بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ
الْحَمْدُ للَّهِ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ، الْفَاطِرِ الْحَكِيمِ، الْجَوَادِ الْكَرِيمِ، الرَّبِّ الرَّحِيمِ مُنَزِّلِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، عَلَى الْمَبْعُوثِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، خَاتَمِ الرِّسَالَةِ، وَالْهَادِي عَنِ الضَّلالَةِ، الْمُرْسَلِ بِأَشْرَفِ الْكُتُبِ إِلَى الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ، مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْهُدَاةِ الْمُهْتَدِينَ، وَأَصْحَابِهِ الأَخْيَارِ الْمُنْتَخَبِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
وَبَعْدَ هَذَا: فَالْعِلْمُ أَشْرَفُ مَنْقَبَةٍ، وَأَجَلُّ مَرْتَبَةٍ، وَأَبْهَى مَفْخَرٍ وَأَرْبَحُ مَتْجَرٍ، بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتَصْدِيقِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ.
وَالْعُلَمَاءُ خَوَاصُّ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ اجْتَبَاهُمْ، وَإِلَى مَعَالِمِ دِينِهِ هَدَاهُمْ، وَبِمِزْيَةِ الْفَضْلِ آثَرَهُمْ وَاصْطَفَاهُمْ، هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَخُلَفَاؤُهُمْ، وَسَادَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُرَفَاؤُهُمْ، وَالدُّعَاةُ إِلَى الْمَحَجَّةِ الْمُثْلَى، وَالتَّمَسُّكِ بِالشَّرِيعَةِ وَالتَّقْوَى.
1 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزمجَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ،(1/45)
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْبَكَّائِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ السَّعْدِيُّ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
2 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَلَطِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُنَبِّهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ(1/46)
عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَبْعَثُ اللَّهُ الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُمَيِّزُ الْعُلَمَاءَ فَيَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ إِلا لِعِلْمِي بِكُمْ وَلَمْ أَضَعْهُ فِيكُمْ لأُعَذِّبَكُمْ، انْطَلِقُوا إِلَى الْجَنَّةِ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "
وَإِنَّ أُمَّ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَجْمَعَ الأَحْكَامِ الدِّينِيَّةِ، كِتَابُ اللَّهِ الْمُودِعُ نُصُوصَ الأَحْكَامِ وَبَيَانَ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمَوَاعِظَ النَّافِعَةَ، وَالْعِبَرَ الشَّافِيَةَ، وَالْحُجَجَ الْبَالِغَةَ، وَالْعِلْمُ بِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ وَأَعَزُّهَا، وَأَجَلُّهَا وَأَمَزُّهَا، لأَنَّ شَرَفَ الْعُلُومِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ.
وَلَمَّا كَانَ كَلامُ اللَّهِ تَعَالَى أَشْرَفَ الْمَعْلُومَاتِ، كَانَ الْعِلْمُ بِتَفْسِيرِهِ وَأَسْبَابِ تَنْزِيلِهِ وَمَعَانِيهِ وَتَأْوِيلِهِ، أَشْرَفَ الْعُلُومِ.
وَمِنْ شَرَفِ هَذَا الْعِلْمِ وَعِزَّتِهِ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِيهِ بِالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَالرَّأْيِ وَالتَّفَكُّرِ، دُونَ السَّمَاعِ وَالأَخْذِ عَمَّنْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ بِالرِّوَايَةِ وَالنَّقْلِ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَدْ شَدَّدُوا فِي هَذَا حَتَّى جَعَلُوا الْمُصِيبَ فِيهِ بِرَأْيِهِ مُخْطِئًا.(1/47)
3 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْزَقِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبِشْرِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ الْكِنْدِيُّ، أَخْبَرَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ، فَقَدْ أَخْطَأَ»
4 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّيْبَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونِ بْنِ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ صَدَقَةَ(1/48)
الرَّقِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
وَكُلُّ عِلْمٍ سِوَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا يُسْتَنَدُ إِلَيْهِمَا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَنْ تَحَلَّى مِنَ الْعُلَمَاءِ بِغَيْرِهِمَا فَهُوَ عَاطِلٌ عَنِ الآيَاتِ الْوَاضِحَةِ الْبَاهِرَةِ وَالسُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ الزَّاهِرَةِ، عَلَى هَذَا دَرَجَ الأَوَّلُونَ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُونَ.
5 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُوسَى،(1/49)
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا، وَعَمِلْتُمْ بِمَا فِيهِمَا، كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»
وَقَدْ سَبَقَ لِي قَبْلَ هَذَا الْكِتَابِ، بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَحُسْنِ تَيْسِيرِهِ، مَجْمُوعَاتٌ ثَلاثٌ فِي هَذَا الْعِلْمِ: مَعَانِي التَّفْسِيرِ، وَمُسْنَدِ التَّفْسِيرِ، وَمُخْتَصَرِ التَّفْسِيرِ.
وَقَدِيمًا كُنْتُ أُطَالِبُ بِإِمْلاءِ كِتَابٍ فِي تَفْسِيرٍ (وَسِيطٍ) يَنْحَطُّ عَنْ دَرَجَةِ (الْبَسِيطِ) الَّذِي تُجَرُّ فِيهِ أَذْيَالُ الأَقْوَالِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْ مَرْتَبَةِ (الْوَجِيزِ) الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَى الإِقْلالِ.
وَالأَيَّامُ تَدْفَعُ فِي صَدْرِ الْمَطْلُوبِ بِصُرُوفِهَا، عَلَى اخْتِلافِ صُنُوفِهَا، وَسَآخُذُ نَفْسِي عَلَى فُتُورِهَا، وَقَرِيحَتِي عَلَى قُصُورِهَا، لِمَا أَرَى مِنْ جَفَاءِ الزَّمَانِ، وَخُمُولِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَعُلُوِّ أَمْرِ الْجَاهِلِ عَلَى جَهْلِهِ، بِتَصْنِيفِ تَفْسِيرٍ أَعْفِيهِ مِنَ التَّطْوِيلِ وَالإِكْثَارِ، وَأُسَلِّمُهُ مِنْ خَلَلِ الْوَجَازَةِ وَالاخْتِصَارِ، وَآتِي بِهِ عَلَى النَّمَطِ الأَوْسَطِ وَالْقَصْدِ الأَقْوَمِ حَسَنَةً بَيْنَ السِّيَّئَتَيْنِ، وَمَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، لا إِقْلالَ وَلا إِمْلالَ.
نِعْمَ الْمُعِينُ تَوْفِيقُ اللَّهِ تَعَالَى، لإِتْمَامِ مَا نَوَيْتُ، وَتَيْسِيرِهِ لإِحْكَامِ مَا لَهُ تَصَدَّيْتُ.(1/50)
الْقَوْلُ فِيمَا رُوِيَ مِنْ فَضَائِلِ
سُورَةِ الْفَاتِحَةِ
مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا سَبْعٌ
6 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فَمَرَّ بِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَانِي فَلَمْ آتِهِ، حَتَّى فَرَغْتُ مِنْ صَلاتِي، فَقَالَ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَنِي إِذْ دَعَوْتُكَ؟» قُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، قَالَ: " أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] ، أَتُحِبُّ أَنْ أُعَلِّمَكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ "،(1/51)
قَالَ: فَذَهَبَ يَخْرُجُ، فَذَكَّرْتُهُ، فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ
7 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلالٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعُ الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْن عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] قَالَ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] قَالَ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، أَوْ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] قَالَ اللَّهُ: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، وَإِذَا(1/52)
قَالَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ {7} } [الفاتحة: 6-7] قَالَ اللَّهُ: هَذِهِ لَكَ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ إِسْحَاقَ، عَنْ سُفْيَانَ
8 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَزْرَقُ، حَدَّثَنِي جَدِّي، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ سِمْعَانَ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي قَسَّمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لَهُ وَنِصْفُهَا لِي، يَقُولُ عَبْدِي، إِذَا افْتَتَحَ صَلاتَهُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، فَيَذْكُرُنِي عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فَأَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3] ، فَأَقُولُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، ثُمَّ يَقُولُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] ، فَأَقُولُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي: ثُمَّ يَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فَهَذِهِ الآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَآخِرُ السُّورَةِ لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ "(1/53)
وما أسنى هذه الفضيلة، إذ لم يرد فِي شيء من القرآن هذه المقاسمة التي رويت فِي الفاتحة بين الله تعالى وبين العبد.
9 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَمَرُّوا بِحَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ لَدِيغٌ، أَوْ مُصَابٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ، فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَبَرَأَ الرَّجُلُ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ غَنَمٍ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا، وَقَالَ: حَتَّى أَذْكُرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا رَقَيْتُ إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَتَبَسَّمَ، وَقَالَ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ ثُمَّ قَالَ: خُذُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي النُّعْمَانِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ(1/54)
10 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَخِيهِ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلا، فَجَاءَتْنَا جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: أَنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، وَأَنَّ سَيِّدَ الْحَيِّ سَلِيمٌ فَهَلْ فِي الْقَوْمِ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: نَعَمْ، وَما كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ وَلا نَرَاهُ يُحْسِنُهَا، فَذَهَبَ فَرَقَاهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَأَحْسَبُهُ أَنَّهُ قَالَ: وَسَقَانَا لَبَنًا، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ قُلْنَا لَهُ، مَا كُنَّا نَرَاكَ تُحْسِنُ رُقْيَةً، قَالَ: وَلا أُحْسِنُهَا، إِنَّمَا رَقَيْتُهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، قُلْتُ: لا تُحْدِثُوا فِيهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «مَا كَانَ يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْتَسِمُوهَا وَاضْرِبُوا بِسَهْمِي مَعُكْم» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِيرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ،(1/55)
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، كِلاهُمَا عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ(1/56)
فصل فِي بيان نزول الفاتحة
11 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنِي جَدِّي، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْحَرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلِيُّ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَرَزَ، سَمِعَ مُنَادِيًا يُنَادِيهِ: يَا مُحَمَّدُ، فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ(1/57)
وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ، قَالَ: فَلَمَّا بَرَزَ سَمِعَ النِّدَاءَ يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: «لَبَّيْكَ» ، قَالَ: قُلْ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} } [الفاتحة: 2-5] حَتَّى فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ(1/58)
القول فِي آية التسمية
12 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87] : هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، قَالَ أَبِي: وَقَرَأَها عَلَيَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] الآيَةَ السَّابِعَةَ، قَالَ سَعِيدٌ: وَقَرَأَهَا عَلَيَّ ابْنُ عَبَّاسٍ كَمَا قَرَأْتُهَا عَلَيْكَ، ثُمَّ قَالَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] الآيَةَ السَّابِعَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَخَرَهَا لَكُمْ فَمَا أَخْرَجَهَا لأَحَدٍ قَبْلَكُمْ(1/59)
13 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الأَشْجَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {1} الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} } [الفاتحة: 1-2] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ سَبْعُ آيَاتٍ، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] إِحْدَاهُنَّ.
وَعَدَّهُنَّ عُمَرُ فِي يَدِهِ، وَعَدَّهُنَّ ابْنُ جُرَيْجٍ فِي يَدِهِ، وَعَدَّهُنَّ أَبُو سَعِيدٍ فِي يَدِهِ عَدَدَ الأَعْرَابِ
14 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمٍ الْبَغْدَادِيُّ، حَدَّثَنَا(1/60)
عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلالٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] سَبْعُ آيَاتٍ، أُولاهُنَّ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ "
هذه الأخبار ناطقةٌ بأن التسمية آية من الفاتحة، وكذلك هي فِي غيرها من السور آية.
15 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:(1/61)
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعْرَفُ خَتْمُ السُّورَةِ حَتَّى يُنَزَّلَ عَلَيْهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
16 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعْرَفُ خَتْمُ السُّورَةِ حَتَّى يُنَزَّلَ عَلَيْهِ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
17 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ الْحَجَّاجِ الْعَبْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، ذَكَرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كُنَّا لا نَعْلَمُ فَصْلَ مَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ حَتَّى تَنْزِلَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
وأما التفسير
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {1} الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {2} الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {3} مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ {4} إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ {5} اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ {6} صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ {7} } [الفاتحة: 1-7] فإن المتعلق به «الباء» فِي قوله: بسم الله محذوف، ويستغنى عن إظهاره لدلالة الحال عليه، وهو معنى الابتداء، كأنه قال: بدأت بسم الله، أو أبدأ بسم الله.
والحال تبين أنه مُبْتَدِئٌ فاستغنيت عن ذكره.(1/62)
وهي أداة تجر ما بعدها من الأسماء نحو «من» و «عن» و «فِي» ، وحذفت الألف من بسم الله، لأنها وقعت فِي موضع معروف لا يجهل القارئ معناه، فاستُخِفَّ طرحُها، وأثبتت فِي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] ، لأن هذا لا يكثر كثرة بسم الله، ألا ترى أنك تقول: بسم الله عند ابتداء كل شيء.
ولا تحذف الألف إذا أضيف الاسم لغير الله، ولا مع غير «الباء» من الحروف، فتقول: لاسم الله حلاوة فِي القلوب، وليس اسم كاسم الله.
فتثبت الألف مع اللام والكاف، هذا فِي سقوطها فِي الكتابة.
وأما سقوطها فِي اللفظ: فلأنها للوصل، وقد استغني عنها بالباء.
وعند البصريين أن «الاسم» مشتق من السمو، لأنه يعلو المسمى، فالاسم ما علا وظهر، فصار علما للدلالة على ما تحته من المعنى.
وعند الكوفيين: «الاسم» : مشتق من الوسم والسمة وهي العلامة، ومن هذا قال أبو العباس ثعلب: الاسم سمة توضع على الشيء يعرف به.
والصحيح ما قال أهل البصرة، لأنه لو كان مشتقا من الوسم لقيل فِي تصغيره: وُسَيْمٌ.
كما قالوا: وُعَيدة، ووُصَيلة.
فِي تصغير عدة وصلة، فلما قالوا: «سُميّ» .
ظهر أنه من السمو لا من السمة.
وأما الله فإن كثيرا من العلماء ذهبوا إلى أن هذا الاسم ليس بمشتق، وأنه اسم تفرد به الباري سبحانه، يجري فِي وصفه مجرى أسماء الأعلام، لا يشركه فِيهِ أحد، قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، أي: هل تعلم أحدا يُسَمَّى اللهَ غيره؟(1/63)
وهذا القول يحكى عن الخليل بن أحمد، وابن كيسان، وهو اختيار أبي بكر القفال الشاشي.
والأكثرون ذهبوا إلى أنه مشتق من قولهم: «أَلَهَ إلاهةً» .
أي: عبد عبادة، وكان ابن عباس يقرأ ويذرك وإلاهتك، قال: معناه: عبادتك.
ويقال: تأله الرجل.
إذا نسك، قال رؤبة:
سبحن واسترجعن من تألهي
ومعناه: المستحق للعبادة، وذو العبادة: الذي إليه تُوجَّهُ العبادةُ وبها يُقْصَدُ، وقال أبو الهيثم الرازي: الله أصله «إلاه» ، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون: 91] ، ولا يكون إلها حتى يكون لعابده خالقا ورازقا ومدبرا وعليه مقتدرا، فمن لم يكن كذلك فليس بإله، وإن عُبد عُبد ظلما، بل هو مخلوق ومتعبد.
قال: وأصل إله: «ولاه» ، فقلبت الواو همزة كما قالوا للوشاح: إشاح.
وللوجاج: أجاج.
ومعنى «ولاه» : أن الخلق(1/64)
يولهون إليه فِي حوائجهم، ويضرعون إليه فيما ينوبهم، ويفزعون إليه فِي كل ما يصيبهم، كما يوله كل طفل إلى أمه.
قوله: الرحمن الرحيم قال الليث: هما اسمان اشتقاقهما من الرحمة.
وقال أبو عبيدة: هما صفتان لله معناهما: ذو الرحمة.
ورحمة الله: إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى من يرحمه.
والرحمن عند قوم أشد مبالغة من الرحيم، كالعلام من العليم، ولهذا قيل: «رحمن الدنيا ورحيم الآخرة» .
لأن رحمته فِي الدنيا عمت المؤمن والكافر، والبر والفاجر، ورحمته فِي الآخرة اختصت بالمؤمنين.
وقال آخرون: إنهما بمعنى واحد، كندمان ونديم، ولهفان ولهيف، وجمع بينهما للتأكيد، كقولهم: فلان جاد مجد.
قوله: الحمد لله قال ابن عباس: يعني الشكر لله، وهو أنه صنع إلى خلقه فحمدوه، يعني أنه أحسن إليهم فشكروه وأثنوا عليه.
والحمد قد يكون شكرا للصنيعة وقد يكون ابتداء للثناء على الرجل، يقال: حمدته على معروفه.
كما يقال: شكرته.
ويقال: حمدته على علمه وعلى شجاعته.
إذا أثنيت عليه بذلك، ولا يقال فِي هذا المعنى: شكرته.
فحمد الله: الثناء عليه والشكر لنعمه.
قال ابن الأنباري: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] يحتمل أن يكون هذا إخبارا أخبر الله تعالى به، والفائدة فِيهِ: أنه بين أن حقيقة(1/65)
الحمد له، وتحصيل كل الحمد له لا لغيره، ويحتمل أن يكون هذا ثناء أثنى به على نفسه، علم عباده فِي أول كتابه ثناء عليه وشكرا له، يكتسون بقوله وتلاوته أعظم الثواب، ويكون المعنى: قولوا: الحمد لله.
فيضمر «القول» ههنا، كما يضمر فِي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر: 3] ، معناه: يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله.
وقوله: لله هذه «اللام» تسمى لام الإضافة، ولها معنيان، أحدهما: الملك، نحو المال لزيد، والآخر: الاستحقاق، نحو الحبل للدابة، أي: استحقته، وكذلك الباب للدار.
وقوله: رب العالمين الرب فِي اللغة له معنيان، أحدهما: أن يكون من الرب بمعنى التربية، يقال: رب فلان الضيعة يربها ربا.
إذا أتمها وأصلحها، فهو رب، مثل بر وطب، قال الشاعر:
يرب الذي يأتي من الخير إنه ... إذا فعل المعروف زاد وتمما
والمعنى على هذا: أنه يربى الخلق ويغذيهم بما ينعم عليهم.
والثاني: أن يكون الرب بمعنى المالك، يقال: رب الشيء.
إذا ملكه، وكل من ملك شيئا فهو ربه، يقال: هو رب الدار ورب الضيعة.
والله تعالى رب كل شيء، أي: مالكه.
وقوله: العالمين هو جمع عالم، على وزن فاعل، نحو خاتم وطابع ووافق وقالب، وهو اسم عام لجميع(1/66)
المخلوقات، يقال: العالم محدث.
وهذا قول الحسن، ومجاهد وقتادة فِي تفسير «العالم» أنه جميع المخلوقات.
قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] المالك: الفاعل من الملك، يقال: ملك الشيء يملكه ملكا وملكا ومملكة.
ويقرأ هذا الحرف بوجهين: مالك وملك، فمن قرأ ملك قال: الملك أشمل وأتم، لأنه يكون مالك ولا ملك له، ولا يكون ملك إلا وله ملك، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا.
ويقوي هذه القراءة قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه: 114] وقوله: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23] وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] ، ولم يقل: المالك.
ومن قرأ مالك فلأنه أجمع وأوسع، لأنه يقال: مالك الطير والدواب والوحوش وكل شيء، ولا يقال: ملك كل شيء.
إنما يقال: ملك الناس.
ولا يكون مالك الشيء إلا وهو يملكه، وقد يكون ملك الشيء وهو لا يملكه كقولهم: ملك العرب والعجم.
والدين: الجزاء، ويوم الدين: يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
تقول العرب: دنته بما فعل.
أي: جازيته، ومنه قوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] أي: مجزيون، وتقول العرب: كما تدين تدان، أي: كما تجازي تجازى، ومعنى قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] : أنه ينفرد فِي ذلك اليوم بالحكم، بخلاف الدنيا فإنه يحكم فِيها الولاة والقضاة، ولا يملك أحد الحكم فِي ذلك اليوم إلا الله.
وتقدير الآية: مالك يوم الدين الأحكام، وحذف المفعول من الكلام للدلالة عليه، ومن قرأ ملك يوم الدين فمعناه: أنه يتفرد بالملك فِي ذلك اليوم، لزوال ملك الملوك، وانقطاع أمرهم ونهيهم، وهذا كقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26] .(1/67)
قوله: إياك نعبد «إيا» ضمير المنصوب المنفصل، ويدخل عليه المكاني من الياء، والنون، والكاف، والهاء نحو: إياي، وإيانا، وإياك، وإياه، ويستعمل مقدما على الفعل نحو: إياك أعني، إياك نعبد، ولا يستعمل مؤخرا، لا يقال: قصدت إياك.
فإذا فصلت بينه وبين الفعل «بإلا» جاز التأخير، نحو: ما عنيت إلا إياك.
ونعبد من العبادة، وهي الطاعة مع الخضوع، ولا يستحقها إلا الله عز وجل، وسمي العبد عبدا لذلته وانقياده لمولاه، «وطريق معبد» : إذا كان مذللا بالأقدام.
وإياك نستعين: أصله: نستعون من المعونة، سكن ما قبل الواو فاستثقلت فنقلت إلى العين، فصار نستعين، ومعناه: نطلب منك المعونة على عبادتك وعلى أمورنا كلها.
قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] معنى الهداية فِي اللغة: الدلالة، يقال: هداه فِي الدين يهديه هدى.
وهداه يهديه هداية.
إذا دله على الطريق.
والصراط أصله بالسين، لأنه من الاستراط، بمعنى الابتلاع، فالسراط يسترط السابلة.
فمن قرأ بالسين فعلى أصل الكلمة، ومن قرأ بالصاد فلأنها أخف على اللسان، لأن الصاد حرف مطبق كالطاء، فيتقاربان ويحسنان فِي السمع.
ومن قرأ بالزاي أبدلَ من السين حرفا مجهورا حتى يشبه الطاء فِي الجهر، ويحتج بقول العرب: «زقر» فِي «صقر» .
ومن قرأ بإشمام الزاي فإنه لم يجعلها زايا خالصةً ولا صادا خالصة لئلا يلتبس أصل الكلمة بأحدهما، وكلها لغات.
ومعنى سؤال المسلمين الهدى وهم مهتدون: التثبيت على الهدى وهذا كما نقول للقائم: قم حتى أعود إليك.
أي: اثبت على قيامك.(1/68)
والصراط المستقيم: كتاب الله عز وجل وهو القرآن.
روي ذلك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبد الله بن مسعود، وأبي العالية.
وروى السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: هو الإسلام.
وكذلك روي عن جابر قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] أي: بالثبات على الإيمان والاستقامة والهداية إلى الصراط، وهم: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وهذا قول أبي العالية.
وقال السدي وقتادة: يعني طريق الأنبياء.
وقال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى قبل أن يغيروا دين الله تعالى.(1/69)
قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] : غير: منخفض على ضربين: على البدل من الذين، وعلى صفة الذين، لأن {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] هم الذين أنعم عليهم، لأن من أنعم عليه بالإيمان فهو غير مغضوب عليه، ومعنى الغضب من الله: إرادة العقوبة.
قوله: ولا الضالين أصل الضلال فِي اللغة: الغيبوبة، يقال: ضل الماء فِي اللبن إذا غاب فِيهِ.
وضل الكافر إذا غاب عن المحجة.
ومن هذا قوله تعالى: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة: 10] ، أي: غبنا فِيها بالموت وصرنا ترابا.
والمغضوب عليهم: اليهود، والضالين: النصارى، والله تعالى حكم على اليهود بالغضب فِي قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] ، وعلى النصارى بالضلال فِي قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا} [المائدة: 77] .
ومعنى الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالإسلام، ولم تغضب عليهم كما غضبت على اليهود، ولم يضلوا عن الحق كما ضلت النصارى.
ويستحب للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة: آمين.
مع سكتة على نون ولا الضالين، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن.
وفيه لغتان: آمين بالمد، وآمين بالقصر، ومعناهما: اللهم استجب، وهي موضوعة لطلب الإجابة.
18 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ(1/70)
الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي إِذَا بَرَزْتُ أَسْمَعُ مَنْ يُنَادِينِي وَلا أَرَى شَيْئًا» ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: قُلْ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1] فَقَالَهَا، ثُمَّ قَرَأَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: قُلْ: آمِينَ
19 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْحِيرِيُّ، قَالا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْقِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا قَالَ الإِمَامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَقُولُ:(1/71)
آمِينَ، فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، فِي الصَّحِيحِ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ(1/72)
القول فِي فضائل
سورة البقرة
مدنية، وآياتها ست وثمانون ومائتان.
20 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّوْسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأبِيوَرْدِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ بِشْرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»
21 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ(1/73)
الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا عَدِيُّ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْبَيْتَ الَّذِي يُقْرَأُ فِيهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ لا يَدْخُلُهُ الشَّيْطَانُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ»
22 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَسْوَدِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ(1/74)
عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الْجَرَشِيِّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْبَقَرَةُ» ، قِيلَ: أَيُّ الْبَقَرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «آيَةُ الْكُرْسِيِّ»
التفسير {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ {3} وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ {4} أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {5} } [البقرة: 1-5] قوله عز وجل: الم: كثر اختلاف المفسرين فِي الحروف المقطعة فِي القرآن، فذهب قوم إلى أن الله تعالى لم يجعل لأحد سبيلا إلى إدراك معانيها، وأنها مما استأثر الله تعالى بعلمها، فنحن نؤمن بظاهرها، ونكل علمها إلى الله تعالى.
قال داود بن أبي هند: كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فقال: يا داود إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، فدعها وسل عما سوى ذلك.(1/75)
وفسرها الآخرون، فقال ابن عباس، فِي رواية سعيد بن جبير وأبي الضحى: الم أنا الله أعلم.
وقال الضحاك: كل الم فِي القرآن: أنا الله أعلم.
وهذا اختيار الزجاج، قال: المختار ما روي عن ابن عباس هو أن معنى الم: أنا الله أعلم، وأن كل حرف منها له تفسير.
قال: والدليل على ذلك أن العرب قد تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها.
وأنشد:
قلت لها قفي لنا قالت قاف
فنطق بقاف فقط يريد: قالت قف.
ويروى عن الحسن، أنه قال: الم وسائر حروف التهجي فِي القرآن: أسماء للسور.
وعلى هذا القول إذا قال القائل: قرأت المص.
عرف السامع أنه قرأ ال { [التي افتتحت ب المص.
قوله عز وجل: ذلك الكتاب: ذلك يجوز أن يكون بمعنى: هذا، عند كثير من أهل التفسير.
قال الفراء: ومثاله فِي الكلام أنك تقول: قد قدم فلان.
فيقول السامع: قد بلغنا ذلك.
أو يقول: قد بلغنا(1/76)
الخبر.
فصلحت: هذا، لأنه قرب من جوابه فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت: ذلك لانقضاء كلامه، والمنقضي كالغائب.
وذكر ابن الأنباري لهذا شرحا شافيا فقال: إنما قال عز ذكره: ذلك الكتاب، فأشار إلى غائب، لأنه أراد: هذه الكلمات يا محمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك، لأن الله تعالى لما أنزل على نبيه عليه السلام:] إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا} [سورة المزمل: 5] كان واثقا بوعد الله إياه، فلما أنزل الله تعالى عليه: {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 1-2] دله على الوعد المتقدم.
وقال الزجاج: القرآن: ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى، وعيسى.
فجعل الم بمعنى القرآن، لأنه من القرآن.
والكتاب مصدر كتبتُ، ويسمى المكتوب كتابا، كما يسمى المخلوق خلقا، والمفعول يسمى بالمصدر، يقال: هذا درهم ضرب الأمير.
أي: مضروبه، وهذا الثوب نسج اليمن.
أي: منسوجه.
وأصل الكتب فِي اللغة: الجمع والضم، يقال: كتبت البغلة.
إذا ضممتَ بين شفريها بحلقة، وكتبت السقاء.
إذا خرزته، والكتب: الخروز، واحدتها: كتبة، والكتابة: جمع حرف إلى حرف.
والمراد ب الكتاب ههنا: القرآن، فِي قول جميع المفسرين.
قوله: لا ريب فِيهِ: الريب: الشك، قال أبو زيد: يقال: رابني من فلان أمر رأيته منه ريبا.
إذا كنت مستيقنا منه الريبة، فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن بالريبة منه قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فِيهِ.
إذا ظننته من غير أن تستيقنه.
قال سيبويه: «لا» تعمل فيما بعدها فتنصبه، ونصبها لما بعدها كنصب «إنَّ» ، إلا أنها تنصب بغير تنوين، وإنما شبه «لا» ب «إنَّ» ، لأن «إن» للتحقيق فِي الإثبات و «لا» فِي النفي، فلما كان لا تقتضي تحقيق النفي كما تقتضي «إن» تحقيق الإثبات أجري مجراه، وهي مع ما بعدها بمنزلة شيء واحد.(1/77)
وموضع لا ريب رفع بالابتداء عند سيبويه، لأنه بمنزلة: «خمسة عشر» إذا ابتدأت به، ولهذا جاز العطف عليه بالرفع فِي قول الشاعر:
لا أم لي أن كان ذاك ولا أب
وموضع فِيهِ رفع لأنه خبر بالابتداء الذي هو لا ريب.
فإن قيل: كيف قال لا ريب فِيهِ وقد ارتاب به المبطلون؟ قيل: معناه: أنه حق فِي نفسه، وصدق وإن ارتاب به المبطلون، كما قال الشاعر:
ليس فِي الحق يا أمامة ريب ... إنما الريب ما يقول الكذوب
فنفى الريب عن الحق، وإن كان المتقاصر فِي العلم يرتاب.
ويجوز أن يكون خبرا فِي معنى النهي، ومعناه: لا ترتابوا، كقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، والمعنى: لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا.
قوله: هدى للمتقين معنى الهدى: البيان، لأنه قوبل به الضلالة فِي قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] ، أي: من قبل هداه.
ومعنى الاتقاء فِي اللغة: الحجز بين الشيئين، يقال: اتقاه بترسه.
أي: جعل الترس حاجزا بينه وبينه، ومنه التقية فِي الدين: يجعل ما يظهر حاجزا بينه وبين ما يخشاه من المكروه، ومنه الحديث: «كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان أقربنا إلى العدو» .(1/78)
فالمتقي: هو الذي يتحرز بطاعته عن العقوبة، ويجعل اجتنابه عما نهي عنه، وفعله ما أمر به حاجزا بينه وبين العقوبة التي توعد بها العصاة.
والمراد ب المتقين فِي هذه الآية: المؤمنون الذين اتقوا الشرك، وجعلوا إيمانهم حاجزا بينهم وبين الشرك، كأنه قال: القرآن بيان وهدى لمن اتقى الشرك وهم المؤمنون.
وخص المؤمنين بأن الكتاب بيان لهم دون الكفار، الذين لم يهتدوا بهذا الكتاب، لانتفاعهم به دونهم، كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ، وكان عليه السلام منذرا لمن خشي ولمن لم يخش.
قال ابن الأنباري: معناه: هدى للمتقين والكافرين، فاكتفى بأحد الفريقين عن الآخر كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ، أراد الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما.
وأما إعراب هدى فقال الزجاج: يجوز أن يكون موضعه نصبا على الحال كأنه قال: هاديا للمتقين، ويجوز أن يكون موضعه رفعا على إضمار هو، كأنه لما تم الكلام قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون الوقف على قولك لا ريب، أي: ذلك الكتاب لا ريب ولا شك، كأنك قلت: ذلك الكتاب حقا.
لأن لا شك بمعنى: حقا، ثم قيل بعد فِيهِ هدى.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] قال الزجاج: موضع الذين خفض نعتا للمتقين.
ومعنى يؤمنون: يصدقون، قال الأزهري: اتفق العلماء أن الإيمان معناه التصديق، كقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: بمصدق.(1/79)
ومعنى التصديق: هو اعتقاد السامع صدق المخبر فيما يخبر، فمن صدَّق الله تعالى فيما أخبر به فِي كتابه وصدَّق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر معتقدا بالقلب تصديقَهما فهو مؤمنٌ.
وأنشد ابن الأنباري، على أن آمن معناه: صدق، قولَ الشاعر:
ومن قبل آمنا وقد كان قومنا ... يصلون للأوثان قبل محمدا
معناه: من قبل آمنا محمدا، أي: صدقنا محمدا.
والغيب: ما غاب، وهو مصدر غاب يغيب غيبا، وكل ما غاب عنك فلم تشهده فهو غيب، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] والعرب تسمي المكان المنخفض من الأرض: الغيب، لأنه غائب عن الأبصار.
والمراد ب الغيب المذكور ههنا: ما غاب علمه عن الحس والضرورة مما يدرك بالدليل.
قال قتادة: آمنوا بالجنة والنار، والبعث بعد الموت، وبيوم القيامة، كل هذا غيب.
وقال أبو العالية: يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر وجنته وناره، ولقائه، وبالبعث بعد الموت.
قال الزجاج: وكل ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو غيب.
23 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، وَحَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ(1/80)
مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرْنَا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا سَبَقُوا بِهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيِّنًا لِمَنْ رَآهُ، وَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا آمَنَ أَحَدٌ قَطُّ إِيمَانًا أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانٍ بِغَيْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ {الم {1} ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ {2} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 1-3] إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]
وقوله: ويقيمون الصلاة أي: يديمونها، ويحافظون عليها، ويقال: قام الشيء.
إذا دام وثبت.
وأقامه.
إذا أدامه، والصلاة معناها فِي اللغة: الدعاء، ومنه الحديث: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليصل» .
قال أبو عبيدة: قوله: «فليصل» أي: فليدع له بالبركة والخير، وكل داع فهو مصل.
هذا معنى الصلاة فِي اللغة، ثم ضمت إليها هيئات وأركان سميت مجموعها صلاة، قال قتادة فِي قوله: ويقيمون(1/81)
الصلاة: إقامتها: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها.
وقوله: ومما رزقناهم يقال: رزق الله الخلق رزقا ورزقا، فالرَّزق، بالفتح، هو المصدر الحقيقي، والرِّزق: الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر، وكل ما انتفع به العبد فهو رزقه من مال وولد وعبد وغيره.
وقوله: ينفقون معنى الإنفاق فِي اللغة: إخراج المال من اليد، ومن هذا يقال: نفق المبيع.
إذا كثر مشتروه فخرج عن يد البائع، ونفقت الدابة.
إذا خرجت روحها، قال قتادة: ينفقون فِي طاعة الله وسبيله.
قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] الآيةَ، قال مجاهد: الآيات الأربع من أول هذه ال { [نزلت فِي جميع المؤمنين، سواء كانوا من العرب أو من أهل الكتاب، وقال ابن عباس، وابن مسعود: إن آيتين من أول السورة نزلتا فِي مؤمني العرب، والآيتان بعدهما نزلتا فِي مؤمني أهل الكتاب، لأنه لم يكن للعرب كتاب كانوا مؤمنين به قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمراد بقوله:] بما أنزل إليك} : القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [سورة البقرة: 4] يعني: الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل.
وقوله: وبالآخرة أي: وبالدار الآخرة، هم يوقنون يقال: يقن ييقن يقنا فهو يقين، وأيقن بالأمر واستيقن وتيقن كله واحد.
واليقين: هو العلم الذي يحصل بعد استدلال ونظر، ولا يجوز أن يسمى علمُ الله تعالى يقينا، لأن علمه لم يحصل عن استدلال ونظر، والمعنى: أنهم يؤمنون بالآخرة ويعلمونها علما باستدلال.
قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] «أولاء» : كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو «هم» ، والكاف فِيهِ للمخاطبة، نحو كاف «ذلك» .(1/82)
والمعنى: هم على بيان وبصيرة من عند ربهم، لأن الله تعالى هداهم لدينه.
{وأولئك هم المفلحون} قال الزجاج: يقال لكل من أصاب خيرا: مفلح.
قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] ، و {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] .
والمعنى: هم الذين أدركوا البغية ووجدوا النعيم المقيم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {6} خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {7} } [البقرة: 6-7] قوله: إن الذين كفروا الآية، قال الضحاك: نزلت فِي أبي جهل وخمسة من أهل بيته.
وقال الكلبي: يعني اليهود.
يقال: كفر كفرا وكفورا.
كما يقال: شكر شكرا وشكورا.
ومعنى الكفر فِي اللغة: الستر، قال ابن السكيت: كل ما ستر شيئا فقد كفره، ومنه قيل: الليل كافر.
لأنه يستر بظلمته الأشياءَ، ومنه سمي الكافر كافرا لأنه ستر إنعام الله تعالى بالهدى والآيات التي بانت لذوي التمييز: أن الله تعالى واحد لا شريك له، فمن لم يصدق بها وردها فقد كفر النعمة، أي: سترها وغطاها.
والكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة، وكفر نفاق، فمن لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له.(1/83)
أما كفر الإنكار: فهو أن يكفر بقلبه ولسانه، ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، وكفر الجحود: أن يعرف بقلبه ولا يعترف بلسانه ككفر إبليس وكفر أمية بن أبي الصلت، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] يعني: كفر الجحود.
وأما كفر المعاندة: فهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه ولا يقبل ولا يدين به، ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وأما كفر النفاق: فأن يقر بلسانه، ويكفر بقلبه.
وقوله تعالى: سواء عليهم أي: معتدل ومتساو عندهم، أأنذرتهم: أأعلمتهم وخوفتهم.
والإنذار: إعلام مع تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، يقال: أنذرته فنذر.
أي: علم بموضع الخوف.
قال الوالبي، عن ابن عباس فِي هذه الآية: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة فِي الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله تعالى الشقاء فِي الذكر الأول.
ثم ذكر السبب فِي تركهم الإيمان فقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] قال الزجاج: معنى «ختم» ، «وطبع» فِي اللغة واحد، وهو التغطية على الشيء(1/84)
والاستيثاق منه بأن لا يدخله شيء، والختم على الوعاء يمنع الدخول فِيهِ والخروج منه، كذلك الختم على قلوب الكفار، يمنع دخول الإيمان فِيها وخروج الكفر منها، وإنما يكون ذلك بأن يخلق الله الكفر فِيها، ويصدهم عن الهدى فلا يدخل الإيمان فِي قلوبهم كما قال الله عز وجل: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] وقوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وحَّد السمع لأنه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، وقال سيبويه: اكتفى من الجمع بالواحد لأنه توسط جمعين فصار كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] ، وقوله {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ} [النحل: 48] .
وتم الكلام، ههنا، ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] الأبصار: جمع البصر وهو العين، يقال: تبصرت الشيء إذا رأيته.
والغشاوة: الغطاء، ويقال للجلدة التي على الولد: غشاوة.
ومثل هذه الآية فِي المعنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [النحل: 108] ، وطبع فِي المعنى ك ختم.
قال الزجاج فِي هذه الآية: إنهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكن لم يستعملوا هذه الحواسَّ استعمالا ينفعهم، فصاروا كما لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر.
وقوله: {ولهم عذاب عظيم} العذاب: كل ما يُعَنِّي الإنسان ويشق عليه، والعظيم: فعيل من العظم، وهو كثرة المقدار فِي الجثة، ثم قيل: كلام عظيم، وأمر عظيم.
أي: عظيم القدر، يريدون به: المبالغة فِي وصفه.
ومعنى وصف العذاب العظيم: هو المواصلة بين أجزاء الآلام، بحيث لا يتخللها فرجة.(1/85)
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {10} } [البقرة: 8-10] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] : الناس: لفظ وضع للجمع كالنوم والرهط والجيش وواحده: إنسان، لا من لفظه.
وقوله: وباليوم الآخر يعني: يوم القيامة، وسمي آخرًا لأنه بعد أيام الدنيا.
وقوله: {وما هم بمؤمنين} : جمع بعد التوحيد فِي من يقول لأن لفظ من يصلح للواحد وللجميع، فقوله: من يقول يجوز أن يراد به الجمع وإن كان اللفظ على واحد.
قال المفسرون: نزلت هذه الآية فِي المنافقين حين أظهروا كلمة الإيمان وأسروا الكفر، فأخبر الله سبحانه أنهم يقولون: إنا مؤمنون.
ويظهرون كلمة الإيمان، ثم نفى الله عنهم الإيمان فقال: {وما هم بمؤمنين} ، فدل على أن حقيقة الإيمان ليس الإقرار فقط.
قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] : يخادعون: يفاعلون، من الخدع، يقال: خدعته خدْعًا وخدَعًا وخديعةً، إذا أظهر له غير ما يضمر.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين يظهرون غير ما فِي نفوسهم ليدرءوا عنهم أحكام الكفر فِي ظاهر الشريعة من القتل والجزية وغيرهما.
فإن قيل: المفاعلة تكون بين اثنين، والله تعالى يَجِلُّ أن يشاركهم فِي الخداع، فما وجه قوله: يخادعون الله؟ قيل: يخادعون ههنا بمعنى: يخدعون.
قال أبو عبيدة: خادعت الرجل بمعنى: خدعته.
والمفاعلة كثيرًا ما يقع من الواحد، كالمعافاة والمعاقبة وطارقت النعل، على هذا.(1/86)
وقال الحسن: يخادعون الله: أي نبيه، لأن الله بعث نبيه بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله كما قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] ، وإذا خادعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد خادعوا الله.
وقوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] قرئ بوجهين: فمن قرأ بالألف قال: هو من المفاعلة التي تقع من الواحد كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] ، فلما وقع الاتفاق على الألف فِي قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [البقرة: 9] أجري الثاني على الأول طلبًا للتشاكل.
ومن قرأ: يخدعون قال: إن فَعَلَ أُوِّلَ بفعل الواحد، من فاعل الذي فِي أكثر الأمر يكون لفاعلين.
ومعنى قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] : هو أنهم طلبوا الخداع فلم يخدعوا الله ولا المؤمنين وما خدعوا إلا أنفسهم، لأن وبال خداعهم عاد عليهم، لا أن الله تعالى يطلع نبيه على أسرارهم ونفاقهم فيفتضحون فِي الدنيا، ويستوجبون العقاب فِي العقبى.
وقوله وما يشعرون أي: وما يعلمون أنهم يخدعون أنفسهم، وأن وبال خداعهم يعود عليهم.
قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] : قال ابن عباس، وابن مسعود، والحسن، وقتادة، وجميع المفسرين: أي: شك ونفاق.
وقال الزجاج: المرض فِي القلب: كل ما خرج به الإنسان من الصحة فِي الدين.
وقوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] أي: بما أنزل من القرآن، فشكوا فِيهِ كما شكوا فِي الذي قبله.(1/87)
قوله: {ولهم عذاب أليم} : الأليم بمعنى: المؤلم، كالسميع بمعنى المسمع، وهو العذاب الذي يصل وجعه إلى قلوبهم.
قوله: {بما كانوا يكذبون} : «ما» : فِي تأويل المصدر، أي: بتكذيبهم وبكونهم مكذبين.
وقرأ أهل الكوفة يكذبون بالتخفيف، من الكذب، وهو أشبه بما قبله وما بعده لأن ما قبله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] ، وهذا كذب منهم، وبعده قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] ، وهذا يدل على كذبهم فِي دعوى الإيمان.
وقال ابن عباس: {بِمَا كَانُوا يكذّبُونَ} [البقرة: 10] يعني: تكذيب الأنبياء.
قال: ومن خففها فالمراد أنهم يتكلمون بما يعلم الله خلافه فِي قلوبهم، كقوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ {12} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ {14} اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ {16} } [البقرة: 11-16] قوله: {وإذا قيل لهم} : موضع «إذا» من الإعراب نصب، لأنه اسم للوقت، كأنك قلت: وحين قيل لهم، أو يوم قيل لهم.
وقيل: كان فِي الأصل: قُوِل، فنقلت كسرة الواو إلى القاف، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فصارت ياءً.
والكسائي يُشِمُّ قيل وأخواتِه الضمَّ، ليدل بذلك على أنه كان فِي الأصل «فعل» .
ومعنى الآية {وإذا قيل لهم} يعني: لهؤلاء المنافقين، {لا تفسدوا فِي الأرض} بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] يظهرون هذا القول كذبا ونفاقا، كما أنهم قالوا: آمنا وهم كاذبون.(1/88)
فرد الله عليهم قولَهم: {نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فقال: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] ، قال الزجاج: ألا: كلمة يُبتدأ بها، يُنبَّه بها المخاطب ليُدَلَّ على صحة ما بعدها، وهم لتأكيد الكلام.
والمعنى: هم المفسدون أنفسَهم بالكفر، والناسَ بالتعويق عن الإيمان، ولكن لا يشعرون لا يعلمون أنهم مفسدون، لأنهم يظنون أن الذي هم عليه من إبطان الكفر صلاحٌ.
ولكنْ: معناها استدراك بإيجاب بعد نفي، أو نفي بعد إيجاب كالتي فِي هذه الآية، لأنه إذا قيل: هم المفسدون سبق إلى الوهم أنهم يفعلون ذلك من حيث يشعرون، فقال: ولكن لا يشعرون فاستدرك بالنفي بعد الإيجاب.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] الآية، قال جميع المفسرين: المراد بالناس فِي هذه الآية أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذين آمنوا به.
والمعنى: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: آمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما آمن أصحابه.
قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار.
{قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] الألف فِي أنؤمن استفهام معناه: الجحد والإنكار، أي: لا نفعل كما فعلوا، والسفهاء: الجهال الذين قلت عقولهم، جمع السفيه، ومصدره: السَّفَهُ، والسَّفاهة والسفاه.
قال أهل اللغة: معنى السفه: الخفة، والسفيه: الخفيف العقل، ولهذا سمى الله تعالى الصبيان والنساء سفهاء فِي قوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ، لجهلهم وخفة عقلهم.
وعنوا ب السفهاء: أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس: قالوا: أولئك سفهاؤنا.
فإن قيل: كيف يصح النفاق مع المجاهرة بقولهم {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] ؟ قيل: إنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم، لا عند المؤمنين، فأخبر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين.(1/89)
قال ابن عباس: فرد الله عليهم جواب كفرهم فقال: ألا إنهم هم السفهاء لا المؤمنون الذين صدقوا محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن لا يعلمون ولكنهم لا يعلمون ما يقولون.
قوله: وإذا لقوا الذين آمنوا الآية، قال المفسرون: أراد ب الذين آمنوا: أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأصحابَه، وذلك أن المنافقين كانوا إذا لقوهم واجتمعوا معهم قالوا: إيماننا كإيمانكم ونحن معكم.
يقال: لقيته لقاء ولقيانا ولقيا، وكل شيء استقبل شيئا فقد لقيه.
وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] يقال: خلوت بفلان، أخلو به خلوة وخلاء.
وخلوت معه وخلوت إليه بمعنًى واحدٍ.
والشيطان: كل متمرد عات من الجن والإنس، قال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] ، واشتقاقه من شطن، أي: بعد، فمعنى الشيطان: البعيد من الجنة.
قال الزجاج: ومعنى الشيطان: الغالي فِي الكفر، المتعبد فِيهِ من الجن والإنس.
قال ابن عباس: أراد ب شياطينهم: كبراءهم ورؤساءهم.
وقوله: إنا معكم أي: على دينكم، إنما نحن مستهزءون بأصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث نقول لهم: آمنا.
يقال: هزئ به يهزأ وتهزأ به، واستهزأ به.
وهو أن يظهر غير ما يضمر، استصغارا وعبثا.
قال الله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] أي: يجازيهم جزاء استهزائهم، فسمى الجزاء باسم المجازى عليه كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، فسمى الثاني سيئة باسم الأول، وقال أيضًا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] .(1/90)
قال ابن عباس، فِي رواية عطاء، فِي قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] : هو أن الله تعالى إذا قسم النور يوم القيامة للجواز على الصراط أعطى المنافقين مع المؤمنين نورًا، حتى إذا ساروا على الصراط طُفِئَ نورُهم.
قال: فذلك قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ، حيث يعطيهم ما لا يتم ولا ينتفعون به.
وروي عنه، أيضًا، أنه قال: هو أن الله تعالى يطلع المؤمنين وهم فِي الجنة على المنافقين وهم فِي النار، فيقولون لهم: أتحبون أن تدخلوا الجنة؟ فيقولون: نعم.
فيفتح لهم بابٌ من الجنة، ويقال لهم: ادخلوا.
فيسيرون وينقلبون فِي النار، فإن انتهوا إلى الباب سُدَّ عنهم ورُدوا إلى النار، ويضحك المؤمنون منهم، فذلك قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ {34} عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ {35} هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ {36} } [المطففين: 34-36] .
24 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَادكَ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ الْكِلابِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جُنَادَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ:(1/91)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنَاسٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَنَّةِ، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَاسْتَنْشَقُوا رَائِحَتَهَا، وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا، نُودُوا أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، قَالَ: فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ بِمِثْلِهَا الأَوَّلُونَ، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا، قَالَ: ذَلِكَ أَرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بِي بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلافِ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي وَأَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي، وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمُ الْعَذَابَ الأَلِيمَ، مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنَ الثَّوَابِ "
قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] أي: يمهلهم ويطول أعمارهم ومدتهم.
والطغيان: مصدر كالرجحان والكفران، ومعناه: مجاوزة القدر، وكل شيء جاوز القدر فقد طغى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] ، وقيل لفرعون: {إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24] ، أي: أسرف حيث ادعى الربوبية.
ومعنى يعمهون: يترددون متحيرين، يقال: عمه الرجل يعمه فهو عامهٌ وعَمِهٌ إذا حار عن الحق.
قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] حقيقة الاشتراء: الاستبدال، والعرب تجعل من آثر شيئًا على شيء مشتريًا له وبائعًا للآخر، وإن لم يكن ثَمَّ شراءٌ ولا بيعٌ ظاهرٌ.
قال ابن عباس: أخذوا الضلالة وتركوا الهدى.(1/92)
وقوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] الربح: الزيادة على أصل المال، والتجارة: تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء، يقال: تجر الرجل يتجر تجارة فهو تاجر.
والمعنى: ما ربحوا فِي تجارتهم، وأضاف الربح إلى التجارة لأن الربح يكون فِيها، والعرب تقول: ربح بيعك، وخسر بيعك، وخاب سعيك.
على معنى: ربحت فِي بيعك، فيسندون الربح إلى البيع، وما كانوا مهتدين أي: مصيبين فِي تجارتهم.
ثم ضرب الله مثلًا للمنافين فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ {17} صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ {18} } [البقرة: 17-18] {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] : والمثل من الكلام: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، والأصل فِيهِ: التشبيه، وحقيقته: ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول، مثال ذلك قول كعب بن زهير:
كانت مواعيد عرقوب لنا مثلًا ... وما مواعيده إلا الأباطيل
فمواعيد عرقوب: علم فِي كل ما لا يصح من المواعيد.
واستوقد بمعنى: أوقد.
وأضاء: يكون لازمًا ومتعديًا، يقال: أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره، وأضاءت النار، وأضاءها غيرها، والذي فِي هذه الآية متعد.
وما فِي قوله: ما حوله: منصوب بوقوع الإضاءة عليه، وحوله نصب على الظرف، يقال: هم حوله وحوليه وحواله وحواليه.
قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والسدي: يقول: مَثَلُ هؤلاء المنافقين كمثل رجل أوقد نارا فِي(1/93)
ليلة مظلمة فِي مغارة، فاستضاء بها واستدفأ، ورأى ما حوله، فاتقى ما يحذر ويخاف، وأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي مظلما خائفا متحيرا، كذلك المنافقون، لما أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها، واعتزوا بعزها وأمنوا، فناكحوا المسلمين ووارثوهم، وأمنوا على أموالهم وأولادهم، فلما ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف، وبقوا فِي العذاب، وذلك معنى قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] .
وكان يجب فِي حق النظم أن يكون اللفظ: فلما أضاءت ما حوله أطفأ الله ناره، ليشاكل جواب لما معنى هذه القصة، ولكن كان إطفاء النار مثلا لإذهاب نورهم، أقيم إذهاب النور مقام الإطفاء، وجعل جواب لما اختصارا وإيجازا.
ومعنى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] وهو أن الله تعالى يسلب المنافقين ما أعطوا من النور مع المؤمنين فِي الآخرة، وذلك قوله تعالى، فيما أخبر عنهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] .
قوله: صم أي: هم صم، جمع أصم، وهو المُنْسَدُّ الأذن، يقال: رمح أصم إذا لم يكن أجوفَ.
وصخرة صماء: إذا كانت صلبة.
وإنما وصفوا بالصم لتركهم قبول ما يسمعون، والعرب تقول لمن يسمع ولا يعمل على ما يسمعه: أصم.
بكم أي: عن الخير فلا يقولونه، عمي لتركهم ما يبصرون من الهدى والقرآن.
وقوله: فهم لا يرجعون أي: عن الجهل والعمى إلى الإيمان.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ {19} يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {20} } [البقرة: 19-20] قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] الآية، الصيب من المطر: الشديد، من قولهم: صاب يصوب، إذا نزل من علو إلى سفل.
والسماء: كل ما ارتفع وعلا، يقال لسقف البيت: سماء.
ومنه قوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج: 15] ، والسماء: السحاب، من سما يسمو.
وقوله: فِيهِ: أي فِي ذلك الصيب، ظلمات: جمع ظلمة، والمطر لا يخلو من ظلمة، لأنه يأتي من السحاب، والسحاب يغشي الشمس بالنهار، والنجوم بالليل فيظلم الجو.(1/94)
قوله: ورعد وبرق: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: أقبلت يهود إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أبا القاسم، إنا نسألك عن أشياء، فإن أجبتنا عنها اتبعناك، أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث ما أمر الله» .
فقالوا: فما هو الصوت الذي نسمعه؟ قال: «زجرة السحاب، إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر الله» .
فقالوا: صدقت.
وقال أصحاب ابن عباس: مجاهد وطاوس وعكرمة: الرعد: ملك يزجر السحاب بصوته، ويسوقه، والرعد الذي هو الصوت سمي به.
وسئل وهب بن منبه عن الرعد، فقال: الله أعلم.
25 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَلاءِ أَحْمَدُ بْنُ مَحْمُودٍ الأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّعْدَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لا يُصِيبُ ذَاكِرًا»(1/95)
والبرق: مصع ملك يسوق السحاب، وقال علي، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: البرق: مخاريق بأيدي الملائكة.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رأى البرق وسمع الصواعق قال: «اللهم لا تهلكنا بعذابك، ولا تقتلنا بغضبك، وعافنا قبل ذلك» .
وأما معنى الآية، فقال المفسرون: إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلا آخر وشبههم بأصحاب مطر.
ومعنى أو كصيب: أو كأصحاب صيب، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وأراد بالمطر: القرآن، وشبهه بالمطر لما فِيهِ من حياة القلوب، وبالظلمات: لما فِي الكفر من ذكر الكفر والشرك، وبيان الفتن والأهوال، وبالرعد: لما خوفوا به من الوعيد وذكر النار، وبالبرق: حجج القرآن وما فِيهِ من البيان والنور والشفاء والهدى، وشبه جعل المنافقين أصابعهم فِي آذانهم لكيلا يسمعوا ما ينزل من القرآن ما فِيهِ افتضاحهم بجعل الذي فِي هذا المطر أصابعه فِي أذنه كيلا يسمع صوت الرعد.
والصواعق: وهي جمع صاعقة، والصاعقة والصعقة: الصيحة، يغشى منها على من يسمعها أو يموت، قال الله تعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13] .
ويقال للرعد والبرق إذا قتل إنسانًا: أصابته صاعقة.
وقيل: الصاعقة: الصوت الشديد من الرعد يسقط معها قطعة نار.
وقوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 19] : قال الزجاج: إنما نصب حذر لأنه فِي تأويل المصدر، كأنه قيل: يحذرون حذرا، لأن جعل الأصابع فِي الآذان يدل على الحذر.
وقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: 19] : قال مجاهد: جامعهم يوم القيامة، يقال: أحاط بكذا إذا لم يشذ منه شيء،(1/96)
كقوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ، أي: لم يشذ عن علمه شيء.
وجاء فِي التفسير: والله مهلكهم، يقال: أحاط بفلان، إذا دنا هلاكه فهو محاط به.
قال الله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي: أصابه ما أهلكه وأفسده، وقوله تعالى: {إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي: تهلكوا جميعا.
وقوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] : كاد: موضوع عند العرب لمقاربة الفعل، وكدت أفعل معناه عند العرب: قاربت الفعل ولم أفعل، وما كدت أفعل معناه: فعلت بعد إبطاء.
والخطف: أخذ باستلاب، يقال: خطف يخطف خطفا، ومنه الخطاف.
وهذه الآية من تمام التمثيل، والمعنى: يكاد ما فِي القرآن من الحجج النيرة يخطف قلوبهم من شدة إزعاجها إلى النظر فِي أمر دينهم، {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} [البقرة: 20] البرق، {مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] لاهتدائهم إلى الطريق بضوء البرق، كذلك المنافقون كلما قرئ عليهم شيء من القرآن مما يحبون صدقوا، {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 20] الطريق، قاموا أي: وقفوا، كذلك المنافقون كلما سمعوا شيئا مما يكرهون وينكرون وقفوا عن تصديقه، وتم التمثيل ههنا ثم أوعدهم فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 20] أي: لو شاء الله لأصمهم وأعماهم فذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة حتى يصيروا صما عميا، كما ذهب بأسماعهم وبأبصارهم الباطنة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] أي أنه ذو قدرة على إيقاع ما أوعدهم به، فليحذروا عاجل عقوبة الله وآجله.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {22} } [البقرة: 21-22] قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] : يأيها الناس: عموم فِي كل مكلف من مؤمن وكافر، ويروى عن الحسن وعلقمة أن يأيها الناس خطاب لأهل مكة، ويأيها الذين آمنوا خطاب لأهل المدينة.
ومعنى اعبدوا ربكم: اخضعوا له بالطاعة، ولا يجوز ذلك إلا لمالك الأعيان.(1/97)
قوله: الذي خلقكم: الخلق: إبداع شيء لم يسبق إليه، وكل شيء خلقه الله فهو مبتدئه أولا على غير مثال سبق إليه.
ومعنى الآية: أن الله تعالى احتج على العرب بأنه خلقهم وخالق من قبلهم لأنهم كانوا مقرين بذلك، لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] ، فقيل لهم: إذ كنتم معترفين بأن الله خالقكم فاعبدوه، فإن عبادة الخالق أولى من عبادة المخلوقين من الأصنام.
وقوله: لعلكم تتقون: قال ابن الأنباري: لعل: يكون ترجيا ويكون بمعنى كي.
وقال سيبويه: لعل: كلمة ترجية وتطميع، أي: كونوا على رجاء وطمع أن تتقوا بعبادتكم عقوبة الله أن تحل بكم، كما قال فِي قصة فرعون: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] كأنه قال: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما، والله تعالى من وراء ذلك وعالم بما يئول إليه أمره.
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: 22] : الأرض التي عليها الناس هي فراش الأنام، على معنى أنها فرشت لهم، أي: بسطت لهم، وهذا كقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] ، والمعنى: أنه لم يجعلها حزنة غليظة لا يمكن الاستقرار عليها.
{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [البقرة: 22] يعني المطر، والمعنى: من نحو السماء، فحذف المضاف وإن جعلت السماء بمعنى السحاب لم يحتج إلى تقدير المضاف.
وقوله: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة: 22] : الثمرات: جمع ثمرة وهي حمل الشجرة فِي الأصل، ثم صارت اسما لكل ما ينتفع به مما هو زيادة على أصل المال، يقال: ثمر الله ماله، وعقل مثمر إذا كان يهدي صاحبه إلى رشد.
والثمرة: تستعمل فيما ينتفع به ويستمتع مما هو فرع الأصل.
قال المفسرون: أراد بالثمرات: جميع ما ينتفع به مما يخرج من الأرض.
وقوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] : يقال: فلان ند فلان.
أي: شبهه ومثاله، قال حسان:(1/98)
أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفداء
وقال جرير:
أتيما تجعلون إلي ندا ... وما تيم لذي حسب نديد
قال ابن عباس والسدي: لا تجعلوا لله أكفاء من الرجال تطيعونهم فِي معصية الله.
وقال ابن زيد: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه.
وقال الزجاج: هذا احتجاج عليهم لإقرارهم بأن الله خالقهم، فقيل لهم: لا تجعلوا لله أمثالا وأنتم تسلمون أنهم لا يخلقون، والله الخالق.
وقال ابن الأنباري: وأنتم تعلمون أن الأنداد التي تعبدونها لم ترفع لكم السماء، ولم تمهد لكم الأرض، ولم ترزقكم رزقا، وإنما وصفهم الله تعالى بهذا العلم لتتأكد الحجة عليهم إذا اشتغلوا بشيء يعلمون أن الحق فيما سواه.
26 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا وَالِدِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ(1/99)
إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ قَالا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ: أَبِي مَيْسَرَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُثْمَانَ، وَإِسْحَاقَ، كُلُّهُمْ عَنْ جَرِيرٍ
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {23} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {24} وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {25} } [البقرة: 23-25] قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] : إن: دخلت ههنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب فِي خطابهم كقولك: إن كنت إنسانا فافعل كذا.
وأنت تعلم أنه إنسان، وإن كنت ابني فأطعني.
فخاطبهم الله تعالى على عادة خطابهم فيما بينهم.
وقيل: إن ههنا بمعنى: إذا.
قال أبو زيد: وتجيء إن بمعنى إذا، نحو قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ(1/100)
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، وقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ، وقال الأعشى:
وسمعت حلفتها التي حلفت ... إن كان سمعك غير ذي وقر
وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] : ال { [: عرق من عروق الحائط، وتجمع: سور وسور، وكل منزلة رفيعة فهي سورة، مأخوذة من سور البناء، ومنه قول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
وهذا قول أبي عبيدة وابن الأعرابي فِي تفسير السورة، فكل سورة من سور القرآن بمنزلة درجة عالية رفيعة ومنزل عال، يرتفع القارئ منها إلى منزلة أخرى إلى أن يستكمل القرآن.
وقال أبو الهيثم: السورة من سور القرآن عندنا: قطعة من القرآن، وخص ذلك القدر بتسميته سورة، لأنه أقل قطعة وقع به التحدي.
وعلى هذا القول: هي مأخوذة من سؤر الشراب، وهي بقيته وقطعة منه، إلا أنها لما كثرت فِي الكلام ترك الهمز.(1/101)
فإن قيل: ما الفائدة فِي تفصيل القرآن على السور؟ قيل: فِيهِ فوائد كثيرة منها: أن القارئ إذا خرج من سورة إلى سورة أخرى كان أنشط لقراءته وأحلى فِي نفسه.
ومنها: أن تختص كل سورة بقدر مخصوص كاختصاص القصائد.
ومنها: أن الإنسان قد يضعف عن حفظ الجميع، فيحفظ سورة تامة، فربما كان ذلك سببا يدعوه إلى حفظ غيرها.
قال المفسرون: ومعنى ال:: أن الله تعالى لما احتج عليهم فِي إثبات توحيده، احتج عليهم، أيضا، فِي إثبات نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قطع عذرهم فقال:] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا} [البقرة: 23] أي: فِي شك من صدق هذا الكتاب الذي أنزلناه على محمد، وقلتم: لا ندري هل هو من عند الله أم لا؟ {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] أي: من مثل القرآن، كقوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] ، وقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] ، وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] كل ذلك يريد به مثل القرآن.
فالمعنى: فأتوا ب { [مثل ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الإعجاز وحسن النظم والإخبار عما كان وعما يكون دون تعلم الكتاب ودراسة الأخبار.
ويجوز أن تعود الكناية فِي مثله إلى قوله: على عبدنا وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمعنى: فأتوا بسورة من رجل أمي لا يحسن الخط والكتابة، ولم يدرس الكتب.
وقوله: وادعوا شهدائكم: قال ابن عباس: يعني أنصاركم وأعوانكم الذين يظاهرونكم على تكذيبكم، وسمى أعوانهم شهداء لأنهم يشاهدونهم عند المعاونة، والشهيد يكون بمعنى الشاهد كالجليس والشريب.(1/102)
وقوله: من دون الله: أي: من غير الله، يقال: ما دون الله مخلوق.
يريد: وادعوا من اتخذتموهم معاونين من غير الله.
إن كنتم صادقين فِي أن هذا الكتاب تقوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفسه.
وقوله: فإن لم تفعلوا إن: حرف الشرط والجزاء، كقولك: إن تضرب أضرب، ولم: حرف يجزم الفعل المضارع ويقع ما بعدها بمعنى الماضي، كما يقع الماضي بعد حروف الجزاء بمعنى الاستقبال.
وقوله: ولن تفعلوا: لن: حرف قائم بنفسه وضع لنفي الفعل المستقبل ونصبه للفعل كنصب إن.
ومعنى ال:: فإن لم تفعلوا معارضته بمثل القرآن فيما مضى من الزمان، ولن تفعلوا أيضا فيما يستقبل، فاتقوا النار أي: فاحذروا أن تصلوا النار بتكذيبكم.
وإنما قيل لهم هذا بعد أن ثبتت عليهم الحجة فِي التوحيد وصدق محمد عليه السلام بالآيات السابقة.
ثم وصف النار فقال:] الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] قال ابن السكيت: الوقود بالضم: المصدر، يقال: وقدت النار وقدا ووقودا.
والوقود بالفتح: اسم لما توقد به النار، يقال: ما أجود هذا الوقود للحطب.
والحجارة: جمع حجر، وليس بقياس، ولكنهم قالوه كما قالوا: جمل وجمالة، وذكر وذكارة.
والقياس: أحجار.
وجاء فِي التفسير عن ابن عباس وغيره: أن الحجارة ههنا: حجارة الكبريت، وهي أشد لإيقاد النار.
وقيل: ذكر الحجارة دليل على عظم تلك النار، لأنها لا تأكل الحجارة إلا إذا كانت فظيعة.
أعدت خلقت وهيئت، للكافرين لأنهم يخلدون فِيها.
ولما ذكر جزاء الكافرين بتكذيبهم ذكر جزاء المؤمنين بتصديقهم، فقال: وبشر الذين آمنوا التبشير: إيراد الخبر السار الذي يظهر أثر السرور فِي بشرة المخبر، هذا هو الأصل، ثم كثر استعماله حتى صار بمنزلة الإخبار فاستعمل فِي نقيضه، كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، إلا أنه فيما يسر أكثر استعمالا.
وقوله: وعملوا الصالحات: قال ابن عباس: وعملوا الطاعات فيما بينهم وبين ربهم.(1/103)
وقوله: أن لهم موضع أن نصب، معناه: بشرهم بأن لهم، فلما سقطت الباء وصل الفعل إلى أن فنصب.
وقوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25] : جنات: جمع جنة وهي الحديقة ذات الشجر، سميت جنة لكثرة شجرها ونباتها، يقال: جنت الرياض جنونا، إذا أعتم نبتها حتى ستر الأرض.
ويقال لكل ما ستر: قد جن وأجن.
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة: 25] أي: من تحت أشجارها ومساكنها.
والنهر لا يجري وإنما يجري الماء فِيهِ، ويستعمل الجري فِيهِ توسعا لأنه موضع الجري.
وقوله: كلما: كل: حرف جملة ضم إلى ما فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة على الظرف.
رزقوا: أطعموا، من ثمرة: من صلة، أي: ثمرة، ويجوز أن تكون للتبعيض لأنهم إنما يرزقون بعض ثمار الجنة، {قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] لتشابه ما يؤتون به، ولم يريدوا بقولهم: {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] نفس ما يأكلون، ولكن أرادوا: هذا من نوع ما رزقنا من قبل، كما يقول الرجل لغيره: فلان قد أعد لك الطبيخ والشواء.
فيقول: هذا طعامي فِي منزلي كل يوم.
يريد هذا الجنس.
قال الزجاج: وضم قبل لأنها غاية، كان يدخلها بحق الإعراب الفتح والكسر، فلما عدلت عن بابها بنيت على ما لم يكن يدخلها بحق الإعراب، وعدلها: أن أصلها الإضافة، فجعلت مفردة تنبئ عن الإضافة.
هذا كلامه، ومعناه: أن قبل لا يستعمل إلا مضافا، وله إعرابان عند الإضافة: الفتح والكسر، نحو قبلك، من قبلك، فلما استعمل منفردا من غير إضافة والمعنى إرادة الإضافة بني على ما لم يكن يدخلها بحق الإعراب وهو الضم، ومن هذا قوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4] تأويله: من قبل كل شيء ومن بعد كل شيء.
ومعنى {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 25] : أي: من قبل هذا الزمان ومن قبل هذا الوقت.
وقوله: وأتوا به: أي: أُتِيَ المؤمنون بذلك الرزق، متشابها: يشبه بعضه بعضا فِي اللون والصورة، مختلفا(1/104)
فِي الطعم، نحو رمان يؤدي طعم الكمثرى والتفاح والسفرجل، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك، قالوا: إذا طعموه وجدوا له طعما سوى الطعم الأول، فإذا رأوه قالوا: هذا الأول.
وقال الحسن، وقتادة، وابن جريج: متشابها فِي الفضل، خيارا كله لا رذال فِيهِ كما يكون فِي ثمار الدنيا.
وقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] : الأزواج: جمع زوج وزوجة، وشكل كل شيء: زوجه، ومطهرة: قال مجاهد: لا يتغوطن ولا يبلن ولا يمنين ولا يحضن، فهن مطهرة من الحيض والبول والنخام والبزاق والمني والولد.
وقيل: مطهرة من مساوئ الأخلاق، لما فيهن من حسن التبعل، ودل على هذا قوله: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] .
وهم فِيها خالدون لأن تمام النعمة بالخلود والبقاء هناك، كما أن التغيض بالزوال والفناء.
27 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو رِفَاعَةَ عُمَارَةُ بْنُ وَثِيمَةَ، وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ(1/105)
أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَزْوَاجَ الْجَنَّةِ لَيُغَنِّينَ أَزْوَاجَهُنَّ بِأَحْسَنِ أَصْوَاتٍ مَا سَمِعَهَا أَحَدٌ قَطُّ وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَيْرَاتُ الْحِسَانْ، أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامْ، يَنْظُرُونَ بِقُرَّةِ أَعْيَانْ، وَإِنَّ مِمَّا يُغَنِّينَ بِهِ: نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَلا نَمُوتُ، نَحْنُ الآمِنَاتُ فَلا نَخَافُ، نَحْنُ الْمُقِيمَاتُ فَلا نَظْعَنُ "
28 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا كُرَيْبٌ، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ يَوْمًا، فَقَالَ: «أَلا مُشَمِّرٌ لَهَا؟ هِيَ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، رَيْحَانَةٌ تَهْتَزُّ وَنُورٌ يَتَلأْلأُ، وَنَهْرٌ(1/106)
مُطَّرِدٌ، وَزَوْجَةٌ لا تَمُوتُ فِي حُبُورٍ وَنَعِيمٍ، وَمَقَامٍ أَبَدًا»
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ {26} الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {27} كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {28} هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {29} وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ {30} } [البقرة: 26-30] قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا} [البقرة: 26] الآية: قال الحسن، وقتادة، وعطاء، عن ابن عباس: لما ذكر الله عز وجل الذباب والعنكبوت فِي كتابه وضرب للمشركين به المثل ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله.
فأنزل الله هذه الآية.
قال أهل المعاني: قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} [البقرة: 26] خرج على لفظهم حيث قالوا: إن الله يستحي أن يضرب المثل بالذباب والعنكبوت.
فرد الله عليهم وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ} [البقرة: 26] ، كما أنهم لما قالوا للقرآن: هذا سحر مفترى.
قال الله تعالى {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] .
وقال بعضهم: معنى قوله: لا يستحيي: هو أن الذي يستحيا منه ما يكون قبيحا فِي نفسه ويكون لفاعله عيب فِي فعله، فأخبر الله سبحانه أن ضرب المثل منه ببعوضة فما فوقها ليس بقبيح ولا نقص ولا عيب، حتى يستحيا منه.(1/107)
وقيل: معنى قوله: لا يستحيي: لا يترك، لأن أحدنا إذا استحى من شيء تركه، ومعناه: إن الله لا يترك ضرب المثل ببعوضة فما فوقها إذا علم أن فِيهِ عبرة لمن اعتبر وحجة على من جحد.
وقوله: ما بعوضة: ما: زائدة مؤكدة كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] ، ولا إعراب لها، والناصب والخافض يتعداها إلى ما بعدها، ونصبت بعوضة على أنها المفعول الثاني ل يضرب، لأن يضرب ههنا معناه: يجعل.
هذا الذي ذكرنا هو قول البصريين.
والبعوض: صغار البق، الواحدة: بعوضة.
وقوله: فما فوقها: قال ابن عباس: يعني الذباب والعنكبوت.
وهما فوق البعوض، وقد استشهد على استحسان ضرب المثل الحقير فِي كلام العرب بقول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
ويقول أيضا:
وهل شيء يكون أذل بيتا ... من اليربوع يحتفر الترابا
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 26] : مدحهم الله بعلمهم أن المثل وقع فِي حقه، وذم الكافرين بإعراضهم عن طريق الاستدلال وإنكارهم ما هو صواب وحكمة، يقولون: أي شيء أراد الله بهذه الأمثال؟ وهذا استفهام معناه الإنكار، كأنهم قالوا: أي فائدة فِي ضرب المثل بهذا؟ وفي نصب قوله: مثلا وجوه: أحدها: الحال، لأنه جاء بعد تمام الكلام، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا مبينا؟ والثاني: التمييز والتفسير للمبهم، وهو هذا، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا من الأمثال؟ والثالث: القطع، كأنه قيل: ماذا أراد الله بهذا المثل؟ إلا أنه لما جاء نكرة نصب على القطع من اتباع المعرفة.
وهذا قول الفراء.(1/108)
وأجاب الله تعالى الكفار عن قولهم: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} [البقرة: 26] فقال: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] أي: أراد الله بهذا المثل أن يضل به كثيرا من الكافرين، وذلك أنهم ينكرونه ويكذبونه، {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26] من المؤمنين، لأنهم يعرفونه ويصدقون به.
قال الأزهري: الإضلال فِي كلام العرب: ضد الهداية والإرشاد، يقال: أضللت فلانا، إذا وجهته للضلال عن الطريق.
وإياه أراد لبيد بقوله:
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
ولا يجوز أن يكون معنى الإضلال الحكم والتسمية، لأن أحدنا إذا حكم بإضلال إنسان لا يقال: أضله.
وهذا شيء لا يعرفه أهل اللغة.
قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] قال الليث: والفسوق: الترك لأمر الله.
وقال الفراء: الفسق: الخروج عن الطاعة.
والعرب تقول: فسقت الرطبة عن قشرها، إذا خرجت.
وقال أبو الهيثم: وقد يكون الفسوق شركا، ويكون إثما، والذي أريد به ههنا: الكفر.
ثم وصف هؤلاء الفاسقين فقال: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] ومعنى النقض: الهدم وإفساد ما أبرمته من حبل أو بناء، ونقيض الشيء: ما ينقضه، أي: ما يهدمه ويرفع حكمه.
وعهد الله: وصيته وأمره، يقال: عهد الخليفة إلى فلان كذا وكذا.
أي: أمره وأوصاه به، ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يس: 60] .
وذكر المفسرون فِي العهد المذكور فِي هذه الآية قولين: أحدهما: ما أخذوه على النبيين ومن اتبعهم، أن لا يكفروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] الآية.(1/109)
والثاني: أن يكون عهد الله الذي أخذه من بني آدم يوم الميثاق حين قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ثم مجدوا ونقضوا ذلك العهد فِي حال كمال عقولهم.
وهذا قول ابن عباس فِي رواية عطاء.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] : الميثاق: ما وقع من التوثيق، والكتاب أو الكلام الذي يستوثق به: ميثاق.
والكتابة فِي الميثاق يجوز أن تكون عائدة على اسم الله، أي: من ميثاق الله ذلك العهد بما أكد من إيجابه عليهم، ويجوز أن تعود على العهد، أي: من بعد ميثاق العهد وتوكيده.
وقوله تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27] يعني الأرحام، وذلك أن قريشا قطعوا رحم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعاداة معه.
وقيل: هو الإيمان بجميع الكتب والرسل، وهو نوع من الصلة، وهو قول ابن عباس، قال: يريد الإيمان بجميع الأنبياء، من لدن آدم إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بخلاف قول الكفار: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] ، فالمؤمنون وصلوا بينهم بالإيمان بجميعهم فقالوا: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] .
وقوله: ويفسدون فِي الأرض: قال ابن عباس: يحكمون بغير الحق.
وقال غيره: يفسدون فِي الأرض بالمعاصي وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أولئك هم الخاسرون بفوت المثوبة، والمصير إلى العقوبة.
وأصل الخسران فِي التجارة، وهو نقصان رأس المال، ويقال فِيهِ: الخسارة والخسر هذا هو الأصل، ثم قيل لكل صائر إلى مكروه: خاسر.
لنقصان حظه من الخير.
وقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] : كيف فِي الأصل: سؤال عن حال، لأن جوابه يكون بالحال كما تقول: كيف زيد؟ فيقال: صالح، أو سقيم.
قال الزجاج: تأويل كيف ههنا: استفهام فِي معنى التعجب، والتعجب إنما هو للخلق والمؤمنين، أي: أعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون بالله وقد ثبتت حجة الله عليهم!!(1/110)
ونحو هذا قال الفراء: هذا على وجه التعجب والتوبيخ، لا على الاستفهام المحض.
أي: وَيْحَكُمْ كيف تكفرون؟ ! وهذا كما يقال: كيف تكفر نعمة فلان وقد أحسن إليك؟ ومعنى الآية: على أي حال يقع منكم الكفر وحالكم أنكم كنتم أمواتا؟ قال ابن عباس، فِي رواية الضحاك، أراد: كنتم ترابا.
ردهم إلى أبيهم آدم، وفي رواية عطاء، والكلبي: وكنتم نطفا.
وكل ما فارق الجسد من نطفة أو شعر فهو موات، وقوله فأحياكم: فِي الأرحام بأن جعل فيكم الحياة، ثم يميتكم فِي الدنيا، ثم يحييكم للبعث، ثم إليه ترجعون فيفعل بكم ما يشاء.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] : قال المفسرون: لما استعظم المشركون أمر الإعادة عرفهم الله خلق السموات والأرض ليدلهم بذلك على قدرته على الإعادة، فقوله: لكم أي: لأجلكم، فما فِي الأرض كله مخلوق للآدميين، بعضه للانتفاع وبعضه للاعتبار كالسباع والعقارب والحيات، فإن فِيها عبرة وتخويفا، لأنه إذا رؤي طرف من المتوعد به كان ذلك أبلغ فِي الزجر عن المعصية.
وقوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] : قال الفراء: الاستواء فِي كلام العرب على وجهين: أحدهما: أن يستوي الرجل وينتهي شبابه وقوته، أو يستوي من اعوجاج.
ووجه ثالث: أن نقول: كان فلان مقبلا على فلان ثم استوى علي وإلي يكلمني.
على معنى: أقبل علي وإلي، فهذا معنى قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] ، وسئل أحمد بن يحيى ثعلب عن الاستواء فِي صفة الله تعالى فقال: الاستواء: الإقبال على الشيء.
قال(1/111)
الزجاج: قال قوم فِي قوله تعالى: ثم استوى إلى السماء: أي: عمد وقصد إلى السماء.
كما تقول: فرغ الأمير من بلد كذا، ثم استوى إلى بلد كذا.
معناه: قصد بالاستواء إليه، قال: وقول ابن عباس: استوى إلى السماء.
أي: صعد، معناه: صعد أمره إلى السماء.
وحكى أهل اللغة أن العرب تقول: كان الأمير يدبر أهل الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز.
أي: تحول فعله.
وقوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة: 29] : التسوية: جعل الشيئين أو الأشياء على استواء، يقال: سويت الشيئين فاستويا.
وجمع الكناية فِي فسواهن: لأنه أراد بالسماء: جمع سماءة، أو سماوة على ما ذكرنا.
وجائز أن تعود الكناية إلى أجزاء السماء ونواحيها، فالمعنى: جعلهن سبع سموات مستويات بلا فطور ولا أمت.
وهو بكل شيء عليم إذ بالعلم يصح الفعل المحكم، فأفعاله تدل على علمه.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} [البقرة: 30] الآية، قال أبو عبيدة: إذ ههنا زائدة، معناه: وقال ربك للملائكة.
وأنكر الزجاج وغيره هذا القول وقالوا: إن الحرف إذا أفاد معنى صحيحا لم يجز إلغاؤه.
قالوا: وفي الآية محذوف، معناه: واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة.
وأكثر المفسرين على أن كل ما ورد فِي القرآن من هذا النحو فالذكر فِيهِ مضمر.
وأما الملائكة فقال سيبويه: واحدها: ملك، وأصلها: ملاك، مهموز، حذف همزه لكثرة الاستعمال، وأنشد:
فلست لإنس ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب(1/112)
وأصله من المألكة والألوك وهي الرسالة.
قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] : الخليفة: الذي يخلف الذاهب، أي: يجيء بعده، يقال: خلف فلان مكان فلان، وأصل الخليفة: خليف، بغير هاء، لأنه فعيل بمعنى فاعل كالعليم والسميع، فدخلت الهاء للمبالغة بهذا الوصف، وكما قالوا: راوية وعلامة.
ألا ترى أنهم جمعوه خلفاء كما يجمع فعيل، ومن أنث لتأنيث اللفظ قال فِي الجمع: خلائف.
وقد ورد التنزيل بها، قال الله تعالى: {خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69] ، وقال: {خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} [يونس: 14] .
وأراد بالخليفة: آدم، فِي قول جميع المفسرين، جعله خليفة عن الملائكة الذين كانوا سكان الأرض بعد الجن، وذلك أن الله خلق السماء والأرض، وخلق الملائكة والجن، فأسكن الملائكة السماء، وأسكن الجن الأرض، فعبدوا دهرا طويلا فِي الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي، فاقتتلوا وأفسدوا، فبعث الله إليهم جندا من الملائكة يقال لهم: الجن.
رأسهم إبليس، وهم خزان الجنان، اشتق لهم اسم من الجنة، فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن عن وجوهها إلى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض.
وكانوا أخف من الملائكة عبادة، لأن أهل السماء الدنيا أخف عبادة أخف من الذين فوقهم، وكذلك أهل كل سماء، وهؤلاء الملائكة لما صاروا سكان الأرض خفف الله عليهم العبادة، فأحبوا البقاء فِي الأرض، وكان الله قد أعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنان، وكان يعبد الله تارة فِي الأرض وتارة فِي السماء وتارة فِي الجنة، فأعجب بنفسه وتداخله الكبر، فاطلع الله عز وجل على ما انطوى عليه من الكبر، فقال له ولجنده: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] .(1/113)
29 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُعَاوِيَةَ الطَّلْحِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرِ بْنِ رَاشِدٍ الأَسَدِيُّ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ جَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ أَجْوَفَ، قَالَ: ظَفِرْتُ بِهِ خَلْقًا لا يَتَمَاسَكُ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادٍ
30 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْخَطِيبِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّبِيبِيُّ، حَدَّثَنَا بُنْدَارٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ قَالُوا:(1/114)
أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ قَسَامَةَ بْنِ زُهَيْرٍ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ»
وقوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] : قال السدي: قال ابن عباس: قال الله تعالى لهم: إني خالق بشرا.
وإنهم يتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا، فلذلك {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] ؟ ! وقال أكثر المفسرين: إنهم قاسوا على الغائب، فقالوا: أتجعل فِيها من يفسد فِيها كما فعل بنو الجان.
وقوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] : معنى التسبيح: تنزيه الله من كل سوء، وكل من أثنى على الله وبعده عن السوء فقد سبح الله.
قال الحسن: معناه: نقول: سبحان الله وبحمده.
وقال غيره: معنى قوله: نسبح بحمدك: نتكلم بالحمد لك، والنطق بالحمد لله تسبيح له كما قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5] ، وقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ(1/115)
رَبِّكَ} [الحجر: 98] أي: احمده، ويكون حمد الحامد له تسبيحا له، لأن معنى الحمد: الثناء عليه والشكر له، وهذا تنزيه له واعتراف أنه أهل لأن ينزه ويعظم ويثنى عليه، قوله تعالى: ونقدس لك أي: نطهرك وننزهك عما لا يليق بك من النقص، واللام فِيهِ صلة، والتقديس: التطهير، والقدس: الطهارة، والبيت المقدس: المطهر.
وقوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] : قال ابن عباس: يعني إضمار إبليس العزم على المعصية وما اطلع عليه من كبره.
وقال قتادة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] : أنه يكون فِي أولاد آدم من هو من أهل الطاعة.
وقيل: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] من تفضيل آدم عليكم وما أتعبدكم به من السجود له، وأفضله به عليكم من تعليم الأسماء، وذلك أنهم قالوا، فيما بينهم: ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق أفضل ولا أكرم عليه منا، وإن كان خيرا منا فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله، ورأينا ما لم يره.
فلما أعجبوا بعلمهم فضل الله آدم عليهم بالعلم، فعلمه الأسماء كلها، وذلك قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ {33} } [البقرة: 31-33] {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] : ووجه تعليمه آدم أن خلق فِي قلبه علما بالأسماء على سبيل الابتداء، وألهمه العلم بها.
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: علمه اسم كل شيء، حتى القصعة والمغرفة.
وقال أهل التأويل: إن الله تعالى علم آدم جميع اللغات، ثم إن أولاده تكلم كل واحد منهم بلغة أخرى، فلما تفرقوا فِي البلاد اختص كل فرقة منهم بلغة، فاللغات كلها إنها سمعت من آدم وأخذت عنه.(1/116)
وقوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} [البقرة: 31] : معنى العرض فِي اللغة: الإظهار، ومنه عرض الجارية، وعرض الجند، يقال: عرضت المتاع على البيع، إذا أظهرته للمشتري.
قال الله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} [الكهف: 100] قال الفراء: أي: أبرزها حتى رأوها.
قال مقاتل: إن الله تعالى خلق كل شيء، الحيوان والجماد، ثم علم آدم أسماءها، ثم عرض تلك الشخوص الموجودات على الملائكة، ولذلك قال: ثم عرضهم، لأنه كنى عن المسمين والمسميات، وكان فيهم من يعقل من الجن والإنس والملائكة.
وقوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ} [البقرة: 31] أي: أخبروني، والنبأ: الخبر، وهذا أمر تعجيز، أراد الله تعالى أن يبين عجزهم عن علم ما يرون ويشاهدون، فلا يظنون أنهم أعلم من الخليفة الذي يجعله الله فِي الأرض.
وقوله تعالى: إن كنتم صادقين: قال قتادة، والحسن: إن كنتم صادقين أنني لا أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه وأفضل منه.
فقالت الملائكة إقرارا بالعجز واعتذارا: سبحانك قال ابن عباس: تنزيها لك، وتعظيما عن أن يعلم الغيب أحد سواك.
وقيل: تنزيها لك عن الاعتراض عليك فِي حكمك.
وهو منصوب على المصدر عند الخليل والفراء إذا قلت: سبحان الله.
فكأنك قلت سبحت الله تسبيحا وسبحانا.
فجعل السبحان فِي موضع التسبيح، كما تقول: كفرت عن يميني تكفيرا وكفرانا، وكلمته كلاما، وسلمت سلاما.
قال الله تعالى: {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا} [الأحزاب: 49] .
قال سيبويه: يقال: سبحت الله تسبيحا، وسبحانا.
فالمصدر: تسبيح، وسبحان: اسم يقوم مقام المصدر.(1/117)
وقوله: {لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] : قال المفسرون: هذا اعتراف عن الملائكة بالعجز عن علم ما لم يعلموه، فكأنهم قالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] وليس هذا مما علمتنا.
فجاء الكلام مختصرا.
وقوله: إنك أنت العليم أي: العالم، الحكيم: الحاكم، تحكم بالعدل وتقضي به، والحكم: القضاء بالعدل، قال النابغة:
وأحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام سراع وارد الثمد
ويجوز أن يكون الحكيم بمعنى: المحكم للأشياء، كالأليم بمعنى المؤلم، والسميع بمعنى المسمع فِي قول عمرو بن معديكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وقوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] : قال المفسرون: لما ظهر عجز الملائكة عن علم أسماء الموجودات قال الله عز وجل: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فسمى كل شيء باسمه، وألحق كل شيء بجنة، {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] أخبرهم بتسمياتهم، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} [البقرة: 33] لم: حرف نفي وصل بألف الاستفهام، فصار بمعنى الإيجاب والتقرير كقول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 33] أي: ما غاب فِيهمَا عنكم، وهذا كقوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [هود: 123] أي: له ما غاب فِيهمَا ملكا وخلقا.
{وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ} [البقرة: 33] من قولكم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] ، {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] من إضمار إبليس(1/118)
الكفر.
وقال الحسن وقتادة: {وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33] يعني قولهم: لن يخلق الله خلقا أفضل ولا أعلم منا.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {35} فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {36} فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37} قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {38} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {39} } [البقرة: 34-39] قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] موضع إذ نصب نسقا على إذ التي قبلها، وقوله: قلنا هو خطاب الأكابر والعظماء، يقول الواحد منهم: فعلنا.
لعلمه بأن أتباعه يفعلون كفعله، فأخبر الله تعالى عن نفسه على الجمع لأنه ملك الملوك.
واختلفوا فِي الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم، من هم؟ فقال بعضهم: هم الذين كانوا مع إبليس فِي الأرض.
وقال آخرون: هم جميع الملائكة حتى جبريل وميكائيل، لأنه قال: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] ، وفي هذا تأكيد للعموم.
وأصل السجود فِي اللغة: الخضوع والتذلل، وكل من ذل وخضع لما أمر به فقد سجد.
وسجود كل موات فِي القرآن: طاعته لما سخر له.
وقال أبو عبيدة: عين ساجدة، إذا كانت فاترة.
ونخلة ساجدة، إذا مالت لكثرة حملها.
وكان سجود الملائكة لآدم على جهة التكريم، فكان ذلك تكريمًا لآدم وطاعة لله , ولم تكن عبادة لآدم،(1/119)
وحكى ابن الأنباري، عن الفراء، وجماعة من الأئمة: أن سجود الملائكة لآدم كان تحية ولم يكن عبادة، وكان ذلك سجود تعظيم وتسليم وتحية، لا سجود صلاة وعبادة، وكان ذلك تحية الناس وتعظيم بعضهم بعضًا ولم يكن وضع الوجه على الأرض، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام.
وآدم سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وقيل: إنه كان أدأم بالعبرانية، وهو التراب، فعربته العرب فقالوا: آدم.
وقوله: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ} [البقرة: 34] قال أكثر أهل اللغة والتفسير: سمي إبليس بهذا الاسم لأنه أبلس من رحمة الله، أي: أيس، والمبلس: المكتئب الآيس الحزين، وفي القرآن {فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .
وقال ابن الأنباري: لا يجوز أن يكون مشتقًّا من أبلس، لأنه لو كان كذلك لانصرف ونون كما ينون إكليل وإحليل وبابه، وترك التنوين فِي القرآن يدل على أنه أعجمي معرب معرفة، والأعجمي لا يعرف له اشتقاق.
قال مجاهد، وطاوس، عن ابن عباس: كان إبليس قبل أن يركب المعصية ملكًا من الملائكة اسمه عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان سكان الأرض من الملائكة يسمون الجن، ولم يكن من الملائكة أشد اجتهادًا، ولا أكثر علما منه، فلما تكبر على الله وأبى السجود لآدم وعصاه، طرده الله ولعنه، وجعله شيطانا وسماه إبليس.
وهذا قول ابن مسعود، وابن جريج، وقتادة، وأكثر المفسرين.
وقوله: أبى أي: أبى السجود ولم يسجد، وقوله: واستكبر ومعنى الاستكبار: الأنفة مما لا ينبغي أن يؤنف منه.
وقوله: وكان من الكافرين أي: صار، كقوله: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43] ، وقال الأكثرون: وكان فِي سابق علم الله من الكافرين.(1/120)
وقوله: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35] أي: اتخذاها مأوى ومنزلًا، وليس معناه: استقر فِي مكانك ولا تتحرك، وهذا اللفظ مشترك، يقال: أسكنه.
أي: أزال حركته، وأسكنه مكان كذا: أي جعله مأوى ومنزلًا له.
وقوله: وزوجك لفظ مذكر، ومعناه مؤنث، وكان الأصمعي يؤثر ترك الهاء فِي الزوجة، والقرآن كله عليه.
وقوله: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} [البقرة: 35] الرغد أو الرغد: سمعة المعيشة، قال امرؤ القيس:
بينما المرء تراه ناعما ... يأمن الأحداث فِي عيش رغد
قال الليث: الرغد أن يأكل ما شاء إذا شاء حيث شاء.
وقوله: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] معناه: لا تقرباها بالأكل، لأن آدم عصى بالأكل منها، لا بأن قربها، وهو نهي بأبلغ لفظ يكون، يقال: ما قربت هذا الأمر قربانا.
أي: ما دنوت منه.
والشجرة فِي اللغة: ما لها ساق يبقى فِي الشتاء، والنجم: ما ليس له ساق، ومنه قوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] واختلفوا فِي الشجرة التي نهي آدم عنها، فقال ابن عباس، وعطية، ووهب، وقتادة: إنها السنبلة، وقال ابن(1/121)
مسعود، والسدي: هي الكرم، وقال ابن جريج: إنها التين.
وقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35] أي: من العاصين الذين وضعوا أمر الله فِي غير موضعه، وأصل الظلم: وضع الشيء فِي غير موضعه.
ومن أمثال العرب: ومن شابه أباه فما ظلم.
قال الأصمعي: أي: ما وضع الشبه غير موضعه.
قوله: فأزلهما الشيطان أي: نحاهما وبعدهما، يقال: زلت قدمه زللا وزليلا، إذا لم تثبت.
وأزلها صاحبها، إذا حملها على الزلل.
وقرأ حمزة فأزالهما، يقال: زال عن مكانه، وأزاله غيره.
ونسب الفعل إلى الشيطان لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه وتسويله، فلما كان ذلك منه بسبب أسند الفعل إليه.
وقوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 36] أي: من الريثة والمنزلة ولين العيش، قال المفسرون: إن الحية أدخلت إبليس الجنة حتى قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] فأبى أن يقبل منه، فقاسمهما بالله إنه لهما لمن الناصحين.
فاغترا، وما كانا يظنان أن أحدًا يحلف بالله كذبا، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت آدم حتى أكلها.
وقال الحسن: إنما رآهما على باب الجنة، لأنهما كانا يخرجان من الجنة.
وقوله: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] الهبوط: النزول من علو إلى أسفل، والخطاب لآدم وحواء والحية وإبليس.(1/122)
والعدو: اسم يقع على الواحد والجميع والذكر والأنثى، وأراد بهذا: العداوة التي بين آدم وحواء والحية وبين ذرية آدم من المؤمنين وإبليس.
31 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: يَا آدَمُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَاعْتَلَّ آدَمُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ زَيَّنَتْهُ لِي حَوَّاءُ، قَالَ: فَإِنِّي أَعْقَبْتُهَا أَنْ لا تَحْمِلَ إِلا كَرْهًا، وَلا تَضَعَ إِلا كَرْهًا، وَدَمَّيْتُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّتَيْنِ، فَرَنَّتْ حَوَّاءُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقِيلَ: عَلَيْكِ الرَّنَّةُ، وَعَلَى بَنَاتِكَ "
32 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْعَطَّارُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يُعَالِجُ حَيَّةً صَغِيرَةً يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهَا، فَقُلْتُ: مَا تَصْنَعُ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ عَادَيْنَنَا فَاقْتُلُوهُنَّ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُنَّ»(1/123)
قوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] : موضع قرار، أحياء وأمواتًا، ومتاع هو ما تمتعت به من أي شيء كان، وكل ما حصل التمتع به فهو متاع، قال المفسرون: فلنا فِي الأرض متاع من حيث الاستقرار عليها، والاغتذاء بما تنبتها من الثمار والأقوات.
وقوله: إلى حين الحين: وقت من الزمان يصلح للأوقات كلها، طالت أم قصرت، ويجمع على: الأحيان، ثم يجمع الأحيان: أحايين.
والمراد بالحين ههنا فيما ذكره أهل التفسير: حين الموت.
قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] التلقي ههنا معناه: الأخذ والقبول، ومنه الحديث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتلقى الوحي من جبريل عليه السلام، أي: يتقبله ويأخذه.
وقال الأصمعي: تلقت الرحم ماء الرجل: إذا قبلته.
والكلمات: جمع الكلمة، والكلمة: تقع على القليل والكثير، وتقع على الحرف الواحد من الهجاء، ومعنى تلقى آدم من ربه الكلمات: هو أن الله تعالى ألهم آدم حتى اعترف بذنبه، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23] الآية، فهذه الآية هي المعنية بالكلمات فِي قول الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد.(1/124)
33 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " لَمَّا أَصَابَ آدَمُ الْخَطِيئَةَ فَزِعَ إِلَى كَلِمَةِ الإِخْلاصِ، فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، عَمِلْتُ سُوءًا، وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَاغْفِرْ لِي وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، عَمِلْتُ سُوءًا وَظَلَمْتُ نَفْسِي، فَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
34 - وَرَوَى الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «الْكَلِمَاتُ» هِيَ: أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: يَا رَبِّ أَلَمْ تَخْلُقْنِي بِيَدِكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَلَمْ تُسْكِنِّي جَنَّتَكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلِمَ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا؟ قَالَ: بِشُؤْمِ مَعْصِيَتِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، أَرَأَيْتَ إِنْ تُبْتُ وَأَصْلَحْتُ أَرَاجِعِي أَنْتَ إِلَى الْجَنَّةِ؟ قَال: نَعَمْ، قَالَ: فَهَذِهِ «الْكَلِمَاتُ»
وقرأ ابن كثير: آدمَ بالنصب، وكلماتٌ بالرفع، وذلك أن من الأفعال ما يكون إسناده إلى الفاعل كإسناده إلى المفعول، وذلك نحو: أصبحت، ونلت، ولقيت، تقول: نالني خير ونلت خيرًا.
وأصابني خير وأصبت خيرًا.
وتقول: لقيني زيد ولقيت زيدًا.
قال الله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40] ، وقال: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8] ، وإذا كانت معاني هذه الأفعال كما ذكرنا، فنصب ابن كثير آدم ورفعه الكلمات، فِي المعنى، كقول من رفع آدم ونصب الكلمات.
وقوله تعالى: فتاب عليه معنى التوبة فِي اللغة: الرجوع، وفي الشريعة: رجوع العبد من المعصية(1/125)
إلى الطاعة، فالعبد يتوب إلى الله، والله يتوب عليه، أي: يرجع إليه بالمغفرة، ومعنى قوله: فتاب عليه أي: عاد عليه بالمغفرة والرحمة.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37] أي: يتوب على عبده بفضله إذا تاب إليه من ذنبه.
قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة: 38] كرر الأمر بالهبوط للتأكيد، {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} [البقرة: 38] أي: فإن يأتكم مني شريعة ورسول وبيان ودعوة، {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] أي: قَبِلَ أمري، اتبع ما أمرته به، {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 38] فِي الآخرة، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] ولا حزن، والخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أعلمهم الله تعالى أنه يبتليهم بالطاعة، ويجازيهم بالجنة عليها وأن هذا الابتلاء وقع عند الهبوط إلى الأرض.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [البقرة: 39] هذه الآية إيعاد بالنار للكافرين بكتب الله وشرائعه، وهي مما خاطب الله تعالى به آدم وحواء وأعلمهما أن الكافر خالد فِي النار.
والآيات جمع آية، ومعنى الآية فِي اللغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: {عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ} [المائدة: 114] أي: علامة منك لإجابتك دعاءنا، وكل آية من كتاب الله تعالى علامة ودلالة على المقيمين فِيها.
وقال أبو عبيدة: معنى الآية: أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها وانقطاعه عن الذي بعدها.
وقال ابن السكيت: يقال: خرج القوم بآيتهم: أي: بجماعتهم، لم يدعوا وراءهم شيئًا، وعلى هذا القول معنى الآية من كتاب الله تعالى: جماعة حروف دالة على معنى مخصوص.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ {40} وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ {41} وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {42} وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ {44} وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ(1/126)
وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ {45} الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {46} } [البقرة: 40-46] قوله تعالى: يا بني إسرائيل يعني: يا أولاد يعقوب، وإسرائيل هو يعقوب، ولا ينصرف لاجتماع العجمة والمعرفة فِيهِ، وكل اسم اجتمعا فِيهِ وزاد عن ثلاثة أحرف لم ينصرف عند أحد من النحويين.
وقوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] أراد: نعمي، فأوقع الواحد موقع الجماعة، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] وهذه النعم هي: أن الله تعالى فلق لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم، وظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، إلى سائر ما أنعم الله تعالى به عليهم، وهي مذكورة فِي قوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20] وأراد بقوله: عليكم أي: على آبائكم وأسلافكم، وجعلها عليهم لأن النعمة على آبائهم نعمة عليهم.
فإن قيل: اليهود أبدًا يذكرون هذه النعم، فلم ذكروا ما لم ينسوه؟ قيل: المراد بقوله: اذكروا: اشكروا، وذكر النعمة: شكرها، وإذا لم يشكروها حق شكرها فكأنهم نسوها، وإن أكثروا ذكرها.
وقال ابن الأنباري: أراد: اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة، وبينت لكم من صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وألزمتكم من تصديقه واتباعه، فلما بعث ولم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة.
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40] يقال: وفيت بالعهد، وأوفيت به سواء، أي: أتممته.
