرين.
440 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أنا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] قَالَ: فَضْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَهُمْ مِنْ أَهْلِهِ
وهو خير مما يجمع الكفار من الدنيا، ثم أمره أن يخاطب كفار مكة بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ {59} وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ {60} وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْءَانٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {61} أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {62} الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {64} وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {65} أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ {66} هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ {67} } [يونس: 59-67] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ} [يونس: 59] يعني: ما خلق وأنشأ، {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا} [يونس: 59] يعني: ما حرموا من الحرث والأنعام لآلهتهم، {قُلْءَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] في هذا التحريم والتحليل، {أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] بل تقولون على الله الكذب وذلك أنهم كانوا يقولون: الله أمرنا بها.
قوله: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس: 60] قال مقاتل: وما ظن الذين يتقولون على الله الكذب، بأن الله أمرهم بتحريم ما حرموا يوم القيامة إذا لقوه.
{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [يونس: 60] حين لم يعجل بعقوبة افترائهم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} [يونس: 60] تأخير العذاب عنهم.
قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} [يونس: 61] قال الحسن:(2/551)
في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها.
{وَمَا تَتْلُو مِنْهُ} [يونس: 61] أي: من الله تعالى، أي: نازل منه مِنْ قُرْآنٍ والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمته داخلون في هذا الخطاب لأن خطاب الرئيس خطاب له ولأتباعه يدل على هذا قوله: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} [يونس: 61] قال ابن الأنباري: جمع في هذا ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأولين.
{إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} [يونس: 61] قال الفراء: يقول: الله شاهد على كل شيء.
والمعنى: إلا نعلمه فنجازيكم به، {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] الإفاضة: الدخول في العمل، قال ابن الأنباري: إذ تندفعون فيه.
وقال ابن عباس: إذ تأخذون فيه.
{وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ} [يونس: 61] والعزوب: البعد والذهاب، يقال: عزب عنه الشيء.
إذا غاب وذهب، {مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] أي: وزن ذرة، ومثقال الشيء ما وازنه، والذر صغار النمل، الواحدة ذرة، {فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} [يونس: 61] قال الفراء: من نصبها فإنما يريد الخفض، يتبعها المثقال والذرة، ومن رفعها أتبعها معنى المثقال لأنك لو ألقيت من المثقال من كان رفعا، وهو كقولك: ما أتاني أحد عاقل، وكذلك قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] ، وغيره، {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [يونس: 61] قال ابن عباس: يريد: اللوح المحفوظ.
قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] :
441 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، نا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] قَالَ: «هُمُ الَّذِينَ يُذْكَرُ اللَّهُ لِرُؤْيَتِهِمْ»
442 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ هَيْثَمٍ الأَنْبَارِيُّ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ الصَّائِغُ، نا أَبُو غَسَّانَ، وَعَاصِمٌ، قَالا: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، نا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، عَنِ ابْنِ زُرْعَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ:(2/552)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ وَمَا أَعْمَالُهُمْ؟ لَعَلَّنَا نُحِبُّهُمْ، قَالَ: " قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ بِغَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ وَلا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا بَيْنَهُمْ، وَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ وَلا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ، ثُمَّ قَرَأَ {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62]
قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] قال ابن عباس: يريد: الذين صدقوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخافوا مقامهم بين يدي الله تعالى.
قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس: 64] :
443 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: نا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {63} لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 63-64] مَا هَذِهِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي قَبْلَكَ هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ أَوْ تُرَى لَهُ»
444 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، نا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُبَشَّرُ بِهَا الْمُؤْمِنُ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ فَلْيُخْبِرْ بِهَا، وَمَنْ رَأَى سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيُحْزِنَهُ فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا وَلْيَسْكُتْ، وَلا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا "
وقال عطاء، عن ابن عباس: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] يريد: عند الموت تأتيهم ملائكة الرحمة بالبشرى من الله، وفي الآخرة عند خروج نفْس المؤمن يبشر برضوان الله.
وهذا قول قتادة، والضحاك، والزهري، قالوا: البشارة عند الموت.
وقال الحسن: ما بشر الله عز وجل في كتابه من جنته وكريم ثوابه في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ(2/553)
آمَنُوا} [يونس: 2] ، وبشر المؤمنين، وأبشروا بالجنة.
وهذا اختيار الفراء، والزجاج قالا: ويدل على صحة هذا قوله: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64] .
قال ابن عباس: لا خلف لمواعيده، وذلك أن مواعيده بكلماته، فإذا لم تبدل كلماته لم تبدل مواعيده.
قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يونس: 65] ولا يحزنك إنكارهم وتكذيبهم وتظاهرهم عليك في العداوة، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65] أي: الغلبة له، وهو ناصرك وناصر دينك، والمعنى: أنه الذي يعزك حتى تصير أعز ممن ناوأك، {هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس: 65] يسمع قولهم، ويعلم ضميرهم فيجازيهم بما يقتضيه حالهم، {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [يونس: 66] أي: إنه يفعل بهم وفيهم ما يشاء، {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ} [يونس: 66] أي: ما يتبعون شركاء على الحقيقة لأنهم يعدونها شركاء لله، شفعاء لهم، وليست على ما يظنون، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [يونس: 66] يعني: ظنهم أنها تشفع لهم يوم القيامة، {وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [يونس: 66] ما هم إلا كاذبون فيما يزعمون.
قوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67] أي: ليزول التعب والكلال بالسكون فيه، وَجعل النَّهَارَ مُبْصِرًا، مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [يونس: 67] الذي فعل، {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67] سماع اعتبار أنه مما لا يقدر عليه إلا عالم قادر.
{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {68} قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ {69} مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ {70} } [يونس: 68-70] {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [يونس: 68] يعني: زعم المشركون أن الملائكة بنات الله، سُبْحَانَهُ تنزيها له عما قالوا، هُوَ الْغَنِيُّ أن تكون له زوجة وولد، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس: 68] عبيدا أو ملكا، {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] ما عندكم من حجة بما تقولون، ثم أنكر عليهم ذلك، فقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {68} قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [يونس: 68-69] لا يسعدون في العاقبة وإن اغتروا بطول السلامة، {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا} [يونس: 70] أي: لهم متاع في الدنيا يتمتعون به أياما يسيرة، {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} [يونس: 70] في الآخرة، {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ} [يونس: 70] الغليظ الذي لا ينقطع، {بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] .
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ {71} فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {72} فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ {73}(2/554)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ {74} ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ {75} فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ {76} قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ {77} } [يونس: 71-77] قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: 71] أي: اقرأ واقصص على قومك خبر نوح وقصته مع قومه، وذلك لما فيه من الدليل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نبوته، ولقومه من الاعتبار بقوم نوح وما حل بهم من العقوبة والتكذيب، وقوله: {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [يونس: 71] يعني: نوح، {يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي} [يونس: 71] عظم وثقل وشق عليكم إقامتي بين أظهركم ولبثي فيكم {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ} [يونس: 71] قال ابن عباس: وعظي وتخويفي إياكم عقوبة الله، {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71] في نصرتي ودفع شركم عني فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ: معنى الإجماع: العزم على أمر محكم لا يخالف، وقوله: وَشُرَكَاءَكُمْ قال الفراء: وادعوا شركاءكم دعاء استغاثة بهم.
وكذلك في قراءة عبد الله، وقال الزجاج: الواو بمعنى مع، والمعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم.
{ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [يونس: 71] أي: مبهما، ليكن أمركم ظاهرا منكشفا لا تسترون معاداتي، {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ} [يونس: 71] ثم امضوا إلي بمكروهكم، وما توعدونني به، ومعنى قضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه، وهذا إخبار عن نوح أنه كان ينصر الله واثقا من كيد قومه غير خائف، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الإيمان، {فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} [يونس: 72] أي: لم يكن دعائي إياكم طمعا في مالكم، إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي {إِلا عَلَى اللَّهِ} [يونس: 72] .
قوله: وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ جعل الله الذين نجوا مع نوح من الغرق خلفا ممن هلك، كما قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77] وذلك أن الناس كانوا من ذريته بعد الغرق، وهلك أهل الأرض جميعا بتكذيبهم لنوح عليه السلام سوى ذريته الذين نجوا معه، وذلك قوله: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] الآية، قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ} [يونس: 74] أي: من بعد نوح {رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ} [يونس: 74] قال ابن عباس: يريد: إبراهيم، وهودا، وصالحا، ولوطا، وشعيبا، فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ بأنهم رسل الله فَمَا كَانُوا: أولئك الأقوام الذين بعث إليهم الرسل {لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} [يونس: 74] يعني: قوم نوح، أي: لم يصدقوا بما كذب به قوم نوح، وكانوا مثلهم في الكفر والعتو {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: 74] قال ابن عباس: يريد: أن الله طبع على قلوبهم فأعماها، فلا يبصرون سبيل الهدى، وما بعد هذا ظاهر التفسير إلى قوله {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78] اللفت: الصرف عن الشيء، يقال: لفته عن رأيه.
أي: لواه وصرفه عنه، والمعنى: لتصرفنا عن دين آبائنا، {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} [يونس: 78] قال المفسرون: أي: الملك والعز في أرض مصر، والخطاب لموسى، وهارون، أي: إنما تطلبان التملك علينا، {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] ثم طلب فرعون السحرة ليعارضوا بسحرهم موسى، وهو قوله: {(2/555)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {79} فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ {80} فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ {81} وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ {82} } [يونس: 79-82] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {79} فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ} [يونس: 79-80] إلى قوله: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} [يونس: 81] أي: الذي جئتم به من الحبال والعصي سحر {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] فيهلكه وتظهر فضيحتكم، {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] لا يجعل عملهم ينفعهم، وَيُحِقُّ الله الْحَقَّ ويظهره ويمكنه بِكَلِمَاتِهِ بما سبق من وعده بذلك.
{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ {83} وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ {84} فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {85} وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {86} وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {87} } [يونس: 83-87] قوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى} [يونس: 83] أي: ما صدقه {إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس: 83] يعني: ذرية يعقوب وهم بنو إسرائيل الذين كانوا بمصر {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ} [يونس: 83] قال ابن عباس: متطاول في أرض مصر، {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83] حين كان عبدا فادعى الربوبية، ثم أمر موسى: من آمن من قومه بالتوكل على الله في دفع شر فرعون، وهو قوله: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [يونس: 84] الآية، {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [يونس: 85] أي: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا، قال مجاهد: لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا ولا تسلطنا عليهم فيفتنوا.
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس: 86] وذلك أنهم كانوا يستعبدونهم ويأمرونهم بالأعمال الشاقة فسأل الله النجاة منهم.
قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ} [يونس: 87] الآية، قال المفسرون: لما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومنعوا من الصلاة، فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفا من فرعون.
وذلك قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس: 87] قال الزجاج: صلوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف.
وقال عكرمة، عن ابن عباس: واجعلوا بيوتكم مساجد.(2/556)
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ {88} قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ {89} } [يونس: 88-89] قوله: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 88] قال ابن عباس: كان لهم من لدن فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت.
{رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس: 88] أي: إنك جعلت هذه الأموال سببا لضلالهم لأنهم بطروا بها فاستكبروا عن الإيمان، وطغوا في الأرض، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس: 88] قال الزجاج: تأويل طمس الشيء إذهابه عن صورته، والانتفاع به على الحالة الأولى التي كانت عليها.
قال المفسرون: صارت أموالهم حجارة، الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة صحاحا وأثلاثا وأنصافا.
قال القرظي: جعل سكرهم حجارة.
وقال قتادة: بلغنا أن حروثا لهم صارت حجارة.
وقال عطاء: لم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه فلم ينتفع به أحد بعد.
وقوله: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] قال ابن عباس: امنعهم عن الإيمان بك، والمعنى: اطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان، وهذا دليل على أن الله يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك ما حسن من موسى هذا السؤال، وقوله: فَلا يُؤْمِنُوا قال الفراء، والزجاج: فلا يؤمنوا دعاء عليهم أيضا.
والتأويل: فلا آمنوا {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 88] يعني: الغرق.
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] قال المفسرون: كان موسى يدعو وهارون يؤمن ولذلك قال دعوتكما.
فَاسْتَقِيمَا على الرسالة والدعوة إلى أن يأتيهم العذاب، {وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس: 89] لا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، وخفف ابن عامر نون تتبعان للتضعيف.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ {90} ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ {92} } [يونس: 90-92] قوله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [يونس: 90] أي: عبرنا بهم {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} [يونس: 90] أي: لحقوه، كما قال(2/557)
فأتبعه الشيطان، بَغْيًا وَعَدْوًا ظلما وعدوانا {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] قال ابن عباس: لم يقبل الله إيمانه عند نزول العذاب فلم ينفعه ذلك وقيل له {ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] أي: الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها؟ قال المفسرون: خاطبه جبريل بهذا.
445 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنَ حَالِ الْبَحْرِ أَحْشُو فِي فِيهِ يَعْنِي فِرْعَوْنَ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ "
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم عند الشدة، وإن يونس كان عبدا صالحا، وإنه كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله تعالى، فقال الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ {143} لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {144} } [الصافات: 143-144] ، وإن فرعون كان عبدا طاغيا، ناسيا لذكر الله فلما {أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90] ، فقال الله تعالى {ءَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91] .
وقال السدي: بلغنا أن جبريل قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أبغضت عبدا من عباد الله، ما أبغضت عبدين أحدهما من الجن والآخر من الإنس، أما الذي من الجن فإبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الذي من الإنس ففرعون حين قال: «أنا ربكم العلى» .
ولو رأيتني يا محمد وأنا آخذ من البحر فأدسه في فيه مخافة أن يقول كلمة ينجو بها.
وقوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] قال ابن عباس والمفسرون: لما أغرق الله فرعون وقومه أنكر بعض بني إسرائيل غرق فرعون، وقال: هو أعظم شيئا من أن يغرق، فأخرجه الله حتى رأوه، فذلك قوله: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] أن نلقيك على نجوة من الأرض، وهي المكان المرتفع ومعنى ببدنك بجسدك بغير روح، وذلك أنه طفى عريانا، وذهب قوم إلى أن معنى البدن هنا الدرع، قال ابن عباس: كانت عليه درع من ذهب يعرف بها وهو البدن.
والمعنى: أنا نرفع فرعون فوق الماء بدرعه المشهور ليعرفوه بها، وذلك قوله: {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس: 92] قال(2/558)
الكلبي: لتكون نكالا لمن خلفك، فلا يقولوا مثل مقالتك.
وقال الزجاج: معنى الآية: أنه كان يدعي أنه رب، وكان يعبده قومه فبين الله تعالى أمره وأنه عبد.
وفيه من الآية أنه غرق مع قومه وأخرج هو من بينهم فكان ذلك آية.
{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] قوله: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [يونس: 93] قال ابن عباس: يريد: قريظة، والنضير.
يريد أنزلناهم مُبَوَّأَ صِدْقٍ ما بين المدينة والشام في أرض يثرب {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس: 93] من النخل وما فيها من الرطب والتمر فَمَا اخْتَلَفُوا في تصديق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه نبي {حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [يونس: 93] قال ابن عباس: يريد: القرآن الذي جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الفراء: العلم: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه كان معلوما بنعته، وذلك أنه لما جاءهم اختلفوا فيه وفي تصديقه، فكفر به أكثرهم.
{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] من أمرك يعني: أنه يدخل المصدقين به الجنة، والمكذبين به النار.
{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {94} وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ {95} } [يونس: 94-95] قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] قال أكثر أهل العلم: هذا الخطاب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به غيره من الشكاك، والقرآن نزل بلغة العرب، وهم قد يخاطبون الرجل بالشي يريدون غيره مثل هذا قوله: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} [الأحزاب: 1] الآية، الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد به غيره، يدل على ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] ولم يقل: بما تعمل.
وقال الزجاج: إن الله يخاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك الخطاب شامل للخلق، والمعنى: فإن كنتم في شك فاسألوا، والدليل على ذلك، قوله في آخر ال { [:] قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ} [سورة يونس: 104] الآية.
وهذا مذهب ابن عباس، والحسن، وأكثر أهل التأويل، قال ابن عباس: لم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لم يشك في الله ولا في ما أوحي إليه، ولكن يريد من آمن به وصدقه، أمرهم أن يسألوا لئلا ينافقوا كما شك المنافقون.(2/559)
قوله: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94] قال ابن عباس، والضحاك، ومجاهد: يعني: من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه، فسيشهدون على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخبرونك بنبوته، وبما قدم الله من ذكره في الكتب، وباقي الآية والتي تليها حكمه على ما ذكرنا من أنه خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به غيره من الشاكين.
{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ {96} وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ {97} فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {98} وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {99} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ {100} } [يونس: 96-100] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [يونس: 96] قال ابن عباس: قول ربك بالسخط عليهم.
وقال قتادة: سخط ربك بما عصوه.
وقال مقاتل: وجبت عليهم كلمة العذاب.
{لا يُؤْمِنُونَ {101} وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97-101] كانوا يسألون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم بالآيات حتى يؤمنوا، قال الله تعالى: {لا يُؤْمِنُونَ {101} وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس: 97-101] ، فلا ينفعهم حينئذ إيمانهم كما لم ينفع إيمان فرعون حيث أدركه الغرق.
قوله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} [يونس: 98] الآية: لولا معناها ههنا النفي، قال ابن عباس في رواية عطاء: فما كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس.
فقال: يريد: لم أفعل هذا بأمة قط، إلا قوم يونس لما آمنوا عند نزول العذاب كشفنا عنهم.
وقال قتادة: لم يكن هذا معروفا لأمة من الأمم كفرت، ثم آمنت عند نزول العذاب، فكشف عنهم إلا قوم يونس كشف عنهم العذاب بعد ما تدلى عليهم.
وهو قوله: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [يونس: 98] قال ابن عباس: يريد: سخط الله عليهم في الحياة الدنيا، {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] يريد: حين آجالهم.
قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} [يونس: 99] الآية، قال ابن عباس: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريصا على أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من سبقت له السعادة من الله، وأنه لو شاء لآمن الناس كلهم.
ثم أنكر عليه إكراه الناس على الإيمان فقال: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ} [يونس: 99] الآية، وهذا منسوخ بآية القتال، قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [يونس: 100] قال ابن عباس: إلا بما سبق لها في قضاء الله وقدره.
وقال عطاء: بمشيئة الله.
وقال الزجاج: وما كان لنفس الوصلة إلى الإيمان إلا بتوفيق الله، وهو إذنه.
وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ قال ابن عباس: السخط.
وقال(2/560)
الحسن: العذاب.
{عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] قال ابن عباس: لا يؤمنون.
والمعنى: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ {101} فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ {102} ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ {103} } [يونس: 101-103] قوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: 101] قال المفسرون: قل للمشركين الذين يسألونك الآيات على توحيد الله: انظروا بالتفكير والاعتبار ماذا في خلق السموات والأرض من الآيات والعبر التي تدل على وحدانية الله، ونفاذ قدرته كالشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر، وكل هذا يقتضي مدبرا لا يشبه الأشياء ولا تشبهه.
ثم قال: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] أي: ما تنفع الآيات، ولا تدفع عمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن.
قوله: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ يعني: المشركين والمكذبين {إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102] إلا أياما مثل أيام الأمم الماضية المكذبة في وقوع العذاب؟ أي: يجب ألا ينتظروا بعد تكذيبك إلا العذاب، {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [يونس: 103] هذا إخبار عما كان الله يفعل في الأمم الماضية من إنجاء الرسل والمصدقين لهم عما يعذب به من كفر، كَذَلِكَ مثل ذلك الإنجاء حَقًّا عَلَيْنَا واجبا علينا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عذابي.
{قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {104} وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {105} وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ {106} وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {107} } [يونس: 104-107](2/561)
قوله: {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ} [يونس: 104] يريد: أهل مكة {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} [يونس: 104] أي: من توحيد الله الذي جئت به، والحنيفية التي بعثت بها فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله بشككم في ديني، {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} [يونس: 104] أي: يقدر على إماتتكم، وهذا يتضمن تهديدا لهم لأن وفاة المشركين ميعاد عذابهم، قوله: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [يونس: 105] أي: استقم بإقبالك على ما أمرت به بوجهك، {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ} [يونس: 106] إن دعوته، وَلا يَضُرُّكَ إن تركت عبادته، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [يونس: 107] قال ابن عباس: يريد بمرض وفقر.
{فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [يونس: 107] لا مزيل لما أصابك من ضر إلا هو {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} [يونس: 107] أي: وإن يرد بك خيرا {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] لا مانع لما تفضل به عليك من رخاء ونعمة يُصِيبُ بِهِ بكل واحد مما ذكر {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] .
{قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ {108} وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {109} } [يونس: 108-109] {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ} [يونس: 108] يعني: أهل مكة {قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس: 108] يعني: القرآن {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [يونس: 108] قال ابن عباس: من صدق محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما يحتاط لنفسه.
{وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108] أي: إنما يكون وبال ضلاله على نفسه، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108] في منعكم من اعتقاد الباطل، والمعنى: بحفظكم من الهلاك، كما يحفظ الوكيل المناع من الهلاك، قال ابن عباس: نسختها آية القتال والتي بعدها.
وهي قوله: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] لأن الله تعالى حكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب.(2/562)
سورة هود
مكية وآياتها ثلاث وعشرون ومائة
446 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِيرِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ هُودٍ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بِهُودٍ وَكَذَّبَ بِهِ وَنُوحٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ السُّعَدَاءِ»
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ {1} أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ {2} وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ {3} إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {4} } [هود: 1-4] الر قال ابن عباس: يريد: أنا الله الرحمن.
كِتَابٌ قال الفراء، والزجاج: هذا كتاب.
أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ قال الكلبي: لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها.
ثُمَّ فُصِّلَتْ بينت بالأحكام من الحلال والحرام والوعد والوعيد {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] قال ابن عباس: من عند حكيم في خلقه، خبير بمن يصدق بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبمن يكذب به.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [هود: 2] قال الزجاج: المعنى: أمر ألا تعبدوا إلا الله.
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} [هود: 3] من ذنوبكم السالفة {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] من المستأنفة متى وقعت {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] قال ابن عباس: يتفضل عليكم بالرزق والسعة إلى أجل الموت.
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] نعطي كل ذي عمل صالح أجره وثوابه، وقال ابن عباس، وابن مسعود: يؤت كل من فضلت حسناته على سيئاته فضله، يعني الجنة، وهي فضل الله.
يعني: أن من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة وَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تتولوا عن الإسلام {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} [هود: 3] في الآخرة {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] وهو يوم القيامة.(2/563)
{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {5} وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ {6} } [هود: 5-6] قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [هود: 5] يقال: ثنيت الشيء ثنيا إذا عطفته وطويته، وكان طائفة من المشركين يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا، وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يعلم به؟ فأخبر الله عز وجل عما كتموه.
ومعنى يثنون صدورهم: يطوونها على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال قتادة: كذلك أخفى ما يكون من ابن آدم إذا حنا ظهره، واستغشى ثيابه، وأضمر همه في نفسه.
قوله: لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي: ليتواروا عنه ويكتموا عداوته، فقال الله تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5] قال ابن الأنباري: أعلم الله أن سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهراتهم.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5] قال ابن عباس: يريد: بما في النفوس.
والمعنى: تحقيقه ما في القلوب من المضمرات.
قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} [هود: 6] الآية، يعني: ما من حيوان يدب، قال الزجاج: الدابة: اسم لكل حيوان مميز وغيره، بني على هاء التأنيث، وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى.
قوله: {إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] قال المفسرون: فضلا لا وجوبا والله تكفل بذلك بفضله.
447 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرَجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ ابْنُ بِنْتِ ابْنِ مَنِيعٍ، نا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ قَالَ: نا الأَعْمَشُ، عَنْ سَلامِ بْنِ سَلامِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، قَالَ: سَمِعْتُ حَبَّةَ، وَسَوَاءً ابْنَيْ خَالِدٍ يَقُولانِ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَعْمَلُ عَمَلا يَبْنِي بِنَاءً، فَأَعَنَّاهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا فَرَغَ دَعَا لَنَا وَقَالَ: «لا تَيْأَسَا مِنَ الرِّزْقِ مَهْمَا تَهَزْهَزَتْ رُءُوسُكُمَا، فَإِنَّ الإِنْسَانَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ قِشْرَةٌ ثُمَّ يُعْطِيهِ اللَّهُ وَيَرْزُقُهُ»
وقال أهل المعاني: على ههنا بمعنى من، المعنى من الله رزقها، ويدل على صحة هذا قول مجاهد: ما(2/564)
جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعا.
قوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا حين تأوي إليه وَمُسْتَوْدَعَهَا حيث تموت.
وهو قول ابن عباس.
وقال قتادة، ومجاهد: أما مستقرها ففي الرحم، وأما مستودعها ففي الصلب.
كُلٌّ ذلك عند الله {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] يعني: اللوح المحفوظ، والمعنى: أن ذلك ثابت في علم الله.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [هود: 7] تقدم تفسيره، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] يعني: قبل أن يخلق السماء والأرض، قيل لابن عباس: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.
وفي وقوف العرش على الماء، والماء على غير قرار أعظم الاعتبار لأهل الإنكار، وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] قال ابن عباس: أيكم أعمل بطاعة الله.
قال ابن الأنباري: معناه ليختبركم.
فيعلم وقوع الفعل منكم الذي به تستحقون الثواب والعقاب، فيثيب المطيع المعتبر بما يرى من آيات السموات والأرض، ويعاقب أهل العناد، قوله: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} [هود: 7] بعد ان شاهدوا خلق السموات والأرض {لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7] قال الزجاج: السحر باطل عندهم فكأنهم قالوا: إن هذا إلا باطل مبين.
يعني: هذا القول الذي يقول لنا: أنا نبعث بعد الموت، قوله: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8] {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} [هود: 8] يعني: عن المشركين {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] قال ابن عباس، ومجاهد: إلى أجل وحين معلوم.
والأمّة ههنا المدة من أوقات الزمان {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] أي: ما يحبس العذاب عنا؟ يقولون ذلك تكذيبا واستهزاء، قال الله تعالى: {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} [هود: 8] يقول: إذا أخذتهم سيوف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم تغمد عنهم، حتى يباد أهل الكفر، وتعلو كلمة الإخلاص وَحَاقَ ونزل وأحاط {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8] وهو العذاب.(2/565)
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ {9} وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ {10} إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {11} } [هود: 9-11] وقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9] قال ابن عباس: نزلت في الوليد بن المغيرة.
وقال غيره: في عبد الله ابن أبي أمية المخزومي.
والمراد بالرحمة ههنا الرزق.
وقوله: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} [هود: 9] شديد اليأس من رحمة الله وسعة رزقه كَفُورٌ لنعمته، وهذا بيان عما يوجبه الخلق السوء من القنوط من الرحمة عند نزول الشدة، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ} [هود: 10] قال ابن عباس: صحة وسعة في الرزق.
{بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [هود: 10] بعد مرض وفقر {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} [هود: 10] يريد الضر والفقر إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر فَخُورٌ قال ابن عباس: يفاخر أوليائي بما وسعت عليه.
{إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} [هود: 11] هذا استثناء منقطع ليس من الأول، معناه: لكن الذين صبروا، يعني: أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، مدحهم الله بالصبر على الشدة والمكاره، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أي: في الشدة والرخاء {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] .
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {12} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {13} فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {14} } [هود: 12-14] قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12] قال أهل التفسير: قال المشركون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بك.
وقال بعضهم: هل ينزل عليك ملك فيشهد لك بالصدق، أو تعطى كنزا تستغني به أنت وأتباعك.
فهمَّ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدع سب آلهتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [هود: 12] أي: لعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] الضائق بمعنى: الضيق، قال ابن الأنباري: أن في موضع خفض بالرد على الباء في به.
يريد: وضائق به صدرك بأن يقولوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: 12] يستغني به {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} [هود: 12] يشهد له بالنبوة {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12] قال الزجاج: إنما عليك أن تنذرهم وليس عليك أن تأتيهم بما يقترحون عليك من الآيات.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12] أي: حافظ لكل شيء.
قوله: أَمْ يَقُولُونَ معناه: بل أيقولون: افترى القرآن وأتى به من عند نفسه قُلْ لهم فَأْتُوا أنتم في معارضتي {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13] مثل القرآن من البلاغة(2/566)
مُفْتَرَيَاتٍ بزعمكم ودعواكم {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [هود: 13] إلى المعاونة على المعارضة {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13] في قولكم: افتراه.
{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [هود: 14] من تدعونهم إلى المعاونة، ولم يتهيأ لكم المعارضة فقد قامت عليكم الحجة {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14] أي: أنزل والله أعلم بإنزاله وعالم أنه حق من عنده، وَاعلموا أَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 14] استفهام معناه الأمر.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {16} } [هود: 15-16] قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود: 15] الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: من كان يريد عاجل الدنيا فلا يؤمن بالبعث والثواب والعقاب.
وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله في الدنيا بحسناته، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها، وأما المؤمن فيجزى في الدنيا بحسناته ويثاب عليها في الآخرة.
وذلك قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] قال سعيد بن جبير: ثواب ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار، فإذا جاء هذا الكافر الآخرة ورد منها على عاجل الحسرة إذ لا حسنة له هناك {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] لا ينقصون، أي: يعطوا فيها أجر ما عملوا في الدنيا، ثم أخبر ما لهم في الآخرة فقال {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] ما عملوا في الدنيا من حسنة لأنهم لم يروا لها ثوابا {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] من خير.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ {17} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ {18} الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {19} أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ {20} أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {21} لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ {22} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {23} مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ {24} } [هود: 17-24](2/567)
قوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول عامة المفسرين، قال ابن عباس: يريد على يقين وبيان.
{وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] وهو جبريل عليه السلام في قول أكثر المفسرين، قال ابن قتيبة: والشاهد من الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابُ مُوسَى.
يعني: التوراة، يتلوه أيضا في التصديق لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشر به موسى في التوراة إِمَامًا نصب على الحال وَرَحْمَةً أي: ذا رحمة يعني التوراة فإنها كانت إماما في ذلك الوقت وسبب الرحمة لمن آمن بها، وقوله: {أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود: 17] يعني: أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن صدقه، وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17] يعني: ومن كفر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصناف الكفار واليهود والنصارى وغيرهم.
448 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ أَبُو عَمْرٍو الْحِيرِيُّ، أنا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى بْنِ مُجَاشِعٍ، نا أَبُو كَامِلٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ لا يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِي إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ» قَالَ: فَقُلْتُ: مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ فِي الْكِتَابِ فَوَجَدْتُهُ {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]
وقوله: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [هود: 17] قال الكلبي، عن ابن عباس: فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار وذلك هو الحق من ربك.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17] يعني: أهل مكة، وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [هود: 18] فزعم أن له ولدا وشريكا {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] يعني: بعد الحشر يوم القيامة وَيَقُولُ الأَشْهَادُ قال ابن عباس، ومجاهد: هم الملائكة والأنبياء.
وقال قتادة: يعني: الخلائق.
ونحو هذا قول مقاتل.
الأشهاد: الناس كما يقال على رءوس الأشهاد، أي: رءوس الناس، والأشهاد جمع شاهد مثل ناصر وأنصار، وصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل شريف وأشراف، وقوله: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18] قال ابن عباس: زعموا أن لله ولدا وشريكا.
{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] قال: يريد المشركين.(2/568)
449 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ وَنَحْنُ نَطُوفُ بِالْبَيْتِ إِذْ عَارَضَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عُمَرَ كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ فِي النَّجْوَى؟ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُدْنِي الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ كَتِفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَسْأَلُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَسْأَلَهُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْكُفَّارُ فُيَنَادَى عَلَى رُءُوسِ الأَشْهَادِ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ سُوَيْدٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ، كِلاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ
قوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [هود: 19] تقدم تفسيره.
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [هود: 20] قال ابن عباس: لم يعجزوني أن آمر الأرض فتخسف بهم.
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 20] أي: لا ولي لهم ممن يعبدون يمنعهم مني {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} [هود: 20] قال ابن الأنباري: لإضلالهم الأتباع واقتداء غيرهم بهم.
{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] قال قتادة: لأنهم صم عن الحق عمي فلا يبصرون ولا يهتدون.
وقال الوالبي، عن ابن عباس: حال الله بين أهل الكفر وبين أهل الطاعة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا ففي قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20] ، وأما في الآخرة ففي قوله: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] .
قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 21] قال ابن عباس: أي: صاروا إلى النار.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [هود: 21] بطل افتراؤهم في الدنيا فلم ينفعهم في الآخرة شيئا، {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [هود: 22] قال ابن عباس: يريد حقا أنهم هم الأخسرون.
قال الفراء: لا جرم كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد، ولا محالة، فكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا، ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينك.
فتراها بمنزلة اليمين؟ كذلك فسرها المفسرون في قوله: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ} [هود: 22] حقا أنهم، وقال الزجاج: لا جرم لا: نفي لما ظنوا أنه ينفعهم كأنه قال: لا ينفعهم ذلك.
و {جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [هود: 22] ، أي: كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وجرم معناه: كسب، ذكرنا ذلك في قوله: لا يجرمنكم قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل فيه.
وقوله: {وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23] الإخبات: الخشوع والتواضع والطمأنينة، قال مجاهد: اطمأنوا.
قال قتادة: وأنابوا إلى ربهم.
وهذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما(2/569)
قبلها نازلة في المشركين، ثم ضرب مثلا للفريقين، فقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ} [هود: 24] يريد الكفار، {وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: 24] يريد المؤمنين لأنهم سمعوا الحق وأبصروه واتبعوه، وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [هود: 24] استفهام، أي: في المشابهة أَفَلا تَذَكَّرُونَ أفلا تتعظون يأهل مكة؟ قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ {25} أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ {26} فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ {27} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ {28} وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ {29} وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ {30} وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ {31} قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {32} قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ {33} وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {34} أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ {35} } [هود: 25-35] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي} [هود: 25] من فتح الألف كان التقدير: أرسلنا نوحا بأني لكم نذير مبين، وكان الوجه بأنه لهم نذير ولكنه على الرجوع من الغيبة إلى خطاب نوح قومه، ومن كسر الألف كان التقدير: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال لهم: إني نَذِيرٌ مُبِينٌ {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [هود: 26] قال الزجاج: المعنى: قد أرسلنا نوحا إلى قومه بالإنذار.
{أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} [هود: 26] إني أنذرتكم لتوحدوا الله وتتركوا عبادة غيره، {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قِوْمِهِ} [هود: 27] قال ابن عباس: يعني: الأشراف ورؤساء القوم.
{مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] أي: إنسانا مثلنا لا فضل لك علينا {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] أي: لم يتبعك لم يتبعك الملأ منا وإنما اتبعك أخساؤنا، قال ابن عباس: يريد المساكين الذين لا عقول لهم ولا شرف ولا مال.
والرذل: الدون من كل شيء والجمع أرذل، ثم يجمع على أراذل كقولك: كلب وأكلب وأكالب.
وقوله: بَادِيَ الرَّأْيِ البادي: الظاهر من قولك: بدأ الشيء.
إذا ظهر، وقال الزجاج: المعنى: اتبعوك في الظاهر وباطنهم على خلاف ذلك، ويجوز أن يكون اتبعوك في ظاهر الرأي(2/570)
ولم يتدبروا ما قلت، ولم يتفكروا.
ومن قرأ: بادئ بالهمز فالمعنى: أنهم اتبعوك ابتداء الرأي، أي: حين ابتدأوا ينظرون وإذا فكروا لم يتبعوك {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] قال ابن عباس: يريدون التكذيب له ولما جاء به من النبوة وهل الفضل كله إلا في النبوة.
{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27] ليس ما جئت به من الله، وجمعت بالكاف، لأنهم ذهبوا إلى مخاطبة نوح وأصحابه.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 28] قال ابن عباس: على يقين وبصيرة ومعرفة من ربوبية ربي وعظمته {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28] يعني النبوة، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [هود: 28] فخفيت عليكم نبوتي لأن الله سلبكم علمها ومنعكم معرفتها لعنادكم الحق، وقرأ أهل الكوفة: فعُمّيت مشددة مضمومة العين، قال ابن الأنباري: معناه: فعماها الله عليكم إذ كنتم ممن حكم عليه بالشقاء.
أَنُلْزِمُكُمُوهَا أنلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، يقول: لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا ما أنتم له كارهون.
قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يملك ذلك.
{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [هود: 29] على تبليغ الرسالة {مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود: 29] قال ابن جريج: إنهم سألوه طرد الذين آمنوا ليؤمنوا به أنفة من أن يكونوا معهم على السواء، فقال نوح: لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بإيمانهم، ويأخذ لهم ممن ظلمهم، وصغر شئونهم.
وهو قوله: {إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29] قال ابن عباس: تجهلون ربوبية ربكم وعظمته.
{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 30] من يمنعني من عذاب الله إن طردت المؤمنين؟ والمعنى: إن طردتهم كان ذنبا ارتكبته، فمن يدفع عني عذاب الله.
قوله: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود: 31] لما قالوا لنوح: إن هؤلاء الذين آمنوا بك إنما اتبعوك في ظاهر ما نرى منهم.
قال نوح مجيبا لهم: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود: 31] غيوب الله التي يعلم منها ما يضمر الناس {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: 31] فأعلم ما يسترونه في نفوسهم، أي: فسبيلي قبول إيمانهم الذي ظهر لي، ومضمراتهم لا يعلمها إلا الله {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود: 31] هذا جواب لقولهم {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} [هود: 27] ، {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} [هود: 31] قال ابن عباس: تحتقر وتستصغر.
يعني المؤمنين، يقال: ازدراه.
إذا احتقره، وذلك أنهم قالوا: هم أراذلنا، فقال نوح: لا أقول إن الله لن يؤتيهم خيرا إذ ليس علي أن أطلع على ما في نفوسهم {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} [هود: 31] مني {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] إن طردتهم تكذيبا لظاهر إيمانهم، {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} [هود: 32] خاصمتنا في الدين {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود: 32] من العذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] في وعد العذاب، {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ} [هود: 33] بالعذاب {اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33] لا تعجزون الله ولا تفوتونه إن أراد أن ينزل بكم العذاب، {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] قال ابن عباس في رواية عطاء: يضلكم.
والمعنى: يوقع الغي في قلوبكم لما سبق لكم من الشقاء، قال ابن الأنباري: وقال بعضهم: يهلككم.
وليس هذا من كلام العرب إذ المعروف عندهم: أغويت فلانا.
إذا(2/571)
أضللته بشر دعوته إليه وحسنته له.
ودلت هذه الآية على أن الإغواء بإرادة الله، وذكر نوح دليل المسألة فقال: هُوَ رَبُّكُمْ قال ابن عباس: هو إلهكم وسيدكم وخالقكم.
وتأويله: إنه إنما يتصرف في ملكه فله التصرف كيف يشاء، قوله: أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يقولون يعني قوم نوح: افْتَرَاهُ اختلق الوحي وأتى به من عند نفسه {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} [هود: 35] أي: إثم إجرامي وعقوبة إجرامي، فحذف المضاف، والإجرام، معناه: اكتساب السيئة، يقال: أجرم فهو مجرم.
{وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35] من الكفر والتكذيب.
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {36} وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ {37} وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ {38} فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ {39} حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ {40} وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ {41} وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ {42} قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ {43} } [هود: 36-43] قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] قال المفسرون: لما جاء هذا دعا على قومه، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ قال الفراء، والزجاج: لا تحزن.
وقال ابن عباس: لا تغتم.
يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكره، فحزن له، قوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] قال ابن عباس: بمرأى منا.
وقال الضحاك: بمنظر منا.
وقال الربيع: بحفظنا.
والتأويل: بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك، {وَوَحْيِنَا} [هود: 37] قال ابن عباس: وذلك انه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر، ويجوز أن يكون(2/572)
المعنى بوحينا إليك أن اصنعها وَلا تُخَاطِبْنِي لا تراجعني ولا تسألني {فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 37] أي: في مآلهم، وترك تعذيبهم، ويراد بالذين ظلموا قومه، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يعني: نوح {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38] قال محمد بن إسحاق: قالوا: يا نوح صرت بعد النبوة نجارا.
وقال عامة المفسرين: إنهم رأوه ينجر الخشب ويهيئ شبه البيت العظيم، فإذا سألوه عن ذلك قال: أعمل سفينة تجري في الماء.
ولم يكونوا رأوا قبل ذلك سفينة، ولا ماء هناك فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله لها، فقال نوح: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38] قال ابن الأنباري: إن تسخروا منا لما ترون من صنعة الفلك فإنا نعجب من غفلتكم عما أظلكم من العذاب.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [هود: 39] هذا وعيد وتهديد، أي: فسوف تعلمون من أحق بالسخرية منكم وهو الذي يأتيه عذاب يخزيه {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ} [هود: 39] أي: يجب عليه عذاب مُقِيمٌ دائم، يعني: عذاب الآخرة.
قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 40] بعذابهم وهلاكهم {وَفَارَ التَّنُّورُ} [هود: 40] ظهر الماء على وجه الأرض، وقيل لنوح: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت وأصحابك في السفينة.
هذا قول عكرمة، والزهري، ورواية الوالبي عن ابن عباس، قال قتادة: ذكر لنا أنه أرفع الأرض وأشرفها.
وقال ابن عباس في رواية عطاء، وعطية: يريد التنور الذي يخبز فيه.
قال الحسن: كان تنورا من حجارة قيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك.
قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} [هود: 40] في السفينة مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ الذكر زوج والأنثى زوج.
وهو قول الحسن، وقتادة قالوا: ذكر وأنثى، وقرأ حفص: من كلٍّ بالتنوين، أراد من كل شيء، ومن كل زوج زوجين اثنين، فحذف المضاف إليه، وقوله: وَأَهْلَكَ أي: واحمل أهلك، قال المفسرون: يعني ولده وعياله.
{إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] يعني: امرأته واعلة، وابنه كنعان، وَمَنْ آمَنَ واحمل من صدقك {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [هود: 40] أي: إلا نفر قليل وهم ثمانون إنسانا، وَقَالَ نوح لقومه الذين أمر بحملهم ارْكَبُوا فِيهَا أي: اركبوا الماء في السفينة {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} [هود: 41] أي: أجراها ومن قرأ بفتح الميم فالمجرى مصدر الجري وَمُرْسَاهَا أي: إرساؤها، والإرساء: الإثبات، يقال: رسا الشيء يرسو.
إذا ثبت، وأرساه غيره.
قال ابن عباس: تجري باسم الله وترسو باسم الله.
وقال الضحاك: كان إذا أراد أن ترسو قال: بسم الله.
فرست وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله.
فجرت.(2/573)
450 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ أَبِي حَامِدٍ الْعَدْلُ، أنا أَبُو الْعَبَّاسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، نا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ نَهْشَلِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَانٌ لأُمَّتِي إِذَا رَكِبُوا السُّفُنَ أَوِ الْبَحْرَ أَنْ يَقُولُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ الْمَلِكِ "
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج: 74] إلخ الآيات، {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41] .
قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} [هود: 42] يعني الفلك {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42] الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح، شبهه بالجبال في عظمته وارتفاعه على الماء {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42] قال محمد بن إسحاق: كان كافرا واسمه كنعان.
{وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} [هود: 42] أي: في مكان منقطع بعيد من السفينة، ومعنى العزل: التنحية والإبعاد، يقال: هو بمعزل من هذا الأمر.
أي: بموضع قد عزل منه، {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] ومن قرأ يكسر الياء أراد: يا بنيي، فحذف ياء الإضافة وترك الكسرة دلالة عليها، كما يقال: يا غلامِ أقبل.
ومن فتح الياء أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف فصار: يا بنييا، ثم حذف الألف لسكونها وسكون راء اركب، والمعنى: أن نوحا دعا ابنه إلى أن يركب معه في السفينة ليسلم من الغرق، فقال ابنه: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود: 43] يقول: أنضم إلى جبل يمنعني من الماء فلا أغرق.
فقال نوح: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 43] لا مانع اليوم من عذاب الله {إِلا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] هذا استثناء منقطع، المعنى: لكل من رحم، فإنه معصوم {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} [هود: 43] منع الماء بين ابن نوح وبين الجبل {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] .
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {44} وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45} قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ(2/574)
الْجَاهِلِينَ {46} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ {47} قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ {48} } [هود: 44-48] وَقِيلَ بعد ما تناهى أمر الطوفان {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} [هود: 44] اشربي ما فوقك من الماء، يقال: بلعت الماء أبلعه بلعا.
{وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] أي: عن إنزال الماء، يقال: أقلعت السماء بعد ما أمطرت.
إذا أمسكت، {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44] أي: نقص، يقال: غاض الماء يغيض غيضا.
إذا نقص، وغضته أنا.
{وَقُضِيَ الأَمْرُ} [هود: 44] أهلك قوم نوح وفرغ من هلاكهم وَاسْتَوَتْ يعني السفينة {عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] هو جبل بالجزيرة، وكان استواؤها دلالة على نفاد الماء.
451 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ أَبِي نَصْرٍ الْوَاعِظُ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُثْمَانَ، نا دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ عِلْبَاءِ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ مَعَ نُوحٍ ثَمَانُونَ رَجُلا مَعَهُمْ أَهْلُوهُمْ وَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّفِينَةِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا، وَإِنَّ اللَّهَ وَجَّهَ السَّفِينَةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَارَتْ بِالْبَيْتِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ وَجَّهَهَا اللَّهُ إِلَى الْجُودِيِّ فَاسْتَقَرَّتْ، فَبَعَثَ نُوحٌ الْغُرَابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الأَرْضِ فَذَهَبَ فَوَقَعَ عَلَى الْجِيَفِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ، فَأَتَتْهُ بِوَرَقِ الزَّيْتُونِ وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ فَعَرَفَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَهَبَطَ إِلَى أَسْفلِ الْجُودِيِّ فَابْتَنَى قَرْيَةً وَأَسْمَاهَا ثَمَانِينَ، وَيُرْوَى أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلامُ رَكِبَ السَّفِينَةَ فِي رَجَبٍ فَجَرَتْ بِهِمْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَمَرَّتْ بِالْبَيْتِ فَطَافَتْ بِهِ سَبْعًا، وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَأُرْسِيَتْ عَلَى الْجُودِيِّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَصَامَ نُوحٌ وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ فَصَامُوا شُكْرًا لِلَّهِ.
{وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْقَوْمِ الْمُتَّخِذِينَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا
قوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] قال عكرمة، عن ابن عباس: إنه لابنُه ولكنه خالفه في النية والعمل.
ونحو هذا قال الكلبي، ومحمد بن إسحاق، ومقاتل، قالوا: هو ابنه من صلبه، وقال قوم: إن هذا الذي خالف نوحا كان ابن امرأته، ولكم يكن من صلبه.
وهو قول علي، وأبي جعفر الباقر، ومجاهد، والحسن.
قوله: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] يعني: وعدتني أن تنجيني وأهلي، وفي هذا سؤال النجاة لابنه، {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: 45] قال ابن عباس: أعدل العادلين.
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك،(2/575)
وقال هشيم: سألت أبا بشر عن هذه الآية، فقال: معناه أنه ليس من أهل دينه.
وكان نوح يظن أنه من أهل دينه، وروي أنه كان يظهر الإيمان ويستر الكفر، وقوله {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] إن سؤالك إياي أن أنجي كافرا عمل غير صالح، وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قرأ: عَمِلَ غيرَ صالح واختاره الكسائي.
452 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ هَارُونَ الْقَارِي، نا ثَابِتٌ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ كَيْفَ تَقْرَؤُهَا؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ» وَالْمَعْنَى: أَنَّ ابْنَكَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ يَعْنِي الشِّرْكَ
{فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46] بجواب مسألتك من إنجاء الكافر من العذاب إِنِّي أَعِظُكَ أنهاك {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] قال ابن عباس: يريد الآثمين، لأن ذنب المؤمن جهل ليس بكفر.
ثم اعتذر نوح أجمل الاعتذار فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 47] قال ابن عباس: يريد: إنك أنت علام الغيوب وأنا لا أعلم ما غاب عني.
{وَإِلا تَغْفِرْ لِي} [هود: 47] جهلي {وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] .
قوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ} [هود: 48] قال ابن عباس: يريد من السفينة إلى الأرض بِسَلامٍ مِنَّا أي: سلامة وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ قال المفسرون: معنى البركات على نوح أنه صار أبا البشر والأنبياء لأن جميع من بقى كانوا من نسله.
قال ابن عباس: يريد أنك آدم الأصغر.
قوله: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} [هود: 48] قال ابن عباس: يريد من ولدك.
قال ابن الأنباري: من ذراري من معك.
ولم يكن الذين كانوا مع نوح أمما، وأراد المؤمنين وأهل السعادة من ذريته.
ثم ذكر الكفار من ذريته فقال وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ يعني في الدنيا {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] يعني في الآخرة، قال محمد بن كعب القرظي: لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إلى أن تقومك الساعة إلا دخل في ذلك السلام والبركات، ولم يبق كافر إلا دخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم.(2/576)
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] قوله: تِلْكَ يعني ما ذكر من قصة نوح {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} [هود: 49] من أخبار ما غاب عنك وعن قومك {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود: 49] قال قتادة: من قبل هذا القرآن.
وما كان علم محمد وقومه بما صنع نوح لولا أن الله بين له ذلك، فَاصْبِرْ أي: كما صبر نوح على أذى قومه {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] إن آخر الأمر بالظفر والتمكين لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح.
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ {50} يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ {51} وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ {52} قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ(2/577)
بِمُؤْمِنِينَ {53} إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ {54} مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ {55} إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {56} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ {57} وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ {58} } [هود: 50-58] قوله: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود: 50] هذا عطف على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25] كأنه قال: أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا وكان أخاهم في النسب لا في الدين، قال ابن عباس: يريد ابن أبيهم.
وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ} [هود: 50] أي: ما أنتم إلا كاذبون في إشراككم مع الله الأوثان، وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] قال المفسرون: إن الله تعالى حبس المطر عن قوم عاد ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هود: إن أنتم آمنتم أحيى الله بلادكم ورزقكم المال والولد.
وذلك قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [هود: 52] ، وقد تقدم تفسيره في أول { [النعام] وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [سورة هود: 52] فسرت القوة ههنا بالمال والولد والشدة وكل هذا مما يقوي به الإنسان، قال ابن عباس في رواية الكلبي، ومقاتل: يعني العدد وكثرة الأولاد.
وقوله: {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] لا تتركوا الإيمان بالله، ولا تعرضوا عنه، {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود: 53] أي: بحجة واضحة {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53] أي: بقولك، والباء وعن تتعاقبان {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] بمصدقين.
{إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54] أي: ما نقول في سبب مخالفتك إيانا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بالجنون فأفسد عقلك وأجنك، فالذي تُظهر من عيبها لما لحق عقلك من التغيير، يقال: عراه أمر كذا، واعتراه.
إذا غشيه وأصابه، فقال نبي الله عند ذلك: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ} [هود: 54] الآية، يعني: إن كان عندكم أنها عاقبتي ليطغى عليها، فإني على بصيرة في البراءة منها والعيب لها، وقوله: فَكِيدُونِي جَمِيعًا أي: احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي وغيظي {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود: 55] لا تمهلوني، قال الزجاج: وهذا من أعظم آيات الأنبياء، أي: يقبل النبي على قومه مع كثرة عددهم فيقول لهم هذا القول، وذلك للثقة بنصر الله تعالى.
ثم ذكر ذلك فقال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] أي: إلا هي في قبضته وتنالها قدرته كيف شاء، والعرب إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع قالوا: «ما ناصيته إلا بيد فلان» ، أي: إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء، لأن من أخذته بناصيته وهو شعر مقدم الرأس فقد قهرته، قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] قال الزجاج، وابن الأنباري: أي: أنه وإن كان قادرا عليهم فهو لا يظلمهم ولا يلحقهم بقدرته عليهم إلا ما يوجب الحق وقوعه بهم.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد: أن الذي بعثني الله به دين مستقيم.
والمعنى على هذا: إن دين ربي على صراط مستقيم فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تتولوا بمعنى تعرضوا عما دعوتكم إليه من الإيمان بالله وعبادته {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود: 57] قال الزجاج، وابن الأنباري: معناه: فقد ثبتت الحجة عليكم، وظهر فساد مذهبكم.
{وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57] قال ابن عباس: ويخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم.
{وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} [هود: 57] قال: يريد هلاككم لا ينقص من ملك ربي شيئا.
وقال غيره: لا تضرونه شيئا بإعراضكم، إنما تضرون أنفسكم لأن ضرر كفركم عائد عليكم.
{إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [هود: 57] من أعمال العباد حَفِيظٌ حتى يجازيهم عليها.
قوله {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 58] بهلاك عاد {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 58] قال ابن عباس: يريد حيث هديتهم للإيمان وعصمتهم من أن يكفروا بي.
فمعنى الرحمة ههنا ما أراهم من الهدى والبيان {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] يعني: ما عذب به الذين كفروا، ثم ذكر عادا فقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ {59} وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ {60} وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ {61} قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ {62} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةً مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ {63} وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا(2/578)
تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ {64} فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ {65} فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {66} وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ {67} كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ {68} } [هود: 59-68] وَتِلْكَ عَادٌ يعني القبيلة {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] قال ابن عباس: كذبوا أنبياء الله.
وَعَصَوْا رُسُلَهُ إنما جمع الرسل وكان قد بعث إليهم هودا لأن من كذب رسولا واحدا فقد كفر بجميع الرسل {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59] واتبع السفلة والسقاط الرؤساء، والعنيد: الذي لا يقبل الحق، من قولهم: عند الرجل يعند عنودا.
إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه، {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [هود: 60] أي: أردفوا لعنة تلحقهم وتتصرف معهم وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أي: وفي يوم القيامة، كما قال: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 23] ، {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [هود: 60] أي: بربهم، فحذف الياء، كما تقول: أمرتك الخير.
{أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60] يريد: بعدوا من رحمة الله.
قوله: وَإِلَى ثَمُودَ ظاهر إلى قوله {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [هود: 61] يعني: خلقكم من آدم، وآدم خلق من الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا جعلكم عمارا لها، أي: أورثكم الأرض فصرتم عمرتها بعد من مضوا {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: 62] قال المفسرون: كان صالح يعدل عن دين قومه، ويبغض أصنامهم وكانوا يرجون رجوعه إلى دين أبيه وعشيرته، فلما أظهر دعاءهم إلى الله وترك عبادة الأصنام، زعموا أن رجاءهم انقطع منه ويئسوا من دخوله في ملتهم، وأنكروا عليه نهيه إياهم عن عبادة الأصنام.
فقالوا {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [هود: 62] من توحيد الله وعبادته مُرِيبٍ موقع للريبة.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةً مِنْ رَبِّي} [هود: 63] الآية، يقول: يا قوم أعلمتم من {يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} [هود: 63] ؟ من يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ بعد بينة من ربي ونعمة؟ قوله: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63] لم يكن صالح في خسارة حين قال لهم هذا، وإنما المعنى ما تزيدونني بما تقولون، يعني قولهم {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62] إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة، والتخسير مثل التفسيق والتفجير، قال ابن الأعرابي: يريد: غير تخسير لكم لا لي، ومعنى التخسير: التضليل والإبعاد من الخير.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [هود: 64] الآية مشروحة في { [الأعراف، وقوله:] تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ} [سورة هود: 65] يعني: عيشوا في بلدكم، وعبر عن الحياة بالتمتع لأن الحي يكون متمتعا بالحواس، وقوله ثَلاثَةَ أَيَّامٍ قال المفسرون: لما عقرت الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا رغوة ثلاثا، فقال صالح: لكل رغوة أجل معلوم فاصفر ألوانهم أول يوم، ثم أحمر من الغد، ثم اسود اليوم الثالث، وهو قوله: ذَلِكَ وَعْدٌ أي: العذاب غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي: غير كذب.(2/579)
453 - أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مِهْرَانَ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ السِّجْزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، أنا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ جَابِرًا حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ لا تَسْأَلُوا نَبِيَّكُمُ الآيَاتِ، هَؤُلاءِ قَوْمُ صَالِحٍ سَأَلُوا نَبِيَّهُمْ أَنْ يَبْعَثَ لَهُمُ النَّاقَةَ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الْفَجِّ فَتَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْمَ وِرْدِهَا، فَيَحْلِبُونَ مِنْ لَبَنِهَا مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ مَاءِهَا يَوْمَ غِبِّهَا، فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَقَالَ: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَكَانَتْ وَعْدًا مِنَ اللَّهِ غَيْرِ مَكْذُوبٍ، ثُمَّ جَاءَتْهُمُ الصَّيْحَةُ فَأَهْلَكَ اللَّهُ مَنْ كَانَ فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلا كَانَ فِي حَرَمِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللَّهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: أَبُو رِغَالٍ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبُو رِغَالٍ؟ قَالَ: أَبُو ثَقِيفٍ "
قوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 66] تقدم تفسيره في قصة عاد إلى قوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] قال ابن الأنباري: هذا عطف على محذوف بتقدير: نجيناهم من العذاب، ومن خزي يومئذ.