قال ابن عباس: هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم فِي التوراة أنه باعث نبيًا يقال له: محمد، فمن تبعه كان له أجران اثنان: أجر باتباعه موسى وإيمانه بالتوراة، وأجر باتباعه محمدًا عليه السلام وإيمانه بالقرآن ومن كفر به تكاملت أوزاره وكانت النار جزاءه، فقال الله عز وجل: وأوفوا بعهدي فِي اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أوف بعهدكم أدخلكم الجنة.(1/127)
وقوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] أي: خافون فِي نقض العهد، لا ما يفوتكم من المآكل والرياسة.
وقوله عز وجل وآمنوا بما أنزلت يعني القرآن، مصدقا لما معكم موافقًا للتوراة فِي التوحيد والنبوة، {وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] قال الفراء: أراد أول من يكفر به.
وقال البصريون: أراد أول فريق كافر أو حزب كافر، ثم حذف المنعوت وأقيم نعته مقامه، والهاء فِي به يعود إلى ما فِي قوله تعالى: بما أنزلت: وهو القرآن.
والمعنى: ولا تكونوا أول كافر بالقرآن من أهل الكتاب، لأن قريشًا كفرت قبل اليهود بمكة.
والخطاب لعلماء اليهود، وإذا كفروا بالقرآن كفر أتباعهم فيكونون أئمة فِي الضلالة، ولا تشتروا: ولا تستبدلوا، بآياتي يعني ما فِي التوراة من بيان صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته، ثمنا قليلا عرضا يسيرًا من الدنيا، وذلك أن رؤساء اليهود كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامهم، فخافوا إن هم بينوا صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل والرياسة، واختاروا الدنيا على الآخرة، وإياي فاتقون فاخشون فِي أمر محمد، لا ما يفوتكم من الرياسة.
قوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] يقال: لبست الأمر ألبسه لبسا، إذا خلطته وعميته.
ومنه قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] ، والمعنى: ولا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وتبديل نعته.
قال مقاتل: إن اليهود أقروا ببعض صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتموا بعضًا، ليصدقوا فِي ذلك، فقال الله تعالى: ولا تلبسوا الحق الذي تقرون به وتبينونه، بالباطل: يعني بما تكتمونه، فالحق: بيانهم، والباطل: كتمانهم.(1/128)
وقوله تعالى: {وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} [البقرة: 42] هو عطف على المجزوم فِي قوله: ولا تلبسوا أي: ولا تكتموا الحق، وأنتم تعلمون أن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي مرسل، قد أنزل عليكم ذكره فِي كتابكم، واليهود جحدوا نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع العلم بأنه نبي، فلم ينفعهم ذلك العلم، لأن جاحد النبوة كافر.
قوله تعالى: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة الزكاة: تطهير للمال وإصلاح له وتثمير ونماء، كل ذلك قد قيل، وأصلها: من الزيادة، يقال: زكا الزرع يزكو زكاء، ممدود، وكل شيء يزداد فهو يزكو، قال النابغة:
وما أخرت من دنياك نقص ... وإن قدمت عاد لك الزكاء
يعني الزيادة، وسمي ما يخرج من المال للمساكين بإيجاب الشرع زكاة لأنها تزيد المال الذي يخرج منه، وتوفره، وتقيه الآفات.
قوله تعالى: واركعوا مع الراكعين معنى الركوع فِي اللغة: الانحناء، يقال للشيخ إذا انحنى من الكِبَر: ركع.
قال لبيد:
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأني كلما قمت راكع
قال المفسرون: معناه: وصلوا مع المصلين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فعبر بالركوع عن جميع الصلاة، إذ كان ركنا من أركانها.
وإنما قال: واركعوا بعد قوله: وأقيموا الصلاة لأنه أراد الحث على إقامة الصلاة فِي جماعة، وقيل: لأنه لم يكن فِي دين اليهود ولا فِي صلاتهم ركوع، فذكر ما اختص بشريعة الإسلام، والآية خطاب لليهود.(1/129)
قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] الآية، خطاب لعلماء اليهود، وكانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه.
ولا يؤمنون.
والألف للاستفهام، معناه: التوبيخ والمراد بالبر: الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والنسيان ههنا بمعنى: الترك، ومنه قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان وترك أنفسهم ذلك.
وقوله تعالى: وأنتم تتلون الكتاب أي: تقرءون التوراة، وفيها صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه.
وأصل التلاوة من قولهم: تلاه يتلوه.
إذا تبعه، والتلاوة: إتباع الحروف بالقراءة، ويقال عقل الرجل يعقل عقلا، إذا كان عاقلا.
وعقل الإنسان هو تمييزه الذي به فارق جميع الحيوان، سمي عقلا لأنه يعقله، أي: يمنعه من التورط فِي الهلكة كما يمنع العقال البعير عن ركوب رأسه.
35 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بُجَيْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ:(1/130)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى أُنَاسٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ "
ثم رجع إلى خطاب المسلمين فأمرهم أن يستعينوا على ما يطلبونه من رضاء الله تعالى ونيل جنته بالصبر والصلاة، فقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 45] : ومعنى الصبر: حبس النفس على شيء تكرهه، والمراد بالصبر ههنا: الصبر على أداء الفرائض، واجتناب المحارم، واحتمال الأذى، وجهاد العدو، وعلى المصائب، وقوله: والصلاة لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وقال مجاهد: الصبر فِي هذه الآية: الصوم، ويقال لشهر رمضان: شهر الصبر.
وقوله تعالى: وإنها لكبيرة قال الحسن والضحاك: ثقيلة.
وكل ما ثقل على الإنسان كبر عليه، كقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] ، والكناية فِي وإنها تعود على الصلاة لأنها الأغلب والأفضل والأهم، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] ، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] .
وقوله تعالى: إلا على الخاشعين أي: المطيعين الساكنين إلى الطاعة، الخشوع معناه فِي اللغة: السكون، قال: وخشعت الأصوات للرحمن.(1/131)
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] هذا من نعت الخاشعين، والعرب تقول لليقين: ظن.
وللشك: ظن.
لأن فِي الظن طرفًا من اليقين، قال الله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] ، وقال: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] ، وقال: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] ، كل هذا بمعنى اليقين.
وقال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم فِي الفارسي المسرد
أي: أيقنوا.
والملاقاة: اللقاء، بمعنى العيان والاجتماع والمحاذاة والمصير، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [يونس: 7] ، أي: لا يخافون المصير إلينا، وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة: 8] أي: مجتمع معكم وصائر إليكم.
قال ابن عباس: يريد الذين يستيقنون أنهم مبعوثون وأنهم محاسبون وأنهم راجعون إلى الله تعالى، واللقاء والملاقاة، من حيث ذكر فِي القرآن، يحمله المفسرون على البعث والصبر إلى الله عز وجل، وقوله تعالى: وأنهم إليه راجعون أي: يصدقون بالبعث ويقرون بالنشأة الثانية، وجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه.
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47} وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {48} } [البقرة: 47-48] وقوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] تقدم تفسيره.(1/132)
وقوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] التفضيل: نقيض التسوية، يقال: فضله، إذا أعطاه الزيادة.
وفضله: إذا حكم له بالزيادة فِي الفضل، وهذا التفضيل هو ما ذكر فِي قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20] وأراد ب العالمين عالمي زمانهم، والخطاب للموجودين منهم فِي ذلك الوقت، والمراد بالتفضيل سَلَفُهم، ولكن فِي تفضيل الآباء شرف الأبناء، لذلك قال: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] .
وقوله تعالى: واتقوا يومًا أي: واحذروا واجتنبوا عقاب يوم، {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] أي: لا يقضي ولا يغني أحد عن أحد فِي ذلك اليوم، يقال: جزى عنه كذا، إذا قضى عنه.
قال الكلبي: هو يوم القيامة يقول: اتقوا يومًا لا يغني والد عن ولده، ولا ولد عن والده.
قوله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 48] يقال: قبلت الشيء أقبله قبولًا وقبولًا.
ويقال: على فلان قبول، أي: تقبله العين.
ومعنى الشفاعة: كلام الشفيع من هو فوقه فِي جماعة يسألها لغيره، وهو الشفع الذي هو خلاف الوتر، وذلك أن سؤال الشفيع يصير شفعا لسؤال المشفوع له.
وقرئ ولا يقبل بالياء، لأن الشفاعة والتشفع بمنزلة واحدة، كما أن الوعظ والموعظة والصيحة والصوت كذلك، وقد قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ، وقال: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 67] .(1/133)
وقوله تعالى: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] عدل الشيء وعدله: مثله، قال الله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] أي: ما يماثله من الصيام، قال كعب بن مالك:
صبرنا لا نرى لله عدلا ... على ما نابنا متوكلينا
أي: لا نرى له مثلا.
والمراد بالعدل فِي هذه الآية: الفداء، قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70] أي: إن تفد كل فداء، وسمي الفداء عدلا لأنه يعادل المفدي ويماثله.
قال السدي فِي هذه الآية: لو جاءت بملء الأرض ذهبا تفتدي به ما قبل منها.
وقوله تعالى: ولا هم ينصرون أي: لا يمنعون من عذاب الله، قال المفسرون: نزلت هذه الآية فِي اليهود، وذلك أنهم كانوا يقولون: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء، فآيسهم الله عز وجل من ذلك.
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ {49} وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ {50} وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {51} ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {52} } [البقرة: 49-52] قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] التنجية: التخليص من مكروه وشدة، ومثله الإنجاء، وآل فرعون: أتباعه، ومن كان على دينه.(1/134)
وقوله: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [البقرة: 49] السوم: أن تجشم إنسانا مشقة أو سوءا أو ظلما، يقال: سمته ذلا وسوءا، إذا ألزمته إياه.
وسوء العذاب: شديد العذاب.
وقد فسره بقوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} [البقرة: 49] وأصل الذبح فِي اللغة: الشق، والذباح والذباح بالتخفيف والتشديد: تشقق فِي الرجل، وسمي فري الأوداج ذبحًا لأنه نوع شق، والتفعيل: على التكثير.
وقوله تعالى: ويستحيون نساءكم يستحيون: يستفعلون، من الحياة، والمعنى: يستبقونهن أحياء ولا يقتلونهن، ومنه الحديث: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم» .
واسم النساء: يقع على الصغار والكبار، وهم كانوا يستبقون البنات لا يقتلونهن.
والخطاب لبني إسرائيل، يذكرهم الله تعالى النعمة عليهم حين أنجاهم من عدوهم الذين كانوا يذيقونهم شدة العذاب بذبح الأبناء واستبقاء النساء، ثم قال: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] البلاء: اسم ممدود من البلو، وهو الاختبار والتجربة، يقال: بلاه يبلوه بلوا، إذا جربه.
والبلاء يكون حسنا ويكون سيئا، والله عز وجل يبلو عباده بالصنيع الحسن ليمتحن شكرهم عليه ويبلوهم بالبلوى التي يكرهونها ليمتحن صبرهم، فقيل للحسن: بلاء.
وللسيء: بلاء.
لأن أصلهما المحنة، ومنه قوله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ} [الأعراف: 168] ، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] .
والذي فِي هذه الآية يحتمل الوجهين، فإن حملته على الشدة كان معناه: فِي استحياء البنات للخدمة، وذبح البنين بلاء ومحنة، وهو قول ابن عباس، فِي رواية عطاء والكلبي.(1/135)
وإن حملته على النعمة كان المعنى: وفي تنجيتكم من هذه المحن نعمة عظيمة، وهو قول مجاهد، والسدي.
ومثل هذا فِي احتمال الوجهين قوله فِي قصة إبراهيم: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] .
وقوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ} [البقرة: 50] وذلك أن الله تعالى أمر موسى أن يذهب ببني إسرائيل إلى البحر فينفلق له حتى يخوض فِيهِ هو وبنو إسرائيل، فلما ذهب بهم وانتهى إلى البحر فرق الله البحر اثني عشر طريقًا، لكل سبط منهم طريق، حتى مروا فِيهِ وهو منفلق، وسمي البحر بحرًا لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه.
وقوله تعالى: وأغرقنا آل فرعون ولم يذكر غرق فرعون، لأنه قد ذكره فِي مواضيع، كقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا} [الإسراء: 103] ، ويجوز أن يريد بآل فرعون: نفسه، كقوله تعالى: {مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] يعني موسى وهارون.
وقوله: وأنتم تنظرون وذلك أنهم لما خرجوا من البحر رأوا انطباق البحر على فرعون وقومه، ويجوز أن يكون المعنى: وأنتم تنظرون إلى فرق الله البحر وإنجائكم من عدوكم.
وقوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51] قال المفسرون: إن الله تعالى لما أنجى موسى وبني إسرائيل وأغرق فرعون، وأمن بنو إسرائيل من عدوهم ودخلوا مصر ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ممهدة، فواعد الله موسى أن يؤتيه الكتاب فِيهِ بيان ما يأتون وما يذرون، وأمره أن يصوم ثلاثين يومًا فصامه وصالا ولم يطعم شيئًا، فتغيرت رائحة فمه، فعمد إلى لحاء شجرة فمضغها، فأوحى الله إليه: «أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك» ؟ وأمر أن يصل بها عشرًا، فتم ميقات ربه أربعين ليلة، وخرج موسى من بين بني إسرائيل تلك الأيام فاتخذ السامري عجلا وقال لبني إسرائيل: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88] ، فافتتن بالعجل ثمانية آلاف رجل منهم، وعكفوا عليه يعبدونه.(1/136)
وقراءة أكثر القراء واعدنا من المواعدة، لأن ما كان من الله من الوعد ومن موسى القبول والتحري لإنجازه يقوم مقام الوعد، فصار كالتواعد من الفاعلين، وأيضًا فإن المفاعلة قد تقع من الواحد وقد ذكرنا.
وقرأ أبو عمرو وعدنا بغير ألف، لكثرة ما جاء فِي القرآن من هذا القبيل بغير ألف، كقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: 9] ، {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [طه: 86] ، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 7] ، {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} [إبراهيم: 22] ، {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] ، يقال: وعدته وعدًا وعدة وموعدًا، وموعدة.
قال الله تعالى: {إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ، وقال: {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59] .
ويقال: وعد، فِي الخير والشر.
قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} [طه: 86] ، وقال: {النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحج: 72] .
وتقدير الكلام: وإذ واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة للتكلم معه، أو لإتيانه الكتاب.
وقوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 51] الاتخاذ: افتعال من الأخذ، والمعنى: ثم اتخذتم العجل من بعده معبودًا أو إلها، فحذف المفعول الثاني للعلم به، وكذلك قوله تعالى: {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] ، {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148] ، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [الأعراف: 152] ، التقدير فِي هذا كله: اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني.
ومعنى الآية: أن الله تعالى نبههم على أن كفرهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بأعجب من كفرهم وعبادتهم العجل ومن موسى عليه السلام.
وقوله تعالى: وأنتم ظالمون أي: ضارون لأنفسكم، وواضعون العبادة فِي غير موضعها.(1/137)
وقيل: وأنتم ظالمون اليوم بمخالفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله تعالى: ثم عفونا عنكم قال ابن الأنباري: عفا الله عنك، معناه: محا الله عنك، مأخوذ من قولهم: عفت الرياح الآثار، إذا درستها ومحتها.
وعفو الله: محوه الذنب عن العبيد، والمراد بالعفو ههنا: قبوله التوبة من عَبَدَةِ العجل، وأمره برفع السيف عنهم.
وقوله تعالى: من بعد ذلك أي: من بعد عبادة العجل، لعلكم تشكرون لكي تشكروا نعمتنا بالعفو.
ومعنى الشكر فِي اللغة: عرفان الإحسان بالقلب ونشره باللسان.
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {53} وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {54} وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ {55} ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {56} وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {57} } [البقرة: 53-57] وقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ} [البقرة: 53] الآية، الفرقان: مصدر فرقت بين الشيئين أفرق فرقا وفرقانا، كالرجحان والنقصان، ويسمى كل فارق فرقانا، كما سمي كتاب الله: الفرقان، لفصله بين المحق والمبطل، وسمى الله تعالى يوم بدر يوم الفرقان فِي قوله: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: 41] ، لأنه فرق فِي ذلك اليوم بين الحق والباطل، فكان ذلك يوم الفرقان، وقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] أي: يفرق بينكم وبين ذنوبكم.
واختلفوا فِي معنى الفرقان فِي هذه الآية: فقال مجاهد: هو بمعنى الكتاب، وهما شيء واحد.
وهو اختيار الفراء، قال: العرب تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه، كقول عدي بن زيد:
وألفى قولها كذبا ومينا.
وقال عنترة:
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم(1/138)
وارتضى الزجاج هذا القول، قال: لأن الله تعالى ذكر لموسى الفرقان فِي غير هذا الموضع، وهو قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ} [الأنبياء: 48] ، فعلى هذا القول الفرقان هو الكتاب، والكتاب هو الفرقان.
قال الزجاج: ويجوز أن يريد بالفرقان: انفراق البحر، وهو من عظيم الآيات، كأنه قيل: آتيناه فرق البحر.
وقال ابن عباس: أراد بالفرقان: النصر على الأعداء، لأن الله تعالى نصر موسى وقومه على عدوهم، وسمى نصره فرقا لأن فِي ذلك فرقا بين الحق والباطل، وقوله: لعلكم تهتدون أي: بما آتيناه من الكتاب.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [البقرة: 54] يعني الذين عبدوا العجل، يا قوم نداء مضاف حذف منه الياء، والمنادى إذا أضفته إلى نفسك جاز فِيهِ ثلاث لغات: حذف الياء، وإثباتها، وفتحها، فحذف الياء كقوله: {يَا قَوْمِ} [البقرة: 54] ، والإثبات كقوله: يَا عِبَادِي فَاتَّقُونِ، والفتح كقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} [الزمر: 53] على قراءة من فتح الياء، والأجود الاكتفاء بالكسرة.
وقوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] أي: نقصتم حظ أنفسكم، {بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] إلها، {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ارجعوا إليه بالطاعة والتوحيد، والباري: الخالق، يقال: برأ الله الخلق.
أي: خلقهم.
وكان أبو عمرو يختلس حركة الهمزة فِي بارئكم كأنه يخفف الحركة ويقربها من الجزم، وسيبويه: يجوز تخفيف حركة الإعراب، وأنشد فِي ذلك:
وقد بدا هنك من المئزر(1/139)
وأنشد أيضًا قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل
وفي الآية إضمار واختصار، كأنه لما قال لهم: فتوبوا إلى بارئكم قالوا: كيف؟ قال: فاقتلوا أنفسكم أي: ليقتل البريء المجرم.
المعنى: استسلموا للقتل، فجعل استسلامهم للقتل قتلا منهم لأنفسهم.
وقوله تعالى: ذلكم خير لكم أي: توبتكم بقتل أنفسكم، {خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] من إقامتكم على عبادة العجل.
وقوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 54] فِي الآية اختصار لأن التقدير: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54] .
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] قال ابن عباس: يعني: نراه علانية.
وقال قتادة: عيانا.
ومعنى قوله: جهرة أي: غير مستتر عنا بشيء، يقال: جهرت بالقول، أجهر به: إذا أعلنته.
والجهر: العلانية.
وقوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} [البقرة: 55] يعني: ما تصعقون منه، أي: تموتون، قال المفسرون: إن الله تعالى(1/140)
أمر موسى أن يأتيه فِي ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى سبعين رجلا من خيارهم، وخرج بهم إلى طور سيناء، وسمعوا كلام الله عز وجل، وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، ويغشاه عمود من غمام، فلما فرغ موسى وانكشف الغمام، قالوا له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} [البقرة: 55] أي: لن نصدقك {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ، فأخذتهم الصاعقة، وهي نار جاءت من السماء فأحرقتهم جميعا، وقوله: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55] يريد: نظر بعضهم إلى بعض عند نزول الصعقة، وإنما أخذتهم لأنهم امتنعوا من الإيمان بموسى بعد ظهور معجزته، حتى يريهم ربهم جهرة، والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزتهم، ولا يجوز اقتراح المعجزات عليهم، فلهذا عاقبهم الله، وهذه الآية تتضمن التوبيخ لهم على مخالفة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قيام معجزته، كما خالف أسلافهم موسى مع ما أتى به من الآيات الباهرة، والتحذير لهم أن ينزل بهم ما نزل بأسلافهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] قال المفسرون: إنهم لما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155] ، فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله جميعا، رجلا بعد رجل، وهم ينظرون كيف يحيون، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [البقرة: 56] أي: نشرناكم وأعدناكم أحياء.
والبعث: إثارة البارك والنائم عن مكانه، ونشر الميت كبعث النائم.
قال قتادة: بعثهم الله تعالى ليستوفوا بقية آجالهم وأرزاقهم، ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا، ولكن كان ذلك الموت عقوبة لهم على ما قالوا.
قال الزجاج: والآية احتجاج على مشركي العرب الذين كفروا بالبعث، فاحتج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإحياء من بعث بعد موته فِي الدنيا فيما يوافقه اليهود والنصارى.
وقوله تعالى: لعلكم تشكرون أي: نعمة البعث.
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57] معناه: تسترناكم عن الشمس بالغمام، والظل معناه فِي اللغة: الستر، يقال: لا أزال الله عنا ظل فلان، أي: ستره، وظل الشجرة: سترها، ويقال لظلمة الليل: ظل، لأنها تستر الأشياء، ومنه قوله تعالى: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان: 45] .(1/141)
والغمام: جمع غمامة، وهي السحاب، سمي غماما لأنه يغم السماء، أي: يسترها، وكل ما ستر شيئا فقد غمه.
قال المفسرون: وهذا كان حين أبوا على موسى دخول تلقاء مدينة الجبارين فتاهوا فِي الأرض ثم ندموا على ذلك وكانت العزيمة من الله أن يحبسهم فِي التيه، فلما ندموا ألطف الله لهم بالغمام، {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57] كرامة لهم ومعجزة لنبيهم.
والمن: الترنجبين، وكان كالعسل الجامس حلاوة، وكان يقع على أشجارهم بالأسحار، والسلوى: طائر كالسماني، والواحدة: سلواة، وأنشد الليث:
كما انتفض السلواة من بلل القطر
قال مقاتل: كان الله عز وجل يبعث سحابة فتمطر لهم السماني.
وقوله: كلوا أي: وقلنا لهم كلوا، من طيبات حلالات، ما رزقناكم والطيب: الحلال، لأنه طاب، وأصل الحرام يكون خبيثًا، وأصل الطيب: الطاهر، وسمي الحلال طيبا لأنه طاهر لم يتدنس بكونه حراما.
وما ظلمونا أي: ما نقصونا وما ضرونا بالمعصية وإبائهم دخول تلك القرية، {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] أي: ولكن ظلموا أنفسهم، ونقصوا حظها باستيجابهم عذابي.
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ {59} } [البقرة: 58-59] وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] قال المفسرون: إن بني إسرائيل لما خرجوا من(1/142)
التيه قال الله لهم: {ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [البقرة: 58] .
قال ابن عباس: هي أريحا.
وقال قتادة، والسدي، والربيع: هي بيت المقدس.
واشتقاق القرية من قريت، أي: جمعت، والمقرأة: الحوض يجمع فِيهِ الماء، ويقال لبيت النمل: قرية.
لأنه يجمع النمل، فالقرية تجمع أهلها.
وقوله: وادخلوا الباب يعني بابا من أبوابها، سجدا قال ابن عباس: ركعا.
وهو شدة الانحناء، والمعنى: منحنين متواضعين.
قال مجاهد: هو باب حطة من بيت المقدس، طوطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم فلم يخفضوا، ودخلوا متزحفين على أستاههم.
وقوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] هي فعلة من الحط، وهو وضع الشيء من أعلى إلى أسفل، يقال: حط الحمل عن الدابة.
والسيل يحط الحجر عن الجبل، وقال امرؤ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من عل
فالحطة من الحط، مثل الردة من الرد، ويجوز أن يكون اسما، ويجوز أن يكون مصدرا.(1/143)
وقال ابن عباس، فِي رواية سعيد بن جبير، فِي قوله تعالى: وقولوا حطة أي: مغفرة.
فقالوا: حنطة.
وقال مقاتل: إنهم أصابوا خطيئة بإبائهم على موسى دخول الأرض التي فِيها الجبارون، فأراد الله أن يغفرها لهم فقيل لهم: قولوا حطة.
وقال الزجاج: معناه: قولوا مسألتنا حطة.
أي: حط ذنوبنا عنا.
وقوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] أصل الغفر: الستر والتغطية، وغفر الله ذنوبه، أي: سترها، وكل شيء سترته فقد غفرته، والمغفر: يكون تحت بيضة الحديد يغفر الرأس.
وأجمع القراء على إظهار الراء عند اللام، إلا ما روي عن أبي عمرو من إدغامه الراء عند اللام.
قال الزجاج: وهو خطأ فاحش، وأحسب الذين رووا ذلك عن أبي عمرو غالطين، ولا يدغم الراء فِي اللام، لأن الراء حرف مكرر، ولا يدغم الزائد فِي الناقص، فلو أدغمت الراء فِي اللام لذهب التكرير من الراء، وهذا إجماع النحويين.
والخطايا جمع خطيئة، وهي الذنب على عمد، قال أبو الهيثم: يقال: خطئ: لما صنعه عمدا وهو الذنب، وأخطأ: لما صنعه خطأ غير عمد.
وقوله: وسنزيد المحسنين أي: الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحسانا وثوابا.
قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] التبديل: التغيير إلى بدل، والمعنى: أنهم غيروا تلك الكلمات التي أمروا بها وقالوا بدل حطة: حنطة.
وهذا قول ابن عباس وجميع المفسرين.
وقال الزجاج: جملة ما قالوه أنه أمر عظيم سماهم الله به فاسقين.(1/144)
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59] الرجز: العذاب، قال تعالى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134] أي: العذاب، ثم سمي كيد الشيطان رجزا لأنه سبب العذاب، قال الله تعالى: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] ، وقال: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] قيل: أراد به: عبادة الأوثان، لأنه سبب العذاب.
قال الضحاك: أرسل الله تعالى عليهم ظلمة وطاعونا، فهلك منهم فِي ساعة واحدة سبعون ألفا عقوبة لهم بتبديلهم ما أمروا به.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60} وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {61} } [البقرة: 60-61] قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} [البقرة: 60] الآية، قال المفسرون: عطش بنو إسرائيل فِي التيه، فقالوا: يا موسى، من أين لنا الشراب؟ فاستسقى لهم موسى، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك الحجر.
قال ابن عباس: وكان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرجل، أمر أن يحمله معه، فكان يضعه فِي مخلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه، وضربه بعصاه فينفجر عيونا، لكل سبط عين.
وقوله تعالى: فانفجرت فِيهِ اختصار، والمعنى: فضرب فانفجرت، أي: انشقت، والانفجار: الانشقاق، والفجر فِي اللغة: الشق، وسمي فجر النهار لشقه ظلمة الليل، وقوله {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] أراد: كل أناس منهم، يعني الأسباط، وكانوا اثني عشر سبطا.(1/145)
والمشرب يجوز أن يكون مصدرا كالشرب، ويجوز أن يكون موضعا.
قال المفسرون: كان فِي ذلك الحجر اثنتا عشرة حفرة، فكانوا إذا نزلوا وضعوا الحجر، وجاء كل سبط إلى حفرته فحفروا الجداول إلى أهلها، فذلك قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] .
وقوله تعالى: كلوا أي: وقلنا لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من الماء فهذا كله من رزق الله الذي يأتيكم بلا مشقة ولا مئونة، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [البقرة: 60 يقال: عثي يعثى عثوا، وهو أشد الفساد.
قوله تعالى:] وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] الطعام: اسم جامع لما يؤكل، وإنما قالوا: طعام واحد وكان طعامهم المن والسلوى، لأنهم كانوا يأكلون المن بالسلوى، فكان طعاما واحدا كالخبيص، لون واحد وإن اتُّخِذَ من أطعمةٍ شتَّى.
قال المفسرون: إنهم ملوا عيشهم وما كانوا يأكلونه، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فقالوا لموسى: فادع لنا ربك أي: ادع لأجلنا ربك، وسله وقل له: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا} [البقرة: 61] وهو كل نبات لا يبقى له ساق إذا رعته الماشية، وقثائها وهو نوع من الخضروات، وفومها وهو الحنطة بلا اختلاف بين أهل اللغة، فقال لهم موسى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] أي: أقرب وأسهل متناولا بالرفيع الجليل الذي خصكم الله به؟ ! ويجوز أن يكون معنى الدنو فِي قرب القيمة، يقول: أتأخذون ما هو أقل قيمة بدلا بالذي هو خير فِي القيمة؟ ! ويجوز أن يكون أدنى من الدناءة، وهي الخسة، وترك همزها، والمعنى: أتستبدلون ما هو أوضع وأخس بالذي هو خير؟ ! وهذا اختيار الفراء.(1/146)
وقوله تعالى: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] أي: انزلوا مصرا من الأمصار، فإن الذي سألتم لا يكون إلا فِي القرى والأمصار، وفي الكلام إضمار كأنه قيل: فدعا موسى فاستجبنا له وقلنا لهم: اهبطوا مصرا، ويجوز أن يكون أراد: مصر بعينها، وصرفها لخفتها وقلة حروفها، مثل: جمل، ودعد، وهند.
وقوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة: 61] أي: ألزموها إلزاما لا تبرح عنهم، وأصله من ضرب الشيء على الشيء، كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه.
يقال: ضرب فلان على عبده ضريبة، وضرب السلطان على التجار ضريبة.
أي: ألزمهم شيئا معلوما يؤدونه إليه.
والذلة: الذل، والمسكنة: مصدر فعل المسكين، يقال: تمسكن الرجل، إذا صار مسكينا.
قال الحسن، وقتادة: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ { [البقرة: 61 هي أنهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
وقال عطاء بن السائب: هي الكستينج وزي اليهودية، والمسكنة: زي الفقر، فترى المثري منهم يتباءس مخافةَ أن يضاعف عليه الجزية، ولا يوجد يهودي غني النفس.
وقوله تعالى:] وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 61] : أي: رجعوا، فِي قول الفراء، وقال الكسائي: انصرفوا به.
ولا يكون باءوا إلا بشيء، إما بخير وإما بشر، يقال: باء يبوء بوءا وبواءا.
ولا يكون باء بمعنى مطلق الانصراف.(1/147)
وقال عبيدة، والزجاج: باءوا بغضب: احتملوه، يقال: قد بؤت بهذا الذنب.
أي: احتملته، ومنه قوله تعالى: {أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] .
ومعنى غضب الله ذمه إياهم، وإنزال العقوبة بهم.
وقوله: ذلك إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة والغضب، {بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 61] قال ابن عباس: يريد: الحكمة التي أنزلت على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} [البقرة: 61] يعني: من قتلهم اليهود من الأنبياء مثل زكريا ويحيى، وشعيا.
وقوله: بغير الحق أي: قتلا بغير حق، يعني: بالظلم.
وأكثر العرب على ترك همزة النبي وبابه، قال أبو عبيدة: اجتمعت العرب على حذف الهمزة من أربعة أحرف: من النبي، والذرية، والخابية، والبرية، وأصلها الهمزة.
قال الزجاج، وعدة معه: اشتقاق النبي من نبأ، وأنبأ، أي: أخبر، وترك همزه لكثرة الاستعمال، وهذا مذهب سيبويه، واستردأ سيبويه همز النبي والبرية لأن الغالب فِي استعمالها تخفيف الهمزة.
وحجة من همز النبي أن يقول: هو أصل الكلمة.
ولا ينكر أن يؤتى بالكلمة على أصلها.(1/148)
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} [البقرة: 61] أي: ذلك الكفر والقتل بشؤم ركوبهم المعاصي، {وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] يتجاوزون ويرتكبون محارمي، والاعتداء: تجاوز الحد.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] قوله تعالى: إن الذين آمنوا أي: بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك، وقيل: أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، والذين هادوا أي: دخلوا فِي دين اليهودية، كقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} [الأنعام: 146] .
واختلفوا لمَ سموا اليهود؟ فقال بعضهم: هو من الهود، وهو التوبة، ولما تابوا من عبادة العجل لزمهم هذا الاسم، يقال: هاد يهود، إذا تاب.
ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] .
وقيل: هو من الهيد، وهو الحركة، وذلك أنهم كانوا يتحركون عند قراءة التوراة فلزمهم هذا الاسم.
والنصارى واحدهم: نصري، مثل: بعير مهري، وإبل مهارى، وسموا نصارى لأنهم كانوا من قرية يقال لها: نصرة.
والصابئين يقال: صبأ الرجل فِي دينه يصبأ صبوءا، إذا كان صابئا.
وهو الخارج من دين إلى دين، وهم قوم كانوا يعبدون النجوم ويعظمونها.
وقال قتادة: هم قوم كانوا يعبدون الملائكة، وقال مجاهد: هم قبيلة من اليهود والمجوس لا دين لهم.(1/149)
وقرأ نافع: الصابون، والصابين بترك الهمزة.
ولا يجيز سيبويه ترك الهمز على هذا الحد إلا فِي الشعر، وأجازه أبو زيد وغيره، فهذه القراءة على قول من أجاز ذلك، والقراءة متبعة.
وقوله تعالى: من آمن بالله أي: من جملة هؤلاء الأصناف المذكورة فِي هذه الآية، من آمن إيمانا حقيقيا، وهو أن يؤمن بالله وبرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والدليل على أنه أراد به الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله تعالى: وعمل صالحا وقد قام الدليل على أن من لا يؤمن بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون عمله صالحا.
وقوله تعالى: فلهم أجرهم جمع الكناية بعد أن وحد الفعل فِي قوله: آمن، لأن من يصلح للواحد والجميع والمذكر والمؤنث، فالفعل يعود إلى لفظ من، وهو واحد مذكر، والكناية تعود إلى معنى من، ومثله فِي القرآن كثير، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] ، وقال فِي موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] .
والمعنى: لا ينالهم خوف ولا يصيبهم حزن فِي الآخرة، لأنهم يصيرون إلى النعيم المقيم، والأمن الدائم.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {63} ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ {64} } [البقرة: 63-64] قوله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} [البقرة: 63] الآية، الطور: الجبل، بالسريانية، وقد تكلمت به العرب، قال العجاج:
دانى جناحيه من الطور فمر(1/150)
قال المفسرون: إن موسى لما أتى بني إسرائيل بالتوراة قرءوها وما فِيها من التغليظ، كبر ذلك عليهم وأبَوا أن يقبلوا ذلك، فأمر الله عز وجل جبلا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رءوسهم مثل الظلة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام: إن قبلوا التوراة، وإلا رضختهم بهذا الجبل.
فلما رأوا ذلك قبلوا ما فِيها وسجدوا من الفزع، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فمن أجل ذلك يسجد اليهود على أنصاف وجوههم، فهذا معنى أخذ الميثاق فِي حال رفع الجبل فوقهم، لأن فِي هذا الحال قيل لهم: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63] .
وكان فيما آتاهم الله تعالى الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي هذه الآية إضمار، لأن المعنى: وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم، أي: اعملوا بما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه.
وقوله: بقوة قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: بجد ومواظبة على طاعة الله واجتهاد.
واذكروا ما فِيهِ الكناية تعود إلى ما فِي قوله: ما آتيناكم، وهو التوراة.
والمعنى: احفظوا ما فِي التوراة من الحلال والحرام، واعملوا بما فِيهِ، وقيل: اذكروا ما فِيهِ من الثواب والعقاب.
لعلكم تتقون لكي تتقوا محارمي فتتركوها.
قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة: 64] أي: أعرضتم وعصيتم أمر الله وتركتم طاعته، من بعد ذلك من بعد أخذ الميثاق، {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [البقرة: 64] بتأخير العذاب عنكم، {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64] بالعقوبة وذهاب الدنيا والآخرة.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ {65} فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ {66} } [البقرة: 65-66] قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] العلم ههنا بمعنى المعرفة، كقوله(1/151)
تعالى: {لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] ، و {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] هم الذين جاوزوا ما أمروا به من ترك الصيد يوم السبت.
كانوا أمروا ألا يصيدوا السمك فِي السبت، فحبسوها فِي السبت، وأخذوها فِي الأحد، فعدوا فِي السبت، لأن صيدها: منعها من التصرف.
وذكر الله تعالى قصتهم فِي { [الأعراف فِي قوله تعالى:] وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [سورة الأعراف: 163] الآية.
قال ابن الأنباري: السبت: القطع، وسمي السبت من الأيام سبتا، لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فِيهِ، وقطع فِيهِ بعض الخلق، وخلق الأرض، ويقال: أُمِرَ فِيهِ بنو إسرائيل بقطع الأعمال وتركها.
وقوله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] أي: كونوا بتكويننا إياكم وتغييرنا خلقكم، وهذا أمر حتم ليس للمأمور فِيهِ اكتساب، ولا يقدر على دفعه عن نفسه.
والقردة: جمع قرد، ويقال: قرد وثلاثة أقردة وقرود، وقردة كثيرة.
وقوله تعالى: خاسئين الخسء: الطرد والإبعاد، يقال: خسأته فخسأ وانخسأ، فهو واقع ومطاوع.
قال الفراء، والكسائي: يقال: خسأته خسئا، فخسأ خسوءا، مثل: رجعته رجعا فرجع رجوعا، وتقدير الآية: كونوا خاسئين قردة، لأنه لولا التقديم والتأخير لكان قردة خاسئة.(1/152)
يخوف الله تعالى اليهود بهذه الآية فِي تركهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويذكرهم ما أصاب من المسخ للذين اعتدوا فِي السبت، وهو قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا} [البقرة: 66] الآية، الكناية راجعة إلى القردة، وقال الفراء: الكناية راجعة إلى المسخة، لأن معنى كونوا قردة: مسخناهم قردة، فوقعت الكناية عن الكلام المتقدم.
والنكال: اسم لما جعلته نكالا لغيره، إذا رآه خاف أن يعمل عمله، من قولهم: نكل عن الأمر ينكل نكولا، إذا جبن عنه.
وقوله تعالى: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا} [البقرة: 66] قال الزجاج: للأمم التي تراها.
{وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] ما يكون بعدها، فما فِي قوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] عبارة عن: الأمم، وتكون بمعنى من.
وهذا قول ابن عباس، فِي رواية عطاء، قال: يريد: نكالا للخلق الذين كانوا معهم.
وما خلفها ولجميع من يأتي إلى يوم القيامة، وقال، فِي رواية الكلبي: يقول: جعلناها عقوبة.
لما بين يديها لما مضى من ذنوبهم، وما خلفها يعني: من بعدهم من بني إسرائيل، أن يستنوا بسنتهم ويعملوا بعملهم، وما الثانية تكون بمعنى من.
وروى محمد بن الحصين، عن ابن عباس، قال: يعني: ما بين يديها من القرى وما خلفها وما خلفها، ويعتبرون بهم، فلا يعملون عملهم.
وموعظة للمتقين: نهيًا لأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتجاوزوا ما حد لهم.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ(1/153)
الْجَاهِلِينَ {67} قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ {68} قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ {69} قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ {70} قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ {71} وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ {72} فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {73} ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {74} } [البقرة: 67-74] قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] قال المفسرون: كان فِي بني إسرائيل رجل كثير المال، وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره، فلما طال عليه موته قتله ليرثه، ولما قتله حمله من قرية إلى قرية أخرى، ثم أصبح يطلب بثأره ودمه، واشتبه أمر القتيل على موسى، ووقع الخلاف فِيهِ، فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ذلك، فسأل موسى ربه، فأمره بذبح بقرة، فقال موسى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} [البقرة: 67] أي: أتستهزئ بنا حين نسألك عن القتيل وتأمرنا بذبح البقرة؟ ! وإنما قالوا ذلك لتباعد الأمرين فِي الظاهر، قال موسى، أعوذ بالله أي: أمتنع بالله، {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67] أي: من المستهزئين بالمؤمنين.
ولما علم القوم أن ذبح البقرة عزم من الله عز وجل سألوه الوصف، ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم.
وقالوا لموسى، {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لنَا مَا هِيَ} [البقرة: 68] يقال: بين الشيء وأبانه، إذا أزال الإشكال عنه.
والمعنى: يظهر لنا ما تلك البقرة التي نذبحها لأجل القتيل، وأي شيء هي؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ} [البقرة: 68] قال الفراء: هي الهرمة.
وقال الكسائي: الفارض: الكبيرة العظيمة، وقد فرضت تفرض فروضا.
ولا بكر(1/154)
يقال: بقرة بكر.
أي: فتية لا تحمل، قال الزجاج: أي: ليست بكبيرة ولا صغيرة.
قال: وارتفع فارض بإضمار هي.
وقوله تعالى: عوان قال أبو الهيثم: العوان: النصف التي بين الفارض والبكر.
وقال أبو زيد: بقرة عوان: بين المسنة والشابة، وقد عانت تعون عونا إذا صارت عوانا.
وقال ابن الأعرابي: العون من الحيوان: السن بين السنين، لا صغير ولا كبير، يقال فِي الجمع: عون.
ويقال: فرس عوان، وخيل عون.
قال ابن عباس: عوان: بين الصغيرة والكبيرة، وهي أقوى ما يكون من البقر وأحسن ما يكون.
وقال مجاهد: وعوان: وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين.
وقوله تعالى: بين ذلك أي: بين الهرم والشاب، وبين الفروض والبكارة.
وقوله تعالى: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68] أي: من ذبح البقرة.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة: 69] يبين لنا أي شيء لونها؟ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] ، فاقع: مبالغة فِي نعت الأصفر، قال ابن عباس: شديد الصفرة.
قال عدي بن زيد:
وإني لأسقى الشرب صفراء فاقعا ... كأن زكيَّ المسك فِيها يفتق(1/155)
يقال: فقع يفقع فقوعا، إذا اشتدت صفرته.
قوله تعالى: تسر الناظرين أي: تعجبهم بحسنها وصفاء لونها، لأن العين تسر وتولع بالنظر إلى الشيء الحسن.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة: 70] أسائمة أم عاملة، {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] اشتبه وأشكل، وذكر الفعل، والبقر: جمع بقرة، لتذكير اللفظ، كقوله: {نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] ، وكل جمع حروفه أقل من حروف واحده جاز تذكيره، مثل: بقر، ونخل، وسحاب، فمن ذَكَّرَ ذهب إلى لفظ الجمع، ولفظ الجمع مذكر، ومن أنث ذهب إلى لفظ الجماعة، قال الله تعالى: {يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} [النور: 43] ، وقال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] .
قوله تعالى: {وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] قال ابن عباس: إلى القاتل.
قال: ولولا أنهم استثنوا ما اطلعوا على القاتل.
قال لهم موسى، إنه إن ربكم، {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} [البقرة: 71] لم يذللها العمل، {تُثِيرُ الأَرْضَ} [البقرة: 71] يعني: لا يزرع عليها، ليست من العوامل، ومعنى الإثارة ههنا: قلب الأرض للزراعة، يقال: أثرت الشيء واستثرته، إذا هيجته.
{وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة: 71] أي: ليست بسانية، والحرث: الأرض المهيأة للزرع، مسلمة قال ابن عباس، وقتادة، والربيع: أي: من العيوب.
وقال الحسن: من أثر العمل.
لا شية فِيها الوشي، والشية: خلط لون بلون، يقال: وشيت الثوب أشيه وشيا وشية.
وأصل الدرء: الدفع، وادارأتم أصله: تدارأتم، ثم أدغم التاء فِي الدال، وأدخلت الألف ليسلم سكون(1/156)
الحرف الأول، ومثله: اثاقلتم، واطيرنا، قوله: والله مخرج مظهر، ما كنتم تكتمون أي: تخفون وتسترون من أمر القتيل.
فقال ابن عباس: لا بياض فِيها، صفراء كلها.
وقال الزجاج: ليس فِيها لون يفارق سائر لونها.
قالوا الآن وهو الوقت الذي أنت فِيهِ، جئت بالحق بالوصف البين التام الذي دل على التمييز من أجناسها.
وقوله تعالى: فذبحوها فِي الآية إضمار ما، أراد: فطلبوها فوجدوها فذبحوها، وما كادوا يفعلون قال ابن عباس، والقرطبي: لغلاء ثمنها.
وقال السدي: من تشديدهم على أنفسهم، وتعنتهم موسى.
قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} [البقرة: 72] هذا عطف على قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] ، {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} [البقرة: 55] ، والذكر مضمر ههنا، كأنه قال: واذكروا إذ قتلتم نفسا.
وأضاف القتل إليهم وإن كان القاتل واحدا على ما ذكرنا من عادة العرب أنهم يضيفون فعل البعض إلى جماعة القبيلة، يقولون: فعلتم كذا.
وإن كان بعضهم فعل ذلك.
وهذه الآية هي أول القصة، ولكنها مؤخرة فِي الكلام، ومعناه التقديم.
قوله تعالى: فادارأتم فِيها قال ابن عباس: اختلفتم.
وقال الربيع: تدافعتم.
يعني: ألقى هذا على ذلك، وذلك على هذا، فدافع كل واحد عن نفسه.
قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة: 73] قال ابن عباس: بالعظم الذي يلي الغضروف.
وقال الضحاك: بلسانها.
وقال سعيد بن جبير: بعجب ذنبها.
وقال مجاهد: ضرب بفخذ البقرة فقام حيا وقال: قتلني فلان.
ثم عاد فِي ميتته، فذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] أي: كما أحيا هذا القتيل.
وفي الآية اختصار، لأن التقدير: اضربوه ببعضها فيحيا، فضرب فحيي، {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة: 73] .
فإن قيل: ما معنى ضرب القتيل ببعض البقرة، والله قادر على إحيائه بغير ذلك؟ ! فالجواب: إن فِي ذلك تأكيدا لقدرة الله على إحياء الميت، إذ جعل الأمر فِي إحيائه إليهم، وجعل ذلك عند الضرب بموات لا(1/157)
إشكال فِي أنه علامة لهم، وآية للوقت الذي يحيا فِيهِ عندما يكون منهم، فبان أنه من فعل الله عز وجل.
قوله تعالى: ويريكم آياته أي: علامات قدرته فِي خلق الحياة فِي الأموات، لعلكم تعقلون: لكي تعرفوا قدرة الله عز وجل على إحياء الميت.
قال أبو إسحاق الزجاج: وهذه القصة فِي القرآن من أدل الدلائل على نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث خبرهم بما صدقه فِي ذلك أهل الكتاب، وهو رجل عربي أمي، لم يقرأ كتابا، ولم يتعلم من أحد، ولم يكن هذا من علم العرب.
قوله تعالى: ثم قست قلوبكم يقال: قسا قلبه يقسو قسوة وقساوة وقسوا.
وهي الشدة والصلابة واليبس، يقال: حجر قاس.
أي: صلب، وأرض قاسية: لا تنبت شيئا.
قال الزجاج: تأويل القسوة: ذهاب اللين والرحمة والخشوع.
قوله تعالى: من بعد ذلك أي: من بعد إحياء الميت لكم بعضو من أعضاء البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من شاهدها أن يلين قلبه ويخضع، فهي كالحجارة قال المفسرون: إنما شبه قلوبهم بالحجارة فِي الغلطة والشدة، ولم يقل: كالحديد.
وإن كان الحديد أصلب من الحجارة، لأن الحديد يلين بالنار، وقد لان لداود عليه السلام بإذن الله حتى صار كالعجين، ولا تلين الحجارة بمعالجة أبدا، ولأن فِي الحديد منافع، تلك المنافع لا توجد فِي الحجارة، فشبه الله قلوبهم بالحجارة لقسوتها، ولعدم المنفعة فِيها.
قوله تعالى: أو أشد قسوة معناه: بل أشد قسوة، وارتفع أشد بإضمار هي، كأنه قال: أو هي أشد.
36 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْشَاذَ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ(1/158)
اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ الْجُوَيْنِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الثَّلْجِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُكْثِرُوا الْكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تُقَسِّي الْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي»
ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} [البقرة: 74] الكناية فِي منه عائدة على ما، كأنه قيل: وإن من الحجارة للذي يتفجر منه الأنهار، يعني: من الحجارة ما يسيل منه أنهار من ماء، {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} [البقرة: 74] أي: يتشقق، فأدغمت التاء فِي الشين، {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} [البقرة: 74] أي: ينزل ويسقط من رأس الجبل إلى أسفله، {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: 74] قال مجاهد: كل حجر تفجر منه الماء، أو تشقق عن الماء، أو تردى من رأس جبل، فهو من خشية الله نزل فِي القرآن.
ومعنى الآية: إن الحجارة قد تصير إلى هذه الأحوال التي ذكرها من خشية، الله وقلوب اليهود لا تخشع ولا(1/159)
تخشى الله ولا تلين، لأنهم عارفون بصدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبأن من كذبهم كانت النار عاقبته، ثم لا يؤمنون به، فقلوبهم أقسى من الحجارة.
ثم أوعدهم على ترك الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] أي: أن يجازيكم على ذلك.
ثم خاطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، فقال: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75} وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ {76} أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ {77} وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ {78} فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ {79} وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {80} بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {81} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {82} } [البقرة: 75-82] {أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة: 75] وهذا استفهام معناه الإنكار والنهي، {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75] أي: يصدقكم اليهود، {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 75] أي: طائفة وجماعة، {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} [البقرة: 75] يعني التوراة، {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [البقرة: 75] أي: يغيرونه، {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة: 75] علموه وفهموه، يعني: الذين غيروا آية الرجم وصفة محمد عليه السلام، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والسدي.
وقال ابن عباس، ومقاتل: هم الذين انطلقوا مع موسى إلى الجبل فسمعوا كلام الله ثم حرفوه، وزادوا فِيهِ.
وذلك أنهم لما رجعوا إلى قومهم سألهم الذين لم يذهبوا معهم، فقالت طائفة منهم {لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] : سمعنا الله فِي آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم، فلا تفعلوا ولا بأس.
فغيروا ما سمعوا، ولم يؤدوه على الوجه الذي سمعوه، فقيل فِي هؤلاء الذين شاهدهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم إن كفروا(1/160)
وحرفوا فلهم سابقة فِي كفرهم، وهذا مما يقطع الطمع فِي إيمانهم.
وقوله تعالى: وهم يعلمون أي: لم يفعلوا ذلك عن خطأ ونسيان، بل فعلوه عن قصد وتعمد.
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 76] قال ابن عباس، والحسن، وقتادة: يعني منافقي اليهود، كانوا إذا رأوا المؤمنين قالوا: آمنا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه نبي صادق نجده فِي كتابنا بنعته وصفته.
{وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة: 76] إذا رجعوا إلى رؤسائهم لاموهم على ذلك، وقالوا: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 76] قال الكلبي: قال: بما قص الله عليكم فِي كتابكم أن محمدا حق وقوله صدق.
وقال الكسائي: بما بينه الله لكم من العلم بصفة محمد النبي المبشر به ونعته.
{لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} [البقرة: 76] ليجادلوكم ويخاصموكم، يعني أصحاب محمد عليه السلام، ويقولون لليهود: قد أقررتم أنه نبي حق فِي كتابكم ثم لا تتبعونه! وقوله تعالى: عند ربكم قال ابن الأنباري: معناه: فِي حكم ربكم، كما تقول: هذا حلال عند الشافعي.
أي: فِي حكمه.
وهذا يحل عند الله.
أي: فِي حكمه.
والمعنى: لتكون لهم الحجة عليكم عند الله فِي الدنيا والآخرة، أفلا تعقلون أفليس لكم ذهن الإنسانية، وهذا من كلام رؤسائهم لهم فِي لومهم إياهم، فقال الله تعالى: أولا يعلمون يعني: اليهود، {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [البقرة: 77] من التكذيب، {وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] من التصديق.
قوله تعالى: ومنهم عبد الله: من اليهود، أميون قال الحجاج: معنى الأمي فِي اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الأمة.
أي: لا يكتب، فهو فِي أنه لا يكتب على ما ولد عليه.(1/161)
وقال غيره: قيل للذي لا يكتب: أمي، لأن الكتابة مكتسبة، أي: هو على ما ولدته أمه، لم يتعلم الكتابة.
وقوله تعالى: لا يعلمون الكتاب قال الكلبي: لا يحسنون قراءة الكتاب ولا كتابته.
إلا أماني قال ابن عباس: إلا أحاديث، لا يعلمون إلا ما حدثوا به، وقال الفراء: الأماني: الأحاديث المفتعلة، يقول الله تعالى: لا يعلمون الكتاب، ولكن أحاديث مفتعلة ليست كتاب الله، يسمعونها من كبرائهم، وهي كلها أكاذيب.
والعرب تقول: أنت إنما تمتني هذا القول.
أي: تختلقه.
وقال أحمد بن يحيى: التمني: الكذب، يقول الرجل: والله ما تمنيت هذا الكلام ولا اختلقته.
وقال الحسن، وأبو العالية، وقتادة فِي قوله تعالى: إلا أماني: أي: إلا أن يتمنوا على الله الباطل والكذب مثل قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، وقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] ، وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] .
قال ابن الأنباري: والاستثناء على هذا التأويل منقطع عن الأول، يريد: لا يعلمون الكتاب البتة، لكنهم يتمنون على الله ما لا ينالون.
وقوله تعالى: {وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] قال ابن عباس: لا يعلمون ولا يدرون ما هم فِيهِ وهم يجحدون نبوتك بالظن.
وقال أصحاب المعاني: ذم الله بهذه الآية قوما من اليهود لا يحسنون شيئا، وليسوا على البصيرة إلا ما(1/162)
يحدثون به، وإلا ما يقرءونه من غير علم به، ففيه حث على تعلم العلم، حتى لا يحتاج الإنسان إلى تقليد غيره وأن يقرأ شيئا لا يكون له به معرفة.
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] روى أبو سعيد الخدري، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " ويل: واد فِي جهنم، يهوي فِيهِ الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره ".
وقال عطاء بن يسار: الويل: واد فِي جهنم لو سيرت فِيهِ الجبال لانماعت من حره.
وقال الزجاج: الويل: كلمة يستعملها كل واقع فِي هلكة.
وقال الكلبي، عن ابن عباس فِي قوله: فويل، قال: الشدة من العذاب.
{لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] يعني: يغيرون صفة محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كتابهم، فجعلوه آدم سبطا طويلا، وكان ربعة أسمر، وكتبوا صفته على غير ما كانت فِي التوراة، وذلك لما كانوا يأخذونه من المآكل من سائر اليهود، فخافوا أن تذهب مأكلتهم إن هم بينوا الصفة، فذلك قوله: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] .
37 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شَبِيبٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "(1/163)
أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَجَدُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْتُوبَةً فِي التَّوْرَاةِ: أَكْحَلَ، أَعْيَنَ رَبْعَةً، حَسَنَ الْوَجْهِ، فَلَمَّا وَجَدُوهُ فِي التَّوْرَاةِ مَحَوْهُ حَسَدًا وَبَغْيًا، فَأَتَاهُمْ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: أَتَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ نَبِيًّا مِنَّا؟ قَالُوا: نَعَمْ، نَجِدُهُ طَوِيلا أَزْرَقَ سَبِطَ الشَّعْرِ "
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] قال ابن عباس: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، ويهود تقول: إنما هذه الدنيا سبعة آلاف سنة، وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا، ثم ينقطع عنا العذاب.
فأنزل الله فِي ذلك: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] أي: قليلة.
والمعدودة إذا أطلقت كان معناها: القليلة، كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] فقال الله عز وجل: قل لهم يا محمد، {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} [البقرة: 80] أي: هل أخذتم بما تقولون من الله ميثاقا؟ ! فالله لا ينقض ميثاقه، {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ} [البقرة: 80] الباطل جهلا منكم.
والمعنى: قل لهم: على أي الحالتين أنتم على اتخاذ العهد؟ أم على القول ب ما لا تعلمون؟ قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] قال الفراء: بلى يكون جوابا للكلام الذي فِيهِ الجحد، فإذا قال الرجل: ألست تقوم؟ فتقول: بلى.
ونعم جواب للكلام الذي لا جحد فِيهِ، فإذا قال الرجل: هل تقوم؟ قلت: نعم.
قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ {8} قَالُوا بَلَى} [الملك: 8-9] ، وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ، وقال: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] والآية رد على اليهود فِي قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، فقال الله تعالى: بلى أعذب من كسب سيئة.
والسيئة: العمل القبيح.
وإجماع أهل التفسير أن السيئة ههنا هي الشرك، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [البقرة: 81] أي: سدت عليه مسالك النجاة، والخطيئة: الذنب على عمد.(1/164)
قال ابن عباس، والضحاك، وأبو وائل، وأبو العالية، والربيع، وابن زيد: هي الشرك يموت عليه الإنسان.
وقال غيرهم: هي الذنوب الكبيرة الموجبة لأهلها النار.
والمؤمنون لا يدخلون فِي حكم هذه الآية، لأن الله تعالى أوعد بالخلود فِي النار من أحاطت به خطيئة وتقدمت منه سيئة هي الشرك، والمؤمن، وإن عمل الكبائر، فلم يوجد منه الشرك.
وقرأ أهل المدينة خطيئاته بالجمع، والباقون: على الواحدة، لأنها أضيفت إلى ضمير مفرد، فلما لم يكن الضمير جمعا لم يجمع كما جمعت فِي قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ} [الأعراف: 161] ، لأنه مضاف إلى جماعة، وهي وإن كانت مفردة لا يمتنع وقوعها على الكثرة، كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] والعد إنما يقع على الجموع.
ومن قرأ بالجمع حمل على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة لا الواحد، والضميرُ المضافُ إليه جمعٌ فِي المعنى، بدليل قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81] ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 82] .
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ {83} وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {85}(1/165)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {86} } [البقرة: 83-86] قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} [البقرة: 83] قرئ بالياء والتاء، وما كان من مثل هذا جاز أن يكون على لفظ الغيبة، من حيث كان اللفظ لها، وجاز أن يكون على لفظ المخاطب، لأنك تحكي حال الخطاب وقت ما تخاطب، ألا ترى أنهم قد قرءوا قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون على لفظ الغيبة، وبالتاء على حكاية حال الخطاب، وإذا كان هذا النحو جائزًا جاز أن تجيء القراءة بالوجهين.
قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة: 83] تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، كأنه لما قال: أخذنا ميثاقهم.
قال: وقلنا لهم: أحسنوا بالوالدين إحسانا.
ويقال: أحسن به، وأحسن إليه.
قال الله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف: 100] ، وقال: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] ومعنى الإحسان بالوالدين: البر بهما والعطف عليهما.
وقوله: وذي القربى يعني: القرابة فِي الرحم، واليتامى جمع يتيم، مثل: نديم وندامى، وهو المنفرد من أبيه ما دام طفلا، والمساكين يعني الفقراء {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن جريج، ومقاتل، والأكثرون: وقولوا للناس صدقا وحقا فِي شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن سألكم عنه فاصدقوه وبينوا له صفته، ولا تكتموا أمره، ولا تغيروا نعته.
وقال الربيع، وعطاء، ومحمد بن علي الباقر: هذا على العموم فِي تحسين المقالة للناس كلهم.
وقال الحسن، والثوري: يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أن يأمروهم بما أمرهم الله به، وينهوهم عما نهاهم الله عنه.(1/166)
وقال عطاء، عن ابن عباس: المراد بالناس فِي هذه الآية: محمد عليه السلام، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] ، فكأنه يقول: قولوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسنا.
وقرئ: حسنا وحسنا، وكلاهما واحد، لأن الحسن لغة فِي الحسن، كالبخل والبخل، والرشد والرشد، وبابه، حكى الزجاج عن الأخفش هذا القول فقال: زعم الأخفش أنه يجوز أن يكون حسنا فِي معنى حسنا.
وقوله تعالى: ثم توليتم أي: أعرضتم عن العهد والميثاق، إلا قليلا منكم يعني: من كان ثابتا على دينه ثم آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنتم معرضون كأوائلكم فِي الإعراض عما عهد إليكم فِي كتابكم، ومعنى الإعراض: الذهاب عن المواجهة إلى جهة العرض.
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة: 84] السفك: صب الدم، يقال: سفك يسفك ويسفك: لغتان، ودماء: جمع دم.
قال ابن عباس، وقتادة: لا يسفك بعضكم دم بعض بغير حق.
{وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84] أي: لا يخرج بعضكم بعضا من داره وغلبه عليها، ثم أقررتم أي: قبلتم ذلك وأقررتم به، وأنتم تشهدون اليوم على إقرار أوائلكم بأخذ الميثاق عليهم.
قوله: ثم أنتم الخطاب لقريظة والنضير، هؤلاء أراد: يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، تقتلون(1/167)
أنفسكم يقتل بعضكم بعضا، {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 85] روى الربيع، عن أبي العالية، قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق ألا يسفكون دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وإن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.
وقد كشف السدي عن هذا فقال: أخذ الله تعالى عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، وذلك أن قريظة كانت حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون، وذلك أن قريظة مع الأوس، والنضير مع الخزرج، فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، فإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك وتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ فيقولون: إنا قد أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم.
قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن يستذل حلفاؤنا.
فذلك حين عيرهم الله تعالى عليه فقال: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 85] ، قرئ بتخفيف الظاء وتشديدها، فمَن شدَّد أدغم التاء فِي الظاء لمقاربتهما، ومَن خفَّف حذف التاء لكراهة اجتماع المثلين، والمعنى: تتعاونون على أهل ملتكم بالمعصية والظلم.
والمظاهرة: المعاونة، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم: 4] ، وقوله: {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48] ، وقوله تعالى: {بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85] العدوان: الإفراط فِي الظلم، يقال: عدا عدوا وعدوانا وعدوا وعداء.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} [البقرة: 85] وإن أتوكم مأسورين يطلبون الفداء فديتموهم، وقرئ أسارى، وأسرى، وهما جمع أسير، وأسير: فعيل فِي معنى مفعول، وإذا كان كذلك فجمعه: فعلى، نحو لديغ(1/168)
ولدغى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى فالأسرى هو القياس فِي جمع أسير.
ومن قال: أسارى شبهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرفه للأسرى كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته، شبه به، فقيل فِي جميعه: أسارى.
كما قيل: كسالى.
قال سيبويه: قالوا: كسلى.
شبهوه بأسرى، كما قالوا: أسارى.
شبهوه بكسالى.
وقوله تعالى: تفادوهم قرئ أيضا بوجهين: بألف: من المفاداة، وبغير ألف: من الفداء، يقال: فديته بمال.
قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ، ويقال: فادى الأسير، إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا.
ومعنى فديته بالشيء: خلصته به، وجعلته عوضا عنه صيانة له، والقراءتان معناهما واحد، وإنك تقول: فديته بالمال وفاديته وافتديته.
قال طرفة:
على مثلها أمضي إذا قال صحابي ... ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
ومعنى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] : خلصناه به من الذبح.
والمفعول الثاني محذوف من الآية، لأن المعنى: تفدونهم، أو تفادونهم بالمال.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} [البقرة: 85] هو إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره فِي قوله: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا} [البقرة: 85] ، ثم بين لتراخي الكلام أن ذلك الذي حرم عليهم الإخراج، فقال: {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 85] ، ولو اقتصر على هذا القدر اشتبه أن يرجع ذلك إلى فداء الأسرى، فأظهر المكني عنه وأعاده فقال: إخراجهم، ونظم الآية، على التقدير والتأخير، لأن التقدير: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم وهو محرم عليكم إخراجهم وإن يأتوكم أسرى تفدوهم.
والمحرم: الممنوع منه، والحرام: كل ممنوع من فعله، والمحروم: الممنوع منه ما ناله سواه.(1/169)
وقوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة: 85] يعني فداء الأسرى، {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] يعني المقاتلة والإخراج من الديار، وقوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [البقرة: 85] استفهام فِي معنى توبيخ، {إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 85] يعني ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أجلوا من مساكنهم، وبني قريظة أبيروا بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم.
والخزي: الهوان والفضيحة، وقد أخزاه الله، أي: أهانه وفضحه، وفي القرآن: {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] أي: لا تفضحون.
ثم أعلم الله تعالى أن ذلك غير مكفرٍ عنهم ذنوبَهم فقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ} [البقرة: 85] يرجعون، إلى أشد العذاب أي: لا روح فِيهِ باتصال أجزائه، وقيل: إلى عذاب أشد من عذاب الدنيا.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] وعيد لهم وتهديد، فمن قرأ بالياء فهو على الإخبار عنهم، ومن قرأ بالتاء فللمخاطبة، ثم أخبر أنهم استبدلوا قليل الدنيا بكثير الآخرة فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [البقرة: 86] أي: اختاروا الحياة فِي هذه الدنيا بالنعيم المقيم والعز الدائم فِي الآخرة، فلا يخفف أي: لا يهون، {عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 86] أي: يمنعون من عذاب الله.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ {87} وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ {88} وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ {89} بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ {90} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ(1/170)
آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {91} } [البقرة: 87-91] قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: 87] أي: أرسلنا رسولا يقفو رسولا فِي الدعاء إلى توحيد الله والقيام بشرائع دينه، يقال: قفا أثره، وقفا غيره على أثره.
أي: أتبعه إياه، {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 87] وهي العلامات الواضحة التي ذكرها فِي { [آل عمران، والمائدة، وأيدناه قويناه، يقال: آيده وأيده، إذا قواه.
والأيد والآد: القوة، بروح القدس قال قتادة والربيع، والضحاك، والسدي، وعطاء، عن ابن عباس: إنه جبريل، وكان قرينه يسير معه حيثما سار، وصعد به إلى السماء لما قصد قتله، ومثله قوله تعالى:] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} [سورة النحل: 102] يعني: جبريل، وإنما سمي بذلك لأن الغالب على جسمه الروحانية، لرقته، وكذلك سائر الملائكة، وأضيف إلى القدس، وهو الطهارة، لأنه لا يقترف ذنبا ولا يأتي مأثمًا.
وقرئ القدس بالتخفيف والتثقيل، وهما نعتان مثل: العنق والعنق، والحلم والحلم، وبابه.
قوله تعالى: أفكلما جاءكم يا معشر اليهود، {رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ} [البقرة: 87] بما لا يوافق أهواءكم، استكبرتم أي: تعظمتم عن الإيمان به، وذلك أنهم كانت لهم الرياسة وكانوا متبوعين، فآثروا الدنيا على الآخرة، ففريقا كذبتم مثل: عيسى ومحمد عليهما السلام، وفريقا تقتلون مثل: يحيى وزكريا عليهما السلام، نظير قوله: {فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] ، والفريق: الطائفة من الناس.(1/171)
ولما قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا عرفوا أنه الوحي، يوبخهم الله تعالى بما صنعوا.
وقالوا يا محمد، قلوبنا غلف وهو جمع أغلف، وكل شيء فِي غلاف فهو أغلف، يقال: سيف أغلف، وقوس غلفاء، ورجل أغلف، إذا لم يختتن.
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: إنهم قالوا استهزاء وإنكارا لما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قلوبنا عليها غشاوة، فهي أوعية، فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمد.
فأكذبهم الله فيما قالوا، وقال: بل لعنهم الله أي: أبعدهم من رحمته وطردهم، واللعن فِي اللغة: الإبعاد، ثم يسمى التعذيب والسب والشتم لعنا.
يقول الله تعالى: ليس كما ذكروا من أن قلوبهم فِي الغلاف فلا تفهم، ولكن الله لعنهم وأخزاهم ولم يجعل لهم سبيلا إلى فهم ما يقول محمد، وإن فهموا حرموا الانتفاع به.
فهذا معنى لعن الله اليهود فِي هذا الموضع.
وقوله تعالى: بكفرهم أي: بإقامتهم على كفرهم، وتركهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الله جزاءهم على ذلك أن لعنهم، فقليلا ما يؤمنون قال قتادة: معناه: لا يؤمنون منهم إلا قليل، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من اليهود.
وما صلة، وانتصب قليلا على الحال على تقدير: فيؤمنون قليلا كعبد الله بن سلام وأصحابه.
والآية رد على القدرية، لأن الله تعالى بين أن كفرهم بسبب لعنه إياهم، وأنه لما أراد كفرهم وشقاءهم منعهم الإيمانَ.
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 89] يعني القرآن، مصدق موافق، لما معهم لأنه جاء على ما تقدم به الأخبار فِي التوراة، فهو مصداق الخبر المتقدم، وكانوا يعني اليهود، من قبل أي: من قبل(1/172)
هذا الكتاب، {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 89] يستنصرون الله عليهم بالقرآن والنبي المبعوث آخر الزمان.
قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدعاء، وقالت: اللهم إنما نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا فِي آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم.
فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفروا به، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهو قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] يعني الكتاب، وذلك أنهم كانوا قد قرءوا فِي التوراة أن الله يبعث فِي آخر الزمان نبيا وينزله عليه قرآنا مبينا، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .
وقوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 90] بئس: لفظ وضع للذم، يخبر به عن الشيء المذموم، وهو مستوف لجميع الذم، ومعنى الاشتراء ههنا: البيع، وهو من الأضداد، والمعنى: بئس الشيء باعوا به أنفسهم الكفر، يريد: أنهم اختاروا الكفر وأخذوه، وبذلوا أنفسهم للنار، لأن اليهود، خصوصًا، علموا صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن من كذبه فالنار عاقبته، فاختاروا الكفر وسلموا أنفسهم للنار، فكان ذلك كالبيع منهم.
وقوله تعالى: بغيا أي: حسدا، قال اللحياني: يقال: بغيت على أخيك بغيا.
أي: حسدته، فالبغي أصله الحسد، ثم سمي الظلم بغيا لأن الحاسد يظلم المحسود جهده، طلبا لإزالة نعمة الله عنه، قال الله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60] ، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] ، وقال ابن عباس: إن كفر اليهود لم يكن شكا ولا اشتباها، ولكن كان بغيا منهم، حيث صارت النبوة فِي ولد إسماعيل، وقال السدي: لما جاءهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفروا به حسدا، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟(1/173)
وقوله تعالى: {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [البقرة: 90] أي: إنزال الله، والمعنى: حسدا إنزال الله الكتاب، {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90] يعني محمدًا عليه السلام، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [البقرة: 90] قال قتادة: الأول: بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بكفرهم بمحمد والقرآن.
وقال السدي: أما الغضب الأول: فحين غضب الله عليهم فِي عبادة العجل، والثاني: حين كفروا بمحمد عليه السلام.
وقال مجاهد: الأول: بتبديلهم التوراة قبل خروج محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني: بجحودهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكفرهم بما جاء به.
وللكافرين يعني: الجاحدين نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عذاب مهين يهانون فِيهِ ولا يعزون.
وقوله: وإذا قيل لهم أي: لليهود، آمنوا بما أنزل الله يعني القرآن، {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] يعنون التوراة، {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ} [البقرة: 91] قال ابن الأنباري: تم الكلام عند قوله: بما أنزل علينا، ثم ابتدأ الله تعالى بالإخبار عنهم فقال: ويكفرون بما وراءه أي: بما سواه.
وقال الفراء: وذلك كثير فِي العربية، يتكلم الرجل بالكلام الحسن، فيقول السامع: ليس وراء هذا الكلام شيء.
يريد: ليس سوى هذا الكلام شيء، ويحتمل بما وراءه: بما بعده، أي: بما بعد التوراة.
يريد: الإنجيل والقرآن، ومثل هذا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] أي: ما بعده وما سواه، وقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] .(1/174)
قوله تعالى: وهو الحق يعني ما وراء التوراة من الإنجيل والقرآن، أخبر الله تعالى أن ما يكفرون به هو الحق، مصدقا لما معهم قال الزجاج: فِي هذا دلالة على أنهم قد كفروا بما معهم، إذ كفروا بما يصدق ما معهم، قال: ونصبت مصدقا على الحال.
ثم أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحتج عليهم بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91] وهذا تكذيب لقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] أي: أي كتاب جوز فِيهِ قتل نبي، وأي دين جوز فِيهِ ذلك؟ والمراد بلفظ الاستقبال ههنا: المضي، وجاز ذلك لأنه لا يذهب الوهم إلى غيره بقوله: من قبل، ودليل هذا قوله: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} [آل عمران: 183] ، وأضاف القتل إلى المخاطبين، وإن كان آباؤهم قد قتلوا، لأنهم كانوا يتولون الذين قتلوا، فهم على مذهبهم، وإذا كانوا كذلك فقد شركوهم.
قال ابن عباس: كلما عملت معصية فمن أنكرها برئ منها، ومن رضي بها كان كمن شهدها.
وقوله تعالى: إن كنتم مؤمنين: إن بمعنى الشرط وجوابها قبلها، على تقدير: إن كنتم مؤمنين فلمَ تقتلون أنبياءَ اللهِ؟ لأنه ليس سبيل المؤمنين أن يقتلوا الأنبياء، ولا يتولوا قاتليهم.
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ {92} وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {93} } [البقرة: 92-93] قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 92] يعني: العصا، واليد، وفلق البحر، وما أوتي موسى من الدلالات الواضحة، {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} [البقرة: 92] أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل، وأنتم ظالمون، وهذه الآية توبيخ لليهود على كفرهم وعبادتهم العجل بعدما رأوا آيات موسى، وبيان أنهم إن كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس بأعجب من كفرهم فِي زمان موسى.
وقوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم مفسر فيما سبق إلى قوله: واسمعوا أي: ما فِيهِ من حلاله وحرامه، قالوا سمعنا ما فِيهِ، وعصينا ما أمرنا به.(1/175)
وقال الحسن: قالوا سمعنا بألسنتهم، وعصينا بقلوبهم.
والمفسرون اتفقوا على أنهم قالوا: سمعنا لما أظل الجبل فوقهم، فلما كشف عنهم قالوا: عصينا.
وقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] الإشراب: خلط لون بلون، يقال: أبيض مشرب حمرة، إذا كان يخالطه حمرة.
قال أبو عبيدة، والزجاج: معناه: سقوا حب العجل، وخلطوا به حتى اختلط بهم.
وبين أن محل ذلك الحب قلوبهم، وأن الخلط حصل فِيها، فأسند الفعل أولا إلى الجملة، ثم خص القلوب، كما تقول: ضربوا على رءوسهم، وأراد: حب العجل، فحذف المضاف، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] .
وقوله تعالى: بِكُفْرِهِمْ أي: باعتقادهم التشبيه، لأنهم طلبوا ما يتصور فِي نفوسهم.
{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93] معناه: إن كنتم مؤمنين فبئس الإيمان إيمان يأمركم بالكفر.
وهذا تكذيب لهم، لأنهم كانوا يزعمون أنهم مؤمنون، وذلك أنهم قالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة: 91] فكذبهم الله تعالى وعيرهم بعبادة العجل، وذلك أن آباءهم ادعوا الإيمان ثم عبدوا العجل.
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {94} وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {95} وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {96} } [البقرة: 94-96] وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ} [البقرة: 94] الآية، كانت اليهود تقول: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا} [البقرة: 111] فقيل لهم: إن كنتم صادقين عند أنفسكم فتمنوا الموت فإن من كان لا يشك فِي أنه صائر إلى الجنة فالجنة آثر عنده من الدنيا.(1/176)
ثم أخبر أنهم لا يتمنون الموت فقال: ولن يتمنوه أبدا وذلك أنهم عرفوا أنهم كفرة، ولا نصيب لهم فِي الجنة، لأنهم تعمدوا كتمان أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكذيبه، وقوله تعالى: بما قدمت أيديهم أي: بما قدموه وعملوه، فأضاف ذلك إلى اليد، وإن أكثر جنايات الإنسان تكون بيده، فيضاف إلى اليد كل جناية، وإن لم يكن لليد فِيها عمل، وقوله تعالى: والله عليم بالظالمين فِيهِ معنى التهديد، أي: عليم بمجازاتهم.
وفي هذه الآية أبينُ دلالةٍ على صدق نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أُخبر عن الله أنهم لا يتمنون الموت، ثم لم يرد، مع حرصهم على تكذيبه، أن أحدًا أتاه وقال: يا محمد، أنا أشتهي الموت وأتمناه.
لأنهم علموا أنهم لو تمنوا، لم يبق منهم صغير ولا كبير إلا مات، فكان إحجامهم عن ذكر الموت دليلا على عنادهم الحق وتكذيب من يعرفون صدقه.
قوله تعالى: ولتجدنهم دخلت اللام والنون لأن القسم مضمر، تقديره: والله لتجدنهم، يعني علماء اليهود الذين كتموا أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] لأنهم علموا أنهم صائرون إلى النار إذا ماتوا.
ومعنى الحرص: شدة الطلب، ومن الذين أشركوا أي: وأحرص من الذين أشركوا، ومعنى الإشراك: عبادة غير الله مع الله، وهو أن يجعل عبادته مشتركة بين الله وغيره.
قال أبو العالية، والربيع: أراد بالذين أشركوا: المجوس، وإنما وصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة، ويزدان وأهرمن، وهم موصفون بالحرص على الحياة، ولهذا جعلوا التحية بينهم: زه هزار سال.
أي: عش ألف سنة.
وقال ابن عباس: أراد بالذين أشركوا: منكري البعث، ومن أنكر البعث أحب الحياة، لأنه لا يرجو بعثا بعد الموت.(1/177)
وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} [البقرة: 96] أي: أحد اليهود، يقال: وددت الشيء أوده ودا وودادا وودادة.
{لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] يقال: عمره الله تعميرا، إذا أطال عمره.
وما هو أي: وما أحدهم، {بِمُزَحْزِحِهِ} [البقرة: 96] بمبعده، {مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96] والزحزحة: الإبعاد والتنحية، يقال: زحزحه فتزحزح.
يعني: إنه وإن عمر فعاقبته النار.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {97} مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ {98} وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ {99} أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ {100} } [البقرة: 97-100] قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] الآية، سألت اليهود رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمن يأتيه من الملائكة، فقال: «جبريل» .
فقالوا: هو عدونا، ولو أتاك ميكائيل بالوحي لقبلنا منك.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وجبريل فِيهِ لغات، وكذلك ميكائيل وإسرائيل، وهذه أسماء أعجمية وقعت إلى العرب، فإذا أتي بها على ما فِي أبنية العرب مثله كان أذهب فِي باب التعريب.
فمن قال: جبريل.
بكسر الجيم وحذف الهمزة، كان على لفظ: قنديل وبرطيل، ومن قال: جبريل.
بفتح الجيم وترك الهمزة، فليس بهذا البناء مثل فِي كلام العرب فيكون هذا من باب الآجر والإبريسم والفرند، ونحو ذلك من الذي لم يجئ له مثل فِي كلامهم،(1/178)
ومن قال: جبرئل.
على وزن جبرعل، كان على وزن جحمرش، وصهصلق.
وجبرئيل: على وزن عندليب، وكلا المذهبين حسن، لاستعمال العرب لهما جميعا.
قال جرير:
عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد ... وبجبرئيل وكذبوا ميكالا
وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس به خفاء
وقال كعب بن مالك:
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فِيهِ مع النصر جبريل وميكال
وقال جماعة من أهل العلم: جبر، وميك: هو العبد بالسريانية، وإيل: هو الله عز وجل.
وروي عن ابن عباس، أنه قال: إنما جبريل وميكائيل كقولنا: عبد الله وعبد الرحمن.
وقوله: فإنه يعني جبريل، نزله يعني القرآن، {عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 97] يعني قلب محمد عليه السلام، بإذن الله بأمر الله، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97] رد على اليهود حين قالوا: إن جبريل ينزل بالحرب والشدة.
فقيل: إنه، وإن كان ينزل بالحرب والشدة على الكافرين، فإنه ينزل بالهدى والبشرى للمؤمنين.
وعنى بالهدى والبشرى: القرآن، فإن فِيهِ هدى من الضلالة وبشرى بالجنة لمن آمن به.
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} [البقرة: 98] الآية.
إن اليهود قالت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن صاحب محمد من الملائكة جبريل وهو عدونا يطلع محمدًا على سرنا، وهو صاحب كل عذاب وخسف وسنة وشدة.
فقال عمر: فإني أشهد أن من كان عدوا لجبريل فإنه عدو لميكائيل، ومن كان عدوا لهما فإن الله عدو له.
ثم أتى عمر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد جبريل عليه(1/179)
السلام قد سبقه بالوحي، فقرأ عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآيات، وقال: «لقد وافقك ربك يا عمر» .
قال عمر: فلقد رأيتني فِي دين الله أصلب من الحجر.
ومعنى {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ} [البقرة: 98] أي: من كان الله عدوه، ولا تصح العداوة لله على الحقيقة، لأن العداوة للشيء: طلب الإضرار به بغضا به، وإنما قيل للكافر: عدو لله.
من عداوة الله له، أو لأنه يفعل فعل المعادي.
وقوله تعالى: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] : أخرجهما الله من جملة الملائكة، بالذكر تخصيصا وتشريفا لهما، كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ، وكقوله: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ بعد قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 109] ، ومعنى الآية: من كان عدوا لأحد هؤلاء فإن الله عدو له، وهو قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] لأن عدو الواحد عدو للجميع، وعدو محمد عدو لله، ومعنى {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] : أنه تولى تلك العداوة بنفسه، وكفى رسله وملائكته أمر من عاداهم.
وإنما قال: عدو للكافرين ولم يقل: عدو لهم.
ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [البقرة: 99] قال ابن عباس: هذا جواب لابن صوريا، حيث قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل عليك من آية بينة فنتبعك لها.
فأنزل الله هذه الآية.
والبينة: الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبة، لأنها من إبانة أحد الشيئين عن الآخر فيزول الالتباس بها.
قوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99] أي: الخارجون عن أديانهم، واليهود خرجت، بالكفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن شريعة موسى.
قوله تعالى: أوكلما الواو فِيهِ: عطف واو العطف، ودخل عليها ألف الاستفهام، وكلما: ظرف، وقوله: {عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة: 100](1/180)
قال المفسرون: إن اليهود عاهدوا، فيما بينهم: لئن خرج محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليؤمنن به، وليكونن معه على مشركي العرب.
فلما بُعث نقضوا العهد وكفروا به.
وقال عطاء: هي العهود التي كانت بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين اليهود فنقضوها، كفعل قريظة والنضير، عاهدوا ألا يعينوا عليه أحدًا، فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشا يوم الخندق.
وقوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] لأنهم من بين كافر ينقض العهد، أو كافر بالجحد لأمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأكثرهم غير مؤمنين.
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ {101} وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {102} وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ {103} } [البقرة: 101-103] قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 101] أي: من نعته وصفته، جاءهم على النعت الذي نعت به فِي التوراة، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101] يعني علماء اليهود الذين تواطئوا على كتمان أمر محمد عليه السلام.
قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101] يجوز أن يكون المراد ب كتاب الله: القرآن، ويجوز أن يكون المراد به: التوراة، لأن الذين كفروا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبذوا التوراة، والنبذ: الطرح، ويقال لكل من استخف بشيء ولم يعمل به: نبذه وراء ظهره.
قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه، ولكن نبذوا العمل به.(1/181)
وقال سفيان بن عيينة: أدرجوه فِي الحرير والديباج، وحلوه بالذهب والفضة، ولم يحلوا حلاله، ولم يحرموا حرامه، فذلك النبذ.
وقوله تعالى: كأنهم لا يعلمون أعلم الله تعالى أنهم نبذوا كتاب الله ورفضوه عن علم بعظيم ما يفعلون، حتى كأنهم لا يعلمون ما يستحقون من العذاب، ثم أخبر أنهم رفضوا كتابه، واتبعوا السحر فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] أي: تقرأ وتحدث وتقص، والمراد بلفظ الاستقبال: المضي، بمعنى: تلت الشياطين، {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] قال السدي: إن الناس، فِي زمن سليمان، اكتتبوا السحر، واشتغلوا بتعلمه، فأخذ سليمان تلك الكتب وجعلها فِي صندوق، ودفنها تحت كرسيه، ونهاهم عن ذلك، فلما مات سليمان، وذهب الذين كانوا يعرفون دفنه الكتب، تمثل الشيطان على صورة إنسان، فأتى نفرا من بني إسرائيل، فقال: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا: نعم.
قال: فاحفروا تحت الكرسي.
فحفروا، فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوا قال الشيطان: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا.
فاتخذ بنو إسرائيل تلك الكتب، فذلك أكثر ما يوجد السحر فِي اليهود، وبرأ الله عز وجل سليمان من ذلك، وأنزل هذه الآية.
وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102] أي: لم يكن كافرا ساحرا يسحر ويعمل بالسحر، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] بالله.
وفي ولكن قراءتان: التشديد ونصب الاسم به، والتخفيف ورفع الاسم به، وهذا الحرف إذا استعمل(1/182)
مثقلا كان عاملا فِي الاسم، وعمله النصب، وإذا استعمل مخففا لم يعمل النصب وكان حرف عطف.
وقوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] يعني: الشياطين إذا حدثوا بالسحر وتكلموا به وألقوه بين الناس، ويجوز أن يكون يعلمون من فعل اليهود الذين عنوا بقوله: واتبعوا.
قوله: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] موضع ما نصب عطفا على السحر.
ومعنى {أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة: 102] : علِّما وأُلْهِمَا، وقذف فِي قلوبهما من علم التفرقة بين المرء وزوجه، وهو رقية وليس بسحر، والرخصة فِي الرقية واردة، وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا» .
وروى طلحة، عن عطاء، قال: بلغني أن هاروت وماروت قالا، وهما فِي السماء: أي ربنا، إنك لتعصى فِي الأرض.
قال: فاهبطا إلى الأرض.
فجعلا يحكمان بين الناس، حتى جاءتهما امرأة من أحسن الناس وأجملهم تخاصم زوجا لها، فقال أحدهما للآخر: هل سقط فِي نفسك مثل الذي سقط فِي نفسي؟ قال: نعم.
قال: فهل لك أن تقضي لها على زوجها؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من المغفرة والرحمة؟ فسألاها نفسها، فقالت لهما: لا، إلا أن تقضيا على زوجي.
فقضيا عليه ثم سألاها نفسها، فقالت: لهما: لا، إلا أن تقتلاه، فأفرغ لكما.
فقال أحدهما للآخر: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من المغفرة والرحمة؟ فقتلاه، ثم سألاها نفسها، فقالت: لا، إلا أن لها صنما تعبده، إن أنتما صليتما معي عنده فعلت.
فقال أحدهما لصاحبه مثل القول الأول، وقال له صاحبه مثل قوله الأول، فصليا معها عنده، فمسخت عند ذلك شهابا، وأخذا عند ذلك، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا على عذاب الآخرة.(1/183)
قال عطاء: فبلغني أنهما معلقان بأرجلهما، مصوبة رءوسهما تحت أجنحتهما، وبابل: اسم أرض فِي جانب العراق.
وقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102] اختلفوا فِي تعليم الملكين السحر، فذكر أهل التفسير وأصحاب المعاني فِيهِ وجهين: أنهما كانا لا يتعمدان تعليم السحر، ولكنهما يصفانه، ويذكران بطلانه، ويأمران باجتنابه، وكانا يعلمان الناس وغيرهم ما يسألان عنه، ويأمران باجتناب ما حرم عليهم، وطاعة الله فيما أمروا به ونهوا عنه، وفي ذلك حكمة، لأن سائلا لو سأل: ما الزنى وما اللواط؟ لوجب أن يوقف عليه ويعلم أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس السحر، وأمرهما السائل باجتنابه بعد الإعلام والإخبار أنه كفر وحرام.
ويؤكد هذا الوجه ما روى أبو العباس، عن ابن الأعرابي، أنه قال: علم بمعنى: أعلم، وذلك أن التعليم لا ينفك من الإعلام، كما يقال: تعلم، بمعنى: علم.
لأن من تعلم شيئا فقد علمه، فيوضع التعليم موضع العلم.
قال ابن الأعرابي: ومن هذا قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} [البقرة: 102] قال: معناه: أن الساحر يأتي الملكين فيقول:(1/184)
أخبراني عما نهى الله عنه حتى أنتهي.
فيقولان: نهى الله عن الزنى.
فيصفانه، فيقول: وعن ماذا؟ فيقولان عن اللواط.
ثم يقول: وعن ماذا؟ فيقولان: عن السحر.
فيقول: وما السحر؟ فيقولان: هو كذا.
فيحفظه وينصرف، فيخالف فيكفر.
فهذا معنى قوله: يعلمان أنما هو يعلمان.
ولا يكون تعليم السحر، إذا كان إعلاما، كفرا، ولا تعمله، إذا كان على معنى الوقوف عليه ليجتنبه، كفرا، كما أن من عرف الزنى لم يأثم، إنما يأثم بالعمل.
الوجه الثاني: أن الله عز وجل امتحن الناس بالملكين فِي ذلك الوقت، وجعل المحنة فِي الكفر والإيمان أن يقبل تعليم السحر، فيكفر بتعلمه، ويؤمن بشرك التعلم، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما يشاء، كما امتحن بنهر طالوت فِي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] ، يدل على صحة هذا: قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة: 102] أي: محنة من الله، نخبرك أن عمل السحر كفر بالله وننهاك عنه، فإن أطعتنا فِي ترك العمل بالسحر نجوت، وإن عصيتنا فِي ذلك هلكت.
ومعنى من أحد: أحدا، ومن زائدة مؤكدة كقولك: ما جاءني من أحد.
ومعنى الفتنة: الابتلاء والامتحان، مأخوذ من قولهم: فتنت الذهب والفضة، إذا أذبتهما بالنار ليتميز الرديء من الجيد.
ومن هذا قوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] قيل فِي التفسير: وهم لا يبتلون فِي أنفسهم وأموالهم.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] أي: اختبرنا، ويقال: فتنه وأفتنه.
والفتنة مصدر، لذلك لم يُثَنَّ.(1/185)
وقوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وهو أن يؤخذ كل واحد منهما عن صاحبه، ويبغض كل واحد منهما إلى صاحبه، وما هم أي: السحرة، وقيل: الشياطين.
بضارين به أي: بالسحر، من أحد أي: أحدا.
إلا بإذن الله قال المفسرون: الإذن ههنا: إرادة التكوين.
أي: لا يضرون بالسحر إلا من أراد الله أن يلحقه الضرر.
وقوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102] المعنى: أنه يضرهم فِي الآخرة وإن تعجلوا به فِي الدنيا نفعا، ولقد علموا يعني اليهود، {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] أي: اختاره، يعني السحر، {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] أي: نصيب، والخلاق: النصيب الرامز من الخير، قال المفسرون: الخلاق من هذه الآية: النصيب من الجنة.
قوله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 102] أي: بئس شيء باعوا به حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر ونبذوا كتاب الله، لو كانوا يعلمون عاقبة ما يصير إليه من بخس حظه فِي الآخرة.
ولو أنهم آمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، واتقوا اليهود والسحر، لأثيبوا ما هو خير لهم، وهو قوله: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 103] ، والمثوبة كالثواب، وكذلك المثوبة مثل المشورة والمشورة، ويعني بالآية أن ثواب الله لهم لو آمنوا خير من كسبهم بالكفر والسحر.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ {104} مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {105} } [البقرة: 104-105] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 104] المراعاة: المراقبة وحفظ ما يكون من أحوال الشيء، يقال: راعنا سمعك.
أي: اسمع منا حتى نفهمك وتفهم عنا، والعرب تقول: راعنا سمعك، وراعنا بسمعك.
بمعنى واحد.
قال الكلبي، عن ابن عباس: كان المسلمون يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: راعنا سمعك.
وكان هذا بلسان اليهود سبا قبيحا فيما بينهم، فلما سمعوا هذه الكلمة يقولونها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعجبتهم، فكانوا يأتونه ويقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: عليكم لعنة الله، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها(1/186)
لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأضربن عنقه.
فقالت اليهود: أولستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ونهوا عن ذلك.
وهذا النهي اختص بذلك الوقت، لإجماع الأمة على جواز المخاطبة بهذا اللفظ الآن.
وقوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] أي: نظرت فلانا، أي: انتظرته، ومنه قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ، ومعنى انظرنا: اصبر حتى نفهمك ما نقول، ويجوز أن يكون انظرنا أي: انظر إلينا، فحذف حرف الجر، أمروا أن يقولوا بدل راعنا: انظرنا.
قوله تعالى: واسمعوا أي: ما يقال لكم وما تؤمرون به، ومعناه: وأطيعوا، لأن الطاعة تحت السمع، وللكافرين يعني اليهود، عذاب أليم.
قوله تعالى: ما يود أي: ما يحب وما يريد، {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البقرة: 105] يعني اليهود، ولا المشركين من العرب، {أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 105] أي: خيرٌ، من ربكم ومن: صلة مؤكدة، يريد: أنهم على إنزال القرآن عليكم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ} [البقرة: 105] يقال: خصه بالشيء واختصه به، إذا أفرده به دون غيره.
قوله تعالى: برحمته أي: نبوته، من يشاء يعني محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] تفضل بالنبوة على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المسلمين بدينه الإسلام.
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {106} أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {107} } [البقرة: 106-107] قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآية، وذلك أن المشركين قالوا: القرآن كلام محمد تقوَّله من نفسه، يأمر أصحابه بأمر، ثم ينهاهم عنه بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ومعنى النسخ: إبطال الشيء وإقامة آخر مقامه، تقول العرب: نسخت الشمس الظل.
أي: أذهبته وحلت محله، وهذا نسخ إلى بدل، لأن الظل يزول ويبطل، وتكون الشمس بدلا عنه، ويجوز النسخ إلى غير بدل، وهو رفع(1/187)
الحكم وإبطاله من غير أن يقيم له بدلا، يقال: نسخت الريح الآثار، أي: أبطلتها وأزالتها.
والمعروف من النسخ فِي القرآن: إبطال الحكم مع إثبات الخط، وهو أن تكون الآية الناسخة والمنسوخة ثابتتين فِي التلاوة، إلا أن المنسوخة لا يعمل بها، مثل عدة المتوفى عنها زوجها، كانت سنة، لقوله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] ثم نسخت بأربعة أشهر وعشر، لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وكقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية، ثم نسخت بقوله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] ، الآية.
وقرأ ابن عامر ما ننسخ بضم النون، من أنسخت الآية، أي: وجدتها منسوخة، كقولك: أحمدت الرجل، وأحببته، وأكذبته، وأبخلته.
أي: وجدته على هذه الأحوال.
فيكون معنى قوله: ننسخ: نجده منسوخا، وإنما نجده كذلك لنسخه إياه، وإذا كان كذلك كان معنى قراءة ابن عامر كمعنى قراءة من قرأ ننسخ، بفتح النون، يتفقان فِي المعنى، وإن اختلفا فِي اللفظ.
وقوله تعالى: أو ننسها النسيان: ضد الذكر، والإنساء منقول منه، يقال: نسي الرجل الشيء، وأنسيته الشيء، إذا جعلته ينساه.
ومعنى الآية: إنا إذا رفعنا آية من جهة النسخ أو الإنساء لها أتينا بخير من الذي نرفعه بإحدى هذين الوجهين، وهما النسخ والإنساء.
وقد يقع النسخ بالإنساء، وهو ما
38 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ(1/188)
التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنَ الأَنْصَارِ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يُرِيدُ أَنْ يَفْتَتِحَ سُورَةً قَدْ كَانَ دَعَاهَا، فَلَمْ يَقْدِرْ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ إِلا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، فَأَتَى بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَصْبَحَ، لِيَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَآخَرُ، حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مَا جَمَعَهُمْ؟ فَأَخْبَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِشَأْنِ تِلْكَ السُّورَةِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَهُمْ، وَسَأَلُوهُ عَنِ السُّورَةِ، فَسَكَتَ سَاعَةً لا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «نُسِخَتِ الْبَارِحَةَ مِنْ صُدُورِكُمْ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَانَتْ فِيهِ»
وقرأ أبو عمرو ننسأها مفتوحة النون، مهموزة، من النسيء بمعنى التأخير، يقال: نسأت الإبل عن الحوض.
أي: أخرتها.
ومعنى التأخير فِي الآية: أن يؤخر التنزيل، فلا ينزل ولا يعلم ولا يعمل به ولا يتلى، والمعنى: نؤخرها لوقت كان، فنأتي بدلا منها فِي الوقت المتقدم بما يقوم مقامها،(1/189)
ومعنى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] أي: أصلح لمن تعبر بها، وأنفع لها، وأسهل عليهم، وأكثر لأجرهم، لا أن آية خير من آية، أو مثلها فِي المنفعة والمثوبة بأن يكون ثوابها كثواب التي قبلها.
والفائدة فِي ذلك: أن يكون الناسخ أسهل من المأخذ من المنسوخ، والإيمان به والناس إليه أسرع، نحو القبلة التي كانت على جهة، ثم حولت إلى الكعبة، فهذا وإن كان السجود إلى سائر النواحي متساويا فِي العمل والثواب، فالذي أمر الله به فِي ذلك الوقت كان الأصلح والأدعى للعرب وغيرهم إلى الإسلام.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] أي: من النسخ والتبديل وغيرهما.
قوله: ألم تعلم استفهام معناه التقرير، {أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 107] الملك: تمام القدرة واستحكامها، والمعنى: أنه يملك السموات والأرض ومن فيهن، فهو أعلم بما يتعبدهم من ناسخ ومنسوخ، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ} [البقرة: 107] الولي: فعيل بمعنى فاعل، يقال: هو والي الأمر ووليه.
أي: القائم به.
المعنى: ما لكم من دون الله من وال يلي أمركم، ولا نصير ناصر يمنعكم من العذاب، وفي هذا تحذير للعباد، إذ لا مانع منه.
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ {108} وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {109} وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {110} } [البقرة: 108-110] قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] الآية، قال المفسرون: إن اليهود وغيرهم من المشركين تمنوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن قائل يقول: ائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتي موسى بالتوراة، ومن قائل(1/190)
يقول، وهو عبد الله بن أبي أمية المخزومي: ائتني بكتاب من السماء فِيهِ: من رب العالمين إلى ابن أبي أمية، اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس.
ومن قائل يقول: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
فأنزل الله عز وجل: {أَمْ تُرِيدُونَ} [البقرة: 108] معناه: بل أتريدون، فهو استفهام منقطع عما قبله، {أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} [البقرة: 108] محمدًا عليه السلام من الاقتراح والتمني، {كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 108] يعني قولهم: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] .
قال الزجاج: معنى الآية: أنهم نهوا أن يسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لا خير لهم فِي السؤال عنه، والسؤال بعد قيام البراهين كفر، لذلك قال: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108] أي: قصده ووسطه.
ومعنى الضلال: الذهاب عن الاستقامة.
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا} [البقرة: 109] قال ابن عباس: نزلت فِي نفر من اليهود قالوا للمسلمين، بعد وقفة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم؟ ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم.
وقوله تعالى: حسدا أي: يحسدونكم حسدا، من عند أنفسهم أي: فِي حكمهم وتدينهم ومذهبهم، أي: هذا الحسد مذهب لهم، لم يؤمروا به، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] فِي التوراة أن قول محمد صدق، ودينه حق.
قوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] أي: عن مساوئ كلامهم وغل قلوبهم، {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] قال عطاء: يريد: إجلاء النضير وقتل قريظة، وفتح خيبر وفدك.(1/191)
وقال قتادة: يعني: أمر بالقتال فِي قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] الآية، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109] .
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110] .
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {111} بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {112} وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {113} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {114} } [البقرة: 111-114] قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] أي: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا.
وقالت النصارى: لن يدخلها إلا من كان نصرانيا.
والهود: هم اليهود، هادوا يهودون هودا، أي: تابوا من عبادة العجل، والهود: جمع هائد، مثل: حائل وحول، وفاره وفره، قال الله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] التي تمنوها على الله باطلا، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] أي: قربوا حجتكم على ما تقولون، إن كنتم صادقين فِي دعواكم.
بلى يدخل الجنة، {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] أي: يذل وجهه له فِي السجود، والمعنى: سلم وجهه له بأن(1/192)
صانه عن السجود لغيره، وهو محسن قال ابن عباس: مؤمن موحد، مصدق لما جاء به محمد عليه السلام، فله أجره الذي وعده الله له، عند ربه يعني الجنة، {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112] .
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 113] الآية، قال ابن عباس: قدم وفد نجران على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتنازعوا مع اليهود، فكذب كل واحد منهما صاحبه، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] قال الزجاج: يعني أن الفريقين يتلوان التوراة، وقد وقع بينهما هذا الاختلاف وكتابهم واحد، فدل بهذا على ضلالتهم.
ثم بين أن سبيلهم كسبيل من لا يعلم الكتاب فِي الإنكار لدين الله من مشركي العرب وغيرهم فقال: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] قال مقاتل: يعني مشركي العرب قالوا: إن محمدًا وأصحابه ليسوا على شيء من الدين.
{فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113] الآية، قال الزجاج: أي: يريهم من يدخل الجنة عيانا ومن يدخل النار عيانا.
قوله: ومن أظلم أي: وأي أحد أظلم، {مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: 114] يعني مشركي مكة، منعوا المسلمين من ذكر الله فِي المسجد الحرام، وسعى عمل، فِي خرابها لأن عمارتها بالعبادة فِيها، وكل من منع من عبادة الله فِي مسجد فقد سعى فِي خرابه، {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ} [البقرة: 114] قال ابن عباس، فِي رواية عطاء: هذا وعد من الله لنبيه والمهاجرين، يقول: أفتح لكم مكة حتى تدخلوها آمنين وتكونوا أولى بها منهم.(1/193)
لهم فِي الدنيا خزي يعني: القتل لمن أقام على الكفر، ولهم فِي الآخرة عذاب عظيم.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {115} وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ {116} بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {117} وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {118} } [البقرة: 115-118] قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية، قال ابن عباس، فِي رواية علي بن أبي طلحة الوالبي: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فلما صرفه الله إليها عيرت اليهود المؤمنين، فأنزل الله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] .
والمعنى: فأينما تولوا وجوهكم، فحذف المفعول للعلم به.
ومعنى قوله: فثم وجه الله: فهناك قبلة الله، والوجه: والجهة، والجهة: القبلة، ومثله: الوزن والزنة، والوعد والعدة، والعرب تسمي القصد الذي يتوجه إليه: وجها، قال الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد إليه الوجه والعمل
معناه: إليه القصد بالعبادة.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] أي: واسع الرحمة، واسع الشريعة بالترخيص لهم والتوسعة على عباده فِي دينهم، لا يضطرهم إلى ما يعجزون عن أدائه.