من الخزي الذي لزمهم ذلك اليوم، وبقى عاره مأثورا عنهم، وفي يومئذ قراءتان: الفتح، والكسر، فمن كسر فإن الاسم معرب فانجر بالإضافة، ومن فتح الميم مع أنه في موضع جر فلأنه مضاف إلى مبني غير متمكن، والمضاف إلى المبني يجوز بناؤه.
كقول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت ألما أصح والشيب وازع
قوله: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] قال ابن الأنباري: إنما ذكر أخذ لأن الصيحة محمولة على الصياح.
قال المفسرون: لما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم.
{فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ {67} كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود: 67-68] هذه الأحرف مفسرة في { [الأعراف،] أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} [سورة هود: 68] قرئ بالإجراء، وتركه فمن أجراه فلأنه اسم مذكر سمي به مذكر، وهو الحي فصار كثقيف وقريش، ومن ترك إجراءه جعله اسما للقبيلة فلم يصرفه لاجتماع التعريف والتأنيث، وهو ثمود بن عاتي بن إرم بن سام بن نوح، قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها، والثمد الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام.
قوله: {(2/580)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ {69} فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ {70} وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ {71} قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ {72} قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ {73} فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ {74} إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ {75} يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ {76} } [هود: 69-76] {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود: 69] يعني الملائكة الذين أتوه في صورة الأضياف، قال ابن عباس: وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل.
وقال الضحاك: كانوا تسعة.
وقال السدي: كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء.
قَالُوا سَلامًا أي: سلموا سلاما قَالَ سَلامٌ أي: عليكم سلام، وقرأ حمزة: سِلم بكسر السين، قال الفراء: وهو في معنى سلام كما قالوا: حل وحلال، وحرم حرام لأن التفسير جاء بأنهم سلموا عليه فرد عليهم.
وقوله: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69] قال عبيد بن عمير: مكث إبراهيم عليه السلام خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك، فلما جاءته الملائكة رأى أضيافا لم ير مثلهم فجاءهم بعجل حنيذ، أي: محنوذ، أي: مشوي، قال ابن عباس: الحنيذ: النضيج.
وهو قول مجاهد، وقتادة، والحنذ: اشتواء اللحم بالحجارة المحماة في شق من الأرض، يقال: حنذته حنذا.
وهو فعل أهل البادية، فَلَمَّا رَأَى إبراهيم {أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ} [هود: 70] إلى العجل لأنهم كانوا ملائكة لا يأكلون ولا يشربون نَكِرَهُمْ إبراهيم، أي: أنكرهم وخاف امتناعهم من طعامه، وهو قوله: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70] قال أبو عبيدة، والزجاج: أضمر منهم خوفا.
لأنه لم يكن يأمن أن يكونوا جاءوا لبلاء أو شر، لما لم يتحرموا بطعامه، ورأوا علامة ذلك في وجهه قَالُوا لا تَخَفْ فإنا ملائكة الله {أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] بالعذاب.
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ من وراء الستور يعني: سارة بنت هاران بن ناحور بنت عم إبراهيم، وكانت تتسمع إلى الرسل، وقوله: فَضَحِكَتْ أي: سرورا بما زال عنها من الخوف لأنها كانت خافت كما خاف إبراهيم عليه السلام، ويجوز أن يكون هذا على التقديم والتأخير، والتقدير: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فضحكت سرورا بالتبشير، وذلك أن الملائكة قالوا لها: أيتها الضاحكة ستلدين غلاما.
والقولان في ضحكت ذكرهما الفراء، وقوله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] قال المفسرون: كان(2/581)
إبراهيم قد ولد له من هاجر إسماعيل وكبر وشب فتمنت سارة أن يكون لها ابن وأيست من ذلك لكبر سنها، فبشرت على كبر السن بولد يكون نبيا ويلد نبيا.
وهو قوله: {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] قال الزجاج: بشروها بأنها تلد إسحاق وأنها ستعيش إلى أن ترى ولد ولده.
ووراء ههنا بمعنى بعد، قال ابن عباس، ومقاتل: ومن بعد إسحاق يعقوب، ويعقوب رفع لأنه ابتداء مؤخر معناه التقديم، المعنى: ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق، ومن نصب يعقوب نصبه بفعل يشاكل معناه معنى التبشير على تقدير: من وراء إسحاق وهبنا لها يعقوب، كما تقول العرب: مررت بأخيك وأباك.
يريدون بمررت: جزت كأنه قيل: جزت أخاك وأباك كما قال رؤبة:
يهوين في نجد وغورا غائرا
أراد يدخلن نجدا، قوله: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا} [هود: 72] الأصل: يا ويلتي، فأبدل من الياء الألف لأنه أخف من الياء والكسرة، وهذه الكلمة إنما تقال عند الإيذان بورود الأمر العظيم الفظيع، وقوله: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} [هود: 72] استفهام تعجب، قال محمد بن إسحاق: كانت ابنة تسعين سنة وكان زوجها ابن عشرين ومائة سنة.
وهو قوله: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا} [هود: 72] الذي تذكرونه من أمر الولد بيننا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ معجب، قَالُوا لها {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] من قضاء الله وقدرته؟ {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ} [هود: 73] يحتمل أن يكون هذا من دعاء الملائكة لهم بالرحمة والبركة، ويحتمل أن يكون ذلك إخبارا عن ثبوت ذلك لهم، وقوله: أَهْلَ الْبَيْتِ يعني: بيت إبراهيم عليه السلام، ومن تلك البركات أن الأسباط وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة، إِنَّهُ حَمِيدٌ تحمد فعاله، وهو بمعنى المحمود مَجِيدٌ المجيد الماجد، وهو ذو الشرف والمجد والكرم.
قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ} [هود: 74] يعني: الفزع الذي أصابه لما لم يأكلوا العجل وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى بإسحاق ويعقوب {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] أي: أقبل وأخذ يجادل رسلنا من الملائكة، قال المفسرون: إن الرسل لما قالوا لإبراهيم: إنا مهلكو أهل هذه القرية، قال: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا.
قال: فأربعون؟ قالوا: لا.
فما زال ينقص، ويقولون: لا.
حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا.
فاحتج عليهم بلوط فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] فهذا معنى جدال إبراهيم في قوم لوط، وما بعد هذا مفسر في { [التوبة، قالت الرسل عند ذلك.
] يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [سورة هود: 76] الجدال {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 76] بعذابهم {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 76] أي: لا يرد عنهم ما يأتيهم من العذاب لأن الله تعالى قد قضى بذلك.
قوله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ {77} وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي(2/582)
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ {78} قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ {79} قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ {80} قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ {81} فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ {82} مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ {83} } [هود: 77-83] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا} [هود: 77] يعني الملائكة، {لُوطًا} [هود: 77] في قريته {سِيءَ بِهِمْ} [هود: 77] حزن بمجيئهم لأنهم أتوه في صورة غلمان جرد، فلما نظر إلى حسن وجوههم وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشة، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عنهم {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} [هود: 77] ضاق صدره وعظم المكروه عليه، قال الزجاج: يقال: ضاق زيد بأمره ذرعا.
إذا لم يجد من المكروه فيه مخلصا.
{وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] شديد، قال أبو عبيدة: إنما قيل له عصيب لأنه يعصب الناس بالشر أي يشدهم.
قوله: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود: 78] قال المفسرون: لما أضافهم لوط مضت امرأته عجوز السوء، فقالت لقومه: لقد استضاف لوطا قوم لم أر أحسن وجوها منهم.
فجاءه قومه يهرعون إليه.
قال الكسائي، وأبو زيد: أهرع الرجل إهراعا.
إذا أسرع.
قال عامة المفسرين: يهرعون: يسرعون وَمِنْ قَبْلُ أي: ومن قبل مجيئهم إلى لوط {كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 78] يعني: فعلهم المنكر قَالَ لوط {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] يعني: أنا أزوجكموهن، فهن أطهر لكم من نكاح الرجال، أراد أن يقي أضيافه ببناته فعرضهن عليهم، وقال سعيد بن جبير: دعاهم إلى نسائهم.
يعني أن قوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أي: نساؤكم أطهر لكم فجعلهن بناته لأنه نبيهم، وكل نبي أبو أمته، وقوله: فَاتَّقُوا الله أي: اتقوا عقابه {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] لا تسوءوني فيهم، ولا تفعلوا بهم فعلا يلزمني الاستحياء منهم، والضيف يراد به الجمع، قال ابن عباس: لا تفضحوني في أضيافي.
يريد: أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ وهذا معنى قول ابن عباس: رجل رشيد يقول الحق ويرد هؤلاء عن أضيافي.
ورشيد ههنا بمعنى مرشد.
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود: 79] لسن لنا بأزواج فنستحقهن {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] قال عطاء: إنك لتعلم أنا نريد الرجال لا النساء يعنون عملهم الخبيث.
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود: 80] جماعة أقوى بها عليكم {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أو أنضم إلى عشيرة تنصرني، وشيعة تمنعني، وجواب لو(2/583)
محذوف على تقدير: لحلت بينكم وبين المعصية.
قال قتادة: ذكر لنا أن الله لم يبعث نبيا بعد لوط إلا في عز من قومه، ومنعة من عشيرته.
ولما رأت الملائكة ما لقي لوط من قومه.
{قَالُوا يَا لُوطُ} [هود: 81] إن ركنك لشديد و {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81] بسوء، فافتح الباب ودعنا وإياهم.
ففتح الباب فدخلوا، فضرب جبريل بجناحه وجوههم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] وقوله: فأسر بأهلك، وقرئ بقطع الألف وهما لغتان، يقال: سريت بليل وأسريت.
ومنه قوله: أسرى بعبده قال السدي، عن ابن مالك: لم يؤمن بلوط إلا ابنتاه: الكبرى اسمها رية، والصغرى اسمها عروبة، والمراد بالأهل ههنا: ابنتاه، وقوله: {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81] قال ابن عباس: يريد: في ظلمة الليل.
وقال قتادة: بعد طائفة من الليل.
{وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} [هود: 81] نهى من معه من الالتفات إذا خرجوا من قريتهم، وقوله: إِلا امْرَأَتكَ من نصبها جعلها مستثناة من الأهل على معنى: فأسر بأهلك إلا امرأتَك، ومن رفع فكأن المعنى: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتُك، قال قتادة: ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت هدة العذاب التفتت فقالت: واقوماه!! فأصابها حجر فأهلكها.
وهو قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ} [هود: 81] للعذاب الصُّبْحُ فقال لوط: أريد أعجل من ذلك، بل الساعة يا جبريل، قال له: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ {81} فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} [هود: 81-82] الملائكة بالعذاب {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] الكناية تعود إلى المؤتفكات وهي مذكورة قبل هذه ال { [، قال المفسرون: أدخل جبريل جناحه تحت مدائن قوم لوط حتى قلعها، وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمار ونباح الكلاب وصياح الديوك، لم تسقط لهم جرة ولم ينكسر لهم إناء، وكان الطير يخرج في الهواء لا يدري أين يذهب ثم قلبها عليهم مكانها، وأنزلت عليهم الحجارة، فذلك قوله:] وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [سورة هود: 82] وهو معرب عن سَنْك وكِلْ، وهذا قول ابن عباس، ووهب، وقتادة، وسعيد بن جبير، والعرب لا تعرف هذا، قال الزجاج: ومن كلام الفرس ما لا يحصى مما عربته العرب نحو جاموس وديباج.
وقد أعاد الله ذكر هذه الحجارة فقال: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33] فبين للعرب ما عنى بالسجيل، وهذا القول اختيار الفراء، وابن قتيبة، قالا: من طين قد طبخ حتى صار كالآجر فهو سنك كل بالفارسية.
قوله: مَنْضُودٍ هو مفعول من النضد وهو وضع الشيء بعضه على بعض، ومعناه في قول أكثر المفسرين: الذي يتلو بعضه بعضا.
مُسَوَّمَةً من نعت قوله:(2/584)
حجارة قال الزجاج: معلمة بعلامة تعرف بها أنها ليست من حجارة أهل الدنيا.
وهذا قول ابن جريج، قال: كانت عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض.
وقال الحسن، والسدي: كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم.
وقال قتادة، وعكرمة: كان بها نضخ من حمرة فيها خطوط حمر على هيئة الجذع.
وقوله: عِنْدَ رَبِّكَ أي: في خزائنه التي لا يتصرف في شيء منها إلا بإذنه، وقوله: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] قال قتادة: والله ما أجار الله منها ظالما بعد قوم لوط، فاتقوا الله وكونوا على حذر.
وأكثر المفسرين على أن المراد بالظالمين ههنا كفار قريش يرهبهم الله بها.
{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ {84} وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {85} بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ {86} قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ {87} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {88} وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ {89} وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ {90} قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ {91} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {92} وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ {93} وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ {94} كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ {95} } قوله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ مفسر إلى قوله: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود: 84] أي: لا تطففوا ولا تبخسوا حق الناس(2/585)
بالمكيال، وهو ما يكال به، ونقص المكيال أن يجعل على حد أنقص مما هو عليه المعهود، ونقص الميزان أن تجعل الصنجات أخف، وما يوزن به فهو ميزان والصنجات يوزن بها، وقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود: 84] يعني: الخصب والنعمة، والمعنى: أنه حذرهم غلاء السعر وزوال النعمة إن لم يتوبوا، وقال الفراء: لا تنقصوا المكيال وأموالكم كثيرة وأسعاركم رخيصة يعني: أيّ حاجة بكم إلى سوء الكيل والوزن بعد أن أنعم الله تعالى عليكم برخص السعر وكثرة المال، وقوله: {وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84] يوعدهم بعذاب محيط بهم فلا يفلت منهم أحد.
{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [هود: 85] أي: أتموهما بالعدل والإيفاء الإتمام {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [هود: 85] ولا تنقصوا الناس ما يستحقون عليكم، قال ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين هلك بهما من كان قبلكم من الأمم: المكيال والميزان.
وكان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: اتق الله أوف الكيل أوف الوزن.
وقوله: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود: 86] قال ابن عباس: يعني: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن خير لكم من البخس والتطفيف.
يعني: من تعجل النفع بالبخس في المكيال والميزان، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86] شرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة ما يقول، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 86] أي: لم أؤمر بقتالكم وإكراهكم على الإيمان.
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 87] قال عطاء: يريد: دينك يأمرك فكنى عن الدين بالصلاة لأنها من أمر الدين.
وكان شعيب كثير الصلاة لذلك قالوا هذا كأنهم قالوا: في دينك أن تأمرنا بترك ما يعبد آباؤنا {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] من البخس والظلم {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أي: السفيه الجاهل، وإنما قالوا هذا على طريق الاستهزاء، وجميع الآية إخبار عن استهزائهم بنبيهم حيث أنكروا عليه أمرهم بالمعروف، {قَالَ يَا قَوْمِ} [هود: 88] تقدم تفسيره في هذه ال { [، وقوله:] وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [سورة هود: 88] يعني: حلالا، كان شعيب كثير المال، قال الزجاج: جواب إن محذوف، والمعنى: إن كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال أأتبع الضلال فأبخس وأطفف.
يريد: أن الله قد أغناه بالمال الحلال {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88] قال ابن عباس: وما أريد أن أفعل ما أنهاكم عنه.
وقال قتادة: لم أكن أنهاكم عن أمر أرتكبه.
وقال الزجاج: لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه.
{إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ} [هود: 88] ما أريد إلا الإصلاح فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده، وتفعلوا كما يفعل من يخاف الله، وقوله: مَا اسْتَطَعْتُ أي: بقدر طاقتي، وطاقته البلاغ والإنذار، ثم أعلم أنه لا يقدر أحد على الطاعة إلا بتوفيق الله فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] أرجع في المعاد.
قوله: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ} [هود: 89] لا يكسبنكم شِقَاقِي خلافي ومعاداتي أَنْ(2/586)
يُصِيبَكُمْ عذاب العاجلة {مِثْلُ مَا أَصَابَ} [هود: 89] من قبلكم، والمعنى: لا تخالفوني فتستحقوا العذاب والهلاك كما استحق غيركم من الأمم بمخالفتهم أنبياءهم، وقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89] قال قتادة: أي: في الزمان الذي بينكم وبينهم.
قال الزجاج: وكان إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها فكأنه قال لهم: العظة في قوم لوط قريبة منكم.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا منه المغفرة وتوسلوا إليه بالتوبة، وهو قوله: {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} [هود: 90] بمن تاب إليه وَدُودٌ قال ابن الأنباري: الودود في أسماء الله تعالى المحب لعباده من قولهم: وددت أود ودا وودودا وودادة.
وقال الأزهري حاكيا عن بعض أهل اللغة: إن الودود يجوز أن يكون بمعنى المودود، ومعناه: أن عبادة المؤمنين يودونه ويحبونه لما عرفوا من فضله وإحسانه إليهم.
قوله: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ} [هود: 91] ما نفهم {كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91] قال ابن الأنباري: معناه: ما نفقه صحة كثير مما تقول، يعنون من التوحيد والبعث وما يأمرهم به من الزكاة وترك البخس {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] قال سعيد بن جبير، وقتادة: أعمى.
وهو قول ابن عباس، قال الزجاج: لغة حمير تسمى الضرير ضعيفا، لأنه ضعف بذهاب بصره.
قوله: وَلَوْلا رَهْطُكَ عشيرتك وقومك لَرَجَمْنَاكَ قتلناك، قال الزجاج: والرجم من شر القتلات، وكان رهط شعيب من أهل ملتهم، فلذلك أظهروا إليهم.
{وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود: 91] أي: لست بممتنع علينا من أن نقتلك لولا ما نراعي من حق عشيرتك، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 92] يقول: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكراما لرهطي، والله عز وجل أولى بأن يتبع أمره، كأنه يقول: حفظكم إياي في الله أولى منه في رهطي.
قوله: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [هود: 92] الظهري: الشيء الذي تنساه وتغفل عنه، قال ابن عباس: يريد ألقيتموه خلف ظهوركم وامتنعتم من قتلي مخافة قومي والله أعز وأكبر من جميع خلقه.
وقال الفراء: يعني: تعظمون أمر رهطي وتتركون أن تعظموا الله وتخافوه.
{إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92] عالم بأعمالكم وهو يجازيكم بها، وما بعد هذا تقدم تفسيره إلى قوله: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] قال ابن عباس: ارتقبوا العذاب إني مرتقب من الله الرحمة والثواب.
قوله: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94] صاح بهم جبريل صيحة فماتوا في أمكنتهم، {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ} [هود: 95] أي: بعدوا من رحمة الله {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] قال ابن الأنباري: العرب تقول: بعد الطريق يبعد، وبعد الميت يبعد.
إذا هلك والمصدر فيها البعد.(2/587)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ {96} إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ {97} يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ {98} وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ {99} } [هود: 96-99] قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} [هود: 96] قال الزجاج: أي: بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته.
وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ حجة بينة يتسلط بها على من خالفه، قال ابن عباس: يعني: عصاه.
{إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود: 97] ما أمرهم به من عبادته واتخاذه إلها {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] بمرشد إلى خير، {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98] يقال: قدمه قدما.
إذا تقدمه، والمعنى: أنه يقدمهم إلى النار، يدل على هذا قوله: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ قال قتادة: يمضي بين أيديهم حتى يهجم على النار.
454 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ الصُّوفِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، نا الْفَضْلُ بْنُ الْخَصِيبِ، نا سَلَمَةُ بْنُ شُهَيْبٍ، نا أَبُو جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيُّ، نا أَبُو الدَّهْمَاءِ الْبَصْرِيُّ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْخَلائِقَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ رَفَعَ لِكُلِّ قَوْمٍ آلِهَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا فَيُورِدُونَهُمُ النَّارَ وَيَبْقَى الْمُوَحِّدُونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْتَظِرُ رَبَّنَا كُنَّا نَعْبُدُهُ بِالْغَيْبِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَوَتَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: إِنْ شَاءَ عَرَّفَنَا نَفْسَهُ فَيَتَجَلَّى لَهُمُ الرَّبُّ فَيَخِرُّونَ لَهُ سُجَّدًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: يَا أَهْلَ التَّوْحِيدِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، وَجَعَلَ مَكَانَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْكُمْ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا "
وقوله: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98] الموضع أو الشيء الذي يرده، قال المفسرون: الورد المورود المدخل المدخول، قال ابن الأنباري: وتلخيص المعنى: بئس الشيء الذي يدخل النار.
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ} [هود: 99] يعني: في(2/588)
الدنيا لَعْنَةً ألحقوا في الدنيا لعنة وهي الغرق وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يعني: ولعنة يوم القيامة وهي عذاب الآخرة، {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99] قال قتادة: ترافدت عليهم لعنتان من الله لعنة الدنيا ولعنة الآخرة.
وقال مجاهد: رفدوا يوم القيامة بلعنة أخرى زيدوها، فتانك لعنتان.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99] قال: هو اللعنة بعد اللعنة.
قال الزجاج: وكل شيء جعلته عونا لشيء فقد رفدته.
قال الضحاك: اللعنتان اللتان أصابتهم رفدت إحداهما الأخرى.
قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ {100} وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ {101} وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ {102} } [هود: 100-102] ذَلِكَ يعني ما تقدم من الخبر {مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى} [هود: 100] من أخبار القرى الهالكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ نخبرك بها مِنْهَا قَائِمٌ بقيت حيطانه وَحَصِيدٌ أي: ومنها حصيد مخسوف به قد انمحى أثره، وقال ابن عباس: قائم ينظرون إليه وإلى ما بقى من أثره، وحصيد قد خرب ولم يبق له أثر، شبهه بالزرع إذا حصد.
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ بالعذاب والإهلاك {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] بالكفر والمعصية {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ} [هود: 101] أي: ما نفعتهم وما دفعت عنهم شيئا {لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] بالهلاك والعذاب {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود: 101] غير خسار وهلاك، قال ابن الأنباري: إنهم ادعوا أن عبادتها تنفعهم عند الله، فلما جرى الأمر بخلاف ما قدروا وصفها الله تعالى بأنها زادتهم بلاء وهلاكا.
قوله: وَكَذَلِكَ أي: وكما ذكر من إهلاك الأمم وأخذهم بالعذاب {أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود: 102] ومعنى أخذ القرى أخذ أهلها، وهو أن ينقلهم إلى العقوبة والهلاك، وقوله: وَهِيَ ظَالِمَةٌ من صفة القرى وهو في الحقيقة لأهلها وسكانها، ونحو هذا قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] .
455 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ(2/589)
الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُمْهِلُ الظَّالِمَ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] ".
رَوَاه مُسْلِم، عَنِ ابْنِ نُمَيْر، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ الْفَضْلِ كِلاهُمَا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ {103} وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ {104} يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ {105} فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ {106} خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ {107} وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ {108} } [هود: 103-108] قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [هود: 103] يعني ما ذكر من عذاب الأمم وأخذهم لآيَةً لعبرة وموعظة {لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ} [هود: 103] ذلك يوم القيامة وقد سبق ذكره {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود: 103] لأن الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] شهده البر والفاجر، وأهل السماء وأهل الأرض، وَمَا نُؤَخِّرُهُ أي: ذلك اليوم {إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 104] لوقت معلوم لا يعلمه غير الله، يَوْمَ يَأْتِي، وقرئ بحذف الياء التي هي لام الفعل، قال الفراء: كل ياء ساكنة ما قبلها مكسور فإن العرب تجيز حذفها وتكتفي بالكسرة من الياء.
وقد حكى سيبويه، والخليل أن العرب تقول: لا أدر.
فتحذف الياء وتكتفي بالكسرة.
وقوله: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} [هود: 105] وذلك أن الخلق في ذلك اليوم كلهم ساكتون إلا من أذن الله له في الكلام كقوله: {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} [طه: 108] وقوله: فَمِنْهُمْ أي: من الأنفس أي: في ذلك اليوم شَقِيٌّ قال ابن عباس: كتبت عليه الشقاوة.
وَسَعِيدٌ كتبت عليه السعادة.
456 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُودٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ الْقَطِيعِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْنِيُّ، نا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، نا عُرْوَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ثُمَّ أُفَاقَ، فَقَالَ: إِنَّهُ أَتَانِي مَلَكَانِ فَظَّانِ غَلِيظَانِ فَقَالا: انْطَلِقْ بِنَا نُحَاكِمُكَ إِلَى الْعَزِيزِ الأَمِينِ، فَقَالَ: خَلِّيَا عَنْهُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ(2/590)
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] قال الزجاج: هما من أصوات المحزونين.
وحكي عن أهل اللغة جميعا أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته.
ونحو هذا قال المفسرون، قال الضحاك، ومقاتل: الزفير أول نهيق الحمار والشهيق آخره حين يفرغ من صوته إذا رده في جوفه.
والمعنى ما رواه ابن عباس في رواية عطاء قال: يريد ندامة، ونفسا عاليا، وبكاء لا ينقطع.
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود: 107] قال الضحاك: ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما وكل ما علاك فهو سماء وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض.
والأكثرون على أن المراد بهذا التأبيد، كأنه قال: خالدين فيها أبدا.
قال ابن قتيبة، وابن الأنباري: للعرب في معنى الأبد ألفاظ، تقول: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما دامت السموات والأرض، وما اختلفت الجرة والدرة، وما أطت الإبل، وفي أشباه كثيرة لهذا ظنا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، فخاطبهم الله بما يستعملون في كلامهم، قوله: {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] قال الفراء: هذا استثناء استثناه الله كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك.
وعزيمتك على ضربه.
كذلك قال: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] ولا يشاؤه، وقال ابن الأنباري: وقع الاستثناء على معنى: لو شاء ألا يخلدهم لقدر.
وقال الزجاج، وابن كيسان، وابن قتيبة: الاستثناء يعود إلى مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب كأنه قال: خالدين فيها إلا هذه المدة ثم يصيرون إلى النار أبدا.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] قال ابن عباس: يعني: من إخراج أهل التوحيد من النار.
وأما الذين سَعِدُوا وقرأ أهل الكوفة سُعدوا بضم السين، قال الفراء: كلام العرب: سَعدوا، يقال: سَعد الرجل وأسعده الله، إلا هذيلة فإنهم يقولون: سُعد الرجل بالضم، وبذلك قرأ أصحاب عبد الله، وقال الكسائي: سعد وأسعد لغتان، قوله: عَطَاءً نصب بما دل عليه الكلام كأنه قال: أعطاهم النعيم عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع، والجذ القطع.
{فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ(2/591)
مَنْقُوصٍ {109} وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ {110} وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {111} } [هود: 109-111] فَلا تَكُ يا محمد فِي مِرْيَةٍ في شك مِمَّا يَعْبُدُ أي: من حال ما يعبد هؤلاء في أنها لا تضر ولا تنفع {مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ} [هود: 109] إلا كعبادة آبائهم مِنْ قَبْلُ يريد: أنهم على طريق التقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [هود: 109] من العذاب {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] لا ينقصهم من عذاب آبائهم، قال ابن عباس: يريد: ما وعدوا من خير وشر.
وقال أبو العالية: يعني من الرزق.
ثم عزى نبيه فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [هود: 110] أي: إن كذبوا بالكتاب الذي آتيناك فقد كذب من قبلهم بالكتاب الذي آتينا موسى، {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [هود: 110] قال ابن عباس: يريد إني أي أخرت أمتك إلى يوم القيامة، ولولا ذلك لعجلت عقاب من كذبك.
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [هود: 110] أي: من القرآن مُرِيبٍ موقع للريبة.
قوله: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] قرأ أبو عمر، والكسائي، إن وشددت النون، لمَا خفيفة، واللام في لما: لام التأكيد دخلت في خبر إن، واللام في {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] اللام التي يتلقى بها القسم كما تقول: والله لأفعلن.
والتقدير: والله ليوفينهم، دخلت ما للفصل بين اللامين، وقرأ ابن كثير: وإن بالتخفيف وكذلك لما، قال سيبويه: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: إنْ عمرا لمنطلق.
فيخففون إنّ ويعملونها، وأنشد:
ووجه حسن النحر ... كأنْ ثدييه حقان
ومن قرأ: لما مشددة كانت بمعنى: إلا، كما تقول: سألتك لما فعلت، وإلا فعلت.
ومثله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] معناه: إلا، معنى {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] أي: جزاء أعمالهم، أخبر الله تعالى أنه يوفى العباد جزاء أعمالهم {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [هود: 111] قال ابن عباس: خبير بطاعة أوليائه، وبمعصية أعدائه.
قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {112} وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ {113} وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ(2/592)
وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ {114} وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {115} } [هود: 112-115] {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] قال قتادة: أمر الله نبيه أن يستقيم على أمره.
والمعنى: استقم على العمل بأمر ربك والدعاء إليه كما أمرت في القرآن، {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [هود: 112] قال ابن عباس: يريد: الصحابة الذين تابوا من الشرك.
والمعنى: فليستقيموا هم أيضا.
457 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُوفِيُّ، أنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى الْحَافِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ فَارِسٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَلْخِيُّ، نا حَاتِمٌ الأَصَمُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالأَوْتَادِ ثُمَّ كَانَ الاثْنَانِ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الْوَاحِدِ لَمْ تَبْلُغُوا حَدَّ الاسْتِقَامَةِ» وَهَذَا حَدِيثٌ شَرِيفٌ قَدِ اجْتَمَعَ فِي إِسْنَادِهِ زُهَّادُ هَذِهِ الأُمَّةِ، حَدَّثَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيّ، عَنْ شَيْخٍ لَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ
وقوله: وَلا تَطْغَوْا معناه: ولا تجاوزوا بأمري {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 112] لا يخفى عليه من أعمالكم شيء، قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] الركون: السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة، قال ابن عباس: لا تميلوا، يريد: في المحبة ولبس الكلام والمودة.
قال السدي، وابن زيد: لا تداهنوا الظلمة.
وقال عكرمة: هو أن تطيعهم أو تودهم.
وقال أبو العالية: لا ترضوا بأعمالهم فتمسكم النار فيصيبكم لفحها {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [هود: 113] قال(2/593)
ابن عباس: من مانع يمنعكم من عذاب الله، {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] تمنعون من عذابه، قوله {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114]
458 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، أنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُنِيبٍ، أنا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى السِّينَانِيُّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ مِنَ امْرَأَةٍ غَيْرَ أَنِّي لَمْ آتِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةِ الْمُفَسِّرِينَ
459 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أنا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَحَامِلِيُّ، نا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ فَلا يَدَعُ شَيْئًا يُصِيبُ الرَّجُلُ مِنَ امْرَأَتِهِ إِلَّا قَدْ أَصَابَهُ مِنْهَا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا، فَقَالَ: تَوَضَّأْ وُضُوءًا حَسَنًا، ثُمَّ قُمْ فَصَلِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] إِلَى آخِرِهَا، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: أَهِيَ لَهُ خَاصَّةً أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ فَقَالَ: هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً
قال ابن عباس في قوله: {طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] يريد: الصبح والظهر والعصر.
وهو قول مجاهد، ومحمد بن كعب، قال الزجاج: وصلاة طرفي النهار: الغداة والظهر والعصر.
وقوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] أول ساعات الليل، واحدها زلفة، قال ابن عباس: يريد: المغرب والعشاء قرب أول الليل.
وهذا قول عامة المفسرين، والمراد بهذا: إقامة الصلوات الخمس في أوقاتها، وقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] قال ابن عباس، وعامة المفسرين: يريد أن الصلوات الخمس يكفرن ما بينها من الذنوب.
460 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أنا مُسْلِمٌ، نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، نا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، نا شَدَّادٌ، نا أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ(2/594)
وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَقَالَ: «هَلْ شَهِدْتَ الصَّلاةَ مَعَنَا؟» قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ أَوْ قَالَ: ذَنْبَكَ "
461 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، نا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ، نا حَيْوَةُ، نا أَبُو عُقَيْلٍ الْمُقْرِئُ، أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ: جَلَسَ عُثْمَانُ يَوْمًا وَجَلَسْنَا مَعَهُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ أَظُنُّهُ سَيَكُونُ فِيهِ مُدٌّ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَتَوَضَّأُ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى صَلاةَ الظُّهْرِ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصُّبْحِ، ثُمَّ صَلَّى صَلاةَ الْعَصْرِ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْمَغْرِبِ، ثُمَّ لَعَلَّهُ يَبِيتُ يَتَمَرَّغُ لَيْلَتَهُ، ثُمَّ إِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الصُّبْحَ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَلاةِ الْعِشَاءِ، وَهُنَّ الْحَسَنَاتُ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»
462 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ نُعَيْمٍ الإِشْكِيبِيُّ، أنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، أنا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، وَبَكْرُ بْنُ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: كَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا "
463 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ اللَّخْمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَاصِمٍ الأَصْبَهَانِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَحْيَى الْمَدَنِيُّ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ نَنْتَظِرُ الصَّلاةَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ قَامَ الرَّجُلُ فَأَعَادَ الْقَوْلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَيْسَ قَدْ أَصَبْتَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلاةَ وَأَحْسَنْتَ لَهَا الطُّهُورَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهَا كَفَّارَةُ ذَنْبِكَ "
464 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا كَامِلُ بْنُ طَلْحَةَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَلْمَانَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا(2/595)
يَابِسًا فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ، فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُنِي يَا أَبَا عُثْمَانَ لِمَ أَفْعَلُ هَذَا؟ قُلْتُ: وَلِمَ تَفْعَلُهُ؟ قَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَأَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا يَابِسًا فَهَزَّهُ حَتَّى تَحَاتَّ وَرَقُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا تَسْأَلُنِي يَا سَلْمَانُ لِمَ أَفْعَلُ هَذَا؟ فَقُلْتُ: وَلِمَ تَفْعَلُهُ؟ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ تَحَاتَتْ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ هَذَا الْوَرَقُ " ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] إِلَى آخِرِ الآيَةِ
465 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أنا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُؤَدِّبُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ، نا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: " اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ "
قوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] يعني: القرآن عظة لمن ذكره، قوله: وَاصْبِرْ أي: على الصلاة كما قال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] ، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] قال ابن عباس: يعني المصلين.
قوله: {(2/596)
فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ {116} وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ {117} وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ {118} إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {119} } [هود: 116-119] {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ} [هود: 116] قال ابن عباس: يريد: ما كان.
ومعنى لولا ههنا نفي عند المفسرين، قال الفراء: لم يكن منهم أحد.
يعني من القرون المهلكة أُولُو بَقِيَّةٍ قال ابن عباس: أولو دين.
وقال ابن قتيبة: أي: أولو بقية من دين، يقال: قوم لهم بقية، وفيهم بقية.
إذا كانت فيهم مسكة خير.
وقوله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود: 116] عن الشرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية {إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116] يعني: اتباع الأنبياء وأهل الحق {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود: 116] المترف: الذي أبطرته النعمة وسعة العيش، قال الفراء: اتبعوا في دنياهم ما عودوا من النعيم، وإيثار اللذات على أمر الآخرة، وركنوا إلى الدنيا والأموال واللذات، وما أعطوا من نعيمها.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [هود: 117] الآية: يريد وما كان ربك ليهلك أهل القرى بشركهم وظلمهم لأنفسهم وهم مُصْلِحُونَ يتعاطون الحق فيما بينهم، أي: ليس من سبيل الكفار إذا قصدوا الحق في المعاملة، وتركوا الظلم، أن ينزل الله بهم عذابا يهلكهم.
وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى} [هود: 117] يريد الرجال، بظلم بشرك، وأهلها مصلحون يريد: فيما بينهم، كقوم لوط عذبهم الله باللواط، وقوم شعيب عذبوا ببخس المكيال.
قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118] قال ابن عباس: يريد: على دينك الذي بعثت به.
وقال قتادة: يجعل الناس أمة واحدة بأن يجعلهم مسلمين.
{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] في الدين من بين يهودي ونصراني ومجوسي وغيرها من الملل، {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 119] يعني: أهل الحق وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قال الضحاك، ومجاهد، وقتادة: وللرحمة خلقهم، يعني: الذين رحمهم.
وقال الحسن، ومقاتل: للاختلاف خلقهم، يعني المختلفين، وقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: خلق أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف.
وهذا اختيار الفراء، والزجاج، قال أبو عبيد: الذي أختاره في تفسير هذه الآية قول من قال خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه لأنه موافق للسنة.
قال الزجاج: ويدل على صحة هذا قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] .
قال الكلبي: يريد من كفار الجن وكفار الإنس.(2/597)
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {120} وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ {121} وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ {122} وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {123} } [هود: 120-123] قوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ} [هود: 120] أي: كل الذي يُحتاج إليه {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [هود: 120] من أخبارهم وأخبار أممهم نقص عليك {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] قال ابن عباس: ليزيدك يقينا ويقوي قلبك.
وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سمعها كان تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120] قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: في هذه ال { [، يعني ما فيها من أقاصيص الأنبياء والمواعظ وذكر الجنة والنار.
وخصت هذه السورة بمجيء الحق فيها تشريفا للسورة ورفعا لمنزلتها، وقوله:] وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة هود: 120] يريد: أنهم يتعظون إذا سمعوا هذه ال { [وما نزل بالأمم فتلين قلوبهم ويتذكرون الخير والشر، قوله:] وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [سورة هود: 121] تهديد ووعيد، يقول: اعملوا ما أنتم عاملون، فستعلمون عاقبة أمركم وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما يعدنا ربنا من النصر والعلو، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود: 123] أي: علم ما غاب عن العباد فيهما {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] في المعاد {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] أي: إنه يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقرئ بالتاء على معنى: قل لهم ذلك، والله أعلم.(2/598)
سورة يوسف
مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة
466 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحِيرِيُّ، أنا أَبُو عَمْرٍو ابْنُ مَطَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيفٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّمُوا أَرِقَّاءَكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ فَإِنَّهُ أَيُّمَا مُسْلِمٍ تَلاهَا وَعَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَأَعْطَاهُ الْقُوَّةَ أَلَّا يَحْسُدَ مُسْلِمًا»
بسم الله الرحمن الرحيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ {1} إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {2} نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ {3} } [يوسف: 1-3] {الر} [يوسف: 1] قال ابن عباس: يريد: أنا الله الرحمن، تِلْكَ يعني: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1] يعني: القرآن لأنه يبين الهدى والرشد، قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2]
467 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَآبَاذِيُّ، أنا بِشْرُ بْنُ مَحْمُودٍ الْمِهْرِجَانِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاجِيَةَ، نا هِشَامُ بْنُ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيُّ، نا يَعْلَى بْنُ الأَشْرَفِ بْنِ جَرَادٍ وَكَانَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ، قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَةِ أَعْرَبِ الْعَرَبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ الْعَرَبِ أَعْرَبُ؟» فَقِيلَ: هَوَازِنُ أَعْرَبُ النَّاسِ قَوْمٌ لا يَلْحَنُونَ، قَالَ: فَانْتُقِيَ عَرَبُ هَوَازِنَ، فَوُجِدَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ أَعْرَبَ هَوَازِنَ، فَنَزَل الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ حَضَنُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الَّذِينَ آوَوْهُ
468 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، نا الْعَلاءُ بْنُ عَمْرٍو الْحَنَفِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ بُرَيْدٍ الأَشْعَرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحِبُّوا الْعَرَبَ لِثَلاثٍ: لأَنِّي عَرَبِيٌّ، وَالْقُرْآنُ عَرَبِيٌّ، وَكَلامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَرَبِيٌّ "
وقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قال ابن عباس: كي تفهموا، لو لم يكن عربيا لما فهموه.
قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ(2/599)
أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] قال الزجاج: نبين لك أحسن البيان.
{بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [يوسف: 3] أي: بوحينا إليك {هَذَا الْقُرْءَانَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ} [يوسف: 3] القرآن لَمِنَ الْغَافِلِينَ أي: لمن الغافلين عما أوحينا إليك من أخبار الأنبياء، ثم ذكر قصة يوسف فقال: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ {4} قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ {5} وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {6} } [يوسف: 4-6] {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ} [يوسف: 4] قال الفراء: التاء في يا أبت هاء، وأصل دخولها للسكت وهو قولهم: يا أباه.
ثم سقطت الألف لدلالة فتحة الباء عليها، وانصرفت الهاء إلى لفظ التاء لكثرة الاستعمال، تشبيها بتاء التأنيث، وكسرت تقديرا أن بعدها ياء الإضافة، ولم تستعمل في غير النداء، لأن هاء السكت مع الألف لا يدخلان إلا في النداء، والاختيار كسر التاء في هذه القراءة لأنها أجريت مجرى تاء التأنيث وكسرت على الإضافة إلى نفس المتكلم على معنى: يا أبتي، ثم حذفت الياء لأن ياء الإضافة تحذف في النداء، ومن فتح التاء أبدل الياء بالألف فقال: يا أبتا ثم حذف الألف وأبقى الفتحة دالة عليها كقول الأعشى:
ويا أبتا لا تزل عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم
وقال رؤبة:
يا أبتا علك أو عساكا
وقوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] قال المفسرون: رأى يوسف عليه السلام وهو ابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سجدن له، فكانت الكواكب في التأويل إخوته، والشمس أمه والقمر أباه، فلما قصها على يعقوب أشفق عليه من حسد إخوته له فقال له: {يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ} [يوسف: 5] ، وذلك أن يوسف عليه السلام كان نبيا في علم الله مذ كان، ورؤيا الأنبياء وحي، وعلم يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها ويخافون علو يوسف عليهم فيعملون عملا يكون فيه هلاكه، وهو قوله: {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] أي: فيحتالوا في هلاكك {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5] ظاهر العداوة، يزين له الباطل.
قوله: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] قال الزجاج، وابن الأنباري: ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة، يختارك ربك ويصطفيك من بين إخوتك.
{وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ(2/600)
الأَحَادِيثِ} [يوسف: 6] قال ابن عباس، وقتادة، ومجاهد: يريد والتأويل تعبير الأحلام، والتأويل: ما يئول إليه المعنى في الرؤية، والأحاديث هي أحاديث الناس عما يرونه في منامهم.
{وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [يوسف: 6] بالنبوة {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ} [يوسف: 6] يعني: المختصين بالنبوة منهم كَمَا أَتَمَّهَا بالنبوة عَلَى أَبَوَيْكَ قال قتادة: كل ذلك فعل الله به، اجتباه واصطفاه وعلمه من تأويل الأحاديث، فكان أعبر الناس للرؤيا وأتم النعمة عليه.
{إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} [يوسف: 6] حيث يضع النبوة حَكِيمٌ في خلقه، قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ {7} إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ {8} اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ {9} قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ {10} } [يوسف: 7-10] {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} [يوسف: 7] أي: في خبر يوسف وقصة إخوته آيَاتٌ عبر وعجائب، وقرأ ابن كثير: آية كأنه جعل شأنهم كلهم آية لِلسَّائِلِينَ، سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة، فعجبوا من ذلك، وكان في ذلك أعجب دلالة للسائلين على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه شرح أخبار قوم لم يشاهدهم، ولم ينظر في الكتب لأنه كان أميا.
قوله: إِذْ قَالُوا يعني: إخوة يوسف، قالوا فيما بينهم لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين وكان أخاه لأمه، والباقون كانوا إخوته لأبيه دون أمه، {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [يوسف: 8] أي: إنه أشد لهما حبا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ قال الفراء: العصبة: العشرة فما زاد، والمعنى: نحن جماعة رجال {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8] قال ابن الأنباري: ضل بإيثارهما علينا ضلال خطأ يلحقه ضرره في دنياه، إذ كنا أنفع له في القيام بمواشيه من يوسف وأخيه.
وقال أهل المعاني: إن أبانا في ذهاب عن طريق الثواب الذي فيه التعديل بيننا في المحبة.
ثم قالوا أيضا فيما بينهم {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} [يوسف: 9] في أرض يبعد فيها عن أبيه {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] يقبل بكليته عليكم ويخلص لكم عن شغله بيوسف، يعنون: أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل علينا بالمحبة، وأخطأوا في هذا التدبير لأنه لما فقد يوسف أعرض عنهم بالكلية، قال الله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] ، وقوله: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] قال ابن عباس: تحدثوا توبة بعد ذلك يقبلها الله منكم.
وهذا قول عامة المفسرين، والمعنى: قوما صالحين بإحداث التوبة، عزموا على التوبة قبل إحداث الجناية، وكذا المؤمن لا ينسى التوبة وإن كان مرتكبا للذنوب، {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [يوسف: 10] يعني من إخوة يوسف، وهو يهوذا أكبر ولد يعقوب وأعقلهم {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [يوسف: 10] وقال قتادة: هو روبيل نهى عن قتله فقال: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 10] الغيابة: كل ما غيب شيئا وستره، والغيابة: حفرة القبر لأنها(2/601)
تغيب المدفون، والجب: الركية التي لم تطو، قال الحسن: غيابة الجب قعر الجب.
وقال قتادة: أسفل الجب.
والمعنى: اطرحوه في موضع مظلم من البئر لا يلحقه نظر الناظرين، وقرأ أهل المدينة غيابات الجب بالجمع على معنى أن للجب أقطارا ونواحي ويكون فيه غيابات، فآثروا الجمع لذلك، واختلفوا في هذا الجب فقال قتادة: في بئر بيت المقدس.
وقال وهب: هو بأرض الأردن.
وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب.
قوله: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] يعني: مارة الطريق، وهم الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [يوسف: 10] قال ابن عباس: يريد: إن أضمرتم ما تريدون ولما عزموا على الكيد بيوسف.
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ {11} أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {12} قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ {13} قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ {14} } [يوسف: 11-14] قَالُوا لأبيهم {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 11] أنكروا عليه خوفه إياهم على يوسف، فقالوا: لم لا تأمننا عليه فترسله معنا؟ {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} [يوسف: 11] قال ابن عباس: يريد الرحمة والبر.
والمعنى: وإنا طالبون ما يعود إلى مصلحة أمره، {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا} [يوسف: 12] أي: إلى الصحراء نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ قال الكلبي: نذهب ونجيء وننشط ونلهو، ومن قرأ بكسر العين هو افتعال من الرعاية بمعنى الحفظ يعني بعضنا بعضا، ومن قرأ بجزم العين فهو من قولهم: رتع الماء.
إذا أرعى ما شاء، وأرتعتها أنا.
وقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] قال ابن عباس: أي: من كل ما تخافه عليه.
{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ} [يوسف: 13] أي: يحزنني ذهابكم به لأنه يفارقني فلا أراه {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] قال المفسرون: إن يعقوب رأى في المنام ذئبا عدا على يوسف فكان حذرا عليه خائفا من تناول الذئب إياه لرؤياه التي رآها.
وقال آخرون: إنما خاف عليه الذئب لأن أرضهم كانت مذئبة.
وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] أي: مشتغلون برعيتكم، {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] أي: إن أكله الذئب ونحن جماعة نرى الذئب قد قصده فلا نرده عنه إنا إذا لعاجزون، فمعنى الخسران ههنا: العجز.(2/602)
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {15} وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ {16} قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ {17} وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ {18} } [يوسف: 15-18] قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} [يوسف: 15] في الكلام اختصار وإضمار، التقدير: فأرسله معهم فلما ذهبوا به وأجمعوا أي عزموا على {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 15] قال السدي: خرجوا بيوسف وبه عليهم كرامة، فلما برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة، وجعل أحدهم يضربه، فيستغيث بالآخر، فيضربه فلا يرى منهم رحيما، وضربوه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويقول: يا أبتاه، يا يعقوب، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء، فلما كادوا يقتلونه قال يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه، وجعلوا يدلونه في البئر فيتعلق بشفير البئر، فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه ردوا علي القميص، فأتوا به فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا يؤنسونك، ودلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة في البئر فقام عليها وجعل يبكي، فناداه إخوته فظن أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه بصخرة فيقتلوه، فقام يهوذا فمنعهم، وقال: قد أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
قال الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن اثنتي عشرة سنة ولقى أباه بعد ثلاثين سنة.
وقال محمد بن مسلم الطائفي: لما ألقي يوسف في الجب قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوبا، اجعل لي فرجا مما أنا فيه.
قال: فما بات فيه.
قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} [يوسف: 15] الآية، قال المفسرون: أوحى الله تعالى إلى يوسف تقوية لقلبه في البئر لتصدقن رؤياك، ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا بعد اليوم.
{وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] بأنك يوسف في وقت إخبارك إياهم بأمرهم، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، قال ابن عباس: ثم إنهم ذبحوا سخلة، وجعلوا دمها على قميص يوسف {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [يوسف: 16] ليكون أجرا في الظلمة على الاعتذار لكذبهم ليدلسوا على أبيهم، فلما سمع صوتهم فزع، وقال: ما لكم يا بني؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا.
قال فما أصابكم؟ وأين يوسف؟ {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} [يوسف: 17] قال أكثر المفسرين: يسابق بعضنا بعضا في الرمي ليتبين أينا أسبق سهما.
وقال مقاتل: نشتد ونعدو ليتبين أينا أسرع عدوا.
{وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} [يوسف: 17] ثيابنا {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] بمصدق لنا {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] لاتهمتنا في يوسف لمحبتك إياه، وأروه قميصه ملطخا بدم، فذلك قوله: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] أي: مكذوب فيه لأنه لم يكن دم يوسف فسمي(2/603)
بالمصدر كما تقول: ضرب الأمير ونسج اليمن، فقال يعقوب: كذبتم ما عهدي بالذئب حليما، لو أكله لخرق قميصه {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ} [يوسف: 18] زينت لكم أَمْرًا غير ما تصفون فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فشأني صبر جميل، وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] أي: به أستعين على ما تقولون من الكذب، ثم إن يوسف مكث في الجب ثلاثة أيام ثم جاءت.
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {19} وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ {20} } [يوسف: 19-20] {سَيَّارَةٌ} [يوسف: 19] أي: رفقة تسير في السفر {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} [يوسف: 19] وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم فَأَدْلَى دَلْوَهُ أرسلها في البئر فتشبث يوسف بالرشاء فأخرجه الوارد، فقال: يَا بُشْرَاي يا فرحتي، وقرأ أهل الكوفة: يا بشرى وهذه القراءة كالأولى إلا أنها غير مضافة، وقال السدي: نادى صاحبه وكان اسمه بشرى، فقال: يا بشرى هذا غلام، وذلك أن الوارد، واسمه مالك بن ذعر لما أرسل الدلو في البئر تعلق يوسف بالحبل فأخرجه مالك وهو يظن أنه يستقي الماء، فإذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان، ففرح بذلك فقال: يا بشراي أو: يا بشرى.
قال كعب: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العين، مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساقين والساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار، وكان يشبه آدم يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية، ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن.
وقوله: وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً أسره الوارد ومن كان معه من التجار الذين كانوا معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة دفعها إلينا بعض أهل الماء إلى مصر، وقالوا فيما بينهم: إن قلنا التقطناه شاركونا فيه، وإن قلنا اشتريناه سألونا الشركة، وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] قال ابن عباس: يريد بيوسف.
وقوله: {وَشَرَوْهُ} [يوسف: 20] قال وهب: كان يهوذا منتدبا ينظر ما يطرأ على يوسف، فلما أخرجوه من البئر أخبر إخوته، فأتوا مالك بن ذعر وقالوا: هذا عبدنا.
وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك بن ذعر: أنا اشتريته منكم.
فباعوه منه، وذلك قوله: وشروه يقال: شريت.
إذا بعت، وإذا اشتريت، وقوله: {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: حرام لأن ثمن الحر حرام، وسمي الحرام بخسا لأنه لا بركة فيه فهو منقوص البركة.
قال الكلبي: باعوه باثنين وعشرين درهما.
وهذا قول مجاهد، وقال الزجاج: أخذ كل واحد من إخوته درهمين.
قال عطاء، عن ابن عباس: بعشرين درهما فأخذ كل(2/604)
واحد منهم إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا.
فذلك قوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] أي: قليلة، وذكر العدد عبارة عن القلة {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] والزهد والزهادة: قلة الرغبة في الشيء، يريد: أن إخوة يوسف كانوا من الزاهدين في يوسف لأنهم لم يعرفوا موضعه من الله ولا كرامته عليه، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم كانوا زاهدين في ذلك الثمن إما لرداءته، وإما لأن قصدهم كان تبعيد يوسف لا الثمن، ثم انطلق مالك بن ذعر وأصحابه بيوسف وتبعهم إخوته يقولون لهم: استوثقوا منه فإنه آبق سارق كاذب وقد برئنا إليكم من عيوبه، فحمله مالك على ناقة وصار به نحو مصر، وكان طريقهم على قبر أمه، فلما بلغ قبر أمه أسقط نفسه من الناقة على القبر وهو يبكي ويقول: يا أمي ارفعي رأسك من الثرى وانظري إلى ولدك يوسف وما لقي بعدك من البلاء، يا أماه لو رأيت ضعفي وذلي لرحمتيني، يا أماه لو رأيتيني وقد نزعوا قميصي وشدوني وفي الجب ألقوني، وعلى خد وجهي لطموني، وبالحجارة رجموني.
وفقده مالك فصاح في القافلة: ألا إن الغلام قد رجع إلى أهله.
فطلبه القوم فرأوه، فأقبل إليه رجل منهم وقال: يا غلام قد أخبرنا مواليك أنك آبق سارق فلم نصدق حتى رأيناك تفعل ذلك.
فقال: والله ما أبقت ولكنكم مررتم على قبر أمي فلم أتمالك أن رميت بنفسي على قبرها.
قال: فرفع يديه ولطم وجهه وجره حتى حمله على ناقته، وذهبوا به حتى قدموا مصر فأمره مالك بن ذعر حتى اغتسل، ولبس ثوبا حسنا، وعرضه على البيع فاشتراه قطفير بن روحيب وهو العزيز بمصر، وكان على خزائن الملك الأعظم وصاحب أمره.
قال مقاتل بن سليمان: اشتراه بعشرين دينارا وحلة ونعلين.
وقال وهب: ترافع الناس في ثمنه وتزايدوا حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا، فابتاعه قطفير بهذا الثمن فلما اشتراه وأتى به منزله قال لامرأته واسمها راعيل: أكرمي مثواه.
فذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {21} وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ {22} } [يوسف: 21-22] {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف: 21] قال ابن عباس: أكرميه ما كان عندك.
وقال الزجاج: أحسني إليه في طول مقامه عندنا.
يقال: ثوى يثوي ثوى ومثوى.
{عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [يوسف: 21] أي: يكفينا إذا بلغ وفهم الأمور، يقضي بعض شئوننا.
469 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا زُهَيْرٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلاثَةٌ: الْعَزِيزُ حِينَ تَفَرَّسَ فِي يُوسُفَ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَتْ مُوسَى فَقَالَتْ لأَبِيهَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ
وقوله: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف: 21] أي: نتبناه وكان العزيز عقيما أو حصورا لا يولد له، وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي(2/605)
الأَرْضِ} [يوسف: 21] يعني: وكما أنجيناه من إخوته حين هموا بإهلاكه، وأخرجناه من ظلمة البئر، مكنا له في الأرض، ملكناه في أرض مصر حتى بلغ {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 21] تقدم تفسيره {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] قال ابن عباس: على ما أراد من قضائه، أي: لا يغلبه على أمره غالب، ولا يبطل إرادته منازع فهو قادر على أمره من غير مانع {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21] ذلك وهم المشركون والذين لا يعلمون أن قدر الله غالب، وأن مشيئته نافذة.
قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [يوسف: 22] العرب تقول: بلغ فلان أشده.
إذا بلغ منتهاه في شبابه وقوته، قال أكثر المفسرين: ثلاثا وثلاثين سنة.
وقال عطاء: يريد الحلم.
وقال الضحاك: عشرين سنة.
{آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22] عقلا وفهما، وقال الكلبي: الحكم النبوة والعلم علم الدين.
وقال الزجاج: جعلناه حكيما عالما.
وليس كل عالم حكيما، والحكيم: العالم المستعمل علمه الممتنع من استعمال ما يجهل فيه وَكَذَلِكَ ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف كذلك نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قال الضحاك: يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {23} وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ {24} وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {25} قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ {26} وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ {27} فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ {28} يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ {29} } [يوسف: 23-29] قوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 23] يعني امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها، طلبت منه أن يواقعها، والمراودة: المطالبة بأمر للعمل به، قال الزجاج: طالبته بما تريد النساء من الرجال.
وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ قال المفسرون: غلقت سبعة أبواب ثم دعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] معناه في(2/606)
قول جميع أهل اللغة والتفسير: هلم.