39 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ(1/194)
إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَ: وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً كُنْتُ فِيهَا، فَأَصَابَتْنَا ظُلْمَةٌ، فَلَمْ نَعْرِفِ الْقِبْلَةَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنَّا: قَدْ عَرَفْنَا الْقِبْلَةَ، هِيَ هَهُنَا قِبَلَ الشَّمَالِ فَصَلُّوا وَخُطُّوا خُطُوطًا، وَقَالَ بَعْضُنَا الْقِبْلَةُ هَهُنَا قِبَلَ الْجَنُوبِ، فَصَلُّوا، وَخُطُّوا خُطُوطًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْخُطُوطُ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَلَمَّا قَفَلْنَا مِنْ سَفَرِنَا، سَأَلْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَسَكَتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]
قوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] نزلت ردا على اليهود والنصارى والمشركين، فإنهم وصفوا الله تعالى بالولد ف {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] ، وقال المشركون: الملائكة بنات الله.
فنزه الله نفسه عن اتخاذ الولد فقال: سبحانه وفي مصاحف الشام قالوا بغير واو، لأن هذه الآية مستأنفة غير معطوفة على ما تقدم.(1/195)
وقوله: بل أي: ليس الأمر كما زعموا، له ما فِي السموات والأرض عبيدا وملكا، {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] قال مجاهد، وعطاء، والسدي: مطيعون.
والقنوت: الطاعة، والقانت: المطيع لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] ، قال ابن عباس: هذا راجع إلى أهل طاعته دون الناس أجمعين.
وهو من العموم الذي أريد به الخصوص، وهذا قول مقاتل والفراء.
وقال السدي: هذا فِي يوم القيامة، تصديقه قوله: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] .
وقال أهل المعاني: طاعة الجميع لله تعالى: تكونهم فِي الخلق عند التكوين، إذ قال: كن فكان كما أراده.
{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] البديع: الذي يبدع الأشياء، أي: يحدثها مما لم يكن، وبديع: بمعنى مبدع.
قال أبو إسحاق الزجاج: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] : منشئهما على غير مثال سابق، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له: أبدعت.
ولهذا يقال لمن خالف السنة: مبتدع.
لأنه أحدث فِي الإسلام ما لم يسبقه إليه السلف.
قوله: {وَإِذَا قَضَى أَمْرًا} [البقرة: 117] أي: قدره وأراد خلقه، فإنما يقول له أي: لذلك الأمر الذي يريد وجوده، وما قدر الله وجوده، فهو كالموجود الشاهد، فجاز أن يخاطب.(1/196)
وقال ابن الأنباري: يحتمل أن تكون اللام فِي له: لام الأجل، والتأويل: فإذا قضى أمرا فإنما يقول من أجل إرادته: كن فيكون كقوله تعالى: {سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 193] أي: من أجله، وكقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] أي: من أجل حب المال لبخيل.
وقوله: كن: المأمور بهذا الأمر لا قدرة له على دفع هذا الأمر، ولا صنع له فِيهِ، والمعنى: كن بتكويننا إياك.
وقوله: فيكون قال الفراء، والكسائي، والزجاج: رفعه من وجهين: أحدهما: العطف على يقول، ومثله {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ} [إبراهيم: 44] ، والثاني: أن يكون رفعه على الاستئناف، والمعنى: فهو يكون، لأن الكلام تم عند قوله: كن ثم قال: فيكون ما أراد الله، قال الفراء: وإنه لأحب الوجهين إلي.
وقرأ ابن عامر فيكون بنصب النون، على جواب الأمر بالفاء فِي ظاهر اللفظ.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 118] قال ابن عباس: هم اليهود.
وقال مجاهد: هم النصارى.
وقال الحسن، وقتادة: هم مشركو العرب، قالوا لمحمد عليه السلام: لا نؤمن لك حتى يعلمنا الله أنك رسوله، أو حتى تأتينا بمثل الآيات التي أتت بها الرسل، وهو قوله: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} [البقرة: 118] أي: هلا، تقول: لولا فعلت ما أمرتك.
بمعنى: هلا فعلت، وقد يقال: لو ما.
بهذا المعنى كقوله تعالى: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} [الحجر: 7] أي: هلا، وكل ما فِي القرآن لولا يفسر على هلا، غير التي فِي { [الصافات:] فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [سورة الصافات: 143] .
وقوله: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [البقرة: 118] أراد: كفار الأمم الخالية، قال الزجاج: أعلم الله أن كفرهم فِي(1/197)
التعنت بطلب الآيات على اقتراحهم ككفر الذين من قبلهم فِي قولهم لموسى: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] وما أشبهه، وفي هذا تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قوله: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] أي: أشبه بعضها بعضا فِي الكفر والقسوة، ومسألة المحال كقوله: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 30] .
قوله {قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118] يريد أن من أيقن وطلب الحق فقد أتته الآيات والبينات، نحو المسلمين ومن لم يعاند من علماء اليهود، لأن القرآن برهان شاف.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ {119} وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ {120} الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {121} يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {122} وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ {123} } [البقرة: 119-123] قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 119] قال ابن عباس: الحق: القرآن، كقوله: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] ، وكقوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5] ، وقال ابن كيسان: الحق فِي هذه الآية: الإسلام، نحو قوله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] ، والباء فِي بالحق بمعنى مع، أي: مع الحق، كقوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} [المائدة: 61] ، وقوله: بشيرا هو فعيل بمعنى فاعل، من بشر يبشر بشرا بمعنى: بشر، ونذيرا أي: منذرا، بمعنى: مخوفا محذرا، كالبديع بمعنى المبدع، قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] قال مقاتل: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن الله أنزل بأسه باليهود آمنوا» .
فأنزل الله تعالى: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] أي: لست بمسئول عنهم، وليس عليك من شأنهم عهدة ولا تبعة، فلا تحزن عليهم.(1/198)
وقرأنا مع ولا تسأل بفتح التاء وجزم اللام، على النهي للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنه سأل جبريل عن قبر أبيه وأمه، فدله عليهما، فذهب إلى القبرين فدعا لهما، فتمنى أن يعرف حال أبويه فِي الآخرة، فنزل قوله: {وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [البقرة: 119] ،(1/199)
والجحيم: النار المتلظية العظيمة، يقال: جحمت النار تجحم جحوما فهي جاحمة وجحيم.
قال الله تعالى: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] .
وقوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120] قال المفسرون: كانت اليهود والنصارى يسألون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهدنة، ويطمعونه ويرونه أنه إن هاونهم وأمهلهم اتبعوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخبر أنه لا يُرضيْهم إلا ما يستحيل وجوده، لأن اليهود لا ترضى عنه إلا بالتهود، والنصارى إلا بالتنصر، ويستحيل الجمع بينهما، وإذا استحال إرضاؤهم فهم لا يرضون أبدًا، ومعنى ملتهم: دينهم.
وقوله {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] قال ابن عباس: يريد أن الذي أنت عليه هو دين الله الذي رضيه، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 120] قال ابن عباس: صليت إلى قبلتهم.
{بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 120] بأن دين الله الإسلام، والقبلة هي الكعبة.
والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به أمته، لأنه معصوم عن اتباع هوى الكافرين {مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] .
ثم ذكر أن من كان منهم غير متعنت ولا حاسد، ولا طالب رياسة، تلا التوراة كما أنزلت، فرأى فِيها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق، فآمن به وهو قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة: 121] قال ابن مسعود: يحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرءونه كما أنزل، ولا يحرفونه عن مواضعه.
وقال مجاهد: يتبعونه حق اتباعه.
وقال ابن عباس: نزلت فِي الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وكانوا من أهل الكتاب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الضحاك: نزلت فِي مؤمني اليهود.
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله تعالى: {(1/200)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ {124} وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ {125} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {126} وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {127} رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {128} رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {129} } [البقرة: 124-129] {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] الابتلاء: الاختبار والامتحان، وابتلاء الله يعود إلى إعلامه عباده لا إلى استعلامه، لأنه يعلم ما يكون، فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم، والمعنى: أنه عامله معاملة المختبر.
وأكثر المفسرين قالوا فِي تفسير الكلمات: إنها عشر خصال عن السنة، خمس فِي الرأس، وخمس فِي الجسد، فالتي فِي الرأس: الفرق، والمضمضمة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك.
والتي فِي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء، ونتف الرفغين.
قال عطاء، عن ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم: يا خليلي تطهر.
فمضمض، فأوحى الله إليه: أن تطهر.
فاستنشق، فأوحى الله إليه: أن تطهر.
فاستاك، فأوحى الله إليه: أن تطهر.
فأخذ من شاربه، فأوحى الله إليه: أن(1/201)
تطهر.
ففرق، فأوحى الله إليه: أن تطهر.
فاستنجى، فأوحى الله إليه: أن تطهر.
فحلق عانته، فأوحى إليه: أن تطهر.
فنتف إبطيه، فأوحى الله إليه: أن تطهر.
فقلم أظفاره، فأوحى الله إليه: أن تطهر.
فأقبل بوجهه ماذا يصنع؟ فاختتن بعد عشرين ومائة سنة.
40 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ(1/202)
41 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ بِالْقَدُومِ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ
وقوله: فأتمهن أي: أداهن تامات غير ناقصات، فقال الله تعالى له: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] قال ابن عباس: أوحى الله إليه: إني جاعلك للناس إماما يقتدي بك الصالحون من بعدك.
والإمام: كل من ائتم به قوم، والنبي: إمام وقته، والخليفة: إمام رعيته، والقرآن: إمام المسلمين، على معنى أنهم ينتهون إليه فيما أمر وزجر.
قال إبراهيم، ومن ذريتي أي: ومن أولادي أيضا فاجعل أئمة يقتدى بهم، والذرية: تقع على الآباء والأبناء والرجال والنساء، قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] أراد آباءهم الذين حملوا مع نوح فِي السفينة، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران: 33] إلى قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] فدخل الآباء فِيها والأبناء.
وتكون الذرية واحدا، وهو فِي قوله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] يعني: ولدا صالحا.
قال الله تعالى لإبراهيم: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] أعلمه أن فِي ذريته الظالم، قال السدي: عهدي: نبوتي، أي: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة فِي الدين من كان ظالما من ولدك.
وقال الفراء: لا يكون للناس إمام مشرك.
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} [البقرة: 125] يعني الكعبة التي هي القبلة اليوم، {مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125] المثاب والمثابة مصدران: ثاب يثوب إذا رجع، والمراد بالمثابة ههنا: الموضع الذي يثاب إليه، قال ابن عباس: معادا ومرجعا لا يقضون منه وطرا، كلما أتوه وانصرفوا اشتاقوا إلى الرجعة إليه.
وقوله: وأمنا أراد: مأمنا.
قال ابن عباس:(1/203)
يريد: من دخله كان آمنا، فمن أحدث حدثا خارج الحرم ثم لجأ إليه أمن من أن يهاج فِيهِ، ولكن لا يئوى ولا يخالط ولا يبايع، فإذا خرج منه أقيم عليه الحد، ومن أحدث فِي الحرم أقيم عليه الحد.
وهذا مذهب أبي حنيفة: وهو أن الجاني إذا لاذ بالحرم أمن.
ومذهب الشافعي: أنه لا يأمن بالالتجاء إليه، ويستوفى منه ما وجب عليه فِي الحرم على ما روي فِي الخبر: «إن الحرم لا يعيذ عاصيا» .
وعلى هذا فمعنى قوله: وأمنا الأولى: أن يأمن فِيهِ الجاني، فإن أخيف بإقامة الحد عليه جاز، وقد قال كثير من المفسرين: من شاء آمن ومن شاء لم يؤمن، كما أنه لما جعله مثابة، من شاء ثاب، ومن شاء لم يثب.
وكان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه فِي الحرم فلا يتعرض له، وهذا شيء كانوا توارثوه من دين إسماعيل، فبقوا عليه إلى أيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاليوم من أصاب فِيهِ جريرة أقيم عليه الحد بالإجماع.
وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قراءة أهل المدينة والشام بفتح الخاء على معنى الخبر، ويؤكده أن الذي قبله والذي بعده خبر، وهو قوله: وإذ جعلنا، وعهدنا، ومن قرأ واتخذوا، بالكسر على الأمر، فحجته ما(1/204)
42 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّوْسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُنِيبٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقَنِي رَبِّي فِي ثَلاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوِ اتخَّذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، فَلَوْ أَمَرْتَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحِجَابِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ الْحِجَابِ، وَقَالَ: وَبَلَغَنِي بَعْضُ مَا أَذَيْنَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: أَزْوَاجَهُ، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِنَّ، فَجَعَلْتُ أَسْتَقْرِبُهُنَّ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، قُلْتُ: وَاللَّهِ لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ، حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى زَيْنَبَ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَمَا كَانَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ حَتَّى تَعِظَهُنَّ أَنْتَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5] الآيَةَ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فِي تَفْسِيرِهِ هَذِهِ الآيَةِ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ حُمَيْدٍ، قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] : هُوَ الصَّلاةُ عِنْدَ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، أُمِرُوا بِالصَّلاةِ عِنْدَهُ، وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِمَسْحِهِ وَلا تَقْبِيلِهِ
والمقام فِي اللغة: موضع القدمين، حيث يقوم عليه الإنسان، وهو الحجر الذي فِيهِ أثر قدمي إبراهيم عليه السلام.
43 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ(1/205)
قَالَ: رَأَيْتُ الْمَقَامَ فِيهِ أَصَابِعَهُ، وَأَخْمَصَ قَدَمَيْهِ، وَالْعَقِبَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَذْهَبَهُ مَسْحُ النَّاسِ بِأَيْدِيهِمْ
44 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّعْبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَشَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ»
45 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا رَجَاءُ بْنُ صُبَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُسَافِعَ بْنَ شَيْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَشْهَدُ بِاللَّهِ، أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «(1/206)
الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْلا أَنَّ نُورَهُمَا طُمِسَ لأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»
46 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْتَرَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ فِي الأَرْضِ مِنَ الْجَنَّةِ إِلا الرُّكْنُ الأَسْوَدُ وَالْمَقَامُ، فَإِنَّهُمَا جَوْهَرَتَانِ مِنْ جَوَاهِرِ الْجَنَّةِ وَلَوْلا مَا مَسَّهُمَا أَهْلُ الشِّرْكِ: مَا مَسَّهُمَا ذُو عَاهَةٍ إِلا شَفَاهُ اللَّهُ
وقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 125] أي: أمرناهما وأوحينا إليهما، {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] قال سعيد بن جبير، وعبيد بن عمير، وعطاء، ومقاتل: من الأوثان والريب.
قال الكلبي: إن الله تعالى عهد إلى إبراهيم إذ بنى الكعبة: أن طهره من الأوثان، فلا ينصب حوله(1/207)
وثن.
وقال مجاهد: طهرا بيتي: من الشرك.
وقوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] قال الكلبي: أما الطائفون: فمن اعتراه من بلد غيره، والعاكفون: فأهل البلد، والركع السجود: فأهل الصلاة.
وقال عطاء: إذا كان طائفا فهو من الطائفين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود.
47 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ، إِلا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلا يَنْطِقُ إِلا بِخَيْرٍ»
48 - وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ الْعَابِدِيُّ،(1/208)
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْفَيْضِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ رَحْمَةٍ تَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ، وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ»
وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] كل موضع من الأرض عامر أو غامر، مسكون أو خال: بلد، والقطعة منه: بلدة، والجمع: بلاد وبلدان.
قال ابن عباس: يريد: حراما محرما لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، والحكم فِي هذا أن صيد مكة لا ينفر، ولا يتعرض له بنوع أذى، ومن قتل صيد مكة فعليه جزاؤه، ولا يجوز قطع أشجار الحرم على جهة الإضرار بها.
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى حبس الفيل عن مكة، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كان بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» .(1/209)
والعرب تقول: آمن من حمام مكة.
يضرب المثل بها فِي الأمن لأنها لا تهاج، قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] يعني أنواع حمل الأشجار من أي نوع كان، فاستجاب الله دعاء إبراهيم فِي المسألتين جميعا، فقال فِي موضع آخر: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ، وذكر المفسرون أن الله تعالى بعث جبريل إلى الشام حتى اقتلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة، فسميت الطائف، ثم أنزلها تهامة، ومنها يجبى إلى مكة الثمرات.
وقوله: {مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 126] : من: بدل من أهله، وهو بدل البعض من الكل، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ، وهذا كما تقول: أخذت المال ثلثيه، ورأيت القوم ناسا منهم.
وإنما خص إبراهيم عليه السلام بطلب الرزق بطلب للمؤمنين، لأن الله تعالى أدبه بقوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] ، فتوهم أنه كما لا يعطيهم النبوة إلا إذا كانوا مؤمنين، كذلك لا يرزق أهل مكة إلا إذا كانوا مؤمنين، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا} [البقرة: 126] فسأرزقه إلى منتهى أجله.
وقراءة العامة بالتشديد، من التفعيل، وعليه التنزيل كقوله: {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] ، {كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص: 61] ، {وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98] .
وقرأ ابن عامر بالتخفيف من الإمتاع، وأفعل قد يكون بمعنى فعل فِي كثير من المواضع، نحو: فرحته وأفرحته، ونزلته وأنزلته.
ومعنى قليلا: أي زمانا قليلا، يعني مدة عمره، وإنما وصف بالقلة من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناه، وإن طال.
وقوله تعالى: ثم أضطره أي: ألجئه فِي الآخرة، {إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 126] بئس المرجع عذاب النار.
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة: 127] : القواعد: أصول الأساس، الواحدة: قاعدة.
قال الزجاج: وكل قاعدة فهي أصل للتي فوقها، ومنه يقال لخشبات أسافل الهودج: القواعد.
لأنها كالأساس له.(1/210)
قال ابن عباس: يعني أصل البيت، قال: وجاء إبراهيم إلى ابنه إسماعيل فقال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر.
فقال: فأطع ما أمرك ربك.
قال: فتعينني؟ قال: وأعينك عليه.
قال: إن الله أمرني أن أبني له بيتا ههنا.
فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت.
{وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] أي: ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127] كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] المعنى: يقولون: أخرجوا أنفسكم، ومثله: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {23} سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23-24] ، وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] يريد: السميع لدعائنا، العليم بما فِي قلوبنا.
وقوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] أي: مطيعين مستسلمين منقادين لحكمك، والمسلم: المستسلم لأمر الله.
وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] كل قوم نسبوا إلى نبي فأضيفوا إليه فهم أمته، وكل جيل من الناس أمة على حدة.
قال ابن الأنباري: والأمة أيضا: تُبَّاعُ الأنبياء.
قال ابن عباس: يريد أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المهاجرين، والأنصار، والتابعين لهم بإحسان.
وإنما خصا بالدعوة بعض الذرية لأن الله تعالى أعلمهما أن فِي ذريتهما من لا ينال العهد فِي قوله: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] .
وقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] قال الزجاج: الأجود كسر الراء لأن الأصل: أرئنا، فالكسرة فِي الراء هي كسرة همزة ألقيت، فطرحت حركتها على الراء، فالكسرة دليل الهمزة، وحذفها قبيح، وهو جائز على بعد، لأن(1/211)
الكسرة والفتحة تحذفان استثقالا لقولهم فِي فخد فخذ، وفي عضد عضد.
والمعنى: عرفنا متعبداتنا والمواضع التي يتعلق بها النسك لنفعله ونقضي نسكنا فِيها، نحو المواقيت التي يحرم منها، والموضع الذي نقف فِيهِ بعرفة، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار.
وكل متعبد فهو منسك ومنسك، ومن هذا قيل للعابد: ناسك.
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ} [البقرة: 129] قال ابن عباس: يريد: ولدي، والكناية تعود إلى الذرية، أو إلى الأمة فِي قوله: {أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128] ، وكلاهما ولد إبراهيم، وهم العرب.
وقوله: رسولا منهم قال ابن عباس: يريد: محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستجاب الله له دعاءه، وبعث فيهم رسولا من أنفسهم، محمدا سيد الأنبياء، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129] وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 129] قال: يريد: القرآن الذي أنزل عليه، وما فِيهِ من الفرائض والأحكام والسنن وشرائع النبيين، وقال مجاهد: الحكمة: فهم القرآن.
وقال ابن دريد: كل كلمة وعظتك، أو زجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح فهي حكم، ومنه قوله عليه السلام: «إن من الشعر حكمة» .
وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 129] قال ابن عباس: ويرشدهم إلى أفضل عبادتك.
وقال ابن جريج: يطهرهم من الشرك ويخلصهم منه.
وقال ابن كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا للأنبياء بالبلاغ.(1/212)
قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129] قال الزجاج: العزيز فِي صفات الله: الممتنع، فلا يغلبه شيء.
وكذا قول المفضل، قال: العزيز: الممتنع الذي لا تناله الأيدي.
وعزة الله تعالى: امتناعه على من أراده وعلوه من أن تناله يد.
وقال ابن عباس: العزيز: الذي لا يوجد مثله.
قال الفراء: يقال عز يعز، بالكسر، إذا قل حتى لا يكاد يوجد غيره عزة فهو عزيز.
وقال الكسائي، وابن الأنباري: يقال: العزيز: القوي الغالب.
تقول العرب: عز فلان فلانا يعزه عزا، إذا غلبه.
ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] ، ويقال: من عزيز.
فمعنى العزيز: الغالب القوي الذي لا يعجزه شيء.
وذكرنا معنى الحكيم فيما تقدم.
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ {130} إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {131} وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {132} } [البقرة: 130-132] قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 130] الآية، قال الزجاج: معنى من: التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام.
والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم، {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] قال الأخفش: يعني: سفه فِي نفسه، فحذف حرف الجر كما يحذف فِي سائر المواضع، كقوله تعالى: {أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [البقرة: 233] والمعنى: لأولادكم، ومثله: {(1/213)
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] أي: عليها.
وقال الزجاج: معنى {سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] : جهل نفسه، فوضع سفه موضع جهل.
وبهذا قال ابن كيسان، فقال: لأن من عبد حجرا أو قمرا أو شمسا أو صنما فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها، ولم يعلم ما يحق لله عليه.
والعرب تضع سفه فِي موضع جهل، ومنه الحديث: «الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس» .
أي: تجهل الحق.
ويؤيد هذا القول ما روي فِي الحديث: «من عرف نفسه عرف ربه» .
فقيل فِي معناه: إنما يقع الناس فِي البدع والضلالات لجهلهم أنفسهم، وظنهم أنهم يملكون الضر والنفع دون الله عز وجل.
وحكي عن أبي بكر الوراق، أنه قال فِي معنى هذا الحديث: من عرف نفسه مخلوقة مرزوقة بلا حول ولا قوة، عرف ربه خالقا رازقا بالحول والقوة.(1/214)
وقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: كيف عرفتني؟ وكيف عرفت نفسك؟ فقال: عرفتك بالقدرة والقوة والبقاء، وعرفت نفسي بالضعف والعجز والفناء.
فقال: الآن عرفت.
فإذا كان من عرف نفسه عرف ربه كان من جهل نفسه جهل ربه، حتى يرغب عن ملة إبراهيم.
قال قتادة: رغبت عن ملة إبراهيم اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية دينا بدعة ليست لله، وتركوا ملة إبراهيم.
وقوله: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 130] أي: اخترناه للرسالة، وتأويله: أخذناه صافيا من غير شائب، {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] قال عطاء: يريد نوحا وآدم.
وقال الحسن: أي: من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب.
وقال الزجاج: يريد: من الفائزين، لأن الصالح فِي الآخرة فائز.
وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} [البقرة: 131] : إذ يتعلق بالاصطفاء، على معنى: اصطفاه إذ قال له ربه: أسلم.
أي: فِي ذلك الوقت.
قال الكلبي، عن ابن عباس: رفع إبراهيم الصخرة عن باب السرب، ثم خرج منه، فنظر إلى الكوكب والشمس والقمر كما ذكر الله عنه فِي قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام: 76] الآيات، فقال له ربه: أسلم.
أي: أخلص دينك لله بالتوحيد.
وقال عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوض أمرك إليه.
قال الكلبي: أخلصت ب «لا إله إلا الله» .(1/215)
وقال ابن عباس، فِي رواية عطاء: يريد: بقلبه ولسانه وجوارحه، فلم يعدل بالله شيئا، ورضي أن يحرق بالنار فِي رضا الله عز وجل، ولم يستعن بأحد من الملائكة.
قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة: 132] يقال: وصى يوصي توصية ووصاه.
وقرئ وأوصى، ولهما أمثلة من الكتاب، فمثال التشديد قوله: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50] ، وقوله: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت: 8] ، ومثال الإفعال قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، وقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] .
قال الزجاج: وصى: أبلغ من أوصى، لأن أوصى: جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصى: لا يكون إلا لمرات كثيرة.
وقوله: بها قال الكلبي، ومقاتل: بكلمة الإخلاص «لا إله إلا الله» ، وذلك أن إبراهيم، ومِنْ بعدِه يعقوب وصيا أولادهما بلزوم التوحيد، وقالا لهم: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة: 132] قال ابن عباس: يريد: دين الإسلام دين الحنيفية، قال إبراهيم لبنيه: لا تعدلوا بالله شيئا، وإن نشرتم بالمناشير، وقرضتم بالمقاريض، وحرقتم بالنار.
وقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] وقع النهي فِي ظاهر الكلام على الموت، وإنما نهوا فِي الحقيقة عن ترك الإسلام، لئلا يصادفهم الموت عليه.
والمعنى: الزموا الإسلام حتى إذا أدرككم الموت صادفكم عليه، وهذا كما تقول: لا أريتك ههنا.
توقع حرف النهي على الرؤية، وأنت لم تنه نفسك على الحقيقة، بل نهيت المخاطب، كأنك قلت: لا تقربن هذا الموضع، فمتى جئته لم أرك فِيهِ.
وهذا من سعة الكلام.
{أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {133} تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {134} } [البقرة: 133-134] وقوله: أم كنتم شهداء الآية، نزلت فِي اليهود حين قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألست تعلم أن يعقوب(1/216)
يوم مات أوصى بنيه باليهودية؟ فأنزل الله عز وجل قوله: أم كنتم شهداء الآية، ومعناه: بل أكنتم، كأنه ترك الكلام الأول واستفهم فقال: أكنتم شهداء؟ أي: حاضرين، أي: أحضرتم وصية يعقوب بنيه حين حضره الموت؟ {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة: 133] قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى لم يقبض نبيا حتى يخيره بين الموت والحياة، فلما خير يعقوب، قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم.
فجمع ولده، وهم اثنا عشر رجلا وهم الأسباط وجميع أولادهم، فقال لهم: قد حضرت وفاتي وأنا أريد أن أسألكم: ما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك الذي لا إله غيره، {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133] الآية، فطابت نفسه.
وقوله: وإسماعيل: أدخله فِي جملة الآباء، وكان عم يعقوب، لأن العرب تسمي العم أبا، وروي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للعباس: «هذا بقية آبائي» .
وقوله: إلها واحدا ينتصب على وجهين: أحدهما: الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك فِي حال وحدانيته.
والثاني: على البدل من قوله: إلهك.
قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ} [البقرة: 134] يعني إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه الذين قد تقدم ذكرهم، {قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 134] مضت، ومنه قوله: {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] يعني: الماضية المتقدمة، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 134] من العمل، ولكم يا معشر اليهود، ما كسبتم أي: حسابهم عليهم، وإنما تسألون عن أعمالكم لا عن أعمالهم، وهو قوله: {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] .
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {135} قُولُوا آمَنَّا(1/217)
بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {136} فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {137} صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ {138} } [البقرة: 135-138] قوله: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 135] قال ابن عباس: نزلت فِي يهود المدينة ونصارى نجران، قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كونوا على ديننا تهتدوا فلا دين إلا ذلك.
فقال الله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 135] أي: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا.
قال ابن دريد: الحنيف: العادل عن دين إلى دين، وسمي الإسلام: الحنيفية، لأنها مالت عن اليهودية والنصرانية.
وقال الأصمعي: ومن عدل عن دين اليهود والنصارى فهو حنيف عند العرب.
وقال الأخفش: الحنيف: المسلم، وكان فِي الجاهلية يقال لمن اختتن وحج البيت: حنيف.
لأن العرب لم تتمسك فِي الجاهلية بشيء من دين إبراهيم غير الختان وحج البيت، فلما جاء الإسلام عادت الحنيفية.
وقال ابن عباس: الحنيف: المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقال مجاهد: الحنيفية: اتباع إبراهيم فيما أتى به من الشريعة التي صار بها إماما للناس.
قوله تعالى: قولوا آمنا بالله الآية:
49 - أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ(1/218)
إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعَبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَهْلِ الإِسْلامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ» ، وَ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] الآيَةَ
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن العباس القرشي، فيما كتب إلي، أن العباس بن الفضل بن زكريا، أخبرهم عن أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله فِي كتابه، حتى يؤمنوا بهم، ويصدقوا بما جاءوا به، فإن الله تعالى يقول: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [البقرة: 136] الآية.
50 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُرْجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا(1/219)
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاءِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ، رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فِي الأُولَى مِنْهُمَا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 136] الآيَةَ كُلَّهَا، وَفِي الآخِرَةِ {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
قوله: والأسباط قال الزجاج: الأسباط فِي ولد إسحاق بمنزلة القبائل فِي ولد إسماعيل، فولد كل واحد من ولد يعقوب: سبط، وولد كل واحد من ولد إسماعيل: قبيلة.
وإنما سموا هؤلاء بالأسباط وهؤلاء بالقبائل، ليفصل بين ولد إسماعيل وولد إسحاق.
قال ابن الأعرابي: السبط فِي كلام العرب: خاصة الأولاد، وكان فِي الأسباط أنبياء، لذلك قال: وما أنزل إليهم.
{وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} [البقرة: 136] أي: من الآيات والكتاب، {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 136] من المعجزات والكتب، {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [البقرة: 136] أي: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، ونحن له مسلمون أي: مخلصون ديننا عن الشرك بالله تعالى.(1/220)
قال الحسن: علموا أولادكم وأهاليكم وخدمكم أسماء الأنبياء الذين ذكرهم الله فِي كتابه حتى يؤمنوا بهم ويصدقوهم بما جاءوا به.
وقالت العلماء: لا يكون الرجل مؤمنا حتى يؤمن بسائر الأنبياء السابقين وجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى على الرسل، فيجب على الإنسان أن يعلم صبيانه ونساءه أسماء الأنبياء، ويأمرهم بالإيمان بجميعهم، إذ لا يبعد أن يظنوا أنهم كلفوا الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، فيلقنوا قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة: 136] الآية.
قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] قال ابن الأنباري: المعنى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي: فإن آمنوا مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد كما زيدت فِي قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] .
وقال أبو معاذ النحوي: أراد: فإن آمنوا هم بكتابكم كما آمنتم أنتم بكتابهم، فالمثل ههنا المراد به الكتاب، وقيل: المثل: صلة، والمعنى: فإن آمنوا آمنتم به.
وقد يذكر المثل ويراد به الشبه والنظير كقول الشاعر:
يا عاذلي دعني من عذلكا ... مثلي لا يقبل من مثلكا
أي: أنا لا أقبل منك.
وكان ابن عباس يقرأ فإن آمنوا بما آمنتم به، وهذا يدل على أن مثل فِي قراءتنا صلة.
قوله: فقد اهتدوا أي: قد صاروا مسلمين، وإن تولوا أي: أعرضوا عن الإيمان بكتابكم ونبيكم، {فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} [البقرة: 137] فِي خلاف وعداوة.(1/221)
والشقاق والمشاقة: المخالفة، ومنه قوله تعالى: ومن يشاقق الرسول، ومن يشاق الله.
وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 137] وعد من الله لرسوله بكفايته أمر من عاداه من مخالفيه، قال المفسرون: ثم كفاه الله أمر اليهود بالقتل والسبي فِي قريظة، والجلاء والنفي فِي بني النضير، والجزية والذلة فِي نصارى نجران.
قوله: صبغة الله الصبغ: ما يلون به الثياب، والصبغ: المصدر، قال الحسن، وقتادة، وأبو العالية، ومجاهد، والسدي، وابن زيد، وعطية: دين الله، وإنما سمي الدين صبغة لأن المتدين يلزمه ولا يفارقه كما يلزم الصبغ الثوب.
وقال ابن عباس، فِي رواية الكلبي: صبغة الله يعني: دين الله، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] يقول: دينًا؟ وذلك أن النصارى كان إذا ولد لأحدهم ولد فأتى عليه سبعة أيام صبغوه فِي ماء لهم ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور.
مكان الختان، وذلك حين جعلوه نصرانيا، وهم صنف من النصارى، فجعل الله الختان للمسلمين تنظيفا وتطهيرا، وأمر به معارضة للنصارى.
وسمي الختان صبغة من حيث كان بدل ما فعلوه من صبغهم أولادهم، كما قال: وجزاء سيئة سيئة فسمى الثانية سيئة لما كانت فِي معارضة الأولى.
وصبغة الله نصب على الإغراء، على معنى: الزموا واتبعوا.
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ {139} أَمْ تَقُولُونَ(1/222)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {140} تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ {141} } [البقرة: 139-141] قوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ} [البقرة: 139] الآية، خاصمت يهود المدينة ونصارى نجران رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: إن أنبياء الله كانوا منا، ونبينا هو الأقدم، وكتابنا هو الأسبق، ولو كنت نبيا كنت منا.
فأنزل الله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} [البقرة: 139] أي: أتخاصموننا وتجادلوننا؟ ! وهذا استفهام معناه التوبيخ.
وقوله: فِي الله أي: فِي دين الله، {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [البقرة: 139] أي: نحن وأنتم عبيد له، ولنا أعمالنا نجازى بحسنها وسيئها، ولكم أعمالكم: وأنتم فِي أعمالكم على مثل سبيلنا، لا يؤخذ بعضنا بذنب بعض، ونحن له مخلصون موحدون.
قال ابن الأنباري: وفي الآية إضمار وهو: وأنتم غير مخلصين، فحذف اكتفاء بقوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139] كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] .
قوله: أم تقولون قرئ بالتاء والياء، فمن قرأ بالتاء فلأن ما قبله من قوله: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} [البقرة: 139] وما بعده من قوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ} [البقرة: 140] بالتاء، ومن قرأ بالياء فلأن المعنى لليهود والنصارى وهم غيب.
ومعنى الآية: كأنه قيل: بل أتقولون إن الأنبياء الذين ذكروا فِي هذه الآية من قبل أن تنزل التوراة {كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] أي: قد أخبرنا الله أن الأنبياء كان دينهم الإسلام ولا أحد أعلم منه.
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140] توبيخ لليهود، قال ابن عباس: يريد: من أظلم ممن كتم شهادته التي أشهد عليها؟ ! يريد أن الله أشهدهم فِي التوراة والإنجيل أنه باعث فيهم محمد بن عبد الله من ذرية إبراهيم، وأخذ على ذلك مواثيقهم أن يبينوه للناس، فكتموه وكذبوا فِيهِ.
وقال مجاهد، والربيع: الشهادة فِي أمر إبراهيم والأنبياء الذين ذكرهم أنهم كانوا حنفاء مسلمين، فكتموها وقالوا: إنهم كانوا هودا أو نصارى.(1/223)
وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140] وعيد لهم، أي أنه يجازيكم على خلاف ذلك.
قوله: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة: 141] قد مضت هذه الآية، وأعيدت ههنا لأن الحجاج إذا اختلفت مواطنه حسن تكريره للتذكير.
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {142} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ {143} } [البقرة: 142-143] قوله تعالى: سيقول السفهاء الآية، نزلت فِي تحويل القبلة، قال ابن عباس: عني ب السفهاء: يهود المدينة.
والسفهاء: جمع سفيه، وهو الخفيف إلى ما لا يجوز له أن يخف فِيهِ، ما ولاهم أي: عدلهم وصرفهم، {عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] يعنون بيت المقدس.
والقبلة: الوجهة، وهي الفعلة من القابلة، والعرب تقول: ما له قبلة ولا دبرة، إذا لم يهتد لجهة أمره.
والضمير فِي قبلتهم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 142] أي: له أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] قال ابن عباس: إلى دين مستقيم، ودين الله يسمى الصراط المستقيم، لأنه يؤدي إلى الجنة كما يؤدي الطريق المستقيم إلى المطلوب.
قوله تعالى: وكذلك أي: وكما اخترنا إبراهيم وأولاده وأنعمنا عليهم بالحنيفية المستقيمة كذلك {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أي: عدلا خيارا.
قال أهل المعاني: لما صار ما بين الغلو والتقصير خيرا منهما، صار الوسط والأوسط عبارة عن كل ما هو خير،(1/224)
قال الله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] قيل فِي تفسيره: خيرهم وأعدلهم.
قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير هذا الدين النمط الأوسط» .
وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسط لأنهم لم يغلوا غلو النصارى، ولا قصروا تقصير اليهود فِي حقوق أنبيائهم بالقتل والصلب.
قوله: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] قال ابن عباس، فِي رواية عطاء: يريد: على جميع الأمم، وذلك أن الله تعالى إذا جمع الأولين والآخرين أتي بالناس أمة بعد أمة، فيؤتى بأمة نوح فيسألهم عما أرسل إليهم فينكرون أن نوحا بلغهم ما أرسل به إليهم، فيدعى بأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقولون: نشهد أنه قد بلغ رسالتك فكذبوه وعصوك.
فتقول أمة نوح: هؤلاء كانوا بعدنا، فكيف يشهدون علينا؟ ! فيقولون: ربنا أرسلت إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه، فكان فيما أنزلت عليه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] إلى قوله: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] .
وقوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] أي: على صدقكم، فهو من باب حذف المضاف، وذلك أن محمدا عليه السلام يسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم.
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما معنى {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ؟ قال: أمة محمد عليه السلام شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين حين جاءه الهدى والإيمان.
{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] يشهد على أنهم آمنوا بالحق حين جاءهم وقبلوه وصدقوا به.(1/225)
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي: وما جعلنا تحويل القبلة التي كنت عليها، فهو من باب حذف المضاف، ويحتمل أن يكون المفعول الثاني للجعل محذوفا، على تقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة، فحذف للعلم به.
وقوله: {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] أي: لنعلم العلم الذي يستحق العامل به الثوابَ والعقابَ، وهو علم بالشيء بعد وجوده، والله تعالى يعلم الكائنات ولكن لا يعلمها موجودة إلا إذا وجدت، فكذلك العلم الذي يوجب الثواب والعقاب.
وابن عباس يفسر لنعلم ههنا: لنرى، وهذا راجع إلى ما ذكرنا، لأنه إنما يراه إذا علمه موجودا.
وكان تحويل القبلة إلى الكعبة ابتلاء من الله تعالى لعباده، وذلك أن الله تعالى لما وجه نبيه إلى الكعبة قال فِي ذلك قائلون من الناس، فقال بعضهم: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.
وقال آخرون: قد اشتاق الرجل إلى مولد آبائه.
وقال ابن عباس فِي قوله: {مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] : يعني: أهل اليقين من أهل الشك والريبة، ومن يوافق الرسول فِي التوجه إلى الكعبة ممن يرتد عن الدين فيرجع إلى ما كان عليه.
والانقلاب على العقب: عبارة عن الانصراف إلى حيث أقبل منه.
وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143] : أي: وقد كانت التولية إلى الكعبة لثقيلة، {إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] أي: هداهم للحق، وهم الذين عصمهم الله حتى صدقوا الرسول فِي التحول إلى الكعبة.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]
51 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ النَّسَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:(1/226)
لَمَّا وُجِّهَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَيْفَ بِالَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]
وقال الكلبي، عن ابن عباس: كان رجال من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم: أسعد بن زرارة أبو أمامة، والبراء بن معرور أحد بني سلمة، وأناس آخرون، فقامت عشائرهم فقالوا: يا رسول الله، توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله إلى قبلة إبراهيم فكيف بإخواننا؟ فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] .
يعني: ليبطل صلاتكم قبل بيت المقدس، يعني به الأموات أنه قد تقبل منهم.
والمفسرون يجعلون الإيمان ههنا بمعنى الصلاة، ويمكن أن يحمل الإيمان ههنا على ما هو عليه من معنى التصديق فيكون معنى الآية {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني: تصديقكم بأمر تلك القبلة.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] الرأفة أشد من الرحمة وأبلغ، يقال: رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورأفة، ورؤفت به أرؤف به.
وفي الرءوف قراءتان: إحداهما على وزن فعول، والثانية على وزن فعل، وفعول أكثر فِي كلامهم من(1/227)
فعل، ألا ترى أن باب صبور وشكور أكثر من باب حذر ويقظ؟ وإذا كان أكثر فِي كلامهم كان أولى؟ يؤكد هذا أن صفات الله قد جاءت على هذا الوزن نحو: غفور وشكور، ولم يأت شيء منها على وزن فعل.
ومن قرأ على وزن فعل فقد قيل أنه غالب لغة أهل الحجاز، ومنه قول الوليد بن عقبة:
وشر الطالبين فلا تكنه ... يقاتل عمه الرءوف الرحيما
وكثر ذلك حتى قاله غيرهم، قال جرير:
ترى للمسلمين عليك حقا ... كفعل الوالد الرءوف الرحيم
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ {144} وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ {145} } [البقرة: 144-145] قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] :
52 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ(1/228)
الرِّفَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: " صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَوَى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَنَزَّلَ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] الآيَةَ.
فَأَمَرَهُ أَنْ يُوَلِّيَ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَمَرَّ عَلَيْنَا رَجُلٌ، وَنَحْنُ نُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَوَّلَ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَتَوَجَّهْنَا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَقَدْ صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ زُهَيْرٍ كِلاهُمَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
قال المفسرون: كانت الكعبة أحب القبلتين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، ولأنه كره موافقة اليهود، فقال لجبريل: «وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها» .
فقال جبريل: إنما أنا عبد مثلك، وأنت كريم على ربك، فادع ربك وسله.
ثم ارتفع جبريل، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديم النظر إلى السماء، رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأل ربه، فأنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144] أي: فِي النظر إلى السماء، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] أي: لنصيرنك تستقبل بوجهك قبلة تحبها وتهواها، {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 144] أي: أقبل وحول وجهك، {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] قصده ونحوه وتلقاءه، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ} [البقرة: 144] فِي بر أو بحر، {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] يعني: عند الصلاة.(1/229)
ولما حولت القبلة قالت اليهود: يا محمد، ما أمرت بهذا، وإنما هو شيء من عندك تبتدعه من تلقاء نفسك.
فأنزل الله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144] أي: إن اليهود عالمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم وأنه الحق.
{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144] قال ابن عباس: يريد أنكم يا معشر المؤمنين تطلبون مرضاتي، وما أنا بغافل عن ثوابكم وجزائكم، وأن اليهود يطلبون سخطي، وما أنا بغافل عن خزيهم فِي الدنيا والآخرة.
قوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] الآية، قال أهل التفسير: إن اليهود والنصارى طلبوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآيات، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأيأس نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إيمانهم، وذلك أنهم علموا صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما كانوا يرونه فِي كتابهم من صفته ونعته، ولكنهم جحدوا مع تحقق علمهم، وما تغني الآيات والنذر عند من يجحد ما يعرف، لذلك قال: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145] .
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} [البقرة: 145] حسم بهذا أطماع اليهود فِي رجوعه عليه السلام إلى قبلتهم، وما بعضهم يعني: اليهود والنصارى {بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة: 145] أخبر أنهم وإن اتفقوا على عداوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهم مختلفون فيما بينهم، فلا اليهود تستقبل المشرق، ولا النصارى تستقبل بيت المقدس.
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ} [البقرة: 145] أي: صليت إلى قبلتهم، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [البقرة: 145] أن قبلة الله هي الكعبة، {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] أي: إنك إذا مثلهم، والخطاب له فِي الظاهر، وهو فِي المعنى لأمته.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {146} الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {147} وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {148} } [البقرة: 146-148] قوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ} [البقرة: 146] الآية، قال الكلبي: يعني عبد الله بن سلام وأصحابه،(1/230)
يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنعته وصفته ومبعثه واسمه فِي كتابهم كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان.
قال عبد الله بن سلام: لأنا كنت أشد معرفة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني بابني.
فقال له عمر بن الخطاب: وكيف ذاك يابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول الله حقا ويقينا، وأنا لا أشهد بذلك على ابني، لأني لا أدري ما أحدثت النساء.
فقال عمر: وفقك الله يابن سلام.
قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ} [البقرة: 146] يعني الذين يكتمون شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته، وهم يعلمون لأن الله تعالى بين ذلك فِي كتابهم.
ثم قال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 147] أي: هذا الحق من ربك، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147] الشاكين فيما أخبرتك من أمر القبلة وعناد من كتم النبوة، وامتناعهم من الإيمان بك.
والمرية: الشك، ومنه الامتراء والتماري، والخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد: غيره من الشاكين.
قوله: ولكل وجهة أراد: ولكلِّ أهلٍ دينٌ، والوجهة: اسم لكل متوجه إليه، وقوله: هو موليها قال الزجاج: هو ضمير لكل، والمعنى: كل هو موليها وجهه، أي: مستقبلها بوجهه.
وقرأ ابن عامر هو مولاها، أي: مصروف إليها، والمعنى: لكلِّ وليٍّ جهةٌ.
وقوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] قال ابن عباس: يقول: تنافسوا فيما رغبتكم فِيهِ من الخير، فلكلٍّ عندي ثوابُه.
وقال الزجاج: أي: فبادروا إلى القبول من الله عز وجل، وولوا وجوهكم حيث أمركم الله أن تولوا.
وقوله {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [البقرة: 148] أي: أينما تكونوا يجمعكم الله للحساب فيجزيكم بأعمالكم.
ثم أكد عليه استقبال القبلة أينما كان بآيتين، وهما: {(1/231)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {149} وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {150} } [البقرة: 149-150] قوله: حيث خرجت وإنما كُرِّرتِ الآيتان لأن هذا من مواضيع التأكيد لأجل النسخ الذي نقلوا به من جهة إلى جهة.
ومعنى {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} [البقرة: 150] أي: للمسافرة والبروز إلى البدو، {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فاستقبل الكعبة أينما كنت، وما بعد هذا مضى تفسيره، إلى قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] قال المفسرون: الناس ههنا: اليهود، كانوا يحتجون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى المؤمنين فِي صلاتهم إلى بيت المقدس، ويقولون: ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! ويقولون: يخالفنا محمد فِي ديننا ويتبع قبلتنا!! وهذا كان حجتهم التي كانوا يحتجون بها على المؤمنين على وجه الخصومة والتمويه بها على الجهال، فلما صرفت القبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجة، ثم قال: {إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] وهم المشركون، فإنهم قالوا: قد تحير محمد فِي دينه فتوجه إلى قبلتنا، وعلم أنا أهدى سبيلا منه، ويوشك أن يرجع إلى ديننا.
فهؤلاء تبقى لهم الخصومة.
والحجة قد تكون بمعنى الخصومة كقوله: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] ، وقال أبو روق: حجة اليهود أنهم كانوا قد عرفوا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبعوث فِي آخر الزمان قبلته الكعبةُ، وأنه يحول إليها، فلما رأوا محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إلى(1/232)
الصخرة احتجوا بذلك، فصرفت قبلته إلى الكعبة لئلا يكون لهم عليه حجة.
{إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150] يريد: إلا الظالمين الذين يكتمون ما عرفوا من الحق، ومن أنه يحول إلى الكعبة.
وقوله: فلا تخشوهم أي: فِي انصرافكم إلى الكعبة، وفي تظاهرهم عليكم فِي المحاجة والمحاربة، واخشوني فِي تركها ومخالفتها، {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] بهدايتي إياكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام، فتتم لكم الملة الحنيفية.
قال عطاء، عن ابن عباس: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] فِي الدنيا والآخرة، أما فِي الدنيا: فأنصركم على عدوكم، وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأما فِي الآخرة ففي رحمتي وجنتي، وأزوجكم الحور العين.
ولعلكم تهتدون ولكي تهتدوا بإنعامي عليكم إلى الملة الحنيفية.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ {151} فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ {152} } [البقرة: 151-152] قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} [البقرة: 151] الآية، هذه الكاف تتعلق بما قبله، على تقدير: ولأتم نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولا، أي: أتم هذه كما أتممت تلك، وذلك أن إبراهيم عليه السلام دعا بدعوتين: إحديهما: قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} [البقرة: 128] الآية، والثانية: قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} [البقرة: 129] الآية، فالله تعالى قال: كما أجبت دعوته بابتعاث الرسول، كذلك أجيب دعوته بأن أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين.
وقوله: رسولا منكم تعرفونه بأصله ونسبه، وباقي الآية مفسر.(1/233)
قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] قال ابن عباس، وسعيد بن جبير: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي.
وروي أن عبد الملك كتب إلى سعيد بن جبير فِي مسائل، فقال فِي جوابها: وتسأل عن الذكر، الذكر: طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكر الله، ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة الكتاب، وتسأل عن قول الله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] فإن ذلك أن الله يقول: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي.
ويشهد لصحة هذا ما
53 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْقُرَشِيُّ، فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ الْفَضْلِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَجْدَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلانِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَ اللَّهُ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهَ، وَإِنْ قَلَّتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلاوَتُهُ الْقُرْآنِ، وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فَقَدْ نَسِيَ اللَّهَ وَإِنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ وَصِيَامُهُ وَتِلاوَتُهُ الْقُرْآنِ»(1/234)
54 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِحفدَةَ الْخَشَّابِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ". . . رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ. . .، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الأَعْمَشِ
وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة: 152] تقول العرب: شكرته وشكرت له، ونصحته ونصحت له.
روى سعيد المقبري، عن أبيه، عن عبد الله بن سلام: أن موسى قال لربه: يا رب ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: يا موسى لا يزال لسانك رطبا من ذكري.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {153} وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ {154} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ {156} أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157} } [البقرة: 153-157] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 153] قال مقاتل: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر(1/235)
على الفرائض، وبالصلوات الخمس فِي مواقيتها على تمحيص الذنوب.
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] قال عطاء، عن ابن عباس: يقول: إني معكم، أنصركم ولا أخذلكم.
وقال الزجاج: تأويله: أن يظهر دينهم على سائر الأديان، لأن من كان الله معه فهو الغالب.
قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} [البقرة: 154] : كان الناس يقولون لمن يقتل فِي سبيل الله: مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذتها.
فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله: بل أحياء ذكر المفسرون فِي حياة الشهداء فِي سبيل الله ما روي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أرواح الشهداء فِي أجواف طير خضر تسرح فِي ثمار الجنة وتشرب من أنهارها، وتأوي بالليل إلى قناديل من نور معلقة بالعرش» .
وقوله: ولكن لا تشعرون أي: ما هم فِيهِ من الكرامة والنعيم.
قوله: ولنبلونكم النون فِيهِ للتأكيد، واللام جواب قسم محذوف على تقدير: والله لنبلونكم، والمعنى: لنعاملنكم معاملة المبتلى، لأن الله تعالى يعلم عواقب الأمور، فلا يحتاج إلى الابتلاء ليعلم العاقبة، ولكنه يعاملهم معاملة من يبتلى، فمن صبر أثابه على صبره، ومن لم يصبر لم يستحق الثواب.
وقوله: {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ} [البقرة: 155] قال ابن عباس: يعني: خوف العدو.
{وَالْجُوعِ} [البقرة: 155] يعني: المجاعة والقحط، {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ} [البقرة: 155] يعني: الخسران والنقصان فِي المال وهلاك المواشي، {وَالأَنْفُسِ} [البقرة: 155] يعني: بالموت والقتل والمرض والشيب، {وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] يعني الجوائح، وأن لا تخرج الثمرة كما كانت تخرج، ثم ختم الآية بتبشير الصابرين ليدل على أن من صبر على هذه المصائب كان على وعد الثواب من الله تعالى فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] .
ثم نعتهم فقال: {(1/236)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [البقرة: 156] أي: نالتهم نكبة مما ذكر، ولا يقال فيما يصيب بخير: مصيبة.
{قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ} [البقرة: 156] أي: نحن وأموالنا لله، يصنع بنا ما يشاء، {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] إقرار بالفناء والهلاك.
ومعنى الرجوع إلى الله تعالى: الرجوع إلى انفراده بالحكم، إذ قد ملك فِي الدنيا الأحكام، فإذا زال حكم العباد رجع الأمر إلى الله.
55 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ أَبِي شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إِلا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ
56 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ،(1/237)
حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ الْكِنْدِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ ابْنِ سَابِطٍ، عَنْ أَبِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ»
57 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْعِمْرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الَفِقيُه، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ جَابِرٍ الْمِصِّيصِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا يَاسِينُ بْنُ مُعَاذٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَصَابَ عَبْدًا مُصِيبَةٌ إِلا بِإِحْدَى خَلَّتَيْنِ، إِمَّا بِذَنْبٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ إِلا بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ، أَوْ بِدَرَجَةٍ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُبْلِغَهُ إِيَّاهَا إِلا بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ»(1/238)
وقال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الآية عند المصيبة ما لم يعطه الأنبياء قبلهم {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ، ولو أعطيه الأنبياء لأعطيه يعقوب، إذ يقول: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] .
58 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُغَلِّسِ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ سَفِينَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ قَالَ عِنْدَ مُصِيبَتِهِ {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] اللَّهُمَّ أَجِرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا آجَرَهُ اللَّهُ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا " قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا هَلَكَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ لِي مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا، فَأَخْلَفَنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ(1/239)
أخبرنا القاضي أبو بكر الحيري، أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا العباس بن بكار، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن الشعبي: أن شريحا قال: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات، أحمد إذ لم تكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فِيهِ من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها فِي ديني.
قوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 157] ذكرنا معنى الصلاة فيما تقدم، والصلاة من الله رحمة ومغفرة، وأنشد الأزهري:
صلى على يحيى وأشياعه ... رب كريم وشفيع مطاع
قال: معناه: ترحم عليه.
وفسر ابن عباس الصلوات ههنا فقال: مغفرة من ربهم، وهذا كما يروى، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «اللهم صل على آل أبي أوفى» .
أي: ارحمهم.(1/240)
قال ابن كيسان: وجمع الصلوات لأنه عنى بها رحمة بعد رحمة، وذكر الرحمة بعد الصلوات لإشباع المعنى والاتساع فِي اللفظ، ومثله قوله تعالى: {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] ، وقال ذو الرمة:
لمياء فِي شفتيها حوة لعس ... وفي اللثاث وفي أنيابها شنب
فكرر لما اختلف اللفظ.
وقوله: وأولئك هم المهتدون قال ابن عباس: يريد: الذين اهتدوا للترجيع.
وقيل: إلى الجنة والثواب.
59 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْفَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: نِعْمَ الْعِدْلانِ وَنِعْمَ الْعِلاوَةُ {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] : نِعْمَ الْعِدْلانِ، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] نِعْمَ الْعِلاوَةُ
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] هما جبلان معروفان بمكة، و {شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] : متعبداته التي(1/241)
أشعرها الله، أي: جعلها أعلاما لنا، وهي كل ما كان من موقف أو مسعى أو منحر، {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ} [البقرة: 158] أصل الحج فِي اللغة: زيارة شيء تعظمه، قال الزجاج: أهل الحج: القصد، وكل من قصد شيئا فقد حجه.
وقوله: أو اعتمر قال الزجاج: أي: قصد.
وقال غيره: زاره.
{فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة: 158] أي: لا إثم عليه، ولا حرج ولا ذنب، {أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]
60 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانُوا يُمْسِكُونَ عَنِ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَكَانَا مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنَّا نَتَّقِي الطَّوَافَ بِهِمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] الآيَةَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَاصِمٍ
أخبرني سعيد بن العباس القرشي، أخبرنا العباس بن المفضل النضروي، أخبرنا أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، عن داود، عن الشعبي، قال: كان لأهل الجاهلية صنمان، يقال لأحدهما: يساف.
وللآخر: نائلة.
وكان يساف على الصفا، وكان نائلة على(1/242)
المروة، وكانوا إذا طافوا بين الصفا والمروة مسحوهما، فلما جاء الإسلام قالوا: إنما كان أهل الجاهلية يطوفون بينهما لمكان هذين الصنمين وليسا من شعائر الحج.
فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، فجعلهما الله من شعائر الحج.
والآية بظاهرها تدل على إباحة ما كرهوه، ولكن السنة أوجبت الطواف بينهما والسعي، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يأيها الناس كتب عليكم السعي فاسعوا» .
وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158] قال الحسن: يعني به الدين كله، والمعنى: فعل غير المفترض عليه من طواف وصلاة وزكاة ونوع من الطاعة.
وقرأ حمزة ومن يطوع بالياء وجزم العين، وتقديره: يتطوع، إلا أن التاء أدغمت فِي الطاء لمقاربتهما، وهذا حسن لأن المعنى على الاستقبال والشرط والجزاء، الأحسن فِيهمَا الاستقبال، وإن كان يجوز أن تقول: من أتاك أعطيته.
فتوقع الماضي موضع المستقبل فِي الجزاء، إلا أن اللفظ إذا كان وفق المعنى كان أحسن.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ} [البقرة: 158] أي: مجاز له بعمله، ومعنى الشاكر فِي وصف الله: المجازي على الطاعة بالثواب، عليم بنية المتطوع.(1/243)
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159} إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {160} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {161} خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {162} } [البقرة: 159-162] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159] الآية، نزلت فِي علماء اليهود، وأراد ب البينات: الرجم والحدود والأحكام، وبالهدى: أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته، {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 159] لبني إسرائيل، فِي الكتاب فِي التوراة، أولئك يعني: الذين يكتمون، {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] قال ابن عباس: كل شيء إلا الجن والإنس.
وقال قتادة: هم الملائكة والمؤمنون.
وقال عطاء: الجن والإنس.
وقال ابن مسعود: ما تلاعن اثنان من المسلمين إلا رجعت تلك اللعنة على اليهود والنصارى الذين كتموا أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفته.
قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] أي: من الكتمان.
{وَأَصْلَحُوا} [البقرة: 160] السريرة بإظهار أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَبَيَّنُوا} [البقرة: 160] نعته، فأولئك أتوب أعود، عليهم بالرحمة.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا} [البقرة: 161] إلى قوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] قال قتادة، والربيع: أراد بالناس أجمعين: المؤمنين.
وقال السدي: لا يتلاعن اثنان مؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما: لعن الله الظالم.
إلا رجعت تلك اللعنة على الكافر، لأنه ظالم، فكل واحد من الخلق يلعنه.(1/244)
خالدين فِيها: باقين فِي تلك اللعنة دائمين، {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة: 162] قال ابن عباس: لا يمهلون للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ {163} إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {164} } [البقرة: 163-164] وقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] قال ابن عباس، فِي رواية الكلبي: قالت كفار قريش: يا محمد صف وانسب لنا ربك.
فأنزل الله { [الإخلاص وهذه الآية
وقال جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس: كان للمشركين ثلاث مائة وستون صنما يعبدونها من دون الله، فبين الله سبحانه أنه إله واحد، فأنزل هذه الآية.
قال الأزهري: الواحد فِي صفة الله تعالى له معنيان: أحدهما: أنه واحد لا نظير له، وليس كمثله شيء، والعرب تقول: فلان واحد قومه وواحد الناس، إذا لم يكن له نظير.
والمعنى الثاني: أنه إله واحد ورب واحد، ليس له فِي الإلهة والربوبية شريك، لأن المشركين أشركوا معه آلهة، فكذبهم الله تعالى، فقال:] وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] .
قال أصحابنا: حقيقة الواحد فِي وصف الباري سبحانه: أنه واحد لا قسيم له فِي ذاته، ولا بعض له فِي وجوده، بخلاف الجملة التي يطلق عليها لفظ الواحد مجازا كقولهم: دار واحدة وشخص واحد.
وعبر بعض أصحابنا عن التوحيد فقال: هو نفي الشريك والقسيم والشبيه، فالله تعالى واحد فِي أفعاله، لا شريك له يشاركه فِي إثبات المصنوعات، وواحد فِي ذاته لا قسيم له، وواحد فِي صفاته لا يشبه الخلق فِيها.(1/245)
61 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] وَ {الم {1} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} } [آل عمران: 1-2]
قوله: إن فِي خلق السموات والأرض الآية، قال المفسرون: لما نزل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] قالت كفار قريش: كيف يسمع الناس إله واحد؟ وتعجبوا وقالوا: إن محمدا يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] فليأتنا بآية إن كان من الصادقين.
فأنزل الله هذه الآية، وعلمهم كيفية الاستدلال على الصانع وعلى توحيده، وردهم إلى التفكر فِي آياته، والنظر فِي مصنوعاته.
وقوله: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 164] يريد: تعاقبهما فِي الذهاب والمجيء، ومنه يقال: فلان يختلف إلى فلان، إذا كان يذهب إليه ويجيء من عنده.
فذهابه يخلف مجيئه، ومجيئه يخلف ذهابه، أي: يأتي أحدهما خلاف الآخر، أي بعده.
وكل شيء يجيء بعد شيء فهو خلفه، وبهذا فسر قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} [الفرقان: 62] قال الفراء: يذهب هذا ويجيء هذا.(1/246)
وقوله: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} [البقرة: 164] الفلك: يكون واحدا وجمعا ومذكرا ومؤنثا، قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الشعراء: 119] ، فإذا أريد به الواحد ذكره، وإذا أريد به الجمع أنث كالتي فِي هذه الآية.
والآية فِي الفلك: تسخير الله إياها حتى يجريها على وجه الماء، كما قال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32] ووقوفها فوق الماء مع ثقلها وكثرة وزنها.
قوله: {بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} [البقرة: 164] أي: بالذي ينفعهم من ركوبها والحمل فِيها للتجارات، فهي تنفع الحامل لأنه يربح، والمحمول إليه لأنه ينتفع بما حمل إليه.
وقوله: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ} [البقرة: 164] يعني: المطر، قال وهب: ثلاثة ما أظن يعلمهن إلا الله عز وجل: الرعد والبرق والغيم، ما أدري من أين هي وما هي؟ فقيل له: إن الله أنزل من الماء ماء.
قال: نعم، ولا أدري أمطر من السماء على السحاب، أم خلق فِي السحاب؟ قوله: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164] أراد بموت الأرض: جدوبتها ويبوستها، فسماها موتا مجازا، وذلك أن الأرض إذا لم يصبها مطر لم تنبت ولم تتم نباتا، فكانت من هذا الوجه كالميت، وإذا أصابها المطر أنبتت.
قوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164] البث: النشر والتفريق، ومنه قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] ، وقوله: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 4] .
قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض من جميع الخلق، من الناس وغيرهم.
قوله: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} [البقرة: 164] : تقليبها قبولا ودبورا، وشمالا وجنوبا، وتصريفها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب، ومرة حارة ومرة باردة، ولينة وعاصفة.
قال قتادة: قادر والله ربنا إن شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب ونشرا بين يدي رحمته، وإن شاء جعلها عذابا ريحا عقيما لا تلقح شيئا، إنما هي عذاب على من أرسلت إليه.(1/247)
وقال عبيد بن عمير: يبعث الله المنشرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله المثيرة فتثير سحابا، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر.
62 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هَاجَتِ الرِّيحُ عَلَى عَهْدِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَسُبُّ الرِّيحَ، فَقَالَ: لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، وَلَكِنْ قُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلا تَجْعَلْهَا عَذَابًا
63 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: أَخَذَ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ؟ فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ: فَبَلَغَنِي الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ عُمَرُ، فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتِي، حَتَّى أَدْرَكْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا»(1/248)
واختلف القراء فِي الرياح، فقرأ بعضهم بالجمع فِي مواضع، وبالتوحيد فِي مواضع، والأظهر فِي هذه الآية الجمع، لأن كل واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى فِي دلالتها على الوحدانية بتصريفها، وإذا كان كذلك فالوجه الجمع، وأما من وحد فإنه يريد الجنس، كما قالوا: أهلك الناس الدينار والدرهم.
وإذا أريد بالريح: الجنس، كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع.
وقوله: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 164] أي: المذلل، المطيع لله عز وجل فِي الهواء، لآيات أي: فِي هذه الأضياء التي ذكرها دلالات على توحيد الله وقدرته، لقوم يعقلون.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ {165} إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ {166} وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ {167} } [البقرة: 165-167] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 165] لما ذكر الله تعالى الدلالة على وحدانيته أعلم أن قوما، بعد هذه الدلالة والبيان، يتخذون الأنداد مع علمهم أنهم لا يأتون بشيء مما ذكره.
ومعنى تفسير الأنداد: قال أكثر المفسرين: يريد بالأنداد: الأصنام المعبودة من دون الله.
وقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165] أي: يحبون الأصنام كحب المؤمنين الله تعالى.
ومعنى حب المؤمنين الله: حب طاعته والانقياد لأمره ليس معنى يتعلق بذات القديم سبحانه.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] أي: أثبت وأدوم، وذلك أن المشركين كانوا يعبدون صنما، فإذا رأوا شيئا أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن.
وقال قتادة: إن الكافر يعرض عن معبوده وقت البلاء، والمؤمن لا يعرض عن الله فِي السراء والضراء والشدة والرخاء.(1/249)
64 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَكِيمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً، وَأَنَا أَقُولُ أُخْرَى، قَالَ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَجْعَلُ للَّهِ تَعَالَى نِدًّا دَخَلَ النَّارَ " وَأَنَا أَقُولُ: مَنْ مَاتَ وَهُوَ لا يَجْعَلُ للَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ
قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [البقرة: 165] يعني: الذين أشركوا بالله، {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [البقرة: 165] يعني: فِي الآخرة حين يعاينون جهنم، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البقرة: 165] تقدير الآية: ولو يرون أن القوة لله جميعا، والمعنى: ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته، وجواب لو محذوف، وتقديره: لعلموا مضرة اتخاذ الأنداد.
وكثير فِي التنزيل حذف جواب لو، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31] ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] ، وقرأ نافع وابن عامر ولو ترى بالتاء على مخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والمعنى: لو تراهم إذ يرون العذاب رأوا أن القوة لله، أي أنهم شاهدوا من قدرته ما تيقنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم لذلك أو شكهم فِيهِ.
والاختيار كسر إن مع المخاطبة، لأن الرؤية واقعة على الذين ظلموا، فكان وجه الكلام استئناف إن، وجواب لو تقديره ههنا: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لعجبت، أو لرأيت أمرا عظيما، ثم تستأنف إن القوة.
وقرأ ابن عامر يرون بضم الياء، وحجته قوله: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} [البقرة: 167] .(1/250)
قوله: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ} [البقرة: 166] العامل فِي إذ معنى شديد من قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ {165} إِذْ تَبَرَّأَ} [البقرة: 165-166] كأنه قيل وقت تبرؤ الذين ابتعدوا، يعني: المتبوعين فِي الشرك والشر، {مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 166] يعني: السلفة والأتباع، ورأوا العذاب عاينوا جهنم.
وقوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: 166] الباء ههنا بمعنى عن، كقوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59] أي: عنه.
والأسباب معناها فِي اللغة: الحبال، ثم يقال لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب.
ويقال للطريق: سبب.
لأنه بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، قال الله تعالى: فأتبع سببا أي: طريقا وأسباب السموات: أبوابها، لأن الوصول إليها يكون بدخولها، والمودة بين القوم تسمى: سببا، لأنهم بها يتواصلون، ومنه قول لبيد:
بل ما تذكر من نوار وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها
قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني: أسباب المودة والوصلات التي كانت بينهم فِي الدنيا تقطعت، وصارت مخالتهم عداوة.
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة: 167] وهم الأتباع، {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} [البقرة: 167] أي: رجع إلى الدنيا، {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} [البقرة: 167] وهو جواب التمني بالفاء.
قال الكسائي: تأويله: لو أن لنا أن نكر فنتبرأ منهم فِي الدنيا لو رجعنا إليها، كما تبرءوا هم، منا اليوم.(1/251)
وقوله: كذلك أي: كتبرؤ بعضهم من بعض، {يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 167] فِي الآخرة، قال الربيع: يريد: أعمالهم القبيحة التي سلفت منهم فِي الدنيا، حسرات عليهم فِي الآخرة، لأنهم إذا رأوا حسن مجازاة الله المؤمنين بأعمالهم الحسنة تحسروا على أن لم تكن أعمالهم حسنة فيستحقوا بها من ثواب الله مثل الذي استحقه المؤمنون.
قال ابن كيسان: يعني بأعمالهم: عبادتهم الأوثان، رجاءَ أن تقربهم إلى الله تعالى، فلما عذبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسروا وندموا.
قال ابن عباس: نزلت الآية فِي الكفار الذين أخرجوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ {169} } [البقرة: 168-169] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالا طَيِّبًا} [البقرة: 168] قال ابن عباس، فِي رواية أبي صالح: نزلت فِي الذين حرموا على أنفسهم السوائب والوصائل والبحائر.
وقال فِي رواية عطاء: عنى المؤمنين خاصة.
ومعنى الحلال: المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه، يقال: حل الشيء يحل حلالا وحلا.
والأصل فِي الطيب: هو ما يستلذ به ويستطاب، ويوصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس فلا يستلذ، والحرام أيضا غير مستلذ، لأن المشرع يزجر عنه.
ولما وصف الحلال بالطيب وصف الحرام بأنه خبيث، قال الله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة: 100] ، وأراد بالحلال الطيب: ما أحل الله أكله مما حرمه المشركون على أنفسهم من الزرع والأنعام، وهو قوله عز وجل: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] الآية، وقال ابن عباس، فِي رواية عطاء: يريد: قد غنمتكم مال أعدائكم، وعلى هذا القول عني بالحلال الطيب: الغنيمة.(1/252)
وقال الزجاج: الأجود أن يكون المعنى: من حيث يطيب لكم، أي: لا تأكلوا من الوجه الذي يحرم.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] هي جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، يقال: خطوت خطوة.
مثل: حسوت حسوة، والحسوة: اسم ما تحسيت، وما كان اسما من هذا القبيل يجمع بتحريك العين نحو: غرفة وغرفات، وظلمة وظلمات، وثمرة وثمرات، وما كان نعتا جمع بسكون العين، نحو: ضخمة وضخمات، وعبلة وعبلات، والخطوة من الأسماء لا من الصفات فتجمع بتحريك العين.
ومن قرأ بتسكين العين فإنه نوى الضمة، وأسقطها لثقلها وهو يقدر ثباتها، لأن ذلك إنما يجوز فِي صورة الشعر.
ومعنى {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] لا تتبعوا سبيله، ولا تسلكوا، ولا تقفوا أثره، ولا تأتموا به، ولا تطيعوه فيما يزين لكم من تحريم حلال واستحلال حرام فِي الشرع.
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] قد أبان عداوته لكم بإبائه السجود لآدم أبيكم، وهو الذي أخرجه من الجنة.
ثم بين الله تعالى عداوته فقال: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 169] قال عطاء، عن ابن عباس: السوء: عصيان الله، والفحشاء: البخل.
وقال فِي رواية باذان: السوء من الذنوب: ما لا حد فِيهِ فِي الدنيا، والفحشاء: ما كان فِيهِ حد.
وقال السدي: أما السوء فالمعصية، وأما الفحشاء فالزنا.(1/253)
وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] من تحريم الحرث والأنعام، هذا قول ابن عباس، فِي رواية أبي صالح، وقال فِي رواية عطاء: يريد المشركين وكفار أهل الكتاب، يعني: فِي نسبتهم أشياء مما شرعوها إلى الله تعالى، كما ذكر الله عنهما فِي قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ {170} وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ {171} } [البقرة: 170-171] قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [البقرة: 170] قال الكلبي: يعني الذين حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وإذا قيل لهم: اعملوا بما أنزل الله فِي القرآن.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: نزلت فِي كفار قريش.
{قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] وجدناهم عليه من الدين، فقال الله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] يتبعونهم؟ ! وهذا جواب لو، وهو محذوف، والواو فِي أولو واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام التي هي للتوبيخ.
وقال عطاء: لا يعقلون عظمة الله ولا يهتدون إلى دينه.
وقوله: {لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} [البقرة: 170] عام ومعناه الخصوص، أي: لا يعقلون شيئا من أمر الدين.
ثم ضرب الله مثلا للكفار، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] الآية، النعيق: صوت الراعي بالغنم، يقال: نعق(1/254)
ينعق نعقا ونعيقا ونعقانا ونعاقا، إذا صاح بالغنم زجرا.
قال الأخطل:
انعق بضأنك يا جرير فإنما ... منتك نفسك فِي الخلاء ضلالا
قال الأخفش، والزجاج، وابن قتيبة: تقدير الآية: ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا فِي وعظهم ودعائهم إلى الله كمثل الراعي الذي يصيح بالغنم ويكلمها يقول: كلي واشربي وارعي.
وهي لا تفهم شيئا مما يقول لها، كذلك هؤلاء الكفار كالبهائم لا يعقلون عنك ولا عن الله شيئا.
وعلى هذا حذف أحد المثلين اكتفاءً بالثاني.
وقال ابن عباس، فِي رواية الكلبي: ومثل الكفار فِي قلة فهمهم وعقلهم كمثل الرعاة يكلمون البهم، والبهم لا تعقل عنهم شيئا، غير أنها تسمع الصوت ولا تفقه، وعلى هذا شبه الكفار بالرعاة الذين يكلمون ما {لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171] ، وهي البهائم.
وهذا قول مجاهد، قال: هذا مثل ضربه الله للكافر، يسمع ما يقال له ولا يعقل، فمثله كمثل البهيمة، تسمع النعيق ولا تفهم، ولا تعقل.
ثم وصفهم فقال: صم قال قتادة: صم عن الحق، فلا يسمعونه، بكم عن الحق، فلا ينطقون به، عمي عن الحق فلا يبصرون.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ {172} إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {173} } [البقرة: 172-173] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] قال المفسرون: هذا أمر إباحة، وأراد(1/255)
بالطيبات: الحلالات من الحرث والأنعام وما حرمه المشركون منها على أنفسهم.
65 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الدَّارِمِيُّ، إِمْلاءً، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] وَقَالَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ.
أَشْعَثُ أَغْبَرُ، مَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ فُضَيْلٍ، وَهُوَ مِنَ الأَخْبَارِ الَّتِي لَمْ يُخَّرِجْهَا الْبُخَارِيُّ
وقوله: واشكروا لله أي: إذا كانت العبادة لله واجبة عليكم بأنه إلهكم، فالشكر له واجب بأنه محسن إليكم.
ثم بين أن المحرم ما هو، فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: 173] قال الزجاج: إنما إذا جعلته كلمة واحدة كان إثباتا لما يذكر بعده،(1/256)
ونفيا لما سواه، وقوله: إنما حرم معناه: ما حرم عليكم إلا ما ذكر، وذلك لأن كلمة إن للتوكيد فِي الإثبات، وما تكون نفيا، فإذا قال القائل: إني بشر.
فالمعنى: أنا بشر على الحقيقة، وإذا قال: إنما أنا بشر.
كان المعنى: ما أنا إلا بشر، والميتة: ما فارقته الروح من غير ذكاة مما يذبح.
قوله: والدم كانت العرب تجعل الدم فِي المباعر، وتشويهَا ثم تأكلها، فحرم الله تعالى الدم.
وقد خصت السنة هذين الجنسين، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان: فالجراد والسمك، وأما الدمان: فالكبد والطحال ".
وقد قال الله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] فقيد، وأطلق فِي هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد، وقوله: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [البقرة: 173] أراد: الخنزير بجميع أجزائه، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل، {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] معنى الإهلال فِي اللغة: رفع الصوت، قال ابن أحمر:
يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر
ويقال للمحرم: مهل.
لرفعه صوته بالتلبية، وللذابح: مهل.
لرفعه الصوت بذكر ما يذبح على اسمه.
ومعنى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] : قال ابن عباس: ما ذبح للأصنام وذكر عليه غير اسم الله.
وهذا قول جميع المفسرين.(1/257)
66 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبَلَةَ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، حَدَّثَنَا مُحْرِزُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ سَبْعَةً مِنْ خَلْقِهِ، وَلَعَنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَعْنَةً تَكْفِيهِ، قَالَ: مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، مَلْعُونٌ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنَ الْبَهَائِمِ، مَلْعُونٌ مَنْ جَمَعَ امْرَأَةً وَابْنَتَهَا، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ، مَلْعُونٌ مَنِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الأَرْضِ "
وقوله: فمن اضطر أي: أحوج وألجئ، وهو افتعل من الضرورة، قال الأزهري: معناه: من ضيق عليه الأمر بالجوع.
وقرئ برفع النون وكسرها، فمن رفع فلإتباع ضمة الطاء، ومن كسر فعلى أصل حركة التقاء الساكنين.
قوله: غير باغ البغي: الظلم والخروج عن النصفة، ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] ، ولا عاد هو من العدو، وهو التعدي فِي الأمور، يقال: عدا عدوا وعدوانا، إذا ظلم.
قال مجاهد: غير قاطع لسبيل، أو مفارق للأئمة، أو خارج فِي معصية الله، فله الرخصة.
وقال سعيد بن جبير: الذي يقطع الطريق(1/258)
فلا رخصة له فِي شرب الخمر ولا أكل الميتة.
وقال ابن عباس، فِي رواية عطاء: غير باغ على المسلمين، ولا عاد عليهم.
وعلى هذا التأويل: كل من عصى بسفره لم تحل له الميتة عند الضرورة لأنه باغ، وهو مذهب الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وفيه قول آخر: غير باغ بأكله من غير اضطرار، ولا عاد يتعدى الحلال إلى الحرام، فيأكله وهو غني عنه، وهذا قول الحسن، والربيع، وابن زيد، وعلى قول هؤلاء يستبيح العاصي بسفره الرخص، وهو مذهب أهل العراق.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] أي: للمعاصي، وفيه إشارة إلى أنه إذا كان يغفر المعصية فإنه لا يأخذ بما جعل فِيهِ الرخصة، رحيم حيث رخص للمضطر فِي أكل الميتة.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {174} أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ {175} ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ {176} لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177} } [البقرة: 174-177] قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة: 174] نزلت فِي رؤساء اليهود الذين كتموا صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/259)
{وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 174] ذكرنا تفسيره فِي قوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا} [البقرة: 41] ، {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} [البقرة: 174] أي: إلا ما يئول عاقبته إلى النار، كقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ، {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174] أي: لا يكلمهم كلاما يسرهم وينفعهم، فأما التهديد والتوبيخ فقد يكون، {وَلا يُزَكِّيهِمْ} [البقرة: 174] ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم.
قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 175] مضى تفسيره.
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] المعنى: فما أصبرهم على عمل أهل النار حين تركوا الهدى وأخذوا بالضلالة! وقال الحسن، وقتادة، والربيع: ما أجرأهم على أعمال أهل النار! قال الفراء: وهذه لغة يمانية، يقول الرجل: ما أصبرك على كذا! يريد: ما أجرأك عليه.
وما على هذا القول: تعجب، كقولك: ما أحسن زيدا! ومعنى التعجب من الله: أنه يعجب المخاطبين ويدلهم على أنهم قد حلوا محل من يتعجب منهم.
وقال السدي: هذا على وجه الاستفهام، ومعناه: ما الذي صبرهم وأي شيء صبرهم على النار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ وما على هذا القول للاستفهام لا للتعجب، وأصبر بمعنى: صبر، مثل: كرم وأكرم.
وقوله: ذلك إشارة إلى قوله: ولهم عذاب أليم أي: ذلك العذاب لهم، {بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 176] يعني: التوراة، فاختلفوا فِيهِ، أي: آمنوا ببعض وكفروا ببعض، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ(1/260)
بَعِيدٍ} [البقرة: 176] لفي خلاف طويل، وذكرنا معنى الشقاق فيما سبق.
وقوله عز وجل: ليس البر قرئ نصبا ورفعا، وكلاهما حسن، لأن اسم ليس وخبرها اجتمعا فِي التعريف، فجاز أن يكون أحدهما أيها كان اسما والثاني خبرا.
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وعطاء: كان الرجل فِي ابتداء الإسلام إذا شهد الشهادتين وصلى إلى أي ناحية كان، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت الفرائض، وحددت الحدود، وصرفت القبة إلى الكعبة، أنزل الله هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر ما ذكر فِي قوله: ولكن البر من آمن بالله.
قال الزجاج: معناه: ولكن ذا البر، فحذف المضاف كقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ} [آل عمران: 163] أي: ذوو درجات.
وقال قطرب، والفراء: معناه: ولكن البر بر من آمن بالله، فحذف المضاف وهو كثير فِي الكلام، كقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] ، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] .
قوله: والكتاب قال ابن عباس: يريد: الكتب، والكتاب: اسم جنس، فيجوز وقوعه على الكثير.
{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] أي: على حب المال.
قال ابن عباس، وابن مسعود: هو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر.(1/261)
وقوله: وابن السبيل قال مجاهد: هو المنقطع من أهله يمر عليك.
وقال قتادة: هو الضيف ينزل بالرجل.
قوله: وفي الرقاب قال جميع المفسرين: يريد به: المكاتبين، ويكون التقدير: وفي ثمن الرقاب، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] أراد: فيما بينهم وبين الله، وبينهم وبين الناس، إذا وعدوا أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا وفوا، وإذا قالوا صدقوا، وإذا اؤتمنوا أدوا.
وارتفع الموفون بالعطف على محل من فِي قوله: من آمن فهو رفع لأنه خبر لكن، كأنه قال: ولكن البر من آمن بالله والموفون.
وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} [البقرة: 177] يعني: الفقر، وهو اسم من البؤس، والضراء المرض، وانتصب الصابرين على المدح، وإن كان معطوفا على مرفوع.
والعرب، إذا تطاول الكلام، اعترضت فِيهِ بالمدح أو الذم، وإن كان حقه الرفع، من ذلك قول الشاعر:
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر
فنصب النازلين، والطيبين على المدح، وإن كان صفة لاسم مرفوع.(1/262)
قال الخليل: المدح والذم ينصبان على معنى: أعني، فكأنه قال، بعد قوله وآفة الجزر: أعني النازلين بكل معترك.
قوله: وحين البأس يعني: وقت القتال فِي سبيل الله، والبأس: اسم للحرب، لما فِيها من الشدة، أولئك أي: أهل هذه الأوصاف، ومن قام بواحدة منها لم يستحق الوصف بالبر.
أخبرنا أبو بكر بن الحارث، أخبرنا أبو الشيخ الحافظ، حدثنا محمد بن الحسين الطبركي، حدثنا محمد بن مهران، حدثنا وكيع، عن علي بن صالح، عن أبي ميسرة، قال: من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] .
67 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْفَضْلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي كُرَيْبٍ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْعَنْبَرِيُّ الأَرْحَامِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا عَتَّابٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ قَالَ:(1/263)
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى أَبِي ذَرٍّ فَسَأَلَهُ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] حَتَّى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ، فَقَالَ: لَيْسَ عَنِ الْبِرِّ سَأَلْتُكَ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنِ الإِيمَانِ، فَقَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مِثْلِ الَّذِي سَأَلْتَنِي، فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِثْلَ الَّذِي قَرَأْتُ عَلَيْكَ، فَأَبَى أَنْ يَرْضَى كَمَا أَبَيْتَ أَنْ تَرْضَى، فَقَالَ: ادْنُ فَدَنَا مِنْهُ، فَقَالَ: «الْمُؤْمِنُ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً سَرَّتْهُ وَرَجَا ثَوَابَهَا، وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً سَاءَتْهُ وَخَافَ عِقَابَهَا»
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ {178} وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {179} } [البقرة: 178-179] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] : كتب ههنا بمعنى: فرض وأوجب، كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] والقصاص فعال من المقاصة، يقال: قاصصته مقاصة وقصاصا، إذا أقدته من أخيه.
وقال الليث: القصاص والتقاص فِي الجراحات والحقوق: شيء بشيء.
وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] قال المفسرون: نزلت الآية فِي حيين من العرب، لأحدهما طول على الآخر،(1/264)
فكانوا يتزوجون نساءهم بغير مهر، فقتل الأوضع منهما من الشريف قتلى، فحلف الشريف: ليقتلن الحر بالعبد، والذكر بالأنثى، وليضاعفن الجراح، فأنزل الله هذه الآية يعلم أن الحر المسلم كفء للحر المسلم، وكذلك العبد للعبد، والذكر للذكر، والأنثى للأنثى.
ولم تدل الآية على أن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقتل الذكر بالأنثى مستفاد من إجماع الأمة، لأنهما تساويا فِي الحرمة والميراث وحد الزنى والقذف وغير ذلك، فوجب أن يستويا فِي القصاص.
وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] معنى العفو ههنا: ترك الواجب من أرش جناية، أو عقوبة ذنب، أو ما استوجبه الإنسان بما ارتكبه من جناية، فصفح عنه وترك له من الواجب عليه.
وقوله: من أخيه أراد: من دم أخيه، فحذف المضاف للعلم به، وأراد بالأخ: المقتول، سماه أخا للقاتل، فدل على أن أخوة الإسلام بينهما لم تنقطع، وأن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله.
وفي قوله: شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود، لأن شيئا من الدم قد بطل بعفو البعض، والله تعالى قال: فمن عفي له من أخيه شيء والكنايتان فِي قوله: له، وأخيه ترجعاه إلى من، وهو القاتل.
وقوله: فاتباع بالمعروف أي: فعلى ولي المقتول اتباع بالمعروف فِي المطالبة بالدية، وهو ترك التشديد على القاتل فِي طلب الدية.
وقوله: وأداء إليه بإحسان وعلى القاتل تأدية المال إلى العافي بإحسان، أمرَ اللهُ تعالى الطالبَ أن يطلبَ بالمعروف، ويتبع الحق الواجب له، من غير أن يطالبه بالزيادة، أو يكلفه ما لم يوجبه الله، أو يشدد عليه، كل هذا تفسير المعروف، وأمرَ المطلوبَ منه بالإحسان فِي الأداء، وهو ترك المطل والتسويف.
وقوله: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] قال ابن عباس: يريد: حيث جعل الدية لأمتك يا محمد، قال قتادة: لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة.
قال المفسرون: إن الله تعالى كتب على أهل التوراة أن يقيدوا ولا يأخذوا الدية ولا يعفوا، وعلى أهل(1/265)
الإنجيل أن يعفوا ولا يقيدوا، ولا يأخذوا الدية، وخير هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو، فقال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] أي: هذا التخيير بين هذه الأشياء.
68 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْعُقَيْلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي مُجَاهِدٌ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] إِلَى قَوْلِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قَالَ: «الْعَفْوُ» أَنْ تَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ
{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] قال: أمر هذا أن يطلب بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان، {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 178] مما كتب على من كان قبلكم.
69 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ نَصْرٍ الْجَمَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا جَرْوَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَوْ أَكْفَرَ اللَّهُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ بِذَنْبٍ لأَكْفَرَ الَّذِينَ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] ثُمَّ قَالَ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَمَّى الْقَاتِلَ فِي أَوَّلِ الآيَةِ مُؤْمِنًا، وَفِي وَسَطِهَا أَخًا، وَلَمْ يُؤْيِسْهُ فِي آخِرِهَا مِنَ التَّخْفِيفِ وَالرَّحْمَةِ
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} [البقرة: 178] يعني: قتل بعد أخذ الدية والعفو، {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] .
70 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى(1/266)
الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَالِدٍ، وَعَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَوْجَاءِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ بِخَبَلٍ، وَالْخَبَلُ: الْجِرَاحَةُ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلاثٍ، فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، بَيْنَ أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ تَعَدَّى، فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا "
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] قال مقاتل: حياة بما ينتهي بعضكم عن دماء بعض مخافة أن يقتل.
وقال قتادة: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لأهل السفه والجُهَّلِ من الناس، وكم من رجل قد هم بداهية لولا مخالفة القصاص لوقع فِيها، ولكن الله حجز بالقصاص عبادة بعضهم عن بعض.(1/267)
وهذا قول أكثر أهل التفسير، قالوا: إن القاتل إذا قتل قصاصا أمسك عن القتل من كان يهم به مخافة أن يقتل، فكان فِي القصاص حياة للذي همَّ بالقتل وللذي هم بقتله.
وقال السدي: كانوا يقتلون بالواحد الاثنين والعشرة والمائة، فلما قصروا على الواحد كان فِي ذلك حياة.
وهذا قول ابن مسعود، قال: لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
وقوله: {يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] يعني: يا ذوي العقول، وأولي بمعنى: ذوي، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] يعني: إراقة الدماء مخافة القصاص.
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ {180} فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {181} فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {182} } [البقرة: 180-182] قوله: كتب عليكم أي: فرض وأوجب، {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [البقرة: 180] يريد: أسباب الموت ومقدماته من العلل والأمراض، {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أي: مالا، والخير: اسم جامع للمال فِي كثير من القرآن، كقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] ، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ، و {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] ، {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] أي: بالعدل الذي لا ينكر، يعني: لا يزيد عن الثلث، حقا يعني: حق ذلك عليكم حقا، أي: وجب، على المتقين المؤمنين الذين يتقون الشرك.
وكان السبب فِي نزول هذه الآية: أن أهل الجاهلية كانوا يوصون بما لهم للبعداء رياءً وسمعةً، فصرف الله تعالى بهذه الآية ما كان يصرف إلى البعداء إلى الأهل والأقرباء، فعمل بها ما كان العمل، ثم نسختها آية المواريث(1/268)
فِي سورة النساء، وكانت الوصية للوالدين والأقربين فرضا على من مات وله مال، حتى نسخ حكم الآية، ولا يجب على أحد وصية لأحد قريب ولا بعيد، وإذا أوصى فله أن يوصي لكل من يشاء من الأقارب والأباعد إلا الوارث.
71 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ: كُنْتُ تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ تَقْصُع بِجِرَّتِهَا وَلُعَابُهَا يَنُوسُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «أَلا إِنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا يَجُوزُ لِلْوَارِثِ وَصِيَّةٌ»
72 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ،(1/269)
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ وَلَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» .
رَوَاهُ مُسْلِم، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّة.
والخير فِي هذه الآية محمول على المال الكثير، قال ابن عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا، وقال طاوس: من لم يترك ثمانين دينارا لم يترك خيرا.
قوله: {فَمَنْ بَدَّلَهُ} [البقرة: 181] الكناية تعود إلى الإيصاء، لأن الوصية بمعنى الإيصاء، كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] أي: وعظ، {بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] من الميت، قال المفسرون: أي: فمن غير الوصية من الأوصياء والأولياء والشهود بعد ما سمعه من الميت، فإنما إثمه إثم التبديل، {عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: 181] أي: على من بدل الوصية، وبرئ الميت، إن الله سميع سميع ما قاله الموصي، عليم بنيته وما أراد، وعليم بما فعله الموصى.
قال الكلبي: كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول هذه الآية وإن كانت مستغرقة للمال، فأنزل الله قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} [البقرة: 182] أي: علم، والخوف يستعمل بمعنى العلم، لأن فِي الخوف طرقا من العلم، وذلك أن القائل إذا قال: أخاف أن يقع أمر كذا.
كأنه يقول: أعلم.
وإنما يخاف لعلمه بوقوعه، فاستعمل الخوف فِي العلم، ومنه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} [الأنعام: 51] ، وقوله: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] .(1/270)
قوله: {جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182] أي: ميلا، يقال: جنف يجنف جنفا، إذا مال.
وكذلك تجانف، ومنه قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] .
قال ابن عباس: يريد: خطأ من غير تعمد.
وقال السدي، وعكرمة، والربيع، وعطية: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد.
قال مجاهد: هذا حين يحضر الرجل وهو يموت، فإذا أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعط فلانا كذا.
ومعنى الآية: أن الميت إذا أخطأ فِي وصيته أو خاف فِيها متعمدا فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويصلح بعد موته بين ورثته وبين الموصى لهم، ومن ولي أو وصي أو والى أمر المسلمين، ويرد الوصية إلى العدل.
قوله: فأصلح بينهم يعني: بين الورثة والمختلفين فِي الوصية، وهم الموصى لهم.
قوله: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] لأنه متوسط للإصلاح، وليس بمبدل بإثم.
73 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِصْمَةَ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَوَضَعَ وَصِيَّتَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِمَا ضَيَّع مِنْ زَكَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ»(1/271)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {183} أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {184} شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {185} } [البقرة: 183-185] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] الآية، الصيام: مصدر من صام، كالقيام من قام، وأصله فِي اللغة: الإمساك عن الشيء والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم.
لأنه إمساك عن الكلام، قال الله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] ، وصام النهار: إذا قام قائم الظهيرة.
وصامت الريح: إذا ركدت.
وصام الفرس: إذا قام على غير إعلاف.
هذا أصله فِي اللغة.
وفي الشريعة: هو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع اقتران النية به.
وإجماع المفسرين على أن المراد بهذا الصيام: صيام شهر رمضان، وكان الفرض فِي ابتداء الإسلام هو صوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، فنسخ ذلك بصيام رمضان، قبل قتال بدر بشهرين.
وقوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أي: كما فرض على الأمم من أهل الكتابين قبلكم، أي: أنتم متعبدون بالصيام كما تعبد الذين كانوا من قبلكم.
وقوله: لعلكم تتقون قال السدي: كي تتقوا الأكل والشرب والجماع وقت وجوب الصوم.
وقال الزجاج: لتتقوا المعاصي، فإن الصيام وصلة إلى التقى، لأنه يكف الإنسان عن كثير مما تطمع إليه النفس من المعاصي.(1/272)
وقوله: أياما معدودات قال الزجاج: أياما: ظرف ل كتب، كأنه قال: كتب عليكم الصيام فِي هذه الأيام.
وقال الفراء: هي نصب على خبر ما لم يسم فاعله، وهو قوله: كتب كما تقول: أعطى عبد الله المال.
وأراد بالأيام المعدودات: أيام رمضان.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أي: فأفطر فعدة، أي: فعليه عدة ما أفطر، {مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] سوى أيام مرضه وسفره، والعدة: فعلة، من العد، وهي بمعنى المعدودة كالطحن بمعنى المطحون.
والمرض الذي يبيح الإفطار هو كل مرض كان الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة فِي علته زيادة لا يحتملها.
وحد السفر الذي يبيح الإفطار: ستة عشر فرسخا فصاعدا، والإفطار: رخصة من الله عز وجل للمسافر، فمن أفطر فبرخصة الله أخذ، ومن صام ففرضه أدى.
74 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَكَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ:(1/273)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ
75 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الذَّارِعُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَسِّنٍ حُصَيْنُ بْنُ نُسَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»
قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] أي: يطيقون الصيام، يقال: أطاق يطيق إطاقة وطاقة.
كما يقال: أطاع يطيع إطاعة وطاعة.
والطاقة والطاعة: اسمان يوضعان موضع المصدر.
وقوله: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] هذه قراءة أهل المدينة والشام، والمعنى: وعلى الذين يطيقونه فأفطروا فدية طعام.
والفدية: البدل، وقد مر ذكره، وأضيفت الفدية إلى الطعام لأنها اسم للقدر الواجب، والطعام: اسم يعم(1/274)
الفدية وغيرها، فهذا كقولك: ثوب خز وخاتم حديد.
وجمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه فأفطروا جماعةٌ، وكلُّ واحد منهم يلزمه طعامُ مسكين.
وقرأ الباقون فدية منونة طعام مسكين على واحد، جعلوا ما بعد الفدية تفسيرا لها، ووحدوا المسكين لأن المعنى: على كل واحد لكل يوم طعام مسكين، ومثل هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ، وليس جميع القاذفين يفرق فيهم جلد ثمانين، إنما على كل واحد منهم ذلك.
وقال أبو زيد: يقال: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة، وأعطانا كلنا مائة.
معناه: كسا كل واحد منا حلة، وأعطى كل واحد منا مائة.
فأما حكم الآية فقال ابن عباس والمفسرون: كان فِي ابتداء إيجاب الصوم: من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى بالطعام وهو من واحد، ثم نسخ الله تعالى ذلك بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .
وقوله: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة: 184] قال ابن عباس: زاد فِي الصدقة على الواحد، {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] أي: الصوم خير لكم من الإفطار والفدية، وهذا إنما كان خيرا لهم قبل النسخ، وبعد النسخ لا يجوز، أي يقال: الصوم خير من الإفطار والفدية.
وقوله: شهر رمضان قال الفراء: ارتفع على البدل من الصيام، كأن المعنى: كتب عليكم شهر رمضان، وقال الأخفش: ارتفع على أنه خبر ابتداء محذوف، والمعنى: هي شهر رمضان، لأن قوله: شهر رمضان تفسير للأيام المعدودات.
ورمضان لا يتصرف للتعريف وزيادة الألف والنون، مثل عثمان وسعدان، واختلفوا فِي اشتقاقه فقال قوم: هو(1/275)
مأخوذ من الرمض، وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، والاسم: الرمضاء، والأرض رمضة، وسمي هذا الشهر رمضان لأن وجوب صومه وافق شدة الحر.
وهذا القول حكاه الأصمعي، عن أبي عمرو.
ويحكى عن الخليل، أنه قال: مأخذه من الرمضى، وهو من السحاب والمطر ما كان فِي آخر القيظ وأول الخريف، وسمي هذا الشهر رمضان لأنه يغسل الأبدان من الآثام.
76 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعْبَةَ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَبِيبٍ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَرْوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَهْرُ رَمَضَانَ سَيِّدُ الشُّهُورِ، وَأَعْظَمُهَا حُرْمَةً ذُو الْحِجَّةِ»
77 - وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ حَمْزَةَ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفٌ أَبُو الرَّبِيعِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا حَضَرَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَ: "(1/276)
سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا تَسْتَقْبِلُونَ وَمَاذَا يَسْتَقْبِلُكُمْ؟ ، قَالَهَا ثَلاثًا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَحْيٌ نَزَلَ، أَوْ عَدُوٌّ حَضَرَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ لِكُلِّ أَهْلِ هَذِهِ الْقِبْلَةِ "
78 - وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَوَّا، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ، فَقَالَ: " يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِه تَطَوُّعًا، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةِ وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ وَشَهْرٌ يُزَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ لَهُ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِ، وَعِتْقُ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ.
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفْطِرُ الصَّائِمَ، فَقَالَ: يُعْطِي اللَّهُ هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى مَذْقَةِ لَبَنٍ، أَوْ تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، وَمَنْ أَشْبَعَ صَائِمًا سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الْحَوْضِ شَرْبَةً لا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَوَسَطُهُ مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، فَاسْتِكْثُروا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: خَصْلَتَانِ تُرْضُونَ بِهَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَانِ لا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا.
أَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهَا رَبَّكُمْ: فَشَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَتَسْتَغْفِرُونَهُ، وَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا: فَتَسْأَلُونَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ مِنَ النَّارِ "(1/277)
79 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْدُونٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
80 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "(1/278)
أُعْطِيَتْ أُمَّتِي فِي رَمَضَانَ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ قَبْلِي، أَمَّا وَاحِدَةٌ: فَإِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ نَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ أَبَدًا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَإِنَّهُمْ يُمْسُونَ وَخُلُوفُ أَفْوَاهِهِمْ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ جَنَّتَهُ أَنِ اسْتَعِدِّي وَتَزَيَّنِي لِعِبَادِي، فَيُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ نَصَبُ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا وَيَصِيرُونَ إِلَى جَنَّتِي وَكَرَامَتِي، وَأَمَّا الْخَامِسَةُ: فَإِذَا كَانَ آخِرُ لَيْلَةٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ جَمِيعًا، فَقَالَ قَائِلٌ: أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْعُمَّالِ إِذَا فَرَغُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ وُفُّوا "
81 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ بِجُرْجَانَ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ: جَدِّي أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا يُوسُف بْنُ الْحَكَمِ بْنِ سَعِيدٍ أَبُو عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِدُبَيْسٍ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ عَمْرِو بْنِ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الأَحْمَرُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَوْمُ الصَّائِمِ عِبَادَةٌ، وَصَمْتُهُ تَسْبِيحٌ، وَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ، وَعَمَلُهُ مُضَاعَفٌ»(1/279)
82 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَقُولُ اللَّهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصِّيَامَ، فَإِنَّ الصِّيَامَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللَّهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
وقوله: {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185] :
83 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَاسِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْغُدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ وَاثِلَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ»
84 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي(1/280)
الْمُجَالِدِ، عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: قَالَ عَطِيَّةُ الأَزْرَقُ لابْنِ عَبَّاسٍ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} [البقرة: 185] و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، وَقَدْ أُنْزِلَ فِي سَائِرِ الشُّهُورِ، فَقَالَ: أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَفِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَى مَوَاقِعِ النُّجُومِ أَرْسَالا فِي الشُّهُورِ وَالأَيَّامِ
وقوله: هدى للناس أي: هاديا، يعني القرآن، وبينات جمع بينة، يقال: بان الشيء يبين بيانا فهو بين.
مثل: بيع بمعنى: بايع، والبينات: الواضحات.
قال عطاء، عن ابن عباس: {وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} [البقرة: 185] يريد: من الرشاد إلى مرضاة الله.
والفرقان يريد: فرق فِيهِ بين الحق والباطل، وبين لكم ما تأتون وما تذرون.
قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185] أي: حضر، والشهود فِي اللغة: الحضور، ومفعول شهد محذوف، لأن المعنى: فمن شهد منكم البلد أو بيته فِي الشهر، وانتصاب الشهر على الظرف.
قوله: فليصمه قال ابن عباس، وأكثر المفسرين: معناه: فليصم ما شهد منه، لأنه إن سافر فِي خلال الشهر كان له الإفطار.
وقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 185] أعاد تخيير المريض والمسافر وترخيصهما فِي الإفطار، لأن الله تعالى ذكر فِي الآية الأولى تخييرَ المقيم والمسافر والمريض، ونسخ فِي الثانية تخيير المقيم بقوله: {فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فلو اقتصر على هذا احتمل أن يعود النسخ إلى التخير للجميع، فأعاد بعد النسخ ترخيص المسافر والمريض، ليعلم أنه باق على ما(1/281)
كان.
وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] : اليسر: السهولة، يقال: تيسر الأمر، إذا سهل ولان.
والمعنى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] بالرخصة للمسافر والمريض، {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] لأنه لم يشدد ولم يضيق عليكم، وقال الشعبي: إذا اختلف عليكم أمران، فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق، لأن الله تعالى يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
85 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَطِيَّةَ الْحَضْرَمِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ سَعِيدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ مِحْجَنِ بْنِ الأَدْرَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلا فِي الْمَسْجِدِ يُطِيلُ الصَّلاةَ، فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ رَضِيَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ الْيُسْرَ، وَكَرِهَ لَهُمُ الْعُسْرَ، قَالَهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، وَإِنَّ هَذَا أَخَذَ بِالْعُسْرِ وَتَرَكَ الْيُسْرَ»
وقوله {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة: 185] يعني: عدة ما أفطرتم إذا أقمتم وبرأتم فصوموا للقضاء بعدد أيام الإفطار بالعذر.
قال الفراء: معنى الآية: ولتكملوا العدة فِي قضاء ما أفطرتم.
والواو واو استئناف، واللام من صلة فعل مضمر بعدها، والتقدير: ولتكملوا العدة شرع الرخصة، ومثله قوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75] أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.(1/282)
وقرئ ولتكملوا بالتشديد، وفعل وأفعل: يتعاقبان فِي أكثر الأحوال كما ذكرنا فِي وصى وأوصى.
وقوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] قال ابن عباس: لتعظموا الله على ما أرشدكم له من شرائع الدين، وقال كثير من العلماء: أراد به التكبير ليلة الفطر.
وكان أبو سلمة، وعروة، وسعيد بن المسيب يجهرون بالتكبير ليلة الفطر لقول الله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ، وقال زيد بن أسلم فِي هذه الآية: يعني التكبير يوم الفطر.
ولعلكم تشكرون يعني: الرخصة.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ {186} أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {187} } [البقرة: 186-187] قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي} [البقرة: 186] الآية، قال الضحاك: سأل بعض الصحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.(1/283)
وقوله: فإني قريب قال عطاء، عن ابن عباس: قريب من أوليائي وأهل طاعتي.
وقال أهل المعاني: يريد: قربة بالعلم، كما قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] يريد: بالعلم.
وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] قال السدي: ما من مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإما إن عجل له فِي الدنيا، وإما إن ادخر له فِي الآخرة، أو دفع به عنه مكروها.
ويدل على صحة هذا التفسير
86 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُسْتُمَ الدِّينَوَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، ثَلاثًا، إِلا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَبَّيْكَ عَبْدِي فَيُعَجِّلُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ، وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ "
87 - وَمَا أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، عَنْ جَعْفَرٍ، يَعْنِي: الأَحْمَرَ، عَنْ بَيَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:(1/284)
قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نَدْعُو بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ مِنْهُ مَا نَرَى إِجَابَتَهُ وَمِنْهُ مَا لا نَرَى إِجَابَتَهُ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ إِلا اسْتُجِيبَ لَهُ، أَوْ صُرِفَ عَنْهُ مِثْلَهَا سُوءًا، إِذَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: فَاللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ، ثَلاثَ مَرَّاتٍ "
قال ابن الأنباري: أجيب ههنا بمعنى: أسمع، لأنه أخبر عن قربه، وظاهر القرب يدل على السماع، لا على الإجابة، والإجابة قد تكون فِي بعض المواضع بمعنى السماع، لأنها تترتب على السماع، فسمى السماع إجابة، كما تقول: دعوت من لا يجيب.
أي: من لا يسمع قال الشاعر:
منزلة صم صداها وعفت ... أرسمها إن سئلت لم تجب
أراد: لم تسمع، فنفى الإجابة لأن نفيها يدل على نفي السماع.
وقوله: فليستجيبوا لي أي: فليجيبوني بالطاعة وتصديق الرسل، وأجاب واستجاب بمعنى واحد، وإجابة العبد لله: الطاعة.
وقوله: لعلهم يرشدون ليكونوا على رجاء من إصابة الرشد، وهو نقيض الغي.
وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] قال المفسرون: كان الجماع فِي أول فرض الصيام محرما فِي ليالي الصيام، والأكل والشرب بعد العشاء الآخرة، فأحل الله تعالى ذلك كله إلى طلوع الفجر.(1/285)
وقال الوالبي، عن ابن عباس: كان المسلمون فِي شهر رمضان إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء فِي شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
والرفث ههنا: كناية عن الجماع، قال ابن عباس: إن الله حيي يكني بما يشاء، إن الرفث واللماس والمباشرة والإفضاء: هو الجماع.
وقال الزجاج: الرفث: كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة.
وقال الأخفش: إنما عداه ب إلى لأنه بمعنى الإفضاء.
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] أصل اللباس: ما يلبسه الإنسان مما يواري جسده، ثم المرأة تسمى لباس الرجل، والرجل لباس المرأة، لانضمام جسد كل واحد منهما إلى جسد صاحبه، حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، فلما كانا يتلابسان عند الجماع سمي كل واحد منهما لباسا للآخر.
قال الربيع: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن.
والمفسرون يقولون: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن.
وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والمعنى: إنكم تلابسونهن، وتخالطونهن بالمساكنة، وهن كذلك، أي: قل ما يصبر أحد الزوجين عن الآخر، فمن فضل الله أن رخص فِي إتيانهن ليالي الصيام.
وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] يقال: خانه واختانه، إذا لم يف له.
والمعنى: علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم بالمعصية، أي: لا تؤدون الأمانة فِي الامتناع عن المباشرة، فتاب عليكم أي: عاد عليكم بالرخصة، وعفا عنكم ما فعلتم قبل هذا، فالآن باشروهن: أمر إباحة.
والمباشرة: المجامعة، لتلاصق البشرتين، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187] أي: اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد، وهذا قول أكثر المفسرين.(1/286)
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 187] أمر إباحة، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا ببياض النهار وسواد الليل.
88 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الْهَيْثَمِ الأَنْبَارِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَوَّامِ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي وَضَعْتُ تَحْتَ رَأْسِي خَيْطَيْنِ، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِي شَيْءٌ، قَالَ «إِنَّكَ لَعَرِيضُ الْوِسَادِ، إِنَّمَا ذَلِكَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، أَوِ النَّهَارُ وَاللَّيْلُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ
قال سهل بن سعد: كان الرجل إذا أراد الصوم ربط فِي رجليه خيطين: أسود وأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما، فأنزل الله عز وجل: من الفجر فعلموا أنه يعني: الليل والنهار.(1/287)
وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] :
89 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْفَرَايِينِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاصَلَ بَيْنَ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَةٍ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: قُبِلَتْ مُوَاصَلَتُكَ وَلا تَحِلُّ لأُمَّتِكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَلا صِيَامَ بَعْدَ اللَّيْلِ "
وقوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] قال المفسرون: كان الرجل يخرج من المسجد وهو معتكف فيجامع أهله ثم يعود، فنهوا عن ذلك ما داموا معتكفين، فالجماع يفسد الاعتكاف.
وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 187] أشار إلى الأحكام التي ذكرها فِي هذه الآية، وحدود الله: ما منع الله من مخالفتها، ومعنى الحد فِي اللغة: المنع، ومنه يقال للبواب: حداد.
لمنعه الناس من الدخول إلا بالإذن.
وقوله: فلا تقربوها أي: لا تأتوها، كذلك يبين الله آياته للناس أي: مثل هذا البيان الذي ذكر، لعلهم يتقون لكي يتقوا ما حرم الله ومنع منه.(1/288)
{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، قال ابن عباس: يعني: باليمين الباطلة والكاذبة يقطع الرجل بها مال أخيه المسلم.
والأكل بالباطل على وجهين: أحدهما: أن يكون على جهة الظلم، من نحو الغضب والخيانة والسرقة، والثاني: على جهة الهزء واللعب، كالذي يؤخذ فِي القمار والملاهي ونحو ذلك.
قوله: وتدلوا بها أي: لا تدلوا بأموالكم إلى الحكام أي: لا تصانعوهم بها، ولا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقا لغيركم وأنتم تعلمون أنه لا يحل لكم، ومعنى الإدلاء فِي اللغة: إرسال الدلو وإلقاؤها فِي البئر، ومنه قوله تعالى: فأدلى دلوه ثم جعل كلُّ إلقاءِ قولٍ أو فعلٍ إدلاءً.
يقال للمحتج: أدلى بحجته.
كأنه يرسلها إلى مراده إدلاء المستقي الدلو ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلان يدلي إلى الميت بقرابة أو رحم، إذا كان يمت إليه.
فمعنى {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] : تتقربون وتتوصلون بتلك الأموال إليهم ليحموا لكم، وهو قوله: {لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا} [البقرة: 188] أي: طائفة، {مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة: 188] قال ابن عباس: باليمين الكاذبة.
وقال غيره: بالباطل، يعني: بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم، وأنتم تعلمون أنكم مبطلون وأنه لا يحل لكم.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة: 189] قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] الآية، الأهلة: جمع هلال، وهو غرة القمر حين يراها الناس، سميت هلالا لأن الناس يهلون بذكر الله، ويذكرها، حين يرون، أي: يرفعون أصواتهم.
قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا، ويكثرون مسألتنا عن الأهلة.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.(1/289)
وقال قتادة: ذكر لنا أنهم سألوا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم خلقت هذه الأهلة؟ فأنزل الله تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] .
أخبر الله تعالى أن الحكمة فِي زيادة القمر ونقصانه زوال الالتباس عن أوقات الناس فِي حجهم وحل ديونهم، وعدد نسائهم، وأجور أجرائهم، ووقت صومهم وإفطارهم.
90 - حَدَّثَنَا الشَّيْخُ أَبُو مَعْمَرٍ الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، إِمْلاءً، بِجُرْجَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، حَدَّثَنَا جَدِّي: أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا حِبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ لِلنَّاسِ فَلا تُقَدِّمُوا الشَّهْرَ بِالصِّيَامِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَتِمُّوا ثَلاثِينَ» .
وَ «الْمَوَاقِيتُ» : جَمْعُ الْمِيقَاتِ، بِمَعْنَى: الْوَقْتِ، كَالْمِيعَادِ بِمَعْنَى: الْوَعْدِ
وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] قال عامة المفسرين: كان أهل الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم نقب فِي بيته نقبا من مؤخره، يخرج منه ويدخل، فأعلمهم الله أن ذلك ليس ببر، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ(1/290)
اتَّقَى} [البقرة: 189] أي: بر من اتقى مخالفة الله، وأمرهم بترك سنة الجاهلية، فقال: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]
91 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْجُمَحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، وَالْحَوْضِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَتِ الأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاءُوا لا يَدْخُلُونَ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَلَكِنْ مِنْ ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ
واختلفوا فِي البيوت وأخواتها، فقرءوا بضم أولها وكسره، فمن ضم فهو الأصل، لأن فعل يجمع على فعول، ومن كسر فلأجل موافقة الياء، فإن الكسرة أشد موافقة للياء من الضمة، ولا يستقبح ذلك، وإن لم يكن فعل، لأن الحركة إذا كانت للتقريب من الحرف لم تكره، ألا ترى أنه لم يجئ فِي الكلام عند سيبويه على فعل إلا إبل؟ وقد استعملوا هذا البناء بقصد تقريب الحركة من الحرف، نحو قولهم: ماضغ لهم، ورجل ضحك.
وقالوا فِي الفعل: شهد ولعب.
وقالوا، أيضا: شعير ورغيف وشهيد.
وليس فِي الكلام شيء على وزن فعيل.
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {190} وَاقْتُلُوهُمْ(1/291)
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ {191} فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ {193} الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {194} } [البقرة: 190-194] وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] قال الربيع وابن زيد: هذه أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه.
ولا تعتدوا أي: لا تبدءوهم ولا تفجئوهم بالقتال قبل تقديم الدعوة، {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] وقال ابن عباس: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ والكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده، فإن فعلتم ذلك فقد اعتديتم.
قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] أي: حيث وجدتموهم وأخذتموهم، يقال: ثقفنا فلانا في موضع كذا.
أي: أخذناه، قال الفراء: ثقف يثقف ثقفا وثقفا.
{وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} [البقرة: 191] يعني مكة، {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وشركهم بالله أعظم من قتلكم إياهم، {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] نهوا عن ابتدائهم بقتل أو قتال في الحرم حتى يبتدئ المشركون، {كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] أن يقتلوا حيثما وجدوا.
فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا، {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 192] يغفر ما كان في شركهم إذا أسلموا.
قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] أي: شرك، يعني: قاتلوهم حتى يسلموا، فليس يقبل من المشرك الوثني جزية، ويكون الدين الطاعة والعبادة، لله وحده، فلا يعبد دونه شيء، فإن انتهوا من الكفر، فلا عدوان أي: لا نهب ولا قتل ولا استرقاق، {إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193] الكافرين الذين وضعوا العبادة في غير موضعها، وسمى ما عليهم عدوانا لأن ما يكون منهم من الكفر عدوان، فسمى جزاء ذلك عدوانا كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] .(1/292)
وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 194] قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: إن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في مثله، قال الزجاج: معناه: قتال الشهر الحرام بقتال الشهر الحرام.
{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] قال ابن عباس: يريد: إن انتهكوا لكم حرمة فانتهكوا منهم مثل ذلك.
أعلم الله أن أمر هذه الحرمات قصاص لا يكون للمسلمين أن ينتهكوها على سبيل الاعتداء، ولكن على سبيل القصاص، كقوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] ويدل على هذا المعنى قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: ظلم فقاتل، {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: جاوزه باعتدائه وقاتلوه، فسمى الثاني اعتداء لأنه مجازاة اعتداء، واتقوا الله بطاعته واجتناب معاصيه، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] بالعون والنصرة.
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 195] كل ما أمر الله به من الخير فهو في سبيل الله وأكثر ما يستعمل في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه.
قوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] الباء في بأيديكم: زائدة، يقال لكل من أخذ في عمل: قد ألقى يديه إليه وفيه.
ومنه قول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر
يعني: الشمس إذا بدأت في المغيب.
والتهلكة: الهلاك، يقال: هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة.
ومعنى الهلاك: الضياع، وهو مصير الشيء بحيث لا يدرى أين هو، والمعنى: ولا تقربوا مما يهلككم، لأن من ألقى يده إلى الشيء فقد قرب منه.
وهذا مبالغة في الزجر، وتأكيد في النهي، وكأنه المعنى: لا تقربوا من ترك الإنفاق في سبيل الله، أي: لا تمسكوا ولا تبخلوا، وهذا نهي عن ترك النفقة في الجهاد.(1/293)
قال ابن عباس: أنفق في سبيل الله وإن لم يكن إلا سهم أو مشقص، ولا يقولن أحدكم: لا أجد شيئا.
وقال السدي: أنفق في سبيل الله ولو عقالا، ولا تقل ليس عندي شيء.
قال الزجاج: معناه: إنكم إن لم تنفقوا في سبيل الله هلكتم بالمعصية، وجائز أن يكون: هلكتم بِتَقَوِّي عدوِّكم عليكم.
وقال أبو أيوب الأنصاري: إنها نزلت فينا معشر الأنصار لما أعز الله دينه ونصر رسوله، قلنا: لو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وعلى هذا، معنى الآية: لا تتركوا الجهاد فتهلكوا، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] قال ابن عباس: أحسنوا الظن بالله، فإنه يضاعف الثواب، ويخلف لكم النفقة.
وعلى قول أبي أيوب، معنى وأحسنوا: أي: جاهدوا في سبيل الله، والمجاهد: محسن.
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {196} الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ {197} } [البقرة: 196-197] قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال ابن عباس ومجاهد: أتموهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما،(1/294)
وتأدية كل ما فيهما.
وقال علي وابن مسعود: إتمامهما: أن تحرم بهما من دويرة أهلك مؤتنفين.
والعمرة واجبة في قول علي، وابن عباس، وهو قول الشافعي في الجديد، وقال ابن عباس: والله إن العمرة لقرينة الحج في كتاب الله، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196] .
92 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّوْسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ الْحَجِّ، وَهُوَ الْحَجُّ الأَصْغَرُ
93 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ رُسْتُمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو يَحْيَى الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:(1/295)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ، لا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْت»
94 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَاوَرْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدُ بْنُ نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ»
95 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُحَمَّدَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعُمْرَتَانِ تُكَفِّرَانِ مَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةَ» .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ(1/296)
96 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَتَّابٍ سَهْلُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»
وقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] أي: حبستم ومنعتم عن إتمام الحج.
وأصل الحصر والإحصار: الحبس، يقال: من حصرك ههنا، ومن أحصرك؟ وكل من أحرم بحج أو عمرة وجب عليه الإتمام، فإن أحصره عدو أو سلطان نحر هديا لإحصاره حيث أحصر، وحل من إحرامه، وهو قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، قال ابن عباس، وقتادة: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس.
والهدي: ما يهدى إلى بيت الله، جمع هدية، هذه لغة أهل الحجاز، وتيم تقول: هدية وهدى.
مثل:(1/297)
مطية ومطى، بالتشديد، قال الفرزدق:
حلفت برب مكة والمصلى ... وأعناق الهدي مقلدات
وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أي: لا تتحللوا من إحرامكم حتى ينحر الهدي، ومحله: حيث يحل ذبحه ونحره.
وهكذا فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حين صدوا عن البيت، نحروا هديهم بالحديبية، والحديبية ليست من الحرم.
وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] المحرم إذا تأذى بهوام رأسه أو بالمرض أبيح له الحلق والمداواة، بشرط الفدية، وهو قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] وهو صيام ثلاثة أيام، يصوم حيث شاء، أو صدقة وهو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مدان، أو نسك جمع نسيكة وهي الذبيحة، أعلاها بدنة وأوسطها بقرة وأدناها شاة، وهذه الفدية على التخيير، أيها شاء فعل كما دل عليه ظاهر الآية.
97 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَصْفَهَانِيُّ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ قَالَ:(1/298)
قَعَدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] قَالَ: حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: " مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ الْجَهْدَ بَلَغَ مِنْكَ هَذَا، أَمَا تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] قَالَ: صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ " فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَلَكُمْ عَامَّةً، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ، وَآدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، عَنْ شُعْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ
وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} [البقرة: 196] قال ابن عباس: أي: من العدو، أو كان حج ليس فيه عدو، {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] هو أن يقدم مكة محرما فيعتمر في أشهر الحج، ثم يقيم حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، ويكون مستمتعا بمحظورات الإحرام، لأنه حل بالعمرة إلى حرامه بالحج، فإذا فعل ذلك وجب عليه دم وهو قوله: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فإن كان معسرا فعليه صوم عشرة أيام وهو قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] أي: في أشهر الحج، يصوم ثلاثة أيام قبل يوم النحر، إن شاء متفرقة، وإن شاء متتابعة، وقوله: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] له أن يصومها بعد الفراغ من الحج أين شاء ومتى شاء، {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] يعني: الثلاثة والسبعة، وهذا ذكرى على طريق التأكيد، كقول الفرزدق:
ثلاث واثنتان فهن خمس
وقوله: ذَلِكَ أي: ذلك الفرض الذي أمرنا به من الهدي والصيام، {لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ(1/299)
الْحَرَامِ} [البقرة: 196] أي: لمن كان من الغرباء من غير أهل مكة.
قال الفراء: واللام في قوله: لمن معناها: على، وذكر الله تعالى حضور الأهل والمراد به حضور المحرم، ولكن الغالب أن يسكن الرجل حيث أهله ساكنون، وكل من كانت داره على مسافة لا يقصر إليها الصلاة فهو من حاضري المسجد الحرام لأنه يقرب من مكة.
وقوله: واتقوا الله قال ابن عباس: يريد: فيما افترضه عليكم، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 196] لمن تهاون بحدوده.
وقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] تقدير الآية: أشهر الحج أشهر معلومات، وهي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
قال ابن عباس: جعلهن الله سبحانه للحج، فلا يصلح لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج، فإن أحرم في غير أشهر الحج انعقد إحرامه عمرة.
وسمى الله تعالى شهرين وبعض الثالث أشهرا، لأن العرب توقع لفظ الجمع على الاثنين، كقوله تعالى: أولئك مبرءون يعني: عائشة وصفوان، قال: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] يعني: داود وسليمان، وقال: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وقال الشاعر:
ظهراهما مثل ظهور الترسين(1/300)
وقوله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: من أوجب على نفسه الحج بالإحرام والتلبية، فلا رفث قال المفسرون: لا جماع.
ولا فسوق يعني: المعاصي كلها، {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] هو أن يجادل صاحبه ويماريه حتى يغضبه، نهي المحرم عن هذا، وذكرنا وجه انتصاب قوله: فلا رفث عند قوله: {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] .
ومن قرأ بالرفع شبه لا بليس كقول الشاعر:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
ولم يختلفوا في نصب ولا جدال وذلك أن معنى الأولين: النهي، كأنه قال: لا ترفثوا ولا تفسقوا.
ومعنى الثالث: الخبر، لأن معناه: لا جدال في أن الحج في ذي الحجة، وهذا قول مجاهد، وأبي عبيدة، قالا: معناه: ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة، إبطالا للنسيء الذي كان يفعله أهل الجاهلية، وأرادوا الفرق بين اللفظين، ليكون مخالفة ما بينهما في اللفظ كمخالفة ما بينهما في المعنى.
98 - حَدَّثَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْفَرَايِينِيُّ، إِمْلاءً فِي مَسْجِدِ عَقِيلٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ،(1/301)
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ بْنِ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ فَرَجَعَ كَانَ كَمَنْ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ
وقوله {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] وفي هذا حث على فعل الخير، وإخبار أن الله تعالى ليس بغافل عن فعلهم، فهو مجازيهم بذلك.
قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]
99 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197](1/302)
قال المفسرون: نزلت في ناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد، ويقولون: نحن متوكلون.
ثم كانوا يسألون الناس، وربما ظلموهم وغصبوهم، فأمرهم الله أن يتزودوا فقال: وتزودوا.
قال سعيد بن جبير: يعني: الكعك والسويق، {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] يعني: ما تكفون به وجوهكم عن سؤال، وأنفسكم عن الظلم، فهذا نوع تقوى.
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {199} } [البقرة: 198-199] قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] قال أبو أمامة التيمي: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه، وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا.
قال: ألستم تلبون، ألستم تطوفون، ألستم ألستم؟ قلت: بلى.
قال: إن رجلا سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما سألت عنه، فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] .
وقال ابن عباس: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا أن(1/303)
يتجروا في الحج، فسألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج، وكذلك كان يقرؤها ابن عباس.
قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] معنى الإفاضة في اللغة: دفع الشيء حتى يتفرق، ومعنى أفضتم: دفعتم بكثرة، يعني دفع بعضكم بعضا، لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضا.
وعرفات: اسم لبقعة معروفة، قال عطاء: إن جبريل كان يري إبراهيم المناسك، فيقول: عرفت عرفت.
فسميت عرفات.
وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 198] بالدعاء والتلبية، {عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] يعني المزدلفة، سميت مشعرا لأنه معلم للحج، والصلاة، والمقام، والمبيت به، والدعاء عنده من سنن الحج، {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] أي: اذكروه ذكرا مثل هدايته إياكم، أي: يكون جزاء لهدايته.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] وما كنتم من قبل هداه إلا ضالين، وقال سفيان الثوري: من قبله يعني: من قبل القرآن، ذكر الله منته عليهم بالهدى والقرآن.
وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ذكرنا معنى الإفاضة.
وقال عامة المفسرين: كانت الحمس لا يخرجون من الحرم إلى عرفات، إنما يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن أهل الله وسكان حرمه، فلا نخرج من الحرم ولسنا كسائر الناس.
فأمرهم الله أن يقفوا بعرفات كما يقف سائر الناس حتى تكون الإفاضة معهم منها.
والناس في هذه الآية: هم العرب كلها غير الحمس.(1/304)
وقال قتادة: كانت قريش وكل ابن أخت وحليف لهم لا يفيضون من الناس من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه.
فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات.
100 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ بُهْلُولٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْكِنَانَةِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ لأُمَّتِهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَأَكْثَرَ الدُّعَاءَ، فَأَجَابَهُ: قَدْ فَعَلْتُ، إِلا ظُلْمَ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَأَمَّا ذُنُوبُهُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَنْتَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ تُثِيبَ هَذَا الْمَظْلُومَ خَيْرًا مِنْ مَظْلَمَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمِ، فَلَمْ يُجِبْهُ تِلْكَ الْعَشِيَّةَ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةُ الْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ، فَأَجَابَهُ: أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: ثُمَّ تَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: تَبَسَّمْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ تَكُنْ تَتَبَسَّمُ فِيهَا، فَقَالَ: تَبَسَّمْتُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، إِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لِي فِي أُمَّتِي أَهْوَى يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَيَحْثُو التُّرَابِ عَلَى رَأْسِهِ "(1/305)
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ {200} وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201} أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {202} وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {203} } [البقرة: 200-203] قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أي: أديتم وفرغتم من عباداتكم التي أمرتم بها في الحج، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200] قال جماعة من المفسرين: كانت العرب إذا فرغوا من حجهم ذكروا مآثر آبائهم ومفاخرهم، فأمرهم الله عز وجل بذكره، فقال: فاذكروني، فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم، وأحسنت إليكم وإليهم.
وقوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] يعني: وأشد، أي: وأبلغ مما تذكرون آباءكم وأتم.
وقال السدي: كانت العرب إذا قضت مناسكها، أي: فرغت من إراقة الدماء، قاموا بمنى، فيقوم الرجل فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، عظيم القبة كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيت أبي.
ليس يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في الدنيا.
وهو قوله: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} [البقرة: 200] قال ابن عباس: هم المشركون، كانوا يسألون المال من الإبل والغنم، وكانوا يقولون: اللهم اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر.
ولا يسألون حظا في الآخرة لأنهم(1/306)
كانوا غير مؤمنين بالآخرة، وذلك قوله: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 200] أي: حظ ونصيب.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ} [البقرة: 201] الآية، هؤلاء المسلمون يسألون الحظ في الدنيا والآخرة، قال عطاء، عن ابن عباس: لما أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر على الموسم عام الفتح، وبعث عليا بفاتحة { [براءة، كان أول من قال:] رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة البقرة: 201] أبو بكر رضي الله عنه، ثم اتبعه علي والناس أجمعون.
قال الحسن: الحسنة في هذه الآية: العلم والعبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
وقال علي بن أبي طالب: الحسنة في الدنيا: المرأة الصالحة، وفي الآخرة: الجنة.
وروى أبو الدرداء: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أوتي في الدنيا قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر دنياه وآخرته فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ووقي عذاب النار» .
101 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلا قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ: هَلْ دَعَوْتَ بِشَيْءٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُبْحَانَ اللَّهِ لا طَاقَةَ لَكَ بِعَذَابِ اللَّهِ، ثَلاثًا، هَلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ؟ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ عَفَّانَ، عن حَمَّادٍ
102 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ(1/307)
إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ: اللَّهُمَّ {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]
قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 202] قال ابن عباس: يريد: ثواب ما عملوا.
وقال الزجاج: أي: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم، ههنا، الدعاء.
{وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 202] : سريع: فاعل من السرعة: يقال: سرع يسرع سرعا وسرعة فهو سريع.
والحساب: مصدر كالمحاسبة.
قال ابن عباس: يريد أنه لا حساب على هؤلاء، إنما يعطون كتبهم بأيمانهم، فيقال لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزتها عنكم، وهذه حسناتكم قد ضعفتها لكم.
وقال ابن الأنباري: معناه: سريع المجازاة للعباد على أعمالهم، وإن كان قد أمهلهم مدة من الدهر، فإن وقت الجزاء عنده قريب.
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] يعني: أيام التشريق، أيام منى ورمي الجمار، سماها معدودات لقلتها، كقوله: دراهم معدودة وهي ثلاثة أيام بعد النحر، أولها: يوم القر، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة يستقر فيه بمنى، والثاني: يوم النفر الأول، لأن الناس ينفرون في هذا اليوم من منى، والثالث: هو يوم الثالث عشر، وهو يوم النفر الثاني، وهذه الأيام الثلاثة من يوم النحر كلها أيام النحر وأيام رمي(1/308)
الجمار، وهذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة: أيام التكبير أدبار الصلوات، يبتدأ مع الصبح يوم عرفة، ويختم مع العصر يوم الثالث عشر.
والمراد بالذكر في هذه الأيام: التكبير أدبار الصلوات، وعند الجمرات يكبر عند كل حصاة.
103 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ السَّمَّاكِ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلابَةَ، حَدَّثَنَا نَايِلُ بْنُ نَجِيحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ يُقْبِلُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: عَلَى مَكَانِكُمْ، وَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَللَّهِ الْحَمْدُ، وَيُكَبِّرُ مِنْ غَدَاةِ عَرَفَةَ إِلَى صَلاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
وقوله: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] قال ابن عباس: يقول: من نفر من منى في يومين بعد النحر.
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ} [البقرة: 203] فلا حرج، يعني: من تأخر عن النفر إلى اليوم الثالث حتى نفر فيه، {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] في تأخره،(1/309)
وقوله: لمن اتقى أي: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر يكون إذا اتقيا في حجهما تضييع شيء مما حده الله وأمر به، حتى لا يظن أن من تعجل أو تأخر خرج عن الآثام دون أن تبقى.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ {204} وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ {205} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ {206} } [البقرة: 204-206] قوله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204] نزلت هذه الآية واللتان بعدها في الأخنس بن شريق، وكان حلو الكلام، حلو المنظر، يأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجالسه ويظهر الإسلام، ويخبره أنه يحبه، وكان يعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه.
قوله: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} [البقرة: 204] كان يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله إني بك مؤمن ولك محب.
يحلف بالله ويشهده على أنه مضمر ما يقول، وهو كاذب في ذلك، {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] الألد: الشديد الخصومة، يقال: لددت، فأنت تلد لددا ولدادة.
والخصام: مصدر كالمخاصمة.
قال ابن عباس: يريد أنه يدع الحق ويخاصم في الباطل.
قوله: {وَإِذَا تَوَلَّى} [البقرة: 205] أي: أعرض وأدبر، {سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205] وذلك أنه انصرف من بدر ببني زهرة راجعا إلى مكة، وكان بينه وبين ثقيف خصومة، فبيتهم ليلا، وأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم، قال السدي: مر بزرع للمسلمين وحمر، فأحرق الزرع وعقر الحمر.
وقال الضحاك، ومجاهد: تولى بمعنى: تملك ووليَ وصار واليا، ومعناه: إذا ولي سلطانا جار.(1/310)
وأراد بالحرث: الزرع والنبات، وبالنسل: نسل الدواب، على ما روي أنه أهلك المواشي وأحرق الزرع.
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] قال الكلبي، عن ابن عباس: لا يرضى بالفساد والعمل بالمعاصي.
وذكر في تفسير الفساد ههنا: الخراب، وقطع الدراهم، وشق الثياب، لا على وجه المصلحة.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ} [البقرة: 206] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاه إلى إجابة الله في ظاهره وباطنه، فدعاه الأنفة والكبر إلى الإثم والظلم، وهو قوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 206] معنى العزة ههنا: المنعة والقوة.
قال قتادة: إذا قيل له: مهلا مهلا.
ازداد إقداما على المعصية.
والمعنى: حملته العزة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم، فحسبه جهنم كافيه الجحيم جزاء له وعذابا، يقال: حسبك كذا.
أي: كفاك.
وحسبنا الله: أي: كافينا الله، قال امرؤ القيس:
وحسبك من غنى شبع وري
أي: يكفيك الشبع والري.
ولبئس المهاد جهنم، على معنى: بئس الموضع وبئس المقر، والمهاد: جمع المهد، وهو الموضع المهيأ للنوم.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207] قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ} [البقرة: 207] الآية، قال سعيد بن المسيب: أقبل صهيب مهاجرا نحو(1/311)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتبعه نفر من قريش من المشركين، فنزل عن راحلته، ونثر ما في كنانته، وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، إني من أرماكم رجلا، وايم الله، لا تصلون إلي حتى أرمي ما في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم.
فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «أبا يحيى، ربح البيع، ربح البيع أبا يحيى» .
وأنزل الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] والشرى: من الأضداد، يقال: شرى، إذا باع.
وشرى: إذا اشترى، قال الله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] أي: باعوه.
ومعنى بيع النفس ههنا: بذلها لأوامر الله وما يرضاه.
ونصب {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] على المفعول له، أي: لابتغاء مرضات الله ثم نزع اللام منه، والمرضاة: الرضا، يقال: رضي رضا ومرضاة.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ {208} فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {209} هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {210} } [البقرة: 208-210] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] قال المفسرون: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاموا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحم الإبل وألبانها بعدما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وعلى هذا.
فقالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن(1/312)
التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها في صلاتنا.
فأنزل الله هذه الآية.
والسلم بكسر السين: الإسلام، وهو اسم جعل بمنزلة المصدر، كالعطاء من أعطيت، والنبات من أنبت، والفتح لغة، ويجوز أن يكون بالفتح والكسر: الصلح، والمراد بالصلح: الإسلام، لأن الإسلام صلح، ألا ترى أن القتال من أهله موضوع، وأنهم أهل اعتقاد واحد ويد واحدة في نصرة بعضهم لبعض؟ فسمي الإسلام صلحا لما ذكرنا.
وقوله: كافة الكافة: اسم للجملة الجامعة لأنها تمنع من الشذوذ والتفرق، والمعنى: ادخلوا في شرائع الإسلام جملة مانعة من شريعة لم تدخلوا فيها.
والكافة في اللغة: الحاجزة المانعة، يقال: كففت فلانا عن السوء فكف يكف كفا.
سواء لفظ اللازم والمجاوز، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 208] آثاره ونزعاته فيما زين لكم من تحريم السبت ولحم الجمل، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208] ظاهر العداوة، أخرج أباكم من الجنة وقال: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء: 62] .
وقوله: فإن زللتم يقال: زلت قدمه تزل زللا وزلا وزليلا، إذا دحضت.
ومعنى زللتم: تنحيتم عن القصد والشرائع في تحريم السبت ولحوم الإبل، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 209] يعني القرآن ومواعظه، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [البقرة: 209] في انتقامه، لا تعجزونه، حكيم فيما شرع لكم من دينه.
قوله: هل ينظرون الآية، هل ههنا: استفهام يراد به النفي والإنكار، كما يقال: هل يفعل هذا إلا مائق؟ ! أي: ما يفعل، وينظرون بمعنى: ينتظرون، يقال: نظرته، وانتظرته.
ومنه قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ، وقوله: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35] ، والمعنى: ما ينتظر التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان إلا العذاب يوم القيامة؟ ! يريد: أنه لا ثواب، لهم فلا ينتظرون إلا العذاب، وهو قوله: {إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210] أي: يأتيهم عذاب الله، أو أمر الله، فحذف المضاف، ومثل هذا قوله: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] أي: عذاب الله.(1/313)
وقوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 210] الظلل: جمع ظلة مثل: حلة وحلل، وهي ما يستظل به من الشمس، ويسمى السحاب ظلة لأنه يستظل بها، ومنه قوله: {عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء: 189] أراد: غيما تحته سموم، والمعنى: أن العذاب يأتي فيها ويكون أهول، وقوله: والملائكة يعني: الذين وكلوا بتعذيبهم، وقضي الأمر أي: فرغ لهم مما يوعدون به بأن قدر ذلك عليهم وأعد لهم، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة: 210] أي: في الجزاء من الثواب والعقاب، وذلك أن العباد في الدنيا لا يجازون على أعمالهم، ثم إليه يصيرون، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء، وهذا كقوله: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى: 53] وقرئ ترجع الأمور بضم التاء وفتح الجيم، أي: ترد إليه الأمور.
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 211] قوله: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 211] معنى السؤال ههنا: تبكيت للمسئول عنه وتقريع له، لا تعرف منه، كما يقال: سله كم أنعمت عليه فكفر نعمتي؟ كذلك هؤلاء، أنعم الله عليهم نعما، فلق البحر لهم، وأنجاهم من عدوهم، وأنزل عليهم المن والسلوى فكفروا بهذه النعم حين لم يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبينوا نعته، {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} [البقرة: 211] التبديل: تصيير الشيء على غير ما كان عليه، يريد: من يجعلها نقمة بالكفران وترك الشكر لها، {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 211] يعني: لمن فعل ذلك، والعقاب: عذاب يعقب الجرم.
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [البقرة: 212] فهي همهم وطلبتهم ونيتهم، فهم لا يريدون غيرها، كقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] ، وإنما قيل: زين على التذكير لأن الحياة مصدر، فذهب إلى تذكير المصدر كقوله: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] ، وهذا قول الفراء، وقال الزجاج: تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأن معنى الحياة والبقاء والعيش واحد.(1/314)
قوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 212] أي: يسخرون من فقراء المؤمنين ويعيرونهم بالفقر، {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا} [البقرة: 212] الشرك، وهم هؤلاء الفقراء، {فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 212] لأنهم في الجنة وهي عالية، والكافرين في النار وهي هاوية، {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] قال ابن عباس: يريد: أن أموال قريظة والنضير تصير إليهم بغير حساب ولا قتال، بأسهل شيء وأيسره.
وقال مقاتل: يرزق من يشاء حين بسط للكافرين وقتر على المؤمنين، بغير حساب يعني: ليس فوقه من يحاسبه، فهو الملك يعطي من يشاء بغير حساب، وهذا معنى قول الحسن، لأن الله قال: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212] لا يسأل عما يفعل.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {213} أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ {214} } [البقرة: 213-214] قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] قال ابن عباس: يعني: على عهد إبراهيم كفارا كلهم.
وقال الحسن، وعطاء: كان الناس بعد وفاة آدم إلى مبعث نوح، أمة واحدة على ملة واحدة وهي الكفر، كانوا(1/315)
كفارا كلهم أمثال البهائم، {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213] نوحا وإبراهيم وغيرهما من النبيين، {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [البقرة: 213] يعني الكتب، والكتاب: اسم جنس أريد به الجمع، بالحق يريد: بالعدل والصدق، ليحكم أي: الكتاب، بين الناس بما فيه من البيان، {فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] من الأحكام، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة: 213] الكناية راجعة إلى الكتاب، والمراد بالكتاب المختلف فيه: التوراة.
قوله: {إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ} [البقرة: 213] يعني: اليهود، واختلافهم في التوراة: تبديل بعضهم وتحريفهم، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 213] الدلالات الواضحات في شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة نبوته، بغيا بينهم حسدا منهم وطلبا للرياسة، {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213] أي: إلى ما اختلفوا فيه، من الحق والمعنى: لمعرفة ما اختلفوا فيه، يقال: هديته إلى الشيء، وللشيء.
قال ابن زيد: اختلفوا في القبلة، فصلت اليهود إلى بيت المقدس، وصلت النصارى إلى المشرق، فهدانا الله للكعبة، واختلفوا في الصيام، وهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت، والنصارى الأحد فهدانا الله له.
واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهوديا.
وقالت النصارى: كان نصرانيا.
فهدانا الله تعالى للحق من ذلك، واختلفوا في عيسى فجعلته اليهودية لفرية، وجعلته النصارى ربا، فهدانا الله عز وجل من ذلك.
104 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَسْرُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] قَالَ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَدَانَا اللَّهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى»(1/316)
وقوله: {بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] أي: بعلمه وإرادته فيهم، قال ابن عباس: يريد: كان في قضائي وقدري.
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} [البقرة: 214] الآية، قال عطاء، عن ابن عباس: لما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة اشتد الضر عليهم لأنهم خرجوا بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عز وجل تطييبا لقلوبهم: أم حسبتم.
معناه: بل أحسبتم؟ {أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ} [البقرة: 214] أي: ولم يأتكم، وما صلة، {مَثَلُ الَّذِينَ} [البقرة: 214] أي: شبه الذين، خلوا مضوا، من قبلكم من النبيين والمؤمنين، وفي الكلام حذف تقديره: مثل محنة الذين، أو مثل مصيبة الذين من قبلكم، والمثل والمثل: واحد.
ثم ذكر ما أصابهم فقال: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} [البقرة: 214] قال عطاء: يريد: الفقر الشديد، والضراء المرض والجوع، {وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] : حركوا بأنواع البلايا والرزايا، {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] إلى أن يقول الرسول، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] ؟ أي: بلغ منهم الجهد إلى أن استبطئوا النصر، فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214] أي: أنا ناصر أوليائي لا محالة، ونصري قريب منهم.
وقرئ حتى يقولُ الرسول رفعا، كما تقول: سرت حتى أدخلها.
بمعنى: سرت فأدخلها، بمنزلة: سرت فدخلتها، وحتى ههنا مما لا يعمل في الفعل شيئا، لأنها تلي الجمل، تقول: سرت حتى إني كال، وكقول الفرزدق:
فيا عجبا حتى كليب تسبني(1/317)
فعملها في الجمل يكون في معناها، لا في لفظها، وعلى هذا وجه الآية.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] قال الكلبي، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان شيخا كبيرا، وعنده مال عظيم فقال: ماذا ننفق من أموالنا، وأين نضعها؟ فنزلت هذه الآية.
وقوله: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] إلى قوله: وما تفعلوا قال ابن الأنباري: إن عمرو بن الجموح سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصدقة، أين يخص بها عند موته؟ فأنزل الله هذه الآية؟ فلما نزلت آية المواريث نسخت من هذه الآية التصدق على الوالدين.
ويقال: إن الإنفاق في هذه الآية لا يراد به الصدقة عند الموت، إنما يراد به النفع في الدنيا، والإيثار بما يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى، فأخبر الله تعالى أن من قصد ذلك ينبغي له أن يبر بذلك المذكورين في هذه الآية.
وعلى هذا: الآية محكمة لم ينسخ منها شيء، وهذا معنى قول مقاتل بن حيان، وقال كثير من أهل التفسير: هذا كان قبل فرض الزكاة، فلما فرضت الزكاة بالآية التي في البراءة.
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] أي أنه يحصيه ويجازي عليه.(1/318)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {216} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {217} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {218} } [البقرة: 216-218] قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] قال عطاء: يعني بهذا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، لأن القتال مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فريضة، وما كان يجوز القعود عنه إذا خرج لجهاد عدو.
والإجماع اليوم على أنه من فروض الكفاية.
وقوله: وهو أي: القتال، كره لكم قال الفراء: الكره: المشقة، قمت على كره، أي: على مشقة، والكره بفتح الكاف: الإجبار، يقال: أقامني على كره، إذا أكرهك عليه.
ولهذا المعنى لم يقرأ، ههنا، كره بالفتح كما قرئ في سائر المواضع بالضم والفتح، لأن المشقة ههنا أليق من الإجبار، وهذا الكره من حيث المشقة الداخلة على النفس وعلى المال من المئونة، لا أنهم كانوا يكرهون فرض الله.
وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] لأن في الغزو إحدى الحسنيين، إما الظفر والغنيمة، وإما الشهادة والجنة، {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} [البقرة: 216] يعني: التعود على الغزو، {وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر.
وقال ابن عباس: كنت ردف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «يابن عباس، ارض عن الله بما قدر، وإن كان خلاف هواك، إنه لمثبت في كتاب الله عز وجل» .
فقلت: يا رسول الله، أين وقد قرأت القرآن؟ فقال " {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] .(1/319)
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] أي: يعلم ما فيه مصالحكم ومنافعكم، فبادروا إلى ما يأمركم به وإن شق عليكم.
قوله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] الآية:
105 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قُلْتُ: حَدَّثَكُمْ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ الْجَرْكَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ الأَسَدِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى هَبَطُوا نَخْلَةً، فَوَجَدُوا بِهَا عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ، فِي عِيرِ تِجَارَةٍ لِقُرَيْشٍ، فِي يَوْمٍ بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَاخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: غُرَّةُ هَذِهِ مِنْ عَدُوٍّ وَغُنْمٍ رُزِقْتُمُوهُ، وَلا نَدْرِي أَمِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ هَذَا الْيَوْمُ أَمْ لا؟ وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لا نُسَلِّمُ هَذَا الْيَوْمَ إِلا مِنَ الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَلا نَرَى أَنْ تَسْتَحِلُّوهُ لِطَمَعٍ أَشْفَيْتُمْ عَلَيْهِ، فَغَلَبَ عَلَى الأَمْرِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا، فَشَدَّوْا عَلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلُوهُ وَغَنِمُوا عِيرَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَكَانَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ أَوَّلَ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَرَكِبَ وَفْدٌ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَيَحِلُّ الْقِتَالُ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] إِلَى آخِرِ الآيَةِ.(1/320)
فَحَدَّثَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ: أَنَّ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَأَنَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ حِينَ يَسْجِنُونَهُمْ وَيُعَذِّبُونَهُمْ وَيَحْبِسُونَهُمْ أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَصَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلاةِ فِيهِ، وَإِخْرَاجِهِمْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْهُ، وَهُوَ سُكَّانُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفِتْنَتُهُمْ إِيَّاهُمْ عَنِ الدِّينِ.
فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَلَ ابْنَ الْحَضْرَمِيِّ، وَحَرَّمَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ، كَمَا كَانَ يُحَرِّمُهُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]
فقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 217] يعني: أهل الشرك يسألون عن ذلك على جهة العيب للمسلمين، باستحلالهم القتال في الشهر الحرام.
وقوله: قتال فيه تقديره: عن قتال فيه، وكذا هو في قراءة ابن مسعود.
قل لهم يا محمد، قتال في الشهر الحرام، كبير أي: عظيم في الإثم، وتم الكلام ههنا، ثم قال: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217] يعني: صد المشركين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عن البيت عام الحديبية، وكفر به أي: بالله، والمسجد الحرام ينخفض بالعطف على سبيل الله تقديره: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وإخراج أهله أهل المسجد، منه أكبر أعظم وزرا، {عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ} [البقرة: 217] الشرك والكفر، {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] يعني: قتل ابن الحضرمي.
ولما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش، صاحب هذه السرية، إلى مؤمني مكة: إذا عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام، فعيروهم أنتم بالكفر وإخراج الرسول من مكة، ومنع المؤمنين عن البيت.(1/321)
وقوله: ولا يزالون يعني المشركين، يقاتلونكم أيها المؤمنون، {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ} [البقرة: 217] الإسلام، إلى الكفر إن استطاعوا، ثم ذكر حكم من يرجع عن الإسلام إلى الكفر فقال: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] يعني: يبقى على الردة إلى أن يموت، {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217] أي: بطلت، يقال: حبط عمله، يحبط حبطا وحبوطا، وأحبطه الله إحباطا.
والمسلم إذا ارتد ومات على الردة حبط عمله الذي عمله في الإسلام، وبقي في النار خالدا، وهو قوله عز وجل: {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217] .
قال الزهري: ولما فرج الله على أهل تلك السرية بهذه الآية ما كانوا فيه من غم بقتالهم في الشهر الحرام، طمعوا فيما عند الله من ثوابه.
فقالوا: يا نبي الله، أنطمع أن تكون هذه الغزوة نعطى فيها أجر المجاهدين في سبيل الله؟ فأنزل الله تعالى فيهم قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 218] بمحمد والقرآن، {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} [البقرة: 218] فارقوا عشائرهم وأوطانهم، وجاهدوا المشركين، أي: حملوا أنفسهم على الجهد والمشقة في قتالهم، {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ} [البقرة: 218] أي أنهم بما فعلوا على رجاء رحمة الله، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218] غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعملوا ورحمهم.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219] قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219] الآية، نزلت في جماعة من الصحابة، أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال.
فنزلت هذه الآية.
والخمر إنما سميت خمرا لأنها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الداء، إذا خالطه.
قال كثير:(1/322)
هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
وهي كل شراب مسكر مغط للعقل، سواء كان عصيرا أو نقيعا، مطبوخا كان أو نيا.
والميسر: القمار، والياسر واليسر: المقامر، وتجمع اليسر: أيسارا.
وقوله: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] أراد: الإثم بسببهما، من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور، وزوال العقل، والمنع من الصلاة، والقمار يورث العداوة، بأن يصير مال الإنسان إلى غيره بغير جزاء يأخذ عليه.
وقراءة العامة كبير بالياء، لأن الذنب يوصف بالكبر والعظم، يدل على ذلك قوله تعالى: {كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى: 37] ، {كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] كذلك ههنا ينبغي أن يكون بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبيرة؟ وقرأ حمزة، والكسائي بالثاء، لأنه قد جاء فيها ما يقوي وصف الإثم فيهما بالكثرة دون الكبر، وهو قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} [المائدة: 91] فذكر عددا من الذنوب فيهما.
ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن عشرة في سبب الخمر فدل على كثرة الإثم فيهما.(1/323)
قوله: ومنافع للناس منفعة الخمر: ما كانوا يصيبونه من المال في بيعها والتجارة فيها، واللذة عند شربها، والتقوي بها.
ومنفعة الميسر: ما يصاب من القمار، ويرتفق به الفقراء.
وليست هذه الآية المحرمة للخمر، إنما المحرمة التي في المائدة.
قال قتادة: في هذه الآية ذمها ولم يحرمها، وهي يومئذ حلال.
وقال ابن عباس: كل شيء فيه قمار فهو ميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز، والكعاب.
وقوله: وإثمهما أي: الإثم الحاصل، {أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، لأن نفعهما في الدنيا، وما يحصل من الإثم بسببهما يضر بالآخرة.
وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 219] نزلت في سؤال عمرو بن الجموح لما نزل قوله: {فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 215] في سؤاله، أعاد السؤال وسأل عن مقدار ما ينفق، فنزل قوله: قل العفو قال ابن عباس: ما فضل من المال والعيال.
وهو قول السدي، وقتادة، وعطاء.
وأصل العفو في اللغة: الزيادة، قال الله تعالى: حتى عفوا أي: زادوا على ما كانوا عليه من العدد.
وقال أهل التفسير: أمروا أن ينفقوا الفضل، وكان أهل المكاسب يأخذ الرجل من كسبه ما يكفيه في عامه، وينفق باقيه، إلى أن فرضت الزكاة، فنسخت آية الزكاة المفروضة هذه الآية، وكل صدقة أمروا بها قبل نزول الزكاة.(1/324)
واختلف القراء في رفع العفو ونصبه، فمن نصب جعل ماذا اسما واحدا في موضع نصب، وجواب هذا العفو بالنصب، كما تقول في جواب ما أنفقت درهما، أي: أنفقت درهما، ومن رفع جعل ذا بعد ما بمنزلة الذي، ورد العفو عليه فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟ فقال: العفو.
أي: الذي ينفقون العفو، فيضمر المبتدأ الذي كان خبرا في سؤال السائل، كما تقول في جواب ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد.
وقوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} [البقرة: 219] أشار إلى ما بين في الإنفاق، كأنه قال: مثل الذي بينه لكم في الإنفاق يبين لكم الآيات، لتتفكروا في أمر الدنيا والآخرة فتعرفوا فضل الآخرة على الدنيا.
قال المفسرون: لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها، فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها، فترغبوا فيها.
قال قتادة: من تفكر في الدنيا والآخرة عرف ذلك فضل إحداهما على الأخرى، عرف أن الدنيا دار بلاء، ثم دار فناء، وعرف أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء.
{فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {220} وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {221} } [البقرة: 220-221] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة: 220] قال ابن عباس: لما أنزل الله تعالى قوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] ، و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] انطلق من كان عنده مال ليتيم فعزل طعامه عن طعامه،(1/325)
وشرابه عن شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامه، فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، واشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] يعني: الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عون منهم خير وأعظم أجرا، {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ} [البقرة: 220] أي: تشاركوهم في أموالهم وتخالطوها بأموالكم فتصيبوا من أموالهم عوضا من قيامكم بأمورهم.
قال الضحاك: مخالطتهم: ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشرب اللبن، هذا إذا قام على مال اليتيم.
وقوله: فإخوانكم أي: فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ} [البقرة: 220] أي: لأموالهم، من المصلح لها، فاتقوا الله في مال اليتامى ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حق.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] معنى الإعنات: الحمل على المشقة التي لا تطاق، يقال: أعنت فلان فلانا.
أي: أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه.
قال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا.
وقال آخرون: ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم، وأثمكم في مخالطتهم، ومعناه: التذكير بالنعمة في التوسعة.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [البقرة: 220] في ملكه، حكيم فيما أمركم به.
قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] نزلت في مرثد الغنوي، كانت له خليلة مشركة في الجاهلية يقال لها: عناق.
فلما أسلم قالت له: تزوج بي.
فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: أيحل لي أن أتزوجها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وحرم نكاح المشركات.(1/326)
ثم استثنى الحرائر الكتابيات بالآية في المائدة، وهي قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] .
وقوله: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221] الأمة: المملوكة.
قال السدي: كانت لعبد الله بن رواحة أمة سوداء، فغضب عليها ولطمها، ثم أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فقال له: «وما هي يا عبد الله؟» فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله.
فقال: «هذه مؤمنة» .
قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجن بها.
ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وعرضوا عليه حرة مشركة، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] يعني: المشركة بمالها وجمالها.
وقوله: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] لا يجوز تزويج المسلمة من المشرك بحال، وقوله: أولئك يعني المشركين، {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [البقرة: 221] أي: إلى الأعمال الموجبة للنار.
{وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} [البقرة: 221] يقول: إلى التوبة والتوحيد والعمل الموجب لهما.
{بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] أي: بأمره، يعني أنه بأوامره يدعوكم.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ {222} نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ {223} } [البقرة: 222-223] قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] قال أنس بن مالك: إن اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت، فلم يؤاكلوها ولم يشاربوها، فسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فأنزل الله هذه الآية.
والمحيض: الحيض، يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا.(1/327)
قوله: {هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] قال عطاء، وقتادة، والسدي: أي: قذر.
وقال مجاهد والكلبي: دم.
والأذى: ما يغم ويكره من كل شيء، {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] أي: تنحوا عنهن ودعوا مجامعتهن إذا حضن، {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] لا تجامعوهن، يقال: قرب الرجل امرأته، إذا جامعها قربانا.
وقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] : أي: يتطهرن، ومعناه: يغتسلن بالماء بعد النقاء من الدم، فأدغمت التاء في الطاء، ومن قرأ يطهرن بالتخفيف فهو من طهرت المرأة تطهر طهرا وطهارة، ومعناه: حتى يفعلن الطهارة التي هي الغسل.
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] اغتسلن، {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] بتجنبه في الحيض، وهو الفرج، قاله مجاهد، وإبراهيم، وقتادة، وعكرمة، وقال ابن عباس، في رواية الوالبي يقول: طئوهن في الفرج، ولا تعدوه إلى غيره، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء من الأحداث والنجاسات.
قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] :
106 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجَوْزِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ:(1/328)
أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: مَن أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ مُدْبِرَةٌ جَاءَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] الآيَةَ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي نُعْيَمٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ
ومعنى {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] أي: مزرع ومنبت للولد، قال أهل المعاني: معناه: ذوات حرث لكم، فيهن تحرثون الولد، فخاف المضاف.
وقال الأزهري: حرث الرجل: امرأته.
وأنشد المبرد:
إذا أكل الجراد حروث قوم ... فحرثي همه أكل الجراد
وقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] أي: ائتوا مواضع حرثكم كيف شئتم مقبلة ومدبرة، بعد أن يكون في صمام واحد.
قال ابن عباس في هذه الآية: ائتها كيف شئت في الفرج.
{وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223] قال عطاء، عن ابن عباس: يريد: العمل لله بما يحب ويرضى.
وقال مقاتل: يقول: قدموا طاعة الله وأحسنوا عبادته.
واتقوا الله فيما حد لكم من الجماع، وأمر الحيض، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة: 223] راجعون إليه، والمعنى: ملاقو جزائه، إن ثوابا وإن عقابا، وبشر المؤمنين الذين خافوا وحذروا معصيته.
{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {224}(1/329)
لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ {225} لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {226} وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {227} } [البقرة: 224-227] قوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224] قال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة، ينهاه عن قطيعة ختنه على أخته بشير بن النعمان، حلف أن لا يكلمه، ولا يدخل بيته وبيت خصم له، وجعل يقول: قد حلفت بالله أن لا أفعل، فلا يحل لي.
فأنزل الله هذه الآية.
والعرضة: المانع من الشيء، وتقول العرب: هو له دونه عرضة، إذا كان يمنعه من الوصول إليه.
قال الحسن، وطاوس، وقتادة: ولا تجعلوا اليمين بالله علة مانعة من البر والتقوى، من حيث تتعمدون اليمين لتعتلوا بها.
والأيمان: جمع يمين، وهو القسم.
وقوله: أن تبروا قال الزجاج: تقديره: لا تعترضوا باليمين بالله في أن تبروا، فسقط في، ووصل الفعل إليه، وقال أبو عبيدة: معناه: أن لا تبروا، فحذفت لا، كقوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] ، وكقوله: {رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] ، والمعنى: لئلا تضلوا، ولئلا تميد بكم.
وقال أبو العباس: تقديره: لدفع أن تبروا، فحذف المضاف.
ومعنى أن تبروا: أن تصنعوا الخير وتصلوا الرحم وتأمروا بالمعروف، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224] يسمع أيمانكم، ويعلم ما تقصدون بها كقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] اللغو: الكلام الذي لا فائدة فيه ولا يعتد به، يقال: لغا يلغو لغوا.
قال ابن الأنباري: اللغو: ما يطرح من الكلام استغناءً عنه، ولا يُفتقَر إليه.
وقال الزجاج: وكل ما لا خير فيه مما يؤثم فيه، أو يكون غير محتاج إليه من الكلام، فهو لغو ولغا.(1/330)
قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي: لغو اليمين: ما يسبق به اللسان من غير عقد ولا قصد، ويكون كالصلة من الكلام، مثل قول القائل: لا والله، وبلى والله، وكلا والله.
ونحو هذا، ولا كفارة فيه ولا إثم، هذا قول عائشة رضي الله عنها.
وقال ابن عباس، في رواية الوالبي: لغو اليمين: أن يحلف الإنسان يرى أنه صادق فيه، ثم يتبين له خلاف ذلك، فهو خطأ منه غير عمد، ولا كفارة عليه فيه ولا إثم.
وهو قول الحسن والنخعي والزهري وقتادة والربيع والسدي.
وقال في رواية وسيم: اللغو: اليمين في حالة الغضب والضجر، من غير عقد ولا عزم، وهو قول علي رضي الله عنه وطاوس.
وقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] أي: عزمتم وقصدتم، لأن كسب القلب: العقد والنية، {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225] معنى الحليم في صفة الله: الذي لا يعجل بالعقوبة، بل يؤخر عقوبة الكافرين والعصاة، والحلم في كلام العرب معناه: الأناة والسكون.
قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] الآية يقال: آلى يولي إيلاء، إذا حلف.
ويقال لليمين: الألية.
قال ابن عباس: هو أن يحلف بالله لا ينكح امرأته، فحكمه ما ذكره الله تعالى، وهو قوله: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] والتربص: التلبث والانتظار، فإن جامع قبل مضي أربعة أشهر لزمته الكفارة، والنكاح ثابت، وإن لم يجامع حتى انقضت أربعة أشهر، فإن عفت المرأة ولم تطلب حقها من الجماع فلا شيء، ولا يقع به طلاق، وإن طلبت(1/331)
حقها وقف الحاكم زوجها، فإما أن يطلق وإما أن يطأ، فإن أباهما جميعا طلق الحاكم عليه بالقهر والجبر، وهو قوله: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أي: رجعوا، يعني: بالجماع.
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] أي: طلقوا بعد مضي أربعة أشهر، {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة: 227] يسمع ما قاله المطلق، عليم بما في قلبه.
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] الآية، يعني: المطلقات المدخول بهن البالغات غير الحوامل، لأن في الآية بيان عدتهن، ومعنى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] : ينتظرن انقضاء {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] لا يتزوجن، لفظه خبر ومعناه: الأمر.
والقروء: جمع قرء، وجمعه القليل: أقرؤ، وأقراء، والكثير: قروء، وهذا الحرف من الأضداد، يقال للحيض: قرء.
وللأطهار: قروء.
وأقرأت المرأة في الأمرين جميعا.
والمراد بالتي في الآية: الأطهار، في قول عائشة رضي الله عنها، وزيد بن ثابت، وابن عمر، ومالك، والشافعي، وأهل المدينة، قال ابن شهاب: ما رأيت أحدا من أهل بلدنا إلا يقول: الأقراء: الأطهار.
إلا سعيد بن المسيب.
وأكثر المفسرين: على أنها الحيض، وهو قول فقهاء الكوفة.
قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قال ابن عباس وقتادة ومقاتل:(1/332)
يعني: الحبل والولد، ومعنى الآية: لا يحل لهن أن يكتمن الحمل ليطلن حق الزوج من الرجعة.
قال ابن عباس: وذلك أن المرأة السوء تكتم الحمل شوقا منها إلى الزوج، وتستبطئ العدة لأن عدة ذات الحمل أن تضع حملها، فيجب عليهن إظهار ما يخلق الله في أرحامهن من الولد، إذ لا مرجع إلى غيرهن فيه.
وقد أغلظ الله القول عليهن حيث قال: {إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] .
وقوله: وبعولتهن هي جمع بعل، يعني: الزوج، {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] أي: إلى النكاح والزوجية، يعني: أحق بمراجعتهن، {فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] أي: في الأجل الذي أمرن أن يتربصن فيه، {إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة: 228] لا إضرارا، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة، وتركها حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها، ثم راجعها يضارها بذلك، فجعل الله الزوج أحق بالرجعة على وجه الإصلاح لا على وجه الإضرار.
وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] أي: للنساء على الرجال مثل الذي للرجال على النساء من الحق بالمعروف، أي: بما أمر الله به من حق الرجل على المرأة.
107 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا وَكيِعٌ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَتَزَيَّنَ لِلْمَرْأَةِ كَمَا أُحِبُّ أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي: لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]
وقوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال.
وقال مجاهد: بالجهاد والميراث.
وقال الزجاج: المعنى: أن المرأة تنال من اللذة كما ينال الرجل، وله الفضل بنفقته وقيامه عليها.(1/333)
108 - أَخْبَرَنَا سَعْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ، أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أَيِّمٌ، فَأَخْبِرْنِي مَا حَقُّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ؟ فَإِنِ اسْتَطَعْتُ ذَلِكَ تَزَوَّجْتُ، وَإِلا جَلَسْتُ أَيِّمًا، فَقَالَ: " مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: إِنْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا وَهِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرٍ لا تَمْنَعُهُ نَفْسَهَا، وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: أَنْ لا تَصُومَ تَطَوُّعًا إِلا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ جَاعَتْ وَعَطِشَتْ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهَا، وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: أَلا تُخْرِجَ مِنْ بَيْتِهِ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ كَانَ الأَجْرُ لِغَيْرِهَا وَالإِصْرُ عَلَيْهَا، وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الزَّوْجَةِ: أَنْ لا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إِلا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ لَعَنَتْهَا مَلائِكَةُ السَّمَاءِ وَمَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ "
109 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ الْبِلالِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:(1/334)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا لأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا»
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] أي: أنه يأمر كما أراد ويمتحن كما أحب، ولا يكون هذا إلا عن حكمة بالغة.
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {229} فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {230} } [البقرة: 229-230] قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] قال عروة بن الزبير، وغيره: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له، وإن طلقها ألف مرة، فأنزل الله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فحصر الطلاق وجعل حده ثلاثة، فذكر في هذه الآية طلقتين، وذكر الثالثة في الآية الأخرى وهي قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230] ، والآية مختصرة، لأن المعنى: الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان.
وقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] الإمساك: خلاف الإطلاق وهو مرتفع لأنه خبر ابتداء محذوف، على تقدير: فالواجب إذا راجعها بعد الطلقتين إمساك بمعروف، أي: بما يعرف شرعا من إقامة الحق في إمساك المرأة.
وقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] قال عطاء والسدي والضحاك: هو ترك المعتدة حتى تبين بانقضاء العدة.
قال ابن عباس: إذا طلق امرأته طلقتين فليتق الله في التطليقة الثالثة.
فإما أن يمسكها بمعروف ويحسن صحبتها، أو(1/335)
يسرحها بإحسان ولا يظلمها من حقها شيئا، وهو قوله: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] لا يجوز للزوج أن يأخذ من امرأته شيئا مما أعطاها من المهر إلا في الخلع، وهو قوله: {إِلا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] أي: يعلما ويوقنا.
والخوف يكون بمعنى العلم، وذلك أن في الخوف طرفا من العلم، لأنك تخاف ما تعلم، وما لا تعلم لا تخافه، كما أن الظن لما كان فيه طرف من العلم جاز أن يكون علما.
ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها بغضا له، وخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها، حل له أن يأخذ الفدية منها إذا دعت إلى ذلك.
وقرأ حمزة إلا أن يُخافا بضم الياء، لأنه بني للمفعول بهما وهما الزوجان، والمعنى: إلا أن يعلما أنهما لا يقيمان حدود الله.
فإن خفتم أيها الولاة والحكام، أي: علمتم وغلب على ظنكم أن الزوجين لا يقيمان حدود الله في حسن العشرة وجميل الصحبة، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] المرأة نفسها من الزوج، أي: لا جناح على الرجل فيما يأخذ من المرأة، ولا عليها فيما تفتدي به للخلع.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 229] يريد: ما حده من شرائع الدين، {فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] أي: لا تتجاوزوها إلى غيرها، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] أنفسهم بترك ما أمر الله به.
وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يعني الزوج المطلق ثنتين، {فَلا تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] المطلقة، من بعد أي: من بعد التطليقة الثالثة، {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] أي: غير المطلق.
والنكاح: لفظ يتناول العقد والوطء جميعا، فلا تحل للأول ما لم يصبها الثاني.
وقد ثبتت السنة بهذا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
110 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ: جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي، فَبَتَّ طَلاقِي،(1/336)
فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ، وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ " وَأَبُو بَكْرٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بِالْبَابِ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ، فَنَادَى: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلا تَسْمَعُ مَا تَجْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "؟
وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يعني: الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 230] على المرأة ولا على الزوج الأول، {أَنْ يَتَرَاجَعَا} [البقرة: 230] إلى ما كانا عليه من النكاح بعقد جديد، إن ظنا أي: علما وأيقنا، {أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] أي: ما بين الله من حق أحدهما على الآخر، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 230] خص العالمين بالذكر، لأنهم الذين ينتفعون ببيان الآيات.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {231} وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {232} } [البقرة: 231-232] وقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] قاربن انقضاء العدة، والبلوغ ههنا: بلوغ مقاربة، كما تقول: قد بلغت البلد، إذا قربت منه.
والأجل: آخر المدة، {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] أي: راجعوهن بما يتعارفه الناس بينهم مما تقبله النفوس ولا تنكره العقول.(1/337)
قال ابن جرير: أي بإشهاد على الرجعة وعقد لها، لا بالوطء كما يجوز عند أبي حنيفة.
{أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] أي: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، ويكن أملك بأنفسهن، {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} [البقرة: 231] لا تراجعوهن مضارة وأنتم لا حاجة بكم إليهن، وكانوا يفعلون ذلك إضرارا بالمرأة.
لتعتدوا أي: عليهن بتطويل العدة، {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [البقرة: 231] الاعتداء، {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] أي: ضرها وأثم فيما بينه وبين الله، {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] قال أبو الدرداء: كان الرجل في الجاهلية يقول: إنما طلقت وأنا لاعب.
فيرجع فيها، وينكح فيقول مثل ذلك، ويعتق فيقول مثل ذلك فيها، فأنزل الله هذه الآية، فقرأها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح، فزعم أنه لاعب فهو جد» .
وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 231] قال عطاء: بالإسلام.
{وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ} [البقرة: 231] يعني القرآن، والحكمة يعني مواعظ القرآن، يعظكم به يدعوكم به إلى دينه، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] أي: أنه يجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فعلمه بما أتيا وعملا، لأنه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد.
قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 232] أي: انقضت عدتهن، وبلوغ الأجل ههنا: انقضاء العدة، لا بلوغ المقاربة.
قوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] العضل: المنع: يقال: عضل فلان أمته، إذا منعها من التزوج.
فهو يعضلها ويعضلها، أنشد الأخفش:
وإن قصائدي لك فاصطنعى ... كرائم قد عضلن عن النكاح(1/338)
نزلت الآية في أخت معقل بن يسار، وذلك ما:
111 - أَخْبَرَنَا بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: حَدَّثَنِي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: " كُنْتُ زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ وَأَفْرَشْتُكَ ثُمَّ طَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لا وَاللَّهِ لا تَعُودُ إِلَيْهَا أَبَدًا، قَالَ: وَكَانَ رَجُلا لا بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الآيَةَ، فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَزَوَّجْتُهَا إِيَّاهُ ".
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَفْصٍ
وقوله: {أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] يريد: الذين كانوا أزواجا لهن، {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] يعني: بعقد حلال، ومهر جائز.(1/339)
ونظم الآية: أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا تراضوا بينهم.
وفي الآية ما يقطع به على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي.
لإجماع المفسرين أن الخطاب للأولياء، لو صح نكاح بدون ولي لم يتصور عضل، ولم يكن لنهي الله عن العضل معنى.
وقوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ} [البقرة: 232] ذلك: إشارة إلى ما سبق، أي: أمر الله الذي تلي عليكم من ترك العضل يوعظ به، {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 232] خص المؤمنين لأنهم أهل الانتفاع به، {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ} [البقرة: 232] خير لكم وأفضل، وأطهر لقلوبكم من الريبة، وذلك أنهما إن كان في نفس كل واحد منهما علاقة حب يؤمن أن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحل الله.
والله تعالى، يعلم ما لكم فيه من الصلاح في العاجل والآجل، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 232] أي: وأنتم غير عالمين إلا بما أعلمكم الله.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {233} وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {234} وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ {235} } [البقرة: 233-235] وقوله: والوالدات يعني الأمهات، {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] لفظه لفظ الخبر ومعناه: الأمر، كما تقول: حسبك درهم.
أي: اكتف به، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب، يريد: إنهن أحق بالإرضاع من غيرهن إذا أردن ذلك، ولو وجب عليهن الإرضاع ما وجب لهن الأجرة، وقد أوجب الله لهن الأجرة في { [الطلاق.(1/340)
وقوله:] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [سورة البقرة: 233] أي: سنتين، وذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم: أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين.
وإنما أقام حولا وبعض الآخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره.
وإنما يعنون يوما وبعض آخر.
وهذا تحديد لقطع التنازع بين الزوجين إذا اشتجرا في مدة الرضاع، فجعل الحولين ميقاتا لهما يرجعان إليه عند الاختلاف، وليس هذا تحديد إيجاب.
وقوله: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] يقال: رضع المولود يرضع رضاعة ورضاعا.
والمعنى: أن هذا التقدير والبيان لمريدي إتمام الرضاعة من الأب والأم، وليس فيما دون ذلك وقت محدود، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] يعني الأب، {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] الكسوة: اللباس، يقال: كسوت فلانا أكسوه كسوة، إذا ألبسته ثوبا.
قال المفسرون: وعلى الزوج رزق المرأة المطلقة وكسوتها إذا أرضعت الولد.
بالمعروف أي: بما تعرفون أنه عدل على قدر الإمكان، {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} [البقرة: 233] أي: لا تلزم، إلا وسعها ما يسعها فتطيقه.
وقوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] الاختيار فتح الراء من تضار وموضعه: جزم على النهي، والأصل: لا تضارر، فأدغمت الراء الأولى في الثانية، وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهذا الاختيار في التضعيف: إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول في الأمر: عض يا رجل، وضار زيدا يا رجل.
والمعنى: لا ينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها الصبي، ولا تلقيه هي إلى أبيه بعدما عرفها، تضاره بذلك.(1/341)
وقيل: معناه: لا تضار والدة فتكره على إرضاع الصبي إذا قبل من غيرها وكرهت هي رضاعه، لأن ذلك ليس بواجب عليها.
{وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] فيكلف أن يعطي الأم إذا لم يرتضع الولد منها أكثر مما يجب لها عليه.
والقولان: على مذهب الفعل المبني للمفعول نهيا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لا تضار برفع الراء على الخبر، منسوقا على قوله: لا تكلف أتبع ما قبله ليكون أحسن في تشابه اللفظ، وهو خبر بمعنى الأمر والمعنى: ما ذكرنا.
قوله {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] هذا منسوق على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] المعنى: على وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله مال ورثه مثل الذي كان على أبيه في حياته.
وأراد ب الوارث: من كان عصبتَه كائنا من كان من الرجال في قول عمر بن الخطاب والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان.
وقال آخرون: أراد ب الوارث: الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى، عليه أجر رضاعه من ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت أمه على رضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان، وهو قول مالك والشافعي.
وقوله: فإن أرادا يعني: الوالدان، فصالا فطاما للولد، {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا} [البقرة: 233] يعني: قبل الحولين، وتشاور معنى التشاور: استخراج الرأي، وكذلك المشورة والمشورة، ومنه يقال: شرت العسل، إذا استخرجته.
والمعنى: أنهما إن تشاورا وتراضيا على الفطام قبل الحولين فلا بأس إذا كان الولد قويا.(1/342)
وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [البقرة: 233] أي: لأولادكم، وحذفت اللام اكتفاء بدلالة الاسترضاع، لأنه لا يكون إلا للأولاد، والمعنى: وإن أردتم أن تسترضعوا لأولادكم مراضع غير الوالدة، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 233] فلا إثم عليكم، {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] قال مجاهد والسدي: إذا سلمتم إلى الأم أجرتها بمقدار ما أرضعت.
وقرأ ابن كثير ما أتيتم بقصر الألف، ومعناه: ما فعلتم، يقال: أتيت جميلا.
أي: فعلته، قال زهير:
وما يك من خير أتوه فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
يعني: فعلوه وقصدوه.
ويكون التسليم على هذه القراءة بمعنى الطاعة والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، والمعنى: إذا سلمتم للاسترضاع عن تراض واتفاق.
وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء، قال: إذا سلمت أمه ورضي أبوه، لعل له غنى يشتري له مرضعا.
ثم أوصى بالتقوى فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] أي: فلا يترك جزاء شيء من أعمالكم، لأنه بصير بها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] أي: يموتون ويقبضون، ومعنى التوفي: أخذ الشيء وافيا، يقال: توفى الشيء واستوفاه.
{وَيَذَرُونَ} [البقرة: 234] يتركون، ولا يستعمل منه الماضي ولا المصدر ومثله، أيضا، يدع في رفض مصدره وماضيه.
وقوله: أزواجا أي: نساء، {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 234] أي: ينتظرن ويحبسن أنفسهن عن التزوج، {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ومعنى الآية: بيان عدة المتوفى عنها زوجها، وأنها تعتد من حين وفاة الزوج أربعة أشهر وعشرا، وذكرت العشر بلفظ التأنيث، والمراد بها: الأيام، تغليبا لليالي على الأيام، وذلك أن ابتداء الشهر يكون بالليل،(1/343)
قال ابن السكيت: يقولون: صمنا خمسا من الشهر.
فيغلبون الليالي على الأيام، لأن ليلة كل يوم قبله.
وهذه الآية ناسخة لقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] .
112 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسِيُّ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا أُمِّ سَلَمَةَ: " أَنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَاشْتَكَتْ عَيْنَهَا حَتَّى خُشِيَ عَلَيْهَا فَسَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَكْتَحِلُ؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي شَرِّ أَحْلاسِهَا فِي بَيْتِهَا حَوْلا كَامِلا، فَإِذَا مَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ بِبَعْرَةٍ، ثُمَّ خَرَجَتْ، أَفَلا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا "؟ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ آدَمَ، عَنْ شُعْبَةَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ(1/344)
113 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ الشَّعِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَشْرَسَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُلَيْمَانَ الزَّيَّاتُ، عَنْ بَحْرِ بْنِ كُنَيْزٍ السَّقَّاءِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ إِلا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَى الزَّوْجِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»
وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 234] يخاطب الأولياء، لأن الرجال قوامون على النساء، فذكر أنهن إذا انقضت عدتهن لا جناح على الأولياء في تخلية سبيلهن، فيما فعلن ليفعلن، {فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] ما يرون من تزوج الأكفاء بإذن الأولياء، وهذا تفسير المعروف، لأن التي تزوج نفسها سماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زانية.
قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] التعريض: ضد التصريح، وهو أن تضمن الكلام دلالة على ما تريد.
والخطبة: التماس النكاح، يقال: خطب فلان فلانة، إذا أراد أن يتزوجها.(1/345)
قال المفسرون: معنى التعريض بالخطبة: أن يقول لها، وهي في عدة الوفاة: إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإنك لنافقة، وإن من عزمي أن أتزوج، وإني فيك لراغب.
وما أشبه هذا الكلام.
قوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] أي: أسررتم وأضمرتم من خطبتهن.
قال مجاهد: هو إسرار العزم على النكاح دون إظهار.
وقال السدي: هو أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء.
ومعنى الاكتنان: الإخفاء والستر، يقال: أكننت الشيء وكنتته، إذا سترته.
لغتان.
وقوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235] يعني الخطبة، {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] قال الشعبي والسدي: لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره.
وقال الحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، وعطية: السر: هو الزنا، وكان الرجل يدخل على المرأة للريبة وهو يعرض بالنكاح، ويقول لها: دعيني، فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك.
فنهى الله عن ذلك.
وقوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} [البقرة: 235] يعني: التعريض بالخطبة كما ذكرناه.
قوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] أي: لا تصححوا عقد النكاح، يعني: لا تتزوجوا المعتدة، {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] أي: حتى تنقضي عدتها.
والكتاب: هو القرآن.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] مطلع على ضمائركم، {فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235] فخافوه، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235] .(1/346)
{لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ {236} وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {237} } [البقرة: 236-237] وقوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 236] الآية، قال الزجاج: أعلم الله تعالى في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز، وأنه لا إثم على من طلق من تزوج بها بغير مهر، كما أنه لا إثم على من طلق من تزوج بها بمهر.
قال ابن عباس في رواية الوالبي في قوله: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] قال: المس: النكاح، والفريضة: الصداق، ومعنى {تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] : توجبوا لهن صداقا.
وأو ههنا بمعنى الواو كقوله: {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] ، وقال عطاء بن يسار، عن ابن عباس في الرجل يطلق امرأته قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها، قال: ليس لها إلا المتاع، وهو قوله: ومتعوهن أي: أعطوهن ما يتمتعن به.
والمطلقة قبل الجماع وقبل تسمية المهر: مستحقة للمتعة بالإجماع من العلماء، ولا مهر لها.
وقوله: على الموسع وهو الذي في سعة من غناه، يقال: أوسع الرجل، إذا كثر ماله واتسعت حاله.
قدره أي: قدر إمكانه وطاقته، {وَعَلَى الْمُقْتِرِ} [البقرة: 236] وهو المقل الفقير، يقال: أقتر الرجل، إذا افتقر.
قدره وقرئ بتحريك الدال، وهما لغتان، يقال: هذا قدر وهذا وقدره، واحمل قدر ما تطيق، وقدر ما تطيق.(1/347)
والمتعة غير مقدرة، وهي كما قال الله تعالى: على الغني قدر إمكانه وعلى الفقير قد طاقته.
قال ابن عباس والزهري والشعبي والربيع: أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار، ودون ذلك وقاية، أو شيء من الورق، وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، قال: أعلاها، على الموسع، خادم، وأوسطها: ثوب، وأقلها: أقل ما له ثمن، قال: وحسن ثلاثون درهما.
وقوله: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 236] أي: متعوهن متاعا بما تعرفون أنه القصد وقدر الإمكان، وقوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] أي: حق ذلك عليهم حقا، بمعنى: وجب.
وقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] الآية، المرأة إذا طلقت بعد تسمية المهر وقبل الدخول فالواجب لها نصف المهر، لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] قال ابن عباس في هذه الآية: لها نصف صداقها، ليس لها أكثر من ذلك.
وقال ابن مسعود: لها نصف الصداق ما لم يجامعها، وإن جلس بين رجليها.
وقوله: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] يعني: النساء يتركن ذلك النصف الواجب لهن فلا يطالبن الأزواج به.
وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يعني الزوج، في قول علي، ومجاهد، والضحاك، والحسن، ومقاتل بن حيان، وابن سيرين، وشريح، وابن عباس في رواية عمار بن أبي عمار.
وعفو الزوج: أن يعطيها الصداق كاملا.(1/348)
ولما ذكر الله تعالى عفو المرأة عن النصف الواجب ذكر عفو الزوج عن النصف الساقط، فيستحسن لها أن تعفو ولا تطالبه بشيء، وللرجل أن يعفو ويوفي لها المهر كاملا.
114 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، قَالَ: طَلَّقَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ امْرَأَتَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَعْطَاهَا الصَّدَاقَ كَامِلا، وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا
وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] هذا خطاب للرجال والنساء جميعا، ومعناه: وعفو بعضكم عن بعض أدعى إلى اتقاء معاصي الله، لأن هذا العفو ندب، فإذا انتدب إليه علم أنه لما كان فرضا كان أشد استعمالا.
وقوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] قال ابن عباس: لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض، وهذا حث من الله تعالى للزوج والمرأة على الفضل والإحسان، وأمر لهما جميعا أن يستبقا إلى العفو.
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ {238} فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ {239} } [البقرة: 238-239] قوله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] قال مسروق: الحفاظ عليها: الحفاظ على وقتها، والسهو عنها: ترك وقتها.
أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر الخشاب، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، أخبرنا محمد بن إسحاق(1/349)
الثقفي، حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن مالك بن الحارث، عن مسروق، قال: لا يحافظ إنسان على الصلوات الخمس فيكتب بعدهن من الغافلين، وفي تركهن الهلكة.
115 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ.
أَخْبَرَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُسْلِمٍ الْهَجَرِيُّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ طُهُورَهُ ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَيُصَلِّي فِيهِ إِلا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، أَوْ رَفَعَ لَهُ بِهَا دَرَجَةً، حَتَّى إِنْ كُنَّا لَنُقَارِبُ بَيْنَ الْخُطَا، وَإِنَّ صَلاةَ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلاةٍ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً
قوله: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] اختلفوا فيها، فقال معاذ وابن عباس وابن عمر وعلي وطاوس وعكرمة ومجاهد: هي صلاة الفجر.
وهو اختيار مالك والشافعي، لأنها وسطت فكانت بين الليل والنهار، تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار، وهي أكثر صلاة تفوت الناس، ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.(1/350)
وقال زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وأبو سعيد الخدري وعائشة: إنها الظهر لأنها وسط النهار.
وقال ابن مسعود وأبو هريرة والنخعي وقتادة والحسن والضحاك والكلبي ومقاتل: إنها العصر.
وروي ذلك مرفوعا، ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل.
وقال قبيصة بن ذؤيب: إنها المغرب، لأنها وسط في الطول والقصر من بين الصلوات.
أخبرنا أبو بكر التميمي، أخبرنا أبو محمد بن حيان الحافظ، حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا جعفر بن عون، عن أبي حيان التيمي، عن أبيه: أن سائلا سأل الربيع بن خيثم عن الصلاة الوسطى، أي الصلاة هي؟ فقال له الربيع: أكنت محافظا عليها لو علمتها؟ قال: وما يمنعني يا أبا يزيد وقد أمر الله بالمحافظة عليها وحث عليها؟ قال الربيع: قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] فإنك إن تفعل تصبها، إنما هي واحدة منهن.(1/351)
وقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] قال الزجاج: القنوت: العبادة والدعاء لله في حال القيام، ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياما بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية.
قال ابن عباس والحسن وقتادة والشعبي: قانتين: مطيعين.
وقال مقاتل والكلبي: ولكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين، فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين.
وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال: «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو طاعة» .
وقال مجاهد: من طول القنوت: الخشوع والركود، وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله.
قال: وكانت العلماء إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشذ بصره إلى شيء أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من الدنيا، إلا ناسيا، ما دام في صلاته.
قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 239] يعني: عدوا أو سبعا وما الأغلب من شأنه الهلاك، {فَرِجَالا} [البقرة: 239] جمع راجل، مثل: تاجر وتجار، وصاحب وصحاب، {أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] جمع راكب، مثل: فارس وفرسان.
ومعنى الآية: فإن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها، فصلوا مشاة على أرجلكم، وركبانا على ظهور دوابكم، وهذا في حال المسايفة والمطاردة.(1/352)
وقوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة: 239] فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها، {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239] يريد: كما افترض عليكم في مواقيتها.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {240} وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ {241} كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ {242} } [البقرة: 240-242] قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة: 240] قال المفسرون: كان في ابتداء الإسلام إذا مات الرجل لم يكن لامرأته في الميراث شيء إلا السكنى والنفقة سنة ما لم تخرج من بيت زوجها، وكان المتوفى يوصي بذلك لها، فإن خرجت من بيت زوجها لم يكن لها نفقة، وكان الحول واجبا عليها في الصبر عن التزوج، ثم نسخت هذه الآية بالربع والثمن، وتقدير لمدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر.
واختلفوا في رفع الوصية، ونصبها، فمن رفع فعلى تقدير: فعليهم وصية، يضمر خبر المبتدأ، ومن نصب فعلى تقدير: فيوصوا وصية.
وقوله: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة: 240] أي: متعوهن متاعا بالإنفاق عليهن إلى الحول من غير إخراج لها من بيت الزوج، {فَإِنْ خَرَجْنَ} [البقرة: 240] من قبل أنفسهن قبل الحول، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 240] يا أولياء الميت، {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240] يعني: التشوف للنكاح، والتصنع للأزواج.(1/353)
قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] قال أبو العالية: في هذه الآية لكل مطلقة متعة.
وقال ابن زيد: لما نزل قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] إلى قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] قال رجل من المسلمين: إن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل.
فأنزل الله تعالى: وللمطلقات إلى قوله: {حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] يعني المتقين الشرك، فبين أن لكل مطلقة متاعا.
وقد ذكرنا الكلام في المتعة عند قوله: ومتعوهن.
وقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ} [البقرة: 242] أي: مثل البيان الذي تقدم فيما ذكر من الأحكام يبين الله آياته.
قال عطاء: يريد: يفسر لكم فرائضه لتعملوا بها حتى تفقهوا، وهو قوله: لعلكم تعقلون أي: يثبت لكم صفة العقلاء باستعمال ما بينا لكم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ {243} وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {244} مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {245} } [البقرة: 243-245] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] أي: ألم تعلم؟ ألم ينته علمك إلى هؤلاء؟ ومعنى الرؤية ههنا: رؤية القلب، وهو بمعنى العلم.
قال ابن عباس، في رواية سعيد بن جبير: يعني قوما خرجوا فرارا من الطاعون، وقالوا: نأتي أرضا ليس بها(1/354)
موت.
فخرجوا حتى إذا كانوا بموضع كذا، قال لهم الله: موتوا.
فماتوا، فمر بهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم، فهو هذه الآية {وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243] .
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 243] تفضل على هؤلاء بأن أحياهم بعد موتهم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243] إنعام الله عليهم بفضله.
قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] قال ابن عباس في رواية عطاء: يحرض المؤمنين على القتال، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [البقرة: 244] لما يقوله المتعلل، عليم بما يضمره.
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلانا، إذا أعطاه ما يتجازاه منه.
والاسم منه: القرض، وهو ما أعطيته لتكافأ عليه.
شبه الله تعالى عمل المؤمنين لله على ما يرجون من ثوابه بالقرض، لأنهم إنما يعطون ما ينفقون ابتغاء ما وعدهم الله من جزيل الثواب.
وقوله: قرضا حسنا قال عطاء: يعني: حلالا.
وقال الواقدي: طيبة به نفسه.
وقوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] قرئ بالتشديد والتخفيف، والرفع والنصب، أما التشديد والتخفيف: فهما لغتان.
ومعنى التضعيف والإضعاف والمضاعفة واحد، وهو الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر.
والرفع: بالنسق على يقرض، أو الاستئناف، وأما النصب: فعلى جواب الاستفهام بالفاء، لأن المعنى: أيكون قرض فيضاعفه؟(1/355)
وقال الحسن والسدي: هذا التضعيف لا يعلمه إلا الله، وهو مثل قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] .
وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] يعني: يمسك الرزق عمن يشاء ويضيق عليه، ويوسع على من يشاء.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {246} وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {247} } [البقرة: 246-247] قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 246] الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسم للجماعة كالقوم والرهط، {مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ} [البقرة: 246] وهو أشمويل، وذلك أن الأحداث كثرت في بني إسرائيل، وعظمت فيهم الخطايا، وغلب عليهم عدد لهم فسبوا كثيرا من ذراريهم، فسألوا نبيهم ملكا يجتمع به أمرهم، وتستقيم به حالهم في جهاد عدوهم، وهو قوله: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246] فقال لهم ذلك النبي: {هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة: 246] في سبيل الله؟ يقول: لعلكم أن تجبنوا عن القتال.
وقرأ نافع عسيتم بكسر السين، وهي لغة، يقال: عسي.
بكسر السين،(1/356)
فقال الملأ لذلك النبي: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246] أي شيء لنا في ترك القتال؟ {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246] أي: بالسبي والقهر على نواحينا، والمعنى: أنهم أجابوا نبيهم بأن قالوا: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا لا يظهر علينا عدونا، فأما إذ بلغ الأمر هذا فلا بد من الجهاد.
وقال الله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 246] فرض عليهم الجهاد، تولوا أعرضوا عن القيام به، {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} [البقرة: 246] وهم الذين عبروا النهر، ويأتي ذكرهم بعد هذا، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 246] يعني المشركين والمنافقين.
قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247] أي: قد أجابكم إلى ما سألتم من بعث الملك يقاتل وتقاتلون معه، {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} [البقرة: 247] أنكروا ملكه وقالوا: كيف يكون ملكنا؟ ! {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة: 247] لأنا من سبط الملوك، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة.
{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247] أي: ليس بذي مال كثير فيمتلك به، قال ذلك النبي، {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 247] اختصه بالملك، {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247] قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل وأجمله وأتمه.
والبسطة: الزيادة في كل شيء، قال الكلب: زاده بسطة في العلم بالحرب، والجسم بالطول، وكان يفوق الناس برأسه ومنكبيه، وإنما سمي طالوت لطوله.
{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 247] يريد: أن الملك ليس بالوراثة، وإنما هو بإيتاء الله تعالى واختياره، والله واسع أي: واسع الرزق والفضل، والرحمة وسعت رحمته كل شيء، وهذا كما يقال: فلان كبير عظيم.
يراد: أنه كبير القدر، كذلك هو واسع، بمعنى أنه واسع الفضل.
ثم إنهم سألوا نبيهم آية على تمليك طالوت: {(1/357)
وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {248} فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {249} } [البقرة: 248-249] {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: 248] وكان ذلك تابوتا أنزله الله على آدم فيه صور الأنبياء، فتوارثه أولاد آدم، وكان في بني إسرائيل يستفتحون به على عدوهم، فغلبتهم العمالقة عليه، فرد الله ذلك التابوت على طالوت، فلما رأوه عنده علموا أن ذلك أمارة ملكه عليهم.
وقوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248] أي: طمأنينة، وفي أي مكان كان التابوت اطمأنوا إليه وسكنوا، قال الزجاج: أي: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم.
وقال الحسن: جعل الله لهم في التابوت سكينة تطمئن قلوبهم إليه.
وقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] قال المفسرون: هي لوحان من التوراة، ورضاض الألواح التي تكسرت لما ألقى موسى الألواح، قفيز من المن الذي كان ينزل عليهم، ونعلا موسى وعصاه، وعمامة هارون وعصاه.
وأراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون، والعرب تقول: آل فلان.
يريد: نفسه، وأنشد أبو عبيدة:
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر(1/358)
يريد: أبا بكر نفسه.
وقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة: 248] قال المفسرون: كانت الملائكة تحمل تابوت بني إسرائيل فوق العسكر وهم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ} [البقرة: 248] أي: في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله قد ملك طالوت عليكم، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248] مصدقين بتمليكه عليكم.
قوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} [البقرة: 249] أي: سار بهم وقطعهم عن موضعهم، {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] وهو نهر بين الأردن وفلسطين، وإنما وقع الابتلاء ليتميز الكاذب من الصادق، والمحقق من المقصر، {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة: 249] أي: من أهل ديني وطاعتي، {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] وطعم كل شيء: ذوقه، يقال: طعمت الماء أطعمه.
بمعنى: ذقته، وأنشد أبو العباس العرجي:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
أراد: لم أذق، والنقاخ: الماء العذب.
قوله: {إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة: 249] الاغتراف: الأخذ من الشيء باليد أو بآلة، والمغرفة: الآلة التي يغرف بها، والمغرفة: المرة الواحدة، وهي مصدره، والغرفة، بالضم: الشيء المغترف والماء المغروف.
وقوله: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] قال المفسرون: قال لهم طالوت: من شرب من النهر وأكثر فقد عصى الله وخالف أمره، وتعرض لعقابه، ومن اغترف غرفة أقنعته.
فهجموا على النهر بعد عطش شديد أضر بهم فوقع(1/359)
أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قومٌ قليلٌ عددُهم لم يزيدوا على الاغتراف، فأما من اغترف قوي قلبه، وصح إيمانه، وعبر النهر سالما، وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه ودوابه، والذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، لم يردوا وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، ولم يشهدوا الفتح.
وتلك الغرفة لم تكن ملء الكف، ولكن المراد بالغرفة: أن يغترف مرة واحدة بقربة أو جرة، وما أشبه ذلك، تكفيه وتكفي دابته.
وهؤلاء القليل الذين لزموا الاغتراف، كانوا ثلاث مائة وبضعة عشر رجلا، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه يوم بدر: «أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر، وما جاز معه إلا مؤمن» .
قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا.
وقوله: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ} [البقرة: 249] جاوز النهر طالوت، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة: 249] قال ابن عباس والسدي: يعني هؤلاء الذين شربوا وخالفوا أمر الله عز وجل، وكانوا أهل شك ونفاق، وانصرفوا عن طالوت، ولم يشهدوا قتال جالوت.
{قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ} [البقرة: 249] يستيقنون ويعلمون، {أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ} [البقرة: 249] راجعون إليه، يعني القليل الذين اغترفوا، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ} [البقرة: 249] جماعة، قليلة في العدد، {غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249] عددهم، {بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] بإرادته ذلك، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] على قتال أعدائه بالنصرة والمعونة.
يعني: أن النصر مع الصبر.
{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250} فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ(1/360)
وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ {251} تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ {252} } [البقرة: 250-252] قوله: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ} [البقرة: 250] أي: خرجوا لقتال جالوت، {وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} [البقرة: 250] الإفراغ: الصب، يقال: أفرغت الإناء، إذا صببت ما فيه.
والمعنى: اصبب علينا الصبر أتمَّ صبٍّ وأبلغَه، وثبت أقدامنا بتقوية قلوبنا، وانصرنا وأحسن معونتنا، {عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] يريدون: جالوت وجنوده.
قوله: فهزموهم هذه الآية تتصل بما قبلها بتقدير محذوف، كأنه قيل: فأنزل الله صبرا ونصرا فهزموهم.
أي: كسروهم، ومعنى الهزم في اللغة: الكسر، يقال: هزمت العظم القصبة هزما، إذا كسرته.
{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} [البقرة: 251] وكان عبر النهر مع طالوت، رمى جالوت بحجر من مقلاعه فوقع بين عينيه فخرج من قفاه، فخر قتيلا، {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة: 251] جمع له بين الملك والنبوة، قال ابن عباس: يعني: بعد طالوت.
{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: 251] يعني: صنعة الدروع، والتقدير في السرد، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251] قال ابن عباس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطهم لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين، وخربوا البلاد والمساجد.
وقال سائر المفسرين: لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار لفسدت الأرض بمن فيها.
يدل على هذا ما
116 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،(1/361)
حَدَّثَنَا أَبُو حُمَيْدٍ الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةِ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلاءَ» ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]
قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251] حيث لم يهلكهم ولم يؤاخذهم عاجلا بعقوبة جناياتهم.
قوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ} [البقرة: 252] أي: هذه الآيات التي أنبأتك بها آيات الله، أي: علاماته التي تدل على توحيده، نتلوها عليك نقرأها عليك على لسان جبريل، بالحق أي: بالصدق، {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] أي: أنت من هؤلاء الذين قصصت آياتهم، لأنك قد أعطيت مثل ما أعطوا وزيادة.
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ(1/362)
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {253} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ {254} } [البقرة: 253-254] قوله: تلك الرسل يعني جماعتهم، {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] أي: أنهم لا يسوى بينهم في الفضيلة وإن استووا في القيام بالرسالة.
وروى أبو سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «لا تخيروا بين الأنبياء» .
وفي هذا نهي عن الخوض في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، فنستفيد من الآية معرفة أنهم متفاوتون في الفضيلة، وننتهي عن الكلام في ذلك لنهيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253] يعني موسى، {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] قال مجاهد: أرسل الله محمدا إلى الناس كافة.
وقال الزجاج: ليس شيء من الآيات التي أعطاها الأنبياء إلا وقد أعطى محمدا عليه السلام وأكثر.
وقال الربيع بن خيثم: لا نفضل على نبينا أحدا ولا نفضل على خليل الله أحدا.
وقوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253] تقدم فيما سبق تفسير هذا، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253] يعني: من بعد الرسل، {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 253] يعني: من بعد ما وضحت لهم البراهين، {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ} [البقرة: 253] ثبت على إيمانه، {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253] كالنصارى بعد المسيح، اختلفوا فصاروا فرقا ثم تحاربوا، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253] كرر المشيئة باقتتالهم تأكيدا للأمر، وتكذيبا لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لم يَجْرِ به قضاءٌ من الله تعالى ولا قدر، ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] فيوفق من يشاء فضلا، ويخذل من يشاء عدلا.
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254] قال الحسن: أراد الزكاة المفروضة.
وقال أبو(1/363)
إسحاق: أي: أنفقوا في الجهاد وليعن بعضكم بعضا.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ} [البقرة: 254] يعني يوم القيامة، يريد: لا يؤخذ في ذلك اليوم بدل ولا فداء، فذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل، ولا خلة والخلة: مصدر الخليل، والخلة تنقطع يوم القيامة بين الأخلاء إلا المتقين، كقوله: {الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] ، وقوله: ولا شفاعة إنما نفى الشفاعة عاما، لأنه أراد الكافرين، بأن هذه الأشياء لا تنفعهم، ألا ترى أنه قال: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] ؟ أي: هم الذين وضعوا أمر الله غير موضعه.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] :
117 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ.
أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ السُّكَّرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ(1/364)
سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي السَّلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، حَتَّى أَعَادَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قُلْتُ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] قَالَ: فَضَرَبَ عَلَى صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ "، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ
118 - أَخْبَرَنَا مَسْعُودُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُعَاذٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُوَيْهِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُوسَى الْغُنْجَارُ، عَنِ ابْنِ كَيْسَانَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ خَرَجَ، يَعْنِي: عُمَرَ، ذَاتَ يَوْمٍ، وَالنَّاسُ سِمَاطَانِ،(1/365)
فَقَالَ: يَأَيُّهَا النَّاسُ أَيُّكُمْ يُخْبِرُنِي بِأَعْظَمِ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمُ ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَكَانَ قَدْ جَاءَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هَهُنَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَدَنَا مِنْهُ، قَالَ: هَلْ أَنْتَ مُخْبِرِي بِأَعْظَمِ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] إِلَى آخِرِهَا
119 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رُزَيْقٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ خَرَقَتْ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فَلَمْ يَلْتَئِمْ خَرْقُهَا حَتَّى يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَى قَائِلِهَا فَيَغْفِرَ لَهُ، ثُمَّ يَبْعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيَكْتُبَ حَسَنَاتِهِ وَيَمْحُوَ سَيِّئَاتِهِ إِلَى الْغَدِ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ»
وقوله: الله رفع بالابتداء، وما بعده خبره، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [البقرة: 255] نفي إله سواه توكيد وتحقيق لإلهيته، لأن قولك: لا كريم إلا زيد.
أبلغ من قولك: زيد كريم.(1/366)
والحي: من له الحياة، وهي صفة تخالف الموت، وذا الجمادية، ومعنى الحي في صفة الله: الدائم البقاء، والقيوم: مبالغة من القائم، قال مجاهد: القيوم: القائم على كل شيء، وتأويله: أنه قائم بتدبير أمر الخلق في إنشائهم وأرزاقهم.
وقال الضحاك: القيوم: الدائم الوجود.
وقال أبو عبيدة: الذي لا يزول الاستقامة وصفٌ بالوجود حيث لا يجوز عليه التغير بوجه من الوجوه.
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] السنة: ثقل النعاس، وهو مصدر، يقال: وسن يوسن سنة ووسنا.
والنوم: الغشية الثقيلة التي تهجم على القلب فتقطعه عن معرفة الأمور.
وقال الفضل: السنة في الرأس والنوم في القلب.
والمعنى: أنه لا يغفل عن تدبير الخلق والعلم بالأشياء.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] استفهام معناه: الإنكار والنفي أي: لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وأمره، وذلك أن المشركين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم، فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة عنده لأحد إلا بإذنه، يعني: شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعة بعض المؤمنين لبعض.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة: 255] قال مجاهد وعطاء والسدي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 255] من أمر الدنيا، وما خلفهم من أمر الآخرة.
وقال الضحاك والكلبي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 255] يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها، وما خلفهم الدنيا، لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم.
وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئا أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به.(1/367)
من علمه أي: من معلومه، والمفعول يسمى بالمصدر.
وقوله: {إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] إلا بما أنبأ به الأنبياء، ليكون دليلا على ثبوت نبوتهم، قال ابن عباس: يريد: ما أطلعتهم على علمه.
وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] يقال: وسع فلان الشيء يسعه سعة، إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به.
ويقال: لا يسعك هذا.
أي: لا تطيقه ولا تحتمله.
وأما الكرسي فقال ابن عباس في رواية عطاء والسدي: إنه الكرسي بعينه وهو لؤلؤ، وما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
والمعنى: إن كرسيه مشتمل بعظمه على السموات والأرض.
قال أبو إسحاق الزجاج: وهذا القول بين، لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة هو الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه، وهذا يدل على أن الكرسي عظيم، عليه السموات والأرضون.
وقال بعضهم: كرسيه: سلطانه وملكه، ويكنى عن الملك بالكرسي.
وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: وسع علمه السموات والأرض.
وقال أبو إسحاق الزجاج: الله أعلم بحقيقة الكرسي، إلا أن جملته أنه أمر عظيم من أمره.
وقوله: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] أي: لا يثقله ولا يجهده، يقال: آده يئوده أودا، إذا أثقله.
وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] يقال: علا يعلو علوا فهو عالٍ وعليٌّ.
مثل: عالم وعليم، وسامع وسميع، فالله تعالى علي بالاقتدار ونفوذ السلطان، وعلي عن الأشباه والأمثال، يقال: علا فلان عن هذا، إذا كان أرفع محلا عن(1/368)
الوصف به.
فمعنى العلو في وصف الله تعالى: اقتداره وقهره واستحقاقه صفات المدح.
والعظيم معناه: أنه عظيم الشأن، لا يعجزه شيء ولا نهاية لمقدوره ومعلومه.
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {256} اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {257} } [البقرة: 256-257] قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم: معنى الآية: لا إكراه في الدين بعد إسلام العرب، وذلك أن العرب كانت أمة أمية، لم يكن لهم دين ولا كتاب، فلم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأكرهوا على الإسلام، ولم تقبل منهم الجزية، فلما أسلموا ولم يبق منهم أحد إلا دخل في الإسلام طوعا أو كرها أنزل الله هذه الآية، فلا يكره على الإسلام أهل الكتاب، فإذا أقروا بالجزية تركوا.
وقوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] أي: ظهر الإيمان من الكفر، والهدى من الضلالة، بكثرة الحجج والآيات الدالة.
والرشد: إصابة الحق، ويراد ههنا: الإيمان، من الغي يقال: غوى يغوي غيا وغواية، إذا سلك خلاف طريق الرشد.
قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة: 256] قال جميع أهل اللغة: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، يكون واحدا وجمعا، ومؤنثا ومذكرا، وهو في الأصل مصدر نحو الرغبوت والرهبوت.
قال ابن عباس والمفسرون: الطاغوت: الشيطان.
وقيل: الأصنام.
وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256] استمسك بالشيء: إذا تمسك به، والعروة: جمعها عرى، وهي نحو عروة الدلو الكوز، والوثقى: تأنيث الأوثق.(1/369)
قال عطاء، عن ابن عباس: العروة الوثقى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وصدق.
وقال مجاهد: هي الإيمان.
وقوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] الفصم: كسر الشيء من غير إبانة، يقال: فصمته فانفصم.
قال ابن عباس: لا انقطاع لها دون رضا الله ودخول الجنة.
والله سميع لدعائك يا محمد بإسلام أهل الكتاب، عليم بحرصك واجتهادك.
قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] أي: معينهم وناصرهم ومتولي أمورهم، والذي يقرب منهم بالعون والنصرة.
وقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] أي: من الكفر والضلال إلى الإيمان والهداية، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة: 257] يعني: رؤساء الضلالة، مثل كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، {يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] يعني اليهود، وكانوا مؤمنين بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث، لما يجدونه في كتابهم، فلما بعث جحدوه وكفروا به.
وروى مجاهد، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: كان قوم آمنوا بعيسى وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى، فقال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ} [البقرة: 257] من كفر بعيسى إلى إيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] قال: من إيمان بعيسى إلى كفر بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ(1/370)
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة: 258] أي: هل انتهت رؤيتك يا محمد إلى من هذه صفته؟ وفي هذا تعجيب للمخاطب، وحاج: جادل وخاصم، وهو نمروذ بن كنعان.
وقوله: {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258] أي: لأن آتاه الله، يريد: بطر الملك حمله على محاجة إبراهيم.
قال ابن عباس: إن إبراهيم دخل بلدة نمروذ ليمتار، فأرسل إليه نمروذ، وقال: من ربك؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ} [البقرة: 258] نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] أقتل من شئت، وأستحيي من شئت.
فسمى ترك القتل إحياءً، وعارضه في الحجة بالعبارة دون فعل حياة أو موت على سبيل الاختراع.
وقرأ نافع أنا بإثبات ألف بعد النون، وذلك إنما يجوز في الوقف دون الوصل، ولكنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وأثبت الألف كما أنشد الكسائي:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... حميد قد تذريت السناما
فاحتج إبراهيم بحجة مسكتة، لا يمكنه أن يقول: أنا أفعل ذلك.
وهو قوله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] أي: تحير، أو سكت وانقطعت حجته، يقال: بهت الرجل فهو مبهوت، إذا تحير.
قال عروة:
فما هو إلا أن رآها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب(1/371)
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] لا يجعل جزاءهم على ظلمهم أن يهديهم.
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] قال أكثر المفسرين: هو عزير، والقرية هي إيليا، وهي بيت المقدس، أتى عليها عزير بعد أن خربها بخت نصر البابلي.
وقوله: وهي خاوية أي: ساقطة متهدمة، يقال: خوى الحائط، إذا تهدم.
وهو أن ينقلع من أصله، ومنه قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] أي: منقلعة من أصولها.
وقوله: على عروشها أي: على سقوفها، وذلك أن الحيطان كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها، ثم انقلعت الحيطان فتساقطت على السقوف.
وقوله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] أي: أنى يعمرها بعد خرابها؟ استبعد أن يفعل الله ذلك، على معنى(1/372)
أنه لا يفعله، فأحب الله تعالى أن يريه آية في نفسه وفي إحياء القرية، {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ} [البقرة: 259] وذلك أنه نام فنزع الله منه الروح مائة عام، وكان معه حمار وتين وعصير، فأمات الله حماره أيضا، فلما مضت مائة سنة أحيا الله تعالى منه عينيه، وسائر جسده ميت، ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره، فإذا عظامه بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا.
فكان كذلك، ثم قام بإذن الله ونهق، فذلك قوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} [البقرة: 259] أي: كم أقمت ومكثت ههنا؟ {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259] وذلك أن الله تعالى أماته ضحى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل أن تغيب الشمس، فقال: {لَبِثْتُ يَوْمًا} [البقرة: 259] وهو يرى أن الشمس قد غربت، ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة: 259] بمعنى: بل بعض يوم، {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} [البقرة: 259] يعني التين، وشرابك يعني العصير، {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] لم يتغير ولم ينتن بعد مائة سنة، والتسنه: التغير.
وقال: قرأ لم يتسن بغير هاء، أخذه من التسني، وهو التغير أيضا بمر السنين عليه.
قال ابن عباس: نظر إلى التين فإذا هو كما اجتناه، ونظر إلى العصير فإذا هو كهيئته لم يتغير.
وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} [البقرة: 259] أراه الله علامة مكثه مائة سنة ببلى عظام حماره.
قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 259] قال المفسرون: جعله الله آية للناس بأن بعثه شابا أسود الرأس واللحية، وبنو بنيه شيب.(1/373)
وقوله: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ} [البقرة: 259] يعني: عظام حمارك، كيف ننشرها أي: نحييها، يقال: أنشر الله الميت.
قال الله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22] ، وقرأ حمزة والكسائي ننشزها بالزاي، من الإنشاز وهو الرفع.
يقال: أنشزته فنشز.
أي: رفعته فارتفع، ويقال لما ارتفع من الأرض: نشز.
ومعنى الآية: كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أمكانها من الجسد ونركب بعضها على بعض.
وقوله: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] أي: قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه غيبا.
وقرأ حمزة قال اعلم مجزوما موصولا على لفظ الأمر، كأنه أمر نفسه بذلك.
ويجوز أن يكون الله تعالى قال له: اعلم أن الله على كل شيء قدير.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] قال أكثر المفسرين: رأى إبراهيم جيفة بساحل البحر تتناولها السباع والطير ودواب البحر، ففكر كيف يجتمع ما قد تفرق من تلك الجيفة، وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] فقال الله عز وجل: أولم تؤمن وهذه الألف للإيجاب والتقرير، يعني: أولست قد آمنت؟ {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] برؤية ما أحب وأشتهي مشاهدته،(1/374)
قال الحسن: كان إبراهيم موقنا بأن الله عز وجل يحيي الموتى، ولكن لا يكون الخبر عند ابن آدم كالمعاينة.
وقال سعيد بن جبير: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] : لأزداد إيمانا.
قال الله تعالى: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة: 260] قال ابن عباس: أخذ طاوسا ونسرا وديكا وغرابا.
{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260] قال أكثر أهل اللغة والتفسير: وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد: قطعهن.
يقال: صار الشيء يصوره صورا، إذا قطعه.
وقرأ حمزة بكسر الصاد، قال الأخفش: يقال: صاره يصيره، إذا قطعه.
وتقدير الآية: خذ إليك أربعة من الطير فصرهن.
{ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} [البقرة: 260] قال المفسرون: أمره الله تعالى أن يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض، ثم يجزئهن أربعة أجزاء على أربعة أجبل، ففعل(1/375)
ذلك إبراهيم، وأمسك رءوسهن عنده، ثم دعاهن: تعالين بإذن الله.
فجعلت أجزاء الطيور يطير بعضها إلى بعض، ثم أتينه سعيا على أرجلهن، وتلقى كل طائر رأسه، فذلك قوله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ} [البقرة: 260] لا يمتنع عليه ما يريد، حكيم فيما يدبر ويفعل.
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261} الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {262} } [البقرة: 261-262] قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 261] الآية، هذا حث على الإنفاق في الجهاد، ووعد من الله تعالى لمن أنفق في سبيله أن الواحد يضاعف له بسبعمائة، وهو قوله: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] :
120 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي رُشَيْدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْوَاعِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْمَاعِيلَ الْمُؤَدِّبُ، عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رَبِّ زِدْ أُمَّتِي، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10](1/376)
وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] أي: من أهل النفقة في طاعة الله، والله واسع جواد لا ينقصه ما يتفضل به، عليم بمن ينفق.
قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} [البقرة: 262] المن: الاعتداء بالصنيعة وذكرها.
قال المفسرون: المن المذكور في هذه الآية: هو أن يقول: قد أحسنت إلى فلان ونعشته، وجبرت حاله وأغنيته.
يمن بما فعل.
والأذى: هو أن يذكر إحسانه لمن لا يحب الذي أحسن إليه وقوفه عليه، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيه.
قال قتادة: علم الله أن ناسا يمنون بعطائهم، فكره ذلك وتقدم فيه فمن فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ {263} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {264} } [البقرة: 263-264] قول معروف أي: كلام حسن، ورد على السائل جميل، وقال عطاء: عدة حسنة.
ومغفرة أي: تجاوز عن السائل إذا استطال عليه عند رده، {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] أي: من وتعيير للسائل بالسؤال، والله غني عن صدقة العباد، حليم إذ لم يعجل بالعقوبة على من يمن ويؤذي بصدقته.
قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ} [البقرة: 264] أي: ثواب صدقاتكم، بالمن هو أن يمن بما أعطى، وقال الكلبي: بالمن على الله في صدقته.
{وَالأَذَى} [البقرة: 264] لصاحبها، {كَالَّذِي يُنْفِقُ} [البقرة: 264] أي: كإبطال الذي ينفق، ماله وهو المنافق، أنفق ماله من غير إيمان ولا احتساب، رئاء الناس يرائي الناس بصدقته، ولا(1/377)
يرجو ثوابا لها.
والرئاء: فعال من المراءاة، كما يقال: قتال ومقاتلة، والهمزة فيه عين الفعل، فمثله أي: مثل هذا المنافق المرائي، {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} [البقرة: 264] وهو الحجر الأملس، {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} [البقرة: 264] وهو المطر الشديد، يقال: وبلت السماء تبل وبلا.
{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} [البقرة: 264] وهو الأملس اليابس، يقال: حجر صلد، وجبين صلد، إذا كان براقا أملس.
وهذا مثل ضربه الله لعمل المرائي وعمل المان المؤذي، يري الناس في الظاهر أن له عملا، كما يرى التراب على هذا الحجر، فإذا كان يوم القيامة بطل عمله، لأنه لم يكن لله، كما أذهب المطر ما كان على الحجر من التراب، فلا يقدر أحد على ذلك التراب الذي أزاله المطر عن الحجر، وهو قوله: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: 264] أي: على ثواب شيء، مما كسبوا أي: لا يؤجرون على ما أنفقوا ولا يجدون ثواب ما عملوا، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] أي: لا يجعل جزاءهم على كفرهم أن يهديهم.
ثم ضرب مثلا لمن ينفق، يريد ما عند الله ولا يمن ولا يؤذي، فقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {265} أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ {266} } [البقرة: 265-266] {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 265] طلبا لرضا الله، {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 265] قال(1/378)
السدي وابن زيد: يقينا.
وقال الشعبي والكلبي: يعني: تصديقا من أنفسهم.
قال الزجاج: ينفقونها مقرين بأنها مما يثيب الله عليها.
{كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] وهي ما ارتفع من الأرض.
وقرئ بفتح الراء، وهما لغتان.
{أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة: 265] وهو المطر الشديد، {فَآتَتْ} [البقرة: 265] أدت وأعطت، أكلها ما يؤكل منها، ومنه قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] والضم والتخفيف لغتان، قال المفسرون: أكلها: ثمرها.
وقوله: ضعفين قال ابن عباس: حملت في سنة من الريع ما تحمل غيرها في سنتين.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة: 265] أي: وأصابها طل، وهو المطر اللين الصغير القطر.
يقال: طلت السماء تطل طلا فهي طلة، وطلت الأرض فهي مطلولة.
والمعنى: فأصابها طل، فتلك حالها في إيتاء الثمر وتضاعفه، لا ينقص بالطل عن مقداره بالوابل، يقول: كما أن هذه الجنة تثمر في كل حين، ولا تخيب صاحبها، قل المطر أو كثر، كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص، قلت نفقته أو كثرت.
قال قتادة: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خلف كما ليس لخير الجنة خلف علي أي حال، إن أصابها وابل وإن أصابها طل.(1/379)
قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} [البقرة: 266] الآية، قال مجاهد: هذا مثل للمفرط في طاعة الله تعالى المشتغل بملاذ الدنيا، يحصل في الآخرة على الحسرة العظمى.
وقال ابن عباس: هذا مثل للذي يختم عمله بفساد وكان يعمل عملا صالحا، فمثله كمثل رجل كانت له جنة {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} [البقرة: 266] فضعف عن الكسب، وله أطفال صغار لا ينفعونه، وهو قوله: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} [البقرة: 266] وهي ريح ترتفع وتستدير نحو السماء كأنها عمود، {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266] جنته، أحوج ما كان إليها عند كبر سنه وضعف الحيلة، وكثرة العيال، وطفولة الولد، فبقي هو وأولاده عجزة متحيرين، لا يقدرون على حيلة، كذلك يبطل الله عمل المنافق والمرائي حين لا توبة لهما، ولا إقالة من ذنوبهما.
121 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا وَجَدْتُ أَحَدًا يَشْفِينِي مِنْ هَذِهِ الآيَةِ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنِّي لأَجِدُ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ، لِمَ تُحَقِّرَ نَفْسَكَ؟ تَحَوَّلْ هَهُنَا، فَقَامَ فَأَجْلَسَهُ، فَقَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ، فَقَالَ: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ عُمْرُهُ كُلُّهُ للَّهِ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَى أَنْ يَخْتِمَ عَمَلَهُ بِخَيْرٍ، حِينَ فَنِيَ عُمْرُهُ، وَاقْتَرَبَ أَجَلُهُ، عَمِلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَخَتَمَ بِهِ عَمَلَهُ، فَأَفْسَدَ ذَلِكَ عَمَلَهُ كُلَّهُ، كَمَا لَوْ كَانَ لأَحَدِكُمْ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، فَأَتَتْهَا نَارٌ فَأَحْرَقَتْهَا، فَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِهَذَا(1/380)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ {267} الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {268} يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ {269} } [البقرة: 267-269] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] قال مجاهد: يعني التجارة، والمعنى: أنفقوا، أي: أدوا الزكاة.
ما كسبتم بالتجارة والصناعة من الذهب والفضة، {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] يعني: الحبوب مما تجب فيه الزكاة، {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] التيمم: القصد والتعمد، يقال: أممته وتيممته ويممته.
أي: قصدته.
قال المفسرون: كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} [البقرة: 267] يقول: لا تقصدوا إلى الرديء من أموالكم فتنفقونه في سبيل الله.
وقراءة العامة: ولا تيمموا مخففة التاء، وعلى حذف إحدى التاءين، لأن الأصل: لا تتيمموا، وقرأ ابن كثير: مشددة التاء على الإدغام.
وقوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} [البقرة: 267] أي: يأخذ ذلك الرديء الخبيث لو كان لكم على إنسان حق، {إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] والإغماض في اللغة: غض البصر وإطباق جفن على جفن، ثم صار عبارة عن التسامح والتساهل في البيع وغيره.
يقول: أنتم لا تأخذونه إلا بتساهل، فكيف تعطونه في الصدقة؟(1/381)
وفي هذا بيان أن الفقراء شركاء رب المال في ماله، فإذا كان ماله جيدا فهم شركاؤه في الجيد، والشريك لا يأخذ الرديء من الجيد إلا بالتساهل.
122 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ نَصْرٍ الْحَذَّاءُ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحِميِد بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ أَبِي عُرَيْبٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ فِي الْمَسِجِد، وَبِيَدِهِ عَصًا، وَقَدْ عَلَّقَ رَجُلٌ مِنَّا قِنْوَ حَشَفٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْعَنُ الْقِنْوَ بِالْعَصَا، وَيَقُولُ: " لَوْ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا، أَوْ قَالَ: رَبَّ هَذَا، تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَطْيَبَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا يَأْكُلُ الْحَشَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "(1/382)
وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [البقرة: 267] أي: عن صدقات الناس، حميد على إحسانه وإنعامه.
قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] أي: يخوفكم بالفقر على إنفاق المال والتصدق به.
يقول: أمسك مالك فإنك إن تصدقت افتقرت.
{وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] أي: البخل ومنع الزكاة.
والله يعدكم أي: يجازيكم على صدقاتكم، مغفرة منه لذنوبكم، وفضلا وهو أن يخلف عليكم ما أنفقتم، والله واسع الفضل لمن أنفق، عليم بمن ينفق ومن لا ينفق.
قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269] قال ابن عباس والمفسرون: يعني القرآن والفهم فيه.
وقال الحسن: يعني الورع في دين الله.
{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] قال مجاهد: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه.
{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] أي: ما يتعظ إلا ذوو العقول.
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {270} إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {271} } [البقرة: 270-271] قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ} [البقرة: 270] يعني: ما أديتم من زكاة مفروضة، {أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ} [البقرة: 270] يعني: تطوعتم بصدقة، والنذر: ما يلتزمه الإنسان لله بإيجابه على نفسه، وكل ما نوى الإنسان أن يتطوع به فهو نذر.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] أي: يجازي به، فدل بذكر العلم على تحقيق الجزاء، وعادت الكناية في قوله: يعلمه إلى ما في قوله: وما أنفقتم لأنها اسم.(1/383)
وقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] وعيد لمن أنفق في غير الوجه الذي يجوز له، من رياء أو معصية أو من مال مغصوب مأخوذ من غير وجهه.
والأنصار: جمع نصير، بمعنى ناصر، يعني: لا أحد ينصرهم من عذاب الله.
قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] قال ابن عباس: نزلت لما سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: صدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ قوله: فنعما هي أي: فنعم شيئا ابداؤها، وقراءة العامة فنعما بفتح النون وكسر العين، لأن أصل نعيم: نعم، كما قال طرفة:
نعم الساعون في الأمر المبر
وقرأ نافع فنعما بكسر النون والعين، أتبع العين النون في الكسر حذارا من الجمع بين ساكنين.
وقرأ أبو عمرو بكسر النون وجزم العين، واختاره أبو عبيد وقال: هي لغة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله لعمرو بن العاص: «(1/384)
نعما بالمال الصالح للرجل الصالح» .
هكذا روي الحديث بسكون العين.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالصدقات في هذه الآية: التطوع، لا الفرض، لأن الفرض إظهاره أفضل من كتمانه، والتطوع كتمانه أفضل، وهو قوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] قال ابن عباس في رواية الوالبي: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بسبعين ضعفا.
وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها.
وقال قتادة: كلٌّ مقبول إذا كانت النية صالحة، وصدقة السر أفضل، وقوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] التكفير معناه: التغطية والستر، يقال: كفر عن يمينه.
أي: ستر ذنب الحنث بما بذل من الصدقة.
والكفارة: الساترة لما حصل من الذنب.
وقرئ ونكفر بالجزم، عطفا على قوله: من سيئاتكم من ههنا: صلة للكلام، يريد: جميع سيئاتكم.
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ {272} لِلْفُقَرَاءِ(1/385)
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ {273} } [البقرة: 272-273] قوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] :
123 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَرْثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَصَدَّقُوا إِلا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الأَدْيَانِ»
وبهذا الإسناد، عن سهل، حدثنا ابن نمير، عن الحجاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، قال: كان المسلمون يكرهون أن يتصدقوا على فقراء المشركين حتى نزلت هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272] فأمروا أن يتصدقوا عليهم.(1/386)
قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين جاءت قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إليها تسألها، وكذلك جدتها، وهما مشركتان، فقالت: لا أعطيكما حتى أستأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنكما لستما على ديني.
فاستأمرته في ذلك فأنزل الله هذه الآية، فأمرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تتصدق عليهما.
وهذا في صدقة التطوع، أباح الله أن يتصدق على الملي والذمي، فأما الفرض فلا يجوز أن يتصدق به إلا على المسلمين.
ومعنى الآية: ليس عليك هدى من خالفك، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، حاجة منهم إليها.
وأراد بالهدى ههنا: هدى التوفيق، وخلق الهداية، لأنه كان على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدى البيان والدعوة لجميع الخلق.
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272] قال ابن عباس: يريد أولياءه.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] من مال، وهو شرط، وجوابه: {فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] ظاهر خبر، وتأويله: نهي، أي: ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ، و {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
وفي ذكر الوجه في قوله تعالى: {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272] قولان: أحدهما: أن المراد منه تحقيق الإضافة، لأن ذكر الوجه يرفع الإيهام أنه له ولغيره، وذلك أنك لما ذكرت الوجه، ومعناه: النفس، دل على أنك تصرف الوهم عن الاشتراك إلى تحقيق الاختصاص، فكنت بذلك محققا للإضافة ومزيلا لإيهام الشركة.(1/387)
القول الثاني: أنك إذا قلت: فعلته لوجه زيد.
كان أشرف في الذكر من: فعلته له.
لأن وجه الشيء في الأصل أشرف ما فيه، ثم كثر حتى صار يدل على أشرف الذكر من غير تحقيق وجه، ألا ترى أنك تقول: وجه الدليل، ووجه الرأي، ووجه الأمر.
فلا تريد تحقيق الوجه، وإنما تريد أشرف ما فيه من جهة شدة ظهوره وحسن بيانه؟ قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] يوف لكم جزاؤه، والتوفية: إكمال الشيء، قال ابن عباس: يجازيكم به في الآخرة.
وإنما حسن إليكم مع التوفية، لأنها تضمنت معنى التأدية، {وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا، كقوله: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] يريد: لم تنقص.
كقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] الآية، قال ابن عباس في رواية الكلبي: هم أهل الصفة، صفة مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم نحو من أربع مائة رجل، لم يكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر يأوون إليهم، فجعلوا أنفسهم في المسجد وقالوا: نخرج في كل سرية يبعثها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبيل الله.
فحث الله الناس على الصدقة عليهم، وكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
واللام في قوله: للفقراء متعلق بمحذوف، وتأويله: هذه الصدقات أو النفقة للفقراء، وقد تقدم ما يدل عليه لأنه سبق ذكر الإنفاق والصدقات.
قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: عاقل لبيب، إذا تقدم وصف رجل.
والمعنى: الموصوف عاقل لبيب.
وقوله: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] تفسير الإحصار قد تقدم عند قوله: فإن أحصرتم قال قتادة: صبروا أنفسهم في سبيل الله، أي: في طاعته للغزو، فلا يتفرغون إلى طلب المعاش.
وقال سعيد بن المسيب: هؤلاء قوم أصابتهم جراحات مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاروا زمني، فأحصرهم المرض والزمانة عن الضرب في الأرض.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله، فعذرهم الله فقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 273] يريد: الجهاد.(1/388)
يقال: ضربت في الأرض ضربا، إذا سرت فيها.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] ، وهؤلاء إنما لا يستطيعون الضرب في الأرض لأن الفقر منعهم عن جهاد العدو على قول ابن عباس.
وعلى قول سعيد بن المسيب: الزمانة.
وعلى قول قتادة: لأنهم ألزموا أنفسهم أمر الجهاد، فمنعهم ذلك عن التصرف للمعاش.
وقوله: يحسبهم الجاهل يقال: حسبت الشيء أحسبه وأحسبه.
بالكسر والفتح، وقرئ بالوجهين في القرآن ما كان من مضارع حسب، والفتح أقيس عند أهل اللغة، لأن الماضي إذا كان فعل كان المضارع على يفعل، والكسر شاذ وهو حسن لمجيء السمع به.
وقوله: الجاهل: لم يرد الجهل الذي هو ضد العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبرة، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم.
{أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] وهو ترك السؤال، يقال: عف عن الشيء، وتعفف عنه، إذا تركه.
ومنه قول رؤبة:
فعف عن أسرارها بعد العسق
أي: تركها.
وقوله: تعرفهم بسيماهم السيما، والسيماء، والسيمياء: العلامة التي يعرف بها الشيء، قال مجاهد: سيماهم التخشع.
وقال الربيع والسدي: أثر الجهد من الحاجة والفقر.
وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع.
وقال ابن زيد: رثاثة ثيابهم.(1/389)
وقوله: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] الإلحاف: هو الإلحاح في المسألة، قال الزجاج: معنى ألحف: شمل بالمسألة.
واللحاف سمي لحافا لأنه يشمل الإنسان، فالملحف الذي يشمل سؤاله كل أحد، ويشمل وجوه الطلب، هذا هو الأصل، ثم يسمى من سأل مع الاستغناء: ملحفا.
124 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا»
قال ابن عباس في قوله: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] يقول: إذا كان عنده غداء لم يسأل عشاء، وإذا كان عنده عشاء لم يسأل غداء.
وأكثر أهل المعاني الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا: هذا نفي للسؤال أصلا، فهم لا يسألون الناس إلحافا، ولا غيرَ إلحافٍ، لما وصفوا به من التعفف.
قالوا: والمعنى: ليس منهم سؤال فيكون إلحافا، كما قال الأعمش:
لا يغمز الساق من أين ولا وصب ... ولا يعض على شرسوفه الصفر
معناه: ليس بساقه أين ولا وصب فيغمزها، ليس أن هناك أينا ولا يغمز.
125 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنِي حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:(1/390)
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمِسْكِينَ لَيْسَ الطَّوَافُّ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَالأَكْلَةُ وَالأَكْلَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلا يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا»
126 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ (فَيَبِيعَهَا) فَيَكُفَّ (اللَّهُ) بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ (أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ) »
{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [البقرة: 274] الآية، قال ابن عباس، في رواية الكلبي، وفي رواية مجاهد عنه: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لم يكن يملك غير أربعة دراهم،(1/391)
فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فأنزل الله هذه الآية.
127 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ الْجُرْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ، فَأَنْفَقَ بِاللَّيْلِ وَاحِدًا، وَبِالنَّهَارِ وَاحِدًا، وَفِي السِّرِّ وَاحِدًا، وَفِي الْعَلانِيَةِ وَاحِدًا
وروى حنش بن عبد الله الصنعاني، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله، ينفقون عليها بالليل والنهار سرا وعلانية.
وروي ذلك مرفوعا:
128 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَلِيلُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي مَهْدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُرَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] فِي أَصْحَابِ الْخَيْلِ ".(1/392)
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَخْبِلُ أَحَدًا فِي بَيْتِهِ فَرَسٌ عَتِيقٌ مِنَ الْخَيْلِ»
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {275} يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ {276} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {277} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {278} فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ {279} وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ {280} وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {281} } [البقرة: 275-281] قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} [البقرة: 275] يريد: الذين يعاملون به، فنبه بالأكل على ما سواه، كما قال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى} [النساء: 10] .
والربا في اللغة: الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو ربا، وأربى الرجل، إذا عامل في الربا.
ومنه الحديث: «من أجبى فقد أربى» .
أي: عامل بالربا.
هذا معنى الربا في اللغة، وأما في الشرع: فهو اسم للزيادة على أصل المال من غير بيع.(1/393)
وقوله: لا يقومون يعني: يوم القيامة من قبورهم، {إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} [البقرة: 275] التخبط معناه: الضرب على غير استواء، ويقال للذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه: يخبط خبط عشواء.
ومنه قول زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
وتخبطه الشيطان: إذا مسه بخبل أو جنون، يقال: به خبطة من جنون.
وقوله: من المس المس: الجنون، يقال: مس الرجل فهو ممسوس وبه مس وألس.
وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، ثم سمي الجنون مسا، كما أن الشيطان يتخبطه برجله فيخبله، فسمي الجنون خبطة.
قال قتادة: إن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا، وذلك علم لأكله الربا يعرفهم به أهل الوقف.
وقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275] أي: ذلك الذي نزل بهم بقولهم هذا واستحلالهم إياه، وذلك أن المشركين قالوا: الزيادة على رأس المال بعد محل الدين كالزيادة بالربع في أول البيع.
وكان أحدهم إذا حل له مال على إنسان قال لغريمه: زدني في المال حتى أزيدك في الأجل.
فكذبهم الله عز وجل فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة: 275] أي: وعظ، قال السدي: يعني القرآن.
فانتهى عن أكل الربا، {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] أي: ما أكل من الربا، ليس عليه رده.
ومعنى سلف: تقدم ومضى، والسلوف: التقدم.(1/394)
{وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] أي: بعد النهي، إن شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء، وإن شاء خذله حتى يعود، ومن عاد إلى استحلال الربا، {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] قال أبو إسحاق الزجاج: هؤلاء الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا.
ومن اعتقد هذا فهو كافر.
129 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى بْنِ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا مَحْفُوظُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّبَا خَمْسًا: آكِلَهُ، وَمُوكِلَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَكَاتِبَهُ "
قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276] المحق: نقصان الشيء حالا بعد حال، ومنه المحاق في الهلاك، يقال: محقه الله فانمحق وامتحق.
قال المفسرون: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: 276] أي: ينقصه ويذهب بركته، وإن كان كثيرا كما يمحق القمر، وقال ابن(1/395)
عباس في رواية الضحاك: يعني: لا يقبل الله منه صدقة ولا جهدا ولا حجا، ولا صلاة.
ويربي الصدقات أي: يزيد فيها ويبارك عليها، قال عطاء، عن ابن عباس: ويربي الصدقات لصاحبها كما يربي أحدكم فصيله.
130 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ النَّاجِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ وَلا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلا الطَّيِّبَ، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مُهْرَهُ، أَوْ فَلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ»
وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] و {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] .
وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} [البقرة: 276] أي: بتحريم الربا لا يصدق الله ورسوله في ذلك، أثيم أي: فاجر بأكله، ومعنى لا يحبه الله: لا يثني عليه، ولا يثيبه، ولا يرضى فعله.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة: 277] تفسير هذه الآية قد تقدم فيما مضى.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] :(1/396)
131 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ لَهُمْ رِبَاهُمْ عَلَى النَّاسِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ.
وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ فَجَاءَ الإِسْلامُ، وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَجَاءُوا يَطْلُبُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَرَفَعَ ذَلِكَ بَنُو الْمُغِيرَةِ، إِلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَتَّابًا عَلَى مَكَّةَ، فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] إِلَى قَوْلِهِ: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ، فَكَتَبَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَتَّابٍ فَفَعَلُوا
ومعنى الآية: تحريم ما بقي دينا من الربا، وإيجاب أخذ المال دون الزيادة على جهة الربا.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] معناه: أن من كان مؤمنا فهذا حكمه، كما تقول: إن كنت أخي فأكثر مني.
معناه: أن من كان أخا أكرم أخاه.
قال الزجاج: أعلم الله أن من كان مؤمنا قبل عن الله تعالى أمره، ومن أبى فهو حرب، أي: كافر.
وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 279] أي: فإن لم تذروا ما بقي من الربا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] يقال: أذن بالشيء، إذا علم به.
يأذن أذنا وأذانة، قال أبو عبيدة: يقال: آذنته بالشيء فأذن به.
أي: علم.
والمعنى: فإن لم تضعوا الربا الذي قد أمر الله بوضعه عن الناس فاعلموا بحرب من الله ورسوله، وهي القتل في الدنيا والنار في الآخرة، أي: فأيقنوا أنكم تستحقون القتل والعقوبة بمخالفة أمر الله ورسوله.(1/397)
وقرأ حمزة وعاصم، في بعض الروايات فآذنوا ممدودا، أي: فاعلموا، من قوله: {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109] ، والمعنى: فأعْلِمُوا مَن لم ينتهِ عن ذلك بحربٍ، وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة.
قال سعيد بن جبير: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب.
وقوله وإن تبتم أي: عن الربا، {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وإنما شرط التوبة لأنهم إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله، وصار مالهم فيئا للمسلمين، فلا يكون لهم رءوس أموالهم.
وقوله: لا تظلمون أي: بطلب الزيادة، ولا تظلمون بالنقصان عن رأس المال.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال الإخوة المربون، يعني ثقيفا: بل نتوب إلى الله عز وجل، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله.
فرضوا برأس المال، وسلموا لأمر الله عز وجل، فشكا بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات.
فأبوا أن يؤخروا، فأنزل الله تعالى قوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] وكان ههنا بمعنى: وقع وحدث، أي: إن وقع غريم ذو عسرة، والعسرة: اسم من الإعسار، وهو تعذر الموجود من المال.
وقوله: فنظرة النظرة: اسم من الإنظار، وهو الإمهال، يقال: بعته بنظرة وبإنظار.
والمعنى: فالذي تعاملونه به نظرة، أي: تأخير، إلى ميسرة وهي مفعلة من اليسر الذي هو ضد العسر، وهو تيسر الموجود من المال، يقال: ميسرة وميسرة وميسور.
ومهما علم الإنسان أن غريمه معسر حرم عليه حبسه وملازمته ومطالبته بما له عليه، ووجب عليه الإنظار إلى وقت يساره.(1/398)
132 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَ أَبُو سَهْلٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحُسَيْنِ الزَّجَّاجُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْيُسْرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ»
133 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا أُعْسِرَ الْمُعْسِرُ، قَالَ لِفَتَاهُ: تَجَاوَزْ عَنْهُ فَلَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ حَرْمَلَةَ، وَعَنِ ابْنِ وَهْبٍ
وقوله: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] أعلم الله تعالى أن الصدقة برأس المال على المعسر خير وأفضل من انتظار يسره.
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] انتصب يوما على المفعول به، لا على الظرف، لأنه ليس المعنى: اتقوا في هذا اليوم، ولكن المعنى: تأهبوا للقاء هذا اليوم بما تقدمون من العمل الصالح، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 281] أي: جزاء ما كسبت من الأعمال، قال ابن عباس: يريد ثواب عملها خيرا بخير وشرا بشر.(1/399)
{وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] يريد: وهم لا ينقصون لا أهل الثواب ولا أهل العقاب، قال: وهذه الآية لجميع الخلق البر والفاجر.
134 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] قال ابن جريح: وعاش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول هذه الآية تسع ليال.
وقال سعيد بن جبير ومقاتل: سبع ليال.
قال ابن عباس: قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضعها على رأس ثمانين ومائتين من { [البقرة.
] يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {282} وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ(1/400)
بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ {283} } [سورة البقرة: 282-283] قوله {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: لما حرم الله تعالى الربا أباح السلم بهذه الآية.
والتداين: تفاعل، من الدين، ومعناه: تبايعتم بدين، والأجل معناه: الوقت المضروب لانقضاء الأمر، وأصله من التأخير، يقال: أجل الشيء يأجل أجولا، إذا تأخر.
والآجل: نقيض العاجل.
قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه.
ثم قرأ {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
أمر الله تعالى في الحقوق المؤجلة بالكتابة والإشهاد، وهو قوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] حفظا منه للأموال، وذلك أن الذي عليه الدين إذا كانت عليه الشهود والبينة قل تحدثه نفسه بالطمع في إذهابه، وهذا أمر ندب وإباحة، فإن كتب فحسن، وإن لم يكتب فلا بأس.
135 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوَب، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّهُ هَمٌّ بِاللَّيْلِ وَمَذَلَّةٌ بِالنَّهَارِ»
136 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَابَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حبَّانَ بْنِ(1/401)
الأَزْهَرِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فِرَاسٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ، فَقَالَ: «هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ بَنِي فُلانٍ إِنَّ صَاحِبَكُمْ مَحْبُوسٌ بِبَابِ الْجَنَّةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ»
137 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا عَيَّاشُ بْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى الدِّينِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِي
قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] أي: ليكتب كتاب الدين بين المستدين والمدين كاتب بالعدل،(1/402)
أي: بالحق والإنصاف، لا يكتب لصاحب الدين فضلا على الذي عليه، ولا ينقصه من حقه، ولا يقدم الأجل ولا يؤخره، ولا يكتب شيئا يبطل به حقا لأحدهما هذا هو العدل.
قوله: {وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ} [البقرة: 282] أي: لا يمتنع، يقال: أبى فلان الشيء يأباه، إذا امتنع عنه.
قال مجاهد والربيع: واجب على الكاتب أن يكتب إذا أمر، لأن الله تعالى أمره أن لا يأبى.
وقال الضحاك: كانت هذه عزيمة واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] .
وقوله: {كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282] أي: لا يأب أن يكتب كما أمره الله عز وجل من العدل.
وقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] الإملال والإملاء: لغتان، قال الفراء: أمللت: لغة الحجاز وبني أسد، وأمليت: لغة بني تميم وقيس، نزل القرآن باللغتين، قال الله تعالى في اللغة الثانية: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ} [الفرقان: 5] .
ومعنى الآية: أن الذي عليه الدين يملي، لأنه المشهود عليه، فيقر على نفسه بلسانه ليعلم ما عليه.
وقوله: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282] البخس: النقصان، يقال: بخسه حقه.
أي: نقصه، أمر من عليه الحق أن يقر بمبلغ المال الذي عليه ولا ينقص شيئا.
وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} [البقرة: 282] قال مجاهد: جاهلا بالإملاء.
وقال الضحاك والسدي: طفلا صغيرا.
أو ضعيفا قال السدي وابن زيد: يعني: عاجزا أحمق.
{أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} [البقرة: 282] لخرس أو عي أو جهل بما له وعليه، {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} [البقرة: 282] أي: ولي السفيه والعاجز والطفل، يعني: قيمه أو وارثه، أو من يقوم مقامه في حقه، بالعدل بالصدق والحق والإنصاف.(1/403)
وقوله: واستشهدوا أي: أشهدوا، {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] من أهل ملتكم من الأحرار البالغين دون الصبيان والعبيد، {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] قال الأخفش والفراء: فليكن رجل وامرأتان.
والإجماع: أن شهادة النساء جائزة في الأموال.
وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: يريد: من أهل الفضل والدين.
وقوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] أصل الضلالة في اللغة: الغيبوبة، يقال: ضل الماء في اللبن، إذا غاب.
ومعنى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] : أي تغيب عن حفظها، أو يغيب حفظها عنها، يعني إحدى المرأتين، {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] هذا من التذكير بعد النسيان، تقول لها: هل تذكرين يوم شهدنا في موضع كذا، وبحضرتنا فلان أو فلانة؟ حتى تذكر الشهادة.
والتقدير: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها.
ومن قرأ {فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] من الإذكار، فهو بهذا المعنى أيضا، يقال: أذكره الشيء وذكره.
مثل: فرحه وأفرحه، وهو كثير.
وقرأ حمزة إن تضل بكسر الألف، فتذكر بالرفع، وجعل إن للجزاء وتضل في موضع جزم، وحركت بالفتح لالتقاء الساكنين كقوله: من يرتد، والفاء في قوله: {فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] جواب الجزاء، كقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] .(1/404)
قوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] هذا في تحمل الشهادة، وكل من دعي ليتحمل الشهادة وجب عليه ترك الإباء في قول قتادة والربيع.
وقال الشعبي: هذا إذا لم يوجد غيره، فيتعين عليه الإجابة، فإن وجد غيره ممن يتحمل الشهادة فهو مخير.
وقال آخرون: هذا في إقامة الشهادة.
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد: إذا استودعته ثم احتجت إلى شهادته فلا ينبغي له أن يتخلف عنك حتى يأتي معك إلى الحاكم فيؤديها.
وهذا قول مجاهد والسدي وسعيد بن جبير وعكرمة.
وقوله: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] السآمة: الملال والضجر، يقال: سئمت الشيء أسأمة سأما وسآمة.
يقول: لا يمنعكم الضجر والملالة أن تكتبوا ما شهدتم عليه من الحق، صغر أو كبر، قل أو كثر.
{ذَلِكُمْ} [البقرة: 282] أي: الكتاب، أقسط أعدل، عند الله لأن الله أمر به، واتباع أمره أعدل من تركه، {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} [البقرة: 282] أي: أبلغ في الاستقامة، لأن الكتاب يذكر الشهود، فتكون شهادتهم أقوم من لو شهدوا على ظن ومخيلة.
قوله: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] أي: أقرب إلى أن لا تشكوا في مبلغ الحق والأجل.
وقوله: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] أي: إلا أن تقع تجارة حاضرة، {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] فلا جناح في ترك الإشهاد والكتابة فيه، لأن ما يخاف في النساء والتأجيل يؤمن في البيع يدا بيد.
وقرأ عاصم {تِجَارَةً حَاضِرَةً} [البقرة: 282] بالنصب، على تقدير: إلا أن تكون التجارةُ تجارةً حاضرةً، فأضمر الاسم لدلالة الخبر عليه، ومثله ما أنشد الفراء:(1/405)
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... إذا كان يوما ذا كواكب أشهبا
أي: إذا كان اليوم يوما.
وقوله {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ذكرنا أن هذا أمر ندب، وليس بواجب.
وقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] نهى الله الكاتب والشهيد عن المضارة، وهو أن يزيد الكاتب، أو ينقص منه، أو يحرف، وأن يشهد الشاهد بما لا يستشهد عليه، أو يمتنع عن إقامة الشهادة، وهذا قول طاوس والحسن وقتادة وابن زيد، وعلى هذا أصله: يضارر.
قال ابن عباس: هو أن يمتنع الكاتب أن يكتب، والشاهد أن يشهد.
وقال عكرمة: هو أن يدعى الكاتب والشاهد وهما مشغولان.
وقيل: هو أن يدعى الكاتب ليكتب الباطل، ويدعى الشاهد ليشهد الزور.
فعلى هذه الأقوال أصله: لا يضارر.
وإن تفعلوا يعني ما ذكر الله من المضارة، {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] أخبر الله تعالى أن مضارة الكاتب والشاهد فسق، أي: خروج عما أمر الله تعالى به.
قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا} [البقرة: 283] أمر الله تعالى عند عدم الكاتب في حال السفر بأخذ الرهون، ليكون وثيقة بالأموال، وهو قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] أي: فالوثيقة رهان، وهو جمع رهن، مثل: كلب وكلاب، وكعب وكعاب.(1/406)
وقرأ أبو عمرو فرهن مقبوضة وهو أيضا جمع رهن، مثل سقف وسقف، وأنشد أبو عمرو حجة لقراءته قول قعنب:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن ... وغلقت عندها من قبلك الرهن
والقبض شرط في صحة الرهن، حتى لو رهنه شيئا ولم يقبضه، لم يحكم بصحته.
قوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [البقرة: 283] أي: لم يخف خيانته وجحوده الحق، فلم يشهد عليه، {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] اؤتمن: افتعل، من الأمانة، يقال: أمنته وائتمنته فهو مأمون ومؤتمن.
أمر الله تعالى المؤتمن بأداء الأمانة وتقوى الله فيما أمن فيه من الحق، وهو قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] .
قوله: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] نهي لمن كانت عنده شهادة أن يكتمها ويمتنع من إقامتها، ثم أوعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] قال ابن عباس: يريد: قد أثم قلبه وفجر.
قال المفسرون: ذكر الله تعالى على كتمان الشهادة نوعا من الوعيد لم يذكره في سائر الكبائر، وهو إثم القلب.
ويقال: إثم القلب سبب مسخه، والله تعالى إذا مسخ قلبا جعله منافقا وطبع عليه، نعوذ بالله من ذلك.
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] قوله عز وجل: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 284] ملكا، وهو مالك أعيانه يملك تصريفه وتدبيره، {(1/407)
وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] قال ابن عباس، في رواية سعيد بن جبير وعطاء: هذه الآية منسوخة، وذلك أنها لما نزلت جاء أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وناس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: كلفنا من العمل ما لا نطيق، إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه، وأن له الدنيا.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فلعلكم تقولون كما قالت بنو إسرائيل: سمعنا وعصينا.
قولوا: سمعنا وأطعنا ".
فقالوا: سمعنا وأطعنا.
واشتد ذلك عليهم ومكثوا حولا، فأنزل الله تعالى الفرج والرحمة بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فنسخت هذه الآية ما قبلها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا به» .
وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة والقرظي وابن سيرين والكلبي وقتادة.
وقوله: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] قرئ رفعا وجزما، فمن جزم فبالعطف على ما قبله، على معنى جواب الشرط، وهو قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] ومن رفع فتقديره: فهو يغفر لمن يشاء، {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 284] أي: الأمر إليه في المغفرة والعذاب.
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ {285} لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ(1/408)
عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {286} } [البقرة: 285-286] قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة: 285] قال الزجاج: لما ذكر الله عز وجل في هذه ال { [فرض الصلاة والزكاة والطلاق والإيلاء والجهاد، ختم السورة بذكر تصديق نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين بجميع ذلك، وهو قوله:] كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [سورة البقرة: 285] وقرأ حمزة وكتابه على التوحيد، أراد اسم الجنس، كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، يراد به الجمع وإن أفرد.
وقوله: لا نفرق أي: يقولون: لا نفرق.
{بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] ومعناه: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، حيث آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض، بل نجمع بين الرسل كلهم في الإيمان بهم.
{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] أي: اغفر غفرانك، ويستغنى بالمصدر عن الفعل في الدعاء، نحو سقيا ورعيا، وإليك المصير هذا إقرار منهم بالبعث.
قوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الوسع: اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عنه، وهذه الآية نسخت قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] الآية.
والمعنى: لا يكلفها إلا يسرها لا عسرها، {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 286] من العمل بالطاعة، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] من العمل بالإثم، والكسب والاكتساب بمعنى واحد، {(1/409)
رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] قال الحسن: معناه: قولوا ربنا.
على التعليم للدعاء.
ومعنى {لا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] لا تعاقبنا، إن نسينا أي: تركنا شيئا من اللازم لنا، {أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] قال أبو عبيدة: يقال: أخطأ وخطئ لغتان.
ومعنى أخطأنا ههنا: أثمنا وتعمدنا الإثم، {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} [البقرة: 286] أي: عهدا وميثاقا لا نطيقه ولا نستطيع القيام به، {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286] أي: على اليهود، فلم يقوموا به، وهذا قول قتادة ومجاهد والسدي.
قوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] أي: من العذاب، كأنهم سألوا الله أن لا يعذبهم بالنار، فإنه لا طاقة لأحد مع عذاب الله تعالى، {وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة: 286] أي: تجاوز عنا، واغفر لنا أي: استر ذنوبنا، وارحمنا أي: تلطف بنا، أنت مولانا أي: ناصرنا والذي يلي علينا أمورنا، {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] في إقامة الحجة عليهم وفي غلبتنا إياهم، حتى يظهر ديننا على الدين كله كما وعدتنا.
138 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مَحْبُوبٌ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَذِهِ الآيَةِ: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَكُلَّمَا قَالَهَا جِبْرِيلُ قَالَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " رَبَّ الْعَالَمِينَ: قَدْ فَعَلْتُ "(1/410)
سورة آل عمران
مدنية وآياتها مائتان
139 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ أُعْطِيَ بِكُلِّ آيَةٍ مِنْهَا أَمَانًا عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ»
140 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْقُرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ وَإِنَّهُمَا يُظِلانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ غَيَابَتَانِ، أَوْ فِرْقَانِ، مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍّ»(1/411)
{الم {1} اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ {2} نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ {3} مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {4} إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ {5} هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {6} } [آل عمران: 1-6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم وتفسير الم قد تقدم، وكذلك تفسير {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2] .
وقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 3] يعني القرآن، وإنما قال: نزل.
ثم قال: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} [آل عمران: 3] لأن التنزيل للتكثير، والقرآن نزل نجوما شيئا بعد شيء، والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة.
وقوله: بالحق أي: بالصدق في أخباره وجميع دلالاته، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3] موافقا لما تقدم الخبر به في سائر الكتب، وفي ذلك دليل على صحة نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3] من مجاز الكلام، وذلك أن ما بين يديك فهو أمامك، فقيل لكل ما تقدم على الشيء: هو بين يديه.
{وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ} [آل عمران: 3] وهي اسم لكتاب موسى، والإنجيل اسم لكتاب عيسى.
من قبل من قبل القرآن هدى للناس هاديين لمن آمن بهما إلى طريق الحق، {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 4] يعني كتاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي فرق بين الحق والباطل.
قال السدي: في الآية تقديم وتأخير، لأن التقدير: وأنزل التوراة والإنجيل وأنزل الفرقان هدى للناس.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 4] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [آل عمران: 4] في النار، {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} [آل عمران: 4] غالب قوي، {ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4] ممن كفر به، يقال: انتقم منه انتقاما، إذا كافأه عقوبة بما صنع.
{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران: 5] لا يغيب عن علمه شيء فيهما.
{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ} [آل عمران: 6] جمع رحم، وهي مستقر الولد في بطن الأم، كيف يشاء ذكرا أو(1/412)
أنثى، قصيرا أو طويلا، أسود أو أبيض، سعيدا أو شقيا، {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ} [آل عمران: 6] في ملكه، الحكيم في خلقه.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ {7} رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ {8} رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ {9} } [آل عمران: 7-9] قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] قال ابن عباس، في رواية عطاء المحكمات: هي الثلاث آيات في آخر { [الأنعام] قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ} [سورة الأنعام: 151] إلى آخر الآيات الثلاث.
وهذه الآيات محكمات لأنها لا تحتمل من التأويل غير وجه واحد.
قال ابن الأنباري: الآية المحكمة: التي منعت كثرة التأويلات، لأنها لا تحتمل إلا تفسيرا واحدا.
{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] أي: أصل الكتاب الذي يعمل عليه، والآيات الثلاث في الأنعام هن أم كل كتاب أنزله الله على النبي، فيهن كل ما أحل وفيهن كل ما حرم.
ووحد الأم بعد قوله: هن لأنهن بكمالهن أم، وليست كل واحدة منهن أم الكتاب على انفرادها.(1/413)
وقوله: وأخر جمع أخرى، متشابهات يريد: التي تشابهت على اليهود، وهي حروف التهجي في أوائل السور، وذلك لأنهم أولوها على حساب الجمل، وطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة، فاختلط عليهم واشتبه.
والمتشابه من القرآن: ما احتمل من التأويل أوجها، وسمي متشابها لأن لفظه يشبه لفظ غيره، ومعناه يخالف معناه، قال الله تعالى في وصف ثمار الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25] أي: متفق المناظر مختلف الطعوم.
ثم يقال لكل ما غمض ودق: متشابه.
وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشبه بغيره، ألا ترى أنه قيل للحروف المقطعة في أوائل السور: متشابه.
وليس الشك فيها لمشاكلتها غيرها والتباسها به.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] أي: ميل عن الحق، وهم اليهود، طلبوا علم أجل هذه الأمة واستخراجه من الحروف المقطعة، وهو قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7] قال مجاهد: طلب اللبس ليضلوا به جهالهم.
{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] التأويل: التفسير، ومعناه: ما يئول إليه الشيء، أي: يرجع، قال ابن عباس: وابتغاء تأويله: طلب مدة أجل أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] يريد: ما يعلم انقضاء مدة ملك أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الله، لأن انقضاء ملك هذه الأمة مع قيام الساعة، ولا يعلم ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل.
ثم ابتدأ وقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] أي: الثابتون فيه، والرسوخ في اللغة: الثبوت في الشيء.
وعند أكثر المفسرين: المراد بالراسخين: علماء مؤمني أهل الكتاب، قال ابن عباس ومجاهد والسدي:(1/414)
بقولهم آمنا به سماهم الله تعالى راسخين في العلم، فرسوخهم في العلم: قولهم: آمنا به أي: بالمتشابه، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] المحكم والمتشابه وما علمناه وما لم نعلمه.
141 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقُرِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْهِسِنْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: فَوَجْهٌ حَلالٌ وَحَرَامٌ لا يَسَعُ أَحَدًا جَهَالَتُهُمَا، وَوَجْهٌ عَرَبِيٌّ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ، وَوَجْهُ تَأْوِيلٍ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَوَجْهُ تَأْوِيلٍ لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ فَمَنِ انْتَحَلَ فِيهِ عِلْمًا فَقَدْ كَذَبَ
وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] أي: ما يتعظ بالقرآن إلا ذوو العقول.
قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] أي: ويقول الراسخون: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] .
لا تملها عن الهوى والقصد كما أزغت قلوب اليهود والنصارى والذين في قلوبهم زيغ، {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] للإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك.
وروت أم سلمة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» .
ثم قرأ: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] .(1/415)
قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] يعني: يوم القيامة يجمعهم الله للجزاء في ذلك اليوم، وهذا إقرار من المؤمنين بالبعث، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 9] يعني: ميعاد الجمع والبعث.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ {10} كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ {11} قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {12} قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ {13} } [آل عمران: 10-13] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 10] قال ابن عباس: يعني قريظة والنضير.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} [آل عمران: 10] لن تنفع ولن تدفع عنهم أموالهم، {وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 10] قال الكلبي: من عذاب الله.
{شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10] أي: هم الذين توقد بهم النار.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران: 11] قال ابن عباس ومجاهد والسدي: كفعل آل فرعون وصنيعهم في الكفر والتكذيب، يريد: أن اليهود كفرت بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعادة آل فرعون في تكذيب موسى بعدما عرفوا صدقه.
والمعنى: دأبهم في الكفر كدأب آل فرعون، والدأب معناه في اللغة: الأمر والشأن والعادة، {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [آل عمران: 11] يعني كفار الأمم الخالية، {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11] .
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 12] قال ابن عباس: يعني يهود المدينة، وقال مقاتل: يعني مشركي مكة.
{سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] ستصيرون مغلوبين بنصرة الله المؤمنين عليكم، وقد فعل ذلك، فاليهود غلبوا بوضع الجزية عليهم، والمشركون غلبوا بالسيف.
قوله: {وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ} [آل عمران: 12] وعيد لهم بالنار.(1/416)
وقرئ بالتاء والياء، قال الفراء: يجوز في مثل هذا التاء والياء، لأنك تقول في الكلام: قل لعبد الله أنه قائم وأنك قائم.
وفي حرف عبد الله قل للذين كفروا إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف قوله: {وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 12] قال ابن عباس: بئس ما قد مهد لكم وبئس ما مهدتم لأنفسكم.
قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} [آل عمران: 13] يخاطب الذين ذكرهم في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 12] وأراد بالآية: علامة تدل على صدق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] يعني: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يوم بدر، ومشركي مكة حين خرجوا لقتاله، {الْتَقَتَا} [آل عمران: 13] اجتمعتا، {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 13] وهم المؤمنون، {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] يعني المشركين، {يَرَوْنَهُمْ} [آل عمران: 13] ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة، {مِثْلَيْهِمْ} [آل عمران: 13] وهم كانوا ثلاثة أمثالهم.
ولكن الله أرى المسلمين أن المشركين لا يزيدون عن مثليهم، وذلك أن الله كان قد أعلم المسلمين أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار فأراهم المشركين على قدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم.
ومن قرأ ترونهم بالتاء فلأن ما قبله خطاب لليهود، والمعنى: ترون أيها اليهود المشركين ضعفي المؤمنين، على ما ذكرنا من تقليل الله المشركين في الأعين.
وقوله: {رَأْيَ الْعَيْنِ} [آل عمران: 13] يجوز أن تكون مصدرا، يقال: رأيته رأيا ورؤية.
ويجوز أن تكون ظرفا للمكان، كما تقول: ترونهم أمامكم.
{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ} [آل عمران: 13] يقوي، {بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 13] يعني: المؤمنين نصرهم يوم بدر على قلتهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [آل عمران: 13] أي:(1/417)
فيما فعل من نصرة المؤمنين، {لَعِبْرَةً} [آل عمران: 13] العبرة: الاعتبار، وهي الآية التي يعبر بها من منزلة الجهل إلى العلم، وأصله من العبور، وهو النفوذ من جانب إلى جانب، لأن المعتبر بالشيء تارك جهله وواصل إلى علمه بما رأى.
وقوله: {لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13] أي: لأولي العقول، يقال: لفلان بصر بهذا الأمر.
أي: علم ومعرفة.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] أي: بما جعل في طباعهم من الميل إلى هذه الأشياء محنة كما قال عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7] .
و {الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] : جمع شهوة، وهي توقان النفس إلى الشيء ميلا إليه.
{وَالْقَنَاطِيرِ} [آل عمران: 14] جمع قنطار، وهو المال الكثير، حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: هو وزن لا يحد.
قال مجاهد: هو سبعون ألف دينار.
وقال معاذ بن جبل: القنطار: ألف ومائتا أوقية.
وقال الضحاك: اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار.
وقال أبو نضرة: هو ملء مسك ثور ذهبا.
و {الْمُقَنْطَرَةِ} [آل عمران: 14] قال قتادة: المال الكثير بعضه على بعض.
وقوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران: 14] الخيل: جمع لا واحد له من لفظه، كالقوم والنساء والرهط.
فأما المسومة فقال ابن عباس في رواية(1/418)
عطاء: هي الراعية، يقال: أسمت الماشية وسومتها، إذا رعيتها.
فهي مسامة ومسومة، ومنه قوله تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] .
وقال في رواية الوالبي: هي المعلمة من السيما التي هي العلامة.
ومعنى العلامة ههنا: الكي في قول المؤرج، والبلق في قول ابن كيسان، والشية في قول قتادة.
قوله: {وَالأَنْعَامِ} [آل عمران: 14] جمع نعم، والنعم من الإبل والبقر والغنم، {وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14] الأرض المهيأة للزراعة، قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14] يعني ما ذكر من هذه الأشياء، وهي مما يتمتع به في الدنيا، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] أي: المرجع، يقال: آب الرجل ويئوب أوبة وأيبة وإيابا.
وفي هذا ترغيب فيما عند الله من الجنة والثواب، إذ ذكر أن عنده حسن المآب.
ثم أعلم أن خيرا من جميع ما في الدنيا ما أعده لأوليائه، فقال: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {15} الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {16} الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ {17} } [آل عمران: 15-17] {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ} [آل عمران: 15] قل لهم يا محمد: أأخبركم {بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} [آل عمران: 15] الذي ذكرت؟ {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} [آل عمران: 15] قال ابن عباس: يريد المهاجرين والأنصار، أراد الله أن يعزيهم ويشوقهم إلى المعاد، ويدخل في هذا كل من آمن بالله واتقى الشرك.(1/419)
وما بعد هذا قد تقدم تفسيره إلى قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 15] وقرئ بضم الراء، وهي لغة قيس وتميم، قال الفراء: يقال: رضيت رضا ورضوانا ورضوانا ومرضاة.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 15] عالم بهم، وإذا كان عالما بهم جازاهم بما يستحقون.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران: 16] الآية.
ثم زاد في وصفهم فقال: الصابرين قال ابن عباس: على دينهم وعلى ما أصابهم.
والصادقين قال قتادة: هم قوم صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم، فصدقوا في السر والعلانية.
والقانتين الطائعين لله، والمنفقين قال ابن عباس: الذين ينفقون الحلال في طاعة الله.
والمستغفرين بالأسحار قال مجاهد وقتادة: يعني: المصلين بالأسحار، جمع سحر، وهو الوقت قبيل طلوع الفجر.
قال الزجاج: وصف الله هؤلاء بما وصف، ثم بين أنهم مع ذلك لشدة خوفهم يستغفرون بالأسحار.
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {18} إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {19} فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ {20} } [آل عمران: 18-20] قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] قال الزجاج: معنى شهد الله: بين وأظهر، لأن الشاهد هو العالم الذي يبين ما علمه، والله عز وجل قد دل على توحيده بجميع ما خلق، فبين أنه لا يقدر أحد أن ينشئ شيئا واحدا مما أنشأ.(1/420)
وقوله: وأولو العلم أي: وشهد بتوحيده أولو العلم بما ثبت عندهم، قال مقاتل: هم مؤمنو أهل الكتاب.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يعني المهاجرين والأنصار.
وقال السدي والكلبي: يعني علماء المؤمنين كلهم.
وقوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] أي: بالعدل، كما يقال: فلان قائم بهذا الأمر، أي: يجريه على الاستقامة في جميع الأمور، والله تعالى يجري التدبير على الاستقامة في جميع الأمور.
142 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رَجَا، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَمَّارُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ غَالِبٍ الْقَطَّانِ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تِجَارَةٍ، فَنَزَلْتُ قَرِيبًا مِنَ الأَعْشَى، فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةٌ أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَدِرَ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، فَمَرَّ بِهَذِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] ثُمَّ قَالَ الأَعْشَى: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] قَالَهَا مِرَارًا.
قُلْتُ: لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا، فَصَلَّيْتُ مَعَهُ وَوَدَّعْتُهُ، ثُمَّ قُلْتُ: آيَةٌ سَمِعْتُكَ تُرَدِّدُهَا، قَالَ: أَوَمَا بَلَغَكَ مَا فِيهَا؟ قُلْتُ: أَنَا عِنْدَكَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُحَدِّثْنِي.
قَالَ: وَاللَّهِ لا أُحَدِّثُكَ بِهَا سَنَةً، فَكَتَبْتُ عَلَى بَابِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَأَقَمْتُ سَنَةً، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ مَضَتِ السَّنَةُ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ لِعَبْدِي هَذَا عَنِّي عَهْدًا، وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ "(1/421)
قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] الأحسن كسر ألف إن لأن الكلام الذي قبله قد تم، ووجه قراءة من قرأ بالفتح: أن تكون الشهادة واقعة على أن، على أن يكون بدلا من الأولى، فكأن التقدير: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، ولا يقبل غيره ولا يجزي إلا به.
ومعنى الإسلام في اللغة: الدخول في السلم، أي: في الانقياد والمتابعة، ثم من الإسلام ما هو متابعة وانقياد باللسان دون القلب، وهو قوله: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، ومنه ما هو متابعة وانقياد باللسان والقلب، وهو قوله: {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] روى الحسن، عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: " تعرض الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: أي رب، إني الصلاة.
فيقول الله عز وجل: إنك على خير.
ثم تجيء الصدقة فتقول: أي رب، إني الصدقة.
فيقول: إنك على خير.
ويجيء الصيام، وتجيء الأعمال كذلك، ويجيء، أحسبه قال: الإسلام.
فيقول: أي رب، أنت السلام وأنا الإسلام.
فيقول الله: إنك على خير، بك آخذ اليوم وبك أعطي ".
ثم قال الحسن: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] ، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] .(1/422)
قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 19] قال ابن عباس: يعني قريظة والنضير وأتباعهم.
يقول: لم تختلف اليهود في صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كانوا يجدونه في كتابهم من نعته.
{إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [آل عمران: 19] يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمي علما لأنه كان معلوما عندهم.
والمعنى: أنهم كانوا يصدقونه بنعته وصفته قبل بعثه، فلما جاءهم اختلفوا، فآمن بعضهم وكفر آخرون، فقالوا: لست الذي وعدنا به، كقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] .
وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] هذا شرط وجواب يتضمن وعيدا لليهود الذين كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وذكر معنى سريع الحساب في { [البقرة.
قوله: فإن حاجوك أي: جادلوك، يعني اليهود والنصارى،] فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [سورة آل عمران: 20] قال الفراء: أخلصت عملي لله.
ومعنى الوجه ههنا: العمل، وتقدم الكلام في هذا عند قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] .
وقوله: ومن اتبعن يريد: المهاجرين والأنصار، {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 20] يعني اليهود، والأميين يعني العرب أأسلمتم قال الفراء والزجاج: معناه الأمر، أي: أسلموا.
ومثله قول: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا، فإن أسلموا أي: انقادوا للقرآن، صدقوا بما جئت به، فقد اهتدوا صاروا مهتدين، وإن تولوا أعرضوا عنك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20] فليس عليك إلا أن تبلغ الرسالة، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20] قال ابن عباس: يريد: بمن آمن بك وصدقك، وبمن كفر بك وكذبك.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {21} أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {22} } [آل عمران: 21-22] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 21] تقدم تفسيره في { [البقرة.(1/423)
وقوله:] وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران: 21] روى أبو عبيدة بن الجراح: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار، فهم الذين ذكرهم الله في كتابه وأنزل الآية فيهم» .
وأخبر ببطلان عملهم فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران: 22] يريد بأعمالهم: ما هم عليه من ادعائهم التمسك بالتوراة وإقامة شريعة موسى، وأراد ببطلانها في الدنيا: أنها لم تحقن دماءهم وأموالهم، وفي الآخرة: لم يستحقوا بها مثوبة، فصارت كأنها لم تكن.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ {23} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ {24} فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ {25} } [آل عمران: 23-25] قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 23] يعني علماء اليهود من قريظة والنضير، أعطوا حظا من التوراة لأنهم كانوا يعلمون بعضها، {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] قال ابن عباس في رواية الضحاك: المراد ب {كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] ههنا: القرآن.
وهو قول قتادة، قال: دعوا إلى القرآن بعد أن ثبت أنه كتاب الله، حيث لم يقدر بشر أن يعارضه.
وقوله: ليحكم بينهم جعل الله تعالى القرآن حكما بين اليهود وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحكم القرآن عليهم بالضلالة فأعرضوا عنه، وهو قوله: {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [آل عمران: 23] يعني مَنْ أعرض عن حكم القرآن فلم يؤمن به من رؤساء اليهود.
وقوله: {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23] قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعرضون الباقين من اليهود، ويجوز أن يكون(1/424)
الفريق المتولي هم المعرضون.
ثم بين سبب إعراضهم فقال: ذَلِكَ أي: ذلك الإعراض عن حكمك يا محمد، {بِأَنَّهُمْ} [آل عمران: 24] بسبب اغترارهم ومقالتهم، حيث {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] ومضى تفسير هذا.
وقوله: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ} [آل عمران: 24] الغرور: الإطماع فيما لا يصح.
وقوله: {مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24] يعني قولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] .
قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] كيف معناه: السؤال عن الحال، والتقدير: فكيف حالهم إذا جمعناهم؟ ليوم أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، {لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25] يعني: يوم القيامة، يجمع الخلق فيه للحساب والجزاء.
وتأويل الكلام: أي حالة تكون حال من اغتر بالدعاوى الباطلة إذا جمعوا ليوم الجزاء؟ قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} [آل عمران: 25] أي: وفرت وجوزيت، ما كسبت أي: جزاء ما كسبت من خير أو شر، يعني: أعطيت كل نفس جزاءها كاملا، {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 25] لا ينقص من حسناتهم، ولا يزاد على سيئاتهم.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {26} تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {27} } [آل عمران: 26-27] قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الآية، قال ابن عباس: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، فارس والروم أعز وأمنع من أن يُغْلَبَ على بلادهم.
فأنزل الله هذه الآية.
ومعنى اللهم: يا الله، مالك الملك مصرفه ومدبره كما يشاء، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] محمدا(1/425)
وأصحابه، {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] الروم والعجم، {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] قال ابن عباس: يريد: المهاجرين والأنصار، {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] يريد: الروم وفارس، بيدك الخير عز الدنيا والآخرة.
143 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْجَارِيُّ، أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو سَهْلٍ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُمُعَةَ بْنِ خَلَفٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زُنْبُورٍ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَالآيَتَيْنِ مِنْ آلِ عِمْرَانَ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران: 18] و {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] إِلَى قَوْلِهِ: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] مُشَفَّعَاتٌ، مَا بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ، لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُنْزِلَهُنَّ تَعَلَّقْنَ بِالْعَرْشِ فَقُلْنَ: يَا رَبِّ: تُهْبِطُنَا إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى مَنْ يَعْصِيكَ، قَالَ اللَّهُ: بِي حَلَفْتُ لا يَقْرَأْكُنَّ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ إِلا جَعَلْتُ الْجَنَّةَ مَأْوَاهُ عَلَى مَا كَانَ فِيهِ، وَإِلا أَسْكَنْتُهُ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، وَإِلا قَضَيْتُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ حَاجَةً أَدْنَاهَا الْمَغْفِرَةُ "(1/426)
قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [آل عمران: 27] قال جميع المفسرين: تجعل ما نقص من أحدهما زيادة في الآخر.
والإيلاج: الإدخال، يقال: أولجت الشيء في الشيء، إذا أدخلته فيه.
{وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران: 27] قال أكثر أهل التفسير: تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
{وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] قال الزجاج: بغير تقتير وتضييق.
يقال: فلان ينفق بغير حساب، إذا كان يوسع في النفقة.
وكأنه لا يحسب ما ينفقه.
{لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {28} قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {29} يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ {30} } [آل عمران: 28-30] قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 28] نزلت الآية في قوم من المؤمنين كانوا يباطنون اليهود ويوالونهم، نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ويوالونهم.(1/427)
ثم أوعد على ذلك فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [آل عمران: 28] أي: اتخاذ الأولياء من الكفار، {فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] أي: من دين الله، والمعنى: أنه قد برئ منه وفارق دينه.
ثم استثنى فقال: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] يقال: تقيته تقاة وتقى وتقية.
وهذا في المؤمن إذا كان في قوم كفار ليس فيهم غيره، وخافهم على نفسه وماله، فله أن يداريهم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان دفعا عن نفسه.
قال ابن عباس: يعني: مداراة ظاهرة.
{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] يخوفكم الله على موالاة الكفار عذاب نفسه، قال الزجاج: معنى نفسه: إياه، كأنه قال: وحذركم الله إياه.
{وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] أي: إليه يرجع الخلق كلهم بعد الموت.
قوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} [آل عمران: 29] يعني: من مودة الكفار وموالاتهم، أو تبدوه أي: تظهروه، يعلمه الله أي: يجازيكم على ذلك، لأنه عالم به، {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 29] إتمام التحذير، لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف عليه الضمير؟ وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 29] تحذير من عقاب من لا يعجزه شيء.
قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران: 30] يريد بيان ما عملت بما ترى من صحائف الحسنات، ويجوز أن يكون المعنى: جزاء ما عملت بما ترى من الثواب، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30] قال مقاتل: كما بين المشرق والمغرب.
وقال الحسن: يسر أحد أن لا يلقى عمله أبدا.
والأمد: الغاية التي ينتهي إليها.
{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30] قال الحسن: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ولم يهلكهم من غير تحذير.(1/428)
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {31} قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ {32} } [آل عمران: 31-32] قوله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] الآية، قال ابن عباس في رواية الضحاك: وقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قريش، وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام، فقال: «يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم» .
فقالت قريش: إنما نعبد هذه حبا لله، ليقربونا إلى الله.
فقال الله: قل يا محمد، {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] وتعبدون الأصنام بتقربكم إلى الله، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأنا رسوله إليكم، وحجته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم.
ومعنى محبة العبد لله: إرادته طاعته، وإيثاره أمره، ورضاه بشرائعه.
ومعنى محبة الله للعبد: إرادته لثوابه، وعفوه عنه، وإنعامه عليه.
ومعنى الآية: إن كنتم تحبون طاعة الله وتريدون رضاه وثوابه فاتبعوني وأطيعوا أمري يثبكم الله، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] .
ثم بين أن طاعة الله معلقة بطاعة الرسول، فلا يتم لأحد طاعة الله مع عصيان الرسول، فقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 32] قال ابن عباس: يريد محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن طاعتكم له طاعة لي.
فإن تولوا أعرضوا عن طاعتك، {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] لا يغفر لهم ولا يثني عليهم.
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ {33} ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {34} إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {35} فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ {36} فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا(1/429)
كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ {37} } [آل عمران: 33-37] {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} [آل عمران: 33] الآية، أي: جعلهم صفوة خلقة، واختارهم بالنبوة والرسالة.
وأراد بآل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وبآل عمران: موسى وهارون، وإنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء بأسرهم من نسلهم.
وقوله: {عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33] يعني عالمي زمانهم.
{ذُرِّيَّةً} [آل عمران: 34] نصب على البدل من الذين اصطفاهم، {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 34] أي: من ولد بعض، لأن الجميع ذرية آدم ثم ذرية نوح، والله سميع لما تقوله الذرية المصطفاة، عليم بما تضمره، فلذلك فضلها على غيرها.
قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ} [آل عمران: 35] أي: اذكر يا محمد لقومك هذه القصة، وهي: إذ قالت امرأة عمران، يعني حنة أم مريم جدة عيسى عليه السلام، {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35] معنى {نَذَرْتُ} [آل عمران: 35] : أوجبت، والنذر: ما يوجبه الإنسان على نفسه.
وقوله: {مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي: عتيقا خالصا لله، خادما للكنيسة، مفرغا للعبادة ولخدمة الكنيسة، وكل ما أخلص فهو محرر، يقال: حررت العبد، إذا أعتقته.
قال ابن عباس: ولم يكن يحرر في ذلك الوقت إلا الغلمان، فحررت ما في بطنها قبل أن تعلم ما هو، حتى وضعت.
فلما وضعتها إذا هي جارية ف {قَالَتْ} [آل عمران: 36] عند ذلك: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] اعتذرت إلى الله حين فعلت ما لا يجوز من تحرير الأنثى للكنيسة، {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] هذا من كلام الله، لا من كلام حنة، ولو كان من كلامها لكان: وأنت أعلم بما وضعتُ.
لأنها تخاطب الله تعالى.
ومن ضم التاء جعل هذا من كلام أم مريم، قالت: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36] بعد قولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] .(1/430)
قوله: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران: 36] أي: في خدمة الكنيسة والعباد الذين فيها، لما يلحق الأنثى من الحيض والنفاس.
{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} [آل عمران: 36] أي: أمنعها وأجيرها بك، وذريتها يعني عيسى، {مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] المطرود المرمي بالشهب.
144 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ الْهَرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ إِلا يَسِمُهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ غَيْرَ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَابْنِهَا عِيسَى» .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ «وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] أي: رضيها، وكان المحرر الذي نذرته حنة، ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك المعنى، {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران: 37] قال ابن الأنباري والزجاج: وأنبتها فنبتت نباتا حسنا.
قال ابن عباس: يريد: في صلاح ومعرفة بالله وطاعة له وخدمة للمسجد.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] أي: ضمنها إلى نفسه، وقام بأمرها، قال الزجاج: ضمن القيام بأمرها، يقال: كفل يكفل كفالة فهو كافل.
وهو الذي كفل إنسانا يعوله وينفق عليه.(1/431)
وفي زكريا قرءاتان: القصر والمد، وهما لغتان، كقولهم: الهيجاء والهيجا.
وقرأ حمزة وكفلها مشددة، وزكريا على هذه القراءة منصوب لأنه المفعول الثاني للتكفيل، ومعناه: ضمنها الله زكريا فضمنها إليه.
وقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] لما ضم زكريا مريم إلى نفسه بنى لها محرابا في المسجد لا يرقى إليه إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره.
قال الأصمعي: {الْمِحْرَابَ} [آل عمران: 37] : الغرفة.
قال عمر بن أبي ربيعة:
ربة محراب إذ جئتها ... لم أدن حتى أرتقي سلما
أي: ربة بيت.
قال ابن عباس: صارت عنده لها غرفة تصعد إليها تصلي فيها الليل والنهار.
وقوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37] كان زكريا كلما دخل عليها غرفتها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، تأتيها بها الملائكة من الجنة.
{قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37] من أين لك هذا؟ {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37] فقال زكريا: إن الذي رزقك العنب في غير حينه قادر على أن يرزقني من العقيم الولدَ.
فدعا زكريا أن يهب الله له ولدا، فذلك قوله: {(1/432)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ {38} فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ {39} قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ {40} قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ {41} } [آل عمران: 38-41] هنالك أي: عند ذلك، {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} [آل عمران: 38] أي: من عندك، {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] نسلا مباركا تقيا، {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] قال ابن عباس: يريد: لأوليائك وأهل طاعتك.
{فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 39] وقرأ حمزة فناداه الملائكة بالتذكير.
قال الزجاج: الجماعة يلحقها التأنيث للفظ الجماعة، ويجوز أن يعبر عنها بلفظ التذكير، لأنه يقال: جمع الملائكة.
وهذا كقوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} [يوسف: 30] .
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران: 39] قرئ بفتح إن وكسرها، فمن فتح كان المعنى: فنادته الملائكة بأن الله، ثم حذف الجار، ومن كسرَ أضمرَ القول كأنه يقول: نادته الملائكة فقالت: إن الله، وإضمار القول في القرآن كثير كقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ {23} سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23-24] أي: يقولون سلام عليكم.
وقرأ حمزة والكسائي يبشرك مخففا، من البشر بمعنى التبشير، يقال: بشره يبشره بشرا.
وقوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39] قال ابن عباس: يريد: مصدقا بعيسى أنه روح الله وكلمته، وسمي عيسى:(1/433)
كلمة الله، لأنه حدث عند قوله: كُنْ فوقع عليه اسم الكلمة، لأنه بها كان.
وكان يحيى أول من آمن بعيسى وصدقه.
قوله: وسيدا قال الضحاك والربيع: السيد: الحليم.
وقال أبو صالح وسعيد بن جبير: السيد: التقي.
وقال عكرمة: السيد: الذي لا يغلبه غضبه.
وقال الزجاج: السيد: الذي يفوق في الخير قومه.
وقوله: وحصورا وهو الذي لا يأتي النساء ولا يقربهن، قال ابن قتيبة: هو فعول بمعنى مفعول، كأنه محصور عنهن، أي: مأخوذ محبوس، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كأنه حصر نفسه عن الشهوات.
{قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [آل عمران: 40] لما بشر زكريا بالولد على كبر سنه استخبر الله تعالى عند ذلك فقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [آل عمران: 40] أي: على أي حال يكون ذلك؟ أتردني إلى حال الشباب وامرأتي، أم مع حال الكبر؟ {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ} [آل عمران: 40] وهو مصدر، كبر الرجل: إذا أسن.
قال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة.
قوله: {وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40] أي: ذات عقر لا تلد، قيل له: كذلك أي: مثل ذلك من الأمر، وهو هبة الولد على(1/434)
الكبر، {اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 40] فسبحان من لا يعجزه شيء.
فسأل الله علامة يعرف بها وقت حمل امرأته ليزيد في العبادة شكرا على هبة الولد، وهو قوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً} [آل عمران: 41] قال المفسرون: إن زكريا لما بشر بالولد سأل الله علامة يعرف بها وقت حمل امرأته ليزيد في العبادة شكرا لله على هبة الولد ف قال الله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا} [آل عمران: 41] أي: علامة ذلك أن يمسك لسانك عن الكلام وأنت صحيح سوي، كما قال: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10] .
قال الحسن وقتادة: أمسك لسانه ثلاثة أيام، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا إيماء، وجعل ذلك علامة حمل امرأته.
والرمز: الإيماء بالشفتين والحاجبين والعينين، يقال: رمز يرمز ويرمز.
وإنما حبس لسانه عن التكلم بأمور الدنيا وما يدور بين الناس، ولم يحبس لسانه عن التسبيح وذكر الله، وهو قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] .
والعشي: جمع عشية، وهي آخر النهار، والإبكار مصدر أبكر، إذا صار في وقت البكرة، ثم يسمى ما بين طلوع الفجر إلى الضحى: إبكارا، كما يسمى: إصباحا.
{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ {42} يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ {43} ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ {44} } [آل عمران: 42-44] وقوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ} [آل عمران: 42] قال ابن عباس: من ملامسة الرجال.
وقيل: من الحيض والنفاس.(1/435)
{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42] قال الأكثرون: معناه: على عالمي زمانها فضلت عليهن.
قال الزجاج: وجائز أن تكون على نساء العالمين كلهن، لأنه ليس في النساء امرأة ولدت من غير أب غير مريم، ولأنها قبلت في التحرير للمسجد، ولم يكن التحرير في الإناث، فهي مختارة على النسوان كلهن بما لها من الخصائص.
{يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43] قال ابن عباس: قومي للصلاة بين يدي ربك.
وقال مجاهد: اطلبي القيام في الصلاة.
وقال قتادة: أطيعي ربك.
{وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [آل عمران: 43] قدم السجود لفظا وهو مؤخر في المعنى، والواو لا توجب ترتيبا عند النحويين، وقوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43] ولم يقل: مع الراكعات.
لأن الراكعين أعم، لوقوعه على الرجال والنساء إذا اجتمعوا.
قال المفسرون: كلمت الملائكة مريم بهذا شفاهًا، فقامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا.
قوله: ذلك يعني ما قص من حديث مريم وزكريا ويحيى، {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} [آل عمران: 44] أخبار ما غاب عنك وعن قومك، نوحيه إليك نلقيه إليك بإرسال جبريل بها، {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] فيه إضمار، والمعنى: أيهم أرفق بكفالتها.
قال ابن عباس في رواية عطاء: هؤلاء جماعة كانوا من الأنبياء اختصموا في مريم، كل واحد يقول: أنا أولى بها.
فقال زكريا: هي بنت عمي، وخالتها عندي.
قالوا: فتعالوا حتى نستهم.
فجمعوا سهامهم ثم أتوا بها إلى الماء(1/436)
وقالوا: اللهم من كان أولى بها فليقم سهمه وليغرق البقية.
وألقوا سهامهم فارتز قلم زكريا وانحدرت أقلام الباقين، فقرعهم زكريا.
قال قتادة: كانت مريم بنت إمامهم وسيدهم عمران بن ماثان، كانوا أهل بيت صالح من الله بمكان، فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا بسهامهم أيهم يكفلها، فقرعهم زكريا، فكفلها زكريا.
{إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {45} وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ {46} قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {47} وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ {48} وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {49} وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {50} إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ {51} } [آل عمران: 45-51] قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ} [آل عمران: 45] قال ابن عباس: يريد جبريل.
{يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران: 45] يعني عيسى عليه السلام، قال الحسن وقتادة: إنما قيل لعيسى: كلمة الله.
لأنه كان بكلمة الله، وهي كن.
والمعنى: أنه كان أوجده بالكلمة، وكوَّنه بها من غير توليد من فحل.
وقوله اسمه المسيح قال ابن عباس في رواية عطاء والضحاك: إنما سمي عيسى مسيحا لأنه كان لا يمسح(1/437)
بيده ذا عاهة إلا برئ.
وقال إبراهيم النخعي: المسيح: الصديق.
وقال أبو عبيدة: هو بالسريانية: مشيحا، فعربته العرب.
وقوله: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران: 45] يعني الوجيه: ذو الجاه والشرف والقدر، يقال: وجه الرجل يوجه فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس.
وقوله: ومن المقربين إلى ثواب الله وكرامته.
وقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ} [آل عمران: 46] يعني: صغيرا، والمهد: الموضع الذي مهد لنوم الصبي.
ويعني بكلامه في المهد: تبرئته أمه مما قرفت به، حين {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} [مريم: 30] الآية، وقوله: وكهلا الكهل: الذي اجتمع قوته وتم شبابه.
وقال ابن عباس: يريد أنه يتكلم بكلام النبوة كهلا.
ومن الصالحين قال: يريد: مثل موسى وإسرائيل وإسحاق وإبراهيم.
قوله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47] تعجبت حين بشرت بولد من غير أب، لخروج ذلك عن العادة، والبشر: الخلق، واحده وجمعه سواء.
{قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 47] أي: يخلق الله ما يشاء مثل ذلك من الأمر، وهو خلق الولد من غير مسيس.
وقوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 48] يعني الكتابة، والحكمة العلم، {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48] .
{وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 49] قال الزجاج: وتجعله رسولا.
{أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 49] ثم ذكر(1/438)
تلك الآية فقال: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} [آل عمران: 49] أي: أقدر وأصور، والخلق معناه: التقدير في اللغة.
{كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49] الهيئة: الصورة المهيأة، من قولهم: هيأت الشيء، إذا قدرته.
فأنفخ فيه أي: في الطين، {فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] وقرأ نافع طائرا على معنى: يكون ما أنفخ فيه طائرا.
قال ابن عباس: أخذ طينا فجعل منه خفاشا، ثم نفخ فيه، فإذا هو يطير.
وأبرئ الأكمه أي: أجعله بصيرا بعد الكمه، وهو الذي يولد أعمى.
والأبرص وهو الذي به وضح، {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] أحيا عازر وكان صديقا له، ودعا سام بن نوح من قبره، فخرج حيا، ومر عليه بابن عجوز على سرير ميتا فدعا الله عيسى فنزل عن سريره حيا، ورجع إلى أهله، وبقي، وولد له.
{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] قال مجاهد: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه، وقال قتادة: بما تأكلون من المائدة، وما تدخرون منها.
وقوله: ومصدقا أي: وجئتكم مصدقا، {لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} [آل عمران: 50] أي: الكتاب الذي أنزل من قبله، {وَلأُحِلَّ(1/439)
لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50] قال المفسرون: أحل لهم على لسان المسيح: لحوم الإبل والثروب، وأشياء من الطير والحيتان مما كان محرما في شريعة موسى.
قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 50] قال الزجاج: أي: لم أحل لكم شيئا بغير برهان، فهو حقيق عليكم اتباعي.
وإنما وحد الآية وكان قد أتاهم بآيات، لأنها كلها جنس واحد في الدلالة على الرسالة.
وقوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [آل عمران: 51] أي: طريق من طرق الدين مستو.
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {52} رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {53} وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ {54} إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ {55} فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {56} وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {57} ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ {58} } [آل عمران: 52-58] قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى} [آل عمران: 52] قال ابن عباس: أحس: علم.
وقال مقاتل: رأى.
وقال الزجاج: أحس في اللغة: علم ووجد ورأى.
وقوله منهم الكفر يريد: القتل، وذلك أنهم أرادوا قتله حين دعاهم إلى الله فاستنصر عليهم، و {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] والأنصار: جمع نصير، مثل شريف وأشراف.
ومعنى قوله: إلى الله أي: مع الله.(1/440)
وقوله: قال الحواريون قال ابن عباس، في رواية سعيد بن جبير: كانوا صيادين سموا حواريين لبياض ثيابهم.
وقال في رواية عطاء: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها، اتبعوا عيسى وصدقوه.
وقال قتادة والكلبي: الحواريون: خواص عيسى وأصفياؤه.
وقال الزجاج: الحذاق باللغة يقولون: الحواريون: صفوة الأنبياء الذين خلصوا في التصديق بهم ونصرتهم، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «. . . وحواري الزبير بن العوام» .
وقوله: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي: أنصار دين الله، {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ} [آل عمران: 52] يا عيسى، {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52] .
قوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} [آل عمران: 53] يعني: ما أنزل الله على عيسى وهو الإنجيل، واتبعنا الرسول عيسى عليه السلام، {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 53] مع الذين شهدوا للأنبياء بالصدق، أي: اثبت أسماءنا مع أسمائهم لنفوز بمثل ما فازوا به من الدرجة والكرامة.
قوله: ومكروا قال ابن عباس: إن عامة بني إسرائيل كفروا بعيسى وهموا بقتله، فذلك مكرهم به، حيث أرادوا أن يقتلوه اغتيالا.
وقوله: ومكر الله قال المفسرون: مكر الله بهم بإلقاء شبه عيسى على من دل عليه، فجعله الله في صورة عيسى فأخذ وصلب.
وقوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] أي: أفضل المجازين بالسيئة العقوبة.
قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} [آل عمران: 55] أي: قابضك من الأرض وافيا تاما من غير أن تنال اليهود منك شيئا، وهذا قول الحسن والكلبي وابن جريج.(1/441)
وقال ابن عباس في رواية عطاء: هذا مقدم ومؤخر، يريد: إني رافعك إلي ومتوفيك بعد أن أهبطك إلى الأرض حتى تكون فيها وتتزوج ويولد لك حتى تموت.
وهذا اختيار الفراء، قال: يقال: إن هذا مقدم ومؤخر، والمعنى: إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا.
وقوله: ورافعك إلي أي: إلى سمائي ومحل كرامتي، فجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم.
{وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] أي: مخرجك من بينهم، لأن كونه في جملتهم التنجيس له بهم.
{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] قال قتادة والربيع والكلبي ومقاتل: هم أهل الإسلام من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتبعوا دين المسيح وصدقوه بأنه رسول الله وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه، فوالله ما اتبعه من دعاه ربا.
ومعنى {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 55] بالبرهان والحجة، ومحتمل بالعز والغلبة.
ثم رجع عن الغيبة إلى الخطاب فقال: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران: 55] من الدين وأمر عيسى.
ثم بين ذلك الحكم فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا} [آل عمران: 56] يعني: بالقتل وسبي الذراري وأخذ الجزية، والآخرة وفي الآخرة بالنار، {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [آل عمران: 56] ما لهم من يمنعهم من عذاب الله.
{وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 57] بمحمد وعيسى، {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57] يتم لهم جزاءهم من الثواب، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57] لا يرحمهم، ولا يثني عليهم، وهم الذين لا يطيعون الله فيما أمرهم به من الإيمان بالرسل والكتب.
وقوله: ذلك إشارة إلى ما تقدم من الخبر عن عيسى ومريم والحواريين، نتلوه عليك قال ابن عباس: نخبرك به بتلاوة جبريل عليك، وتلاوته بأمر الله، ومثله قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} [يوسف: 3] .
وقوله: من الآيات أي: العلامات الدالة على نبوتك، لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب، أو من يوحى إليه، وأنت أمي لا تقرأ.
وقوله: {وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] يعني: القرآن الحكيم، أي: المانع من الفساد وكل ما يقبح، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم، أي: الممنوع من الباطل.(1/442)
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {59} الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ {60} فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ {61} إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {62} فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ {63} } [آل عمران: 59-63] قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] الآية:
145 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَاهِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عَلَيْهِمَا الإِسْلامَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّا قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلَكَ، فَقَالَ: كَذَبْتُمَا، إِنَّهُ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإِسْلامِ ثَلاثَةٌ: عِبَادَتُكُمُ الصَّلِيبِ، وَأَكْلُكُمُ الْخِنْزِيرِ، وَقَوْلُكُمْ: للَّهِ وَلَدٌ، قَالا: مَنْ أَبُو عِيسَى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] الآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ قِيَاسَ خَلْقِ عِيسَى مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ كَقِيَاسِ خَلْقِ آدَمَ.
وَمَعْنَى {عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 59] : أَيْ: فِي الْخَلْقِ وَالإِنْشَاءِ
ثم ذكر خلق آدم فقال: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59] يعني: قالبا من تراب لا روح فيه، {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: 59] بشرا، {فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] بمعنى: فكان، وهذا مما أريد بمثال المستقبل فيه الماضي، كقوله: {تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] .
وقوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [آل عمران: 60] قال الفراء والزجاج: الحق: مرفوع بخبر ابتداء محذوف، على تقدير: الذي أنبأتك به من قصة عيسى الحق، فحذف لتقدم ذكره.
وقال أبو عبيدة: هو ابتداء وخبره من ربك كما تقول: الحق من ربك والباطل من الشيطان.
وقوله: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به: نهي غيره عن الشك، كما قال: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] ،(1/443)
والامتراء: الشك، والممتري: الشاك، يقال للشك: المرية.
وقوله: فمن حاجك أي: جادلك وخاصمك، فيه في عيسى، فقل تعالوا أي: ائتوا وهلموا، {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] قال المفسرون: لما احتج الله تعالى على النصارى من طريق القياس بقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} [آل عمران: 59] الآية، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحتج عليهم من طريق الإعجاز، وهو المباهلة.
ومعنى المباهلة: الدعاء على الظالم من الفريقين.
فلما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد نجران إلى المباهلة، وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتضنا الحسين، آخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه، وعلي خلفها، وهو يقول: «إذا دعوت فأمنوا» .
فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن ينزل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.
ثم قبلوا الجزية وانصرفوا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران، ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى حتى هلكوا» .
146 - أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ(1/444)
الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61] دعا رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، وَقَالَ: «هَؤُلاءِ أَهْلِي» رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قُتَيْبَةَ
وأراد بالأنفس: بني العم، والعرب تخبر عن ابن العم بأنه نفس، وقد تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أراد: إخوانكم من المؤمنين.
وقيل: ثم نبتهل الابتهال في اللغة على معنيين، أحدهما: التضرع إلى الله، والثاني: الالتعان والدعاء بالبهلة وهي اللعنة، يقال: عليه بهلة الله.
أي: لعنته.
وكلا القولين مروي عن ابن عباس، قال، في رواية الكلبي، في قوله: نبتهل: أي: نجتهد في الدعاء.
وقال في رواية عطاء: ندع الله باللعنة على الكاذبين.
وقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] أي: هذا الذي أوحيناه إليك من الآيات والحجج، والقصص: مصدر، من قولك: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا.(1/445)
{الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] القرآن الصادق فيما أخبر به، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 62] نفي لجميع ما ادعى المشركون أنهم آلهة، أي أن عيسى ليس بإله كما زعموا.
قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 62] أي: لا أحد يستحق إطلاق هذه الصفة إلا هو.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 63] أي: فإن أعرضوا عما أتيت به من البيان فإن الله يعلم من يفسد خلقه، فيجازيه على ذلك.
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {65} هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ {66} مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {67} إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ {68} } [آل عمران: 64-68] قوله تعالى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] يعني اليهود والنصارى، {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] يريد بالسواء: العدل، وكذلك في قراءة عبد الله إلى كلمة عدل، والمعنى: إلى كلمة عادلة مستقيمة مستوية، إذا أتيناها نحن وأنتم كنا على السواء والاستقامة.
ثم فسر الكلمة فقال: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] لا نعبد معه غيره، {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] قال ابن عباس: يريد: كما اتخذت النصارى عيسى ربا، واتخذت بنو إسرائيل عزيرا.
وقال الزجاج: أي: نرجع إلى أن معبودنا الله عز وجل وأن عيسى بشر كما أننا بشر، فلا نتخذه ربا.(1/446)
فإن تولوا أعرضوا عن الإجابة، فخالفوهم أنتم إنكارا عليهم، {فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] أي: مقرون بالتوحيد، منقادون لما أتتنا به الأنبياء.
قوله تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] قال ابن عباس والسدي وقتادة: اجتمعت اليهود ونصارى نجران عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنازعوا في إبراهيم، فقالت اليهود: ما كان إلا يهوديا.
وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا.
فنزلت هذه الآية.
وقوله: {وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 65] يريد: أن اليهودية حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وإنما أنزل الكتابان بعد مهلك إبراهيم بزمن طويل، وليس فيهما اسمه بواحد من دين اليهود والنصارى.
واختلفوا في اشتقاق التوراة ووزنها من الفعل، فقال الفراء: هي في الأصل تورية، على وزن تفعلة، فصارت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وقال الخليل: وزنها فوعلة، وأصلها: وورية، ولكن الواو الأولى قلبت تاء كما قالوا: تولج، وهو فوعل ولجت، وقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت تورية، وكتبت بالياء على أصل الكلمة.
وأما اشتقاقها: فحكى ابن الأنباري عن الفراء، قال: التوراة معناها: الضياء والنور، من قول العرب: وري الزند يرى ويورى، إذا أظهر النار.
فالتوراة سميت لظهور الحق بها.(1/447)
وقال المؤرج: هو من التورية وهو التعريض بالشيء، وكان أكثر التوراة معاريض وتلويحا من غير إيضاح وتصريح.
وأما الإنجيل فقال الزجاج: هو إفعيل من النجل وهو الأصل.
وقال ابن الأنباري: إنجيل: أصل للقوم الذين نزل عليهم، لأنهم يعملون بما فيه.
وقال قوم: الإنجيل مأخوذ من قول العرب: نجلت الشيء، إذا استخرجته وأظهرته.
يقال للماء الذي يخرج من النز: نجل واستنجل الوادي، إذا أخرج الماء.
فسمي كتاب عيسى إنجيلا لأن الله تعالى أظهره للناس بعد طموس الحق ودروسه.
وقال جماعة: التوراة والإنجيل والزبور: أسماء عربت من السريانية والعبرية، وليس يطرد فيها قياس الأسماء العربية، ألا تراهم يقولون لها بالسريانية: توري إنكليون زفوتا؟ وقوله: أفلا تعقلون أي: فساد هذه الدعوى، إذ العقل يزجر عن الإقامة على دعوى بغير حجة.
قوله: هأنتم ها: حرف للتنبيه، كأنه قيل: انتبهوا عن غفلتكم.
هؤلاء أي: يا هؤلاء، جادلتم وخاصمتم، {فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] وهو ما وجدوه في كتابهم وأنزل عليهم بيانه وقصته، {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66] أي: لم تجادلون في شأن إبراهيم، وليس في كتابكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ والله يعلم شأن إبراهيم، {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66] .
ثم بين حال إبراهيم فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} [آل عمران: 67] برأه الله تعالى ونزهه عن الدينين، ووصفه بدين الإسلام فقال: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67] الآية، وذكرنا معنى الحنيف فيما تقدم.
قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 68] أي: أقرب الناس إليه وأحقهم به، للذين اتبعوه على دينه وملته، وهذا النبي يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذين آمنوا يعني المهاجرين والأنصار والتابعين ممن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/448)
قال الزجاج: أي: فهم الذين ينبغي أن يقولوا: إنا على دين إبراهيم.
{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68] أي: ناصرهم ومعينهم.
{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ {69} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ {70} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ {71} وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ {72} وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {73} يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ {74} } [آل عمران: 69-74] قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 69] أي: تمنت جماعة من اليهود والنصارى، قال ابن عباس: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، أرادوا أن يستزلوا المسلمين عن دينهم ويردوهم إلى الكفر، وهو قوله: {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 69] لأن المؤمنين لا يقبلون قولهم وما يدعونهم إليه، فيحصل عليهم الإثم بتمنيهم إضلال المؤمنين، وما يشعرون وما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين.
قوله: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 70] يعني اليهود، {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 70] بالقرآن، {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] بما يدل على صحة القرآن من كتابكم، لأن فيه نعت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره.
قوله {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [آل عمران: 71] تقدم تفسيره عند قوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] .
قوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 72] الآية، إن أحبار اليهود قالوا لمن دونهم: ائتوا محمدا وأصحابه أول النهار فقولوا: إنا على دينكم.
فإذا كان آخر النهار فقولوا: إنا كفرنا بدينكم، ونحن على ديننا الأول.
فإنه أحرى أن ينقلب أصحابه عن دينهم ويشكوا فيه إذا قلتم: نظرنا في كتبنا فوجدنا محمدا ليس بذلك الذي وعدنا به.(1/449)
وهو قوله: آمنوا أي: أظهروا الإيمان، {بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 72] يعني: القرآن المنزل على المؤمنين، وجه النهار أول النهار، {وَاكْفُرُوا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] أي: اكفروا به آخر النهار، لعلهم يرجعون عن دينهم إلى دينكم.
وقوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض، والمعنى: لا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية وقام بشرائعكم.
وقوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} [آل عمران: 73] كلام معترض بين المفعول وفعله، وهو من كلام الله لا من كلام اليهود، ومعناه: إن الدين دين الله، كقوله: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120] .
{أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} [آل عمران: 73] من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى والفضائل والكرامات.
أي: لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، {إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] قوله: أو يحاجوكم عطف على قوله: {أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ} [آل عمران: 73] ، المعنى: ولا تؤمنوا بأن يحاجوكم، عند ربكم لأنكم أصح دينا منهم، فلا يكون لهم عليكم الحجة عند الله، وقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ} [آل عمران: 73] قال ابن عباس: يريد: ما تفضل به عليك وعلى أمتك، {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 73] يعني: هذه الأمة.
وقوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74] قال الحسن ومجاهد والربيع: بنبوته.
وقال ابن عباس: بدينه.
وقال ابن جريج: بالقرآن والإسلام.
قال عطاء: يريد: اختصك وتفضل عليك وعلى أمتك بدينه ورحمته.
{وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ} [آل عمران: 74] على أوليائه وأهل طاعته، العظيم لأنه لا شيء أعظم عند الله من الإسلام.(1/450)
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ {75} بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ {76} إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {77} } [آل عمران: 75-77] قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ} [آل عمران: 75] الآية، قال المفسرون: أخبرنا الله تعالى في هذه الآية عن اختلاف أحوال أهل الكتاب في الأمانة والخيانة، ليكون المؤمنون على بصيرة في ترك الركون إليهم، لاستحلالهم أموال المسلمين.
وقال ابن عباس في رواية الضحاك: أودع رجل عند عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأداه إليه، فمدحه الله تعالى، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا فخانه، وذلك قوله: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] يعني عبد الله بن سلام، {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] يعني فنحاص.
وقوله: {إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75] أي: بالإلحاح والخصومة في التقاضي والمطالبة، عن ابن عباس وقتادة ومجاهد.
قال القتيبي: وأصله أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرف، والتارك له يقعد عنه، ثم قيل لكل من واظب على مطالبة أمر: قام به.
وإن لم يكنْ ثَمَّ قيامٌ.(1/451)
وقال السدي: يعني: إلا ما دمت قائما على رأسه بالاجتماع معه والملازمة والمطالبة له، فإن أنظرته وأخرته أنكر وذهب به.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] أي: ذلك الاستحلال والخيانة بأنهم يقولون: ليس عندنا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل.
لأنهم مشركون.
والمراد ب الأميين ههنا: العرب.
ثم كذبهم الله تعالى فيما قالوا، فقال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [آل عمران: 75] لأنه ليس في كتابهم استحلال الأمانة، وهم يعلمون أنهم كاذبون، يعني: لم يقولوا ذلك عن جهالة فيعذروا.
قوله: بلى رد لقولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] أي: بلى يكون عليهم سبيل في ذلك.
وقوله: {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ} [آل عمران: 76] أي: بما عاهد الله إليه في التوراة، وآمن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن وأداء الأمانة، واتقى الكفر والخيانة ونقض العهد، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76] يعني: من كانت هذه صفته.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 77] الآية، نزلت في رجلين اختصما إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ضيعة، فهمَّ المدعى عليه أن يحلف فنزلت الآية، فنكل المدعى عليه عن اليمين، وآثر للمدعي حقه.
147 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ الأبِيوَرْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
فقال الأشعث: في والله ذاك، وكان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدمته إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألك بينة؟» قلت: لا، فقال لليهودي: احلف، فقلت يا رسول اللَّه: إذن يحلف فيذهب(1/452)
بمالي، فأنزل اللَّه تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الآية رواه البخاري عن عبدان عن أَبِي حمزة، ورواه مسلم عن ابن نمير أَبِي معاوية، كلاهما عن الأعمش.
ومعنى يشترون: يستبدلون ويأخذون، بعهد الله أي: بما عهد الله إليهم من أداء الأمانة، وأيمانهم الكاذبة، ثمنا قليلا عرضا يسيرا من الدنيا وهو ما يحلفون عليه كاذبين، {أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ} [آل عمران: 77] لا نصيب لهم من الخير، {فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 77] أي: بكلام يسرهم، {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] نظرا يسرهم، يعني نظر الرحمة، {وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران: 77] لا يزيدهم خيرا، ولا يثني عليهم.
148 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» قَالَ(1/453)
عَبْدُ اللَّهِ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ
149 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْبَصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ السَّامِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» ، قَالَ حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ: مَا أَشَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: أَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاءِ(1/454)
150 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنِ ابْنِ زُرْعَةَ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ
{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78] قوله: وإن منهم يعني: من اليهود، لفريقا جماعة، {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} [آل عمران: 78] قال مجاهد والربيع وقتادة: يحرفونه بالتغيير والتبديل، وذلك أنهم يلوون ألسنتهم عن سنن الصواب بما يأتون به من عند أنفسهم.
وقوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] أي: لتحسبوا ما لووا ألسنتهم به مما حرفوه وبدلوه من الكتاب، قال الله تعالى: {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 78] .(1/455)
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ {79} وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنِّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {80} } [آل عمران: 79-80] قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] الآية، قال ابن عباس في رواية الكلبي: إن اليهود والنصارى احتجوا بأنهم أولى بإبراهيم وبدينه، فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلا الفريقين منه ومن دينه بريء» .
فغضبوا وقالوا: يا محمد، والله ما تريد إلا أن نتخذك ربا.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال قتادة: يقول: ما ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم، يعني الفقه والعلم، والنبوة ثم يأمر عباد الله أن يتخذوه ربا من دون الله.
والمعنى: ما كان لبشر أن يجمع بين هذين، بين النبوة وبين دعاء الخلق إلى عبادة غير الله، وهو قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 79] .
ولكن كونوا أي: ولكن يقول: كونوا ربانيين قال ابن عباس: معلمين.
وقال قتادة وسعيد بن جبير: فقهاء علماء حكماء.
قال سيبويه: زادوا ألفا ونونا في الرباني، إذا أرادوا تخصيصا بعلم الرب كما قالوا: شعراني ولحياني.
فالرباني على هذا القول: منسوب إلى الرب، على معنى التخصيص بعلم الرب، أي: يعلم الشريعة وصفات الرب.
وقال المبرد: الرباني: الذي يرب العلم ويرب الناس، أي: يعلمهم ويصلحهم.
وعلى هذا القول: الرباني: من الرب الذي هو بمعنى التربية.(1/456)
وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] أي: بكونكم عالمين بالكتاب، {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] وبما كنتم دارسين للكتاب.
قال الزجاج: كونوا معلمي الناس بعلمكم ودرسكم، علموا الناس وبينوا لهم.
ومن قرأ تعلمون بالتشديد فالمعنى: بكونكم معلمين، أي: علموا الناس الكتاب وبينوا لهم صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما فيه من الحق والصواب، حتى تستحقوا هذه الصفة وتكونوا معلمين.
ومعنى تدرسون: تقرءون، ومنه قوله: {وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف: 169] .
وقوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ} [آل عمران: 80] من قرأ بالرفع قطعه مما قبله.
قال ابن جريج: ولا يأمركم محمد.
ومن نصب كان المعنى: ما كان لبشر أن يأمركم، فيكون نصبا بالنسق على قوله: أن يؤتيه قال الزجاج: معنى الآية: ولا يأمركم أن تعبدوا الملائكة والنبيين، لأن الذين قالوا: إن عيسى إله.
عبدوه واتخذوه ربا، وقال قوم من الكفار: إن الملائكة أربابنا.
يقال لهم: الصابئون.
وقوله: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ} [آل عمران: 80] استفهام معناه الإنكار، أي: لا يفعل ذلك، {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] أي: بعد إسلامكم.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ(1/457)
الشَّاهِدِينَ {81} فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ {82} أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ {83} } [آل عمران: 81-83] قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] الآية، قال قتادة: هذا ميثاق قد أخذه الله من النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وأن يبلغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده، فبلغت الأنبياء وأخذوا مواثيق أهل الكتاب في كتابهم أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويصدقوه وينصروه، وذلك قوله: {لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] ما ههنا: بمعنى الشرط والجزاء، والمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم من كتاب وحكمة.
وقرأ حمزة لما بكسر اللام، وهي متعلقة بالأخذ، لأن المعنى: أخذ الله ميثاقهم لما أوتوا من الكتاب والحكمة، أي: لأنهم الأفاضل وأصحاب الكتب والشرائع.
وقرأ نافع آتيناكم بالمد، وحجته: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] ، {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] ، {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} [الصافات: 117] .
وقوله: ثم جاءكم يعني: ثم جاء أممكم وأتباعكم، وخرج الكلام على النبيين لأن ما لزمهم لزم أممهم.
وقوله: {رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ} [آل عمران: 81] يعني محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جاء بالقرآن بصدق التوراة في الأخبار والأقاصيص.
قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] يريد: إن أدركتموه، قال أأقررتم أي: قال الله للنبيين: أأقررتم بالإيمان والنصرة له؟ {وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: قبلتم، {قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا} [آل عمران: 81] أي: قال الله للنبيين: اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم.
{وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] عليكم وعليهم.
قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ} [آل عمران: 82] قال ابن عباس: فمن أعرض عما جئت به، وأنكر ما عاهد الله عليه.
وقال الزجاج: فمن أعرض عن الإيمان بعد أخذ الميثاق وظهور آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 82] أي: الخارجون عن العهد والإيمان.(1/458)
قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] أي: أبعد أخذ الميثاق عليهم بالإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبون دينا غير دين الله وهو ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! ومن قرأ بالتاء فلأن ما قبله خطاب، كقوله: أأقررتم وأخذتم والياء: على الأخبار عنهم، وقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] قال ابن عباس في رواية مجاهد: يعني: عند أخذ الميثاق وهو قوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] وقال قتادة: أما المؤمن فأسلم طوعا فنفعه، وأما الكافر فأسلم كارها في وقت اليأس فلم ينفعه ذلك.
وقال عطاء، عن ابن عباس: يريد بأهل السموات والأرض: الملائكة، والمهاجرين والأنصار، وعبد القيس طوعا، وسائر الناس أسلموا كرها، خوفا من السيف.
وقوله: وإليه ترجعون وعيد لمن أعرض عن دين الله، والمعنى: أيبغون غير دين الله مع أن مرجعهم إليه فيجازيهم على تركهم دينه؟ ! {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {84} وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {85} } [آل عمران: 84-85] قوله: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ} [آل عمران: 84] الآية، في هذه الآية إنكار على الكفار من اليهود والنصارى فيما ذهبوا إليه من الإيمان ببعض النبيين دون بعض، وأمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته أن يقولوا: آمنا بالله وبجميع الرسل وما أنزل عليهم، لا نفرق بين جميعهم في الإيمان بهم كما فعلت اليهود والنصارى.
قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران: 85] إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] قال ابن عباس: يريد: خسر ثواب الله(1/459)
وصار إلى عذابه، وخسر الحور العين.
وقال الزجاج: يعني: خسر عمله، حيث لم يجاز به الجنة والثواب.
{كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {86} أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {87} خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ {88} إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {89} } [آل عمران: 86-89] قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] قال ابن عباس: يعني اليهود وقريظة والنضير ومن دان بدينهم، كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن كانوا قبل مبعثه مؤمنين به، وكانوا يشهدون له بالنبوة، فلما بعث وجاءهم بالآيات والمعجزات كفروا بغيا وحسدا.
ومعنى {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ} [آل عمران: 86] أي: لا يهديهم الله، كما قال ابن الرقيات:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
أي: لا نوم لي ولا أنام، ومثله قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة: 7] أي: لا يكون لهم عهد.
قال الزجاج: أعلم الله تعالى أنه لا جهة لهدايتهم، لأنهم قد استحقوا أن يضلوا بكفرهم، لأنهم قد كفروا بعد البينات.
وقوله: وجاءهم البينات يجوز أن يريد ما بين لهم في التوراة والإنجيل، وهو قول ابن عباس.
ويجوز أن يريد: ما أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الكتاب والآيات والمعجزات.
وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86] قال ابن عباس: لا يرشد من نقض عهود الله وظلم نفسه.(1/460)
وقوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [آل عمران: 89] قال ابن عباس: راجعوا الإيمان بالله والتصديق بنبيه.
وأصلحوا أعمالهم، وقال الزجاج: معنى أصلحوا: أظهروا للناس أنهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه ومن تغريرهم من تبعهم ممن لا علم عنده.
{فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 89] أعلم الله تعالى أن من سعة رحمته وتفضله أن يغفر لمن اجترأ عليه هذا الاجتراء، وذلك أن الذي فعلوا لا غاية وراءه في الكفر، وهو أنهم كفروا بعد تبين الحق لهم.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ {90} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ {91} } [آل عمران: 90-91] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 90] قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل بعثه.
{ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] بالإقامة على كفرهم حتى هلكوا عليه.
وقال قتادة: إن اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [آل عمران: 90] بكفرهم بمحمد والقرآن.
{لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران: 90] لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت، {وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90] .
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا} [آل عمران: 91] ملء الشيء: قدر ما يملأه، يقال: ملء القدح.
وانتصب ذهبا على التفسير.
قال الزجاج: المعنى: لو قدم ملء الأرض ذهبا يتقرب به إلى الله ما ينفعه ذلك مع كفره، ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه.
151 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرٍ(1/461)
الْكَوْكَبِيُّ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، قَالا: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُقَالُ لِلْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ تَفْعَلْ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنِ الْقَوَارِيرِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92] قوله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] قال عطاء ومقاتل: البر: التقوى في هذه الآية، وقال أبو(1/462)
روق: الخير.
وقال مسروق وعمرو بن ميمون: {الْبِرَّ} [آل عمران: 92] : الجنة.
وقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قال الضحاك: يعني الزكاة، يقول: حتى تخرجوا زكاة أموالكم.
وقال الحسن: كل شيء أنفقه المسلم من ماله ويبتغي به وجه الله فإنه من الذي عنى الله سبحانه بقوله: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] حتى الثمرة.
152 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَى رَبَّنَا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا وَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي بَيْرَحَا للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ» ، فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ بَهْزٍ، عَنْ حَمَّادٍ
153 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92](1/463)
قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنْ يَبْتَاعَ لَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ جَلُولا، وَيَوْمَ جَلُولا فُتِحَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى فِي قِتَالِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَدَعَا بِهَا عُمَرُ فَأَعْتَقَهَا، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {93} فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {94} قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {95} إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ {96} فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ {97} } [آل عمران: 93-97] قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] الآية، قال المفسرون: لما ادعى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه على ملة إبراهيم عليه السلام قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ ! فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله» .
فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على إبراهيم ونوح.
فأنزل الله تعالى تكذيبا لهم {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] وهو يعقوب، وذلك أنه مرض مرضا، فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحبَّها إليه لُحْمَانُ الإبل وألبانُها، فحرمها الله على ولده، وكان هذا قبل نزول التوراة، وذلك قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93] لتعرفوا أن هذا التحريم إنما كان من جهة يعقوب، ولم يكن في زمن إبراهيم ولا نوح، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فيما تدعون.(1/464)
فلما ثبتت عليهم الحجة بكتابهم قال الله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [آل عمران: 94] من بعد ظهور الحجة بأن التحريم كان من جهة يعقوب ولم يكن محرما قبله، {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [آل عمران: 94] أنفسهم.
قوله: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران: 95] فيما أخبر، {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] وملة محمد عليه السلام داخلة في ملته، فمن اتبع ملة إبراهيم فقد اتبع ملة محمد عليه السلام.
قوله عز وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] الآية، روى عطاء، عن ابن عباس، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «إن أول لمعة وضعت على الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض، وإن أول جبل وضعه الله على هذه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال» .
وهذا قول مجاهد، قال: خلق الله هذا البيت قبل أن يُخلق شيء من الأرض بألفي سنة.
وقال ابن عباس: هو أول بيت بناه آدم في الأرض.
وقال علي رضي الله عنه: هو أول بيت مبارك وهدى وضع للناس.
154 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْفَسَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:(1/465)
قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ عَلَى الأَرْضِ أَوَّلا؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الأَقْصَى، قَالَ: قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ الأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ، فَصَلِّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةُ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ
155 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: حَدِّثْنِي عَنْ هَذَا الْبَيْتِ، أَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ فِي الأَرْضِ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَتْ فِيهِ الْبَرَكَةُ وَالْهُدَى وَمَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
وقوله: للذي ببكة بكة: هي مكة، فأبدلت الميم باء كقولهم: سمد رأسه وسبده، وضربة لازم ولازب.
وقال أبو مالك وإبراهيم: بكة: موضع البيت، ومكة: القرية.
وقوله: مباركا أي: كثير الخير، بأن جعل فيه وعنده البركة، وهدى قال الزجاج: المعنى: وذا هدى.
قال: ويجوز أن يكون على معنى: وهو هدى.
ومعنى كونه هدى للعالمين: أنه قبلة صلاتهم.(1/466)
وقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] قال مجاهد: أثر قدميه في المقام آية بينة.
وقال المفسرون: الآيات التي فيها: أمن الخائف، وامتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمه، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخراجه.
وقال زيد بن أسلم: الآيات البينات: مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا.
وهذا اختيار الزجاج، لأنه قال: ومن الآيات أيضا: أمن من دخله.
وقال: معنى أمن من دخله: أن إبراهيم سأل الله عز وجل أن يؤمن سكان مكة وقال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [إبراهيم: 35] ، فجعل الله عز وجل أمن مكة آية لإبراهيم، فلم يطمع في أهلها جبار، وكان فيما عطف الله تعالى من قلوب العرب في الجاهلية على من لاذ بالحرم حتى يؤمنوه آية بينة.
يدل على هذا قول قتادة في قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] قال: كان ذلك في الجاهلية، فأما اليوم إن سرق فيه أحد قطع، ولو قتل فيه قتل.
وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وقرئ حج البيت بالكسر، والمفتوح مصدر، وهو لغة أهل الحجاز، والمكسور: اسم للعمل، قال سيبويه: ويجوز أن يكون مصدرا كالعلم والذكر.
قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] قال الزجاج: موضع من خفض على البدل من الناس، والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت.(1/467)
وجمهور أهل العلم على أن معنى الاستطاعة الموجبة للحج: القوة، فمن قوي في نفسه بالكون على الراحلة وجب عليه الحج إذا ملك الزاد والراحلة.
وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد، ومذهب الشافعي وأحمد وإسحاق.
156 - أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدَانُ الأَهْوَازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ، عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَتَكْفُرَ بِمَا دُونَهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَهْلِ بْنِ عُثْمَانَ
157 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبُ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَعَدْنَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ: مَا الْحَاجُّ؟ قَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ، فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ "(1/468)
158 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَانُ الْجَوَالِيقِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: إِنَّ عَبْدًا أَصْحَحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَأَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، لَمْ يَفِدْ إِلَيَّ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ عَامًا لَمَحْرُومٌ "
159 - أَخْبَرَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ الْفَرَجِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ:(1/469)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَمْ يَحُجَّ، وَلَمْ يُوصِ بِحَجٍّ، وَلَمْ يُحَجَّ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَلٌ»
أخبرنا أبو حسان المزكي، أخبرنا هارون بن محمد الاستراباذي، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخزاعي، أخبرنا أبو الوليد الأزرقي، أخبرنا جدي أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، عن سعيد بن سالم، عن عثمان بن ساج، أخبرني ابن جريج، قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة.
وقال المسلمون: الكعبة أعظم.
فبلغ ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزل {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] حتى بلغ: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] وليس ذلك في بيت المقدس، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وليس ذلك في بيت المقدس، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] وليس ذلك في بيت المقدس.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] قال ابن عباس والحسن وعطاء: جحد فرض الحج، وزعم أنه ليس بواجب عليه.
وهذا قول جماعة من المفسرين.
قال الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» .
فآمن به المسلمون وكفر الباقون، فأنزل الله تعالى قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] .(1/470)
{قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ {98} قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {99} } [آل عمران: 98-99] قوله: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 98] هذا استفهام معناه التوبيخ، والمراد بالآيات: ما أنزل الله على محمد عليه السلام وما أوتي من المعجزات والعلامات التي تدل على صدقه.
وقوله: {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98] قال ابن عباس: يريد أنه حاضر لأعمالكم.
ومعنى الآية: أن الله تعالى وبخهم على كفرهم، وأخبر أنه لا ينفعهم الاستمرار به، لأنه شهيد على أعمالهم.
قوله تعالى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران: 99] يعني: بتكذيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن صفته ليست في كتابهم، ولا تقدمت البشارة عندهم.
وقوله: تبغونها عوجا أي: تطلبون لسبيل الله الزيغ والتحريف بالشبه التي تلبسون بها على الناس، وأنتم شهداء بما في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ {100} وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {101} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {102} وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103} } [آل عمران: 100-103] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 100] يعني الأوس والخزرج، {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 100] الآية.
قال عكرمة: كان بين هذين الحيين من الأوس والخزرج قتال في الجاهلية، فلما جاء الإسلام اصطلحوا(1/471)
وألف الله بين قلوبهم، فجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس والخزرج، فأنشد شعرا قاله أحد الحيين في حربهم، فدخلهم من ذلك شيء، فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] ، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قام بين الصفين فقرأهن، ورفع صوته، فلما سمعوا صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنصتوا له، وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا، وجثوا يبكون.
قوله: وكيف تكفرون الآية، قال الزجاج: أي: على أي حال يقع منكم الكفر، وآيات الله التي تدل على توحيده، ونبوة نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهركم؟ ! {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} [آل عمران: 101] يتمسك بحبل الله ويمتنع به، {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101] يعني الإسلام.
قوله {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قال ابن مسعود: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
وقال الكلبي، عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية شق على المسلمين مشقة شديدة ولم يطيقوا ذلك.
وحق تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، فلم يطق ذلك العباد، فأنزل الله على نبيه عليه السلام: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] يقول: ما أطقتم.
فلم يكلف العباد من طاعته وعبادته إلا ما استطاعوا، فنسخت هذه الآية ما قبلها.(1/472)
وقال قتادة: حق تقاته: أن يطاع فلا يعصى، ثم أنزل الله التخفيف واليسر بعد ذلك فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
160 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْبِرْتِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْعَرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَوْصِنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهُ جِمَاعُ كُلِّ خَيْرٍ، وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلاوَةِ كِتَابِهِ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأَرْضِ وَذِكْرٌ لَكَ فِي السَّمَاءِ وَاخْزَنْ لِسَانَكَ إِلا مِنْ خَيْرٍ، فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ
قوله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] مفسر في { [البقرة.
قوله عز وجل:] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [سورة آل عمران: 103] قال عبد الله: حبل الله: الجماعة.
وقال الضحاك وقتادة والسدي: حبل الله: القرآن.
وقال أبو عبيدة: الاعتصام بحبل الله: هو ترك الفرقة، واتباع القرآن، لأن المؤمن إذا اتبع القرآن أمن من العذاب.(1/473)
وروى معمر، عن قتادة في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] قال: بعهد الله وبأمره.
قال ابن الأنباري: سمي عهد الله حبلا لأنه سبب النجاة، كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من بئر ونحوها.
وقوله: ولا تفرقوا قال ابن عباس: أي: كما كنتم في الجاهلية مقتتلين على غير دين الله.
وقال الزجاج: أي: تناصروا على دين الله ولا تفرقوا.
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 103] بدين الإسلام، {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران: 103] يعني ما كان بين الأوس والخزرج من الحرب التي تطاولت عشرين ومائة سنة، إلى أن ألف الله بين قلوبهم بالإسلام، فزالت تلك الأحقاد، وصاروا إخوانا في الإسلام متوادين، وذلك قوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] أي: برحمته، يعني الإسلام، إخوانا.
قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ} [آل عمران: 103] شفا الشيء: حرفه، مثل: شفا البئر، والجمع: الأشفاء.
قال ابن عباس: يريد: لو متم على ما كنتم عليه في الجاهلية لكنتم من أهل النار.
فأنقذكم منها أي: خلصكم ونجاكم بدينه الإسلام ومحمد عليه السلام، يقال: أنقذته وتنقذته.
أي: خلصته، وقوله: كذلك أي: كالبيان الذي ذكر، {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] لكي تهتدوا.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104} وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ {106} وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {107} } [آل عمران: 104-107] قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آل عمران: 104] الخطاب للمؤمنين في هذه الآية، أي: كونوا أمة، {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104] قال(1/474)
مقاتل: إلى الإسلام.
ويأمرون بالمعروف يقولون بطاعة الله، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] عن معصية الله، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] يعني الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
161 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَعْمَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو هَمَّامٍ الدَّلالُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَهُ شَيْءٌ، فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ، وَمَا كَلَّمَ أَحَدًا، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَدْعُونِي فَلا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلا أُعْطِيكُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلا أَنْصُرُكُمْ "
وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 105] يعني اليهود والنصارى، تفرقوا بالعداوة والمخالفة، {وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] يعني: صاروا فرقا مختلفين وكتابهم واحد.
قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قال ابن عباس، في رواية عطاء: تبيض وجوه المهاجرين وتسود وجوه قريظة والنضير الذين كذبوا بمحمد عليه السلام.
وقال في رواية سعيد بن جبير: تبيض وجوه أهل السنة(1/475)
وتسود وجوه أهل البدعة.
{فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] فقال لهم: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] قال ابن عباس: هم اليهود، شهدوا لمحمد عليه السلام بالنبوة، فلما قدم عليهم كذبوه وكفروا به.
وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم.
162 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مَأْمُونُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَأْمُونٍ السَّرِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ الْهِسِنْجَانِيُّ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ "
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ {108} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ {109} } [آل عمران: 108-109] قوله: تلك آيات قال ابن عباس: يعني القرآن.
{نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} [آل عمران: 108] نعرفك إياها ونبينها، بالحق بأنها حق، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] فيعاقبهم بلا جرم، قال الزجاج: أعلم الله تعالى أنه يعذب من يعذبه باستحقاقه.(1/476)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110} لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ {111} ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {112} } [آل عمران: 110-112] قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] قال الفراء والزجاج: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ.
قالا: ويجوز أن يكون معنى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] : أنتم خير أمة، كقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] وقال في موضع آخر: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] .
قال ابن عباس: يريد أمة محمد عليه السلام.
وقال الزجاج: أصل هذا الخطاب لأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يعم سائر أمته.
وقوله: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] قال أبو هريرة: خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في دين الإسلام.
وقال عكرمة ومجاهد: خير الناس، لأنه لم يؤمر أحد بالقتال غير محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنتم تسبون الروم وفارس تدخلونهم في دينكم.
163 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجُورِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا(1/477)
شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَنْتُمْ وَفَيَّتْمُ سَبْعِينَ أُمَّةً، وَأَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»
164 - وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْ أُمَّتِي، وَأَرْبَعُونَ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ»(1/478)
165 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْقُوبَ يُوسُفُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أُمَّتِي مَرْحُومَةٌ، لا حِسَابَ عَلَيْهَا فِي الآخِرَةِ وَلا عَذَابَ»
وذكر عيسى ابن مريم أمة محمد عليه السلام، فقال: أخف الناس أحلاما وأثقلهم ميزانا، فأما خفة أحلامهم: فلعنهم البهائم، وأما ثقل موازينهم: فذلة ألسنتهم بكلمة ثقلت على من كان قبلهم: لا إله إلا الله.(1/479)
ثم مدحهم بما فيهم من الخصال الحميدة، وأخبر بها عنهم، فقال: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] .
قوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: 111] أي: ضررا يسيرا باللسان، مثل الوعيد والبهت، {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ} [آل عمران: 111] أي: ينهزمون، فيجعلون مآخيرهم مما يليكم.
وهذا وعد من الله تعالى لنبيه والمؤمنين بالنصرة على أهل الكتاب وهزيمتهم عند القتال، فلم يقاتل يهود المدينة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين إلا ولوا منهزمين.
قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران: 112] فسرناه في { [البقرة.
] أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [سورة آل عمران: 112] صودفوا ووجدوا، {إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] أي: بعهد من الله وعهد من المؤمنين، يعني الذمة والأمان الذي يأخذونه من المؤمنين بإذن الله، فيحقن دماءهم، ويمنع فروجهم وأموالهم عن الاغتنام والسبي، وباقي الآية تقدم تفسيره في { [البقرة.
] لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {113} يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ {114} وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ {115} } [سورة آل عمران: 113-115] قوله: {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران: 113] أخبر الله تعالى أن أهل الكتاب غير متساوين، ثم أخبر بافترائهم فقال: {مِنْ(1/480)
أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113] قال ابن عباس: أي: على الحق وعلى أمر الله، لم يتركوه كما تركه الآخرون.
وقال السدي: قائمة بطاعة الله.
{يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113] يقرءون كتاب الله، {آنَاءَ اللَّيْلِ} [آل عمران: 113] ساعاته، الواحد إنى، مقصور، وإني مثل نحي.
أراد مؤمني أهل الكتاب، وهم يسجدون أي: يصلون.
وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 114] قال ابن عباس: بتوحيد الله.
{وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 114] عن الشرك بالله.
وقال الزجاج: يأمرون باتباع النبي عليه السلام وينهون عن الإقامة على مشاقته.
{وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [آل عمران: 114] يبادرونها خوف الفوت بالموت، ويجوز أن يكون المعنى: يعملونها غير متثاقلين فيها.
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115] لن يعدموا ثوابه، ولن يجحدوا جزاءه، ومن قرأ بالياء فهو كناية وإخبار عن الأمة القائمة.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {116} مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {117} } [آل عمران: 116-117] قوله: إن الذين كفروا يعني اليهود، {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} [آل عمران: 116] لن تدفع عنهم الضرر إذا نزل بهم، {أَمْوَالُهُمْ وَلا(1/481)
أَوْلادُهُمْ} [آل عمران: 116] المعنى: لن تغني عنهم أموالهم في الصدقات ولا أولادهم في الشافاعات، بخلاف المؤمن، فإن المؤمن ينفعه ماله في الكفارات والصدقات، وأولاده في الشفاعة.
ثم ذكر بطلان نفقاتهم فقال: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 117] قال مجاهد: يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم.
وقال مقاتل: يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم.
وقوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] الصر: البرد الشديد.
قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن ضرر نفقتهم عليهم كضرر هذه الريح على هذا الزرع، وهو قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 117] بالكفر والمعصية، {فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 117] لأن كل ما فعله بخلقه فهو منه عدل، {وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] بالكفر والعصيان.
والمعنى: أن هؤلاء رجوا فائدة نفقاتهم، فعادت عليهم بالمضرة، كما رجا أصحاب الزرع عائدة زروعهم فضرتها الريح، فأهلكتها.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ {118} هَأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {119} إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {120} } [آل عمران: 118-120] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] نزلت في النهي عن مداخلة اليهود(1/482)
والمنافقين، وبطانة الرجل: خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن.
وقوله: من دونكم أي: من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم.
وقوله: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا} [آل عمران: 118] يقال: ألا يألو، إذا فتر وضعف وقصر.
والألو: التقصير، والخبال: الفساد والشر.
والمعنى: لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادتكم.
قال الزجاج: أي: لا يبقون غاية في إلقائكم فيما يضركم.
وقوله: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118] ما ههنا: ما المصدر، والمعنى: ودوا عنتكم، وهو دخول المشقة على الإنسان ووقوعه فيما لا يستطيع الخروج منه، قال السدي: تمنوا ضلالكم عن دينكم.
وقوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118] قد ظهرت عداوتهم بالشتيمة والوقيعة في المسلمين وإطلاع المشركين على أسرارهم، {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ} [آل عمران: 118] من العداوة والخيانة، أكبر أعظم مما أظهروا، {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ} [آل عمران: 118] قال السدي: قد بينا آياتهم لتعرفوهم بها.
{إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] موقع نفع البيان.
{هَأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ} [آل عمران: 119] قال الزجاج: ها: تنبيه دخل على أنتم، وأولاء في معنى: الذين، كأنه قيل: هأنتم الذين تحبونهم، ولا يحبونكم أي: تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء، وهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك.
{وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] قال ابن عباس: يريد: بالذي أنزل على محمد والذي أنزل على عيسى والذي أنزل على موسى.
وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران: 119] أي: عضوا الأنامل من الغيظ عليكم، ففيه تقديم وتأخير.
والغيظ: الإغضاب، يقال: غاظه.
أي: أغضبه.
والأنامل: أطراف الأصابع، الواحدة: أنملة، وعض الأصابع واليد من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر(1/483)
على أن يتداركه، أو يرى شيئا يكرهه ولا يقدر أن يغيره.
قال المفسرون: وإنما ذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم، وصلاح ذات بينهم، وقوله: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران: 119] أمر الله نبيه أن يدعو عليهم بهذا، وهو أن يدوم غيظهم إلى أن يموتوا، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 119] بما فيها من خير وشر.
وقال ابن الأنباري: معناه: ما تخفيه القلوب من المضمرات.
قوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] أي: إن نالكم نصر وغنيمة وخصب تسؤهم وتحزنهم، يقال: ساءه كذا، إذا أحزنه.
يسوءه مساءة.
{وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} [آل عمران: 120] أي: نالكم ضد ذلك، {يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا} [آل عمران: 120] على ما تسمعون من أذاهم، وتتقوا مقاربتهم في دينهم، والمحبة لهم، {لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120] ضمن الله للمؤمنين النصر إن صبروا، وأعلمهم أن عداوتهم وكيدهم غير ضار لهم، وقرئ لا يضركم من ضاره إذا أضره.
{إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120] أي: عالم به، لا يخفى عليه شيء من ذلك.
قال قتادة في هذه الآية: إذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهروا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا فرقة واختلافا، أو أصيب المسلمون سرهم وأعجبوا به.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ {121} إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ(1/484)
أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {122} وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {123} إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ {124} بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ {125} وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {126} لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ {127} لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ {128} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {129} } [آل عمران: 121-129] قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] الآية، قال المفسرون: هذا كان يوم أحد، غدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من منزل عائشة إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال.
وقوله: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 121] يقال: بوأته منزلا، وبوأت له منزلا.
أي: أنزلته إياه، والمباءة: المنزل، وقوله: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] أي: مراكز ومثابت، قال ابن عباس: كل رجل لمقعده.
{وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 121] يسمع قولكم ويعلم ما في ضمائركم، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشار أصحابه في الخروج إلى أحد، فمنهم من أشار عليه بالمقام في المدينة، ومنهم من أشار عليه بالخروج إليهم، فقال الله تعالى: أنا أسمع ما يقوله المشيرون، وأعلم ما يضمرون.
قال المسور بن مخرمة: قلت لعبد الرحمن بن عوف: أي خال، أخبرني عن قصتكم يوم أحد.
قال: اقرأ(1/485)
العشرين ومائة من آل عمران، تجد قصتنا، {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 121] إلى قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً} [آل عمران: 154] .
قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] أي: تجبنا، يعني بني سلمة وبني حارثة، هما بالانصراف مع عبد الله بن أبي المنافق، فعصمهما الله، وهو قوله: والله وليهما أي: ناصرهما.
وقال جابر بن عبد الله: فينا نزلت {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ} [آل عمران: 122] نحن الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله تعالى: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] .
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] الآية، بدر: اسم موضع نصر هناك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] جمع ذليل، أي: بقلة العدد وضعف الحال بقلة السلاح والمال.
166 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّضْرُوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْقَطِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ فَارِسًا يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ
167 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْمَنِيعِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ(1/486)
168 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا الْمَنِيعِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ، قَالَ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ الاثْنَيْنِ صَبِيحَةَ سَبْعَةَ عَشَر مِنْ رَمَضَانَ
169 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الأَبْرَشُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عَدَدُ أَهْلِ بَدْرٍ ثَلاثَ مِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا(1/487)
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123] أي: اتقوا عقاب الله بالعمل بطاعته لتقوموا بشكر نعمته.
قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 124] الآية، قال الشعبي: بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر الحنفي يريد أن يمد المشركين، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 124] الآية.
قوله: بلى تصديق لوعد الله بالإمداد والكفاية، إن تصبروا على لقاء العدو، وتتقوا معصية الله ومخالفة نبيه، {وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا} [آل عمران: 125] ، وأصل الفور: غليان القدر، يقال: فارت القدر تفور فورا.
ثم يقال للغضبان: فار فائره، إذا اشتد غضبه.
قال ابن عباس وقتادة والربيع: من وجههم.
وقال مجاهد: من غضبهم.
وقوله: يمددكم ربكم أصل المد والإمداد في اللغة: الزيادة، يقال: مد النهر، ومد الماء، إذا زاد ومده نهر آخر.
ومنه قوله تعالى: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27] أي: يزيد منه، وأكثر ما يستعمل الإمداد في الخير، ومنه قوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] ، {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] ، {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ} [الطور: 22] .
وقوله: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] أي: يزد في عددكم بهذا العدد من الملائكة.(1/488)
ومن فتح الواو من المسومين فمعناه: معلمين قد سوموا، فهم مسومون والسومة: العلامة، ومن كسر الواو: نسب الفعل إليهم، لما روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم بدر: «سوموا، فإن الملائكة قد سومت» .
قال ابن عباس: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، قد أرسلوها في ظهورهم.
وقال الحسن: مسومين بالصوف في نواصي الخيل وأذنابها.
وقال عباد بن عبد الله بن الزبير: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء معتجرا، فنزلت الملائكة عليها عمائم صفر.
قوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} [آل عمران: 126] أي: ما جعل الله ذكر المدد، {إِلا بُشْرَى لَكُمْ} [آل عمران: 126] والبشرى: اسم من الإبشار والتبشير، {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} [آل عمران: 126] فلا تجزع من كثرة العدو وقلة عدوكم.
وقوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126] أراد الله أن لا يركن المؤمنون إلى الملائكة، وأعلمهم أنهم وإن حضروا(1/489)
وقاتلوا فما النصر إلا من عند الله ليستعينوا به ويتوكلوا عليه.
والإمداد بالملائكة: بشرى لهم، وطمأنينة لقلوبهم، لما في البشر من الضعف، فأما حقيقة النصر فهو من عند الله، العزيز الحكيم.
وقوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 127] أي: ليهلك طائفة، وليقتل قطعة.
قال السدي: ليهدم ركنا من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون، وأسر سبعون.
وقوله: أو يكبتهم الكبت في اللغة: صرع الشيء على وجهه، يقال: كبته فانكبت.
ثم يذكر والمراد به: الإخزاء والهلاك واللعن والهزيمة والإذلال. . . هذا ما ذكره المفسرون في تفسير الكبت.
وقوله: {فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} [آل عمران: 127] أي: يرجعوا وينصرفوا ولم يدركوا ما أملوا.
قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] الآية:
170 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَادِقٍ مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ ملاسٍ النُّمَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رُمِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَأُدْمِيَ وَجْهُهُ، وَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128](1/490)
ومعنى أو في قوله: أو يتوب معنى حتى، وإلى أن.
قال الفراء: ومثل هذا في الكلام: لألزمنك أو تعطيني حقي.
على معنى: إلى أن تعطيني وحتى تعطيني.
ولما نفى الأمر عن نبيه ذكر أن جميع الأمر له، فقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129] قال ابن عباس: الذنب العظيم للموحدين.
{وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129] قال: يريد المشركين على الذنب الصغير.
والله غفور لأوليائه، رحيم بهم.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {130} وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ {131} وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ {132} } [آل عمران: 130-132] قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] قال المفسرون: إنهم كانوا يزيدون على المال ويؤخرون الأجل، كلما أخر عن أجل إلى غيره زيد زيادة.
قال مجاهد: يعني ربا الجاهلية.
واتقوا الله بطاعته، لعلكم تفلحون كي تسعدوا وتبقوا في الجنة، قال الزجاج: المفلح: الذي أدرك ما أمل من الخير.
قوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] قال ابن عباس: يهدد المؤمنين إن استحلوا ما حرم الله عليهم من الربا مما أوجب به النار.
وقال الزجاج: اتقوا أن تحلوا ما حرم الله، فإن من أحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع.
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران: 132] فيما يأمران به من النهي عن أكل الربا، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] .
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ {133} الَّذِينَ(1/491)
يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134} وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ {135} أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ {136} } [آل عمران: 133-136] قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] قال عطاء عن ابن عباس: لا تصروا على الذنب، إذا أذنب أحد فليسرع الرجوع، يغفر الله له.
وقال في رواية الكلبي: إلى التوبة من الزنا وشرب الخمر.
وفي الكلام محذوف على تقدير: وسارعوا إلى موجب مغفرة من ربكم.
{وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] قال ابن عباس: يريد: لرجل واحد من أوليائه.
وقال كريب: أرسلني ابن عباس إلى رجل من أهل الكتاب أسأله عن هذه الآية، فأخرج أسفار موسى فنظر، فقال: يلفق كما يلفق الثوب، فأما طولها فلا يقدر أحد قدره.
وقال في رواية أبي صالح: الجنان أربع: جنة عدن وهي الدرجة العليا، وجنة الفردوس، وجنة النعيم، وجنة المأوى، وكل جنة منها كعرض السموات والأرض لو وصل بعضها إلى بعض.
أعدت في الآخرة، للمتقين الشرك والفواحش.
ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران: 134] قال ابن عباس: في اليسر والعسر.
وسمى اليسر سراء لأنه يسر الإنسان، وسمى العسر ضراء لأنه يضر الإنسان.
{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134] يقال: كظم غيظه، إذا سكت عليه ولم يظهره بقول أو فعل.
قال المراد: تأويله: أنه كتمه على امتلائه منه.(1/492)
والمعنى: الكافين غضبهم عن إمضائه، يردون غيظهم في أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون.
171 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبُوشَنْجِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُعَاذِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ زَبَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ، دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ فَيُخَيِّرُهُ فِي الْحُورِ الْعِينِ، يُزَوِّجْهُ مِنْهُنَّ أَيَّهَا شَاءَ»
وقوله: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] قال ابن عباس: عن المماليك، إذا أذنب واحد منهم ذنبا عفوا عنه لما يرجون من ثواب الله.
وقال زيد بن أسلم ومقاتل: أي: ممن ظلمهم وأساء إليهم.
وقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] قال ابن عباس: يريد الموحدين الذين هذه الخصال فيهم.
قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران: 135] قال ابن عباس في رواية عطاء: نزلت الآية في نبهان التمار، أتته(1/493)
امرأة حسناء تبتاع منه تمرا، فضمها إلى نفسه وقبلها، ثم ندم على ذلك، فأتى النبي عليه السلام، فذكر له ذلك، فنزلت هذه الآية.
ومعنى الفاحشة ههنا: الزنا.
وقوله: {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135] قال الكلبي ومقاتل: هو ما دون الزنا من قبلة أو لمسة أو نظر فيما لا يحل، مثل الذي فعل نبهان.
وقوله: ذكروا الله قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله عز وجل.
وقال مقاتل والواقدي: تفكروا أن الله سائلهم عنه.
وقوله: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] أي: قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا، فإنا تبنا إليك وندمنا.
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران: 135] لم يقوموا ولم يدوموا، بل تابوا وأقروا واستغفروا.
172 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَبِي نُصَيْرَةَ، قَالَ: لَقِيتُ مَوْلًى لأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقُلْتُ: سَمِعْتُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقوُلُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمْ يُصِرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»(1/494)
173 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ، مِنْ بَنِي أَسَدٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَسْمَاءَ، أَوِ ابْنِ أَسْمَاءَ، مِنْ بَنِي فَزَارَةَ، قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَلِكَ الذَّنْبِ إِلا غَفَرَ لَهُ» ، وَقَرَأَ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] ، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135]
وقوله: وهم يعلمون قال مجاهد: يعلمون أنه يغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب إليه.
ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن أبي ذر، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال: من علم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي.(1/495)
ثم ذكر جزاء المستغفرين من الذنب فقال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 136] إلى قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136] أي: نعم أجر العاملين المغفرة.
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {137} هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ {138} وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {139} إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141} } [آل عمران: 137-141] قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] السنن: جمع السنة، وهي المثال المتبع والإمام المؤتم به، وسنة الله: أمره ونهيه، وسنة النبي عليه السلام: طريقته.
يقول الله تعالى: قد مضت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية المكذبة الكافرة سنن بإمهالي واستدراجي إياهم، حتى يبلغ الكتاب فيهم أجلي الذي أجلته في إهلاكهم، وبقيت لهم آثار في الدنيا، فيها أعظم الاعتبار.
{فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} [آل عمران: 137] آخر أمر، المكذبين منهم.
وقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] يعني: القرآن بيان من العمى، وهدى من الضلال، وموعظة من الجهل، للمتقين يعني هذه الأمة.
قوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] هذه الآية تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمسلمين من الله تعالى، لما نالهم يوم أحد من القتل والجرح.
ومعنى ولا تهنوا: لا تضعفوا، يقال: وهن يهن وهنا فهو واهن، إذا ضعف في العمل.
قال المفسرون: لا تهنوا عن جهاد عدوكم، ولا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، فإنكم أنتم الأعلون، أي: لكم تكون العافية بالنصر والظفر.
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] يعني: إن الإيمان يوجب ما ذكر من ترك الوهن والحزن، أي: من كان مؤمنا يجب أن لا يهن ولا يحزن لثقته بالله عز وجل.
وقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] أي: يصيبكم، يقال: مسه أمر كذا، ومسته الحاجة، إذا أصابته.(1/496)
والقرح قرئ بضم القاف وفتحه، وهما لغتان في غض السلاح ونحوه مما يجرح الجسد، مثل: الضعف والضعف.
يقول: إن أصابكم جرح يوم أحد فقد أصاب المشركين مثله يوم بدر، وهو قوله: {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران: 140] .
وقوله: وتلك الأيام قال ابن عباس: يعني أيام الدنيا.
{نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] قال الحسن وقتادة والسدي والربيع: نصرفها مرة لفرقة ومرة لفرقة.
والدولة: الكرة، يريد أنه أدال المسلمين من المشركين يوم بدر، وأدال المشركين من المسلمين يوم أحد.
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140] أي: ليعلمهم مميزين بالإيمان من غيرهم، أي: إنما يجعل الدولة للكفار على المسلمين ليميز المؤمن المخلص ممن يرتد عن الدين إذا أصابته نكبة.
والمعنى: ليقع ما علمه غيبا مشاهدة للناس، وليعلم ذلك كائنا موجودا كما علمه غيبا.
المجازاة إنما تقع بما يعلمه موجودا، لا بما علمه غيبا.
وقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران: 140] أي: وليكرم قوما بالشهادة، {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 140] قال ابن عباس: يعني المشركين.
وفي هذا إشارة إلى أنه إنما يديل الكافرين على المؤمنين لما ذكر، لا لأنه يحبهم.
وإذا أدال المؤمنين أدالهم نصرة لهم ومحبة منه إياهم.
قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] أي: ليطهرهم من ذنوبهم ويسقطا عنهم، قال المبرد: تأويل قول الناس: محص عنا ذنوبنا: أذهب ما تعلق بنا من الذنوب.
فمعنى قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 141] : ليخلصهم من ذنوبهم، قال الزجاج: معنى الآية: جعل الله الأيام(1/497)
مداولة بين الناس ليمحص المؤمنين إذا أدال عليهم، {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] ويستأصلهم إذا أدال عليهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين لأن تمحيص هؤلاء هو بإهلاك ذنوبهم، نظير محق الكافرين بإهلاك أنفسهم.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ {143} } [آل عمران: 142-143] قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران: 142] الآية، خطاب للذين انهزموا يوم أحد، فقيل لهم: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وبذلوا مهجتهم وثبتوا على ألم الجراح والضرب، من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟ ! وهو قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] أي: ولما تجاهدوا فيقع العلم به.
والمعنى: ولما يعلم الله ذلك واقعا منكم، لأنه يعلمه غيبا.
قوله: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142] انتصب على الصرف عن العطف، قال ابن الأنباري: هذه الواو يسميها أهل النحو واو الصرف، والذي بعدها ينصب على خلاف ما قبلها، كما تقول العرب: لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
أي: لا تجمع بينهما، ولا تأكل السمك في حال شربك اللبن.
قوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} [آل عمران: 143] الآية، قال المفسرون: كانوا يتأسفون على ما فاتهم من بدر، ويتمنون يوما مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم انهزموا يوم أحد فاستحقوا العقاب.
قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} [آل عمران: 143] يعني: من قبل يوم أحد، وقوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} [آل عمران: 143] أي: رأيتم أسباب الموت وما يتولد منه الموت كالسيف والأسنة، {وَأَنْتُمْ(1/498)
تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] أي: وأنتم بصراء تتأملون الحال في ذلك كيف هي، فلم انهزمتم؟ ! وهذا محذوف، وهو مراد، لأنه موضع العتاب.
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ {144} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ {145} وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {148} } [آل عمران: 144-148] قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ} [آل عمران: 144] الآية، لما نعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشيع أنه قد قتل، قال بعض المسلمين: ليت لنا من يأخذ أمانا من أبي سفيان.
وقال ناس من أهل النفاق: إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول.
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] معناه: أنه يموت كما ماتت الرسل من قبله، {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] أي: أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل؟ ! ويقال لكل من عاد إلى ما كان عليه ورجع وراءه: انقلب على عقبيه.
وقوله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144] فيه معنى الوعيد، أي: فإنما يضر نفسه باستحقاق العقاب، {(1/499)
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144] قال ابن عباس: يريد الطائعين لله من المهاجرين والأنصار.
وقال عبد الرحمن بن عوف في قوله: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] : هو صياح الشيطان يوم أحد: قتل محمد.
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145] قال الزجاج: اللام في النفس معناها: النقل، بتقدير: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
قال ابن عباس: يريد: بقضائه وقدره.
والمراد بهذا: الحض على الجهاد، من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله.
قال ابن الأنباري: عاتب الله بهذا المنهزمين يوم أحد رغبة في الدنيا وضنا بالحياة، وأخبرهم أن الحياة لا تزيد ولا تنقص، وأن الموت بأجل عنده لا يتقدم ولا يتأخر.
وقوله: كتابا مؤجلا أي: كتب الله ذلك كتابا إلى أجله في اللوح المحفوظ، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] أي: من يرد بطاعته وعمله زينة الدنيا وزخرفها نؤته منها ما نشاء مما قدرناه له، كقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} [الإسراء: 18] .
وعني بهذا الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة ورغبة في الدنيا، {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ} [آل عمران: 145] أي: من كان قصده بعمله ثواب الآخرة، {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] يعني الذين ثبتوا يوم أحد حتى قتلوا.
أعلم الله أنه يجازي كلا على قصده وإرادته، كما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «الأعمال بالنيات» .
قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ} [آل عمران: 146] الآية، معنى كأين: كم، وتأويله: الكثير، لعدد الأنبياء الذين هذه صفتهم.(1/500)
وقرأ ابن كثير وكائن بوزن كاعن، وهما لغتان بمعنى واحد، وأكثر ما جاء في الشعر على هذه اللغة، قال جرير:
وكائن بالأباطح من صديق ... يراني لو أصبت هو المصابا
قوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] يجوز أن يكون القتل مسندا إلى نبي، ويجوز أن يكون مسندا إلى ربيون، وكذلك الوجهان من قراءة من قرأ قاتل، والربيون: الجماعات الكثيرة، الواحد: ربي، وهو قول جميع المفسرين.
قوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} [آل عمران: 146] قال الزجاج: ما جبنوا عن قتال عدوهم، وما فتروا، {وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146] وما خضعوا لعدوهم.
والآية احتجاج على المنهزمين يوم أحد، وذلك أن صائحا صاح: قد قتل محمد.
فاضطرب أمر المسلمين، واختلفوا فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعاتبهم على ما كان من فعلهم، ويحضهم على الجهاد بسلوك طريقة صحابة الأنبياء.
قال ابن الأنباري: أي فقد كان واجبا عليكم أن تقاتلوا على أمر نبيكم لو قتل كما قاتل أمم الأنبياء بعد قتلهم ولم يرجعوا عن دينهم.(1/501)
قوله: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} [آل عمران: 147] أي: عند لقاء العدو، {إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] أي: تجاوزنا الحد في المعاصي، وثبت أقدامنا بالقوة من عندك والنصرة.
قال الزجاج: أي ثبتنا على دينك، وإذا ثبتوا على دينهم ثبتوا في حربهم.
{وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147] هذا تعليم من الله تعالى، دعاء الاستفتاح والنصرة على الكافرين عند لقائهم في الحرب.
قوله: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [آل عمران: 148] النصر والظفر والغنيمة، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران: 148] يعني الأجر والمغفرة، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148] .
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ {149} بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ {150} سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ {151} } [آل عمران: 149-151] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 149] قال ابن عباس: يعني اليهود.
وقال السدي: يعني أبا سفيان وأصحابه.
وقال علي رضي الله عنه: يعني المنافقين، في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى دين آبائكم.
وقوله: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149] أي: يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله، فتنقلبوا خاسرين فتصيروا خائبين من المغفرة والجنة.
{بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} [آل عمران: 150] ناصركم ومعينكم، أي: استغنوا عن موالاة الكفار فلا تستنصروهم، فإني وليكم وناصركم.
ثم وعدهم خذلان أعدائهم فقال: {(1/502)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] قال السدي: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد إلى مكة، هموا بالرجوع لاستئصال المسلمين، فألقى الله في قلوبهم الرعب، فمضوا ولم يرجعوا.
والرعب: الخوف الذي يحصل في القلب، والتخفيف والتثقيل فيه لغتان، كالكتب والرسل.
وقوله: {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} [آل عمران: 151] أي: بإشراكهم، وما ههنا: للمصدر، والمعنى: بما عدلوا بالله، ومن عدل بالله شيئا من خلقه فهو كافر.
قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] أي: حجة وبرهانا في قول جميع المفسرين، يعني الأوثان التي عبدوها مع الله.
ومأواهم أي: مرجعهم ومصيرهم إلى {النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151] هي، والمثوى: المكان الذي يقيم به، وهذا ذم لمكانهم من النار.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ {152} إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {153} ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {154} إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ {155} } [آل عمران: 152-155] قوله عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] أي: تقتلونهم قتلا شديدا كثيرا.(1/503)
قال أبو عبيدة والزجاج: الحس: الاستئصال بالقتل، يقال: جراد محسوس، إذا قتله البرد.
قال المفسرون: كان المسلمون يوم أحد يقتلون المشركين قتلا ذريعا حتى ولوا هاربين، وانكشفوا منهزمين.
فذلك قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] أي: بعلمه وإرادته.
ثم أخل الرماة بالمكان الذي ألزمهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، فحمل حينئذ خالد بن الوليد من وراء المسلمين، وتراجع المشركون وقتل من المسلمين سبعون رجلا ثم هزموا.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران: 152] أي: جبنتم عن عدوكم، يقال: فشل الرجل عن الحرب يفشل إذا ضعف وذهبت قوته، وإنه لفشل وفشل.
وقوله: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 152] أي: اختلفتم، وكان اختلافهم أن المشركين لما انهزموا في أول الأمر قال بعض الرماة الذين كانوا عند المركز: ما مقامنا ههنا وقد انهزم القوم؟ ! وقال بعضهم: لا نجاوز أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: وعصيتم أي: بترك المركز، {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152] من الظفر والنصر والفتح، {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152] يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا إلى النهب، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152] يعني الذين ثبتوا حتى قتلوا.
174 - أَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ وَارَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:(1/504)
مَا كُنْتُ أَدْرِي أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ الدُّنْيَا، حَتَّى نَزَلَ فِينَا مَا نَزَلَ يَوْمَ أُحُدٍ: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران: 152]
قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} [آل عمران: 152] أي: ردكم عنهم بالهزيمة، على معنى: صرف وجوهكم عنهم، وهذا صريح في أن المعصية مخلوقة لله، حيث أضاف انهزامهم إلى نفسه فقال: صرفكم عنهم ولم يقل: انصرفتم.
قوله: ليبتليكم أي: ليختبركم بما جعل عليكم من الدبرة والهزيمة، فتبين الصابر من الجازع، والمخلص من المنافق، {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} [آل عمران: 152] ذنبكم بعصيان الرسول والانهزام، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152] قال ابن عباس: يريد المغفرة.
175 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتَهُ وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُهُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْهُ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا الْمَاءَ بِالْمِجَنِّ فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لا يَزِيدُ الدَّمَ إِلا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ، حَتَّى إِذَا صَارَ رَمَادًا أَلْزَمَتْهُ الْجَرْحَ، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمَ
قوله: إذ تصعدون يقال: أصعد في البلاد، إذا سار ومضى.
ومعنى تصعدون: تبعدون في الهزيمة.(1/505)
{وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} [آل عمران: 153] لا تعرجون ولا تقيمون، يقال: مضى فلم يلو على شيء.
أي: لم يعرج، وأصله من لي العنق في الالتفات، ثم استعمل في ترك التعريج.
{وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] أي: من خلفكم، يقول: إلي عباد الله، إلي عباد الله.
يقال: جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأخرى الناس، إذا جاء خلفهم.
وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} [آل عمران: 153] الباء بمعنى اللام، أي: جعل مكان ما ترجعون من الثواب أن غمكم بالهزيمة، وظفر المشركين بغم، أي: بغمكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ عصيتموه فعصيتم أمره، فالغم الأول لهم، والثاني للنبي عليه السلام، وهذا القول اختيار الزجاج.
قوله: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153] تذكير للتحذير.
قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} [آل عمران: 154] قال المفسرون: إن المشركين لما انصرفوا يوم أحد كانوا يتوعدون المسلمين بالرجوع، ولم يأمن المسلمون كرتهم، وكانوا تحت الحجف متأهبين للقتال، فأنزل الله تعالى عليهم دون المنافقين أمنة، فأخذهم النعاس.
قال ابن عباس: آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد خوف، وإنما ينعس من أمن، والخائف لا ينام.
قال أبو طلحة: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس.
قال: وكنت ممن ألقي عليه النعاس يومئذ، فكان السيف يسقط من يدي، فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي، فآخذه.(1/506)
والأمنة: مصدر كالأمن، يقال: أمن فلان يأمن أمنا وأمنة وأمانا.
والنعاس: بدل من الأمنة.
قوله: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} [آل عمران: 154] قرئ بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء فلأن النعاس هو الغاشي، والعرب تقول: غشيني النعاس، وقل ما غشيني الأمن.
ومن قرأ بالتاء جعل الأمنة هي الغاشية، لأن الأصل الأمنة، والنعاس بدل، والأمنة هي المقصود، وإذا حصلت الأمنة حصل النعاس.
وقوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] يعني المنافقين: عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، وأصحابهما، كان همهم خلاص أنفسهم.
يقال: أهمني الشيء.
أي: كان من همي وقصدي.
قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} [آل عمران: 154] أي: يظنون أن أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضمحل، وأنه لا ينصر، ظن الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام.
والتقدير: ظن أهل الجاهلية، أي: أنهم كانوا على جهالتهم في ظنهم هذا.
{يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران: 154] هذا استفهام معناه الجحد، أي: ليس لنا من النصر والظفر شيء كما وعدنا، بل هو للمشركين يقولون ذلك على جهة التكذيب، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154] قال ابن عباس: يريد: القضاء والقدرة والنصرة والشهادة.
وقرأ أبو عمرو كله بالرفع على الابتداء، ولله الخبر.(1/507)
قال الفراء: ومثله مما قطع مما قبله قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ومن هذا أيضا ما أجازه سيبويه من قولهم: أين تظن زيد ذاهب.
وقوله: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران: 154] من الشك والنفاق وتكذيب الوعد بالنصرة، {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا} [آل عمران: 154] يعنون: أنهم خرجوا كرها، ولو كان الأمر بيدهم لم يخرجوا.
176 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الأُمَوِيِّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ النُّعَاسَ لَيَغْشَانَا بَعْدَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ الَّذِي كُنَّا فِيهِ إِذْ سَمِعْتُ مُعَتِّبَ بْنَ قُشَيْرٍ، وَمَا أَسْمَعُهَا إِلا كَالْحُلْمِ، يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا "
ثم رد الله تعالى عليهم هذا الكلام بقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 154] أيها المنافقون، ولم تخرجوا إلى أحد، {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] يعني: لو تخلفوا عن القتال لخرج الذين كتب عليهم القتل، ولم يكن لينجيهم قعودهم.
ويريد بالمضاجع: مصارعهم للقتل إلى حيث يسقطون هناك قتلى.
وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} [آل عمران: 154] قال الزجاج: أي ليختبر ما في صدوركم ليعلمه مشاهدة كما علمه غيبا، لأن المجازاة إنما تقع على ما علمه مشاهدة.(1/508)
وتقدير الآية: وليبتلي الله ما في صدوركم فعل ما فعل يوم أحد.
وقوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] قال قتادة: ليطهرها من الشك والارتياب بما يريكم من عجائب صنعه في إلقاء الأمنة وصرف العدو، وإعلان سرائر المنافقين.
وهذا التمحيص خاص للمؤمنين دون المنافقين، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] أي: بما فيها من خير وشر.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] يعني الذين انهزموا يوم أحد، {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 155] أي: حملهم على الزلة، وكسبهم الزلة، {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155] قال مقاتل: يعني معصيتهم النبي عليه السلام وتركهم المركز.
{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] غفر لهم تلك الخطيئة، قال قتادة في هذه الآية: تولى أناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد عن القتال وعن نبي الله، وكان ذلك من أمر الشيطان، فأنزل الله ما تسمعون أنه قد تجاوز عن ذلك وعفا عنهم.
177 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَيَّانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْبُوبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا الْقَارِي، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَفَعَ صَوْتَهُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيفَةٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:(1/509)
بِأَيْشِ تَرْفَعُ صَوْتَكَ عَلَيَّ وَلَقَدْ شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَدْ، وَبَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تُبَايِعْ، يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَفَرَرْتَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ أَفِرَّ.
فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَمَّا قَوْلُكَ شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ تَشْهَدْ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَنِي عَلَى ابْنَتِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ أَنَّكَ بَايَعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أُبَايِعْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنِي إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا أَبْطَأْتُ عَلَيْهِ ضَرَبَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ لِعُثْمَانَ، فَشِمَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ يَمِينِي، وَلَقَدْ عَلِمْتُ ذَلِكَ أَنْتَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ فَرَرْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلُمْتَ بِذَنْبٍ عَفَا اللَّهُ لِي عَنْهُ
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {156} وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ {157} وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ {158} } [آل عمران: 156-158] قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 156] الآية، قال ابن عباس: يريد قوما من المنافقين قالوا فيمن بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السرايا إلى بئر معونة وإلى الرجيع فأصيبوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا.(1/510)
وقوله: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} [آل عمران: 156] أي: في النفاق، {إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 156] أي: ساروا وسافروا فيها، {أَوْ كَانُوا غُزًّى} [آل عمران: 156] جمع غاز، مثل: صائم وصوم، ونائم ونوم.
وفي الآية محذوف يدل عليه الكلام، والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا، أو كانوا غزى فقتلوا.
{لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران: 156] وهذا الظاهر يدل على موتهم وقتلهم.
وقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] أي: ليجعل ظنهم أنهم لو لم يحضروا الحرب اندفع عنهم القتل، حسرة في قلوبهم، وحسرتهم في مقالتهم التي كانوا كاذبين فيها على القضاء والقدر أشد عليهم مما نازلهم في قتل إخوانهم وموتهم.
وتقدير معنى الآية: لا تكونوا كهؤلاء الكفار عَنَّ هذا القول منهم ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم.
{وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [آل عمران: 156] أي: ليس ينفع الإنسان تحرزه من إتيان أجله على ما سبق في علم الله، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156] بالياء والتاء، فمن قرأ بالتاء فلأن الآية خطاب، وهو قوله: ولا تكونوا، ومن قرأ بالياء فللغيبة التي قبلها، وهي قوله: وقالوا لإخوانهم.
قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 157] اللام في لئن: لام القسم، بتقدير: والله لئن قتلتم في سبيل الله أيها المؤمنون، أو متم في سبيل الله.
وقرئ متم بكسر الميم، وهو شاذ، ونظيره في الصحيح: فضل يفضل.
والخطاب للمؤمنين، يقول الله تعالى: ولئن قتلتم في الجهاد، أو متم ليغفرن لكم، وهو قوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157] من أعراض الدنيا التي تتركون القتال في سبيل الله للاشتغال بجمعها.
وقرأ حفص يجمعون بالياء، ويكون المعنى: لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعه غيركم مما تركوا القتال لجمعه.(1/511)
ولئن متم يريد: مقيمين عن الجهاد، أو قتلتم مجاهدين، {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] يعني: في الحالين، وهذا تهديد بالحشر، وتحذير من القيامة.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] ما ههنا: صلة، لا تمنع الباء من عملها فيما عملت فيه، وهي كثيرة في القرآن كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] ، و {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} [ص: 11] ، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] .
والمعنى: فبرحمة من الله، لنت لهم أي: سهلت أخلاقك، وكثر احتمالك.
يقال: لان يلين لينا وليانا، إذا رق وحسن خلقه وانقاد.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} [آل عمران: 159] الفظ: الغليظ الجانب، السيء الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة، فأنت فظ.
وقال الكلبي: لو كنت فظا في القول غليظ القلب في الفعل، {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] لتفرقوا ونفروا منك.
وقوله: فاعف عنهم أي: عن الشيء يكون منهم، واستغفر لهم من ذلك الذنب، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال قتادة: أمر الله تعالى نبيه أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء، لأنه أطيب لأنفس القوم إذا شاور بعضهم بعضا.
وقال الضحاك: ما أمر الله نبيه بالمشورة إلا لما يعلم ما فيها من الفضل.
وروى عمرو بن دينار، عن ابن(1/512)
عباس في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال: يريد أبا بكر وعمر.
وقوله تعالى: فإذا عزمت أي: على ما تريد إمضاءه فتوكل على الله لا على المشاورة.
ومعنى التوكل: تفويض الأمر إلى الله للثقة بحسن تدبيره.
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 160] وقوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160] أي: من الناس.
والمعنى: إن ينصركم الله لم يضركم خذلان من خذلكم.
وإن يخذلكم معنى الخذلان: القعود عن النصرة وقت الحاجة إليها.
{فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] هذا استفهام بمعنى النفي، أي: لا ينصركم أحد من بعده.
وقال الكلبي: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 160] يعني أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فعل يوم بدر، {فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} [آل عمران: 160] كما كان يوم أحد، {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ} [آل عمران: 160] أي: يمنعكم من عدوكم.
وقوله: من بعده ظاهر الكناية يعود إلى اسم الله تعالى.
والمعنى على حذف المضاف بتقدير: من بعد خذلانه.
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 161] قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] روى عكرمة، عن ابن عباس: فقدت قطيفة حمراء يوم بدر(1/513)
مما أصيب من المشركين، فقال أناس: لعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذها.
فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] أي: يخون، من الغلول وهو الخيانة، وأصله: أخذ الشيء في خفية، يقول: ما كان لنبي أن يخون فيكم الغنيمة من أصحابه.
وأن مع الفعل بمنزلة المصدر، كأنه قيل: ما كان لنبي الغلول، أراد: ما غل نبي، ينفي عن الأنبياء الغلول.
وقرئ يغل بضم الياء وفتح الغين، من الأغلال وهو النسبة إلى الغلول، قال الفراء: قرأ أصحاب عبد الله يغل يريدون: أن يسرق ويخون، وذلك جائز، وإن لم يقل: يغلل، فيكون مثل قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] و {لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] .
178 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّجَّارُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَيُّوبَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَزِيدَ النَّرْسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ الْمُقْرِي، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْيَزِيدِيِّ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] وَيَقُولُ: كَيْفَ لا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَغُلَّ، وَقَدْ كَانَ يَقْتُلُ، قَالَ اللَّهُ: {وَيَقْتُلُونَ الأَنْبِيَاءَ} [آل عمران: 112] وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ اتَّهَمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْغَنِيمَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161](1/514)
179 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَخْلَدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ اللُّتَبْيَةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ الْهَدِيَّةُ أُهْدِيَتْ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أُمِّكَ وَأَبِيكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ؟ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ، فَلا أَعْرِفَنَّ رَجُلا يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يَحْمِلُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ، ثُمَّ بَسَطَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: أَلا هَلْ بَلَّغْتُ، ثَلاثًا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
وقوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آل عمران: 161] قال ابن عباس: يريد: تجازى ثواب عملها.
وهم لا يظلمون لا ينقصون من ثواب أعمالهم شيئا.
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {162} هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {163} } [آل عمران: 162-163] قوله: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] يعني: بالعمل بطاعته والإيمان به، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] في العمل بمعصية الله والكفر به، قال ابن عباس {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] يريد المهاجرين والأنصار، {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162] يريد المنافقين.
وقال الزجاج: يروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أمر المسلمين يوم أحد بالحرب اتبعه المؤمنون، وتخلف عنه جماعة(1/515)
من المنافقين، فأعلم الله أن من اتبع نبيه اتبع رضوان الله، وأن من تخلف عنه فقد باء بسخط من الله.
ومعنى باء به: احتمله ورجع به، وذكرنا هذا في { [البقرة.
قوله:] هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [سورة آل عمران: 163] أي: أهل درجات، أو ذوو درجات، فحذف المضاف، والمعنى: أن المؤمنين ذوو درجة رفيعة، والكافرين ذوو خسيسة.
قال ابن عباس: يعني أن من اتبع رضوانه ومن باء بسخط منه مختلفو المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوانه الكرامة والثواب، ولمن باء بسخط منه المهانة والعذاب.
وهذا قول الكلبي، قال: أهل الجنة بعضهم أفضل من بعض، وكل في فضل وكرامة، وأهل النار بعضهم أشد عذابا من بعض، وكل في عذاب وهوان.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 164] أي: أنعم عليهم وأحسن إليهم، {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] هذا خاص للعرب، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من العرب، ولم يكن حي من أحياء العرب إلا وقد ولده وله فيهم نسب، غير بني تغلب، لأنهم كانوا نصارى، فطهره الله منهم.
ومعنى من أنفسهم: من نسبهم، قال ابن عباس: يريد: من نسبهم، وهو من ولد إسماعيل.
وهذا قول عائشة رضي الله عنها، لأنها قالت: هذا للعرب خاصة.
وقال آخرون: المراد به المؤمنون كلهم، ومعنى من أنفسهم: أنه واحد منهم يعرفونه ويعرفون نسبه، وليس بملك ولا أحد من غير بني آدم.
وهذا القول اختيار الزجاج، قال: لو كانت المنة فيه أنه من العرب لكان العجم لا منة عليهم، ولكن المنة فيه أنه قد خبر أمره وشأنه، وعلم صدقه بعد أن علموا أنه كان واحدا منهم، فكان أيسر عليهم معرفة أحواله من الصدق والأمانة.(1/516)
وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] أي: وما كانوا من قبل محمد إلا في ضلالة، كقوله: وإن كنتم من قبله لمن الظالمين.
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {165} وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ {166} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ {167} الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {168} } [آل عمران: 165-168] قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [آل عمران: 165] يعني: أوحين أصابتكم، ألف الاستفهام دخلت على واو العطف، وأراد بالمصيبة: ما أصابهم يوم أحد.
وقوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] يعني يوم بدر، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران: 165] قلتم: من أين أصابنا هذا القتل والهزيمة وقد تقدم الوعد بالنصر ونحن مسلمون ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] أي: إنكم تركتم المركز، وطلبتم الغنيمة، وعصيتم الرسول، فمن قِبَلكم جاء الشر.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] أي: يأخذكم الفداء، وذلك أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر فقال: يا محمد، إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء، على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقومه، فقالوا: يا رسول الله، عشائرنا وأخواننا، لا، بل نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال العدو، ويستشهد منا بعددهم.
فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر، فهو معنى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] أي: يأخذكم واختياركم القتل.(1/517)
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] أي: من النصر مع الطاعة، وترك النصر مع المخالفة.
قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 166] يعني يوم أحد، التقى فيه المشركون والمسلمون، فبإذن الله وقال ابن عباس: فبقضاء الله.
{وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ {166} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166-167] أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم وقلة صبرهم على ما ينزل بهم.
وذكرنا معنى علم الله فيما لا يزال مع سبق علمه بالكائنات فيما لم يزل.
قال ابن عباس: يريد بالذين نافقوا: عبد الله بن أبي، وأصحابه، وذلك أنهم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد، فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم.
ودعاهم إلى القتال في سبيل الله، فذلك قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا} [آل عمران: 167] .
قال السدي: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا.
وقال جماعة من المفسرين: أو ادفعوا عن أهلكم وبلدكم وحريمكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله.
{قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] أي: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، يعنون: لا يكون اليوم قتال ولو نعلم أنه يكون قتال لاتبعناكم، ونافقوا بهذا القول لأنه كان في قلوبهم خلاف ما تكلموا به، قال الله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 167] يريد: إنهم بما أظهروا من خذلان المؤمنين صاروا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وذلك أنهم قبل هذا كانوا بظاهر حالهم أقرب إلى الإيمان حتى هتكوا أنفسهم بما فعلوا وقالوا مما لم يكن في قلوبهم ذلك، وهو قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران: 167] أي: من النفاق.
قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} [آل عمران: 168] يعني عبد الله بن أبي وأصحابه، قالوا لإخوانهم من المنافقين وقعدوا هم عن الجهاد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والواو للحال، لو أطاعونا في القعود عن الحرب، يعنون(1/518)
شهداء أحد، ما قتلوا.
فرد الله تعالى عليهم وقال: قل لهم يا محمد، {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] أي: إن صدقتم أن الحذر ينفع من القدر.
ومعنى الدرء في اللغة: الدفع، ومنه قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] .
{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ {170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ {171} الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ {172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {175} } [آل عمران: 169-175] قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآية.
180 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلالِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدَانَ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعيِد بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا: مَنْ يُبْلِغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءَ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ؟ لِئَلا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلا يَتَّكِلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبْلِغُهُمْ عَنْكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169](1/519)
181 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَذَّاءُ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَشِيرِ بْنِ الْفَاكِهِ الأَنْصَارِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُهْتَمًّا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُتِلَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالا، فَقَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي سَلْنِي أُعْطِكَ، قَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] الآيَةَ
182 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَال: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا} [آل عمران: 169] قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، إِنَّ أَرْوَاحَهُمْ كَطَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيِّهَا شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ، فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذِ اطَّلَعَ رَبُّكَ عَلَيْهِمُ اطِّلاعَةً، فَقَالَ: سَلُونِي مَا شِئْتُمْ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا مَاذَا نَسْأَلُكَ، وَنَحْنُ فِي الْجَنَّةِ نَسْرَحُ فِي أَيِّهَا شِئْنَا؟ قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لا يُتْرَكُونَ مِنْ أَنْ يَسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبَّنَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا إِلَى أَجْسَادِنَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لا يَسْأَلُونَ إِلا هَذَا تَرَكَهُمْ.(1/520)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ
وقوله: بل أحياء الأصح في حياة الشهداء ما روينا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن أرواحهم في أجواف طير، وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون.
وقيل: إن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء.
وقوله: عند ربهم أي: في دار كرامته، ومعنى عنده معنى القرب والإكرام بحضور دار السلام.
وقيل عند ربهم أي: في علمه.
وقوله: يرزقون أي: من ثمار الجنة كما رويناه.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170] أي: بما نالوا من الكرامة، ويستبشرون: الاستبشار: السرور بالبشارة يبشر بها، {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} [آل عمران: 170] أي: أنهم يفرحون بإخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء يقولون: إخواننا يقتلون كما قتلنا، فيصيبون من كرامة الله ما أصابنا.
وهو قوله: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] .
قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ} [آل عمران: 171] قرئ بالفتح والكسر، فمن فتحها فعلى معنى: وبأن الله، فهي معطوفة على الباء في بنعمة، ومن كسرها استأنف.
قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] الآية، قال المفسرون: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد ندموا وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا قليل تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم.
فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراد أن يرهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندبهم للخروج في طلب أبي سفيان، فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجروح، فذلك قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] أي: أجابوهما، {مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172] أي: الجراحات وألمها، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ} [آل عمران: 172] أي: بطاعة الرسول، واتقوا معصيته ومخالفته، أجر عظيم.(1/521)
183 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] إِلَى آخِرِهَا، قَالَتْ لِعُرْوَةَ: يَابْنَ أُخْتِي، كَانَ أَبَوَاكَ مِنْهُمُ، الزُّبَيْرُ وَأَبُو بَكْرٍ، لَمَّا أَصَابَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا أَصَابَ، وَانْصَرَفَ عَنْهُ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَالَ: مَنْ يَذْهَبُ فِي أَثَرِهِمْ فَانْتُدِبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلا، كَانَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ
قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] الآية، قال مجاهد ومقاتل وعكرمة والواقدي والكلبي: إن أبا سفيان حين أراد أن ينصرف يوم أحد قال: يا محمد، إن موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذلك بيننا إن شاء الله» .
فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة، ثم ألقى الله تعالى في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي، فبعثه أبو سفيان وقال: ثبط عنا محمدا وخوفه حتى لا يلقانا ببدر الصغرى، ولأن يكون الخلف من قبله أحب إلي.
فأتى نعيم المسلمين، فوجدهم يتجهزون لميعاد أبي سفيان، وقال: قد أتوكم في بلدكم وصنعوا بكم ما صنعوا، فكيف بكم إذا أغرتم عليهم في بلدهم وهم أكثر وأنتم أقل؟ ! فذلك قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] يعني نعيما، فأطلق لفظ الناس على الواحد، كما تقول: انتظرت قوما فجاء واحد منهم: قد جاء الناس.
وقال السدي: الناس ههنا: المنافقون، قالوا للمسلمين حين تجهزوا للمسير لميعاد أبي سفيان: إن أتيتموهم في ديارهم لا يرجع منكم أحد.(1/522)
وقوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان وأصحابه، {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173] زادهم قول الناس لهم إيمانا، أي: تصديقا ويقينا.
قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم، وإقامة على نصرة نبيهم.
{وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} [آل عمران: 173] أي: الذي يكفينا أمرهم الله، ونعم الوكيل أي: الموكول إليه الأمور، فعيل بمعنى مفعول.
قال ابن عباس: آخر كلام إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل.
وقال نبيكم مثلها، ثم قرأ هذه الآية.
قوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174] وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى، وكانت موضع سوق لهم يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام، فلم يلقوا أحدا من المشركين، ووافقوا السوق فباعوا واشتروا وربحوا، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين، فذلك قوله: فانقلبوا أي: انصرفوا، {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174] قال السدي ومجاهد: والنعمة ههنا: العافية، والفضل: التجارة.
وقوله {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران: 174] أي: لم يصبهم قتل ولا جراح، {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [آل عمران: 174] في طاعة رسوله، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174] تفضل على المؤمنين بما تفضل به.
وقوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 175] أي: ذلك الذي يخوفكم أيها المؤمنون هو الشيطان، يوقع في قلوبكم الخوف من الكفار، وهو قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي: يخوفكم بأوليائه وهم المشركون، فحذف المفعول الثاني وحرف الجر.
قال الفراء: ومثله قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر: 15] ومعناه: لينذركم بيوم التلاق، وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [الكهف: 2] أي: لينذركم ببأس شديد.(1/523)
والذي يدل على هذا قراءة أبي بن كعب يخوفكم بأوليائه.
فلا تخافوهم أي: لا تخافوا أولياء الشيطان، {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] أي: خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي، وقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم، فقد سقط عنكم الخوف.
{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 176] وقوله: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176] أكثر القراء على يحزنك بفتح الياء، وقرأ نافع بضم الياء، وحزن وأحزن بمعنى واحد، يقال: حزنني الأمر وأحزنني.
ذكر ذلك الخليل وسيبويه وأبو زيد الزجاج، وأراد ب {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176] : المنافقين واليهود، وتأويله: يسارعون في نصرة الكفر.
{إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176] يعني: أن عائد الوبال في ذلك عليهم، لا على غيرهم.
وقال عطاء: لن يضروا أولياء الله شيئا.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 176] أي: نصيبا في الجنة.
{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {177} وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُهِينٌ {178} } [آل عمران: 177-178] قوله: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} [آل عمران: 177] أي: اختاروا الكفر واتخذوه بدلا من الإيمان، {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 177] .
قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 178] قال ابن عباس: يعني المنافقين وقريظة والنضير.
وقال مقاتل: يعني مشركي مكة.
وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 178] الإملاء: الإمهال والتأخير، قال الأصمعي: يقال: أملى عليه الزمان.
أي: طال عليه.
وأملى له: أي طول له وأمهله.(1/524)
قال ابن عباس في قوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} [آل عمران: 178] : يريد تماديهم في معاصي الله.
قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] أي: إنما نطول أعمارهم في الكفر ليزيد إثمهم، فيكون ذلك أشد لعقوبتهم.
قال الزجاج: هؤلاء قوم أعلم الله نبيه أنهم لا يؤمنون أبدا، وأن بقاءهم يزيدهم إثما وكفرا.
184 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ عَيْنٍ تَطْرِفُ إِلا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا مِنَ الْحَيَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَلَيْسَ الْمُؤْمِنُ يَزْدَادُ صَلاةً وَيَزِيدُ صَوْمًا وَيَزْدَادُ خَيْرًا؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] فَإِنْ كَانَ بَرًّا فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ الْكَافِرَ أَلَيْسَ إِنْ مَاتَ عُجِّلَ إِلَى النَّارِ، وَهُوَ فِي الدُّنْيَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَلْبَسُ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] وَلا يَزْدَادُونَ فِي الدُّنْيَا حَيَاةً إِلا ازْدَادُوا إِثْمًا
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 179] الآية، نزلت في المنافقين وتمييزهم عن المؤمنين، ومعنى الآية: وما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين {عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [آل عمران: 179] من التباس المنافق بالمؤمن، والمؤمن بالمنافق، {(1/525)
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179] أي: المنافق من المؤمن.
قال مجاهد: فميز الله يوم أحد المؤمنين من المنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي يميز قراءتان: التخفيف والتشديد، وهما لغتان، يقال: مزت الشيء بعضا من بعض فأنا أميزه ميزا، وميزته تمييزا.
أي: فرقته وفصلت بينه، ومنه الحديث: «من ماز أذى من الطريق فهو له صدقة» .
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} [آل عمران: 179] فتعرفوا المنافق من المؤمن قبل التمييز، والإطلاع: أن تطلع إنسانا على أمر لم يكن عَلِمَ به، يقال: أطلعته على كذا.
أي: أعلمته.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي} [آل عمران: 179] أي: يختار لمعرفة ذلك، {مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 179] قال ابن عباس: يريد: أنت يا محمد ممن اصطفيته وأطلعته على هذا الغيب.
ثم أمر بالإيمان بجميع الرسل ووعدهم الأجر العظيم على ذلك فقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 179] .
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران: 180] نزله في الباخلين بالزكاة الواجبة عليهم.(1/526)
قال ابن عباس: {بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180] يريد: من الذهب والفضة والحيوان والثمار.
ففسروه بالأشياء التي تجب فيها الزكاة.
وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران: 180] قال الحسن: لأنهم نالوا به عذاب الله.
{سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] يجعل ما بخل به من المال حية يطوقها يوم القيامة في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه.
185 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، سَمِعْتُ جَامِعَ بْنَ أَبِي رَاشِدٍ، وَعَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَعْيَنَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا وَائِلٍ يُخْبِرُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ، وَهُوَ يَتْبَعُهُ، حَتَّى يُطَوِّقَهُ فِي عُنُقِهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 180] يعني: أنه يفني أهلهما، وتبقى الأملاك والأموال ولا مالك لها إلا الله عز وجل.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180] من قرأ بالياء فلأن ما قبله على الغيبة، وذلك قوله: سيطوقون.
والله بما يعملون خبير من منعهم الحقوق فيجازيهم عليه.
ومن قرأ بالتاء فلأن ما قبل هذه الآية خطاب وهو قوله: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} [آل عمران: 179] .(1/527)
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ {181} ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ {182} الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ {183} فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ {184} } [آل عمران: 181-184] قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] قال المفسرون: نزلت هذه الآية في اليهود، قالوا لما نزل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] : إن الله فقير يستقرضنا ونحن أغنياء.
يروى أن قائل هذا رجل من اليهود يقال له: فنحاص.
قال: لو كان الله غنيا لما استقرضنا أموالنا.
فقال الله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران: 181] أي: نأمر الحفظة بإثبات قولهم في صحائف أعمالهم، وذلك أظهر في الحجة عليهم.
وقرأ حمزة سيكتب بضم الياء، اعتبارا بقراءة عبد الله ويقال ذوقوا عذاب الحريق، وهو اسم للنار الملتهبة، وهو بمعنى المحرق.
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182] أي: ذلك العذاب بما سلف لكم من الإجرام، وأن الله أي: وبأن الله، {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182] فيعاقبهم بلا جرم.
قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] الآية، قال السدي: إن الله أمر بني إسرائيل في(1/528)
التوراة: من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، إلا المسيح ومحمدا، فإنهما يأتيان بغير قربان.
والقربان: البر الذي يتقرب به إلى الله، وأصله المصدر، من قولك: قرب قربانا، ومثل الكفران والرجحان والخسران، ثم سمي به نفس المتقرب به.
قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها وسط البيت، والسقف مكشوف، فيقوم النبي ويناجي ربه، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت، فتنزل نار بيضاء لها حفيف ولا دخان لها، فتأكل ذلك القربان، فقال الله تعالى إقامة للحجة عليهم: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} [آل عمران: 183] المعجزات الظاهرات، وبالذي قلتم يعني أكل النار القربانَ، {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 183] فيما ذكرتم؟ ! قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [آل عمران: 184] هذه الآية تعزية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تكذيب اليهود إياه، وبيان أنهم إن كذبوه فالتكذيب عادة للأمم وسائر الرسل، فقد كذبوا كما كذب.
وقوله: جاءوا بالبينات أي: جاءوا أممهم بالمعجزات الظاهرة، والزبر أي: الكتب، وهو جمع زبور، والزبور: الكتاب، بمعنى المزبور، أي: المكتوب، يقال: زبرت الكتاب.
أي: كتبته.
وقرأ ابن عامر وبالزبر، أعاد الباء وإن كان مستغنى عنه لضرب من التأكيد، {وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران: 184] الهادي إلى الحق، من قولك: أنرت الشيء أنيره إنارة.
أي: بينته وأوضحته.(1/529)
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ذائقة: فاعلة من الذوق، وهذا وعد من الله تعالى بالموت، ووعيد للمكذبين بالقرآن، لأنهم إذا ماتوا حصلوا على خسران وحسرة، وهو قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] فمن عمل صالحا وفي وأكمل أجره بدخول الجنة والتبعيد من النار، وهو قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} [آل عمران: 185] أي: بعد عنها، {وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] أي: ظفر بالخير ونجا من الشر.
قال الزجاج: يقال لكل من نجا من هلكة وظفر بما يغتبط به: فاز.
وتأويل فاز: تباعد عن المكروه ولقي ما يحب.
وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] يريد: العيش في هذه الدار الفانية يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء وسينقطع عن قريب.
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 186] أي: لتختبرن في أموالكم بالخسران والنقصان حتى يتبين الجازع من الصابر، والمخلص من المنافق، وأنفسكم بالأمراض.
والخطاب للمهاجرين، أخذ المشركون أموالهم بمكة، وباعوا رباعهم وعذبوهم، {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186] يعني اليهود، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186]
أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر، أخبرنا أحمد بن الحسن الحافظ، حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه: أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا، وكان يهجو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤذون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه(1/530)
بالصبر على ذلك، وفيهم أنزل الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186] الآية.
وقوله: وإن تصبروا على الأذى الذي ينالكم، وتتقوا بترك المعارضة، {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران: 186] أي: مما يعزم عليه من الأمر، لظهور رشده، وكان هذا قبل نزول آية السيف.
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] الآية، نزلت في يهود المدينة أخذ الله ميثاقهم في التوراة ليبينن شأن محمد ونعته ومبعثه ولا يخفونه، وهو قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] .
قال الحسن: هذا مثال ميثاق الله تعالى على علماء أهل الكتاب أن يبينوا للناس ما في كتابهم، وفيه ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإسلام.
وتقرأ هذه الآية بالياء على الغيبة، وبالتاء على حكاية المخاطبة التي كانت في وقت أخذ الميثاق، ومثله قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ} [البقرة: 83] بالياء والتاء.
وقوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] قال ابن عباس: أي: ألقوا ذلك الميثاق خلف ظهورهم.
{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 187] يعني: ما كانوا يأخذونه من سفلتهم برئاستهم في العلم.
وقوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187] قال ابن عباس: قبح شراؤهم وخسروا.
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ(1/531)
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {188} وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {189} } [آل عمران: 188-189] قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188] الآية، قال أبو سعيد الخدري: نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغزو، ويفرحون بقعودهم عنه، فإذا قدم اعتذروا إليه، فيقبل عذرهم، وأحبوا أن يحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان.
وقال عكرمة ومجاهد: اليهود فرحوا بإضلال الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم، وليسوا كذلك.
وقوله: بما أتوا قال الفراء: بما فعلوا، كما قال: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27] أي: فعلت فعلا.
وقوله: بمفازة أي: بمنجاة من النار، والمعنى: لا تحسبن هؤلاء أنهم ينجون من العذاب.
قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 189] أي: يملك تدبيرهما وتصريفهما على ما يشاء.
وهذا تكذيب للذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] .
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ {192} رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ {193} رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ {194} فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا(1/532)
وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ {195} } [آل عمران: 190-195] قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ} [آل عمران: 190] قال ابن عباس: بت في بيت ميمونة، فتحدث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد، فنظر في السماء، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ثم قام فتوضأ، واستن فصلى إحدى عشرة ركعة.
وتفسير الآية قد تقدم في { [البقرة.
قوله:] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا} [سورة آل عمران: 191] أي: قائمين، وقعودا قاعدين، وعلى جنوبهم مضطجعين.
والمعنى: أنهم يصلون في جميع هذه الأحوال على قدر إمكانهم في صحتهم وسقمهم.
قال عمران بن حصين: كانت بي بواسير، فسألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
وقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191] ليدلهم ذلك على قدرة الصانع وتوحيده وحكمته، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا} [آل عمران: 191] أي: ويقولون: ربنا ما خلقت هذا الخلق، باطلا لغير شيء، خلقته دليلا على حكمتك وكمال قدرتك.(1/533)
سبحانك تنزيها لك عما لا يجوز في وصفه، {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] أي: قد اعترفنا بوحدانيتك، فلا تعذبنا بالنار.
قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ} [آل عمران: 192] قال قتادة: إنك من تخلد في النار، {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] .
قال شمر بن حمدويه: فضحته.
وقال المفضل: أهلكته.
قال عمرو بن دينار: قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة، فسألته عن هذه الآية، فقال: أليس قد أخزاه حين أهلكه بالنار؟ ! إن دون ذلك لخزيا.
ما للظالمين يريد الكافرين، من أنصار أعوان يمنعونهم من عذاب الله.
قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا} [آل عمران: 193] المنادي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول ابن عباس والأكثرين.
قال قتادة: ينبئكم الله عن مؤمني الإنس كيف قالوا، وعن مؤمني الجنة كيف قالوا، أما مؤمنو الجنة فقالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا} [الجن: 1] ، وأما مؤمنو الإنس فقالوا: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ} [آل عمران: 193] .
وقال محمد بن كعب القرظي: هو كتاب الله ليس كل أحد لقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: ينادي للإيمان قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي: سمعنا مناديا للإيمان ينادي {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 193] .
وقوله: {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] أي: غطها عنا حتى لا نراها، وجمع بين غفران الذنوب وتكفير السيئات لأن غفران الذنوب بفضله ورحمته، وتكفير السيئات بالطاعات، كتكفير الحنث بالصوم، والظهار بالإعتاق، فالمغفرة بفضله من غير سبب، والتكفير بسبب طاعة.
والسيئات: الأعمال القبيحة، يقال: سوأت الرجل فعله.
أي: قبحته عليه وعبته بما صنع.
وقوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران: 193] قال ابن عباس: مع الأنبياء، والمعنى: توفنا في جملتهم.
قوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] قال الكلبي: على لسان رسلك، والمعنى: أن المؤمنين(1/534)
يدعون الله تعالى بأن ينجز لهم ما وعدهم من الثواب على لسان الرسل.
وقوله: {وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 194] أي: لا تفضحنا ولا تهنا ولا تهلكنا.
قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] أي: دعاءهم.
وقوله: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 195] يعني: لا يضيع لأحد عندي عمل، رجلا كان أو امرأة، وهو قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] أي: حكم جميعكم حكم واحد منكم فيما أفعل بكم من مجازاتكم على أعمالكم وترك تضييعها لكم.
{فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} [آل عمران: 195] يعني المؤمنين الذين أخرجوا من مكة وآذاهم المشركون فهاجروا منها إلى المدينة.
وقاتلوا المشركين، وقتلوا وقرأ ابن عباس مشددا، لتكرر القتل فيهم، والتخفيف يقع على القليل والكثير، وقرأ حمزة وقتلوا وقاتلوا وهو كقراءة العامة، لأن الواو لا توجب ترتيبا، {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 195] .
وقوله: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 195] قال الزجاج: هو مصدر مؤكد لما قبله، لأن معنى لأدخلنهم جنات: لأثيبنهم.
{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ {196} مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ {197} لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ {198} وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا(1/535)
يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {199} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {200} } [آل عمران: 196-200] قوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران: 196] نزلت في مشركي مكة، وذلك أنهم كانوا يتجرون ويتنعمون، ومعنى تقلبهم في البلاد: تصرفهم للتجارات.
أعلم الله تعالى أن ذلك مما لا ينبغي أن يغتبطوا به، لأن مصيرهم بكفرهم إلى النار، ولا يمتعون بما جمعوا، وهو قوله: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [آل عمران: 197] قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل.
ثم ذكر المؤمنين فقال: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [آل عمران: 198] إلى قوله: {نُزُلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 198] النزل: ما يهيأ للضيف أو القوم إذا نزلوا موضعا.
قال الكلبي: جزاء وثوابا.
{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ} [آل عمران: 198] مما يتقلب فيه الكفار في دار الدنيا.
قوله: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199] الآية
186 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْعَرُوضِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، إِمْلاءً، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخِيكُمُ النَّجَاشِيِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَأْمُرُنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى عِلْجٍ(1/536)
مِنَ الْحَبَشَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199]
وهذا قول ابن عباس وجابر وقتادة، أن الآية نزلت في النجاشي حين مات، وصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فقال المنافقون: إنه يصلي على نصراني لم يره قط.
وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقال مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم.
قوله: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] يعني القرآن، {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199] يعني التوراة، خاشعين لله قال الزجاج: لما ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب في قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 187] ذكر حال من آمن من أهل الكتاب، وأخبر أنهم صدقوا في حال خشوعهم فقال: {خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 199] أي: عرضا من الدنيا كفعل اليهود الذين غيروا التوراة.
ثم وعدهم الأجر مع ذلك فقال: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 199] ومضى الكلام في سرعة الحساب.
قوله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران: 200] قال الحسن: على دينكم، فلا تدعوه لشدة.
وقال زيد بن أسلم: اصبروا على الجهاد، وصابروا عدوكم، فلا يكون أصبر منكم، ورابطوا أقيموا على جهاد عدوكم بالحرب.(1/537)
وأصله من مرابطة الخيل، وهو ارتباطها بإزاء العدو في بعض الثغور، ثم سمي ملازمة الجهاد رباطا ومرابطة، هذا قول أكثر المفسرين وفيه قول آخر:
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد الزاهد، أخبرنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه، حدثنا محمد بن معاذ الماليني، حدثنا الحسين بن الحسن بن حرب المروزي، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا مصعب بن ثابت، حدثني داود بن صالح، قال: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: يابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] ؟ قلت: لا.
قال: إنه لم يكن في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزو يرابطون فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة.
رواه الحاكم أبو عبد الله في صحيحه، عن أبي محمد المزني، عن أحمد بن نجدة.
ودليل صحة هذا القول: الحديث الصحيح الذي
187 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْجَوْزَقِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ إِلَى الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ".(1/538)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ وَعَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، كِلاهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ انْتِظَارُ الصَّلاةِ رِبَاطًا؛ لأَنَّ كُلَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى أَمْرٍ، يُقَالُ: رَبَطَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ، وَرَبَطَ نَفْسَهُ، وَقَالَ لَبِيدٌ:
رَابِطُ الْجَأْشِ عَلَى كُلِّ وَجِلٍ
، أَيْ: صَابِرٌ ثَابِتٌ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ: {وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] : اثْبُتُوا وَدَاوِمُوا، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200](1/539)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
مدنية وآياتها سبعون ومائة
188 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُقْرِئِ الزَّعْفَرَانِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ الْمَدَايِنِيُّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءَ فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثًا، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنِ اشْتَرَى مُحَرَّرًا، وَبَرِئَ مِنَ الشِّرْكِ، وَكَانَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ»
189 - أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، يَقُولُ: تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَسُورَةَ النِّسَاءِ وَسُورَةَ الْمَائِدَةِ وَسُوَرةَ الْحَجِّ وَسُورَةَ النُّورِ فَإِنَّ فِيهِنَّ الْفَرَائِضَ
{يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا {1} وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا {2} وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا {3} وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا {4} } [النساء: 1-4] .
قوله: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] قال ابن عباس: الخطاب لأهل مكة.(2/3)
{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] يعني: آدم، {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، ولذلك قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها» .
وقوله: وبث أي: فرق ونشر، والبث التفريق، ومنه قوله: وزرابي مبثوثة أي: متفرقة في المجالس، وخلق الله الخلق فبثهم في الأرض.
وقوله: منهما أي: من آدم وحواء، وهما أبوا البشر، وفي هذا بيان قدرة الله تعالى، حيث خلق آدم وكان نفسا واحدة، ثم خلق منه حواء، ثم خلق منهما الرجال والنساء على كثرتهم.
قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} [النساء: 1] أي: تتساءلون، فأدغم التاء في السين ومن خفف حذف ولم يدغم، والمعنى: تتساءلون فيما بينكم حوائجكم وحقوقكم به، فتقولون: أسألك بالله، وأنشدك بالله، ونشدتك الله، وكذا كانت العرب تقول له.(2/4)
وقوله: والأرحام قال قتادة، ومجاهد، والسدي، والضحاك، وابن زيد، والفراء، والزجاج: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فهي عطف على اسم الله في قوله: واتقوا الله.
والمعنى: واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها وهذا ينبئ بوجوب صلة الرحم.
190 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْمَيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ رَدَّادًا اللَّيْثِيَّ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أنا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ "
191 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُوسَى بْنِ خَلَفٍ الرّسْعَنِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سَيَّارٍ، حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ هَارُونَ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُعَمِّرُ بِالْقَوْمِ الدِّيَارَ وَيُكْثِرُ لَهُمُ الأَمْوَالَ، وَمَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ مُذُ خَلَقَهُمْ بُغْضًا، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بِصِلَتِهِمْ أَرْحَامَهُمْ "(2/5)
وقرأ حمزة والأرحامِ بالخفض، وضعف النحويون كلهم هذه القراءة واستقبحوها.
قال الزجاج: إجماع النحويين أنه يقبح باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض كقوله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص: 81] ، ويستقبح النحويون: مررت به وزيد، لأن المكني المخفوض حرف متصل غير منفصل، فكأنه كالتنوين في الاسم، فقبح أن يعطف باسم يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه.
وقال سيبويه: لا يجوز عطف الظاهر على المكني المخفوض من غير إعادة الخافض إلا في ضرورة الشعر وأنشد:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] الرقيب: الحافظ يقال: رقب يرقب رقبة ورقبًا.
ومعناه: أنه يرقب عليكم أعمالكم، فاتقوه فيما نهاكم عنه.
قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] الخطاب للأوصياء وأولياء اليتامى أي: أعطوهم أموالهم إذا بلغوا، {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] يقال: تبدل الشيءَ بالشيء، إذا أخذه مكانه.(2/6)
قال المفسرون: كان ولي اليتيم يأخذ الجيد من ماله ويجعل الرديء مكانه، فيجعل الزائف بدل الجيد، والمهزول بدل السمين، فنهى الله تعالى عن ذلك.
قال السدي: لا تضع بعيرا مهزولا مكان بعير سمين، تقول: بعير ببعير.
وشاة مهزولة مكان شاة سمينة، وثوبًا خلقا مكان ثوب جديد، تقول: ثوب بثوب وشاة بشاة.
وأراد ب الخبيث: الحرام، وهو ما يأخذه من مال اليتيم بدل ماله الحلال، قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أي: لا تضيفوها في الأكل إلى أموالكم، وقال السدي: يقول: ولا تخلطوها بأموالكم ثم تأكلوها جميعا.
إنه يعني: إن أكل أموالهم {كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] الحوب والحوب والحاب: الإثم الكبير.
وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] الإقساط: العدل، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، ومنه قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .
192 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشِّيرَازِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَمِيرَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنِي شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] قَالَتْ عَائِشَةُ: هِيَ الْيَتِيمَةُ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا فَيَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِأَدْنَى مِنْ سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عَنْ نِكَاحِهِنَّ إِلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهُنَّ فِي إِكْمَالِ الصَّدَاقِ، وَأُمِرُوا بِنِكَاحِ مَنْ سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْيَمَانِ
وعلى هذا التفسير تقدير الآية: وإن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى فحذف المضاف، وقوله: {(2/7)
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] أي: من غيرهن، وقال أكثر المفسرين: يقول: فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى وهمكم ذلك، فكذلك خافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، فلا تتزوجوا أكثر ما يمكنكم إمساكهن والقيام بحقهن لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز.
وهذا قول ابن عباس، في رواية الوالبي، وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي.
وقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] أي: حل لكم من النساء، يعني: من اللاتي يحل نكاحهن، دون المحرمات اللاتي ذكرن في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية.
وما ههنا: بمعنى مَن كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] ، وقال مجاهد: معناه: فانكحوا النكاح الذي طاب لكم من النساء، فما على هذا عبارة عن النكاح.
وقوله: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] معناه: اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعًا أربعًا، على اختلاف الأحوال لأن الأربع إنما يحل نكاحهن إذا لم يتقدمها ثلاث، وكذلك الثلاث إذا لم يتقدمها اثنتان.
ولا تدل الآية على إباحة التسع، وإن كان مجموع هذه الأعداد تسعًا لأن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبر في العدد عن التسعة باثنين وثلاثة وأربعة فمن قال: أعط زيدًا اثنين وثلاثة وأربعة وهو يريد تسعة كان ذلك أعيا كلام.
قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} [النساء: 3] أي: في الأربع بالحب والجماع، فواحدة أي: فلينكح كل واحد منكم واحدة من الحرائر، {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] من الجواري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق كالذي يلزم في الحرائر من التسوية بينهن في القسمة.(2/8)
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3] أي: نكاح الأربع على قلة عددهن أقرب إلى العدل وأبعد من الظلم.
ومعنى تعولوا: تميلوا وتجوروا، عن جميع المفسرين، والعول: الميل في الحكم إلى الجور.
قال الفراء: عال الرجل يعول عولًا، إذا مال وجار، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وإبراهيم، وقتادة، والربيع، وعكرمة، والفراء، والزجاج، وابن الأنباري.
وقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] الصدُقات: المهور، واحدتها صدقة، النحلة معناها في اللغة: الديانة والملة والشريعة، يقال: فلان ينتحل كذا.
إذا كان يتدين به، ونحلته كذا.
أي: دينه.
ولهذا قال ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد في قوله: نحلة أي: فريضة.
والخطاب للأزواج، أمروا بإيتاء النساء مهورهن تدينا، لأنه مما أوجبه الله لهن.
وقال الكلبي: نحلة: هبة وعطية، يقال: نحلت فلانًا شيئًا أنحله نحلة.
أي: أعطيه، والمعنى: أن الله جعل الصداق نحلة للنساء، فأمر الأزواج بإعطاء مهور النساء من غير مطالبة منهن، ولا مخاصمة فيه، لأن ما يأخذ بالمحاكمة لا يقال له نحلة.
193 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ قَالَ:(2/9)
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَحَقَّ الشَّرْطِ أَنْ يُوَفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسَفَ، عَنِ اللَّيْثِ، وَرَوَاه مُسْلِمٌ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، كِلاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ
194 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ صُهَيْبٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ جَدِّهِ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْدَقَ امْرَأَةً صَدَاقًا وَهُوَ مُجْمِعٌ عَلَى أَنْ لا يُوَفِّيَهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُعْطِهَا إِيَّاهُ، لَقِيَ اللَّهَ زَانِيًا»
وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] قال الفراء، والزجاج: فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء من(2/10)
الصداق، {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] معنى الهنيء: الطيب المساغ الذي لا ينقصه شيء، والمريء: المحمود العاقبة، التام الهضم، الذي لا يضر ولا يؤذي.
قال المفسرون: يقول: لا تخافون به في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة.
195 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] قَالَ: «إِذَا جَادَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا بِالْعَطِيَّةِ غَيْرَ مُكْرَهَةٍ لا يَقْضِي بِهِ عَلَيْهِ سُلْطَانٌ، وَلا يُؤَاخِذُ اللَّهُ بِهِ فِي الآخِرَةِ»
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا {5} وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا {6} لِلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا {7} } [النساء: 5-7] قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} [النساء: 5] قال ابن عباس في رواية الوالبي: يقول: لا تعمد إلى مالك الذي خولك الله، وجعله لك معيشة، فتعطيه امرأتك وبنيك، فيكونوا هم الذين يقومون عليك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم، ولكن أمسك مالك وأصلحه، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم، ورزقهم ومؤنتهم.
ف السفهاء هم النساء والصبيان.
هذا قول الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير، والسدي.
وقوله: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] قال عطاء، عن ابن عباس: قيامًا لمعايشكم، وصلاح دنياكم، قال الزجاج: التي جعله الله تقيمكم، فتقومون بها قيامًا.(2/11)
قال الكسائي: القيام ههنا: اسم بمعنى القوام وهو ما يقوم به الشيء.
قال ابن قتيبة: يقال: هذا قوام أمرك وقيام أمرك، أي ما يقوم به أمرك.
وقرأ نافع قيما، قال الأخفش: قيامًا وقوامًا وقيمًا وقوما: واحدًا، فالقيم عنده مصدر في معنى القيام.
وقال غيره: القيم: جمع قيمة، والدنانير والدرهم قيم الأشياء، واختار الزجاج هذا الوجه فقال: من قرأ قيمًا فالمعنى: أموالكم التي جعلها الله قيمًا للأشياء فبها تقوم أموركم.
وقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] الرزق من العباد: هو الأجر الموظف، يقال: رزق فلان عياله كذا وكذا، أي: أجرى عليهم.
وإنما قال: فيها، ولم يقل منها لأنه أراد: اجعلوا لهم فيها رزقًا، كأنه أوجب ذلك لهم في المال، قال ابن عباس: يريد أنفقوا عليهم منها.
ومعنى واكسوهم: ألبسوهم الثياب، يقال: كسوت فلانًا ثوبًا فاكتساه.
أي: لبسه، والكسوة: ما يكتسي من الثياب.
وقوله: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 5] أي: عِدَةً جميلة من البر والصلة، تقول: إذا ربحت في سفرتي هذه أحسنت إليكم، وإن غنمت في غزاتي أعطيتكم.
قوله تعالى: وابتلوا اليتامى: قال الحسن، وقتادة، ومجاهد: اختبروهم في عقولهم وأديانهم.
وكيفية هذا الابتلاء: أن يرد إليه الأمر في نفقته عند مراهقة الحلم ليعرف كيف تدبيره وتصرفه.
وإن كانت جارية يرد إليها ما يرد إلى النساء من أمور البيت وتدبير الغزل والقطن، {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] أي:(2/12)
حال النكاح من الاحتلام، وإنزال الماء، فإن آنستم أي: عرفتم ورأيتم، والإيناس: الإبصار، ومنه قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29] .
وقوله: منهم رشدًا قال ابن عباس، والسدي: هو الصلاح في العقل، وحفظ المال.
وقال الشافعي: الرشيد من يكون صالحًا في دينه مصلحًا لماله.
وقوله: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] يقول: لا تبادروا بأكل أموالهم قبل كبرهم ورشدهم حذرًا أن يبلغوا، فيلزمكم تسليم المال إليهم، {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا} [النساء: 6] من الأوصياء وأولياء اليتامى، فليستعفف أي: عن مال اليتيم، وليتركه.
يقال: استعف عن الشيء، وعف عنه.
إذا امتنع منه وتركه.
{وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وهو أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله، والغني يستعف كما أمره الله، فإن أخذ الأجرة حلت له في مقابلة عمله.
196 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَيْهَقِيُّ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِيِّ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَشْجَعِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ:(2/13)
حَضَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَاسْتَفْتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْتَامٌ لِي، لَهُمْ لِقَاحٌ، أَفَأَشْرَبُ مِنْ فَضْلِ أَلْبَانِهَا؟ فَقَالَ: أَلَسْتَ تَرِدُ نَادَّتَهَا، وَتَلُوطُ حَوْضَهَا، وَتَكْفِي مِهْنَتَهَا؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَاشْرَبْ مِنْ فَضْلِ أَلْبَانِهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِأَوْلَادِهَا، وَلا نَاهِكٍ فِي الْحَلْبِ
وقوله: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] هذا وصية من الله تعالى للأولياء بالإشهاد عليهم على دفع المال إذا دفعوه إلى الأيتام، لكي إن وقع اختلاف أمكن أن يقيم البينة على أنه رد المال إليه.
قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] قال ابن عباس: مجازيًا للمحسن والمسيء.
والحسيب بمعنى المحاسب، والباء في بالله زيادة، وحسيبًا منصوب على الحال، والمعنى: وكفى بالله في حال الحساب.
قوله: للرجال نصيب الآية قال ابن عباس في رواية الكلبي: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي، وترك ثلاث بنات وامرأته يقال لها أم كُحة، فقام رجلان من بني عمه، فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، فجاءت أم كحة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذكرت له ذلك فنزلت هذه الآية.
قال المفسرون: كانت العرب في الجاهلية لا تورث النساء، ولا الصغار شيئًا، وإن كانوا ذكورًا، وإنما كانت(2/14)
تورث الكبار ومن طاعن بالرماح، وحاز الغنيمة، فأبطل الله ذلك عليهم، وأعلم أن حق الميراث على ما ذكر من الفرض.
وقوله: نصيبًا مفروضًا قال الأخفش: هو نصب على معنى: جعل لهم نصيبًا، والآية تدل على هذا لأن قوله: للرجال نصيب، وللنساء نصيب يدل على معنى: جعل لهم نصيبًا.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا {8} وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ(2/15)
ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا {9} إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا {10} } [النساء: 8-10] .
قوله {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} [النساء: 8] يعني: قسمة المال بين الورثة، أولو القربى: ذوو القرابات الذين يحزنون ولا يرثون، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] هذا على الندب والاستحباب، يستحب للوارث أن يرضخ لهؤلاء بشيء من التركة بقدر ما تطيب به نفسه من الذهب والورق، ويقول لهم عند قسمة العقار والرقيق، {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] وهو أن يقول: بورك فيكم.
قال ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي: هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وإباحة الثلث للميت يجعله حيث يشاء من القرابات واليتامى والمساكين.
قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا} [النساء: 9] الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: كان الرجل إذا حضرته الوفاة قعد عنده أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: انظر لنفسك فإن ولدك لا يغنون عنك من الله شيئًا، فيقدم الرجل ماله، ويحجب ولده.
وهذا قبل أن تكون الوصية في الثلث، فكره الله تعالى ذلك منهم وأنزل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا} [النساء: 9] أي: أولاد صغارًا خافوا عليهم: الفقر {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 9] فليخافوا الله إذا قعدوا عند أحد من إخوانهم وهو في الموت، {وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: 9] عدلا، وهو أن يأمره أن يخلف ماله لولده، ويتصدق بما دون الثلث، وهذا قول سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، والسدي.
والسديد: العدل والصواب من القول، يقال: سددًا وسدادًا وسديدًا.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] سماه بما يئول إليه في العاقبة، كقوله: أعصر خمرًا ومنه قوله عليه السلام في الشارب من آنية الذهب والفضة: «إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» .
197 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُخَلَّدِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْمَاسَرْجَسِيُّ، أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: " فَإِذَا أنا بِرِجَالٍ قَدْ وُكِّلَ بِهِمْ رِجَالٌ يَفُكُّونَ لِحَاهُمْ، وَآخَرُونَ يَجِيئُونَ بِالصُّخُورِ مِنَ النَّارِ فَيَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ، فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]
198 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ(2/16)
عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، أَخْبَرَنَا زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا، فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] ؟ "
وقوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] يقال: صلى الكافر النار يصلاها صلا وصلاء، وهو صال النار.
إذا قاسى حرها وشدتها، ومنه قوله: {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] ، ومَن ضم الياء فهو من قولهم: أصلاه الله حر النار إصلاء.
قال الله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [النساء: 30] .
والسعير النار المستعرة، يقال: سعرت النار أسعرها سعرًا وهي مسعورة وسعير.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ(2/17)
كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {11} وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ {12} تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ {13} وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ {14} } [النساء: 11-14] .
قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية
199 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةً بِابْنَتَيْنِ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَاتَانِ بِنْتَا ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَوْ قَالَتْ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ قُتِلَ(2/18)
مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ اسْتَفَاءَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا وَمِيرَاثَهُمَا فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا إِلَّا أَخَذَهُ، فَمَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا يُنْكَحَانِ أَبَدًا إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، قَالَ: فَقَالَ: " يَقْضِي اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ سُورَةٌ فِيهَا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، فَقَالَ لِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لِي الْمَرْأَةَ وَصَاحِبَهَا، فَقَالَ لِعَمِّهَا: أَعْطِهِمَا الثُّلُثَيْنِ وَأَعْطِ أُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَلَكَ "
ومعنى يوصيكم اللَّه: قَالَ الزجاج: يفرض عليكم، لأن الوصية من اللَّه فرض، والدليل عَلَى ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151] ، وهذا من الفرض المحكم علينا.
ثُمّ بين ما أوصى فَقَالَ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] يعني: للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين.
ثُمّ ذكر نصيب الأناث من الأولاد فَقَالَ: فَإِن كن يعني الأولاد، {نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] ، وأجمعت الأمة عَلَى أن: للبنتين الثلثين إِلَّا ما روي عَنْ ابْن عَبَّاس: أَنَّهُ ذهب إلى ظاهر الآية وقَالَ: الثلثان فرض الثلاث من البنات لأن اللَّه تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] ، فجعل الثلثين للنساء إذا زدن عَلَى الثنتين وهذا غير مأخوذ به.(2/19)
ووجه الآية، أن فوق ههنا: صلة لا معنى لَهُ، كقوله {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] ، يريد: فاضربوا الأعناق.
وسمى البنتين جماعة، لأن الاثنين جماعة عِنْد العرب، واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وقَالَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فسمى التثنية باسم الجمع، فثبت بِهَذَا البيان أن ثلثي التركة للبنتين، وأن نصفها للواحدة، وَهُوَ قوله {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] .
وقرأ نَافِع واحدةٌ بالرفع عَلَى معنى: وإن وقعت واحدة، وتم بيان ميراث الأولاد.
ثُمّ ذكر ميراث الوالدين فَقَالَ: ولأبويه يعني: أبوي الميت، وَلَم يجر لَهُ ذكر فكنى عَنْ غَيْر مذكور، {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النساء: 11] من الأبوين {السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ} [النساء: 11] للميت ولد، أو ولد ابْن، واسم الولد يقع عَلَى ما وُلِد الابن، {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] إذا مات وَلَم يخلف غَيْر أبويه كان ثلث المال للأم، والباقي للأب.
وقرأ حمزة بكسر الهمزة إذا وليتها كسرة أَوْ ياء نحو: فلإمه، أَوْ بيوت إمهاتكم وَفِي إمها أتبع الهمزة ما قبلها من الياء والكسرة.
قَالَ أَبُو إسحاق الزجاج: إنهم استثقلوا الضمة بعد الكسرة فِي قوله فلأمه وليس من كلام العرب مثل: فِعُل بكسر الفاء وضم العين.
فَإِن كان للميت أخوان عاد نصيب الأم من الثلث إلى السدس، وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] .
وأجمعت الأمة عَلَى أن الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، والأخ الواحد لَا يحجب.(2/20)
وابن عَبَّاس يخالف فِي هَذِهِ المسألة وهي ما
200 - أَخْبَرَنَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُفَسِّرُ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: حُدِّثْتُ، عَنِ ابْن أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ: إِنَّ الأَخَوَيْنِ لَا يَرُدَّانِ الأُمَّ إِلَى السُّدُسِ، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَالأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ وَكَلامِ الْعَرَبِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ وَجَرَى فِي الأَمْصَارِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا غَلَطٌ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ لأَنَّ الاثْنَيْنِ يُسَمَّيَانِ بِالْجَمْعِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْكَلامِ
حكى سِيبوَيْه: أن العرب تَقُولُ: قَدْ وضعا رحالهما، يريدون: رحلي راحلتيهما.
وقَالَ ابْن الأنباري: التثنية عِنْد العرب أول الجمع، ومشهور فِي كلامهم إيقاع الجمع عَلَى التثنية، ومن ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] ، يعني حكم دَاوُد وسليمان عليهما السَّلَام.(2/21)
قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] أَي: هَذِهِ الأنصبة إِنَّمَا تقسم بعد قضاء الدّين وإنفاذ وصية الميت فِي ثلثه.
وقرئ: يوصي بفتح الصاد وكسرها، فَمنْ كسر فلأن المعنى من بعد وصية يوصيها الميت، ومن فتح الصاد: فَإنَّهُ يئول فِي المعنى إلى يوصى، ألا ترى أن الموصي هُوَ الميت.
وقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] أَيّ: إنكم لَا تدرون أَيّ هَؤُلَاءِ أنفع لَكُمْ فِي الدُّنْيَا فتعطونه من الميراث ما يستحق، وَلَكِن اللَّه تَعَالَى قَدْ فرض الفرائض عَلَى ما هو عِنْده حكمه منه، ولو وكل ذَلِكَ إليكم لَمْ تعلموا أيهم أنفع لَكُمْ فأفسدتم وضيعتم، وهَذَا معنى قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 11] .
قال عطاء: كان عليما بخلقه قبل أن يخلقهم، حكيما حيث فرض للصغار مع الكبار.
201 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْمَنْصُورِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حُمْرَانَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَابِرٍ الْهَجَرِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهَ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِّمُوهَ النَّاسَ، وَتَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنِّي امْرِؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا»
202 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَأَبَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْمَاعِيلِيُّ بِجُرْجَانَ، أَخْبَرَنَا(2/22)
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ أَبِي الْعَطَّافِ، حَدَّثَنِي أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرْضَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ، فَإنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ وَهُوَ يُنَسَّى، وَهُوَ أَوَّلُ شَيْءٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي»
ثُمّ بين اللَّه تَعَالَى ميراث الأزواج فَقَالَ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] كُلّ امرأة ماتت وَلَا وُلِد لها كان لزوجها نصف ميراثها، فَإِن كان لها وُلِد كان للزوج الربع وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] يعين: أن الميراث إِنَّمَا يستحق بعد إنفاذ الوصية وقضاء الدّين.
وقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ} [النساء: 12] يعني: للمرأة ربع المال إذا لَمْ يَكُنْ للزوج وُلِد، فَإِن كان للزوج وُلِد كان للمرأة الثمن، وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] إلى ههنا بيان ميراث الأزواج والزوجات.
ثُمّ بين ميراث وُلِد الأم فَقَالَ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَو امْرَأَةٌ} [النساء: 12] كُلّ من مات وَلَا وُلِد لَهُ وَلَا والد فهو كلالة ورثته، وكل وارث لَيْسَ بوالد للميت فهو كلالة مورثة.
فالكلالة: اسم يقع عَلَى الوارث والموروث، إذا كانا بالصفة التي ذكرنا.
يُقَالُ: رَجُل كلالة، وامرأة كلالة، وقوم كلالة، لَا تثنى وَلَا تجمع لأنه مصدر كالدلالة والوكالة.
يُقَالُ: كلّ الرَّجُل يكل كلالة، أَيّ: صار كلًّا، وَهُوَ الَّذِي لَا وُلِد لَهُ وَلَا والد، والمراد بالكلالة فِي هَذِهِ الآية: الأخ للأم إذا مات.(2/23)
قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] يعني: من الأم بإجماع المفسرين، وكذلك فِي قراءة سعد بن أَبِي وَقَّاص وَلَهُ أخ أَوْ أخت من أُمّه.
{فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رواية عَطَاء: وَلَهُ أخ أَوْ أخت من أُمّه فلكل واحد منهما السدس، وفرض الواحد من وُلِد الأم السدس، فَإِن كانوا أكثر من واحد اشتركوا فِي الثلث، الذكر والأنثى فِيه سواء، وَهُوَ قوله: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] أَيّ: غَيْر مدخل الضرر عَلَى الورثة، وَهُوَ أن يوصي بدين لَيْسَ عَلَيْه، يريد بِذَلِك ضرر الورثة، فمنع اللَّه منه.
وقوله: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 12] قَالَ ابْن عَبَّاس: فريضة من اللَّه، واللَّه عليم بما دبر من هَذِهِ الفرائض حليم عمن عصاه بأن أخر عقوبته وقبل توبته.
قوله جلَّ جلاله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [النساء: 13] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد ما حد اللَّه من فرائضه فِي الميراث، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 13] فِي شأن المواريث، يدخله جنات وقرأ نَافِع بالنون والمعنى فِيهِ كالمعنى بالياء.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [النساء: 14] قَالَ مُجَاهِد: فيما افترض من المواريث، وقَالَ عِكْرمَة عَنْ ابْن عَبَّاس: من لَمْ يرض بقسم اللَّه، ويتعد ما قَالَ اللَّه يدخله نارا خالدا فيها، {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14] .
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا(2/24)
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا {15} وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا {16} إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {17} وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {18} } [النساء: 15-18] قوله جلَّ جلاله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] أَيّ: يفعلن الزنا، {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] أَيّ: من الْمُسْلِمِين، فَإِن شهدوا عَلَيْهَا، بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] احبسوهن فِي السجون {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] ، وكان هَذَا فِي ابتداء الْإِسْلَام: المرأة إذا زنت حبست فِي البيت حَتَّى تموت، والرجل إذا زنى أوذي بالتعيير والضرب بالنعال، فنزلت: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الآية، هَذَا حُكم البِكر.
فَإِن كانا محصنين رجما بسنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ سبيلهما الَّذِي جعله اللَّه لهما فِي قوله {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] .
203 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ حَطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا وَالْبِكْرُ يُجْلَدُ وَيُنْفَى، وَالثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ» .(2/25)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ
204 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ»
قوله: واللذان: قرأ ابْن كثير بالتشديد، وكذلك: هذان، وهاتين، جعل التشديد عوضا من الحذف الَّذِي لحق الكلمة ألا ترى أن قولهم ذا قَدْ حذف لامُها، وقد حذفت الياء من اللذان وهذان، وكان حقهما فِي التثنية: اللذيان، وهذيان فجعل التشديد فيه عوضا من الحرف المحذوف عَنْهُ فِي التثنية.
وقوله: يأتيانها منكم يعني: الفاحشة، والمعنى: يفعلان الزنا، فآذوهما يعني التعيير باللسان والتوبيخ كَمَا ذكرنا.
قوله: فَإِن تابا: من الفاحشة، وأصلحا: العمل فيما بعد، فأعرضوا عَنْهُمَا: فاتركوا أذاهما، وَقَدْ ذكرنا حكم هَذِهِ الآية فِي التي قبلها.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 16] معنى التواب فِي صفة اللَّه تَعَالَى: أَنَّهُ يتوب عَلَى عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إِلَيْهِ من ذنبه.
قوله تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 17] أَيّ: التوبة التي أوجب اللَّه بفضله عَلَى نفسه {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد أن ذنب الْمُؤْمِن جهل منه.
وقَالَ السُّدِّيّ: كُلّ من عصى اللَّه تَعَالَى فهو جهالة(2/26)
عمدا كان أو غير ذَلِكَ.
قَالَ الزجاج: معنى الجهالة ههنا: أنهم فِي اختيارهم اللذة الفانية عَلَى اللذة الباقية جهال.
وقوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17] قَالَ ابْن عَبَّاس فِي رواية الوالبي: القريب: ما بينه وبَيْنَ أن ينظر إلى ملك الموت.
وقَالَ فِي رواية عَطَاء: ولو قبل الموت بفواق ناقة.
205 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدةُ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِيَوْمٍ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ» فَحَدَّثْتُ بِهَا رَجُلًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِنِصْفِ يَوْمٍ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ» فَحَدَّثْتُ بِهَا رَجُلًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِضَحْوَةٍ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ تَوْبَتَهُ» فَحَدَّثْتُ بِهَا رَجُلًا آخَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ بِنَفْسِهِ قَبِلَ اللَّهُ مِنْهُ تَوْبَتَهُ»
قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [النساء: 18] قَالَ عَطَاء عَنْ ابْن عَبَّاس: يريد الشرك.(2/27)
وقَالَ عكرمه عَنْهُ فِي هَذِهِ الآية: هُمْ أَهْل الشرك.
وقَالَ سَعِيد بن جُبَيْر: نزلت الأولى فِي الْمُؤْمِنِين.
يعني قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 17] الآية، والوسطى فِي المنافقين.
يعني قوله: وليست التوبة والأخرى فِي الكافرين.
يعني: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18] .
ومعنى الآية: لَا توب لمشرك، وَلَا لمنافق إذا تاب عِنْد حضور الموت، وَهُوَ النظر إلى ملك الموت، وَلَا لمن مات كافرا، لأن التوبة لَا تقبل فِي الآخرة.
{أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18] أَيّ: هيَّانا وأعددنا، يُقَالُ: أعتدت الشرع فهو معتد وعتيد.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا {19} وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {20} وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا {21} } [النساء: 19-21] قوله عَزَّ وَجَلّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} [النساء: 19] الآية: قَالَ ابْن عَبَّاس والمفسرون: كان الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة إذا مات كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لَمْ يزوجوها فنزلت، هَذِهِ الآية.
وأعلم اللَّه أن ذَلِكَ حرام، وأن الرَّجُل لَا يرث المرأة من الميت، وقرئ: كرها بفتح الكاف وضمها،(2/28)
وهما لغتان كالفقر والفقر، والضعف والضعف، {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] المنهي عَنْ العضل ههنا الأزواج، نهوا أن يمسكوهن إذا لَمْ يَكُنْ لهم فيهن حاجة إضرارا بهن حَتَّى يفتدين ببعض مهورهن.
وقوله: {إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] يعني: الزنا.
فِي قول عَطَاء، والحسن، والسدي.
وقَالَ ابْن مَسْعُود، وقَتَادَةَ: هِيَ النشوز.
فإذا زنْت امرأة تحت رَجُل، أَوْ نشزت عَلَيْه حل لَهُ أن يسألها الخلع، وأن يضارها ويسيء معاشرتها لتفتدي منه بالمهر.
ثُمّ قَالَ: وعاشروهن بالمعروف يعني: قبل الإتيان بالفاحشة.
قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد اصحبوهن بما يجب لهن عليكم من الحق.
قَالَ الزجاج: هُوَ النصفة فِي المبيت والنفقة، والإجمال فِي القول.
وقوله: فَإِن كرهتموهن إلى قوله خيرًا كثيرًا: قَالَ عَطَاء: يريد فيما كرهتم مما هُوَ للَّه رضا خير كثير، وثواب عظيم.
قَالَ المفسرون: الخير الكثير فِي المرأة المكروهة: الولد الصالح، وربما يَكُون فرطا.
قوله جلَّ جلاله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء: 20] قَالَ الوالبي عَنْ ابْن عَبَّاس: إن كرهتَ امرأتك وأعجبك غيرها، فأردت أن تطلق هَذِهِ وتتزوج تِلْكَ، فلا يحل لك أن تأخذ من مهر التي كرهتَ شيئًا، وإن كثر وَهُوَ قوله تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] أَيّ: لَا ترجعوا فيما أعطيتموهن من المهر إذا كرهتموهن، وأردتم طلاقهن.(2/29)
وقوله: أتأخذونه بهتانا أَيّ: ظلما وهذا استفهام إنكار، قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد أن أخذك إياه بعدما دخلت بها بهتان وإثم عظيم.
ثُمّ قَالَ عَلَى وجه الإنكار والتوبيخ: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] أَيّ: وصل بعضكم إلى بعض بالجماع، ولا يجوز للزوج الرجوع فِي شيء من المهر بعد المسيس.
والإفضاء معناه الوصول، يُقَالُ: أفضى إِلَيْهِ، أَيّ: وصل إليه بالملامسة معه.
وقوله: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] قَالَ أكثر المفسرين: هُوَ قولهم عِنْد العقد: زوجتكها عَلَى ما أَخَذَ اللَّه للنساء، من إمساك بمعروف أَوْ تسريح بإحسان.
وقَالَ أَبُو العالية: أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه.
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا {22} حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {23} وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ(2/30)
بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {24} وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {25} يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {26} وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا {27} يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا {28} } [النساء: 22-28] قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] كَانَتْ العرب يتزوج الرَّجُل امرأة أَبِيهِ من بعد موته التي ليست بأمه، فنهى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ وحرمه.
وقوله: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] يعني: لَكُمْ ما قَدْ سلف فَإِن اللَّه تجاوز عَنْهُ، وسلف معناه: تقدم ومضى، يُقَالُ: سلف يسلف سلوفا فهو سالف.
وقوله: إنَّه أَي: إن ذَلِكَ النكاح كان فاحشة: قبيحا ومقتا: وَهُوَ أشد البغض، يُقَالُ: مقته يمقته مقتا.
وهذا إخبار عما كان فِي الْجَاهِلِيَّة، أعلموا أن هَذَا الَّذِي حرم عليهم لَمْ يزل منكرا فِي قلوبهم، ممقوتا عندهم.
وقوله: وساء سبيلا أَيّ: قبح هَذَا الفعل طريقا، يُقَالُ: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح.
قوله جلَّ جلاله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] كُلّ امرأة يرجع نسبك بالولادة إليها من جهة أبيك، أَوْ من جهة أمك بإناث رجعت إليها، أَوْ بذكور فهي أمك.
وقوله: وبناتكم: كُلّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أَوْ بدرجات بإناث أَوْ ذكور فهي بنتك.
وقوله: وأخواتكم: كُلّ أنثى ولدها شيء ولدك فِي الدرجة الأولى فهي أختك.
وقوله: وعماتكم: هِيَ جمع العمّة، وكل ذكر رجع نسبك إِلَيْهِ فأخته عمتك، وَقَدْ تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أَبِي أمك.(2/31)
وقوله: وخالاتكم: كُلّ أنثى رجع نسبك إليها بالولادة فأختها خالتك، وَقَدْ تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك.
وقوله: وبنات الأخ التحديد فِي هؤلاء كالتحديد فِي بِنْت الصلب، وهؤلاء النسوة اللاتي ذكرن من محرمات بالنسب.
ثُمّ ذكر المحرمات بسبب حدث، فَقَالَ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وهؤلاء سميت أمهات للحرمة كأزواج النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماهن اللَّه تَعَالَى أمهات الْمُؤْمِنِين، فكل أنثى انتسبت إليها باللبن فهي أمك فالتي أرضعتك أَوْ أرضعت امرأة أرضعتك أَوْ رَجُلًا أرضعك فهي أمك.
وقوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] أخوات الرضاعة ثلاث: وهي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبان أبيك، سواء أرضعتها معك أَوْ مَعَ وُلِد قبلك أَوْ بعدك، وأم الرضاعة وأخت الرضاعة لَمْ تحرما، فكان الرضاع سبب تحريمهما.
206 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ الْجَرَشِيُّ فِي دَارِ السُّنَّةِ إِمْلاءً سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ الْغِفَارِيُّ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا حَرُمَ مِنَ النَّسَبِ» .
فَثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ السَّبْعَ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ مُحَرَّمَاتٌ بِاللَّبَنِ
وقوله: وأمهات نسائكم: حد أم امرأتك كحد أمك سواء كَانَتْ من اللبن أَوْ من النسب، وهي تحرم بنفس(2/32)
العقد عَلَى زوج بنتها لأن اللَّه تَعَالَى أطلق التحريم وَلَم يقيده بالدخول، وقوله: وربائبكم: جمع الربيبة وهِيَ بِنْت امرأة الرَّجُل من غيره.
وقوله: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] يعني: اللاتي ربيتموهن فِي حجوركم، وهي جمع حجر الْإِنْسَان.
والمعنى: فِي ضمانكم وتربيتكم.
والربيبة لَا تحرم بمجرد العقد على الأم، وإنما تحرم بالدخول بالأم لقوله تَعَالَى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] أَيّ: فِي نكاح الربائب إذا لَمْ تدخلوا بالأمهات.
وقوله: وحلائل أبنائكم: الحليل والحليلة: الزوج والمرأة، سميا بِذَلِك لأنهما يحلان فِي موضع واحد.
وقوله: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] إحتراز عَنْ المُتبنَّى، وكان المبتنى فِي صدر الْإِسْلَام بمنزلة الابن، وقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] يحرم عَلَى الرَّجُل أن يجمع فِي النكاح بين أختين فِي النسب أَوْ باللبن.
وقوله: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] قَالَ الكلبي: مضى فِي الْجَاهِلِيَّة فإنكم لَا تؤاخذون به فِي الْإِسْلَام، وهم كانوا يجمعون فِي الْجَاهِلِيَّة بين الأختين، فحرم اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ رحمة لهذه الأمة، إذ علم شدة غيرة النّساء بعضهن عَلَى بعض.
قَالَ ابْن عَبَّاس: كان أَهْل الْجَاهِلِيَّة يحرمون ما حرم اللَّه إِلَّا امرأة الأب والجمع بين الأختين.
قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] يعني: ذوات الأزواج وهن محرمات عَلَى كُلّ أحد إِلَّا عَلَى أزواجهن لذلك عطفن عَلَى المحرمات فِي الآية التي قبلها.
والإحصان يقع عَلَى معان منها: الحرية كقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] يعني: الحرائر، ومنها: العفاف كقوله: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] يعني: عفائف، ومنها: الْإِسْلَام، من ذَلِكَ قوله: فإذا أحصن أَيّ: أسلمن، ومنها: كون المرأة ذات زوج من ذَلِكَ قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] .
ثُمّ استثنى من ذوات الأزواج فَقَالَ {إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] يريد: إِلَّا ما ملكتموهن بالسبي من دار الحرب، فَإِنَّهَا تحل لمالكها، ولَا عدة عَلَيْهَا فتستبرأ بحيضة وتوطأ.
207 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا(2/33)
سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنْ أَشْعَثَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا سَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ أَوْطَاسَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَقَعُ عَلَى نِسَاءٍ قَدْ عَرَفْنَا أَنْسَابَهُنَّ وَأَزْوَاجَهُنَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]
وإذا وقع السباء على الزوجين الحربيين أو على أحدهما انقطع النكاح بينهما، وكان من سبي أوطاس خلق كثير وقع السبي عليهم مع نسائهم، ونادى منادي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا لَا توطأ حامل حَتَّى تضع، وَلَا حائل حَتَّى تحيض حيضة، فأباح وطأهن بعد الاستبراء لانفساخ نكاحهن.
قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد هَذَا ما حرم، يعني كتب تحريم ما ذِكْرُ مَنْ النّساء عليكم.
قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وقرئ بضم الألف، والفتح أشبه بما قبله، لأن معنى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] كتب اللَّه عليكم كتابا، وأحل لَكُمْ فبناء الفعل للفاعل هنا.
ومن بنى الفعل للمفعول به، فَقَالَ: وأُحل لَكُم فهُو فِي المعنى يئول إلى الأولى وذلك مراعاة ما قبله، وَهُوَ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ، ومعنى {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ما سوى هَذِهِ النّساء اللاتي حرمت.(2/34)
وقوله: أن تبتغوا أَيّ: تطلبوا، بأموالكم: إمّا بنكاح وصداق، أَوْ بملك وثمن، محصنين: متعففين عَنْ الزنا، غَيْر مسافحين: غَيْر زانين، والسفاح والمسافحة: الزنا.
وقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] يعني: فَمَا استمتعتم وتلذذتم من النّساء بالنكاح الصحيح، فآتوهن أجورهن: مهورهن، فريضة: فَإِن استمتع بالدخول بها آتى المهر تاما، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر.
وقوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] قَالَ الزجاج: لَا إثم عليكم فِي أن تهب المرأة للزوج مهرها، أَوْ يهب الرَّجُل للمرأة تمام المهر إذا طلقها قبل الدخول.
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [النساء: 35] بما يصلح أمر العباد، حكيما: فيما بين لهم من عقد النكاح.
قوله جلَّ جلاله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] الطول الغَناء والسعة والقدرة، يُقَالُ: فُلان ذو طول أَيّ: ذو قدرة فِي ماله، يراد بالقدرة ههنا: القدرة عَلَى المهر.
وقوله: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] يريد الحرائر، فَمَنْ فتَح الصاد أراد: أنهن أحصن لحريتهن وَلَم تبتذلن كالإماء فهن محصَنات، ومن كسر الصاد أراد: أنهن أحصن أنفسهن لحريتهن وَلَم يبرزن بروز الأمة فهن محصِنات.
وقوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] أَيّ: فليتزوج مما ملكت أيمانكم، قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد جَارِية أخيك فِي الْإِسْلَام وَهُوَ أن يتزوج الرَّجُل بمن يَمْلك غيره مِمَّنْ تكون عَلَى مثل حاله فِي الْإِسْلَام، وَهُوَ قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] الفتيات: المملوكات والإماء جمع فتَاة، تَقُولُ العرب للأمة: فتاة وللعبد: فتى وأفاد التقييد(2/35)
ب المؤمنات: أنه لَا يجوز التزوج بالأمة الكتابية، وَهُوَ قول مُجَاهِد، وسعيد، والحسن، ومذهب مَالِك، والشافعي.
وعند أَبِي حنيفة يجوز التزوج بالأمة الكتابية، والآية حجة عَلَيْه.
وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} [النساء: 25] قَالَ الزجاج: أَيّ: اعملوا عَلَى الظاهر من الْإِيمَان فإنكم محاسبون بما ظهر، واللَّه يتولى السرائر والحقائق.
وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [النساء: 25] أَيّ: فِي النسب كلكم بنو آدم، فلا يتداخلنكم الأنفة من تزوج الإماء عِنْد الضرورة.
وقوله جلَّ جلاله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] قَالَ ابْن عَبَّاس: يريد أخطبها إلى سيدها.
ونكاح الأمة دون إذن السيد باطل.
وقوله: وآتوهن أجورهن أَيّ: مهورهن بالمعروف من غَيْر مطِل وَلَا إضرار.
وقوله: محصنات يريد: عفائف، غَيْر مسافحات غَيْر زوان، {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] جمع خدن وَهُوَ الَّذِي يخادنك.
قَالَ قَتَادَة، والضحاك: المسافحة: هِيَ التي تؤجر نفسها معلنة بالزنا، والتي تتخذ الخدن: هِيَ التي تزني سرا.
وكانت العرب فِي الْجَاهِلِيَّة يعيبون الزنا العلانية، وَلَا يعيبون اتخاذ الأخدان، فجاء اللَّه تَعَالَى بالإسلام، فهدم ذَلِكَ وقَالَ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] .
قَالَ قَتَادَة: نهى اللَّه تَعَالَى عَنْ نكاح المسافحة، وذات الخدن.
وقوله: فإذا أحصن أَيّ: الأزواج عَلَى معنى تزوجن، ومن فتح الألف، فمعناه أسلمن، والإحصان(2/36)
معناه فِي اللغة: المنع، ومنه قوله: أحصنت فرجها أَيّ: منعته عَنْ الزنا.
وقوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 25] أَي زنا، {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أَي عليهن نصف الحد، والمحصنات ههنا: الأبكار اللاتي أحصنهن العفاف، وحدهن مائة، ويتنصف فِي حق الأمة إذا زنت.
وقوله: ذَلِكَ يعني: نكاح الأمة عِنْد عدم الطوْل، {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] يعني: الزنا وَهُوَ أن يخاف شدة الشبق والغلمة عَلَى الزنا، فيلقى العذاب فِي الآخرة، أَوْ الحد فِي الدُّنْيَا.
أباح اللَّه نكاح الأمة بشرطين: أَحَدهمَا فِي أول الآية، وَهُوَ عدم الطول، والثاني فِي آخر الآية وَهُوَ خوف العنت.
ثُمّ قَالَ: وأن تصبروا أَيّ: عَنْ تزوج الإماء، خير لَكُمْ: لئلا يصير الولد عبدا، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء: 25] .
قوله جلَّ جلاله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] قَالَ ابْن عَبَّاس: ليبين لَكُمْ ما يقربكم إلى طاعته.
وقَالَ غيره: ليبين لَكُمْ شرائع دينكم، ومصالح أموركم.
{وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26] يريد: دين إِبْرَاهِيم وإسماعيل، دين الحنيفية، ويتوب عليكم: يرجع بكم من معصيته التي كنتم عَلَيْهَا قبل هَذَا إلى طاعته التي أمركم بها، والله عليم بما يصلحكم، حكيم فِي تدبيره فيكم.
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27] يخرجكم من كُلّ ما يكره إلى ما يحب ويرضى، {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} [النساء: 27] قَالَ مُجَاهِد: هُمْ الزناة يريدون أن يزني أَهْل الْإِسْلَام، وَهُوَ قوله: {أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا} [النساء: 27] .
وقَالَ ابْن زَيْد: هُمْ جميع أَهْل الباطل فِي دينهم، يريدون أن تميلوا ميلا عظيما عَنْ الحق وقصْد السبيل بالمعصية فتكونوا مثلهم.
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] يعني: فِي أحكام الشرع، وَفِي جميع ما يسَّره اللَّه لنا، وسهَّله علينا، وَلَم يثقل التكليف كَمَا ثقل عَلَى بني إسرائيل.(2/37)
{وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] قَالَ ابْن عَبَّاس والأكثرون: يضعف عَنْ الصَّبْر عَنْ الجماع، وَلَا يصبر عَنْ النّساء، فلذلك أباح اللَّه لَهُ نكاح الأمة.
قَالَ الزجاج: أَيّ يستميله هواه وشهوته فهو ضَعِيف فِي ذَلِكَ.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {29} وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {30} } [النساء: 29-30] قوله عَزَّ وَجَلّ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] أَيّ: بما لَا يحل لَكُمْ فِي الشرع، كالربا والغصب والسرقة والخيانة.
والباطل: اسم جامع لكل ما لا يحل.
نهى اللَّه تَعَالَى بهذه الآية عَنْ جميع المكاسب الباطلة بالشرع، ثُمّ قَالَ {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] أَيّ: إلا أن تقع تجارة برضاء البَيِّعَيْن، يرضى كُلّ واحد منهما بما فِي يده.
وقرئ تجارةً بالنصب عَلَى تقدير: إِلَّا أن تكون التجارة تجارة، كَمَا قَالَ:
إذا كان يومًا ذا كواكب أشنعا
أَيّ: إذا كان اليوم يومًا.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيّ: لَا يقتل بعضكم بعضا، لأنكم أَهْل دين واحد، فأنتم كنفس واحدة.
هَذَا قول ابْن عَبَّاس والأكثرين.
وذهب قوم إِلَى أن هَذَا نهي عَنْ قُتِل الْإِنْسَان نفسه، ويدل على صحة هَذَا التأويل ما
208 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَنْصُورِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ يُحَدِّثُ، عَنْ(2/38)
يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ، وَأَنَا فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاغْتِسَالِ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ اللَّه يَقُولُ {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَم يَقُلْ شَيْئًا فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ عَمْرًا تَأَوَّلَ فِي الآيَةِ إِهْلاكَ نَفْسِهِ، لا نَفْسَ غَيْرِه وَلَم يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْه النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قوله جلَّ جلاله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [النساء: 30] كان ابْن عَبَّاس يَقُولُ: الإشارة تعود إلى كُلّ ما نهي عَنْهُ من أول ال { [إلى هَذَا الموضع.
وقَالَ قوم: الوعيد راجع إلى أكل المال بالباطل وقُتِل النَّفْس المحرمة.
وقوله:] عُدْوَانًا وَظُلْمًا} [سورة النساء: 30] : معنى العدوان: أن يعدوا ما أمر اللَّه تَعَالَى به، {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 30] أَيّ: إنَّه قادر عَلَى إيقاع ما توعد به من إدخال النار.
قوله عَزَّ وَجَلّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الآية، الاجتناب: المباعدة عَنْ الشيء وتركه جانبا، واختلفوا فِي الكبائر ما هِيَ؟
209 - فأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ(2/39)
إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْريُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرَ الْكَبَائِرِ؟ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا قَالَ: وَشَهَادَةُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ حَفْصٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ النَّاقِد كِلَاهُمَا، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُليَّةَ
210 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَأَبَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " الْكَبَائِرُ سَبْعٌ: أَعْظَمُهُنَّ إِشْرَاكٌ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، فَمَنْ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُنَّ كَانَ مَعِي فِي بُحْبُوحَةِ الْجَنَّةِ، مَصَارِيعِهَا مِنْ ذَهَبٍ "(2/40)
وقَالَ ابْن عَبَّاس فِي رواية الوالبي: الكبائر كُلّ ذنب ختمه اللَّه بنار، أَوْ غضب، أَوْ لعنة، أَوْ عذاب، وقَالَ فِي رواية ابْن سِيرِينَ: كُلّ ما نهي عَنْهُ فهو كبيرة.
وقَالَ الْحَسَن، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك: كُلّ ما جاء فِي القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة نحو: قُتِل النَّفْس، وقذف المحصنة، والربا، والزنا، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف.
211 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ طَاهِرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اللَّيْثِ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفةَ، حَدَّثَنَا سَهْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْن عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، كَمِ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ سَبْعُ مِائَةٍ أَقْرَبُ مِنْهَا إِلَى سَبْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ
{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا {31} وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا {32} وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا {33} الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ(2/41)
فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا {34} } [النساء: 31-34] وقوله: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] يعني: ما دون الكبائر ومثل النظر والكذبة واللمسة والقبلة.
وهذه تقع مكفرة بالصلوات الخمس.
212 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأُبُلِّيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِسْحَاقَ مَوْلَى زَائِدَةَ حَدَّثَه، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مَكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ»
213 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْبُوشَنْجِيُّ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:(2/42)
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُحَدِّثُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ شَابًّا حَدَثًا، وَلَا شَيْخًا مَارِقًا، أَلَا إِنَّ الشَّفَاعَةَ لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» قَالَ: ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآية {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} [النساء: 31]
وقرئ مَدخلا بفتح الميم عَلَى تقدير: وندخلكم فتدخلون مدخلا، ومن قرأ بضم الميم جاز أن يَكُون مصدرا، وجاز أن يكون مكانا، والأوْلى أن يَكُون مكانا لأن المفسرين قَالُوا فِي قوله مدخلا كريما: هُوَ الجَنَّة.
قوله عَزَّ وَجَلّ: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ} [النساء: 32] الآية، قَالَ مُجَاهِد: قَالَتْ أم سَلَمَة: يغزو الرجال وَلَا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فليتنا كُنَّا رجالا، فجاهدنا وغزونا وكان لنا مثل أجر الرجال، فنزلت هَذِهِ الآية.
وَفِي هَذِهِ الآية نهي أن يتمنى أحد مال غيره، فَإِن ذَلِكَ هُوَ الحسد، وَقَدْ جاء فِي الْحَدِيث: " لَا يتمنين أحدكم مال أَخِيهِ، وَلَكِن ليقل: اللَّهُمَّ ارزقني، اللَّهُمَّ أعطني مثله ".
وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا} [النساء: 32] أَيّ: من الجهاد، {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] حفظ فروجهن،(2/43)
وطاعة أزواجهن، أَيّ: لكل واحد من الفريقين حظ من الثواب، {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32] أَيّ: إن احتجتم إلى مال غيركم، وأعجبكم أن يَكُون لَكُمْ مثل ماله، فسلوا اللَّه أن يعطيكم مثل ذَلِكَ من فضله.
214 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ النَّضْرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبْدُوسِ بْنِ كَامِلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ وَاقِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ إِسْرَائِيلَ بْنَ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ انْتِظَارُ الْفَرَجِ»
قوله عَزَّ وَجَلّ: ولكل أَيّ: ولكل واحد من الرجال والنساء، جعلنا موالي: قَالَ ابْن عَبَّاس، ومجاهد، وقَتَادَةَ، وابن زَيْد: عصبة.
وقَالَ السُّدِّيّ: ورثة.
{مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] أَيّ: يرثون، أَوْ يعطون ما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم لَهُ، والذين عاقدت أيمانكم يعني: الحلفاء فِي قول جميع المفسرين.
وكان الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة يعاقد الرَّجُل، وَيَقُولُ لَهُ: دمي دمك، وناري نارك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، فَلَمَّا قام الْإِسْلَام جعل للحليف السدس، وَهُوَ قوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثُمّ نسخ ذَلِكَ بقوله: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] .(2/44)
وقرئ عقدت وكلا القرائتين معناهما واحد، أَيّ: أحكمت أيمانكم، والأيمان: يحتمل أن يَكُون جمع يمين من: اليد، ويحتمل أن يَكُون من: القسم، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم، ويأخذ بعضهم بيد بعض عَلَى الوفاء والتمسك بالعهد، ويتحالفون عَلَيْه أيضًا.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [النساء: 33] قَالَ عَطَاء: يريد لَمْ يغب عَنْهُ علم ما خلق وبرأ.
قوله جلَّ جلاله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] الآية، قَالَ المفسرون: لطم رَجُل امرأته، فجاءت إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطلب القصاص، فنزلت هَذِهِ الآية.
ومعنى قوله: {قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] مسلطون عَلَى تأديبهن، والأخذ فوق أيديهن، فعلى المرأة أن تطيع زوجها فِي طاعة اللَّه.
والقوام: المبالغ فِي القيام، يُقَالُ: هَذَا قيم المرأة وقوامها للذي يقوم بأمرها ويحفظها.
قَالَ المفسرون: وليس بين المرأة وزوجها قصاص إِلَّا فِي النَّفْس والجروح، وكان النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أوجب القصاص فِي اللطم، فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية قَالَ: «أردنا أمرا، وأراد اللَّه أمرا، وَالَّذِي أراد اللَّه خير» .
ورفع القصاص.
وقوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] يعني: بما فضل اللَّه الرجال عَلَى النّساء بالعقل والجسم والعلم والعزم والجهاد وَالشَّهَادَةِ والميراث.
وقوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] يعني: المهر والإنفاق عليهن.
215 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ بِلالٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لأَحَدٍ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا، لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَيْهَا»(2/45)
216 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ أَبِي الْقَاسِمِ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ، أَنَّ عَمَّتَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَلَكِ بَعْلٌ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُ؟ قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلَّا مَا أَعْجِزُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهَا: اعْلَمِي أَنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ "
وقوله: فالصالحات يعني النّساء الصالحات، قانتات: مطيعات لأزواجهن، حافظات للغيب: قَالَ مُجَاهِد، وقَتَادَةَ: لغيب أزواجهن.
وقَالَ أَبُو روق: يحفظن فروجهن فِي غيبة أزواجهن.
{بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] أَيّ: بما حفظهن اللَّه فِي إيجاب المهر والنفقة وإيصاء الزوج بهن.
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] والنشوز ههنا: معصية الزوج وَهُوَ الترفع عَلَيْه بالخلاف، قَالَ عَطَاء: هِيَ أن لَا تتعطر لَهُ، وتمنعه نفسها، وتتغير عما كَانَتْ تفعله من الطواعية.
فعظوهن: بكتاب اللَّه وذكروهن اللَّه وما أمرهن به، {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ أن يوليها ظهره عَلَى الفراش وَلَا يكلمها، وقَالَ(2/46)
الشَّعْبِيّ، ومجاهد: هُوَ أن يهجر مضاجعتها فلا يضاجعها.
واضربوهن يعني: ضربا غَيْر مبرح، قَالَ ابْن عَبَّاس: أدبا مثل اللكزة.
وللزوج أن يتلافى نشوز امرأته بما أذن اللَّه لَهُ فِيهِ، ومما ذكر فِي هَذِهِ الآية.
فإن أطعنكم أَيّ: فيما يلتمس منهن، {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} [النساء: 34] قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تتجنوا عليهن العلل.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا {35} وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا {36} الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا {37} } [النساء: 35-37] قوله جلَّ جلاله: وإن خفتم أي: علمتم شقاق بينهما أي: عداوة وخلاف ما بينهما، {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ} [النساء: 35] المأمور ببعث الحكمين السلطان الذي يترافع الزوجان فيما شجر بينهما إليه، والحكم بمعنى الحاكم وهو المانع من الظلم.
وقوله: {مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] أي: من أقارب هذا وأقارب تلك، {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] قال عامة المفسرين: إن أراد الحكمان إصلاحا يوفق الله بين الزوج والمرأة حتى يصطلحا.(2/47)
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} [النساء: 35] بما في قلب الزوجين من المودة، خبيرا: بما يكون منهما.
قوله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]
217 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّاهِدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَبْسِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عَائِذٍ، عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ رَدِيفًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّهُمْ عَلَى اللَّهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ وَأَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ "
218 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَحْمَدَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّقْرِ السُّكَّرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوْصِنِي , قَالَ: «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلا تَدَعِ الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنَّهَا ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلا تَشْرَبِ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ»(2/48)
قوله: وبالوالدين إحسانا قال ابن عباس: برا بهما مع اللطف ولين الجانب، ولا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحد النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، يكون بين أيديهما مثل العبد بين يدي السيد تذللا لهما.
وبذي القربى: قال: يصله ويتعطف عليه، واليتامى: يرفق بهم، ويدنيهم، ويمسح رأسهم، والمساكين: ببذل يسير أو، رد جميل، {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] يعني: الذي بينك وبينه قرابة، فله حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإسلام، والجار الجنب: هو الذي ليس بينك وبينه قرابة، يقال: رجل جنب.
إذا كان غريبا متباعدا عن أهله، وقوم أجناب.
والجنابة: البعد.
219 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَعْقُوبَ الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»
220 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ طَلْحَةَ، يَقُولُ: إِنَّ عَائِشَةَ،(2/49)
قَالَتْ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَبِأَيِّهِمَا أَبْدَأُ؟ فَقَالَ: بِأَقْرَبِهِمَا مِنْكُمْ بَابًا "، رَوَاهُ الْبُخَارِيِّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مِنْهَالٍ، عَنْ شُعْبَةَ
221 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْقِلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِيَنَّ جَارَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ , عَنْ حَرْمَلَةَ , عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيّ
222 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَيَانٍ الْحَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَسْنَوَيْهِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُنَادِي، حَدَّثَنَا أَبُو هُدْبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْجَارَ لَيَتَعَلَّقُ بِالْجَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَوْسَعْتَ عَلَى أَخِي وَقَتَّرْتَ عَلَيَّ، أُمْسِي طَاوِيًا بَطْنِي، وَيُمْسِي هَذَا شَبْعَانَ، سَلْهُ لِمَ أَغْلَقَ بَابَهُ عَنِّي وَحَرَمَنِي مَا قَدْ أَوْسَعْتَ عَلَيْهِ، فَالْجَارُ مُتَعَلِّقٌ بِالْجَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
وقوله والصاحب بالجنب قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والحسن، والسدي، والضحاك: هو الرفيق في السفر، له حق الجوار، وحق الصحبة.
وابن السبيل: هو الضيف يجب قراه إلى أن يبلغ حيث يريد، قال ابن عباس: هو عابر السبيل تئويه، وتطعمه حتى يرحل عنك.(2/50)
{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] يريد: المملوك، تحسن رزقه، وتعفو عنه فيما يخطئ.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النساء: 36] قال ابن عباس: يريد بالمختال: العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الله، والفخور: الذي يفخر على عباد الله بما خوله الله من كرامته وما أعطاه من نعمته.
223 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، عَنْ خِلَاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ شَابٌّ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ مُخْتَالا فَخُورًا، إِذِ ابْتَلَعَتْهُ الأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ تَقُومُ السَّاعَةُ»
224 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ الْبِلالِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مِنَ الْخُيَلاءِ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
225 - أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي جَدِّي الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَسَّانٍ الأَنْمَاطِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى اللَّخَمِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي(2/51)
حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: انْطَلَقْنَا حَاجِّينَ فَمَرَرْنَا عَلَى أَبِي ذَرٍّ، فَقُلْنَا: حَدَّثَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " ثَلاثَةٌ لا خَلاقَ لَهُمُ: الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ , ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النساء: 36] ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي لا يَفْعَلُ خَيْرًا إِلَّا مَنَّ بِهِ، ثُمَّ قَرَأَ {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة: 264] ، وَالَّذِي يَشْتَرِي بِيَمِينِهِ ثَمَنًا قَلِيلا، ثُمَّ قَرَأَ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: 77]
قوله عز وجل: الذين يبخلون: نزلت في اليهود , قال قتادة: هم أعداء الله أهل الكتاب، بخلوا بحق الله عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدا، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة.
قال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يَصْدُقُوا مَن أتاهم صفةَ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعته , وأمروا قومهم بالبخل وهو كتمان أمره، وذلك قوله: {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37] .
وقرئ بالبخل وهما لغتان، مثل: الثكلي والثكل.
قال: يأمرون سفلتهم بكتمان نعت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37] قال ابن عباس: يريد العلم بما في التوراة مما عظم الله به أمر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته.
ثم أوعدهم بالنار فقال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 37] ، وهو النار يذلهم الله فيها ويخزيهم.
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ(2/52)
قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا {38} وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا {39} إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا {40} فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا {41} يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا {42} } [النساء: 38-42] قوله جل جلاله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء: 38] نزلت في المنافقين، كانوا ينفقون أموالهم رياء، لا لوجه الله {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} [النساء: 38] قال الكلبي: هذا في الآخرة، يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار، يقرن مع كل كافر.
يقول الله: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا} [النساء: 38] صاحبا، فساء قرينا يقول: بئس الصاحب الشيطان.
قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 39] الآية، هذا احتجاج على هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله بأنهم لا يؤمنون بالله، وذلك أن الإنسان يحاسب نفسه فيما عليه وله، فإذا ظهر لها عليه في فعل شيء من استحقاق العقاب تركه، وإذا ظهر ما يستحق من الثواب في عمل شيء عمله، ولزم ذلك الشيء، يقول الله: ليتفكروا ولينظروا ماذا عليهم في الإيمان لو آمنوا.
وهذا حث من الله تعالى لهم على الإيمان والنظر في شأن محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصدقه، والإنفاق في سبيل الله، وهو قوله: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 39] ، قال ابن عباس: تصدقوا مما تفضل الله به عليهم، {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} [النساء: 39] يعلم ما ينفقون رياء.
قوله جل جلاله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] قال عطاء، عن ابن عباس: لا ينقص مثقال ذرة من عمل منافق إلا جازاه، {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} [النساء: 40] أي: وإن تكن الذرة حسنة.
ومن قرأ بالرفع كان المعنى: وإن تحدث حسنةٌ، أو إن تقع حسنةٌ.(2/53)
قال ابن عباس: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً} [النساء: 40] يريد: من مؤمن.
يضاعفها: بعشرة أضعافها.
وقال السدي: هذا عن الحساب والقصاص، فمن بقي له من الحساب مثقال ذرة يضاعفها الله إلى سبع مائة ضعف، وإلى الأجر العظيم، وهو قوله: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] يعني: تفضل عليه بأكثر من العشرة الأضعاف، وقال الكلبي: «الأجر العظيم» : الجنة.
قوله جل جلاله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41] الآية، قال الزجاج: أي: فكيف يكون حال هؤلاء القوم الذين ذكرهم الله من المنافقين والمشركين يوم القيامة، وهو قوله {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] ، قال المفسرون: يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها.
وجئنا بك يا محمد، على هؤلاء: المنافقين والمشركين، شهيدا تشهد عليهم بما فعلوا.
226 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، قَالَ: قَال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، قَالَ: فَافْتَتَحْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ فَقَرَأْتُ حَتَّى بَلَغْتُ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] قَالَ: فَغَمَزَنِي بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَسْبُكَ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ "
227 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ(2/54)
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْكَامِلِ الْفُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ أَبُوهُ مِمَّنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَجَدُّهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي بَنِي ظَفَرٍ، فَجَلَسَ عَلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي فِي مَسْجِدِ بَنِي ظَفَرٍ وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَمَر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِئًا فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الآيَةِ {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] بَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اضْطَرَبَ لِحْيَاهُ وَجَنْبَاهُ، وَقَالَ: «يَا رَبِّ هَذَا شَهِدْتُ عَلَى مَنْ أنا بَيْنَ ظَهْرَيْهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ أَرَهُ؟»
قوله عز وجل: يومئذ يعني يوم إذ ذاك، يعني يوم القيامة، وهو {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] ، {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 42] يتمنون {وَعَصَوُا الرَّسُولَ} [النساء: 42] في الدنيا، والواو ههنا: للحال التي كانوا عليها من معصية الرسول في الدنيا.
{لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ} [النساء: 42] قال قتادة: ودوا لو تخرقت بهم الأرض فساخوا فيها، وقال الزجاج: يودون أنهم كانوا والأرض سواء.
وقال ابن الأنباري: ودوا أنهم يستوون مع تراب الأرض ويدخلون في جملتها.(2/55)
وقرأ نافع تَسَّوَّى من التسوي، يقال: سويته فتسوى، والمعنى: تتسوى فأدغم التاء في السين لقربه منها، وحذف حمزةُ التاء، ولم يدغمها فقرأ تَسَوَّى مفتوحة التاء خفيفة السين.
وقوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] استئناف كلام في الإخبار عن الكفار، أنهم لا يكتمون الله حديثا في القيامة لأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه.
وقال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: هذا حين يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم، وأرجلهم فحينئذ لا يكتمون الله حديثا.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] قال المفسرون: صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما، ودعا أناسا من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطعموا وشربوا، وحضرت صلاة المغرب، فتقدم بعض القوم فصلى بهم المغرب، فقرأ: قل يأيها الكافرون فلم يقمها، فأنزل الله تعالى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] أي: لا تصلوا إذا كنتم سكارى.(2/56)
{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] قال ابن عباس: يريد ما تقرءون، وتثبتوا حدود الصلاة، وتكبيرها، وخشوعها، فكان المسلمون بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر والشراب أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها.
وقوله: ولا جنبا: الجنب: الذي يجب عليه الغسل لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع يقال: جنب الرجل يجنب جنبا وجنابة، فهو جنب وأجنب مثله.
{إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] العابر: فاعل من العبور وهو قطع الطريق، يقال: عبرت النهر والطريق عبورا.
إذا قطعته من هذا الجانب إلى الجانب الآخر.
روى الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال عطاء بن يسار، عن ابن عباس: في قوله: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] لا تقرب المسجد وأنت جنب إلا أن يكون طريقك فيه، فتمر مارا، ولا تجلس.
وقال سعيد بن جبير: الجنب يمر في المسجد ولا يجلس فيه.
وهذا قول سعيد بن المسيب، والحسن، والضحاك، وعكرمة، والزهري، ومذهب الشافعي، وعند هؤلاء: يجوز للجنب المرور بالمسجد إذا كان طريقه إلى الماء.
ومعنى الآية: نهي الجنب عن دخول المسجد حتى يغتسل وهو قوله: حتى تغتسلوا، إلا إذا كان مارا بالمسجد.
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] جمع مريض، وعني به: المريض الذي يضره مس الماء كصاحب الجدري، والجروح، والحروق، ومن يتضرر باستعمال الماء.(2/57)
{أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] المسافر إذا أعوزه الماء تيمم، طال سفره أو قصر لهذه الآية، قوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] يعني الذي أحدث بالتبرز إلى الغائط وهو المطمئن من الأرض، وكانوا يتبرزون هناك ليغيبوا عن أعين الناس، ثم قيل للحدث غائط، إذا كان سببا له.
وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] ، وقرئ لمستم.
فمعنى اللمس في اللغة: طلب الشيء باليد ههنا وههنا، قال لبيد:
يلمس الأحلاس في منزله ... بيديه كاليهودي المصل
واختلف المفسرون في اللمس المذكور ههنا على قولين: أحدهما: أن المراد به الجماع وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، وهؤلاء لا يحكمون بانتقاض الطهر باللمس، وهو مذهب الكوفيين.
والقول الثاني: أن المراد باللمس ههنا: التقاء البشرتين سواء بجماع أو غيره، وهو قول ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وإبراهيم، ومنصور، ومذهب الشافعي، وهؤلاء يوجبون الطهارة على من أفضى بشيء من بدنه إلى عضو من أعضاء المرأة.
وهذا القول أولى، لأن حقيقة اللمس في اللغة باليد، وحمل الآية على الحقيقة أولى.
وقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] قال ابن عباس: فتعمدوا الأرض وتربتها، والمراد بالتيمم ههنا:(2/58)
التمسح بالتراب، وذكرنا معناه في اللغة في { [البقرة، وأما الصعيد فقال أبو عبيدة، والفراء: الصعيد: التراب.
وقال ابن الأعرابي: الصعيد: الأرض بعينها.
وقال الزجاج: الصعيد: وجه الأرض.
وقال الشافعي: لا يقع اسم صعيد إلا على تراب ذي غبار.
والطيب من الأرض: اسم لما ينبت بدليل قوله:] وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [سورة الأعراف: 58] .
وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] قال ابن عباس: تضرب بكفيك على وجه الأرض، ثم تردهما إلى وجهك، ثم تضرب الثانية بكفيك فتمسح واحدة بالأخرى إلى المرفقين.
والتيمم من خصائص هذه الأمة ومما أكرمهم الله تعالى به، وأما ابتداء التيمم فهو ما
228 - أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ طَاهِرٍ التَّيْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْجُوزِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ , عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنَّاسِ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: أَحَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسَ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ قَالَتْ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَ يَطْعَنُ بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي فَلا يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا.
فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حَضِيرٍ، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا الْعِقْدَ،(2/59)
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، كِلاهُمَا عَنْ مَالِكٍ
229 - وأَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ غَانِمِ بْنِ حَمُّوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّيَمُّمُ طُهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدْتَ الْمَاءَ فَأَمْسِسْهُ بَشَرَتَكَ فَإِنَّهُ طَهُورٌ»
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ {44} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا {45} } [النساء: 44-45] قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 44] قال ابن عباس: يعني اليهود، يشترون الضلالة: قال الزجاج: يؤثرون التكذيب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأخذوا على ذلك الرشى، {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44] أي: تضلوا طريق الهدى.
{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} [النساء: 45] أي: أعرف بهم فهو يعلمكم ما هم عليه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا} [النساء: 45] أي: كفى الله وليا لكم، والياء زائدة للتوكيد.(2/60)
ومعنى الآية: أن ولاية الله ونصرته إياكم تغنيكم عن غيره من هؤلاء اليهود ومن جرى مجراهم ممن تطمعون في نصرته.
قال الزجاج: أعلمهم الله تعالى أن عداوة اليهود وغيرهم من الكفار لا تضرهم شيئا، إذ ضمن لهم النصرة والولاية في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء: 45] .
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 46] قوله جل جلاله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} [النساء: 46] أي: قوم أو فريق يحرفون الكلم، وهو جمع الكلمة.
قال الكلبي، ومقاتل: هم اليهود يغيرون صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزمانه ونبوته في كتابهم، ويقولون سمعنا: قولك، وعصينا: أمرك، {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} [النساء: 46] كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسمع، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت.
وقوله: وراعنا: ذكرنا في { [البقرة: أن هذا كان سبا بلغتهم، ومعنى ليا بألسنتهم أي: قلبا للكلام بها، وهو أنهم كانوا يحرفون راعنا عن طريق المراعاة إلى السب بالرعونة.
] وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة النساء: 46] مكان قولهم سمعنا وعصينا، واسمع وانظرنا: بدل راعنا، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 46] عند الله، وأقوم أي: أعدل وأصوب {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء: 46] أي: أبعدهم الله عن رحمته مجازاة لهم، {بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 46] يعني بالقليل عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقال السدي: القليل قولهم: الله ربنا، والجنة حق، والنار حق، فهذا قليل من إيمانهم.
قال الزجاج: والتقدير على هذا القول: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يجب أن يسموا مؤمنين.(2/61)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا {47} إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا {48} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا {49} انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا {50} أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا {51} أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا {52} أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا {53} أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا {54} فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا {55} } [النساء: 47-55] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [النساء: 47] يخاطب اليهود، {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47] يعني القرآن {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} [النساء: 47] .
الطمس المحو، يقال: طمسته تطمس، أي: درس.
قال ابن عباس: نجعلها كخف البعير، أو كحافر الفرس، على معنى: نمحو ما فيها من عين وفم وأنف وحاجب.
{فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47] قال قتادة: نحول وجوههم قبل ظهورهم.
يقال: لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يأتي أهله وأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي.
وقال النخعي: أقبل كعب من اليمن يحج بيت المقدس، فذهب إليه، فبينا هو فيه سمع رجلا من المهاجرين(2/62)
يقرأ في جوف الليل هذه الآية، فأتى عمر رضي الله عنه فأسلم.
ويروى أن عمر قرأ هذه الآية عليه , فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت.
مخافة أن يصيبه هذا الوعيد.
وقوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] أي: نمسخهم قردة، كما فعلنا بأوائلهم، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} [النساء: 47] قال ابن عباس: لا راد لحكمه، ولا ناقض لأمره.
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] الآية، هذه الآية دليل قاطع في مسألتين كبيرتين من الأصول: إحديهما: أن من ارتكب الكبائر من المسلمين إذا مات على الإيمان لم يخلده الله في النار، وإنما يخلد المشرك في النار دون المسلم.
والثانية: أن الله تعالى وعد المغفرة لما دون الشرك، فيعفو عمن يشاء، ويغفر لمن يشاء، لا حجر عليه في شيء من ذلك، ولا حكم عليه لأحد، تكذيبا للقدرية حيث قالوا: لا يجوز أن يغفر الكبيرة ويعفو عن المعاصي.
230 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ هَذِهِ الآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]
231 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ(2/63)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رُسْتَهْ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بْنُ سُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا نُمْسِكُ عَنِ الاسْتِغْفَارِ لأَهْلِ الْكَبَائِرِ حَتَّى سَمِعْنَا نَبِيَّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» .
فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ورجونا
232 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَكِّيٍّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي فَأَخْبَرَنِي، أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي، أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ "(2/64)
وقوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] أي: اختلق ذنبا غير مغفور.
قال الزجاج: يقال: افترى فلان الكذب، إذا اعتمله واختلقه، وأصله من الفري وهو بمعنى القطع.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 49] قال ابن عباس في رواية الكلبي: نزلت في اليهود، أتوا بأطفالهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا محمد، هل على هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا.
فقالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل، وما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، فكذَّبهم اللهُ تعالى.
ومعنى يزكون أنفسهم: يزعمون أنهم أزكياء، وتفسير التزكية قد مر.
وقوله: {بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء: 49] يجعل من يشاء زاكيا، قال ابن عباس: يريد: أهلَ التوحيد، {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 49] قال ابن عباس: يريد: ولا ينقصون من الثواب قدر فتيل النواة، يريد القشرة التي حول النواة فيما بينها وبين البسرة.
قال الفراء: الفتيل: ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ.
وهو قول السدي، وقال ابن السكيت: القطمير: القشرة الرقيقة على النواة، والفتيل: ما كان في شق النواة، والنقير: النكتة في ظهر النواة.
قال الأزهري: وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير القدر أي: لا يظلمون قدرها، قال النابغة:(2/65)
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدو فتيلا
قوله جل جلاله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النساء: 50] هذا تعجيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي قولهم: يكفر عنا ما نعمله، وكفى به أي: كفى هو يعني: افتراءهم، إثما مبينا وتأويل هذا: تعظيم إثمهم.
قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} [النساء: 51] يعني: علماء اليهود الذين أعطوا علم أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51] كل معبود من دون الله فهو جبت.
قال ابن عباس في رواية عطية: الجبت: الأصنام، والطاغوت: تراجمة الأصنام الذين يكونون بين أيديهم يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس.
وفي رواية الوالبي: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الساحر، وقال الكلبي: الجبت في هذه الآية: حيي بن أخطب، والطاغوت: كعب بن الأشرف، سميا بذلك لإغوائهما الناس ولطاعة اليهود لهما في معصية الله تعالى.
وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء: 51] وذلك أن حُيَيًّا، وكعبا لقيا قريشا بالموسم فقال لهما المشركون: أنحن أهدى طريقا أم محمد وأصحابه؟ فقالا: بل أنتم أهدى سبيلا، وأقوم طريقا، وأحسن من الذين آمنوا دينا، وهما يعلمان أنهما كاذبان، حملهما على ذلك حسد محمد وأصحابه.
قال الزجاج: وهذا دليل على معاندة اليهود لأنهم زعموا أن المشركين الذين لا يصدقون بشيء من الكتب وعبدوا الأصنام أهدى طريقا من الذين يوافقونهم على كثير مما يصدقون به.
ثم أنزل الله فيهم قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء: 52] ناصرا ينصره، ومانعا من عذاب الله، ثم وصفهم بالبخل فقال:(2/66)
أم لهم: على معنى: بل ألهم، {نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ} [النساء: 53] وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: ليس لهم ذلك.
وقوله {فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [النساء: 53] قال الفراء: هذا جواب لجزاء مضمر كأنك قلت: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيرا إذا.
قال الزجاج: وتأويل إذًا: إن كان الأمر كما جرى، أو كما ذكرت، يقول القائل: زيد يصير إليك.
فتقول: إذًا أكرمه.
أي: إن كان الأمر على ما تصف وقع إكرامه.
قال ابن عباس: النقير: نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة.
قال الزجاج: وذكر النقير ههنا: تمثيل، المعنى لَبَخلوا بالقليل.
قوله عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54] الآية، حسدت اليهود محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما آتاه الله من النبوة، فقال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء: 54] على معنى: بل أيحسدون الناس، يعني: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما جاز أن يقع عليه لفظ الناس وهو واحد، لأنه اجتمع عنده من خلال الخير ما يكون في جماعة، ومثله قوله {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] .
وقوله: {عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] يعني: النبوة، وقد علموا أن النبوة كانت في آله، {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 54] يعني: النبوة، يريد ما كان في بني إسرائيل من الكتاب والنبوة، وكانوا من آل إبراهيم لأنهم كانوا أولاد إسحاق بن إبراهيم، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ولد إسماعيل بن إبراهيم.
وهذا الذي ذكرنا قول الحسن، وابن جريج، وقتادة، واختيار الزجاج.
وقوله: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] قال مجاهد: يعني النبوة، لأن الملك لمن له الأمر والطاعة، والأنبياء لهم الطاعة والأمر.(2/67)
قوله عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ} [النساء: 55] قال ابن عباس، والأكثرون: مِن أهل الكتاب مَن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ} [النساء: 55] أعرض ولم يؤمن، {وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 55] عذابا لمن لا يؤمن.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا {56} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا {57} } [النساء: 56-57] قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} [النساء: 56] يعني: بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن، {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} [النساء: 56] ندخلهم نارا كلما نضجت: لانت بحرارتها، {جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] قال ابن عباس: يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس.
وقال الحسن: بلغنا أنهم تنضجهم كل يوم سبعين ألف مرة، تأكل جلودهم ولحومهم , قال: وغلظ لحوم أهل النار أربعون ذراعا، وما بين منكبي أحدهم مسيرة ثلاثة أيام.
233 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ الْمِهْرِجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بَطَّةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْكَلاعِيُّ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ، قَالَ:(2/68)
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يُحْشَرُ مِنْ بَيْنِ السَّقْطِ إِلَى الشَّيْخِ الْفَانِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبْنَاء ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً، الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ فِي خَلْقِ آدَمَ، وَقَلْبِ أَيُّوبَ، وَحُسْنِ يُوسُفَ، مُرْدًا مُكَحَّلِينَ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِالْكَافِرِ؟ قَالَ: يَعْظُمُ لِلنَّارِ حَتَّى يَصِيرَ غِلَظُ جِلْدِهِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَحَتَّى يَصِيرَ النَّابُ مِثْلَ أُحُدٍ "
وعن جابر بن عبد الله قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] فبكى، واشتد بكاؤه، فبكينا لبكائه، فلما أفاق قال: «تبدل ليجدد عليهم العذاب» .
وهو قوله: {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] أي: هو قوي لا يغلبه شيء، وهو مع ذلك حكيم فيما دبر.
ولما ذكر ما أعد للكافرين من العذاب ذكر ثواب المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء: 57] إلى قوله: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا} [النساء: 57] أي: دائما لا تنسخه الشمس، كما تنسخ ظلال الدنيا.
وقال الحسن: ظلا ظليلا: لا يدخله الحر والسمائم.
قال الزجاج: معنى ظليل: يظل من الريح والحر، وليس كل ظل كذلك، أعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حر فيه ولا برد.
وقال مقاتل: ظلا ظليلا يعني أكتان القصور، لا فرجة فيها ولا خلل.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58] قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] أجمع المفسرون على أن الآية نازلة في شأن مفتاح الكعبة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فتح مكة طلب المفتاح، فقيل: إنه مع عثمان بن طلحة الحجبي، وكان من بني عبد الدار وكان يلي سدانة الكعبة، فوجه إليه عليا رضي الله عنه فأبى دفعه إليه، وقال: لو(2/69)
علمت أنه رسول الله لم أمنعه المفتاح.
فلوى علي يده، وأخذه منه قسرا حتى دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيت وصلى فيه فلما خرج قال له العباس: بأبي أنت اجمع لي السدانة مع السقاية، وسأله أن يعطيه المفتاح، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا برده إليه، فرده إليه عليّ وألطف في القول، فقال: أخذته مني قهرا ورددته علي باللطف، قال: لأن الله تعالى أمرنا برده إليك، وقرأ عليه الآية، فأتى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم، ثم إنه هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو في ولده إلى اليوم.
234 - أَخْبَرَنَا أَبُو حَسَّانٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدٍ الإِسْتَرَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا جَدِّي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ: قَبَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَدَخَلَ الْكَعْبَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَخَرَجَ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآيَةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْمِفْتَاحَ وَقَالَ: «خُذُوهَا يَا بَنِي طَلْحَةَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ»
قال ابن عباس: هذه الآية عامة في كل أمانة، تؤدى الأمانة إلى البر والفاجر، والرحم توصل برة كانت أو فاجرة.
وقال ابن عمر، وابن مسعود: الفرج أمانة , والبصر أمانة، والأمانة في كل شيء، في الوضوء والصلاة، والزكاة، والجنابة، والصوم، وفي الكيل والوزن، وأعظم من ذلك الودائع، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
والأمانة مصدر سمي به المفعول، ولذلك جُمع أمانات لأنه أخلص اسما، قال الشاعر:
فأخلفن ميعادي وخن أمانتي ... وليس لمن خان الأمانة دين(2/70)
235 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ النَّحْوِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ حُسَيْنٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ»
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء: 58] أي: نعم شيئا يعظكم به الله، يعني: أداء الأمانة، والحكم بالعدل، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا} [النساء: 58] لما تقولون في الأمانة والحكم، بصيرا: بما تعملون فيهما.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] وقوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] قال الحسن، وعطاء: اتباع الكتاب والسنة، {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قال ابن عباس في رواية الوالبي: هم الفقهاء، والعلماء، وأهل الدين الذين يعلمون الناس معالم دينهم.
وأوجب الله تعالى طاعتهم.
وهذا قول مجاهد، والحسن، والضحاك.
وفي رواية عطاء: هم الولاة.
وهو قول ابن زيد، قال: هم الأمراء والسلاطين لما أمروا بأداء الأمانة في الرعية في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [النساء: 58] الآية، أمرت الرعية بحسن الطاعة لهم فيما يوافق الحق.
236 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ قَطَنٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، أَخْبَرَنِي زُرَيْقٌ مَوْلَى بَنِي(2/71)
فَزَارَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ مُسْلِمَ بْنَ قَرَظَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ
أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الواعظ، أخبرنا عبد الله بن أحمد المروزي، أخبرنا أبو عبد الرحمن بن أبي دارة، حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاد، حدثنا سلمة بن سليمان، عن عبد الله بن المبارك، أخبرنا الحسن بن عياش، عن عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: قال مسلمة بن عبد الملك: أليس قد أمرتم بطاعتنا، يعني: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ؟ قال: قلت: إن الله قد انتزعه منكم إذ خالفتم الحق، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] .
قال: فأين الله؟ قلت: الكتاب , قال: فأين الرسول؟ قلت: السنة.
والمعنى: فإن تنازعتم في شيء، أنتم وأمراؤكم، فردوا الحكم فيما تنازعتم فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
ذلك خير أي: ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة، وترككم التجادل خير، وأحسن تأويلا قال قتادة، والسدي، وأحمد: عاقبة.(2/72)
والعاقبة تسمى تأويلا لأنها مآل الأمر، يقال: إلى هذا مآل الأمر، وتأويله، أي: عاقبته.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا {61} فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا {62} أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا {63} } [النساء: 60-63] قوله جل جلاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء: 60] الآية، الزَّعم والزُّعم: لغتان وأكثر ما يستعمل الزَّعم بمعنى القول فيما لا يتحقق، يقال: زعم فلان إذا لم يدر لعله كذب أو باطل، ومنه قوله تعالى: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] أي: بقولهم الكذب.
قال المفسرون: وقع نزاع بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين، فقال اليهودي: بيني وبينك أبو القاسم.
يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلم أنه لا يقبل الرشوة، وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف.
لأنه علم أنه يأخذ الرشوة، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 60] يعني: المنافقين، {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60] يعني: كعب بن الأشرف، وقال عطاء: يعني: حيي بن أخطب {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء: 60] قال ابن عباس: أمروا أن لا يوالوا غير أهل دينهم.
{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 60] أي: ضلالا لا يرجعون عنه إلى دين الله أبدا.(2/73)
ومعنى الآية: تعجيب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن جهل مَن يعدل عن حكم الله إلى حكم الطاغوت مع زعمه بأنه مؤمن بالله ورسوله، وما أنزل إليه من قبله.
قوله جل جلاله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [النساء: 61] أي: لهؤلاء المنافقين: {تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [النساء: 61] يعني: في القرآن من الأحكام، وإلى الرسول إلى حكمه، {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] أي: يعرضون عنك إلى غيرك.
قوله عز وجل: فكيف أي: فكيف يحتالون ويصنعون، {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء: 62] عقوبة من الله مجازاة على ما صنعوا وهو قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء: 62] أي: من التكذيب والكفر بالقرآن والرسول؟ ثم عاد الكلام إلى ما سبق من القصة فقال: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 62] ، وذلك أن المنافقين أتوا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وحلفوا أنهم ما أرادوا بالعدول عنه في المحاكمة، {إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] أي: إلا توفيقا بين الخصوم أي: جمعا وتأليفا، وإحسانا بالتقريب في الحكم دون الحمل على مر الحق.
وكل ذلك كذب منهم، لأن الله تعالى قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء: 63] من الكذب والخيانة والشرك والنفاق، فأعرض عنهم أي: لا تعاقبهم، وعظهم: بلسانك {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا} [النساء: 63] قال ابن عباس: خوفهم بالله.
وقال الحسن: قل لهم: إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم، فهذا القول البليغ، لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ.
وقال الزجاج: أعلمهم أنهم إن ظهر منهم رد لحكمك وكفر فالقتل.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] قوله جل جلاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} [النساء: 64] مِن: دخلت للتأكيد، والمعنى: وما أرسلنا رسولا، {إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64] أي: بأمر الله، يعني: إن طاعة الرسول وجبت بأمر الله الذي دل على وجوب طاعته.
قال الزجاج: أي: إلا ليطاع لأن الله تعالى قد أذن في ذلك وأمر به قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 64] بعصيانك وموالاتهم الكفار حتى يحكموهم، {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء: 64] أي: تابوا إلى الله ونزعوا عما هم عليه، {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] سأل الله لهم أن يغفر لهم ما تقدم من تكذيبهم، {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] .
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا(2/74)
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {65} وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا {66} وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا {67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {68} } [النساء: 65-68] قوله عز وجل: فلا أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك، ثم استأنف القسم فقال: {وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] .
وهذا قول عطاء، ومجاهد، والشعبي: إن الآية نازلة في قصة اليهودي والمنافق، وهي متصلة بما قبلها.
وقال آخرون: هذه مستأنفة نازلة في قصة أخرى وهي ما
237 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ، كَانَا يَسْقِيَانِ بِهِمَا كَلَأَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ، فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ أَرَادَ فِيهِ سَعَةً لَهُ وَلِلأَنْصَارِيِّ فَلَمَّا أَحْفَظَ الأَنْصَارِيّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الآيَةَ أُنْزِلَتْ إِلَّا فِي ذَلِكَ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء: 65] الآيَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، كِلاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ
وقوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] أي: اختلف واختلط، يقال: شجر يشجر شجورا وشجرا ومشاجرة في الأمر.
إذا(2/75)
نازعه مشاجرة، وتشاجروا وتشاجرا، واشتجروا، ولك ذلك لتداخل كلام بعضهم في بعض.
وقوله: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] قال ابن عباس: يعني ضيقا مما قضيت، يعني: يرضون بقضائك.
وقال الزجاج: لا تضيق صدورهم بقضيتك.
ويسلموا تسليما: لما يأتي من حكمك، لا يعارضون بشيء، أي: يبذلون الرضا لحكمك ويتركون السخط والمنازعة.
قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 66] أي: فرضنا وأوجبنا، قال المفسرون: كتب الله تعالى على بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، وكتب على المهاجرين أن يخرجوا من ديارهم، فقال الله تعالى: ولو أنا كتبنا على هؤلاء ما كتبنا على غيرهم، وهو قوله {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] كسرهما عاصم وحمزة، لالتقاء الساكنين، ومَن ضمهما: فلأنهما حلا محل الهمزة المضمومة، فضمتا كما ضمت هي، وإن كانتا منفصلتين.
قال الزجاج: وللكسرة والضمة في هذه الحروف وجهان جيدان، ولست أعرف لفصل أبي عمرو بين هذين الحرفين خاصية، إلا أن يكون رواية.
قوله: {مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: 66] قال الحسن: أخبر عن علمه فيهم، يعني ما يفعل ذلك إلا من قد علم الله منه ذلك، وهم قليل.
وارتفع قليل على البدل من الواو في فعلوه كقولك: ما أتاني أحد إلا زيد ترفع زيدا على البدل من أحد.
ومن نصب إلا قليلا فإنه جعل النفي بمنزلة الإيجاب، وذلك أن قولك: ما جاءني أحد كلام تام، كما أن:(2/76)
جاءني القوم.
كذلك، فنصب مع النفي كما نصب مع الإيجاب، من حيث اجتماعهما في أن كل واحد منهما كلام تام.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} [النساء: 66] أي: ما يؤمرون به، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66] في دينهم وفي الآخرة، وأشد تثبيتا: تصديقا بأمر الله، أي: ذلك أشد تثبيتا منهم لأنفسهم في الدين.
وإذا لآتيناهم أي: لو فعلوا ما وعظوا به لآتيناهم، من لدنا مما لا يقدر عليه غيرنا، أجرا عظيما وهو الجنة.
{وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 68] قال ابن عباس: أرشدناهم إلى دين مستقيم، يريد: دين الحنيفية، لا دين اليهودية.
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا {69} ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا {70} } [النساء: 69-70] قوله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69] الآية، قال السدي: إن ناسا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها، ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع؟ فنزلت الآية.
وقال الشعبي: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبكي، فقال: ما يبكيك يا فلان؟ فقال: يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي وولدي، وإني لأذكرك وأنا في أهلي فيأخذني مثل الجنون حتى أراك، وذكرت موتي، وأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك.
فلم يرد عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا، فأنزل الله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} [النساء: 69] أي: في الفرائض، والرسول أي: في السنن، فأولئك: يعني المطيعين، {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء: 69] أي: أنه يستمتع برؤية النبيين، وزيارتهم، والحضور معهم، فلا يتوهمن من أجل أنهم في أعلى عليين أنه لا يراهم.(2/77)
وقوله: والصديقين: كل من صدق بكل ما أمر الله، لا يدخله شك، وصدق الأنبياء فهو صديق، وهو قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] .
وقال الكلبي: الصديقون: أفاضل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال مقاتل: الصديقون أول من صدقوا الأنبياء حين عاينوهم.
وقوله: والشهداء يعني: القتلى في سبيل الله، والصالحين: هم سائر المسلمين، وحسن أولئك يعني: الأنبياء وهؤلاء، رفيقا: صاحبا.
وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك به وبصحبته، ويقال للجماعة في السفر: رفقة لارتفاق بعضهم ببعض.
ووحد الرفيق لأن الواحد في التمييز ينوب عن الجماعة، نحو قولك: هو أجمل فتى.
المعنى: هو أجمل الفتيان.
قوله: ذلك أي: ذلك الثواب، وهو الكون مع النبيين والصديقين، {الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 70] تفضل به على من أطاعه، {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 70] أي: أنه لا يضيع عنده عمل عامل لأنه لا يخفى عليه شيء.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا {71} وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا {72} وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا {73} فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {74} وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ(2/78)
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا {75} الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا {76} } [النساء: 71-76] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] هذه الآية حث من الله على الجهاد، والحِذْر بمعنى الحَذَر كالمثل، وتقول العرب: خذ حذرك أي: احذر.
والمعنى: احذروا عدوكم بأخذ العدة والسلاح.
وقوله: فانفروا ثبات يقال: نفر القوم ينفرون نفرا، إذا نهضوا لقتال عدو وخرجوا لحرب.
والثبات جماعات متفرقة واحدها ثبة، قال قتادة: الثبات: الفرق.
وقال مقاتل: عصبا متفرقين.
{أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} [النساء: 71] خيّرهم الله تعالى بين أن يقاتلوا جميعا وبين أن يقاتل بعضهم دون بعض، فدل على أن الجهاد ليس من فروض الأعيان.
قوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] يعني: عبد الله بن أبي، كان يتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج لغزو، والخطاب للمؤمنين وجعله منهم من حيث الظاهر، وهو حقن الدم والموارثة، والتبطئة: التأخر عن الأمر، تقول العرب: ما بطأ بك عنا.
أي: ما أخرك، يقال: بطوء بطأ، وأبطأ إبطاء، وبطَّأ تبطئة بمعنى واحد.
قال مقاتل: ليبطئن أي: ليتخلفن عن الجهاد.
وقال الكلبي: ليتثاقلن.
{فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [النساء: 72] من القتل وجهد من العيش، {قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} [النساء: 72] بالقعود، {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء: 72] أي: لم أحضر معهم فيصيبني ما أصابهم من البلاء والشدة.(2/79)
{وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 73] فتح ونصر وغنيمة، ليقولن: هذا المنافق قول نادم حاسد: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} [النساء: 73] لأسعد بمثل ما سعدوا به من الغنيمة.
وقوله: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [النساء: 73] متصل في النظم بقوله: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ} [النساء: 72] كأن لم تكن بينكم وبينه مودة.
قال ابن الأنباري: كأن لم يعاقدكم على الإسلام، ولم يبايعكم على الصبر والثبات فيه على ما ساء وسر.
وقرئ: تكن بالياء والتاء، فالتأنيث على الأصل، والتذكير يحسن إذا كان التأنيث غير حقيقي سيما إذا وقع فاصل بين الفعل والفاعل.
وقوله: {فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: 73] قال مقاتل: آخذ نصيبا وافرا، وإنما قال هذا حرصا على الدنيا، وميلا إليها ولا رغبة في الثواب.
ولما ذم الله تعالى المنافق بالاحتباس عن الجهاد، أمر المؤمنين بالقتال فقال سبحانه: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء: 74] أي: يبيعون، يقال: شريت.
بمعنى: بعت.
والمعنى: أنهم يختارون الجنة على البقاء في الدنيا، فيجاهدون طلبا للشهادة في سبيل الله، {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ} [النساء: 74] شهيدا أو يغلب فينظر ويقتل هو، فكلاهما سواء في الثواب، وهو قوله {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 74] ، قال ابن عباس: ثوابا لا صفة له.
قوله جل جلاله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 75] قال المفسرون: هذا حض من الله تعالى على الجهاد في سبيله لاستنقاذ المؤمنين من أيدي المشركين.
والمعنى: لا عذر لكم في ترك القتال في سبيل الله، وفي المستضعفين من الرجال والنساء والولدان،(2/80)
قال ابن عباس: يريد قوما بمكة قد استضعفوا، فحبسوا وعذبوا.
قال: وكنت أنا وأمي من المستضعفين.
ولم يكن لهم قوة يمتنعون بها من المشركين، ولم يقدروا أن يهاجروا إلى المدينة فكانوا يدعون الله ويقولون: ربنا أخرجنا: إلى المدينة دار الهجرة، {مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [النساء: 75] يعني مكة، الظالم أهلها يريد: جعلوا لله شركاء.
قال الزجاج: الظالم أهلها: نعت للقرية.
وإنما وحد الظالم لأنه صفة يقع موضع الفعل، يقال: مررت بالقرية الصالح أهلها.
أي: التي صلح أهلها، {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [النساء: 75] وَلِّ علينا رجلا من المؤمنين يوالينا ويقوم بأمورنا، {وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء: 75] ينصرنا على عدونا ويمنعنا منهم.
فاستجاب الله دعاءهم، وولى عليهم رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما فتحت مكة، عتاب بن أسيد فكان ينصف المظلوم من الظالم، والضعيف من الشديد.
قوله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 76] في نصرة دين الله، وهو سبيله الذي يؤدي إلى ثوابه ورحمته، والذين كفروا: يعني: المشركين واليهود والنصارى، {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء: 76] في طاعة الشيطان، {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76] قال ابن عباس: يعني: عبدة الأصنام {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ} [النساء: 76] سعيه في إيقاع الضرر بالمؤمنين على جهة الاحتيال، كان ضعيفا يعني: خذلانه إياهم يوم قتلوا ببدر.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا {77} أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا {78} مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {79} مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا {80} } [النساء: 77-80] قوله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] الآية، نزلت الآية في نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم: عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص، كانوا يقولون(2/81)
للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائذن لنا في قتال المشركين، فيقول لهم: كفوا أيديكم فإني لم أومر بقتالهم.
فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وأمروا بالقتال كرهه بعضهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله: كفوا أيديكم: قال ابن عباس: عن قتال عبدة الأصنام لأن الله تعالى لم يأمر بقتالهم.
قال الزجاج: كان المسلمون قبل أن يؤمروا بالقتال قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أذنت لنا أن نقاتل المشركين، فأمروا بالكف وأداء ما افترض عليهم من غير القتال، وهو قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ} [النساء: 77] فُرض {عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [النساء: 77] يعني: جماعة منهم، يخشون الناس: المشركين، كخشية الله: كما يخشون الله، {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77] قال الحسن: هذا كان منهم لما في طبع البشر من المخافة لا على كراهة أمر الله بالقتال.
وقالوا: جزعا من الموت وحرصا على الحياة: {لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء: 77] أن: هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا وعافيتنا من القتل؟ قل: لهم، يا محمد: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] أي: ما تمتعون به من الدنيا وعيشها قليل، والآخرة خير يعني: الجنة لمن اتقى الله ولم يشرك به شيئا.
238 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَحْمدِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ الْفِهْرِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/82)
يَقُولُ: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا كَمَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يَرْجِعُ»
وقوله: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77] قال ابن عباس: لا ينقصون من ثواب أعمالهم فتيل النواة.
ثم أعلمهم أن آجالهم لا تخطئهم ولو تحصنوا بأمنع الحصون، فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] أي: في حصون وقصور مطولة رفيعة، وقال السدي، وقتادة: يعني بروج السماء الاثني عشر، يقال: شاد بناءه وأشاده وشيده.
إذا رفعه.
وقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} [النساء: 78] إلى قوله: من عندك هذا من قول اليهود والمنافقين عند مقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وكان قد بسط عليهم الرزق، فلما كفروا أمسك عنهم بعض الإمساك، فقالوا: ما رأينا أعظم شؤما من هذا، نقصت ثمارنا، وغلت أسعارنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
فذلك قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} [النساء: 78] يعني: الخصب ورخص الأسعار {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [النساء: 78] جدب وغلاء الأسعار قالوا هذه من عندك: من شؤم محمد، {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78] .
قال ابن عباس: أما الحسنة فأنعم الله بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها، {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78] لا يفهمون القرآن وتأويله فيؤمنوا ويعلمون أن الحسنة والسيئة من عند الله.
قوله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ} [النساء: 79] قال ابن عباس في رواية عطاء: ما أصابك من حسنة يوم بدر من النصر والغنيمة، {فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء: 79] يوم أحد من القتل والهزيمة، فمن نفسك فبذنبك.(2/83)
قال: وهذا مخاطبة من الله تعالى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد به أصحابه والنبي من ذلك بريء.
قال الزجاج: هذا خطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراد به الخلق، ومخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكون للناس جميعا، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسانهم.
ومعنى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79] أي: ما أصبتم من غنيمة أو أتاكم من خصب فمن تفضل الله عليك، {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء: 79] أي: من جدب وهزيمة في حرب، فمن نفسك أي: أصابكم ذلك بما كسبت أيديكم.
وقال قتادة: فمن نفسك عقوبة لذنبك يابن آدم، وكذلك قال الحسن، والسدي، وابن جريج، والضحاك: فمن نفسك فبذنبك، وهذا كقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، والحسنة تكون بمعنى الخصب، والسيئة: بمعنى الجدب، قال الله تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] يعني: الخصب والجدب.
ولا تعلق للقدرية بهذه الآية، لأن الحسنة والسيئة المذكورتين ههنا لا ترجعان إلى الطاعة والمعصية، واكتساب العباد بحال، لأن الحسنة التي يراد بها الخير والطاعة لا يقال فيها: أصابتني.
إنما يقال: أصبتها.
وليس في كلام العرب: أصابت فلانا حسنة، على معنى: عمل خيرا، وكذلك: أصابته سيئة، على معنى: عمل معصية، غير موجود في كلامهم، إنما يقولون: أصاب سيئة إذا عملها واكتسبها.
قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا} [النساء: 79] قال ابن عباس: يريد أنك قد بلغت رسالاتي، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 79] على ما بلغت من رسالات ربك.
قوله جل جلاله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] قال ابن عباس: يريد: إن طاعتكم لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاعة لله.
وقال الحسن: جعل الله طاعة رسوله طاعته، وقامت به الحجة على المسلمين.
وذكر الشافعي في الرسالة، في باب فرض طاعة الرسول هذه الآية، وقال: إن كل فريضة فرضها الله في كتابه كالحج والصلاة والزكاة، لولا بيان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كنا نعرف كيف نأتيها، ولا كيف يمكننا أداء شيء من العبادات،(2/84)
وإذا كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشريعة بهذه المنزلة، كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله عز جل.
239 - وأَخْبَرَنَا الإِمَامُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الزَّاهِدُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ الإِمَامَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ عَصَا الإِمَامَ فَقَدْ عَصَانِي»
وقوله: ومن تولى: قال ابن عباس، ومقاتل: أعرض عن طاعتك يا محمد، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] حافظا من التولي والإعراض.
ثم أمر بعد ذلك بالجهاد، والإكراه على الدين بالسيف.
{وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {81} أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا {82} } [النساء: 81-82] قوله عز وجل: ويقولون طاعة يعني: المنافقين كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طاعة لأمرك.
قال مقاتل: كانوا إذا دخلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: مرنا بما شئت فأمرك طاعة.
وقال النحويون: معناه: أمرنا طاعة، أي: أمرنا وشأننا أن نطيعك.
فإذا برزوا: خرجوا، {مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} [النساء: 81] قال الزجاج: كل أمر فكر فيه بليل فقد بيت، ومنه(2/85)
قوله: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 108] وقال ابن عباس: يريد ما أضمر في قلوبهم غير ما يقولون.
وقال ابن قتيبة: ويقولون طاعة: بحضرتك، فإذا خرجوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي يقول، أي: قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوه نهارا.
{وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81] أي: يحفظ عليهم ليجازوا به، فأعرض عنهم: قال ابن عباس: فاصفح عنهم، وذلك أن الله تعالى نهى عن قتل المنافقين، {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 81] اعتمد بأمرك عليه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 81] معتمدا وملجأ.
قوله جل جلاله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ} [النساء: 82] يعني: المنافقين، ومعنى تدبرت الشيء: نظرت في عاقبته، يقول: أفلا يتأملون القرآن ويتفكرون فيه؟ {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] قال ابن عباس: لو كان من عند مخلوق لكان فيه كذب وباطل واختلاف.
وقال الزجاج: لولا أنه من عند الله لكان ما فيه من الأخبار عن الغيب مما يُسره المنافقون وما يبيتونه مختلفا، بعضه حق وبعضه باطل لأن الغيب لا يعلمه إلا الله.
وقال أهل المعاني: {لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] أي: لو كان من عند مخلوق لكان على قياس كلام العباد، بعضه بليغ حسن، وبعضه مرذول فاسد، فلما كان جميع القرآن بليغا ولم يختلف، عرف أنه من عند الله، وليس بحمد الله في القرآن اختلاف تناقض، ولا اختلاف تفاوت.
فأما اختلاف القراءات، واختلاف مقادير الآيات والسور، واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فكل حسن وحق، وليس ذلك اختلافا يؤدي إلى فساد وتناقض.(2/86)
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] قوله جل جلاله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} [النساء: 83] الآية، نزلت في قوم كانوا يرجفون بسرايا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويخبرون بما وقع بها من هزيمة، وبما أدركت من غنيمة قبل أن يخبر بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيضعفون قلوب المؤمنين ويؤذون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبقهم إياه بالأخبار، فأنزل الله تعالى وإذا جاءهم يعني المنافقين وأصحاب الأراجيف، {أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ} [النساء: 83] حديث فيه أمن، أو الخوف: يعني الهزيمة أذاعوا به: أفشوه وأظهروه، ولو سكتوا عنه حتى يكون الرسول هو الذي يفشيه، وأولو الأمر مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء: 83] يتبعونه ويطلبون علم ذلك منهم.
ومعنى الاستنباط في اللغة: الاستخراج.
وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 83] قال ابن عباس: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] قال ابن عباس في رواية الوالبي: تم الكلام عند قوله: لاتبعتم الشيطان، ثم استثنى القليل من قوله: أذاعوا به أي: أذاعوا به إلا قليلا، يعني بالقليل المؤمنين.
وهذا القول اختيار الكسائي والفراء.
قال في رواية عطاء: {لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 83] ممن عصم الله.(2/87)
قال ابن الأنباري: وهم الذين اهتدوا بعقولهم لترك عبادة الأوثان , والإشراك بالله بغير رسول الله ولا كتاب مثل: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، والبراء الشني، وأبي ذر الغفاري، وطلاب الدين.
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا} [النساء: 84] وقوله عز وجل: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} [النساء: 84] أمر الله نبيه عليه السلام بالجهاد، ولو كان وحده لأنه قد ضمن له النصر.
ومعنى {لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ} [النساء: 84] لا ضرر عليك في فعل غيرك، ولا تهتم بتخلف من يتخلف عن الجهاد فعليهم ضرر ذلك.
{وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] : حُضَّهم على القتال، {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84] عسى معناها: الإطماع، والإطماع من الله واجب، لأن إطماع الكريم إيجاب.
والبأس الشدة في كل شيء، ومعنى {بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84] شدة حربهم، وقد أنجز الله وعده بكف بأس هؤلاء الذين ذكرهم الله.
{وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا} [النساء: 84] أشد عذابا، والعذاب يسمى بأسا لما فيه من الشدة، ومنه قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29] ، {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} [الأنبياء: 12] .
وأشد تنكيلا يقال: نكلت بفلان، إذا عاقبته عقوبة تنكل غيره عن ارتكاب مثله، أي: تجنبه، وقال الحسن، وقتادة: أشد تنكيلا عقوبة.
{مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى(2/88)
كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا {85} وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا {86} } [النساء: 85-86] قوله جل جلاله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] قال الكلبي: يصلح بين اثنين.
{يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ} [النساء: 85] أي: أجر {مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} [النساء: 85] يمشي بالنميمة، {يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ} [النساء: 85] إثم منها.
وقال مجاهد: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة: شفاعة الناس بعضهم لبعض.
قال الحسن: ما يجوز في الدين أن يشفع فيه فهو شفاعة حسنة، وما لا يجوز أن يشفع فيه فهو شفاعة سيئة.
قال: ومن يشفع شفاعة حسنة كان له فيها أجر وإن لم يشفَّع، لأن الله تعالى قال من يشفع ولم يقل: من يشفَّع.
ويؤيد هذا قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشفعوا تؤجروا» .
240 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَادِقٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَاذَانَ الصَّيْدَلانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي مُلْكِهِ، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ»
وأما الكفل، فقال أبو عبيدة، والفراء، وجميع أهل اللغة: الكفل الحظ والنصيب، وهو قول مجاهد، والسدي، والربيع، وابن زيد.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] قال الفراء، وابن قتيبة: المُقيت: المقتدر، يقال: أقات على الشيء إذا قدر عليه.(2/89)
وهو قول السدي، وابن زيد، واختيار الكسائي، وقال آخرون: المُقيت الحافظ.
وهو قول ابن عباس، وقتادة، واختيار الزجاج، قال: معنى المُقيت الحافظ الذي يعطي الشيء قدر الحاجة، من الحفظ، وقال مجاهد: المُقيت الشهيد.
قوله جل جلاله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] التحية: السلام، يقال: حيا يحي تحية إذا سلم، قال ابن عباس: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} [النساء: 86] يريد السلام، {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] وهو الزيادة على التحية إذا كان المسلّم من أهل الإسلام، يريد: ورحمة الله وبركاته.
وإذا كان من غير أهل دين الإسلام يقول: وعليكم.
لا يزيد على ذلك، وهو قوله: أو ردوها، قال الضحاك: إذا قال: السلام عليكم.
فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله.
وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله.
فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فقد حييته بأحسن منها وهنا منتهى السلام.
241 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ النَّصْرَ أَبَاذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْحَفْصُ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ التَّيِّهَانِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمَنْ قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ كُتِبَ لَهُ ثَلاثُونَ حَسَنَةً»
قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [النساء: 86] قال ابن عباس: مجازيا.
وقال الزجاج: أي يعطي كل شيء من العلم والحفظ والجزاء مقدار ما يحسبه أي يكفيه.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا {87} فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ(2/90)
سَبِيلا {88} وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {89} إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا {90} } [النساء: 87-90] قوله عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} [النساء: 87] هذه لام القسم، كأنه قال: والله ليجمعنكم في الموت أو في القبور، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] سميت القيامة لأن الناس يقومون من قبورهم، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] قال ابن عباس: يريد موعدا لا خلف لوعده.
وقال مقاتل: لا أحد أصدق من الله في أمر البعث.
قوله جل جلاله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88] نزلت في قوم قدموا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، واستأذنوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرجعوا إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف المسلمون فيهم: فقائل يقول: هم منافقون.
وقائل يقول: هم مؤمنون.
فبين الله تعالى نفاقهم.
ومعنى الآية: فما لكم مختلفين في هؤلاء المنافقين، {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] أي: ردهم إلى الكفر.
يقال: ركست الشيء وأركسته.
لغتان إذا رددته وقلبت آخره على أوله.
قال الزجاج: تأويل أركسهم: نكسهم وردهم إلى حكم الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل، بما كسبوا بما أظهروا من الارتداد.
وقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء: 88] قال ابن عباس: ترشدوا من لم يرشده الله، أي: أتقولون: هؤلاء مهتدون والله قد أضلهم، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النساء: 88] طريقا إلى الجنة.
قوله جل جلاله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} [النساء: 89] أي: أنهم يودون لكم الكفر كما فعلوا هم فتكونون أنتم وهو(2/91)
سواء في الكفر، {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89] أي: لا توالوهم فإنهم أعداء لكم {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89] حتى يرجعوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودار الهجرة ثانيا.
فإن تولوا: أعرضوا عن الهجرة وقبول حكم الإسلام، فخذوهم بالأسر، {وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 89] قال ابن عباس: ولا تستنصروا بهم على عدوكم.
قوله عز وجل: {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} [النساء: 90] الآية، هذا الاستثناء راجع إلى القتل لا إلى الموالاة، لأن موالاة المشركين والمنافقين حرام بكل حال.
ومعنى {يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} [النساء: 90] يتصلون بهم، ويدخلون فيما بينهم بالحلف والجوار، قال ابن عباس: يريد: يلجأون إلى قوم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 90] وهم: بنو مدلج في قول الحسن، وقال الضحاك: بنو بكر بن زيد مناة، وقال مقاتل: هم خزاعة وجذيمة بن عبد مناف.
وقوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] معنى حصرت: ضاقت، وكل من ضاق صدره بأمر فقد حصر، وهؤلاء الذين وصفوا بضيق الصدر عن القتال هم بنو مدلج، كان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد أن لا يقاتلوه، فنهى الله تعالى عن قتال هؤلاء المرتدين إن اتصلوا بأهل عهد المسلمين، إما بحلف أو بجوار، لأن من انضم إلى قوم ذوي عهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلهم حكمهم في حقن الدم والمال.
وقوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90] كان بنو مدلج قد عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين، وعاهدوا قريشا أن لا يقاتلوهم أيضا، فهو قوله: {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90] يعني: قريشا.
ثم من الله تعالى على المسلمين بكف بأس المعاهدين فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} [النساء: 90] يعني: إن ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لقذف الله الرعب في قلوبهم.(2/92)
فإن اعتزلوكم أي: اعتزلوا قتالكم {وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [النساء: 90] أي: المقادة والاستسلام {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} [النساء: 90] في قتالهم وسفك دمائهم.
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 91] قوله جل جلاله: ستجدون آخرين: قال ابن عباس: هم بنو عبد الدار.
وقال الكلبي: هم أسد وغطفان.
وقال الحسن: هم قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام ليأمنوا المسلمين، ويظهرون لقومهم الموافقة لهم ليأمنوهم.
وهو قوله {يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 91] ، أطلع الله نبيه على نفاقهم، {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء: 91] كلما ردوا إلى الشرك دخلوا فيه {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} [النساء: 91] لم يتركوا قتالكم، ولم ينقادوا لكم بعهد أو صلح، ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم: بالأسر، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [النساء: 91] وجدتموهم، {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 91] حجة بينة في قتلهم ولأنه ليس لهم عهد ولا ميثاق.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {92} وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا {93} } [النساء: 92-93] قوله جل جلاله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة حين قتل(2/93)
الحارث بن زيد، ظنه كافرا، ولم يشعر بإسلامه فقتله.
قال قتادة: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} [النساء: 92] أي: ما كان له ذلك فيما أتاه الله من ربه وأمر به.
وقوله إلا خطأ جميع أهل النحو والمعاني: على أن هذا استثناء منقطع من الأول، على معنى: ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة إلا أن يخطئ المؤمن، فكفارة خطئه ما ذكر من بعد، وصفة قتل الخطأ: هو أن يرمي إلى عرض أو إلى صيد فيخطئ فيصيب إنسانا فيقتله، وكذلك لو قتل رجلا ظنه كافرا، كما ظن عياش بن أبي ربيعة وكان مسلما، كان قتل خطأ.
والواجب فيه الدية والكفارة، وهو قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قال المفسرون: هي المصلية المدركة عند عامة الفقهاء، يجوز وإن كانت صغيرة إذا كانا أبواها مسلمين أو أحدهما.
وقوله: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] يعني: جميع ورثته.
وصفة الدية في قتل الخطأ: أن تكون مخففة، مائة من الإبل: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.
وظاهر القرآن أوجب أن تكون الدية على القاتل في الخطأ، غير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أن تكون الدية في(2/94)
الخطأ على العاقلة وهم الأخوة وبنو الأخوة والأعمام وبنو الأعمام.
وقوله: {إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] أصله: يتصدقوا، فأدغمت التاء في الصاد ومعنى التصدق: الإعطاء، والمعنى: إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية فتسقط.
وقوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] يعني: إن كان المقتول خطأ مؤمنا وقومه كفار، فعلى قاتله تحرير رقبة مؤمنة، وليس فيه دية، لأن ورثته كفار فلا يرثونه.
وقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] هذا في الذمي الذي يقتل خطأ، فيجب فيه الدية والكفارة.
قال ابن عباس: هذا الرجل يكون معاهدا ويكون قومه أهل عهد، فتسلم إليهم دية ويعتق الذي أصابه رقبة.
وقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [النساء: 92] يعني: الرقبة أو ثمنها، {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] أي: فعليه ذلك بدلا عن الرقبة، والتتابع واجب، حتى لو أفطر يوما استأنف.
وقوله: {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] أي: اعملوا بما أوجبه للتوبة من الله، أي: ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم.
قوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] صورة القتل العمد: أن يقصد القتل بالسيف أو غيره من الآلات التي بها يقصد القتل غالبا، جرح أو لم يجرح، كالحجر الثقيل، والحديد الثقيل، وكذلك التخنيق والتغريق والتحريق، وما أشبهها.
والآية نزلت في كافر قتل مؤمنا وهو أن مقيس ابن صبابة كان قد أسلم هو وأخوه هشام، فقتل بنو النجار أخاه(2/95)
هشاما خطأ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقيسا ومعه زهير بن عياض الفهري، وكان من المهاجرين من أهل بدر، إلى بني النجار ليدفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علموه، أو يجمعوا له دية أخيه إن لم يعلموا القاتل، فجمعوا لمقيس دية أخيه، فلما صارت إليه وثب على زهير فقتله وارتد إلى الشرك، وقال في ذلك أبياتا منها:
فأدركت ثأري واضطجعت مؤسرا ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
وقوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] إلى آخر الآية، وعيد شديد لمن قتل مؤمنا متعمدا حرم الله به قتله، وحظر به سفك دمه، وقد وردت في قتل المؤمن أخبار شداد.
242 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الشَّيْخِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْد ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَجُلٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا إِلَى آخِرِ الآيَةِ، قَالَ: فَإِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ وَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " وَيْحٌ لَهُ قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ، يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَامِلَ رَأْسِهِ بِيَمِينِهِ أَوْ بِيَسَارِهِ، وَفِي يَدِهِ الأُخْرَى قَاتِلُهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي " فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَى نَبِيِّكُمْ فَمَا نُسِخَتْ حَتَّى قُبِضَ، يَعْنِي: هَذِهِ الآيَةَ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93](2/96)
243 - أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَاسُوَيْهِ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَالِمٍ التَّيْمِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَبَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ لِقَاتِلِ الْمُؤْمِنِ تَوْبَةً»
244 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا(2/97)
الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا» وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ قَاتِلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا لَهُ تَوْبَةٌ
أخبرنا محمد بن إبراهيم بن محمد بن يحيى، أخبرنا أبو عمرو بن نجيد، أخبرنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا هشام بن حسان، قال: كنا عند محمد بن سيرين، فقال له رجل من القوم: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] حتى ختم الآية، فقال محمد: أين أنت من هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] .
أخبرنا أبو بكر التميمي، أخبرنا عبد الله بن محمد الحافظ، أخبرنا العباس بن حمدان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الشهيدي، قال: سمعت قريش بن أنس يقول:(2/98)
كنت عند عمرو بن عبيد، فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالي، فيقول: قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلت، ثم تلا هذه الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء: 93] حتى فرغ منها، فقلت وما في البيت أصغر مني: أرأيت أن قال لك: فإني قلت: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] ، من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد علي شيئا.
وأما ما روي عن ابن عباس وغيره من السلف، أنهم قالوا: لا توبة للقاتل فإن الأولى لأهل الفتوى سلوك سبيل التغليظ، سيما في القتل، يدل على ذلك ما روي: أن سفيان سئل عن عقوبة القاتل، قال: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي الرجل قالوا له: تب.
245 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَرْوَزِيُّ، فِيمَا أَذِنَ لِي رِوَايَتَهُ عَنْهُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلا سَأَلَهُ: أَلِقَاتِلِ الْمُؤْمِنِ تَوْبَةٌ؟ فَقَالَ: لَا، وَسَأَلَهُ آخَرُ: أَلِقَاتِلِ الْمُؤْمِنِ تَوْبَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ لَهُ: قُلْتَ لِذَلِكَ: لا تَوْبَةَ لَكَ، وَلِذَلِكَ: لَكَ تَوْبَةٌ، قَالَ: جَاءَنِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ قَتَلَ، فَقُلْتُ: لا تَوْبَةَ لَكَ لِكَيْ لا يَقْتُلَ، وَجَاءَنِي هَذَا وَقَدْ قَتَلَ، فَقُلْتُ: لَكَ تَوْبَةٌ لِكَيْ لا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ
فأما تأويل قوله تعالى: فجزاؤه جهنم، فقد روي مرفوعا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «هو جزاؤه أن جازاه» .(2/99)
وروى عاصم بن أبي النجود، عن ابن عباس في قوله: فجزاؤه جهنم قال: هي جزاؤه، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له.
وبهذا قال عون بن عبد الله، وبكر بن عبد الله، وأبو صالح: وقد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا.
والأصل في هذا: أن الله تعالى يجوز أن يخلف الوعيد، وإن كان لا يجوز أن يخلف الوعد، بهذا وردت السنة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما:
246 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى السَّاجِيُّ، وَأَبُو حَفْصٍ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلِهِ ثَوَابًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلِهِ عِقَابًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ»
أخبرنا أبو بكر، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن حمزة، حدثنا أحمد بن الخليل، حدثنا الأصمعي، قال: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء، فقال: يا أبا عمرو، يخلف الله ما وعد؟ قال: لا.
قال:(2/100)
أفرأيت مَن أوعده الله على عمل عقابا، أيخلف الله وعده فيه؟ فقال أبو عمرو بن العلاء من العجمة: أتيت يا أبا عثمان؟ إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تعد عارا ولا خلفا أن تعد شرا ثم لا تفعله، ترى ذلك كرما وفضلا، وإنما الخلف أن تعد خيرا ثم لا تفعله.
قال: فأوجدني هذا في العرب.
قال: أما سمعت قول الأول:
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف ايعادي ومنجز موعدي
والذي ذكره أبو عمرو بن العلاء رحمه الله مذهب الكرام، ويستحسن عند كل أحد خلف الوعيد كما قال السري الموصلي:
إذا وعد السر أنجز وعده ... وإن أوعد الشر فالعفو مانعه
وأحسن يحيى بن معاذ في هذا الفصل حيث قال: الوعد والوعيد حق، فالوعد حق العباد على الله، ضمن لهم إذا فعلوا كذا أن يعطيهم كذا، ومن أولى بالوفاء من الله؟ والوعيد حقه على العباد، قال: لا تفعلوا كذا فأعذبكم ففعلوا فإن شاء عفا وإن شاء أخذ، لأنه حقه، وأولاهما بربنا الكرم والعفو إنه غفور رحيم.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 94] أي: سرتم وغزوتم، نزلت في أسامة بن زيد وأصحابه، بعثهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية، فلقوا رجلا كان قد انحاز بغنم له إلى جبل، وكان قد أسلم، فقال لهم: السلام عليكم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فبدر إليه أسامة فقتله واستاقوا غنمه.(2/101)
قوله: {فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] يقال: تبينت الأمر، أي: تأملته وتثبت فيه، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا إن التبين من الله، والعجلة من الشيطان، فتبينوا» .
وقرئ فتثبتوا، والمعنيان متقاربان.
{وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} [النساء: 94] أي: لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية: لست مؤمنا، فتقتلوه وتأخذوا ماله.
ومن قرأ السلم أراد الانقياد والاستسلام للمسلمين، ومنه قوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} [النحل: 87] أي: استسلموا لأمره، وقوله: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] جميع متاع الدنيا عرض، يقال: إن الدنيا حاضر.
قال ابن عباس: يعني الغنائم، {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94] يعني: ثوابا كثيرا لمن ترك قتل من ألقى إليه السلام، {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] قال سعيد بن جبير: كنتم تكتمون إيمانكم في المشركين، فمن الله عليكم بإظهار الإسلام.
وقال قتادة: كنتم ضلالا فمن الله عليكم بالإسلام وهداكم له.
ثم أعاد الأمر بالتبين، فقال: {فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94] قال عطية العوفي: هو خبير أنكم قتلتموه على ماله.
قال ابن عباس: ثم استغفر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسامة بن زيد وأمره أن يعتق رقبة.(2/102)
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا {95} دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {96} } [النساء: 95-96] قوله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الضرر: النقصان وهو كل ما يضرك وينقصك من عمى ومرض وعلة.
قال زيد بن ثابت: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزلت عليه: «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» ، ولم يذكر {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، فقال ابن أم مكتوم: فكيف وأنا أعمى، لا أبصر؟ فتغشى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي، ثم سري عنه فقال: اكتب: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، فكتبتها.
وقرئ: غير رفعا ونصبا، فمن رفع فهو صفة للقاعدين، والمعنى: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر، أي: لا يستوي القاعدون من الأصحاء والمجاهدون وإن كانوا كلهم مؤمنين.
ومن نصب غيرَ جعله استثناء من القاعدين، يعني: لا يستوي القاعدون إلا أولو الضرر، وهذا الوجه اختيار الأخفش، قال: لأنه استثني بها قوم لم يقدروا على الخروج، وهو أيضا قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما:
247 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُخَلَّدِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْحَافِظ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْزَةَ الْكِسَائِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ،(2/103)
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] نَصْبًا
وقوله: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء: 95] عطف على قوله: القاعدون والمعنى: ليس المؤمنون القاعدون عن الجهاد من غير عذر والمؤمنون المجاهدون سواء، إلا أولي الضرر، فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الضرر أقعدهم عن الجهاد.
وقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ} [النساء: 95] يعني من أهل العذر درجة، وذلك أن المجاهدين مباشرون للطاعة فلهم فضيلة على القاعدين من أهل العذر، وإن كانوا هم على نية الجهاد وقصده.
وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] قال مقاتل: يعني المجاهد والقاعد، المقدور، والحسنى: الجنة.
قوله: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] يعني: القاعدين من غير عذر، والمجاهدون مفضلون عليهم بدرجات، قال ابن محيريز: هي سبعون درجة، ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا.
248 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيٍّ الذُّهْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقَ كَلِمَتِهِ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى
قوله: درجات منه يعني: منازل بعضها أعلى من بعض من منازل الكرامة، قال السدي: فضلوا بسبع مائة درجة.(2/104)
وروى أبو هريرة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين الدرجتين كما بين السماء والأرض» .
وقوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] يريد: للفريقين جميعا، للمجاهدين والقاعدين.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {97} إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا {98} فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا {99} وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {100} } قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: 97] قال الفراء: إن شئت جعلت: توفاهم ماضيا، وإن شئت كان على الاستقبال، يريد: تتوفاهم، فحذفت إحدى التاءين.
وقوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] أي: بالمقام في دار الشرك، نزلت الآية في قوم كانوا قد أسلموا ولم يهاجروا، حتى خرج المشركون إلى بدر فخرجوا معهم فقتلوا يوم بدر، فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقالوا لهم: ما ذكر الله سبحانه وهو قوله: {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء: 97] أي: أكنتم في المشركين أم في المسلمين؟ وهذا سؤال توبيخ وتعيير.
فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك وهو قوله: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء: 97] يعني: أرض مكة، فحاجتهم الملائكة بالهجرة عن دارهم، وهو قوله: {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] يعني: المهاجرة إلى المدينة مع المسلمين، وذلك أن الله تعالى لم يرض بإسلام أهل مكة حتى يهاجروا، ولذلك قال: {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97] ، وذلك أنهم خرجوا مع المشركين يكثرون سوادهم فقتلوا معهم.
ثم ذكر أهل العذر في التخلف عن الجهاد فقال: {(2/105)
إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء: 98] يريد: الذين أقعدهم عن الهجرة الضعف، وقال ابن عباس: هم ناس من المسلمين كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها فيهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك.
قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله.
وقوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} [النساء: 98] أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة، ولا على نفقة، ولا قوة، {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء: 98] لا يعرفون طريقا إلى المدينة دار الهجرة.
{فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء: 99] الآية، قال الزجاج: أعلم اللهُ أن هؤلاء راجون العفو كما يرجو المؤمنون.
وعسى كلمة ترجي، وما أمر الله أن يرجى من رحمته فمنزلة الواقع، وكذلك الظن بأرحم الراحمين.
قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا} [النساء: 100] قال الزجاج: المعنى: يجد في الأرض مهاجرا، لأن المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة وإن اختلف اللفظان، وهو مأخوذ من الرغام وهو التراب، يقال: راغمت فلانا أي: هجرته وعاديته ولم أبال رغم أنفه، وإن لصق أنفه بالتراب.
وقال أبو عمرو بن العلاء في قوله: مراغما: الخروج عن العدو برغم أنفه.
وقال ابن قتيبة: المراغمة والمهاجرة واحدة، يقال: راغمت وهاجرت.
وذلك أن الرجل كان إذا أسلم خرج عن قومه مراغما، أي: مغاضبا لهم، فقيل للمذهب: مراغم.
قال ابن عباس في رواية الوالبي: منحولا من أرض إلى أرض.
وقال مجاهد: متزحزحا عما يكره.
وقال ابن زيد: مهاجرا.
وقوله: وسعة أي: من الرزق، وقال قتادة: وسعة من العيلة إلى الغنى.(2/106)
وقال أهل المعنى: وسعة في إظهار الدين، وذلك أن المشركين كانوا قد ضيقوا عليهم في أمر دينهم حتى منعوهم من إظهاره.
قوله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية، قال ابن عباس في رواية عطاء: كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن، فكتب بالآية التي نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] فلما قرأها المسلمون قال ضمرة بن جندب الليث لبنيه، وكان شيخا كبيرا: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت، فصفق بيمينه على شماله، وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمات حميدا، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم أجرا.
فأنزل الله تعالى فيه هذه الآية.
وهذا قول جماعة المفسرين.
ومعنى {وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وجب ثوابه، والمؤمن إذا قصد طاعة ثم أعجزه العذر عن إتمامها، كتب الله له ثواب تمام تلك الطاعة، وهذا معنى قوله: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] .
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا {101} وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا {102} فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا(2/107)
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا {103} } [النساء: 101-103] قوله جل جلاله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] الآية، يقال: قصر الصلاة وأقصرها وقصرها، كل ذلك جائز.
وفرض المسافر أربع، إلا إن رخص له في القصر، إن شاء أخذ بالرخصة، وإن شاء أتم على أصل الفرض لأن الله تعالى قال {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء: 101] ، وهذا اللفظ للإباحة، لا للإيجاب.
وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] قال ابن عباس: يريد: أن يقتلكم، ومثل هذا قوله: {عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] أي: يقتلهم.
وظاهر قوله: إن خفتم يوجب أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف، وليس الأمر على ذلك، فإن القصر مباح في السفر عند الأمن، ولكن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأكثرها لم تخل عن خوف العدو، والقصر في الأمن جائز.
249 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْمَعْقِلِيُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: فِيمَ إِقْصَارُ النَّاسِ لِلصَّلاةِ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنْهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»
250 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّصْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ(2/108)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ الْيَشْكُرِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «سَافَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ»
قوله عز وجل {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] الآية:
251 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُقْرِئُ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ فِي دَارِهِ بِالْحِيرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ السّمندِيُّ، سَنَةَ ثَلاثٍ وَسِتِّينَ، أَخْبَرَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَنَدِيُّ، بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلاثِ مِائَةٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ اللَّحْجِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَيَّاشٍ الزَّرَقِيُّ، قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ كَانُوا عَلَى حَالٍ، لَوْ كُنَّا أَصَبْنَا مِنْهُمْ غِرَّةً، فَقَالُوا: تَأْتِي عَلَيْهُمْ صَلاةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ، فَقَالَ: وَهِيَ الْعَصْرُ، قَالَ: فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بِهَؤُلاءِ الآيَاتِ بَيْنَ الأُولَى وَالْعَصْرِ {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] وَهُمْ بِعُسْفَانَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ(2/109)
قال الزجاج: الهاء والميم في: فيهم يعودان على المؤمنين أي: وإذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم، {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] أي: أقمتها، وإقامة الصلاة: الابتداء في تأديتها {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] أي: فلتقف، يقال: قام الرجل إذا وقف، ومنه قوله: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] أي: وقفوا، قال ابن عباس: تصفّهم يصلون معك.
وليأخذوا أسلحتهم أي: وليأخذ الباقون أسلحتهم، فإذا سجدوا أي: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك، {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] أي: الذين أمروا بأخذ السلاح.
قوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] قال ابن عباس: يريد: الذين كانوا من ورائهم من لم يكونوا صلوا فليصلوا معك، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، يريد: الذين صلوا أولا.
{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ} [النساء: 102] أي: يتمنى الكفار لو كنتم مشتغلين كلكم بالصلاة غافلين {عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء: 102] فيقصدونكم بالقتال، {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] قال ابن عباس: يريد: ثقل السلاح على المريض وفي المطرة، فرخص لهم في وضع الأسلحة.
وقوله: وخذوا حذركم أي: راعوا العدو وراقبوهم بقلوبكم كيلا يغفلون.
قوله جل جلاله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 103] يعني: صلاة الخوف، {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] يعني: المرضى الذين لا يستطيعون الجلوس فإذا اطمأننتم أي: في بلادكم وزالت حركة السفر، فأقيموا الصلاة: فأتموها {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] فرضا مؤقتا، قال ابن عباس: فريضة بأوقاتها.
والمراد ههنا: المفعول، يقال وقَته بمعنى وقّته.(2/110)
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] قوله جل جلاله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ} [النساء: 104] لا تضعفوا عن طلب العدو يعني: أبا سفيان وأصحابه، وذلك أنهم لما انصرفوا من أحد أمر الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسير في آثارهم، فندب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فاشتكوا ما بهم من الجراحات، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء: 104] والألم: الوجع وقد ألم الرجل يألم ألما فهو آلم.
وقال قتادة: إن كنتم تتوجعون فإنهم يتوجعون كما تتوجعون، أي: إن ألمتم جراحكم، فهم أيضا في مثل حالكم من ألم الجراح.
{وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 104] من الأجر والثواب والنصرة {مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: 104] هم وكان الله عليما بخلقه، حكيما فيما حكم لأوليائه بالثواب ولأعدائه بالعقاب.
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا {105} وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {106} وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا {107} يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا {108} هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا {109} وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا {110} وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {111} وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {112} } [النساء: 105-112] قوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء: 105] نزلت في رجل يقال له طعمة بن أبيرق، سرق درعا(2/111)
فاستودعها يهوديا، فوجدت عنده، فقال: استودعنيها طعمة بن أبيرق، فأنكر وقال: إنما سرقها اليهودي، فاجتمع قوم طعمة وقوم اليهودي، فانطلقوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان هوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع طعمة، فنزل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [النساء: 105] القرآن، بالحق: لا بالتعدي في الحكم، {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] بما علمك الله، {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105] الخصيم: الذي يخاصمك.
أي: لا تكن مخاصما، ولا دافعا عن خائن، يعني: طعمة وقومه.
واستغفر الله: قال السدي: مما أردت من الجدال عن طعمة، وقال ابن عباس: من همك بقطع اليهودي.
{وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 107] يعني: طعمة ومن عاونه من قومه وهم يعلمون أنه سارق.
والاختيان كالخيانة، يقال: خانه واختانه، وقد ذكرنا ذلك عند قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] .
ومعنى يختانون أنفسهم: يخونونها بالمعصية، والعاصي خائن لأنه مؤتمن على دينه.
وقد صرحت الآية بالنهي عن المجادلة عن الظالمين، ألا ترى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد جادل عن طعمة على غير بصيرة فعاتبه الله بهذا، وأمره بالاستغفار، ونهاه عن المعاودة إلى مثله.
فما ظنك بمن يعلم ظلم الظالم ثم يستجيز معاونته؟ وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} [النساء: 107] أي: خائنا فاجرا، وذلك أن طعمة خان في الدرع، وأثم في رميه اليهودي.
قوله جل جلاله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} [النساء: 108] الاستخفاء: الاستتار، يقال: استخفيت من فلان.
أي: تواريت منه، قال الله تعالى {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ} [الرعد: 10] أي: مستتر، والمعنى: يستترون من الناس، يعني: طعمة وقومه كيلا يطلعوا على كذبهم وخيانتهم، ولا يستخفون: ولا يستترون {مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] أي: عالم بما يخفون وما(2/112)
يعلنون، إذ يبيتون: يهيئون ويقدرون {مَا لا يَرْضَى} [النساء: 108] ما لا يرضاه الله من القول: وهو أن طعمة قال: أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، لأني على دينهم ولا تقبل يمين اليهودي.
{وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] أحاط بسرائرهم.
ثم خاطب قوم طعمة، فقال: {هَأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ} [النساء: 109] خاصمتم عنهم: عن طعمة وقومه، يعني: جماعة من الأنصار من قرابة طعمة جادلوا عنه عن قومه، {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 109] أي: لا أحد يفعل ذلك {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [النساء: 109] أي: لا يكون عليهم يوم القيامة وكيل يقوم بأمرهم ويخاصم عنهم.
ثم عرض التوبة على طعمة بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ} [النساء: 110] الآية.
252 - أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدَشٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرِ بْنِ سنْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ مِهْرَانَ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ الْفَأْفَاءُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَعْنِي عَلِيًّا وَهُوَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ الصَّدُوقُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَذْنَبَ ذَنْبًا فَقَامَ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ» .
يُنَادِي عَلَى الْمِنْبَرِ: صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، صَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]
قوله جل جلاله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} [النساء: 111] أي: إنما ضر بما فعل نفسه، لأنه لا يؤخذ غير الآثم(2/113)
بإثمه، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [النساء: 111] بالسارق، حكيما: حكم بالقطع على طعمة في السرقة.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} [النساء: 112] قال الكلبي: لما نزلت هذه الآيات عرف قوم طعمة أنه الظالم فأقبلوا عليه، وقالوا: بؤ بالذنب، واتق الله، فقال: لا والذي يحلف به ما سرقها إلا اليهودي، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً} [النساء: 112] ، يقول: بيمينه الكاذبة، أو إثما: يعني سرقه الدرع ورميه بها اليهودي، {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا} [النساء: 112] برميه اليهودي البرئ، وإثما مبينا يعني: يمينه الكاذبة.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] قوله جل جلاله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} [النساء: 113] قال ابن عباس: بالنبوة والعصمة.
لهمت: قال الفراء، والزجاج: المعنى: لقد همت.
{طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء: 113] يخطئوك في الحكم، وذلك: أنهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجادل عن طعمة ويرمي بسرقته اليهودي.
{وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 113] لأنهم يعملون عمل الضالين بتعاونهم على الإثم والعدوان، وشهادتهم بالزور والبهتان، {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} [النساء: 113] لأن الضرر على من شهد بغير حق، ثم ذكر منَّته عليه، فقال: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: 113] قال الزجاج: بين لك في كتابه ما فيه الحكمة التي لا يقع معها ضلال، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] يعني: من أحكام الدين {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ} [النساء: 113] بالنبوة والعصمة عظيما.
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا {114} وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا {115} إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا {116} إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا {117} لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا {118} وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ(2/114)
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا {119} يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا {120} أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا {121} وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا {122} لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {123} وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا {124} وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا {125} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا {126} } [النساء: 114-126] قوله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء: 114] النجوى سر بين اثنين، ومنه قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ، قال مجاهد: هذه الآية عامة بين الناس.
يريد: أنه لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث، إلا ما كان من أعمال الخير، وهو قوله: {إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء: 114] قال أبو عبيدة: إلا في نجوى من أمر بصدقة، ثم حذف المضاف.
أو معروف: قال ابن عباس: بِصِلة رحم، أو بطاعة لله، ويقال لأعمال البر كلها: معروف.
لأن العقول تعرفها.
وقوله: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] هذا مما حث عليه رسول الله، فقال لأبي أيوب الأنصاري: " ألا أدلك على صدقة هي خير لك من حمر النعم؟ قال: نعم يا رسول الله.
قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم(2/115)
إذا تباعدوا ".
وروت أم حبيبة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كلام ابن آدم كله عليه لا له، إلا ما كان من أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو ذكر لله» .
وروي أن رجلا قال لسفيان: ما أشد هذا الحديث، فقال سفيان: ألم تسمع قول الله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء: 114] ، فهذا هو بعينه.
ثم أعلم الله أن ذلك إنما ينفع من ابتغى ما عند الله، فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] ثوابا لا حد له.
قوله جل جلاله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] الآية، قال ابن عباس: ثم حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على طعمة بالقطع، فهرب ولحق بالمشركين، فنزل قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] أي: خالفه، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [النساء: 115] ظهر له أن دين الله الإسلام، وأن ما أتى به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وصدق، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] غير دين الموحدين.
وذلك أن طعمة ترك دين الإسلام، وخالف المسلمين، {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] ندعه وما اختار لنفسه، ونصله جهنم: ندخله إياها، وساءت مصيرا: ساءت جهنم موضعا يصار إليه.
قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 116] مضى الكلام في هذه الآية في هذه ال { [.(2/116)
قوله جل جلاله:] إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [سورة النساء: 117] قال ابن عباس: يعني عبادتهم الأوثان: اللات والعزى ومناة وأشباهها من الآلهة التي كانوا يعبدونها.
وقال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه فيسمونه: أنثى بني فلان، فأنزل الله إلا إناثا.
وقال مقاتل، وقتادة، والضحاك: إلا إناثا: إلا مواتا لا روح فيه.
وقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117] أي: ما يعبدون بعبادتهم لها إلا شيطانا مريدا بطاعتهم له في عبادتها، فتلك العبادة إذا ليست للأوثان بل هي للشيطان.
قال الزجاج: يعني بالشيطان ههنا: إبليس وهم إذا أطاعوه فيما سول لهم فقد عبدوه، والمَريد: الخبيث الشرير، وشيطان مريد ومارد واحد، قال الزجاج: ومعنى مَريد: خارج عن الطاعة.
وقوله: لعنه الله قال ابن عباس: دحره الله وأخرجه من الجنة، وقال يعني: إبليس {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 118] قال ابن عباس: يعني من اتبعه وأطاعه.
وقال الكلبي نصيبا مفروضا: معلوما.
وكل من أطاع إبليس فيما يزينه له فهو من نصيبه المفروض.
قوله تعالى: ولأضلنهم: قال ابن عباس: عن سبيل الهدى وطرق الحق.
وإضلاله وسواس ودعاء إلى الباطل، ولو كان إليه شيء من الضلالة سوى الدعاء إليها لأضل جميع الخلق، ولكنه كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء» .
يعني: إنه يزين للناس الباطل وركوب الشهوات ولا يخلق لهم الضلالة.(2/117)
وقوله: ولأمنينهم: التمنية: تسهيل سبيل إدراك المنية وهو ما يتمناه الإنسان، والشيطان يمني الإنسان بأن يخيل إليه إدراك ما يتمناه من المال وطول العمر.
قال ابن عباس: يريد تسويف التوبة وتأخيرها.
وقال الكلبي: ولأمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث.
وقال الزجاج: أجمع لهم مع الإضلال أن أوهمهم أنهم ينالون من الآخرة حظا.
وقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ} [النساء: 119] البتك: القطع، والتبتيك: التقطيع، وهو في هذا الموضع: قطع آذان البحيرة عند جميع أهل التفسير.
وقوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119] قال ابن عباس: يريد دين الله.
وهو قول مجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة، والسدي، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومعنى تغيير دين الله: تبديل الحرام حلالا، والحلال حراما، ومن ارتكب محظورا أو أتى منهيا فقد غير دين الله.
{وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النساء: 119] من يطعه فيما يدعوه إليه من الضلال {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا} [النساء: 119] خسر الجنة ونعيمها.
قوله جل جلاله: يعدهم ويمنيهم: معنى وعد الشيطان وتمنيته: ما يصل إلى قلب الإنسان من نحو ما يجده من: أنه سيطول عمرك، وتنال من الدنيا لذتك، وتعلو على أعدائك، وكل هذا غرور وتمنية، وستهجم عن قريب على الأجل، وقد أبطل أيام عمره في رجاء ما لم يدرك منه شيئا، فالعاقل من لم يعرج على هذا، وجد في الطاعة، وعلم أنه سينقطع عن الدنيا قريبا، وصدق الله في قوله: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 120] أي: إلا ما يغرهم بإيهام النفع فيما فيه الضر.
قوله تعالى: أولئك يعني: الذين اتخذوا الشيطان وليا مأواهم جهنم: مرجعهم ومصيرهم إليها {وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} [النساء: 121] يقال: حاص عن الأمر.
إذا عدل عنه، والمعنى: أنهم لا بد لهم من ورودها والخلود فيها فلا معدل لهم عنها.(2/118)
قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء: 122] ظاهر إلى قوله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123] أكثر المفسرين: على أن هذا في المسلمين وأهل الكتاب، وذلك أن المسلمين قالوا: نحن أهدى منكم.
وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم.
فأنزل الله هذه الآية، يقول: ليس ثواب الله بالأمنية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] .
قال الحسن: هذا في الكفار خاصة لأنهم يجازون بالعقاب على الصغير والكبير، والمؤمن يجازى بأحسن عمله، ويتجاوز عن سيئاته، ثم قرأ: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 35] الآية.
وقال آخرون: هذا عام في كل من عمل سوءا من مسلم وكافر، ولكن المؤمن يجزى به في الدنيا.
253 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزّمجَارِيُّ، وأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَعْقُوبَ الْمُفِيدُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ الصَّلاحُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فَقَالَ: " غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَنْصَبُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مَا تُجْزَوْنَ "
254 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاعِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ الْبَيْهَقِيُّ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَزْهَرِيِّ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بَكَيْنَا وَحَزَنَّا، وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الآيَةُ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ: «أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَكُمَا أُنْزِلَتْ وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا، إِنَّهُ لا يُصِيبُ أَحَدًا مِنْكُمْ مُصِيبَةٌ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا خَطِيئَةً، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ»(2/119)
255 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَجُلا تَلا هَذِهِ الآيَةَ {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فَقَالَ: أنا لَنُجْزَى بِمَا عَمِلْنَا هَلَكْنَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «نَعَمْ يُجْزَى بِهِ فِي الدُّنْيَا بِمُصِيبَةٍ فِي جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَمَا يُؤْذِيهِ»
وقوله: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123] قال ابن عباس: وليا يمنعه، ولا نصيرا ينصره، وتأويل هذه الآية ظاهر في الكفار، وأما في المسلمين فإنه لا ناصر لأحد في القيامة دون الله تعالى ولا ولي للمسلمين غير الله، وشفاعة الشافعين تكون بإذن الله.
قال قتادة: ثم أفلج الله حجة المسلمين على مَن ناوأهم مِن أهل الأديان بقوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [النساء: 124] الآية، قال المفسرون: بين الله تعالى بهذه الآية فضيلة المؤمنين على غيرهم.
قال مسروق: لما نزل قوله تعالي: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] قال أهل الكتاب للمسلمين: نحن وأنتم سواء، فنزل: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} [النساء: 124] وما بعده من قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا} [النساء: 125] الآية.
وقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124] قال ابن عباس: النقير: النقرة التي تكون في ظهر النواة، ينبت الله منها النخلة، يريد: لا ينقصون قدر منبت النواة.
قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء: 125] يعني: توجه بعبادته إلى الله خاضعا له، وهو محسن: قال ابن عباس: موحد لله لا يشرك به شيئا.
{واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] ملة إبراهيم داخلة في ملتنا(2/120)
وفي ملتنا زيادة عن ملة إبراهيم، فمن اتبع الإسلام فقد اتبع ملة إبراهيم، وذكرنا معنى الحنيف.
وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] قال الزجاج: الخليل: المحب، والمحب الذي ليس في محبته خلل، فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل الله لأنه الذي أحبه الله محبة تامة، وأحب الله هو محبة تامّة.
قال: وقيل: الخليل: الفقير، فجائز أن يكون سمي فقيرا لله، أي: الذي يجعل فقره وفاقته إلى الله، والخلة: الحاجة، والخلة: الصداقة.
قال ابن عباس: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} [النساء: 125] صفيا بالرسالة والنبوة.
256 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْجُورِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ الْكِنَانِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إِلَّا وَلَهُ فِي أُمَّتِهِ خَلِيلٌ، أَلَا وَإِنَّ خَلِيلِي أَبُو بَكْرٍ»
257 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّضْرَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ(2/121)
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا جِبْرِيلُ لِمَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا؟ قَالَ: لإِطْعَامِهِ الطَّعَامَ يَا مُحَمَّدُ "
قوله جل جلاله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 126] إخبار عن سعة قدرته، وكثرة مملوكاته ليرغب إليه بالطاعة، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126] علم إحاطة وهو العلم بالشيء من كل وجه حتى لا يشذ عنه شيء.
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا {127} وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {128} وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا {129} وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا {130} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا {131} وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {132} إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا {133} مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا {134} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا {135} } [النساء: 127-135](2/122)
قوله عز وجل: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127] يطلبون منك الفتوى، وهو تبين المشكل من الأحكام.
{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] يبين لكم الحكم فيهن، أي: في توريثهن، وكانت العرب لا تورث النساء والصبيان شيئا من الميراث، كما ذكرنا أول ال { [، فنزلت ال: في توريث اليتامى.
وقوله:] وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] موضع ما رفع، لأن المعنى: الله يفتيكم والكتاب يفتيكم، يعني آية المواريث في أول هذه ال { [.
وقوله:] فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [سورة النساء: 127] يعني: في النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم كما تقول: كتاب الكامل، ويوم الجمعة، وهذا قول الكوفيين، وعند البصريين لا يجوز إضافة الصفة إلى الموصوف.
والمراد ب النساء ههنا: أمهات اليتامى، أضيفت إليهن أولادهن اليتامى، وقوله: {اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] قال ابن عباس: يريد: ما فرض لهن من الميراث.
وترغبون: عن أن تنكحوهن لدمامتهن.
قالت عائشة رضي الله عنها: نزلت في اليتيمة، يرغب وليها نكاحها، ولا ينكحها فيعضلها طمعا في ميراثها، فنهي عن ذلك.
وقوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] يعني: الصغار من الصبيان، قال ابن عباس: يريد: أنهم لم يكونوا يورثون صغيرا من الغلمان ولا من الجواري، وهو عطف على يتامى النساء.(2/123)
والمعنى: يفتيكم في المستضعفين أن تعطوهم حقوقهم لأن ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] يدل على الفتيا في إعطاء حقوق الصغار من الميراث.
وقوله: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] قال الفراء: أن في موضع خفض على معنى: ويفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط.
قال ابن عباس: يريد: بالعدل في مهورهن، وفي مواريثهن.
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} [النساء: 127] يريد: من حسن فيما أمرتكم به {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [النساء: 127] يجازيكم عليه ولا يضيع لكم شيئا منه.
قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128] الآية.
أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا، إما كبرا وإما غيرة، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني وأمسكني واقسم لي ما بدا لك، فأنزل الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ} [النساء: 128] أي: علمت من بعلها: زوجها نشوزا: ترفعا عليها لبغضها، أو إعراضا عنها لموجدة أو أثرة.
قال مقاتل: نشوزا عصيانا يعني الأثرة.
وهو قول ابن عباس أو إعراضا عنها لما به من الميل إلى أخرى.
وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128] جعل الله تعالى الصلح جائزا بين الرجل والمرأة إذا رضيت منه بإيثار غيرها عليها.(2/124)
قال المفسرون: هذا الصلح في القسمة وهو أن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة أو قد دخلت في السن، وأريد أن أتزوج عليك شابة جميلة وأوثرها عليك في القسم بالليل والنهار، فإن رضيت فأقيمي، وإما كرهت خليت سبيلك، فإن رضيت بذلك وإلا كان الواجب على الزوج تمام حقها من المقام عندها، أو تسريحها بإحسان.
وكل ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وهو أن تترك له من مهرها أو بعض أيامها، ومعنى يصَّالحا يتصالحا فأدغم التاء في الصاد.
وقرئ يُصلحا من الإصلاح عند التنازع، كقوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} [البقرة: 182] .
وقوله: والصلح خير: من النشوز والإعراض والفرقة، يقول: إن يصالحا على شيء خير من أن يتفرقا أو يقيما على النشوز والإعراض.
وقوله: {وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي: ألزمت البخل، قال المفسرون: أحضرت نفس كل واحد من الرجل والمرأة شحا بحقه قبل صاحبه فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح على المرأة بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه منها.
وقوله: وإن تحسنوا: أن تصلحوا، وتتقوا: الجور والميل، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] .
قوله عز وجل: ولن تستطيعوا الآية، قال المفسرون: لن تقدروا على التسوية بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك مما لا تقدرون عليه، ولو حرصتم أي: اجتهدتم، {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] إلى التي تحبون في النفقة والقسمة.
قال أبو عبيدة: لا يقدر أحد على العدل بين الضرائر بقلبه وليس يؤاخذ به، لأنه لا يستطيع ولا يملكه، لكن عليه أن لا يميل بنفسه وهو الذي وقع عليه النهي، قال الشافعي: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقسم فيقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم فيما لا أملك» .
يعني: محبته لعائشة.
وقوله: فتذروها كالمعلقة: قال ابن عباس: لا أيما ولا ذات بعل.(2/125)
قال المفسرون: يقول: لا تميلوا إلى الشابة كل الميل فتدعوا الأخرى كالمنوطة لا في الأرض وفي السماء كذلك هذه لا تكون مخلاة فتزوج ولا ذات بعل يحسن عشرتها.
وإن تصلحوا: بالعدل في القسم، وتتقوا: الجور، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 129] لما ملت إلى التي تحبها.
قوله تعالى: وإن يتفرقا الآية: ذكر الله تعالى جواز الصلح بين الزوجين إن أحبا أن يجتمعا ويتآلفا، فإن أبت الكبيرة الصلح، وأبت إلا التسوية بينها وبين الشابة، فتفرقا بالطلاق، فقد وعد الله لهما أن يغني كل واحد منهما عن صاحبه بعد الطلاق، وهو قوله: {يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] قال الكلبي: أمر الله المرأة بزوج أو الزوج بامرأة.
{وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا} [النساء: 130] الجميع خلقه في الرزق والرحمة حكيما فيما حكم ووعظ وعلم، ذكر ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير منه فقال: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 131] أي: هو مالك ما فيها، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 131] يعني: اليهود والنصارى وإياكم: أوصى {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا} [النساء: 131] بما أوصاكم به {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 131] يعني أن له ملائكة من السموات والأرض هم أطوع له منكم، {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا} [النساء: 131] لا حاجة له، والله تعالى غني بذاته لأنه قادر على ما يريد، حميدا: محمودا على نعمه.
قوله جل جلاله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 133] قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين.
ويأت بآخرين: قال مقاتل: يخلق غيركم أمثل وأطوع له منكم.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} [النساء: 134] قال ابن عباس: يريد متاع الدنيا، {فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النساء: 134] قال الزجاج: كان مشركو العرب لا يؤمنون بالبعث والحساب وكانوا مقرين بأن الله خالقهم فكان تقربهم إلى الله تعالى إنما هو ليعطيهم من خير الدنيا ويصرف عنهم شرها، فأعلم الله تعالى أن خير الدنيا والآخرة عنده، فينبغي أن يطلب من عنده ثواب الدنيا والآخرة.
قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135] قوام: مبالغة من قائم.
قال ابن عباس: كونوا قوالين بالعدل في الشهادة على مَن كانت، {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] .
وقال الزجاج: قوموا بالعدل، واشهدوا لله بالحق، وإن كان الحق على نفس الشاهد أو على والديه أو أقربيه.
وشهادة الإنسان على نفسه: إقراره بما عليه من الحق، فكأنه قيل: ولو كان لأحد عليكم حق فأقروا على أنفسكم.
وقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا} [النساء: 135] أي: أن يكن المشهود غنيا أو فقيرا , قال ابن عباس: يقول: لا تحابوا غنيا لغناه، ولا ترحموا فقيرا لفقره.
وقال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني فتمسكوا على القول فيه.(2/126)
وقوله: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] أي: أعلم بهما لأنه يتولى علم أحوالهما من الغنى والفقر، وهذا معنى قول الحسن: الله أعلم بغناهم وفقرهم.
وقوله: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء: 135] قال مقاتل: فلا تتبعوا الهوى في الشهادة، واتقوا الله أن تعدلوا عن الحق إلى الهوى، وهذا من العدول الذي هو الميل والجور.
قال ابن عباس: تميلوا عن الحق.
وقوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء: 135] قال مجاهد: وإن تلووا تبدلوا الشهادة، أو تعرضوا تكتموها فلا تقيموها.
وهذا مِن ليّ اللسان، كأنه لواها من الحق إلى الباطل، وقال السدي: الليّ: دفع الشهادة، والإعراض: الجحود.
وقرئ تلوا بواو واحدة من ولاية الشيء، وهو الإقبال عليه وخلاف الإعراض عنه، والمعنى: إن تقبلوا أو تعرضوا.
{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135] فيجازي المقبل المحسن بإحسانه والمسيء المعرض بإعراضه، وقال قطرب: وإن تلوا من الولاية، يريد: إن تلوا القيام بالحق وتتولوه، وتعرضوا عنه فلا تقوموا به.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا {136} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا {137} } [النساء: 136-137] قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] الآية، قال ابن عباس في رواية الكلبي: نزلت في مؤمني أهل الكتاب، قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل.(2/127)
وقال الضحاك: الخطاب لليهود والنصارى يقول {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النساء: 135] بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمِنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن.
وقال جماعة من المفسرين: الخطاب للمؤمنين وتأويل آمنوا بالله: أقيموا واثبتوا ودوموا عليه.
وقال مجاهد: الآية خطاب للمنافقين، وذلك إنهم آمنوا في الظاهر بألسنتهم، وكفروا بقلوبهم، فقال الله تعالى آمِنوا بقلوبكم بالله ورسوله.
وقوله: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء: 136] قال ابن عباس: يريد القرآن.
{وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136] يريد: كل كتاب نزل على النبيين، وذلك أنه اسم الجنس فصلح للعموم.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الآية: أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في اليهود.
قال قتادة: آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت بمخالَفتها، ثم آمنت بالإنجيل ثم كفرت بمخالَفته.
{ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 137] ما أقاموا على ذلك لأن الله أخبر أنه يغفر كفر الكافر إذا انتهى، فإذا أطلق القول بأنه لا يغفر لهم، علم أن المراد به: ما أقاموا عليه.
{وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا} [النساء: 137] طريق هدى، وهذا إخبار عمن في معلوم الله أنه لا يؤمن.
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا {139} } [النساء: 138-139] قوله جل جلاله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 138] قال المفسرون: إن المنافقين كانوا يتولون اليهود، فألحقوهم بالتبشير في العذاب، ومعنى بشرهم: أخبرهم، ثم وصفهم فقال: {(2/128)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ} [النساء: 139] يعني: اليهود {أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 139] كان المنافقون يوالون اليهود ويتوهمون أن لهم القوة والمنعة وذلك قوله: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ} [النساء: 139] أي: القوة بالظهور على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، والمعنى: أيطلبون أن يتقووا بهم فيظهروا على المسلمين؟ وقوله: {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139] أي: الغلبة والقوة لأنه عزيز بعزه ومعز من عز من عباده بما خلق من العزة، فله العزة جميعا من كل وجه.
{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا {140} الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا {141} إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا {142} مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا {143} } [النساء: 140-143] قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 140] الآية، قال المفسرون: الذي نزل عليهم في الكتاب: النهي عن مجالستهم.
وهو قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] الآية.
وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن، ويكذبون به، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم.
وقوله: {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} [النساء: 140] أي: إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء: 140] أي: يأخذوا في حديث غير الكفر والاستهزاء.
{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140] أي: إنكم كافرون مثلهم لأن من رضي بالكفر فهو كافر.
وهذا يدل على أن من(2/129)
رضي بمنكر يراه خالط أهله، كان في الإثم بمنزلة المباشر.
وقد ورد النهي في هذه الآية عن القعود مع الذين يخوضون في آيات الله بالباطل فلا يجوز القعود عند من يتكلم في القرآن وتفسيره بالباطل.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ} [النساء: 140] الآية، يريد: أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء يجتمعون في جهنم على العقاب.
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} [النساء: 141] هذه الآية أيضا من صفة المنافقين، قال الكلبي: ينتظرون بكم الدوائر والأحداث.
{فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} [النساء: 141] أي: ظهور على اليهود قالوا: للمؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [النساء: 141] فأعطونا من الغنيمة، {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} [النساء: 141] قال ابن عباس: ظفر على المسلمين {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] ألم نغلب عليكم.
والاستحواذ: الاستيلاء على الشيء، ومنه قوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} [المجادلة: 19] أي: غلب، قال المبرد: معناه: ألم نغلبكم على رأيكم ونصرفكم عن الدخول في جملة المؤمنين.
وقوله: {وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141] أي: بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم بأخبارهم، ومراد المنافقين بهذا الكلام إظهارُ المنَّة على الكافرين، أي: فاعرفوا لنا الحق هذا عليكم، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء: 141] بين المؤمنين والمنافقين، قال ابن عباس: يريد: أنه أخر عقاب المنافقين إلى الموت، ووضع عنهم السيف في الدنيا.
وقوله: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] قال ابن عباس، والسدي: حجة يوم القيامة.
258 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْخَشَّابُ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَهُمْ يُقَاتِلُونَهُمْ(2/130)
فَيَظْهَرُونَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ادْنُهُ ادْنُهُ، ثُمَّ قَالَ: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ} [النساء: 141] يوم القيامة {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141]
قال أهل المعاني: وذلك أن الله يظهر ثمرة إيمان المؤمنين ويصدق موعدهم، ولم يشركهم الكفار في شيء من اللذات، وكما شاركوهم اليوم حتى يعلموا أن الحق معهم دونهم.
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ} [النساء: 142] يعملون على المخادع بما يظهرونه من الإيمان، ويبطنون خلافه من الكفر وهو خادعهم مجازيهم على خداعهم، وذلك أنهم يعطون نورا كما يعطى المؤمنون، فإذا مضوا على الصراط طفئ نورهم وبقوا في الظلمة.
{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} [النساء: 142] أي: مع المؤمنين قاموا كسالى: متثاقلين لأنهم لا يرجون لها ثوابا ولا يخافون على تركها عقابا، يراءون الناس بصلاتهم لكي يراهم الناس مصلين لا يريدون بها وجه الله.
قال قتادة: والله لولا الناس ما صلى المنافقون، وما يصلون إلا رياء وسمعة.
259 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ قَطَنٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو جُنَادَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْمَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِنَاسٍ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهَا وَاسْتَنْشَقُوا رَائِحَتَهَا وَنَظَرُوا إِلَى قُصُورِهَا، وَإِلَى مَا أَعَدَّ اللَّهُ لأَهْلِهَا فِيهَا نُودُوا: أَنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا، فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةِ مَا رَجَعَ الأَوَّلُونَ بِمِثْلِهَا , فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِكَ وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لأَوْلِيَائِكَ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا، قَالَ: ذَلِكَ أَرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إِذَا خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ، وَإِذَا لَقِيتُمُ النَّاسَ لَقِيتُمُوهُمْ مُخْبِتِينَ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِخِلافِ مَا تُعْطُونَنِي مِنْ قُلُوبِكُمْ، هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي، أَجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي، وَتَرَكْتُمُ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي، فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمُ الْعَذَابَ مَعَ حُرْمَتِكُمْ مِنَ الثَّوَابِ "
وقوله: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142] قال الحسن: إنما قل ذلك لأنهم يعملونه رياء، ولو أرادوا به وجه الله لكان كثيرا.
وقال قتادة: إنما قل لأن الله لم يقبله، وما رد الله فهو قليل وما قبله فهو كثير.(2/131)
قوله عز وجل: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء: 143] يقال: ذبذبه فتذبذب.
أي: حركه فتحرك، وهو كتحريك شيء ما معلق بين السماء والأرض.
ومعنى بين ذلك بين الكافرين والمؤمنين، يعني: أنهم مرددون بين الكفر والإيمان.
قال السدي، وقتادة: ليسوا بمشركين مصرحين بالشرك، وليسوا بمؤمنين.
{لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء: 143] قال ابن عباس: لا من الأنصار ولا من اليهود.
260 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِلالٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرَةَ الأَحْمَسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الشَّاةِ بَيْنَ الرَّبَضَيْنِ، إِنْ جَاءَتْ إِلَى هَذِهِ نَطَحَتْهَا، وَإِنْ جَاءَتْ إِلَى هَذِهِ نَطَحَتْهَا»
وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} [النساء: 143] قال ابن عباس: من أضله الله فلن تجد له دينا.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا {144} إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا {145} إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا {146} مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا {147} } [النساء: 144-147](2/132)
قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 144] قال المفسرون: نهى الله المؤمنين أن يوالوا اليهود من قريظة والنضير، وأوعدهم على ذلك بقوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144] حجة بينة في عقابكم بموالاة الكفار؟ أي: إنكم إذا واليتموهم صارت الحجة عليكم في عقابكم.
قوله عز وجل: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] قال ابن عباس: في أسفل النار.
قال الأخفش، وأبو عبيدة: جهنم أدراك، أي: منازل، وكل منزل منها درك.
وقال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض، والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض.
وقرئ الدرَك بفتح الراء وجزمه وهما لغتان.
قال الزجاج: الاختيار فتح الراء لأنه أكثر في الاستعمال.
وقوله: {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145] أي: مانعا يمنعهم من عذاب الله، من جهة شافعة أو غير ذلك.
{إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النساء: 146] من النفاق، وأصلحوا: العمل لله، واعتصموا بالله: وثقوا به والتجأوا إليه، {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء: 146] من شائب الرياء.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: المنافقون شر من كفر بالله وأولاهم بمقته.
وأبعدهم من الإنابة إليه لأنه شرط عليهم في التوبة: الإصلاح والاعتصام، ولم يشرط ذلك على غيرهم ثم شرط الإخلاص لأن النفاق ذنب القلب، والإخلاص توبة القلب.
ثم قال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146] ولم يقل: فأولئك المؤمنون.
أو: من المؤمنين.
غيظا عليهم.
ثم أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم، فقال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] .
قوله جل جلاله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147] الآية: ما استفهام معناه التقرير، أي: إن الله لا يعذب الشاكر المؤمن.(2/133)
قال ابن عباس في رواية عطاء: ما يريد الله بعذاب خلقه.
إن شكرتم: اعترفتم بإحسانه، وآمنتم: بنبيه، وهذا على التقديم والتأخير، أي: إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان يقدم على سائر الطاعات، ولا تنفع طاعة دون الإيمان.
261 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا مُؤَخِّرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: " يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ "
وقال قتادة في هذه الآية: إن الله لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا.
{وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا} [النساء: 147] شاكرا للقليل من أعمالكم، عليما: بنياتكم.
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا {148} إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا {149} إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا {150} أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا {151} وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا {152} } [النساء: 148-152] قوله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: 148] قال عطاء، عن ابن عباس: نزلت الآية في الضيافة، ينزل الرجل بالرجل عنده سعة فلا يضيفه، فإن تناوله بلسانه فقد عذره الله، وهو قوله: {إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] ، معنى: لا يحب الله أن يجهر بالقبيح في القول، لكن المظلوم يجهر بشكواه.
وقال قتادة، والحسن، والسدي، وابن زيد: هذه الآية عامة في كل مظلوم، وله أن ينتصر من ظالمه بالدعاء عليه بما لا يعتدي فيه.(2/134)
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا} [النساء: 148] أي: لقول المظلوم، عليما: بما في قلبه فليتق الله ولا يقل إلا الحق.
قوله جل جلاله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا} [النساء: 149] قال ابن عباس: يريد من أعمال البر مثل الصدقة والضيافة، {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} [النساء: 149] يأتيك من أخيك المسلم، {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا} [النساء: 149] لمن عفا، قديرا: على ثوابه.
قوله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] يعني: اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقرآن {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] أي: بين الإيمان بالله ورسله.
ولا يصح الإيمان بالله والتكذيب برسله أو ببعض منهم، وذلك قوله: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] لا يصح التصديق ببعض الأنبياء دون البعض لأن كل نبي قد دعا إلى تصديق من بعده من الأنبياء، فإذا كذبوهم فقد كذبوا من تقدم منهم.
وقوله: {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} [النساء: 150] بيْن إيمان ببعض الرسل وكفر ببعض مذهبا يذهبون إليه.
{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 151] ذِكْر حق ههنا: تأكيدٌ لكفرهم، إزالة لتوهم من يتوهم أن إيمانهم ببعض الرسل يزيل عنهم اسم الكفر، ثم نزل في المؤمنين قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} [النساء: 152] إلى آخر الآية.
{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا {153} وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا {154} } [النساء: 153-154] قوله جل جلاله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] قال المفسرون: إن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كنت صادقا أنك نبي فأتنا بكتاب جملة من السماء كما أتى به موسى فأنزل الله هذه الآية.
وقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 153] يعني: السبعين الذين ذكرنا قصتهم عند قوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] ،(2/135)
وقوله: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} [النساء: 153] يعني: الذين خلفهم موسى مع هارون حين خرج لميقات ربه.
وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [النساء: 153] يعني: العصا واليد وفلق البحر، {فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ} [النساء: 153] ، ولم نستأصل عبدة العجل، {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153] حجة بينة قوي بها على من ناوأه.
قوله جل جلاله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ} [النساء: 154] مفسر في { [البقرة إلى قوله:] وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} [سورة النساء: 154] أي: لا تعتدوا باقتناص السمك فيه، يقال: عدا عُدوا وعَدْوا وعَدَاء وعُدْوَانًا، أي: ظلم وجاوز الحد.
وقرأ نافع لا تعْدُّوا ساكنة العين مشددة الدال، أراد: لا تعتدوا ثم أدغم التاء في الدال لتقاربهم، وروى ورش لا تعَدّوا فتح العين وذلك أنه لما أدغم التاء في الدال نقل حركتها إلى العين.
وقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] قال ابن عباس: عهدا مؤكدا في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا {155} وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا {156} وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا {157} بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {158} وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا {159} } [النساء: 155-159] قوله تعالي: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] ما ههنا: صلة مؤكدة، والآية تفسيرها ظاهر إلى قوله {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] يقال: طبع الله على قلب الكافر، أي: ختم عليه فلا يعي وعظا، ولا يوفق للخير.
قال الزجاج: جعل الله مجازاتهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم.
وقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 155] قد مر في هذه ال { [.(2/136)
قوله عز وجل: وبكفرهم يعني: بالمسيح، وجحدوا أنه نبي،] وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [سورة النساء: 156] حين رموها بالزنا، وزعموا أن عيسى لغير رِشْدَةٍ.
{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [النساء: 157] اليهود تدعي أنهم قتلوا المسيح، وكذبوا في ذلك، قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] أي: ألقى شبهه على غيره حتى ظنوا لما رأوه أنه المسيح، وذلك أن عيسى عليه السلام لما أراد الله تعالى رفعه إلى السماء قال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ فقال رجل منهم: أنا، فأُلقيَ عليه شبهُه فقتل وصلب وهم يظنون أنهم قتلوا عيسى.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النساء: 157] أي: في قتله، وكان اختلافهم فيه أنهم لما قتلوا الشخص المشبه به، كان الشبه قد ألقي على وجهه، ولم يلق عليه شبه جسد عيسى، فلما قتلوه ونظروا إليه قالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، فذلك اختلافهم فيه.
وقوله: {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [النساء: 157] أي: مِن قتْله، {مَا لَهُمْ بِهِ} [النساء: 157] بعيسى من علم: قتل أو لم يقتل؟ {إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] لكنهم يتبعون الظن في قتله، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] وما قتلوا المسيح على يقين من أنه المسيح.
{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] أي: إلى الموضع الذي لا يجري لأحد سوى الله فيه حكم، فكان رفعه إلى ذلك الموضع رفعا لأنه رفع عن أن يجري عليه حكم العباد.
يؤكد هذا أن الحسن قال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] أي: إلى السماء، كما قال: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ} [النساء: 100] وكانت الهجرة إلى المدينة.
{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} [النساء: 158] في اقتداره على نجاة من يشاء من عباده، حكيما: في تدبيره في نجاة عيسى.
قوله جل جلاله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] قال الزجاج: المعنى: وما منهم أحد إلا ليؤمنن به، أي: بعيسى قبل موت عيسى، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام.
قال عطاء عن ابن عباس: إذا نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد ممن يعبد غير الله(2/137)
إلا آمن به وصدقه، وشهد أنه روح الله وكلمته وعبده ونبيه، وهذا قول الحسن، وقتادة، وسعيد بن جبير.
262 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الثَّوْرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ» .
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]
قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159] على أن قد بلغ رسالة ربه وأقر بالعبودية على نفسه.
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا {160} وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا {161} لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا {162} } [النساء: 160-162] قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] قال مقاتل: كان الله عز وجل حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا، ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلما، فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس بالباطل،(2/138)
وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحرم الله عليهم عقوبة لهم ما ذكر في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] الآية.
قوله: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161] يعني: ما أخذوه من الرشى في الحكم وغير ذلك.
قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 161] خص الكافرين منهم لأنه علم أن منهم من يؤمن فيأمن العذاب.
قوله جل جلاله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} [النساء: 162] هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب.
وعني بالراسخين: المبالغين في علم الكتاب، كعبد الله بن سلام وعدة نفر، قال الزجاج: يعني أنهم بعلمهم وبصيرتهم وثبوتهم في علمهم آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: والمؤمنون: قال ابن عباس: والمؤمنون من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: والمقيمين الصلاة نص سيبويه على أن: والمقيمين نصب على المدح، والعرب تقول: جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد، على معنى: اذكر المطعمين وهم المغيثون، وكذلك هذه الآية هنا معناها: اذكر المقيمين، وهم المؤتون الزكاة.
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا {163} وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا {164} رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا {165} } [النساء: 163-165] قوله جل جلاله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] الآية: قال ابن عباس: إن جماعة من اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/139)
ما أوحى الله ولا إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله وأنزل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [النساء: 163] الآية.
وقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء: 163] الزبور الكتاب، وكل كتاب زبور، وهو فعول بمعنى مفعول، كالرسول والركوب والحلوب، وأصله من زبرت الكتاب.
بمعنى كتبت، وقرأ حمزة زُبورا بضم الزاي على أنه جمع زبر وهو الكتاب سمي المفعول باسم المصدر، ثم جمعه كما يسمى المكتوب كتابا، ثم يجمع على كتب.
قوله تعالى: {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164] الآية: قال الكلبي: يقول من الرسل من قد سميناهم لك في القرآن وعرفناكهم إلى من بعثوا، وما رد عليهم قومهم، ومنهم من لم نسمِّه لك.
وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] أي: مخاطبة من غير واسطة، وتأكيد كلم بالمصدر: يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة لا كما تقول القدرية: إن الله تعالى خلق كلاما في محل فسمع موسى ذلك الكلام لأنه لا يكون ذلك كلام الله.
قال أحمد بن يحيى: لو قال: وكلم الله من غير أن يؤكد بالمصدر لاحتمل كما قالوا، فلما قال تكليما سقط الشك الذي كان يدخل في الكلام لأن أفعال المجاز لا تؤكد بذكر المصادر، لا يقال: أراد الحائط أن يسقط إرادة.
قوله جل جلاله: رسلا مبشرين أي: بالجنة لمن أطاع ومنذرين: بالنار لمن عصى، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] لأنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس حجة في ترك الطاعة والتوحيد والمعرفة لأن هذه الأشياء إنما وجبت ببعث الرسل، وقد قال في آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} [طه: 134] ، فبين أنهم كانوا يحتجون بعدم الرسل لو لم تبعث إليهم، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا} [النساء: 165] في اقتداره على إنجاز موعوده على ألسنة رسله حكيما: في إرساله الرسل.
{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا {166} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا {167} إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا {168} إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا {169}(2/140)
يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا {170} يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا {171} } [النساء: 166-171] قوله عز وجل: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166] قال المفسرون: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد سألنا اليهود عنك وعن صفتك، فزعموا أنهم لا يعرفونك في كتابهم فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك إلينا رسولا، فنزل {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166] قال الزجاج: الشاهد: هو المبين لما يشهد به والله عز وجل يبين ما أنزل إليه بنصب المعجزة له، وبيّن صدق نبيه بما يغني عن بيان أهل الكتاب.
وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] أي: أنزله وفيه علمه، قال الزجاج: أنزل القرآن الذي فيه علمه، {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} [النساء: 166] : من قامت له المعجزة شهدت له الملائكة بصدقه، {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 166] تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شهادة أهل الكتاب بشهادة الله والملائكة.
قوله جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 167] يعني اليهود، {وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 167] دين الإسلام بقولهم: ما نعرف صفة محمد في كتابنا، {قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 167] بعدوا عن سبيل الخير فلا يهتدون.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 168] يعني اليهود، وظلموا: محمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتمانه نعته {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء: 168] يعني: من مات منهم على الكفر {وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا} [النساء: 168] يعني: دين الإسلام.
{إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء: 169] يعني: طريق اليهودية وهو طريق جهنم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 169] لأنه قادر على أن يخلق لهم العذاب والألم شيئا بعد شيء إلى ما لا يتناهى.
قوله جل جلاله: يأيها الناس قال ابن عباس: يريد المشركين، {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] أي: بالهدى والصدق وشهادة أن لا إله إلا الله، {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 170] قال الزجاج: قال الخليل وجميع(2/141)
البصريين: هذا محمول على المعنى كأن معنى قوله: «آمنوا خيرا لكم» : ائتوا خيرا لكم.
وقوله: وإن تكفروا أي: بتكذيب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النساء: 170] ملكا واقتدارا عليه، أي: أنه غني عنكم وعن إيمانكم، {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا} [النساء: 170] بما يكون منكم من إيمان وكفر، حكيما: في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم.
قوله جل جلاله: يأهل الكتاب يريد: النصارى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] أي: لا تتجاوزوا حد الحق، يقال: غلا يغلو غلوا إذا جاوز الحق.
والنصارى غلت في المسيح، فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى جعلوه إلها، وذلك أن الماريعقوبية، نصارى أهل نجران، قالوا: عيسى هو الله.
وقالت النسطورية: هو ابن الله.
وقال المرقوسية: هو ثالث ثلاثة.
فأنزل الله تعالى: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] .
263 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمُطَوَّعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَوْفٍ الأَعْرَابِيِّ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ»(2/142)
وقوله: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ} [النساء: 171] أي: فليس لله ولد ولا زوجة ولا شريك هذا هو الحق، ثم أخبر عن عيسى فقال {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171] ذكرنا تفسير هذا في سورة آل عمران، قال الكلبي: يعني قوله كن فكان من غير أب.
وقوله: وروح منه أي: من خلقه وإحداثه، وذلك أن الله تعالى لما أخرج الأرواح من ظهر آدم لأخذ الميثاق عليهم، ثم ردها إلى صلبه أمسك عنده روح عيسى إلى أن أراد خلقه، ثم أرسل ذلك الروح إلى مريم فدخل فيها، فكان منه عيسى وهذا قول أبي بن كعب.
264 - أَخْبَرَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ الْوَاعِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ نُجَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْخَلِيلِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ عَمُّ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرَوْحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ، وَالْبَعْثَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شَاءَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ
وقوله: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} [النساء: 171] قال الزجاج: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، يعني: قولهم الله وصاحبته وابنه.(2/143)
{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171] أي: ائتوا بالانتهاء عن قولكم خيرا لكم مما تقولون {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ} [النساء: 171] نزه نفسه {أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النساء: 171] ملكا وخلقا من غير شريك في ذلك، وإذا استحال الشرك في وصفه استحال الولد، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 171] أي: مفوضا إليه القيام بتدبير ملكه الذي لا ملك أوسع منه.
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا {172} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا {173} يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا {174} فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا {175} } [النساء: 172-175] قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء: 172] المفسرون يقولون: الاستنكاف والاستكبار واحد.
قال الكلبي: لن يتعظم.
وقال الأخفش، ومقاتل: لن يأنف.
وقال الزجاج: أي: ليس يستنكف الذي يزعمون أنه إله أن يكون عبدا لله، {وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] من كرامة الله والمواطن الشريفة وهم أكبر من البشر.
ثم أوعد من استكبر عن عبادة الله تعالى، فقال: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} [النساء: 172] الآية.
قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 174] قال ابن عباس: يريد بالبرهان: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء من البيان.
وإنما قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برهان، لما معه من المعجزة التي تشهد بصدقه.
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174] يريد: القرآن، سماه نورا لأنه يتبين به الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور.(2/144)
قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ} [النساء: 175] امتنعوا به من زيغ الشيطان، {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} [النساء: 175] قال ابن عباس: يريد: الجنة.
وفضل: يتفضل عليهم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175] دينا مستقيما.
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] قوله جل جلاله: يستفتونك الآية، أنزل الله تعالى في الكلالة آيتين، إحديهما: في الشتاء وهي التي في أول السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه الآية، ولهذا تسمى هذه الآية آية الصيف.
265 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، يَقُولُ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] وَآخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ بَرَاءَةٌ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ بُنْدَارٍ، عَنْ غُنْدَرٍ كِلاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ
266 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَمْرُوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِنِي مَاشِيَيْنِ، فَأُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ فَأَفَقْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176](2/145)
قال ابن عباس: يريد: من ليس له ولد ولا والد
{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] أراد: ولا والد، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر، ودل على المحذوف: أن الفتيا في الكلالة، والكلالة: من ليس له ولد ولا والد، فإن كان له أحدهما لم يسم كلالة.
وقوله: وله أخت أراد: من أبيه وأمه، لأن ذكر أولاد الأم قد سبق في أول ال { [،] فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [سورة النساء: 176] هذا بيان فرضها عند الانفراد، ولها نصف المال بالتسمية.
وقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] يعني: أن الأخ يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن للأخت ولد، وهذا في الأخ من الأب والأم، أو من الأب.
وقوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176] ظاهر إلى قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] وروي أن أبا بكر الصديق قال في خطبته: ألا إن الآية التي أنزل الله تعالى في أول { [النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد، وال: الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت به الرحم من العصبة.
وقوله:] يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176] أي: لئلا تضلوا، أو: أن لا تضلوا، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر: 41] أي: لئلا تزولا.
هذا قول الفراء والكسائي.
وقال البصريون: المحذوف ههنا: مضاف، على تقدير: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا فحذف المضاف.(2/146)
سورة المائدة
مدنية وآياتها عشرون ومائة.
267 - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ الْخَفَّافُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا سَلامُ بْنُ سُلَيْمٍ، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْمَائِدَةِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ فِي دَارِ الدُّنْيَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ»
بسم الله الرحمن الرحيم {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ {1} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {2} } [المائدة: 1-2] {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] قال ابن عباس في رواية الوالبي: بالعهود يعني: ما أحل وما حرم، وما فرض وما حد في القرآن.
وقال مجاهد: ما عقد الله على العباد وما أحل لهم وحرم عليهم.
وقال الضحاك: بالعهود التي أخذ الله على هذه الأمة أن يوفوا بها مما أحل وحرم، ومما فرض من الصلاة وسائر الفرائض.(2/147)
والعقود أوكد العهود، جمع العقد، بمعنى المعقود، وهو الذي أحكم، وما فرضه الله علينا فقد أحكم ذلك، ولا سبيل إلى نقضه بحال.
وقال مقاتل بن حيان: أوفوا بالعقود: بالعهود التي عهد الله إليكم في القرآن مما أمركم من طاعته أن تعملوا بها، ونهيكم الذي نهاكم عنه، وبالعهد الذي بينكم وبين المشركين، وفيما يكون من العهد بين الناس.
ثم ابتدأ كلاما آخر فقال: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] والبهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وقال الزجاج: كل حي لا يميز فهو بهيمة.
والأنعام جمع النعم، وهي الإبل والبقر والغنم وأجناسها.
والمراد ب بهيمة الأنعام: الأنعام، وزاد ذكر البهيمة للتأكيد، كما يقال نفس الإنسان.
وهذا قول الحسن، والربيع، والضحاك، والسدي، وابن عباس في رواية عطاء، قالوا: هي الأنعام كلها.
وقال في رواية الكلبي: بهيمة الأنعام: وحشها كالظباء وحمر الوحش.
وقوله: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] أي: إلا ما يقرأ عليكم في القرآن مما حرم عليكم، وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] الآية.
وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] يقال: رجل حرام وقوم حرم، أي: محرمون والمعنى: إلا أن تحلوا الصيد في حال الإحرام فإنه لا يحل لكم إذا كنتم محرمين.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1] قال الزجاج: أي: الخلق له، يحل منه ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد.
قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة: 2] قال أبو عبيدة: الشعائر في كلام العرب: الهدايا المشعرة، أي المعلمة.
وقال الزجاج: هي ما أشعر أي أعلم ليهدى إلى بيت الله الحرام.(2/148)
نزلت في الحطيم بن ضبيعة، أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليمامة إلى المدينة، فعرض عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام، فلم يسلم، فلما خرج مر بسرح المدينة فاستاق الإبل فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام القضية سمع تلبية حجاج اليمامة، فقال لأصحابه: هذا الحطيم وأصحابه فدونكم، وكان قد قلد ما نهب من سرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهداه إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى هذه الآية.
والمعنى: لا تحلوها بإباحتها والإغارة عليها.
وقوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي: بالقتال فيه ولا الهدي: وهي كل ما أهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة وشاة ولا القلائد: هي جمع قلادة، وأراد: ولا ذوات القلائد، يعني: الهدايا المقلدة، وعلى قول ابن عباس: أراد ولا أصحاب القلائد وهم الذين قلدوا بعيرهم ليأمنوا.
وكانت الحرب في الجاهلية قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم، فمن وجد في غير الأشهر الحرم أصيب منه، إلا أن يكون مشعرا بدنة، أو سائقا هديا أو مقلدا نفسه وبعيره من لحاء شجر الحرم، أو محرما بعمرة إلى البيت، فلا يتعرض لهؤلاء.
فأمر الله المسلمين بإقرار هذه الأمنة على ما كانت عليه في الجاهلية لضرب من المصلحة إلى أن نسخها.
وقوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي: قاصديه، يعني: الذين يريدون الحج، {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ} [المائدة: 2] يعني: التجارة، ورضوانا: بزعمهم وفيما يظنون.
وهذه الآية من أولها إلى ههنا منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] .
وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ(2/149)
فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] أي: إذا خرجتم من إحرامكم حل لكم الصيد، قال الزجاج: هذا لفظ أمر معناه الإباحة، لأن الله تعالى حرم الصيد على المحرم، وأباحه إذا حل من إحرامه، وليس أنه واجب عليه إذا حل أن يصطاد.
وقوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة: 2] الجرم معناه في اللغة: الكسب، والجارم الكاسب.
والشنآن البغض، يقال: شنئت الرجل أشنؤه شنئا وشنآنا، إذا بغضته ويجوز شنآنا بسكون النون.
أن صدوكم أي: لأن صدوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [المائدة: 2] ومن أجل أن صدوكم، ومن قرأ إن صدوكم بكسر إن جعله للجزاء على معنى: إن صدوكم عن المسجد الحرام فلا تكسبوا عدوانا.
ومعنى الآية: لا يحملنكم بغض كفار مكة أن صدوكم: يوم الحديبية {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] على حجاج اليمامة، فتستحلوا منهم محرما، وتمنعوهم عن المسجد الحرام كما منعكم كفار مكة، أو تعرضوا للهدي.
وقوله: وتعاونوا: قال الفراء: ليعن بعضكم بعضا على البر: وهو ما أمرت به، والتقوى: ترك ما نهيت عنه.
قال الزجاج: ما مضى من هذه الآية كله منسوخ، إلا تعاون المسلمين على التقوى.
وقوله: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] قال عطاء: يريد: معاصي الله والتعدي في حدوده.
ثم حذرهم فقال: واتقوا الله: فلا تستحلوا ما حرم، {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2] إذا عاقب.(2/150)
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] مفسر في { [البقرة، إلى قوله:] وَالْمُنْخَنِقَةُ} [سورة المائدة: 3] : وهي التي تنخنق فتموت، والانخناق: إنعصار الحلق، يقال: خنقه فانخنق.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، قال الزجاج: وبأي وجه اختنقت فهي حرام.
والموقوذة: المضروبة حتى تموت ولم تذكَّ، قال الزجاج: هي التي تقتل ضربا، يقال: وقذتها أقذها وقذا.
والمتردية: هي التي تقع من جبل أو من موضع مشرف فتموت، يقال: تردى، إذا سقط في قليب أو من جبل، ومنه قوله: إذا تردى أي: سقط في النار.
والنطيحة: التي تنطحها شاة أو كبش فتموت.
وقوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة: 3] قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل منه أكلوا ما بقي، فحرمه الله، والتقدير: وما أكل منه السبع.
وقوله: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] أي: إلا ما أدركتم ذكاته وهي الذبح، يقال: ذكى فلان الشاة.
إذا ذبحها الذبح التام يجوز معه الأكل ولا يحرم.(2/151)
وهذا استثناء من جميع هذه المحرمات التي ذكرت.
قال ابن عباس: يقول: ما أدركت من هذا كله وفيه روح فأذبحه فهو حلال، وإدراك حياته أن توجد له عين تطرف، أو ذنب يتحرك، فأكله جائز إذا ذكي.
وقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] قال ابن عباس: يريد: الأصنام التي تنصب وتعبد من دون الله.
وقال الفراء: النصب: الآلهة التي تعبد من أحجار.
قال الزجاج: النصب حجارة كانت لهم يعبدونها وهي الأوثان.
وتقدير الآية على هذا القول: وما ذبح على اسم النصب.
وقال مجاهد، وقتادة، وابن جريج: كانت حول البيت أحجار كان أهل الجاهلية يذبحون عليها، وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها.
وقوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ} [المائدة: 3] أي: تطلبوا علم ما قسم لكم من الخير والشر بالأزلام، قال المفسرون: كان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا، أو غزوا، أو تجارة، أو غير ذلك طلب من الأزلام، وهي قداح كانت في الكعبة عند سدنة البيت مكتوب على بعضها: أمرني ربي، وعلى بعضها: نهاني ربي، فإن خرج السهم الآمر مضى لحاجته، وإن خرج السهم الناهي لم يمض، وواحد الأزلام: زُلَم وزلَم.
قال الزجاج: أخبر الله تعالى أن الاستقسام بالأزلام حرام، ولا فرق بين ذلك وبين قول النجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، واخرج من أجل طلوع نجم كذا، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وذلك دخول في علم الله الذي هو غيب، فهو حرام كالأزلام التي ذكرها الله تعالى.
وقد روى أبو الدرداء، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من تكهن أو استقسم، أو تطير ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة» .(2/152)
وقوله: ذلكم فسق أي: الاستقسام بالأزلام فسق، وهو كل ما يخرج به من الحلال إلى الحرام.
وقوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} [المائدة: 3] قال الكلبي: نزلت لما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة في حجة الوداع، يئس أهل مكة أن يرتد المسلمون راجعين إلى دينهم.
فلا تخشوهم: أن يظهروا على دينكم، واخشون: في مخالفة أمري.
وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أجمعوا على أن المراد ب اليوم يوم عرفة، وهذه الآية نزلت يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقف بعرفات على ناقته العضباء.
ومعنى {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] أي: ببيان الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام، فلم ينزل بعد هذه الآية شيء من الفرائض.
قال ابن عباس في رواية الوالبي: بعث الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا به زادهم الزكاة، فلما صدقوا به زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم الدين، فقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] .
268 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزمجاري بِهَا، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً فِي كِتَابِكُمْ لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا.
قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] .
قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(2/153)
وَالسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، كِلاهُمَا عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ.
269 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ أَبِي وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَهُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ فَإِنَّهُ لا يَكْمُلُ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ "
وقوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] يريد: أنه أنجز لهم ما وعدهم في قوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] ، وكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين.
وقوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]
270 - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَارِسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ مَطَرٍ، حَدَّثَنَا عُبْدُوسُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُمْرَانَ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عِصْمَةُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ،(2/154)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «إِنِّي نَظَرْتُ فِي الأَدْيَانِ فَارْتَضَيْتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا، فَأَحْسِنُوا صُحْبَتَهُ بِالسَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، فَإِنَّ الْبَخِيلَ بَعِيدٌ عَنِ اللَّهِ، بَعِيدٌ عَنِ الْجَنَّةِ، بَعِيدٌ عَنِ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ»
وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] قال الزجاج: من دعته الضرورة في مجاعة.
والمخمصة: خلاء البطن من الطعام جوعا.
{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة: 3] قال قتادة: غير متعرض لمعصية.
وأصله من الجنف الذي هو الميل، غير متجانف: غير مائل لإثم: وهو أن يأكل من الميتة فوق الشبع تلذذا.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3] قال ابن عباس: غفر الله له ما أكل مما حرم عليه حين اضطر إليه، ورحيم بأوليائه حيث أحل لهم ما حرم عليهم في المخمصة إذا اضطروا إلى أكلها.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {4} الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {5} } [المائدة: 4-5] قوله جل جلاله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] الآية.(2/155)
روي أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل جاءا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد الصيد بالكلاب والبزاة وقد حرم الله عز وجل الميتة فماذا لنا منها؟ فنزلت هذه الآية.
وقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] قال المفسرون: أحل الله للعرب ما استطابوا مما لم ينزل بتحريمه تلاوة مثل: الضباب واليرابيع والأرانب وغيرها، فكل حيوان استطابته العرب فهو حلال، وكل حيوان استخبثته العرب فهو حرام، وهو قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] .
والطيب في اللغة: المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضا طيبا تشبيها بما هو مستلذ.
وقوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] يريد: وصيد ما علمتم، فحذفه، والجوارح الكواسب من الطير والسباع، الواحدة: جارحة، سميت جوارح لأنها تكسب أربابها الطعام بصيدها، وهي الكلاب والفهود والبزاة والصقور والزمج والعقاب، فما اصطادت من هذه الجوارح صيدا فقتلته فهو حلال.
وقوله: مكلبين: المكلب الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد، يقال للصائد: مكلب، ومعنى مكلبين: مؤدبين.(2/156)
{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4] تؤدبونهن لطلب الصيد، وأن لا يأكلن الصيد كما أدبكم الله، {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] إذا كان الضاري معلما ثم صاد صيدا فجرحه وقتله وأدركه الصائد ميتا فهو حلال إذا لم يأكل منه.
فإن أكل منه، فعند ابن عباس، وطاووس، والشعبي، والسدي: لم يحل أكله وهو الأظهر من مذهب الشافعي، وعند جماعة من الصحابة: يحل وإن أكل وهو أحد قولي الشافعي.
وقوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] إذا أرسلتم الكلاب واطلقتموها على الصيد، والأولى للصائد أن يرسل الجارحة على اسم الله، فإن نسي حل أكل صيده كالذابح من المسلمين إن نسي اسم الله على ذبيحته حل أكلها.
قوله جل جلاله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] كرر إحلال الطيبات تأكيدا، {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] يعني: ذبائح اليهود والنصارى، وإن لم يذكروا اسم الله وذكروا عيسى وعزيرا.
قال الشعبي، وعطاء: في النصراني يذبح فيقول: باسم المسيح، فالأكل يحل منه، فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] يريد: ذبائحنا لهم حلال، فإذا اشتروها منا كان الثمن لنا حلالا، واللحم لهم حلال، قال الزجاج {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] تأويله: حل لكم أن تطعموهم.
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] قال مجاهد: يعني الحرائر، وقال ابن عباس: يريد العفائف من المؤمنات.
وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قال ابن عباس: يريد الحرائر وإماء أهل الكتاب حرام نكاحهن.(2/157)
واختلفوا في الحربيات من أهل الكتاب، فعن ابن عباس: لا يحل نكاحهن، وإنما يحل نكاح الذميات.
وعن الحسن، وسعيد بن المسيب: يحل نكاح الكتابيات ذميات كن أو حربيات.
وقوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] يعني: مهورهن، وتقييدا التحليل بإيتاء المهور يدل على تأكيد وجوبه.
وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] يعني: تنكحوهن بالمهر والبينة غير معالنين بالزنا، {وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} [المائدة: 5] تسرون بالزنا.
قال الزجاج: حرم الله الجماع على جهة السفاح، وعلى جهة اتخاذ الصديقة، وأحله على جهة الإحصان وهو التزويج.
وقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] قال ابن عباس، ومجاهد: بالله الذي يجب الإيمان به.
وقال الكلبي: بشهادة أن لا إله إلا الله، فجعل كلمة التوحيد إيمانا.
وقال مقاتل: يقول بما أنزل على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمي القرآن إيمانا لأنه يجب الإيمان به.
وقال الزجاج: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] أي: من بدل شيئا مما أحل الله فجعله حراما، أو أحل شيئا مما حرم الله فهو كافر بالإجماع، وقد حبط جميع ما تقرب به إلى الله.
وقوله: {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: 5] قال ابن عباس: خسر الثواب.
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {6} وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {7} } [المائدة: 6-7](2/158)
قوله عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] قال زيد بن أسلم: يعني إذا قمتم من النوم.
قال الزجاج: المعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] المعنى: إذا أردت أن تقرأ.
قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا اتجرت فاتجر في البز، وإذا آخيت فآخ أهل الحسب، يريد: إذا أردت التجارة، وإذا أردت مؤاخاة الناس.
وقوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] هي جمع مرفق، وهو المكان الذي يرتفق به، أي: يتكأ عليه من اليد، وكثير من النحويين يجعلون إلى ههنا: بمعنى مع، ويوجبون غسل المرفق، وهو مذهب أكثر العلماء.
وقوله: وامسحوا برءوسكم: المسح: مسحك شيئا بيدك كمسح العرق عن جبينك، وكمسحك رأسك في وضوئك.
وظاهر الآية: لا يوجب التعميم في مسح الرأس، لأنه إذا مسح البعض فقد حصل ماسحا، ولا يلتفت إلى قول من قال: إن الباء توجب التعميم، لأن ذلك لا يعرفه أهل النحو.
وقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] في الأرجل قراءتان: النصب والخفض، أما النصب فهو ظاهر إلا أنه عطف على المغسول، لوجوب غسل الرجلين بإجماع لا يقدح فيه قول من خالف.
وأما الكسر فقال أبو حاتم، وابن الأنباري: الكسر بالعطف على المسح غير أن المراد بالمسح في الأرجل الغسل، روي ذلك عن ابن زيد أنه قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة في معنى توضأت.
قال أبو حاتم: وذلك أن المتوضئ لا يرضى بصب الماء على أعضائه حتى يمسحها مع الغسل فسمي الغسل مسحا.
وعلى هذا: الرأس والرجل ممسوحان، إلا أن المسح في الرجل المراد به الغسل، يدل على ذلك ذكر التحديد،(2/159)
وهو قوله إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في المغسول لا في الممسوح.
وقال جماعة من أهل المعاني: الأرجل معطوفة على الرءوس في الظاهر لا في المعنى، قد ينسق بالشيء على غيره والحكم فيها مختلف، كما قال:
يا ليت بعلك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
المعنى: وحاملا رمحا، وكذلك قول الآخر:
علفتها تبنا وماء باردا
المعنى: وسقيتها ماء.
فكذلك المعنى في الآية وامسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم، فلما لم يذكر الغسل عطف الأرجل على الرءوس في الظاهر.
وكعب الإنسان: ما أشرف من فوق رسغه عند قدمه، وقال الأصمعي: الكعبان: الناشزان من جانبي القدم.
والأخبار متواترة بوجوب الغسل، والوعيد لمن ترك من قدمه لمعة لم يصبها الماء.
271 - أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سِنَانٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَمْدُوَيْهِ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي(2/160)
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلا تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» ، فَرَجَعَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ شَبِيبٍ
272 - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَكَرِيَّا الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ الْقُطَعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ بُطُونِ الأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ»
273 - أَخْبَرَنَا الأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ(2/161)
يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الصُّنَابِحِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْمُسْلِمُ فَتَمَضْمَضَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتِ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَتْ مِنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ يَدَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ أَظَافِرِهِ، فَإِذَا مَسَحَ رَأْسَهُ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ مِنْ رِجْلَيْهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ، فَإِذَا عَمِدَ إِلَى الصَّلاةِ كَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلاتُهُ نَافِلَةً لَهُ»
274 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: قُرِئَ عَلَى ابْنِ وَهْبٍ، أَخْبَرَكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطَّاهِرِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ
275 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ التَّاجِرُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الْقِطْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُلَيْكٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِلابِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:(2/162)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تُحْشَرُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فَيُقَالُ: هَؤُلاءِ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَمَنَّى الْخَلائِقُ أَنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فأدمغت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد.
قال مقاتل: فاغتسلوا.
وباقي الآية مشروح في { [النساء، إلى قوله:] مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [سورة المائدة: 6] يعني: من ضيق في الدين، ولكنه جعله واسعا حين رخص في التيمم، {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات، لأن الوضوء يكفر الذنوب.
روى أبو أمامة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الطهور يكفر ما قبله ويصير الصلاة نافلة» .
وقوله: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] أي: ببيان الشرائع، وقال محمد بن كعب القرظي: بغفران الذنوب.
276 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَالِينِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدَنِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَارَهْ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: مَرَّتْ عَلَى عُثْمَانَ فَخَّارَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَدَعَا بِهِ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا مَا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «(2/163)
مَا تَوَضَّأَ عَبْدٌ فَأَسْبَغَ وُضُوءَهُ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ الأُخْرَى»
وقال محمد بن كعب: وكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التمسته في القرآن، فالتمست هذا فوجدته: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا {1} لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 1-2] ، فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في { [المائدة:] إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [سورة المائدة: 6] حتى بلغت {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] فعرفت أن الله لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم.
وقوله: لعلكم تشكرون: قال عطاء: لكي تشكروا نعمتي، وتطيعوا أمري.
قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 7] قال مقاتل: يعني بالنعمة: الإسلام، {وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} [المائدة: 7] قال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: هو ما أخذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
وقال جماعة من المفسرين: يعني بالميثاق حين بايعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في كل ما أمر ونهى، والأيمان التي أخذت عليهم يوم بيعة العقبة، ويوم بيعة الرضوان.
قال السدي: وكل مؤمن آمن بالله ورسله فهذا داخل في هذا الميثاق.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة: 7] قال ابن عباس: بخفيات القلوب والضمير والنيات.(2/164)
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ {8} وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ {9} وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {10} يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {11} } [المائدة: 8-11] قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} [المائدة: 8] معنى القيام لله أن تقوم لله بالحق في كل ما يلزم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر وتجنبه.
{شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] : تشهدون بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] أي: لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، اعدلوا: في الولي والعدو {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي: هو أقرب لاتقاء النار.
قوله جل جلاله: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 11] الآية، قال المفسرون: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه جماعة من أصحابه على بني النضير، وكانوا قد عاهدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ترك القتال، وعلى أن يعينوه في الديات، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما إمام متي فلزمني ديتها فأريد أن تعينوني» .
فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا.
وهموا باغتيالهم والفتك بهم، فأذن الله تعالى به حتى فاتوا بأنفسهم، فهو قوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} [المائدة: 11] يعني: يهود بني النضير {أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] بالقتل والاغتيال، {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} [المائدة: 11] بأن أخبركم حتى خرجتم من عندهم.
ثم أخبر الله تعالى عن نقض بني إسرائيل عهد الله، كما نقضت هذه الطبقة فقال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ {12} فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ(2/165)
تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {13} وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ {14} يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ {15} } [المائدة: 12-15] {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 12] قال الكلبي، ومقاتل: أخذ الله ميثاقهم على أن يعملوا بما في التوراة، {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12] النقيب: الأمين الكفيل على قومه.
أخذ من كل سبط منهم نقيب فبعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم، ويرجعوا بذلك إلى قومهم، فرجعوا ينهون عن قتالهم، وكانوا قد تواثقوا بينهم أن لا يفعلوا، فنكثوا العهد إلا رجلين: كالب بن يوفنا، ويوشع بن نون.
{وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ} [المائدة: 12] بالعون والنصرة والدفع عنكم بهذه الشرائط، وهي قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة: 12] التعزير: التوقير، والتعزير: النصر باللسان والسيف.
قال عطاء: يريد: وقرتموهم.
وقال السدي: نصرتموهم بالسيف.
وقال مقاتل: أعنتموهم.
وأقرضتم الله قال ابن عباس: يعني الصدقات للفقراء والمساكين.
قرضا حسنا: قال الضحاك:(2/166)
تبتغون به وجه الله، وقال ابن المبارك: حلالا طيبا من أموالكم.
وقوله: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ} [المائدة: 12] أي: بعد العهد والميثاق {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [المائدة: 12] أخطأ قصد الطريق، ثم أخبر عن نقضهم فقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] ما صلة مؤكدة يريد: فبنقضهم، كما قال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] .
قال قتادة: إنهم كذبوا بالرسل بعد موسى، وقتلوا الأنبياء، ونبذوا كتاب الله، وضيعوا فرائضه.
وقوله: لعناهم قال ابن عباس: عذبناهم بالجزية.
وقال مقاتل: عذبناهم بالمسخ.
وقال عطاء: أخرجناهم من رحمتنا.
وهو اختيار الزجاج قال: باعدناهم من الرحمة.
{وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] القسوة: الصلابة والشدة في كل شيء، يقال: قسا يقسو قسوة فهو قاس وحجر قاس.
وقرأ حمزة قسِيَّة على وزن فعيلة بمعنى قاسية مثل عالم وعليم.
قال ابن عباس: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13] يابسة عن الإيمان {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] يعني: صفة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآية الرجم {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13] قال ابن عباس: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم من اتباع محمد والإيمان به.
{وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة: 13] أي: على خيانة، قال مقاتل: يعني بالخيانة: الغش للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال يمان بن زباب: على كذب وفجور.
وقال عطاء: على خيانة منهم مثلما خانوك حين هموا بقتلك.(2/167)
وقوله: {إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ} [المائدة: 13] يعني: من أسلم منهم ولم ينقضوا العهد {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] منسوخ بآية السيف {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] يعني: المعافين المتجاوزين، قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن.
قوله عز وجل: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 14] قال مقاتل: أخذ عليهم الميثاق كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتبعوه، وهو مكتوب عندهم في الإنجيل.
{فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14] فتركوا ما أمروا به من الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان ذلك الحظ، {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14] قال المؤرج: حرشنا بعضهم على بعض.
وقال النضر: هيجنا.
وقال الكلبي: ألقينا بينهم العداوة والبغضاء.
قال مجاهد، وقتادة، والسدي: يعني: بين اليهود والنصارى.
وقال الربيع: يعني: بين النصارى خاصة وذلك ما بين فرق النصارى من الاختلاف والعداوة، وهذا اختيار الزجاج، قال: تأويل {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 14] أي: صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا، {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14] وعيد لهم.
قال قتادة: لما ذكر نقضهم العهد وتركهم ما أمروا به دعاهم على أثر ذلك إلى الإيمان بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: {يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 15] قال عطاء عن ابن عباس: يريد: تكتمون مما في التوراة والإنجيل لأنهم أخفوا منه آية الرجم، وأمْر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفته، {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15] يتجاوز عن كثير مما كتموه فلا يخبرهم بكتمانه.
وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] ضياء من الضلالة وهدى، يعني: الإسلام، وقال قتادة: يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهو(2/168)
اختيار الزجاج، قال: النور: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهو الذي يبين، وكتاب مبين يعني: القرآن فيه بيان ما يختلفون فيه.
{يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ {16} لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {17} وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ {18} يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {19} } [المائدة: 16-19] قوله جل جلاله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ} [المائدة: 16] أي: بالكتاب المبين {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] اتبع ما رضيه الله تعالى مما مدحه وأثنى عليه وهو دين الإسلام، سبل السلام: قال ابن عباس: يريد: دين الإسلام دين الله، والسلام: اسم من أسماء الله تعالى.
وقال الزجاج: جائز أن يكون أراد طريق السلام، أي: طرق السلامة التي من سلكها سلم في دينه، ويجوز أن يكون أراد: سبل دار السلام، كما قال {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ} [الأنعام: 127] ، ويراد بها طرق الجنة، ولكنه على حذف المضاف.
وقوله: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة: 16] قال ابن عباس: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، بإذنه أي: بتوفيقه وإرادته، {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16] .
قال الحسن: هو الذي يأخذ بصاحبه حتى يؤديه إلى الجنة.
يعني: الإسلام، ثم أخبر بكفر النصارى فقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وذلك أنهم اتخذوه ربا ومعبودا وجعلوه إلها، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 17] فمن يقدر أن يدفع من عذاب الله شيئا {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وهذا احتجاج على(2/169)