قال الفراء، وابن الأنباري: لا مصدر له، ولا تصرف، ولا تثنية ولا جمع ولا تأنيث يقال للاثنين: هيت لكما.
وللجمع هيت لكم.
قال الأخفش: يجوز كسر التاء ورفعه، وكسر بعضهم الهاء، وفتح التاء كل ذلك بمعنى واحد، قال أبو زيد: هيت لك بالعبرانية: هنيا لخ، أي: تعال، أعربه القرآن، أما ما روى هشام، عن ابن عامر: هئت لك بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فإنها فعلت من الهيئة، قال أبو زيد: هئت للأمر هيئة، وتهيأت له.
ويجوز تخفيف الهمزة كما يخفف من جيت وشيت، وأنكر أبو عمرو، والكسائي هذه القراءة وقالا: هيت بمعنى تهيأت، باطل ولم تحك عن العرب.
والله أعلم، قَالَ يوسف مَعَاذَ الله أعوذ بالله أن أفعل هذا، والمعنى: أعتصم بالله من هذا إِنَّهُ رَبِّي إن الذي اشتراني هو سيدي أَحْسَنَ مَثْوَايَ أي: أنعم علي بإكرامي فلا أخونه في حرمته، إني إن فعلت ذلك كنت ظالما، و {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] قال ابن عباس: لا يسعد الزناة العاصون.
قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] قال أهل التفسير: السدي، وابن إسحاق، والضحاك، ومقاتل فيما ذكروا، عن ابن عباس: إنها لما راودت يوسف جعلت تذكر محاسن يوسف فقالت: يا يوسف، ما أحسن شعرك.
قال: هو أول ما ينتشر من جسدي.
قالت: ما أحسن عينيك.
قال: هي أول ما يسيل على الأرض من جسدي.
قالت: ما أحسن وجهك.
قال: هو للتراب يأكله.
قالت: ما أحسن صورتك.
قال: ربي صورني في الرحم.
قالت: يا يوسف، صورة وجهك أنحلت جسمي.
قال: الشيطان يعينك على ذلك.
قالت: بساط الحرير قد بسطته، قم فاقض حاجتي.
قال: إذن يذهب نصيبي من الجنة.
قالت: ادخل الستر معي.
قال: ليس شيء يسترني من ربي.
فلم تزل تطمعه وتدعوه إلى اللذة ويوسف شاب يجد من شبق الشباب ما يجده حتى جرى الشيطان فيما بينهما، فضرب إحدى يديه إلى جيب يوسف وبيده الأخرى إلى جيب المرأة، فجمع بينهما حتى خلوا في بعض البيوت، فذلك قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] أي: أرادته وقصدته، وأما هم يوسف فذكر ابن عباس، وجلة أهل التفسير: أنه حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن.
وسئل ابن عباس: ما بلغ من هم يوسف؟ قال: استلقت المرأة وقعد بين رجليها ينزع ثيابه.
وهذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، ومجاهد، وابن أبي بزة، والأعمش، والحسن، هذا قول المتقدمين، وذكر المتأخرون فرقا بين الهمين: فقال أبو العباس(2/607)
أحمد بن يحيى: همت المرأة بالمعصية مصرة على ذلك وهم يوسف بالمعصية ولم يأتها ولم يصر عليها، فبين الهمين فرق، وشرحه ابن الأنباري، فقال: همت المرأة عازمة على الزنا، ويوسف عارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب وحديث النفس فلم يلزمه هذا الهم ذنبا، إذ الرجل الصالح يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب كان غير مؤاخذ بما هجس في نفسه.
قال الزجاج: والذي عليه المفسرون أنه هم بها وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته إلا أن الله تفضل بأن أراه البرهان، ألا ترى أنه قال: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53] الآية، وقال ابن الأنباري: والذي نذهب إليه في هذه الآية ما يروى عن الصحابة والتابعين من إثبات الهم ليوسف غير عائبين له، بل نقول: إن انصرافه بعد إثبات الهم ونهيه نفسه عن هواها تعظيما لله ومعرفة بحقه أدل على وفور الثواب وتكامل الأجر.
والذين أثبتوا الهم ليوسف من علي، وابن عباس، ووهب، وابن سيرين، وغيرهم كانوا أعرف بحقوق الأنبياء وارتفاع منازلهم عند الله من الذين نفوا الهم عنه، وقد قال الحسن: إن الله لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرا لهم، ولكنه قصها عليكم لئلا تقنطوا من رحمته.
وقال أبو عبيد: يذهب الحسن إلى أن الحجة من الله على أنبيائه أوكد، وهي لهم ألزم، فإذا كان يقبل التوبة منهم فهي إلى قبولها منكم أسرع.
وقوله: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] قال ابن عباس، وعامة المفسرين: مثل له يعقوب فرأى صورته عاضا على إصبعيه يقول: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في الأنبياء؟ فاستحيا منه.
قال الحسن: مثل له جبريل في صورة يعقوب.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: مثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
وقال السدي: رأى يعقوب قائما في البيت يقول: يا يوسف لا تواقعها فإنما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق، ومثلك إن واقعتها مثله إذا مات فوقع بالأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ومثلك إذا لم تواقعها كمثل الثور الصعب الذي لم يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت، فيدخل النمل في أصل قرنيه فلا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
470 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ السُّكَّرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ، نا عَمْرُو بْنُ الْبَصْرِيِّ، نا أَبُو الْهَيْثَمِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَصْرِيُّ، نا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] قَالَ: قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ بَيْنَهُمَا لَيْسَ فِيهَا عَضُدٌ وَلا مِعْصَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ {10} كِرَامًا كَاتِبِينَ {11} يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ {12} } [الانفطار: 10-12] ، فَقَامَ هَارِبًا، وَقَامَتْ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ فِيهَا عَضُدٌ وَلا مِعْصَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] ، فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ إِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا، لَيْسَ فِيهَا عَضُدٌ وَلا مِعْصَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآيَةَ فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرَّوْعُ عَادَ وَعَادَتْ،(2/608)
فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِجِبْرِيلَ: أَدْرِكْ عَبْدِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الْخَطِيئَةَ فَانْحَطَّ جِبْرِيلُ عَاضًّا عَلَى إِصْبَعَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا يُوسُفُ أَتَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الأَنْبِيَاءِ
فذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] قال الزجاج: السوء: خيانة صاحبه، والفحشاء: ركوب الفاحشة.
والمخلصين: الذين اخلصوا دينهم لله، فمن فتح اللام أراد الذين أخلصهم الله من الأسواء، قوله: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ أي: تبادرا إلى الباب يجتهد كل واحد أن يسبق صاحبه فإن سبق يوسف المرأة فتح الباب وخرج، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب لئلا يخرج فلم تصل إلا إلى دبر قميصه فقدته، وذلك قوله: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25] أي: قطعته من خلف وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا وجدا وصادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقة بالقول ومبرئة نفسها من الأمر وملزمة يوسف بالذنب: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف: 25] قال ابن عباس: يريد الزنا.
{إِلا أَنْ يُسْجَنَ} [يوسف: 25] يحبس في السجن {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] يعني: الضرب بالسياط فلما سبقت هي بطرح الجرم على يوسف غضب يوسف وقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26] أي: أعلم معلم وأبين مبين وكان رجلا حكيما من أقارب المرأة، قال الكلبي: كان ابن عمها وكان رجلا حكيما وكان مع زوجها، فقال: قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب وشق القميص، فلا ندري أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه كانت المرأة صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق.
وقوله: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف: 26] إلى {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ} [يوسف: 28] من حكم الشاهد وبيانه عما يوجب الاستدلال به على تمييز الكاذب من الصادق، وقوله: فلما رأى أي: زوج المرأة قميص يوسف {قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} [يوسف: 28] أي: إن قولك: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا من كيدكن {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 28] ، ثم قال ليوسف يُوسُفُ أي: يا يوسف {أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: 76] أي: اترك هذا الأمر ولا تذكره وَاسْتَغْفِرِي أنت لِذَنْبِكِ قال لامرأته: توبي أنت من ذنبك {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف: 29] إنك قد أثمت بمراودتك شابا عن نفسه وإرادته على الزنا، ثم شاع ما جرى بينهما وانتشر في مدينة مصر حتى تحدثت بذلك النساء وخضن فيه، وهو قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ {30} فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ {31} قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ {32} قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ {33} فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {34} } [يوسف: 30-34] {(2/609)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30] قال ابن عباس: يريد نسوة من أشراف النساء، وأراد بالنسوة الجمع لذلك ذكر فعلهن حملا على المعنى، وإذا أنث حمل على اللفظ، وقوله: امْرَأَةُ الْعَزِيزِ يعني: زليخا، والعزيز بلغتهم: الملك تُرَاوِدُ فَتَاهَا غلامها {عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} [يوسف: 30] قال ابن عباس: قد دخل حبه شغاف قلبها.
وهو موضع الدم الذي يكون داخل القلب، وقال الزجاج: الشغاف حبة القلب وسويداء القلب.
{إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ} [يوسف: 30] عن طريق الرشد بحبها إياه مُبِينٍ ظاهر.
فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ قال ابن إسحاق: يعني: كيدهن وذلك أنهن إنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف، لما كان بلغهن من حسنه وجماله، اتخذت مأدبة فدعت أربعين امرأة منهن هؤلاء اللاتي عيرنها، فذلك قوله: {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ} [يوسف: 31] وهيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً مجلسا للطعام وما يتكئن عليه من النمارق والوسائد، وقال ابن عباس في رواية عطاء، ومجاهد: هو الأترج.
وقال جماعة من المفسرين: يعني طعاما يحز بالسكين.
وقال الأزهري: وقيل للطعام متكأ لأن القوم إذا قعدوا على الطعام اتكأوا، ونهيت هذه الأمة عن ذلك.
وقوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف: 31] قال السدي: أعطيت كل واحدة منهن أترجة وسكينا وأمرت يوسف بالبروز لهن، ليرينه فيعذرنها في حبها إياه، وهو قوله: {وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] أعظمنه، وهالهن أمره، وبهتن بالنظر إليه وذهب عقولهن، وجعلن يقطعن أيديهن بالسكاكين تعجبا من حسنه وجماله، وهو قوله: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ قال قتادة: أبنَّ أيديهن.
وقال مجاهد: لم يحسسن إلا بالدم، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف.
{وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف: 31] حاش وحاشا يستعملان في الاستثناء والتبرئة، والأصل حاشا لأنه من فاعل المحاشاة، يقال: حاشى يحاشي.
والحشاء: الناحية، ومعنى حاش لله صار يوسف في حشا أي: في ناحية مما قذف به أي: لم يلابسه، كأن المعنى: بعد يوسف عن هذا الذي رمي به، أي: لخوفه ومراقبته أمره، وهذا قول أكثر المفسرين، قالوا: هذا تنزيه ليوسف عما رمته به امرأة العزيز.
وقال آخرون: هذا تنزيه له من تهمة البشر، لفرط جماله، يدل على هذا سياق الآية.
ومن قرأ حاش بغير ألف(2/610)
فهو على حذف آخر الفعل كقولهم: لم يك، ولا أدر، وقد قال رؤبة:
وصاني العجاج فيما وصني
وقوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] أي: ليس هذا بآدمي {إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] على ربه.
471 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْفَقِيهُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيَ يُوسُفُ شَطْرَ الْحُسْنِ»
472 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ السَّعْدِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ بَحْرٍ، نا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الْخَرَشِيِّ، قَالَ: قُسِمَ الْحُسْنُ نِصْفَيْنِ نِصْفٌ لِيُوسُفَ وَسَارَّةُ وَنِصْفٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَصِفُ يُوسُفَ حِينَ رَآهُ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ: " رَأَيْتُ رَجُلا صُورَتُهُ صُورَةُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَخُوكَ يُوسُفُ "
473 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أنا أَحْمَدُ بْنُ سَلْمَانَ الْحَرْبِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، أنا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " هَبَطَ عَلَيَّ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: حَبِيبِي إِنِّي كَسَوْتُ حُسْنَ يُوسُفَ مِنْ نُورِ الْكُرْسِيِّ، وَكَسَوْتُ حُسْنَ وَجْهِكَ مِنْ نُورِ عَرْشِي، وَمَا خَلَقْتُ خَلْقًا أَحْسَنَ مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ "
قَالَتْ المرأة عند ذلك للنسوة: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] قال ابن الأنباري: أشارت بذلك إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس، قال المفسرون: أرادت إظهار عذرها عند النسوة بما شهدن من جمال يوسف، بهتن بالنظر إليه، وذهبت عقولهن، وجعلن يقطعن أيديهن، قالت لهن هذا القول، ومعنى {لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] ، أي: في حبه والشغف به، ثم أقرت عندهن فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32] امتنع وأبى، ثم توعدته بإيقاع المكروه به إن لم يطعها فيما تدعوه إليه، فقالت: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف: 32] من الإذلال بالسجن والحبس، قَالَ يوسف {(2/611)
رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] مما يطالبنني به من معصيتك، وذلك أن النسوة قلن له: إنك الظالم وهي المظلومة، وأمرنه بمطاوعتها وقضاء حاجتها {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 33] كيد جميع النسوة {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف: 33] أمل إليهن وأتابعهن، يقال: صبا إلى اللهو، يصبو صبوا.
إذا مال إليه {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] من يستحق صفة الذم بالجهل، قال ابن عباس: يريد المذنبين الآثمين.
فَاسْتَجَابَ الله ليوسف دعاءه {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34] بأن عصمه منهن {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [يوسف: 34] لدعائه الْعَلِيمُ بما خاف من الإثم، وقال وهب، والسدي: إن امرأة العزيز قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس، يخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أقدر أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف، فذلك قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ {35} وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {36} قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ {37} وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ {38} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {39} مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {40} يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ {41} وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ {42} وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ {43} قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ {44} وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ {45} } [يوسف: 35-45] {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ} [يوسف: 35] يعني: آيات براءة يوسف لَيَسْجُنُنَّهُ ليحبسنه في السجن حَتَّى حِينٍ الحين من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل، قال عطاء: يريد إلى انقطاع المقالة.
وقال الكلبي: الحين ههنا(2/612)
خمس سنين.
وقال عكرمة: سبع سنين.
وقال مقاتل: حبس يوسف اثنتي عشرة سنة.
قال السدي: ثم إن الملك غضب على خباز بلغه أنه يريد أن يسمه، وأن صاحب شرابه مالأه على ذلك فحبسهما جميعا، وذلك قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [يوسف: 36] وكان يوسف لما دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام.
فقال أحد الفتيين: هلم نجرب هذا العبد العبراني نتراءى له شيئا فسألا من غير أن يكونا رأيا شيئا، فذلك قوله: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] قال له الساقي: إني رأيت أصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها وعصرتها، ومعنى أعصر خمرا: أعصر عنب خمر، أي: العنب الذي يكون عصيره خمرا، فحذف المضاف، وقال الزجاج، وابن الأنباري: العرب تسمي الشيء باسم ما يئول إليه الشيء إذا انكشف المعنى ولم يلتبس، يقولون: فلان يطبخ الأُجُرَّ ويطبخ الدبس وإنما يطبخ اللبِن والعصير.
وقوم يقولون: إن بعض العرب يسمون العنب خمرا، حكى الأصمعي، عن المعتمر أنه لقي أعرابيا معه عنب، قال: ما معك؟ فقال: خمر.
وقال صاحب الطعام: رأيت كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة وسباع الطير تنهش منه، فذلك قوله: {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أخبرنا بتفسيره {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36] تؤثر الإحسان، وتأتي الأفعال الجميلة، قال سلمة بن نبيط: كنت بخراسان جالسا عند الضحاك فسأله رجل عن قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36] ما كان إحسان يوسف؟ قال: كان إذا ضاق على رجل مكانه وسع عليه، وإن احتاج جمع له، وإن مرض قام عليه.
وقال الفراء: من المحسنين العالمين.
ونحو هذا قال الزجاج: ممن يحسن التأويل.
ثم ذكر لهما يوسف ما يدل على أنه عالم بتفسير الرؤيا فقال: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف: 37] في منامكما {إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 37] في اليقظة {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف: 37] التأويل ذَلِكُمَا التأويل {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37] أي: لست أقوله على جهة التكهن والتنجم، وإنما أخبركما بوحي من الله وعلم، ثم أخبر أنه تارك ملة الكفر فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 37] الآية {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ} [يوسف: 38] إلى قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 38] قال ابن عباس: يريد: أن الله عصمنا من أن نشرك به.
{ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} [يوسف: 38] أي: اتباعنا الإيمان بتوفيق الله لنا وبفضله علينا وَعَلَى النَّاسِ يعني المؤمنين {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38] الله على نعمته فيوحدونه، ثم دعاهما إلى الإسلام فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [يوسف: 39] يعني: الأصنام من صغير وكبير خَيْرٌ أعظم في صفة المدح {أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] يعني: أنه أحق بالإلهية من الأصنام، ثم خاطبهم ومن على مثل حالهم في الكفر فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ} [يوسف: 40] من دون الله {إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ} [يوسف: 40] يعني: الأرباب والآلهة ولا تصح معانيها للأصنام فكأنها أسماء فارغة، وكأنهم يعبدون الأسماء لأنها لا معاني تصح لها {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف: 40] من حجة بعبادتها {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [يوسف: 40] أي: الفضل بالأمر والنهي إلا لله {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف: 40] أي: الذي أمر به من {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [يوسف: 40] وهو الدين المستقيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 40] قال ابن عباس: لا يعلمون ما للمطيعين من الثواب، وللعاصين من العقاب.
قوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا} [يوسف: 41] الآية، قال الكلبي: لما قص الساقي رؤياه على يوسف قال له: ما(2/613)
أحسن ما رأيت: أما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيردك إلى عملك فتعود كأحسن ما كنت فيه.
وقال للخباز لما قص عليه: بئس ما رأيت: السلال الثلاث ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيقتلك ويصلبك وتأكل الطير من رأسك.
فقالا: ما رأينا شيئا.
قال: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41] أي: فرغ منه، سيقع بكما ما عبرت لكما صدقتما أو كذبتما، وإنما حلم يوسف بوقوع الأمر بهما من قبل، وحي أتاه من الله تعالى.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا} [يوسف: 42] أي: أيقن وعلم، وهو الساقي {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] أي: عند الملك صاحبك، وقل له: إن في السجن غلاما محبوسا ظلما {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42] قال مجاهد: أنسى الشيطان يوسف الاستعانة بربه، وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك، فعوقب بأن لبث في السجن بضع سنين.
وهذا قول ابن عباس، واختيار الزجاج وذهب القوم إلى أن الكناية راجعة إلى الساقي على معنى: أنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] قال الأصمعي: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وعامة المفسرين على أن المراد بالبضع ههنا سبع سنين، وقالوا: عاقب الله يوسف بأن حبس سبع سنين بعد الخمس التي حبسها إلى وقت قوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، قال ابن عباس: لما تضرع يوسف إلى مخلوق وكان قد اقترب خروجه أنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين.
474 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، أنا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، نا زُهَيْرُ بْنُ سَلامٍ، نا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ، حَيْثُ يَبْتَغِي الْمَخْرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ»
وروى الحسن، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «رحم الله يوسف لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث» .
قال: ثم يبكي الحسن ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس، ويروى أن جبريل دخل على يوسف السجن، فلما رآه يوسف عرفه، فقال له يوسف: يا أخا المنذرين، ما لي أراك بين الخاطئين، فقال له جبريل: يا طاهر الطاهرين، يقرأ عليك السلام ربُّ العالمين ويقول لك: أما استحييت مني إذ استشفعت بالآدميين؟ فبعزتي لألبثنك في السجن بضع سنين.
قال(2/614)
يوسف: وهو في ذلك عني راض؟ قال: نعم.
قال: إذن لا أبالي.
قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ} [يوسف: 43] الآية، قال المفسرون: لما دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته، وذلك أنه رأى سبع بقرات سمان وسبعا عجاف، فابتلعت العجاف السمان فدخلت في بطونهن فلم ير منهن شيئا، ورأى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبها وَسبعا أُخَرَ يَابِسَاتٍ قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبت عليها، فجمع الملك الكهنة وقصها عليهم.
فذلك قوله: {يَأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} [يوسف: 43] والعجاف ضد السمان، وأحدها أعجف وعجفاء، والعجف: ذهاب السمن، فمعنى العجاف: الهزلى التي لا لحم عليها، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] يقال: عبرت الرؤيا أعبرها عبرا وعبارة، وعبرتها تعبيرا.
إذا فسرتها، {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} [يوسف: 44] أي: أحلام مختلطة لا تأويل لها، قال أبو عبيدة: ونراه مأخوذا من الحشيش الذي يجمع، ويقبض عليه بالكف فيقال له: ضغث.
وقال الكلبي: أباطيل أحلام.
وقال قتادة: أخلاط أحلام.
قال ابن الأنباري: إنهم قالوا هذه منامات كاذبة لا يصح تأويلها.
{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ} [يوسف: 44] التي هذا وصفها بِعَالِمِينَ إذ كنا نعلم تأويل ما يصح، وهذا معنى قول أكثر المفسرين، واختيار الزجاج قال: إنهم قالوا له: رؤياك هذه أخلاط وليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل.
قال الكلبي: لما سأل الملك عن رؤياه جثا الساقي بين يديه بعد انقضاء جواب الملأ، فقال للملك: إني قصصت أنا والخباز على رجل في السجن منامين فخبرنا بتأويلهما، فصدق في جميع ما وصف، ولم يسقط من تأويله شيء، فإن أذنت مضيت إليه واتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا.
فذلك قوله: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا} [يوسف: 45] يعني الساقي {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي: تذكر شأن يوسف وما وصاه به بعد حين من الدهر.
قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والأمة: زمان من الدهر طويل، قال عطاء، عن ابن عباس: بعد سنين.
وقوله: {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 45] أي: أن أخبركم به فَأَرْسِلُونِ فأرسل، فأتى يوسف فقال: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ {46} قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ(2/615)
إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ {47} ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ {48} ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ {49} } [يوسف: 46-49] يُوسُفُ يعني يا يوسف {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 46] الكثير الصدق فيما يخبر به، وما بعد ذلك ظاهر إلى قوله تعالى: {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ} [يوسف: 46] يعني: الملك، وأصحابه، والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ كي يعرفوا ذلك، وقيل: لعلهم يعلمون فضلك وعلمك.
قال له يوسف: أما السبع بقرات السمان فإنهم سبع سنين مخصبات وذوات نعمة، وأنتم تزرعون فيها، وهو قوله قَالَ تَزْرَعُونَ أي: فازرعوا {سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} [يوسف: 47] قال ابن عباس: متوالية.
والدأب: استمرار الشيء على عادة، وهو دائب يفعل كذا، أي: استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبا ودأبا، والمعنى: زراعة متوالية في هذه السنين على عادتكم فَمَا حَصَدْتُمْ مما زرعتم {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47] يعني: ما أردتم أكله فدوسوه، ودعوا الباقي في السنبل، لأنه أبقى له وأبعد عن الفساد {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف: 48] يعني: سبع سنين مجدبات، والشداد: الصعاب التي تشتد على الناس يَأْكُلْنَ يذهبن ويفنين {مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} [يوسف: 48] في السنين المخصبة {إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ} [يوسف: 48] تحرزون وتدخرون، والإحصان: إحراز الشيء، قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ} [يوسف: 49] الآية، قال قتادة: زاده الله علم عام لم يسألوه عنه.
وقوله: {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ} [يوسف: 49] يقال: غاث الله البلاد يغيثها غيثا.
إذا أنزل بها الغيث، ومعنى يغاث الناس: يمطرون ويسقون الغيث وَفِيهِ يَعْصِرُونَ من السمسم دهنا، ومن العنب عصيرا، ومن الزيتون زيتا للخصب الذي آتاهم كما كانوا يعصرون أيام الخصب، فلما رجع الرسول إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف عرف الملك أن ذلك التأويل صحيح، فقال: ائتوني الذي عبر رؤياي، فهو قوله: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 50] فجاء الرسول يوسف قال له: أجب الملك، فأبى أن يخرج مع الرسول حتى تبين براءته مما قذف به، فقال للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] يعني: الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف: 50] ما حالهن وشأنهن؟ والمعنى: فاسأل الملك أن يتعرف ويسأل ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي، قال المفسرون: أشفق يوسف من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره، متهم بفاحشة، فأحب أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه.
وقد استحسن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزم يوسف وصبره حين دعاه الملك فلم يبادر، وهو ما روي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له، حين أتاه الرسول فقال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] الآية، ولو كنت مكانه ولبثت في السجن طول ما لبثت لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، وما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة ".
475 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْمُزَكِّي، نا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا مَحْمُودُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أنا(2/616)
خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَطَرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي لأَجَبْتُ»
قال الزجاج: ولم يفرد يوسف امرأة العزيز لحسن عشرة منه وأدب، فخلطها بالنسوة، وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] أي: أنه عالم بذلك وقادر على إظهار براءتي، قال المفسرون: فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {51} ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ {52} وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ {53} } [يوسف: 51-53] مَا خَطْبُكُنَّ ما شأنكن وقصتكن {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] قال ابن الأنباري: جمعهن في السؤال ليعلم عين المراودة.
{قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف: 51] من زنا، أعلمنه براءة يوسف من الزنا، فقالت {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف: 51] أي: ظهر وتبين ووضح وانكشف، قال الفراء: لما دعا النسوة فبرأنه، قالت: لم يبق إلا أن يقبل علي بالتقرير.
فأقرت.
فذلك قولها: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] في قوله {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف: 26] فقال يوسف {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] يقول: ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك إليه في شأن النسوة ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته بالغيب {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] لا يرشد كيد من خان أمانته، يعني: أنه يتضح في العاقبة بحرمان الهداية، ولما قال يوسف: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت بها يا يوسف؟ فقال يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53] قال ابن عباس: وما أزكي نفسي، خاف على نفسه التزكية، وتزكية النفس مما يذم وينهى عنه.
{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] بالقبيح وما لا يحب الله، وذلك لكثرة ما تشتهيه وتنازع إليه {إِلا مَا رَحِمَ} [يوسف: 53] أي: من رحم رَبِّيَ فعصمه مما تدعوه إليه نفسه من القبيح، وما: يقع بمعنى مَن، قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] ، ولما تبين للملك عذر يوسف، وعرف أمانته وكفايته وعلمه وعقله قال: {(2/617)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ {54} قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {55} وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {56} وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ {57} } [يوسف: 54-57] {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف: 54] أجعله خالصا لي لا يشركني فيه أحد فَلَمَّا كَلَّمَهُ قال الكلبي: لما صار يوسف إلى الملك، وكان في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملك حدثا شابا قال للساقي: أهذا يعلم من تأويل رؤياي ما لم يعلمه السحرة ولا الكهنة؟ قال: نعم.
فأقبل على يوسف، وقال: إني أحب أن أسمع تأويل رؤياي منك شفاها، فأجابه يوسف بما شفاه وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قَالَ له الملك {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] قال ابن عباس: يريد مكنتك في ملكي، وجعلت سلطانك فيه كسلطاني، وائتمنتك فيه.
وقال الزجاج: أي: قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما قذفت به.
ولما عبر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا، وتبني الأهرام وتجمع فيها الطعام ليأتيك الخلق من النواحي فيمتارون منك لحكمك، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ ومن يجمعه، ويكفي الشغل فيه؟ فقال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف: 55] يعني: أرض مصر إِنِّي حَفِيظٌ لما وليت عَلِيمٌ بأمره.
قاله قتادة، وقال السدي: حفيظ للحساب عالم بالألسن.
وذلك أن الناس كانوا يفدون على الملك من كل ناحية، ويتكلمون بلغات مختلفة، فقال له الملك: ومن أحق به منك؟ فولاه ذلك كله.
476 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، نا مَخْلَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا الْحَسَنُ بْنُ عَلُّوَيْهِ، نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ، لَوْ لَمْ يَقُلِ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ لَوَلَّاهُ مِنْ سَاعِتِه، وَلَكِنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْهُ سَنَةً "(2/618)
قال أصحاب الأخبار: فأقام في بيت الملك سنة، فلما انصرفت السنة من يوم أن سأل الإمارة دعاه الملك، وتوجه، ورداه بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب، وضرب عليه كلة من إستبرق مكللة بالدر والياقوت، ثم أمره أن يخرج، فخرج متوجا لونه كالثلج، ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه، فانطلق حتى جلس على السرير، ودانت له الملوك، ولزم الملك بيته، وفوض أمره إليه، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوج الملك يوسف براعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال لها: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق، لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في صورتك فغلبتني نفسي، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء، فأصابها، فولدت له ابنين: أفرايم، وميشا ابني يوسف، واستوثق ليوسف ملك مصر.
فذلك قوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف: 56] أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه أقدرنا يوسف على ما يريد في الأرض أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56] هذا تفسير التمكين، وقرأ ابن كثير: نشاء بالنون وذلك أن مشيئة يوسف لما كانت بمشيئة الله وإقداره عليها جاز أن ينسب إلى الله تعالى، وإن كان في المعنى ليوسف {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 56] قال ابن عباس: أتفضل على من أشاء برحمتي.
{وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 56] ثواب الموحدين.
{وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [يوسف: 57] أي: ما يعطي الله تعالى من ثواب الآخرة خير للذين آمنوا، أي: خير مما يعطي الله المؤمنين في الدنيا، والمعنى: أن ما يعطي الله يوسف في الآخرة خير مما أعطاه في الدنيا، وكذلك غيره ممن يسلك طريقه في الصبر على المكاره، وقال أصحاب الأخبار: لما اطمأن يوسف في ملكه، وخلت السنون المخصبة ودخلت سِنُو الجدب، جاءت بهول لم يعهد الناس مثله، وأصاب الناس الجوع، ولما كان بدو القحط بينما الملك نائم أصابه الجوع في نصف الليل، فهتف الملك: يا يوسف الجوع الجوع.
فقال يوسف: هذا أوان القحط.
وكان يوسف لا يمتلئ شبعا من الطعام في تلك الأيام، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف إن شبعت أنسى الجائع.
وقصد الناس مصر يمتارون، وأصاب أرض كنعان، وبلاد الشام من القحط والشدة ما أصاب سائر البلاد، ونزل بيعقوب من ذلك ما نزل بالناس، فأرسل بنيه إلى مصر للميرة، وأمسك بنيامين عنده فلما دخلوا عليه عرفهم يوسف وأنكروه فذلك قوله: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ {58} وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ {59} فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ {60} قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ {61} وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {62} فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ(2/619)
مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {63} قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {64} } [يوسف: 58-64] {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} [يوسف: 58] قال ابن عباس: كان بين أن قذفوه في الجب وبين أن دخلوا عليه أربعون سنة فلذلك أنكروه.
وقال الكلبي: إنه كان متزينا بزي فرعون مصر، عليه ثياب حرير، جالسا على حرير في، عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج فلذلك لم يعرفوه.
وقال عطاء: لم يثبتوه وعليه تاج الملك وحجاب الملك، وعلى هذا إنما لم يعرفوه لأنهم رأوه من وراء ستر.
وقال السدي: لما نظر إليهم يوسف قال لهم: أخبروني ما أمركم؟ قالوا: نحن قوم من أرض الشام جئنا نمتار طعاما.
قال: كم أنتم؟ قالوا: عشرة.
قال: أخبروني خبركم.
قالوا: إنا إخوة بنو رجل صديق وإنا كنا اثنى عشر، فذهب أخ لنا معنا إلى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا.
قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه.
فذلك قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} [يوسف: 59] يقال: جهزت القوم تجهيزا.
إذا هيأت لهم جهازهم للسفر وما يحتاجون إليه، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرا.
{أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} [يوسف: 59] أتمه ولا أبخسه {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [يوسف: 59] خير المضيفين، قال الزجاج: لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم، ثم أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ بمنع الطعام، وهو قوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] لا تقربوا بابي ولا بلادي.
{قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} [يوسف: 61] نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ لضامنون لك المجيء به.
وَقَالَ يوسف لفتيته، قال ابن عباس: لغلمانه.
وقرئ لفتيانه، قال الزجاج: الفتيان والفتية في هذا الموضع المماليك {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف: 62] وقال عطاء: يريد: الدراهم والدنانير التي جاءوا بها.
في رحالهم في أوعيتهم، والرحل: كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن، وقال الضحاك، عن ابن عباس: كانت بضاعتهم النعال والأدم، وإنما أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم لأنهم متى فتحوا أوعيتهم فوجدوا بضاعتهم علموا كرم يوسف وسخاءه فيبعثهم على العود إليه، وقال الكلبي: لخوف ألا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى.
وقيل: رأى لو ما أخذه ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إلى الطعام.
وقال الفراء: لأنهم إذا رأوا بضاعتهم في رحالهم ردوها على يوسف ولم يستحلوا إمساكها ويرجعون.
وذلك قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا لكي يعرفوا بضاعتهم إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا {إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] لكي يرجعوا إلينا {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا} [يوسف: 63] إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته.
وقالوا: {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف: 63] أي: فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا لقوله: {(2/620)
فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} [يوسف: 60] ، {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} [يوسف: 63] بنيامين نَكْتَلْ نأخذ الطعام بالكيل، وقال الزجاج: أي: إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل.
وقرئ بالياء على معنى: يأخذ أخونا بنيامين وقر بعير يكال له {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 63] من أن يصيبه سوء أو مكروه.
قَالَ يعقوب {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 64] يقول: لا آمنكم على بنيامين إلا كأمني على يوسف، يريد: أنه لم ينفعه ذلك الأمن، وأنهم خانوه، فهو وإن أمنهم في هذا خاف خيانتهم أيضا، ثم قال: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [يوسف: 64] أي: من حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم، والمعنى: حفظ الله خير من حفظكم ومن قرأ {حَافِظًا} [يوسف: 64] فالمعنى: حافظ الله خير من حافظكم لأن الله سبحانه له حفظه فحافظه خير من حافظكم، كما أن حفظه خير من حفظكم، قال كعب: لما قال يعقوب: فالله خير حافظا.
قال الله عز وجل: وعزتي لأردن عليك كليهما بعد ما توكلت علي.
قوله: {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ {65} قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ {66} } [يوسف: 65-66] {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ} [يوسف: 65] يعني: أوعية الطعام وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ التي حملوها لثمن الطعام {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي} [يوسف: 65] ، ما استفهام، والمعنى: أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا؟ ويجوز أن يكون نفيا كأنهم قالوا: ما نبغي شيئا {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65] أي: لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها إليه، بل تكفينا في الرجوع إليه بضاعتنا هذه، وأرادوا بهذا الكلام أن يطيبوا نفس أبيهم على الإذن لهم بالمعاودة، وقوله: وَنَمِيرُ أَهْلَنَا أي: نجلب إليهم الطعام، يقال: مار أهله يميرهم ميرا.
إذا أتاهم بطعام وَنَحْفَظُ أَخَانَا بنيامين {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [يوسف: 65] على هذا الرجل الذي نأتيه لسخائه وحرصه على البذل، قَالَ يعقوب لهم: لن أرسل بنيامين معكم {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 66] حتى تعطوني عهدا موثوقا به من جهة إشهاد الله والقسم به، والمعنى: حتى تحلفوا بالله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ لتردنه إلي {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] قال مجاهد: إلا أن تموتوا كلكم.
قال ابن إسحاق: إلا أن يصيبكم أمر يذهب بكم جميعا فيكون ذلك عذرا لكم عندي.
والعرب تقول: أحيط بفلان.
إذا دنا هلاكه، ومنه قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي: أصابه ما أهلكه {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} [يوسف: 66] فلما أعطوه اليمين والعهد قَالَ يعقوب: {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [يوسف: 66] قال ابن عباس: شهيد.
وذلك أن الشهيد وكيل بمعنى: أنه موكول إليه القيام بما أشهد عليه، ولما تجهز بنوه للمسير، قال يعقوب: {(2/621)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ {67} وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ {68} وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {69} } [يوسف: 67-69] {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا} [يوسف: 67] يعني مصر {مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] وإنما قال ذلك حذرا من العين عليهم إذ كانت العين حقا، وكانوا أولي جمال وكمال وأبناء رجل واحد يجتمعون في الحسن والظاهرة والقامات الممتدة، ثم قال: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] يعني: أن الله إن شاء أهلكهم متفرقين، والمعنى: لن أدفع عنكم شيئا قضاه الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ} [يوسف: 67] ما الحكم فيما يقضي ويريد إلا لله، ثم ذكر أنه متوكل عليه بباقي الآية.
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [يوسف: 68] كان لمصر أربعة أبواب، فدخلوا من أبوابها كلها كما أمرهم أبوهم {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 68] قال ابن عباس: ما كان ذلك ليرد قضاء قضاه الله تعالى.
يعني: أن العين لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين، وهذا تصديق ليعقوب في قوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] ، قوله: {إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] يعني: أن ذلك الدخول من الأبواب المتفرقة قضى حاجة في نفس يعقوب وهي إرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم وخوفا من العين {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} [يوسف: 68] وإن يعقوب لذو يقين ومعرفة بالله لِمَا عَلَّمْنَاهُ من أجل تعليمنا إياه، مدحه الله بالعلم لقوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67] علم أن الحذر لا ينفع من القدر، وأن المقدور كائن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 68] قال ابن عباس: لا يعلم المشركون ما ألهم الله أولياءه، ولما أقدموا أخاهم عليه، قالوا له: قد امتثلنا أمرك، وأقدمنا عليك أخانا الذي أحببت حضوره، فأمر صاحب ضيافته أن ينزل كل اثنين منهم في منزل، فبقى أخوه منفردا، فأنزله معه فذلك قوله {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] قال الحسن، وقتادة: ضمه إليه وأنزله معه.
ولما خلا به قال له: ما اسمك؟ قال: بنيامين، قال: ما اسم أمك؟ قال: راحيل، قال: هل لك أخ من أمك؟ قال: كان لي أخ من أمي هلك قال: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال بنيامين: أيها الملك ومن يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه و {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} [يوسف: 69] يوسف {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 69] لا تحزن ولا تغتم بما عملوا من حسدنا، والحرص على صرف وجه أبينا عنا، وعلى ما أدخلوا عليك من الحزن بما فعلوا بي، فقد جمع الله بيني وبينك وأرجو أن يجمع الله بيننا وبين يعقوب، ثم أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لهم بعيرا بعيرا وحمل لبنيامين بعيرا باسمه، كما حمل لهم وأمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين فذلك قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ {70} قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ {71} قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ(2/622)
زَعِيمٌ {72} قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ {73} قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ {74} قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ {75} فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ {76} قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ {77} قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {78} قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ {79} } [يوسف: 70-79] {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] والسقاية: الصواع الذي كان يشرب فيه الملك، قال ابن عباس: كان قدحا من زبرجد.
وقال ابن زيد: كان كأسا من ذهب.
وقال عكرمة: كان مشربة من فضة مرصعة بالجواهر.
قال أصحاب الأخبار: لما قال يوسف لبنيامين: إني أنا أخوك، قال: فأنا لا أفارقك بعد هذا.
قال يوسف: قد علمت اغتمام الوالد بي وأنا إن حبستك عنه ازداد غمه ولا يمكنني حبسك إلا بعد أن أشهرك بأمر فظيع.
قال: لا أبالي، فافعل ما بدا لك.
قال: فإني أدس صاعي هذا في رحلك، ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك.
فذلك قوله: {جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70] وكان مشربة يشرب منها الملك جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها، ثم ارتحلوا، وأمهلهم يوسف حتى أمعنوا في الطلب، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} [يوسف: 70] نادى مناد وأعلم معلم: أَيَّتُهَا الْعِيرُ قال الزجاج: معناه: يا أصحاب العير وكل ما أشير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير.
إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ناداهم المنادي وعنده: أنهم قد سرقوا السقايا، ولم يعلم أن يوسف أمر بوضعها في رحل أخيه.
قَالُوا يعني: أصحاب العير وهم إخوة يوسف وَأَقْبَلُوا على أصحاب يوسف: مَاذَا تَفْقِدُونَ ما الذي فقدتموه من متاعكم {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72] قال الزجاج: الصواع: هو الصاع بعينه وهو يذكر ويؤنث وهو السقاية.
وقال الحسن: الصواع والسقاية شيء واحد.
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ} [يوسف: 72](2/623)
الصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] كفيل، يقول المؤذن وقد ضمن حمل بعير لمن رد إليه الصواع، {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [يوسف: 73] حلفوا على علم قوم يوسف لأنهم غير قاصدين لفساد لأنهم كانوا معروفين بأنهم لا يظلمون أحدا، وذلك أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم لم يستحلوا أخذها، وبادروا بردها وذلك قوله: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73] ومن رد ما وجد كيف يكون سارقا.
{قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ} [يوسف: 74] أي: ما جزاء الَّسِرِق {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] في قولكم: وما كنا سارقين؟ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] قال المفسرون: كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته وكان ذلك لهم كالقطع في شرعنا.
لذلك {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] أي: جزاء السَّرِقِ السارق، وهو الإنسان الذي وجد المسروق في رحله، وقوله: فَهُوَ جَزَاؤُهُ زيادة في الإبانة كَذَلِكَ مثل ما ذكرنا من الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ يعني: إذا سرق استرقّ، فقال لهم المؤذن: لا بد من تفتيش أمتعتكم.
وانصرف بهم إلى يوسف، فَبَدَأَ يوسف في التفتيش {بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] لإزالة التهمة ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا يعني السقاية {مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} [يوسف: 76] قال المفسرون: ولما فتش أوعيتهم ولم يبق إلا رحل بنيامين، قال يوسف: ما أظن هذا أخذ شيئا.
فقال إخوته: والله لا نبرح حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك.
فلما فتحوا متاعه استخرجوا الصاع منه، فأقبلوا على بنيامين، وقالوا: إيش الذي صنعت؟ فضحتنا وسودت وجوهنا متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: وضع هذا الصاع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم.
وقوله: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76] أي: دبرنا له بأن ألهمناه أن يجعل السقاية في رحل أخيه ليتوصل به إلى حبسه مَا كَانَ يوسف {لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76] قال ابن عباس وقتادة: في حكم الملك وقضائه، وذلك أن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فلم يكن يتمكن يوسف من حبس أخيه عنده في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطفا، حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجرى على السنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فأقروا به وكان ذلك مراده وهو معنى قوله: {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76] فكان ذلك بمشيئة الله، وقوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] أي: بضروب الإعطاء والكرامات وأبواب العلوم كما رفعنا درجة يوسف {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} [يوسف: 76] ممن رفعه الله عَلِيمٌ قد رفعه الله بالعلم فهو أعلم منه، قال ابن عباس: يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى.
قَالُوا أي: الإخوة ليوسف إِنْ يَسْرِقْ بنيامين الصواع {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77] قال ابن عباس: يريدون يوسف، وكان يوسف يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرا فيتصدق به.
وقال سعيد بن جبير، وقتادة: سرق صنما لجده أبي أمه فكسره وألقاه، وقال محمد بن إسحاق، ومجاهد: إن جدته خبأت في ثيابه منطقة كانت لإسحاق يتوارثونها بالكبر لتملكه بالسرق محبة لمقامه عندها.
وقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77] أي: أسر إجابة(2/624)
هذا الكلام وأضمرها في نفسه ولم يظهرها، وقَالَ لهم {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف: 77] شر صنيعا بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم، فأنتم شر مكانا عند الله منه {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] قال الزجاج: أعلم أسرق أخ له أم لا.
{قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78] في السن {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف: 78] واحدا منا تستعبده بدله {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 78] أي: إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا.
{قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف: 79] اعتصاما بالله {أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] أي: استعيذ بالله من أن آخذ بريئا بسقيم {إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف: 79] إن استعبدت غير الذي سرقَنا.
{فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ {80} ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ {81} وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ {82} } [يوسف: 80-82] {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} [يوسف: 80] يئس واستيئس واحد مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر، وقال ابن عباس: يئسوا أن يخلى سبيله معهم.
خَلَصُوا نَجِيًّا انفردوا من غير أن يكون معهم من ليس منهم، والنجي فعيل بمعنى المناجي، يقع على الواحد كقوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] ، وعلى الجمع كقوله: خلصوا نجيا قال الزجاج: انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يفعلون في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم قَالَ كَبِيرُهُمْ وهو يهوذا في قول عطاء، والكلبي، وقال مقاتل: لم يكن أكبرهم سنا ولكن كان أكبرهم في صحة الرأي.
وقال مجاهد: هو شمعون، وكان أكبرهم في العقل والعلم.
وقال قتادة، والسدي: هو روبيل، وكان أكبرهم سنا، قال {أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} [يوسف: 80] في حفظ الأخ ورده إليه {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} [يوسف: 80] : ما لغو معناه: ومن قبل هذا ضيعتم يوسف {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ} [يوسف: 80] يقال: برح الرجل براحا.
إذا تنحى عن موضعه، ويريد بالأرض أرض مصر، يقول: لن أخرج من أرض مصر {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80] قال ابن عباس: حتى يبعث لي أبي أن آتيه {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} [يوسف: 80] يقضي في أمري شيئا {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80] أعدلهم(2/625)
وأفضلهم.
ارْجِعُوا أنتم {إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ} [يوسف: 81] بنيامين سَرَقَ صواع الملك وَمَا شَهِدْنَا بأنه سرق {إِلا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] لأنه وجد المسروق في رحله ونحن ننظر {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] قال ابن عباس: لم نعلم ما كان يصنع في ليله ونهاره.
والمعنى: ما كنا لغيب ابنك حافظين، أي: إنا كنا نحفظه في محضره فإذا غاب عنا ذهب عن حفظنا، وقال مجاهد، وقتادة، والحسن: ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق ويصير الأمر إلى هذا، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به، وقال ابن إسحاق: معناه: قد أخذت السرقة من رحله ونحن ننظر، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه.
قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] أي: قولوا لأبيكم سل أهل القرية ليتبين لك صدقنا {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] يعني: أهل الرفقة التي كنا فيها، وهم الذين امتاروا معهم، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فيما قلنا ثم رجعوا إلى يعقوب، وقالوا ما لقنهم كبيرهم فقال يعقوب: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {83} وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ {84} قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ {85} قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {86} يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {87} } [يوسف: 83-87] {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83] قال ابن الأنباري: يعني خروجهم بأخيهم بنيامين إلى مصر رجاء منفعة فعاد من ذلك شر وضرر.
وقال غيره: معنى قوله ههنا: {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 83] خيلت لكم أنفسكم أنه سرق، وما سرق.
أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العدل، أنا محمد بن عبد الله الضبي، أنا أبو بكر بن أبي نصر الداربردي، نا محمد بن إبراهيم بن سعيد، نا سليمان بن منصور بن عمار، حدثني أبي، نا يوسف بن صباح الفزاري، عن عبد الله بن يونس بن أبي فروة، قال: لما كان من الإخوة ما كان كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف بن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله، أما بعد: فإنا أهل بيت موكل بالبلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية، ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت(2/626)
عيناي، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا، فإن رددته إلي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره.
وقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] يعني: يوسف، وبنيامين، والذي قال: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} [يوسف: 100] بشدة حزني الْحَكِيمُ فيما حكم علي بهذا الحزن وعظم المصيبة بابن بعد ابن، قوله: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ قال ابن عباس: أعرض عنهم.
وذلك أنه لما بلغه خبر حبس بنيامين تنامى حزنه، وبلغ الجهد، وهاج ذلك وجده بيوسف لأنه كان يتسلى به، فعند ذلك أعرض عنهم {وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف.
أخبرني أبو عمرو محمد بن عبد العزيز المروزي في كتابه، أنا أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي، أنا أبو يزيد محمد بن يحيى، أنا إسحاق بن إبراهيم، أنا محمد بن عبيد، عن سفيان بن زياد العصفري، قال: سمعت سعيد بن جبير، يقول: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة ما لم يعط الأنبياء قبلهم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفي على يوسف.
وقوله: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ} [يوسف: 84] أي: انقلبت إلى حال البياض، قال مقاتل: لم يبصر بها ست سنين حتى كشفه الله بقميص يوسف.
وقوله: {مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84] قال ابن عباس: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه والحزن لما كان سببا للبكاء سمي البكاء حزنا.
أخبرنا أبو منصور بن أبي نصر المذكر، أنا أبو سعيد بن نصير الصوفي، أنا محمد بن أيوب، أنا أبو غسان، نا جرير، عن ليث، عن ثابت البناني قال: دخل جبريل على يوسف فقال: أيها الملك الطيب ريحه الطاهر ثيابه الكريم على ربه، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم.
قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه.
قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى.
قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد عند الله.
أخبرنا أبو بكر التميمي، أنا أبو الشيخ الحافظ، نا أبو يحيى الرازي، نا سهل بن عثمان، نا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة وما جفت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على الله منه حين ذهب بصره.
وقوله: فَهُوَ كَظِيمٌ الكظيم ههنا بمعنى: الكاظم وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ولا يشكوه، قال قتادة: فلا يقول بأسا.
وقال ابن عباس: مغموم مكروب.
وقال الزجاج: محزون.
{قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] يقال:(2/627)
ما زلت أفعل كذا وما فتئت أفعله أفتؤ فتأ.
وحرف النفي ههنا مضمر على معنى: ما تفتؤ ولا تفتؤ، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: لا تزال تذكر يوسف حتى تكون حرضا، وقال الفراء: يقال رجل حرض وحارض.
وهو الفاسد في جسمه وعقله.
وقال الأصمعي: الحرض الهالك.
قال ابن عباس: حتى تكون كالشيخ الفاني.
وقال الضحاك: كالشن البالي.
{أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85] قال قتادة: من الميتين.
والمعنى أنهم قالوا لأبيهم: لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه أو تموت بالغم، فلما رأى غلظتهم وعنفهم به {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] لا إليكم.
477 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَصْفَهَانِيُّ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ، نا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، نا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عُمَرَ الأَحْمَسِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كَانَ لِيَعْقُوبَ أَخٌ مُؤَاخٍ فَقَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا يَعْقُوبُ مَا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرَكَ؟ وَمَا الَّذِي قَوَّسَ ظَهْرَكَ؟ قَالَ: أَمَّا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرِي فَالْبُكَاءُ عَلَى يُوسُفَ، وَأَمَّا الَّذِي قَوَّسَ ظَهْرِي فَالْحُزْنُ عَلَى بِنْيَامِينَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَمَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَشْكُوَ إِلَى غَيْرِي؟ فَقَالَ يَعْقُوبُ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَشْكُو يَا يَعْقُوبُ، ثُمَّ قَالَ يَعْقُوبُ: أَيْ رَبِّ أَمَا تَرْحَمُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ؟ أَذْهَبْتَ بَصَرِي وَقَوَّسْتَ ظَهْرِي فَارْدُدْ عَلَيَّ رَيْحَانَتِي أَشُمُّهُ شَمَّةً قَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ اصْنَعْ بِي يَا رَبِّ مَا شِئْتَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ وَيَقُولُ: أَبْشِرْ وَلْيَفْرَحْ قَلْبُكَ فَوَعِزَّتِي لَوْ كَانَ مَيِّتَيْنِ لَنَشَرْتُهُمَا لَكَ، اصْنَعْ طَعَامًا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ الْمَسَاكِينُ، وَتَدْرِي لِمَ أَذْهَبْتُ بَصَرَكَ وَقَوَّسْتُ ظَهْرَكَ وَصَنَعَ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِيُوسُفَ مَا صَنَعُوا؟ لأَنَّكُمْ ذَبَحْتُمْ شَاةً فَأَتَاكُمْ فُلانٌ الْمِسْكِينُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمْ تُطْعِمُوهُ مِنْهَا، فَكَانَ يَعْقُوبُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْغَدَاءَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَلَا مَنْ أَرَادَ الْغَدَاءَ مِنَ الْمَسَاكِينِ فَلْيَتَغَدَّ مَعَ يَعْقُوبَ، وَإِذَا كَانَ صَائِمًا أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: مَنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُفْطِرْ مَعَ يَعْقُوبَ ".
رَوَاهُ الْحَاكِم فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْفَقِيهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ(2/628)
وقال حبيب بن أبي ثابت: إن يعقوب كبر وضعف حتى سقط حاجباه على عينيه، فكان يرفعهما بخرقة، فقال له بعض جيرانه: قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك فما بلغ بك ما أرى؟ قال: طول الزمان وكثرة الأحزان.
فأوحى الله إليه: يا يعقوب، تشكوني إلى خلقي؟ فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
قال: غفرت لك.
فكان بعد ذلك إذا سئل قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] .
وقال وهب بن منبه: أوحى الله إلى يعقوب أتدري لما عاقبت وحبست يوسف ثمانين سنة؟ قال: لا.
قال: لأنك شويت وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه.
ويقال: إن سبب ابتلاء يعقوب أنه كانت له بقرة ولها عجل فذبح عجلها بين يديها وهي تخور، فلم يرحمها يعقوب فأخذه الله به وابتلاه بأعز ولده، والبث أشد الحزن وهو ما يبديه الإنسان ويظهره لأنه إذا اشتد لم يصبر على كتمانه حتى يبثه، من قولهم: بث الحديث.
إذا نشره.
وقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] أنتم، قال الكلبي: وذلك أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف فيما قبضت من الأرواح؟ قال: لا يا نبي الله.
وقال ابن عباس: وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له.
وقال عطاء: وأعلم من رحمة الله وقدرته ما لا تعلمون.
قال السدي: لما أخبر يعقوب بنوه بسيرة ملك مصر طمع أن يكون يوسف فلذلك قال لبنيه {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87] .
قال أبو عبيد: تحسست الخبر: بحثته وطلبته لأجده.
وقال ابن عباس: ابحثوا عن يوسف.
{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 87] قال الأصمعي: الروح الاستراحة من غم القلب.
وقال أبو عمرو: الروح الفرح.
قال ابن عباس: يريد من رحمة الله.
وهو قول قتادة، والضحاك، وقال أبو زيد: فرج الله.
والمعنى: لا تيئسوا من الروح الذي يأتي به الله {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] قال ابن عباس: يريد: أن المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد، ويشكره ويحمده في الرخاء، وأن الكافر ليس كذلك، قال المفسرون: لما قال أبوهم اذهبوا فتحسسوا من يوسف فخرجوا إلى مصر، {(2/629)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ {88} قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ {89} قَالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {90} قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ {91} قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {92} اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأَتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ {93} } [يوسف: 88-93] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} [يوسف: 88] أي: على يوسف {قَالُوا يَأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: 88] أي: أصابنا ومن يختص بنا الجوع والحاجة {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ} [يوسف: 88] الإزجاء في اللغة: السوق والدفع قليلا قليلا، ومنه قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا} [النور: 43] قال ابن عباس: كانت دراهم رديئة زيوفا لا تنفق في ثمن الطعام.
وقال الحسن، والكلبي، ومجاهد: كانت خلق الغيار والحبل والأقط، وقال مقاتل: وكانت حبة الخضراء.
والمعنى: جئنا ببضاعة تتدافع بها الأيام وتتقوت ليست مما يتسع به، وقال أبو عبيد: إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها.
ثم سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطى بالجياد، وهو قوله: {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ} [يوسف: 88] أتمه ولا تنقصه بسبب رداءة دراهمنا وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا سامحنا بما بين النقدين وسعر لنا بالرديء كما تسعر بالجيد {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88] بالثواب فلما قالوا ليوسف: مسنا وأهلنا الضر رحمهم، وأدركته الرقة فدمعت عينه وقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} [يوسف: 89] قال ابن الأنباري: هذا الاستفهام يعني به تعظيم القصة وتوبيخهم عليها، ومعناه: ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أتيتم من قطيعة رحمه وتضييع حقه كما تقول: هل تدري من عصيت؟ وهذه الآية تصديق قوله: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} [يوسف: 15] ، وقوله: وَأَخِيهِ يعني: ما فعلوه به بإدخال الهم والجزع بإفراده عن أخيه، ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغم بفراقه تعظيما ورفعا من قدره، وعلما أن ذلك كان له بلاء من الله ليزيد في درجته عنده، وقوله: {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89] أي: بعقوق أبيكم وقطع رحم أخيكم، يعني فعلتم ذلك جهلا منكم، وروي عن ابن عباس: إذ أنتم صبيان.
وعن الحسن: شبان.
وعلى هذا يراد جهالة الصبي فالشاب، قال الضحاك: لما قال لهم يوسف: هل علمتم الآية، تبسم فلما أبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف، فقالوا له: {أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ(2/630)
أَنَا يُوسُفُ} [يوسف: 90] قال ابن الأنباري: أظهر الاسم ولم يقل: أنا هو تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته، كأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني.
ولهذا قال: وَهَذَا أَخِي وهم يعرفونه لأن قصده: وهذا المظلوم كظلمي {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 90] قال ابن عباس: بكل خير في الدنيا والآخرة.
قال آخرون: بالجمع بيننا بعد التفرقة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] قال ابن عباس: من يتق الله ويصبر على المصائب وعن المعاصي.
وقال مقاتل: من يتق الزنا ويصبر على الأذى.
{فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] أجر من كان هذا حاله.
{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91] بالعلم والحلم والعقل والحسن والملك {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91] قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك.
{قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] لا تعيير ولا توبيخ، يقال: ثربه.
إذا عيره، وروى ابن الأنباري، عن ثعلب: ثرب فلان على فلان إذا عدد عليه ذنوبه.
قال ابن عباس: يريد لا لوم عليكم.
وقال الكلبي: لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدا.
وقال ابن الأنباري: أي: قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب.
ويجوز الوقف عند الأخفش على قوله: عليكم ثم يقول: {الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف: 92] فيعلق اليوم بالغفران، وذكره ابن الأنباري أيضا، قال ابن عباس: جعلهم في حل وسأل الله لهم المغفرة، وأخبرنا أن الله أرحم بأوليائه من الوالدين بولدهما.
وهو قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ قالوا: ذهبت عيناه.
فأعطاهم قميصه، فهو قوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} [يوسف: 93] الآية.
وكان من شأن ذلك القميص ما
478 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو لُبَابَةَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَهْدِيِّ، نا عَمَّارُ بْنُ الْحَسَنِ، نا شُجَاعُ بْنُ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَمَّا قَوْلُهُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَإِنَّ نُمْرُوذَ الْجَبَّارَ لَمَّا أَلْقَى إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارَ نَزَلَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَمِيصٍ مِنَ الْجَنَّةِ وَطِنْفِسَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَعَدَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ فَكُسِيَ إِبْرَاهِيمُ ذَلِكَ الْقَمِيصَ إِسْحَاقَ، وَكَسَاهُ إِسْحَاقُ يَعْقُوبَ، وَكَسَاهُ يَعْقُوبُ يُوسُفَ فَجَعَلَهُ فِي قَصَبَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ، فَأُلْقِيَ فِي الْجُبِّ وَالْقَمِيصُ فِي عُنُقِهِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} [يوسف: 93] الآية
ونحو هذا قال عامة المفسرين، قال ابن عباس: أخرج لهم قصبة من فضة كانت في عنقه لم يعلم بها إخوته(2/631)
فيها قميص، وهو الذي نزل به جبريل على إبراهيم.
وذكر القصة، وقال مجاهد: أمره جبريل أن أرسل إليه قميصك فإن فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا صح وعوفي، وقال الحسن: لولا أن الله أعلمه لم يدر أنه يرجع إليه بصره.
فذلك قوله: {يَأْتِ بَصِيرًا} [يوسف: 93] .
قال ابن عباس: يرتد بصيرا ويذهب البياض الذي على عينيه.
وقال السدي: يعد بصيرا.
وقال الفراء: يرجع بصيرا.
وقوله: {وَأَتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] قال الكلبي: وكان أهله نحوا من سبعين إنسانا، وقال مسروق: دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من رجل وامرأة.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ {94} قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ {95} فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {96} قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ {97} قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {98} } [يوسف: 94-98] قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ} [يوسف: 94] يقال: فصل فلان من عند فلان فصولا.
إذا خرج من عنده، قال المفسرون: لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قَالَ أَبُوهُمْ لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده وأولاده كانوا غائبين عنه {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] قال ابن عباس: هاجت ريح فحملت قميص يوسف إلى يعقوب وبينهما مسيرة ثماني ليال، وقال مجاهد: هبت ريح فضربت القميص ففاحت روائح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] وذكر في القصة: أن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص فأذن لها، فأتته بها ولذلك يستروح كل محزون بريح الصبا، ويتنسمها المكربون فيجدون لها روحا، وقد أكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم، وهي تأتي من ناحية الشرق، وفيها لين إذا هبت على الأبدان نعمتها ولينتها، وهيجت الأشواق إلى الأحباب، والحنين إلى الأوطان، قال أبو صخر الهذلي:(2/632)
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر
وقال آخر:
أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلي نسيمها
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على نفس مهموم تجلت همومها
وقال آخر:
ولقد تهب لي الصبا من أرضها ... فيلذ مس هبوبها ويطيب لي
يندي على كبدي وينقح غلتي ... ويبل حر فؤادي المشتعل
479 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيُّ، نا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، نا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، أنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ ضِرَارِ بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي الْهُذَيْلِ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] ، قَالَ: وَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ مَا بَيْنَ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ
وقوله: {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] الفند: ذهاب العقل من الهرم، يقال: أفند الرجل.
إذا خرف وتغير عقله، وفنده إذا نسبه إلى الجهل والخرق، قال أبو عبيدة: لولا أن تسفهوني.
وقال الزجاج: لولا أن تجهلوني.
وقال مجاهد: لولا أن تقولوا ذهب عقلك.
{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] قال مقاتل، وغيره: معنى الضلال ههنا الشقاء.
يعنون: شقاء الدنيا وهو ما يكابد من الأحزان على يوسف، وقال قتادة: في حبك ليوسف ما تنساه ولا تسلاه.
وهذا كقوله: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8] وقد مر، وقال الحسن: إنما قالوا هذا لأنه كان عندهم أن يوسف قد مات، وأن يعقوب بولوعه بذكره ذاهب عن الصواب.
قوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} [يوسف: 96] الآية، قال المفسرون: البشير كان يهوذا بن(2/633)
يعقوب، قال: إني جئته بالقميص ملطخا بالدم فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حي فأفرحه كما أحزنته، فحمل القميص وخرج حاسرا حافيا يعدو، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها حتى بلغ كنعان، وكانت المسافة ثمانين فرسخا، فلما أتى أباه {أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} [يوسف: 96] قال الضحاك: رجع إليه بصره بعد العمى، وقوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم، وسروره بعد الحزن.
وقال ابن عباس: في قوله فارتد بصيرا انجلى البياض وذهبت الظلمة.
ومعنى الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمعنى: عاد ورجع إلى حال البصر.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الأصبهاني، أنا عبد الله بن محمد بن حيان، نا عبد الرحمن بن محمد الرازي، نا سهل العسكري، نا يحيى بن يمان، عن سفيان، قال: لما جاء البشير يعقوب قال: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة.
وقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 96] تقدم تفسيره، ثم سألوا أباهم أن يستغفر الله لهم ما آتوا إليه من إدخال الحزن عليه، وهو قوله: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا} [يوسف: 97] الآية، قَالَ يعقوب {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ} [يوسف: 98] قال ابن عباس: أخر دعاءه إلى السحر، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والسدي، وقال في رواية الكلبي، وعكرمة: يقول حتى تأتي يوم الجمعة.
قال الزجاج: أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وجه السحر في الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدعاء، لا لأنه ضن عليهم بالاستغفار.
480 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ: لِمَ أَخَّرَ يَعْقُوبُ عَنْ بَنِيهِ الاسْتِغْفَارَ؟ قَالَ: «أَخَّرَهُمْ إِلَى السَّحَرِ لأَنَّ دُعَاءَ السَّحَرِ مُسْتَجَابٌ»
قالوا: وكان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله وولده أجمعين، فتهيأ يعقوب للخروج إلى مصر، فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الأكبر الذي فوقه، فخرج يوسف في أربعة من الجند، وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب، فلما نظر يعقوب إلى الخيل قال لابنه يهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنك.
فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه قصد يوسف أن يبدأه بالسلام، فمنع من ذلك، وكان يعقوب أفضل وأحق بذلك منه، فابتدأ يعقوب بالسلام، فقال: السلام عليك يا مذهب الأحزان.
481 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصُّوفِيُّ الْكُوفِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ، نا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ(2/634)
بْنِ الْحَسَنِ بْنِ قُتَيْبَةَ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْمُسْتَمْلِي، نا بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ يُوسُفَ وَيَعْقُوبَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ أَقْبَلَ يُوسُفُ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ حَزِنْتَ عَلَيَّ حَتَّى انْحَنَيْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَالَ: بَكَيْتَ عَلَيَّ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقِيَامَةَ تَجْمَعُنِي وَإِيَّاكَ؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يُسْلَبَ دِينُكَ فَلا نَجْتَمِعُ
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ {99} وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {100} } [يوسف: 99-100] وذلك قوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 99] ضمهما إليه وأنزلهما عنده؟ قال عامة المفسرين: يعني أباه وخالته، وذلك أن أمه كانت قد ماتت في نفاسها ببنيامين، فقال لهم قبل دخولهم مصر {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] والاستثناء يعود إلى الأمن، وإنما قال: آمنين لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوارهم.
قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] أي: أجلسهما معه على سرير الملك {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] كان تحية الناس يومئذ بعضهم لبعض السجود والانحناء والتواضع، وكأنهم لم يكونوا نهوا عن السجود لغير الله تعالى في شريعتهم، فلما رأى ذلك يوسف قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي} [يوسف: 100] أي: إلي، يقال: أحسن بي وإلي.
قال كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت
{إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] ولم يذكر إخراجه من البئر كرما لئلا يذكر إخوته صنيعهم به بعد قوله: {لا تَثْرِيبَ(2/635)
عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92] ، {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [يوسف: 100] والبدو البسيط من الأرض يقال: بدو وحضر، قال قتادة: كان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش وبرية {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض، وقال ابن عباس: دخل بيننا بالحسد.
{إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100] قال الأزهري: اللطيف من أسماء الله معناه: الرفيق بعباده، يقال: لطف فلان بفلان، يلطف.
إذا رفق به لطفا.
وقال عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصل إليك إربك في رفق.
قال أهل التفسير: إن ربي عالم بدقائق الأمور.
{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ} [يوسف: 100] بخلقه الْحَكِيمُ فيهم بما يشاء، ثم إن يعقوب أقام بمصر بعد موافاته بأهله وولده أربعا وعشرين سنة بأغبط حال، وأهنأ عيش إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى إلى يوسف أن يحمل جسده إلى الأرض المقدسة حتى يدفنه عند أبيه وجده، ففعل ذلك يوسف، وكان عمر يعقوب مائة وسبعا وأربعين سنة، ولما جمع الله ليوسف شمله، وأقر له عينه، وأتم تأويل رؤياه دعا ربه وشكره وحمده، فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101] {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101] قال الباقر: آتى الله يوسف ملك الأرض المقدسة فملك اثنتين وسبعين سنة {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف: 101] يعني: تفسير الأحلام {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يوسف: 101] قال ابن عباس: يريد: خالق السموات والأرض، ومن هذا قوله: {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس: 22] أي: خلقني {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [يوسف: 101] أنت الذي تلي أمري تَوَفَّنِي مُسْلِمًا قال ابن عباس: يريد: لا تسلبني الإسلام حتى تتوفاني عليه.
وقال قتادة: سأل ربه اللحوق به.
قال: ولم يتمن نبي قبله الموت.
وقوله وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ يعني: بالنبيين من آبائه، والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم ودرجاتهم، ثم مات يوسف وأوصى إلى أخيه يهوذا، ودفن في نيل مصر في صندوق من رخام، وذلك أنه لما مات تشاح الناس عليه كل يحب أن يدفن في محلته لما يرجون من بركته، فرأوا أن يدفنوه في النيل فيمر الماء عليه ثم يصل إلى جميع مصر، فيكون كلهم فيه شركاء، فكان قبره في النيل إلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان، قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ {102} وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ {103} وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ {104} وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ {105} وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ(2/636)
مُشْرِكُونَ {106} أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ {107} } [يوسف: 102-107] {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [يوسف: 102] أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك فأنزلته عليك دلالة على إثبات نبوتك {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} [يوسف: 102] عند إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102] عزموا على أمرهم وَهُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف.
قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} [يوسف: 103] الآية، قال ابن الأنباري: وإن قريشا واليهود سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قصة يوسف وإخوته فشرحها شرحا وافيا وهو يؤمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم، فخالفوا ظنه، وحزن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فعزاه الله بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] قال الزجاج: معناه: وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم لأنك {لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] .
{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [يوسف: 104] على القرآن وتلاوته عليهم وهدايتك إياهم من مال يعطونك إِنْ هُوَ ما هو {إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104] تذكرة لهم بما هو صلاحهم ونجاتهم من النار.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ} [يوسف: 105] وكم من آية {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يوسف: 105] تدلهم على توحيد الله من: أمر السماء وأنها بغير عمد، فيها أعظم البرهان على أن لها خالقا، وكذلك فيما يشاهد في الأرض من جبالها ونباتها وبحارها يَمُرُّونَ عَلَيْهَا يتجاوزونها غير مفكرين ولا معتبرين بها، ولما سمع المشركون هذا قالوا: إنا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء، فأنزل الله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} [يوسف: 106] أي: إقرار بأن الله خلقه وخلق السموات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الوثن، والمعنى: أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم ورازقهم، ويجعلون له شركاء من الأصنام، وهو قوله: {إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] ليس يراد بقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} [يوسف: 106] حقيقة الإيمان ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون، ثم خوفهم فقال: أَفَأَمِنُوا يعني المشركين {أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} [يوسف: 107] عقوبة تغشاهم وتتسلط عليهم {أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ} [يوسف: 107] القيامة بَغْتَةً فجأة، يقال: بغتهم الأمر بغتا وبغتة.
إذا فاجأهم {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 107] بإتيانها.
قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ {108} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ {109} حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {110} } [يوسف: 108-110] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] قل يا محمد للمشركين: هذه الدعوة التي أدعوا إليها والطريقة التي أنا عليها سبيلي، سنتي ومنهاجي وديني {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا} [يوسف: 108] على دين ويقين، والبصيرة المعرفة التي يميز بها الحق من الباطل وَمَنِ اتَّبَعَنِي قال الفراء: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو.
وهذا قول الكلبي قال: حق على من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله.
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: الله ثم ابتدأ فقال: على بصيرة أنا ومن اتبعني، وهذا معنى قول ابن عباس، قال: يعني أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا على أحسن طريقة، وقوله: وَسُبْحَانَ الله أي: قل هذه سبيلي، وقل سبحان الله تنزيها لله عما أشركوا {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108] الذين اتخذوا مع الله ندا وكفؤا وولدا، قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا} [يوسف: 109] هذا رد لإنكارهم نبوته، يقول: لم نبعث قبلك إلا(2/637)
رجالا فكيف تعجبوا من إرسالنا إياك ومن قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك؟ وقوله: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] قال ابن عباس: يريد أهل المدائن لأن الله تعالى لم يبعث نبيا من بادية.
قال الحسن: لم يبعث الله نبيا من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء.
وذلك أن أهل البادية يغلب عليهم القسوة والجفاء، وأهل الأمصار أهل فطنة، وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [يوسف: 109] يعني المشركين المنكرين نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول: أفلم يسيروا فينظروا إلى مصارع الأمم المكذبة فيعتبروا بها وَلَدَارُ الآخِرَةِ يعني الجنة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [يوسف: 109] من الدنيا أَفَلا تَعْقِلُونَ هذا فتؤمنوا وتتقوا الشرك؟
482 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أنا أَبُو مُعَاوِيَةَ، نا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَشِبْرٌ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} [يوسف: 110] قال ابن عباس: يريد من قومهم أن يؤمنوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا أيقنوا أن قومهم قد كذبوهم.
وهذا قول عطاء، وقتادة، والحسن، وقرأ أهل الكوفة: كذِبوا مخففة ومعناه: ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم، وهذا معنى قول ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، والضمير في قوله: وظنوا على هذه القراءة للمرسل إليهم، التقدير: ظن المرسل إليهم أن الرسل أخبروهم بالكذب من أنهم إن لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب، وإنما ظنوا ذلك لما رأوا من إمهال الله إياهم، وقوله: جَاءَهُمْ نَصْرُنَا قال ابن عباس: يريد: نصر النبيين، والمعنى: أن نصر الرسل على قومهم تأخر عنهم حتى ظن قومهم الظنون، ثم نصروا فأهلك المكذب وأنجي المصدق، وهو قوله: فَنُنْجيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ وقرأ عاصم، وابن عامر: فنجِّي من شاء بنون واحدة، وتشديد الجيم وفتح الياء جعلاه ماضيا على ما لم يسم فاعله كقوله: ولا يرد لأنهما طلبا موافقة المصحف فإن فيه نونا واحدة، وذلك لاجتماع النونين وأعان على ذلك خفاء النون عند الجيم ولا يرد ولا يمنع عذابنا عن المشركين إذا بلغوا الأجل، قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} [يوسف: 111] يعني إخوة يوسف عِبْرَةٌ فكرة وبصيرة من الجهل والحيرة {لأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: 111] لذوي(2/638)
العقول السليمة الذين يستعملون العقل فيعتبرون، وذلك أن من اعتبر وتذكر علم أن محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع كونه أميا لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التوراة من قبل نفسه، وعلم أيضا أن من قدر على إعزاز يوسف وتمليكه مصر بعد إلقائه في الجب، وكونه في حكم العبيد، قادر على أن يعز محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعلي كلمته، وينصره على من عاداه، قوله: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف: 111] أي: ما كان هذا القرآن حديثا يتقوله بشر، وَلَكِنْ كان {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف: 111] من الكتب، أي: يصدق ما قبله من التوراة والإنجيل بموافقة الأخبار، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] يحتاج إليه من أمور الدين وَهُدًى بيانا {وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] يصدقون بما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/639)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
مدنية وآياتها ثلاث وأربعون.
483 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْخَفَّافُ، أنا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أَبُيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الرَّعْدِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ كُلِّ سَحَابٍ مَضَى، وَكُلِّ سَحَابٍ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُوفِينَ بِعَهْدِ اللَّهِ»
{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ {1} اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ {2} وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ {3} وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {4} } [الرعد: 1-4] بسم الله الرحمن الرحيم المر قال ابن عباس: أنا الله أعلم وأرى.
وقال في رواية عطاء: أنا الله الملك الرحمن.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} [الرعد: 1] يجوز أن يكون تلك إشارة إلى ما مضى من ذكر الأخبار والقصص التي أنزلت، ويجوز أن يكون تلك بمعنى هذه، ويراد بالكتاب القرآن، وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1] قال الفراء: الذي رفع بالاستئناف، وخبره الحق، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1] قال ابن عباس: يريد أهل مكة.
قال الزجاج: لما ذكر أنهم لا يؤمنون، عرف الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق.
فقال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [الرعد: 2] وهي الأساطين، جمع عماد، ترونها كذلك مرفوعة بلا عمد، قال مقاتل: هي قائمات بغير عمد.
وقال الضحاك: يعني ليس من دونها دعامة، ولا فوقها علامة.
وهو قول قتادة، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2] ثم أقبل على خلق العرش بالاستيلاء والاقتدار ونفوذ السلطان، وأصل(3/3)
الاستواء التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال: قائم بالتدبير، والمعنى ثم استوى على العرش بالتدبير للأجسام التي خلقها، وثم تدل على حدوث التدبير، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [الرعد: 2] ذللهما لما يراد منهما {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد: 2] إلى وقت معلوم، وهو فناء الدنيا، يدبر الأمر يصرفه بحكمته، {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} [الرعد: 2] يبين الآيات التي تدل على قدرته على البعث، {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] قال ابن عباس: لكي توقنوا بالبعث، وتتعلموا أنه لا إله غيري.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} [الرعد: 3] قال الفراء: بسطها طولا وعرضا.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} [الرعد: 3] جبالا ثوابت، قال ابن عباس: أوتدها بالجبال.
{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد: 3] لونين: حلوا، وحامضا.
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الرعد: 3] ذكرناه في { [الأعراف،] إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الرعد: 3] أعلم الله أن ما ذكر من هذه الأشياء فيه برهان وعلامات لمن تفكر في قدرة الله، ثم زاد، فقال: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] أي: متدانية متقاربة، {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ} [الرعد: 4] يعني بساتين فيها نخيل وكروم، ومن قرأ وزرع ونخيل بالضم حملها على قوله: وفي الأرض، ولم يحملها على الجنات، وقوله: {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد: 4] من صفة النخيل، قال أبو عبيدة: الصنوان جمع صنو، وهو أن يكون الأصل واحدا ثم يتفرع، فيصير نخيلا ثم يحملن.
وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير، قال ابن عباس: صنوان ما كان من نخلتين، أو ثلاث أو أكثر، أصلهن واحد، وغير صنوان: يريد المتفرق الذي لا يجمعه أصل واحد.
484 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أنا أَبُو عُمَرَ بْنُ مَطَرٍ، أنا أَبُو خَلِيفَةَ، أنا الْوَلِيدُ، وَالْحَوْضِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، قَالُوا:، نا شُعْبَةُ، أنا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ: الصِّنْوَانُ: النَّخْلَةُ يَكُونُ حَوْلَهَا النَّخْلاتِ، وَغَيْرُ صِنْوَانٍ: النَّخْلُ الْمُتَفَرِّقُ
وروى القواس، عن حفص صنوان بضم الصاد جعله مثل(3/4)
ذوب وذوبان، وربما تعاقب فعلان وفعلان على البناء الواحد نحو حش وحُشَّان وحِشَّان.
وقوله: تسقى بماء واحد أي: تسقى هذه الأشياء الذي ذكرها من القطع المتجاورات، والجنات، والنخيل المختلفة، ومن قرأ {يُسْقَى} [الرعد: 4] بالياء كان التقدير يسقى ما قصصناه وما ذكرناه.
قال ابن عباس: يريد البئر واحدة، والشرب واحد، والجنس واحد.
{وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} [الرعد: 4] يعني اختلاف الطعم الحلو والحامض، يخبر بعجائبه وقدرته في خلقه، قال ابن الأنباري: يعني أن القطع المتجاورة تنبت نباتا مختلفا، منه الحلو والحامض، وشربها واحد، ومكانها مجتمع، وفي هذا أوضح آية على نفاذ قدرة الله، والأكل الثمر الذي يؤكل.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] قال ابن عباس: يريد أهل الإيمان، وهم أهل العقل الذين لم يجعلوا لله ندا.
{وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {5} وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ {6} وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ {7} اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ {8} } [الرعد: 5-8] قوله: وإن تعجب أي: من عبادتهم ما لا يملك نفعا ولا ضرا، بعدما رأوا من قدرة الله تعالى في خلقه الأشياء التي ذكرها، فعجب قولهم الآية، قال الزجاج: إن هذا موضع عجب أيضا، أنهم أنكروا البعث، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة.
ثم أخبر أن هؤلاء الذين أنكروا البعث بعد الموت كافرون، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [الرعد: 5] الأغلال جمل الغل، وهو طوق يقيد به اليد إلى العنق، يقال منه: غل الرجل فهو مغلول.
قوله {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ(3/5)
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [الرعد: 6] يعني مشركي مكة، سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بذلك، فالمراد بالسيئة ههنا العقوبة المهلكة، والحسنة هي العاقبة والرخاء، والله تعالى صرف عمن بعث إليهم محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقوبة الاصطلام، وأخر تعذيب مكذبيه إلى يوم القيامة، فذلك التأخير هو الحسنة، وهؤلاء الكفار استعجلوا العذاب قبل إحسان الله معهم بالإنظار، وقوله: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد: 6] يقال للعقوبة: مثلة ومثلة.
قال ابن الأنباري: المثلة العقوبة التي تبقي في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه، من قولهم: مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وأذنه، أو سمل عينيه، أو بقر بطنه.
قال ابن عباس، وقتادة: المثلات العقوبات، وما مثل الله بالمكذبين قبلهم.
قال الأزهري: يقول: يستعجلونك بالعذاب الذي لم أعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية، فلم يعتبروا بها، وكان ينبغي أن يردعهم ذلك عن الكفر خوفا أن ينزل بهم مثل الذي نزل بمن كفر قبلهم.
قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] قال ابن عباس: لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وصدقوا، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6] للمصرين على الشرك، وتلا مطرف يوما هذه الآية، فقال: لو يعلم الناس قدر رحمة الله ومغفرة الله وعفو الله وتجاوز الله لَقَرَّتْ أعينهم، ولو يعلم الناس قدر عذاب الله، وبأس الله ونكال الله ونقمة الله، ما رَقَأَ لهم دمع، ولا قَرَّتْ أعينهم بشيء.
485 - أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [الرعد: 6] ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلا عَفْوُ اللَّهِ وَتَجَاوُزُهُ مَا هَنَأَ أَحَدًا الْعَيْشُ، وَلَوْلا وَعِيدُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ لاتَّكَلَ كُلُّ أَحَدٍ»
قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7] قال ابن عباس: يريد مثل الناقة والعصا وما جاء به النبيون.
وقال الزجاج: طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى.
فقال الله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] تنذرهم بالنار، وليس إليك من الآيات شيء، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] أي: نبي وداع إلى الله يدعوهم بما يعطى من الآيات، لا بما يريدون ويتحكمون، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
وقال سعيد بن جبير، وعطية، والضحاك: الهادي هو الله عز وجل.
والمعنى أنت منذر تنذر، والله هادي كل قوم يهدي من شاء.
قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [الرعد: 8] يعلم ما في بطن كل حامل من علقة، أو مضغة، أو زائد، أو ناقص، على اختلاف في(3/6)
جميع أحواله، وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد ذكر أم أنثى، واحد أم اثنين أم أكثر.
وقوله: {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} [الرعد: 8] الغيض النقصان، ذكرنا ذلك عند قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44] قال أكثر المفسرين: يعلم الوقت الذي تنقصه الأرحام من المدة التي هي تسعة أشهر.
وما تزداد على ذلك، قال الضحاك: الغيض النقصان من الأجل، والزيادة ما يزداد على الأجل، وذلك أن النساء لا يلدن لأجل واحد.
وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] قال ابن عباس: علم كل شيء فقدره تقديرا مما يكون قبل أن يكون، وكل ما هو كائن إلى يوم القيامة.
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ {9} سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ {10} لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ {11} } [الرعد: 9-11] {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الرعد: 9] علم ما غاب عن جميع خلقه، وما شهده خلقه وعلموه، الكبير بمعنى العظيم، ومعناه يعود إلى كبر قدره واستحقاقه صفات العلو، وهو أكبر من كل كبير، لأن كل كبير يصغر بالإضافة إليه، وقوله المتعال قال الحسن: المتعالي عما يقول المشركون.
وقوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} [الرعد: 10] أي: أخفاه وكتمه، {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10] أعلنه وأظهره، قال مجاهد: السر والجهر عنده سواء.
وقوله: {وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] الظاهر، يقال: سربت الإبل تسرب سروبا، أي: مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت.
قال الزجاج: معنى الآية الجاهر بنطقه، والمضمر في نفسه، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات عِلْمُ الله فيهم جميعا سواء.
قوله: له معقبات المعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدلا منه، وهم الملائكة الحفظة في قول عامة المفسرين.
قال شمر: هي الكائنات يأتي بعضها بعد ذهاب بعض.
قال الزجاج: المعقبات الملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض.
قال الفراء: المعقبات ذكر أن(3/7)
جمع ملائكة معقبة، ثم جمعت معقبة معقبات، والذي يدل على التذكير قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] .
قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد: المعقبات الملائكة الحفظة.
يدل على صحة هذا ما:
486 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، نا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَلامٍ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ قَتَادَةُ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسَأْلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ، كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: «تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» ، وَمَعْنَى الآيَةِ: لِلَّهِ مَلائِكَةٌ حَفَظَةٌ تَتَعَاقَبُ فِي النُّزُولِ إِلَى الأَرْضِ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الإِنْسَانِ وَمِنْ خَلْفِهِمْ
وقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] ذكر الفراء في هذا قولين، أحدهما: أنه على التقديم والتأخير، وتقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه.
والثاني: إن هذا على إضمار أن ذلك الحفظ من أمر الله، أي: مما أمر الله به، ونحو هذا قال الزجاج، قال: المعنى حفظهم إياه من أمر الله، أي: مما أمرهم الله به، لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله.
وقال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر وهو: أن من بمعنى الباء، والتأويل: يحفظونه بأمر الله، وهذا قول مجاهد، وعطاء، والحسن، وقتادة، قالوا: يحفظونه بأمر الله.
وقال السدي: يحفظونه من أمر الله إلى أمر الله، مما لم يُقَدِّرِ اللهُ إلى ما قَدَّرَ اللهُ، وقال كعب: لولا أن الله وَكَّلَ بهم ملائكة يَذُبُّونَ عنكم، لتخطفتكم الجن.
487 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أنا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، نا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، نا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، نا زِيَادٌ الْبَكَّائِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنَامُ إلا وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ وُكَلاءَ مِنَ الْمَلائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْهَوَامِّ، فَإِذَا أَرَادُوهُ بِشَيْءٍ، قَالُوا: وَرَاءَكَ وَرَاءَكَ، إلا شَيْئًا قَدْ قَضَى لَهُ أَنْ يُصِيبَهُ.
488 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَهُمْ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا(3/8)
إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، نا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ بِصِفِّينَ فَأَقْبَلَ عَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مُتَوَكِّئًا عَلَى عَنْزَةٍ لَهُ، بَعْدَ مَا اخْتَلَطَ الظَّلامُ، فَقَالَ سَعِيدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا تَخَافُ أَنْ يَغْتَالَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَمَعَهُ مِنَ اللَّهِ حَفَظَةٌ مِنْ أَنْ يَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، أَوْ يَخُرَّ مِنْ جَبَلٍ، أَوْ يُصِيبَهُ حَجَرٌ، أَوْ تُصِيبَهُ دَابَّةٌ، فَإِذَا جَاءَ الْقَدَرُ خَلُّوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] أي: لا يسلب قوما نعمة حتى يعلموا معصية.
قال ابن عباس: يريد العذر فيما بينه وبين خلقه، ويعني بهذا أهل مكة.
{وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا} [الرعد: 11] عذابا، {فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11] قال عطاء: يريد لا رادَّ لعذابي، ولا ناقض لحكمي.
{وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11] يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم.
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ {12} وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ {13} لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ {14} وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ {15} } [الرعد: 12-15] قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الرعد: 12] قال قتادة: خوفا للمسافر، وطمعا للمقيم.
قال الزجاج: الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر، والطمع للحاضر لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر الذي هو سبب الخصب.
وينشئ يخلق، {السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] بالماء.
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13] قال ابن عباس: سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: أخبرنا عن الرعد ما هو؟ فقال: «الرعد ملك من ملائكة الله عز وجل، موكل بالسحاب، معه مخاريق، يسوق بها السحاب حيث يشاء الله» .
قالوا: فما الصوت الذي يسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجر حتى ينتهي إلى حيث ما أمر» .
وقال مجاهد: الرعد صوت ملك يسبح.
وكان عبد الله بن الزبير جالسا يحدث أصحابه، فسمع صوت الرعد، فترك الحديث، وقال: سبحان من سبحت له، وقال: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد.
وروى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " إن ربكم تبارك وتعالى يقول: لو أن عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس(3/9)
بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد ".
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته، قال ابن عباس: إنهم خائفون من الله وليس كخوف ابن آدم، لا يعرف أحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغله عن عبادة الله طعام ولا شراب ولا شيء.
وقوله: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13] قال المفسرون: نزلت في أربد، وعامر بن الطفيل، أتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاصمانه ويريدان الفتك به، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم اكفنيهما بما شئت» .
فأرسل الله عز وجل صاعقة على أربد في يوم صائف صاح فأحرقته، وولى عامر هاربا.
وقوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} [الرعد: 13] قال ابن عباس: يكذبون بعظمة الله.
{وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 13] قال مجاهد، والسدي: المحال القوة.
أي: شديد القوة.
وقال الزجاج: يقال: ماحلته محالا إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، والمحل في اللغة الشدة.
قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] المراد بدعوة الحق ههنا كلمة التوحيد والإخلاص، والمعنى: لله من خلقه الدعوة الحق، وأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف اللفظين.
489 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُصَيْرٍ، نا يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ، عَنْ عَلِيٍّ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ،(3/10)
قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ الْحَقُّ، فَمَنْ دَعَاهُ دَعَا الْحَقَّ
وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [الرعد: 14] يعني الأصنام يدعونها المشركون من دون الله، {لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد: 14] قال الزجاج: إلا كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه، والماء لا يستجيب.
أعلم الله أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان الماء إلى بلوغ فمه، {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [الرعد: 14] وما الماء ببالغ فاه بدعوته إياه، قال الكلبي: كماد يده إلى الماء من مكان بعيد، فلا يبلغه، ولا يبلغ الماء فاه.
وقال عطاء: كالرجل العطشان الجالس على شفير البئر، يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر، والماء لا يرتفع إلى يده.
قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ} [الرعد: 14] قال ابن عباس: يريد عبادة الكافرين الأصنام.
{إِلا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] بطلان وزوال.
قوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا} [الرعد: 15] يعني الملائكة والمؤمنين، وكرها يعني من أُكْرِهَ على السجود من الكافرين والمنافقين، هذا قول المفسرين.
وقال أهل المعاني: سجود الكاره تذلّله وانقياده لما يريده الله منه من عاقبة ومرض، وغنى وفقر، وحياة وموت، فالكافر في حكم الساجد لله من هذا الوجه.
ومعنى السجود في اللغة التذلل والخضوع، وهذا كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ، وقوله: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] قال المفسرون: كل شخص مؤمن أو كافر، فإن ظله يسجد لله تعالى.
قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره.
وقال أهل المعاني: سجود الظلال تمايلها من جانب إلى جانب، وانقيادها للتسخير بالطول والقصر.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ {16} أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ {17} لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {18} } [الرعد: 16-18] قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد: 16] السؤال والجواب جاء من جهة واحدة، لأن المشركين لا ينكرون أن الله خالق السموات والأرض والمخلوقات كلها، كقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] فإذا أجاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله:(3/11)
الله، لم ينكروا، ويصيروا كأنهم قالوا ذلك، ثم ألزمهم الحجة، فقال: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الرعد: 16] قال ابن عباس: توليتم غير رب السماء والأرض أصناما.
لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف لغيرهم؟ ثم ضرب مثلا للذي يعبد الأصنام، وللذي يعبد الله، فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الرعد: 16] يعني المشرك والمؤمن، {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16] يعني الشرك والإيمان، وقوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16] قال ابن الأنباري: معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم؟ وهذا استفهام إنكار، أي: ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق، وسائر الشركاء لا يخلقون خلقا يتشابه بخلق الله، وقوله: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] قال الزجاج: قل ذلك وبينه بما أخبرت به من الدلالة في هذه ال { [مما يدل على أنه خالق كل شيء.
والمعنى: أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكن مخلوقا، ألا ترى أنه هو شيء وهو غير مخلوق؟ قوله:] أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [سورة الرعد: 17] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد قرآنا، وهو مَثَلٌ ضربه الله تعالى.
{فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] أودية جمع واد، وهو كل منفرج بين جبلين، يجتمع إليه ماء المطر فيسيل، والقدر والقدر مبلغ الشيء.
والمعنى: بقدرها من الماء، فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتسع كثر، قال ابن الأنباري: شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر إذ نفع نزول القرآن يعم، كعموم نفع نزول المطر، وشبه الأودية بالقلوب، إذ الأودية يستكن فيها الماء كما يستكن الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين، وقوله {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد: 17] طافيا عاليا فوق الماء، قال ابن عباس: هو الشك والكفر.
ثم ضرب مثلا آخر، فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} [الرعد: 17] يعني: ما يذاب من الجواهر فيدخل النار ويوقد عليها، {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} [الرعد: 17] يعني: الذهب والفضة، أو متاع يعني: الحديد والصفر والنحاس والرصاص، تتخذ منها الأواني والأشياء التي ينتفع بها، وقوله: زبد مثله أي: زبد مثل زبد الماء الذي يحمله السيل، كَذَلِكَ كما ذكر من هذه الأشياء، يضرب الله مثل، {الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد: 17] والجفاء ما جافاه الوادي، أي: رمى به، قال الفراء: الجفاء الرمي، يقال: جفا الوادي غثاء جفاء إذا رماه، والجفاء بمنزلة الغثاء.
وهذان مثلان ضربهما الله للحق والباطل، يقول: الباطل، وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحل، وكخبث هذه الجواهر يقذفه الكير، وهذا مثل الباطل، وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المرعى فيمكث في الأرض، وكذلك الصفو من الجواهر يبقى خالصا لا شوب فيه، وهو مثل الحق.
قال الزجاج: فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان، كمثل هذا الماء المستنفع به من نبات الأرض وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر،(3/12)
لأنها كلها تبقى منتفعا بها، ومثل الكافر وكفره، كمثل هذا الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد، وما يخرجه الناس من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به.
قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} [الرعد: 18] أي: أجابوه إلى ما دعاهم إليه من توحيده وشريعته، الحسنى الجنة، {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} [الرعد: 18] إلى قوله: {لافْتَدَوْا بِهِ} [الرعد: 18] أي: لجعلوه فداء أنفسهم من العذاب، وقوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} [الرعد: 18] قال المفسرون: هو ألا يقبل منهم حسنة، ولا يتجاوز عن سيئة.
490 - أَخْبَرَنَا نَصْرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ، أنا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الصُّوفِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ فَرْقَدٍ السَّبَخِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يَا فَرْقَدُ، أَتَدْرِي مَا سُوءُ الْحِسَابِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لا.
قَالَ: هُوَ أَنْ يُحَاسَبَ الْرَجُلُ بِذَنْبِهِ كُلِّهِ، لا يُغْفَرُ لَهُ مِنْهُ شَيْءٌ.
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ {19} الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ {20} وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ {21} وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ {22} جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {23} سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ {24} وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ {25} اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ {26} } [الرعد: 19-26] قوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19] قال ابن عباس: نزلت في حمزة، وأبي جهل.
يعني: أن أبا جهل أعمى القلب، لا يهتدي إلى طريق الرشد، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} [الرعد: 19] يتعظ ويتذكر ما رغب فيه من الجنة، أولو الألباب قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار.
ثم وصفهم، فقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 20] قال: يريد الذين عاهدهم عليه في صلب آدم.
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21] يعني: الأرحام، وقال ابن عباس: يعني الإيمان بجميع الرسل.
وهو أن يصل بينهم بالإيمان بالجميع، كما أخبر عن المؤمنين في قولهم: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] .(3/13)
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا} [الرعد: 22] أي: على دينهم، وما أمروا به من الطاعة، {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22] طلب تعظيم الله، وقوله: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد: 22] قال ابن عباس: يدفعون بالعمل الصالح الشر من العمل.
كما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لمعاذ بن جبل: «إذا عملت سيئة فاعمل بجانبها حسنة تمحها» .
وقال ابن كيسان: هو أنهم كلما أذنبوا تابوا، ليدفعوا بالتوبة معرة الذنب.
{أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22] قال ابن عباس: يريد عقابهم الجنة.
أي: تصير الجنة لهم آخر أمرهم، ثم بين ذلك، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} [الرعد: 23] قال ابن عباس: ومن صدق بما صدقوا به.
وقال مجاهد: ومن آمن منهم، وذلك أن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله من إلحاقهم به في الجنة كرامة له كما قال: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] .
{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] قال ابن عباس: بالتحية من الله، والتحفة، والهدايا.
ويقولون: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] أي: سلمكم الله من أهوال القيامة وشرها بصبركم في الدنيا على طاعته، {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24] ما أنتم فيه من الكرامة، أي: نعم عقبى الدار التي عملتم فيها ما أعقبكم هذه الكرامة.
قوله {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} [الرعد: 25] مفسر إلى آخر الآية فيما سبق.
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] يضيق ويقتر، كقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] ، {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرعد: 26] قال ابن عباس: يريد مشركي مكة فرحوا بما نالوا من الدنيا، فطغوا وكذبوا الرسول.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ} [الرعد: 26] أي: بالقياس إليها، إلا متاع أي: قليل ذاهب، كالشيء الذي يتمتع به ثم يفنى.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ {27} الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ {28} الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ {29} كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ {30} وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {31} وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ {32} أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ(3/14)
شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ {33} لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ {34} مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ {35} } [الرعد: 27-35] قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 27] نزلت في أهل مكة حين طالبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالآيات، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] قال ابن عباس: يريد عن دينه.
يعني: كما أضلكم بعدما أنزل من الآيات وحرمكم الاستدلال بها، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] رجع إلى الحق، وإنما يرجع إلى الحق من يشاء الله، فكأنه قال: ويهدي إليه من يشاء.
كما قال في آيات: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [يونس: 25] .
قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الرعد: 28] بدل من قوله: من أناب المعنى: يهدي إليه الذين آمنوا، {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} [الرعد: 28] إذا سمعوا ذكر الله أحبوه، واستأنسوا به، وقال الزجاج: أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين.
بخلاف من وُصِفَ بقوله: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} [الزمر: 45] .
وقوله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] يعني: قلوب المؤمنين، لأن الكافر غير مطمئن القلب.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} [الرعد: 29] أكثر المفسرين على أن طوبى اسم شجرة في الجنة، وهو قول أبي هريرة، ومغيث بن سمي، وشهر بن حوشب، ومجاهد، ومقاتل، وابن عباس في رواية الكلبي وعطاء.
وروي ذلك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
491 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْفَهَانِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْزَةَ بْنِ عُمَارَةَ، نا جَعْفَرُ بْنُ عَنْبَسَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْبَسَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ السَّكُونِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ} [الرعد: 29] فَقَالَ: " أَمَّا طُوبَى، فَشَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَيْسَتْ دَارٌ مِنْ دُورِ الْجَنَّةِ إِلا وَفِيهَا غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِهَا، لَوْ أَنَّ طَائِرًا طَارَ فِي غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا لَقَتَلَهُ الْهَرَمُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَرْعَهُ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلا عَمَّرَ أَعْمَارَ الأَوَّلِينَ رَكِبَ حِقَّةً، أَوْ جَذَعَةً، ثُمَّ طَافَ بِسَاقِهَا،(3/15)
لَقَتَلُه الْهَرَمُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَوْضِعَ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ، لَيْسَ مِنْهَا وَرَقَةٌ إِلا تُظِلُّ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ، وَلَيْسَتْ مِنْهَا وَرَقَةٌ إِلا عَلَيْهَا مَلَكٌ يَذْكُرُ اللَّهَ وَيُسَبِّحُهُ، وَلَيْسَ مِنْهَا وَرَقَةٌ لَوْ جُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلا طَمَسَتْ ضَوْءَهُمَا، مِنْهَا كِسْوَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَحُلِيُّهُمْ، وَرَقُهَا حُلَلٌ، وَأَغْصَانُهَا حُلِيٌّ، وَوَحْلُهَا الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ، وَتُرَابُهَا الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ، وَحَصْبَاؤُهَا الدُّرُّ وَالْيَاقُوتَ، وَهِيَ مَجْلِسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمُتَحَدَّثُهُمْ.
492 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِهِ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، أنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أنا مَعْمَرٌ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، يَقُولُ اللَّهُ لَهَا: تَفَتَّقِي لِعَبْدِي عَمَّا يَشَاءُ، فَتَفَتَّقُ لَهُ عَنِ: الْخَيْلِ بِسُرُوجِهَا وَلُجُمِهَا، وَعَنِ الإِبِلِ بِرِحَالِهَا وَأَزِمَّتِهَا، وَعَمَّا شَاءَ مِنَ الْكِسْوَةِ ".
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: طوبى اسم الجنة بالحبشة.
هو قول مجاهد في رواية شبل، قال: طوبى اسم الجنة.
وقال أبو عبيدة، والزجاج، وأهل اللغة: طوبى فعلى من الطيب.
قال ابن الأنباري: تأويلها الحال المستطابة لهم.
وقوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} [الرعد: 30] أي: أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك، {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} [الرعد: 30] قال ابن عباس: في قرون قد مضت من قبلها قرون.
{لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الرعد: 30] يعني القرآن، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في الحجر يدعو، وأبو جهل يستمع إليه وهو يقول: «يا رحمن» .
فلما سمعه يذكر الرحمن وَلَّى مدبرا إلى المشركين، وقال لهم: إن محمدا كان ينهانا عن عبادة الآلهة، وهو يدعو إلهين، يدعو الله ويدعو إلها آخر يقال له الرحمن.
فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: {قُلْ هُوَ رَبِّي} [الرعد: 30] أي: قل لهم: إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هو إلهي وسيدي، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [الرعد: 30] .
قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا} [الرعد: 31] الآية، قالت قريش للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كنت كما تقول فادع الله يسير عنا هذه الجبال، فإن أرضنا ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا حتى نغرس ونزرع، وابعث لنا آباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي.
فأنزل الله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31] أي: جعلت تسير، {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ} [الرعد: 31] أي: شققت فجعلت أنهارا وعيونا، {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31] أي: أحيوا حتى كلموا، وجواب لو محذوف، قال الفراء: تقديره لكان هذا القرآن، والمعنى: لو أن قرآنا فعل به ما التمسوا لكان هذا القرآن.
وقال الزجاج: جوابه لما آمنوا.
وهو قول ابن عباس، قال: يريد لو قضيت ألا يقرأ القرآن على الجبال إلا سارت، ولا على الأرض إلا تخرقت، ولا على الموتى إلا أحيوا(3/16)
وتكلموا، ما آمنوا لما سبق عليهم في علمي.
ونظير هذه الآية قوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ} [الأنعام: 111] إلى قوله {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام: 111] ، {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31] يقول: دع ذاك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره، فالأمر لله جميعا، ولو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإذا لم يشأ لا ينفع تسيير الجبال وما اقترحوا من الآيات، ثم أكد هذا المعنى بقوله: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31] قال ابن عباس: أفلم يعلم.
وقال الكلبي: ييأس يعلم في لغة النخع.
وهذا قول مجاهد، والحسن، وقتادة.
وقوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد: 31] أي: بما صنعوا من كفرهم وأعمالهم الخبيثة داهية تقرعهم، ومصيبة شديدة من الأسر والقتل والحرب والجدب.
وقال مجاهد، وأبو سعيد الخدري: هي السرايا التي كان يبعثها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم.
أو تحل تنزل أنت يا محمد قريبا من دارهم، {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} [الرعد: 31] يعني فتح مكة، وعده الله أن يفتحها له، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31] ثم عزى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الرعد: 32] أطلت لهم المدة بتأخير العقوبة، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32] قال ابن عباس: يريد كيف رأيت ما صنعت بهم، كذلك أصنع بمشركي قومك.
قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] قال ابن عباس: كذلك أمتنع، يريد نفسه تبارك وتعالى.
ومعنى القيام ههنا التولي لأمور خلقه، والتدبير للأرزاق والآجال، وإحصاء الأعمال للجزاء، كقوله: قائما بالقسط أي: واليا لذلك، والمعنى ههنا: أفمن هو قائم بالتدبير على كل نفس بجزاء ما كسبت، وتلخيصه: أفمن هو مجاز كل نفس بما كسبت، كمن ليس بهذه الصفة من الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؟ ويدل على هذا المحذوف قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} [الرعد: 33] قال الفراء:(3/17)
كأنه في المعنى، قال: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم.
قل سموهم بما يسحقون من الصفات وإضافة الأفعال إليهم إن كانوا شركاء لله، كما يوصف الله بالخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، والمعنى يعود إلى أن الصنم لو كان إلها لتصور منه أن يخلق ويرزق، ولحسن حينئذ أن يسمى بالخالق والرزاق.
قوله: {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ} [الرعد: 33] هذا استفهام منقطع مما قبله، وتأويل الآية: فإن سموهم بصفات الله، قل: أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض، أتخبرون الله بشريك له في الأرض وهو لا يعلمه؟ على معنى: أنه ليس، ولو كان لعلم، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ} [الرعد: 33] يعني: أم يقولون مجازا من القول وباطلا لا حقيقة له، أي: إنه كلام ظاهر، وليس له في الحقيقة باطن ومعنى، فهو كلام باللسان، بل دع ذكر ما كنا فيه، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} [الرعد: 33] قال ابن عباس: زين الشيطان لهم الكفر، وذلك أن مكرهم بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر منهم، {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} [الرعد: 33] قال ابن عباس: وصدهم الله عن سبيل الهدى.
وضم الصاد قراءة أهل الكوفة، ومن قرأ بفتح الصاد فالمعنى: أنهم صدوا غيرهم عن الإيمان.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد: 33] يهديه إلى الخير والإيمان، {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرعد: 34] يعني الأسقام والقتل والأسر، هي لهم في الدنيا عذاب، وللمؤمن كفارة، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} [الرعد: 34] أشد وأغلظ، {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الرعد: 34] من عذاب الله، من واق مانع يمنعهم.
قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35] أي: صفتها، قال ابن قتيبة: المثل الشبه في أصل اللغة، ثم قد يصير المعنى صورة الشيء وصفته، يقال: مثلت لك كذا، أي: صورته ووصفه.
أراد الله بقوله: مثل الجنة أي: صورتها وصفتها، ثم ذكرها، فقال: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] قال الحسن: يريد أن ثمارها لا تنقطع كثمار الدنيا، وظلها لأنه لا يزول، ولا تنسخه الشمس، {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} [الرعد: 35] أي: عاقبة أمرهم المصير إليها، وعاقبة الكافرين المصير إلى النار.
قوله: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ {36} وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ {37} } [الرعد: 36-37] .
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الرعد: 36] قال المفسرون: إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب، ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن، مع كثرة ذكره في التوراة، فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] ففرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب، وكفر المشركون بالرحمن، وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: {وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعاداة، {مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] يعني ذكر الرحمن، وهذا(3/18)
كقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] إلى آخره.
قوله {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ} [الرعد: 37] أي: وكما أنزلنا الكتب على الأنبياء الذين تقدموا، أنزلنا إليك القرآن، {حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37] قال ابن عباس: يريد ما حكم من الفرائض في القرآن، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [الرعد: 37] بوحدانية الله تعالى، وذلك أن المشركين دعوه إلى ملة آبائه، فتوعده الله على اتباع أهواءهم بقوله: {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ} [الرعد: 37] أي: ما لك من عذاب الله مانع يمنعك.
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ {38} يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {39} وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ {40} } [الرعد: 38-40] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ} [الرعد: 38] قال الكلبي: عيرت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالت: ما نرى للرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء.
فأنزل الله هذه الآية، يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ} [الرعد: 38] وجعلناهم بشرا لهم أزواج فنكحوهن، وأولاد أنسلوهم، وذلك قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] .
493 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْوَاعِظُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، نا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، نا حُسَيْنُ بْنُ رَافِعٍ الْعَنْبَرِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ، قَالَتْ: فَلا تَفْعَلْ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38] فَلا تَتَبَتَّلْ.
وقوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [الرعد: 38] هذا جواب للذين تحكموا عليه في طلب الآيات، والمعنى: أن حال محمد كحال الرسل الذين تقدموا في أنهم كانوا لا يأتون بآية إلا بإذن ربهم، لا على تحكم العباد بأهوائهم، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] لكل أجل قدره الله، ولكل أمر قضاه كتاب أثبت فيه، فلا تكون آية إلا بأجل قد قضاه الله في كتاب، وكذلك كل أمر.
قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] ذهب قوم إلى أن هذا عام في كل شيء، كما يقتضيه ظاهر اللفظ، وقالوا: إن الله يمحو من الرزق ويزيد فيه، ومن الأجل، ويمحو السعادة والشقاوة، وهو مذهب عمر، وابن مسعود، وأبي وائل، وقتادة، والضحاك، وابن جريج، قالوا: أم الكتاب عند الله يمحو الله ما يشاء منه ويثبت.
ونحو هذا روى أبو الدرداء، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن الله سبحانه في ثلاث ساعات يبقين من الليل ينظر في الكتاب الذي لا ينظر(3/19)
فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء، ويثبت ما يشاء» .
ومعنى أم الكتاب: أصل الكتاب الذي أثبت فيه الكائنات والحادثات.
وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: هما كتابان: كتاب سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبت، وعنده أم الكتاب الذي لا يغير منه شيء.
وهذه رواية عمران بن حصين، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قوم: إن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت إلا الشقاوة والسعادة، والموت والحياة والرزق والأجل.
ويدل على صحة هذا ما:
494 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، نا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الطُّفَيْلِ، يَقُولُ: قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " إِذَا مَضَتْ عَلَى النُّطْفَةِ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، يَقُولُ الْمَلَكُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ فَيَقُولُ: أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، فَيَقُولُ: عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ؟ فَيَقْضِي اللَّهُ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ تُطْوَى الصَّحِيفَةُ فَلا يُزَادُ فِيهَا وَلا يُنْقَصُ مِنْهَا "، رَوَاهُ مُسْلِم، عَنِ ابْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ
وقال سعيد بن جبير، وقتادة: يمحو الله ما يشاء من الشرائع فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه.
وهذا القول اختيار أبي علي الفارسي، قال: هذا والله أعلم فيما يحتمل النسخ والتبديل من الشرائع الموقوفة على المصالح على حسب الأوقات، فأما ما كان من غير ذلك فلا يمحى ولا يبدل.
وقال الكلبي، والضحاك: إن الذي يمحوه الله ويثبته ما تصعد به الحفظة مكتوبا على بني آدم، فيأمر الله أن يثبت ما فيه ثواب وعقاب، ويمحي عنه ما لا ثواب فيه ولا عقاب.
وقوله: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [الرعد: 40] من العذاب، أي نعدهم وأنت حي، أو نتوفينك قبل أن نريك ذلك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [الرعد: 40] أي: فليس عليك إلا أن تبلغ، كفروا أو آمنوا، وعلينا الحساب وعلينا أن نجازيهم.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {41} وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ {42} وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ {43} } [الرعد: 41-43] أولم يروا يعني كفار مكة، {أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ} [الرعد: 41] نقصد أرض مكة، {نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] بالفتوح على المسلمين منها، يريد ما دخل في الإسلام من بلاد الشرك، قال الضحاك: أو لم ير أهل مكة أنا نفتح لمحمد ما حوله من(3/20)
القرى.
وقال مقاتل: الأرض مكة، ونقصها من أطرافها غلبة المؤمنين عليها.
وهذا قول الحسن.
وقال الزجاج: أعلم الله أن بيان ما وعد المشركون من قهرهم قد ظهر، يقول: ولم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم، فكيف لا يعتبرون؟ {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41] قال ابن عباس: لا ناقض لحكمه.
وقال الفراء: لا راد لحكمه.
والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه، ولا يستدرك أحد على حكم الله، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41] أي: المجازاة بالخير والشر.
قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الرعد: 42] يعني كفار الأمم الخالية، مكروا بأنبيائهم، {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 42] يعني أن مكر الماكرين مخلوق له، فلا يضر إلا بإرادته، وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمان له من مكرهم كأن قيل: قد فعل من قبلهم من الكفار مثل فعلهم، فلا ضرر عليك من مكرهم.
{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} [الرعد: 42] يريد أن جميع الاكتساب معلوم له، فلا يقع ضرر إلا بإذنه، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} [الرعد: 42] قال ابن عباس: يريد أبا جهل.
وقال الزجاج: الكافر ههنا اسم الجنس كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس.
ومن قرأ الكفار أراد جميع الكفار {لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42] لمن الجنة آخر الأمر {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الرعد: 43] يعني مشركي مكة، لست مرسلا إلينا بالنبوة، قل لهم، كفى بالله كفى الله، والباء أدخلت للتأكيد، شهيدا شاهدا، بيني وبينكم أي: بما أظهر من الآيات، وأبان من الأدلة على نبوتي، {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] قال الحسن، ومجاهد: هو الله عز وجل.
وأختاره الزجاج، فقال: لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره.
وقال عكرمة، وقتادة: يعني علماء أهل الكتاب، منهم عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري.
قال ابن الأنباري: جعل قول هؤلاء وشهادتهم قاطعة لقول الخصوم، لأنهم العالمون بالكتب القديمة، فقيل: كفى بهؤلاء شهودا عليكم، وهم شاهدون لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنبوة والصدق.
والله أعلم.(3/21)
سورة إبراهيم
مكية وآياتها اثنتان وخمسون.
495 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئُ الْحِيرِيُّ بِهَا، أنا أَبُو عَمْرِو بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الشُّرُوطِيُّ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الأَسَدِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، نا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَنِيُّ، نا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ عَبَدَ الأَصْنَامَ، وَبِعَدَدِ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا» .
{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {1} اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ {2} الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ {3} وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {4} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {5} وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ {6} وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ {7} وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ {8} } [إبراهيم: 1-8] بسم الله الرحمن الرحيم الر قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أنا الله أرى.
وقال في رواية عطاء: أنا الله الرحمن.
كتاب أي: هذا كتاب يعني القرآن، {أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1] قال ابن عباس: من الشرك إلى الإيمان.
{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] قال الزجاج: بما أذن الله لك في تعليمهم، ودعائهم إلى الإيمان.
ثم بين ما ذلك النور، فقال: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1] وهو دين الإسلام الذي من سلكه أدَّاه إلى الجنة.
{اللَّهِ الَّذِي} [إبراهيم: 2](3/22)