قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
الا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب فى ذاته وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى ولمّا كان فرعون غبيّا لم يدرك حسن الجواب.
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ تعجبا أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه يعنى انّى سالته عن حقيقته وهو يذكر أفعاله او يزعم ان للسموت ربّا وهى قديمة واجبة لذواتها كما هو مذهب الدهرية او غير معلوم افتقارها الى مؤثر.
فحينئذ.
قالَ موسى رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ عدولا الى ما لا يمكن توهم القدم والوجوب ولا يشك فى افتقارها الى مصور حكيم ويكون اقرب للناظر وأوضح عند التأمل.
قالَ فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ اسئله عن شىء يعنى عن حقيقته ويجيبنى عن اخر وسماه رسولا على السخرية.
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما تشاهدون كل يوم انه يأتي بالشمس من المشرق ويحركها على مدار غير المدار اليوم الذي قبله حتى يبلغها الى المغرب على وجه نافع ينتظم به امور الكائنات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يعنى ان كان لكم عقل أدركتم انه لا جواب لكم فوق ذلك لاينهم اولا ثم لما راى شكيمتهم «1» اى شدتهم خاشنهم وعارضهم بمثل مقالهم.
قالَ فرعون عدولا عن المحاجة بعد الانقطاع الى التهديد كما هو دأب الجاهل المحجوج لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي جواب قسم محذوف لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ اى من المحبوسين واللام للعهد اى ممن عرفت حالهم فى سجنى قال الكلبي كان سجنه أشد من القتل لانه كان يأخذ الرجل يطرجه فى مكان وحده فردا لا يسمع ولا يبصر فيه شيئا يهوى به فى الأرض- استدل فرعون بقدرته على التعذيب على ألوهيته وإنكاره للصانع وكان قوله الا تستمعون صادرا منه تعجبا من نسبة الربوبية الى غيره ولعله كان دهريا يعتقد ان من الملك قطرا من الأرض وتولى امره بقوة طالعه استحق العبادة من اهله.
قالَ موسى فى جواب تهديده أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ الهمزة للاستفهام للتوبيخ والإنكار والواو للحال بعد حذف الفعل تقديره أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشئ مبين توبيخ على الاساءة حال فجيئة بالحجة الواضحة على صدقه وقيل الواو للعطف على شرطية محذوفة والشرطيتان حال من فاعل فعل محذوف تقديره أتجعلني من المسجونين لو لم أجبك لى دعوائى بحجة ولو جئتك بشئ مبين حجة والمال واحد.
قالَ فرعون فَأْتِ بِهِ اى بشئ مبين إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى ان ذلك بينة او فى دعواك فان مدعى
__________
(1) الشكيمة الانفة يقال فلان شديد الشكيمة انف ابى قاموس منه رح(7/65)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
النبوة لا بد له من حجة.
فَأَلْقى موسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته او مبين اى مظهر لصدق دعواه عطف على قال.
وَنَزَعَ موسى يَدَهُ إذا قال فرعون وهل غيرها فَإِذا هِيَ اى يدها بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ لها شعاع يكاد يغشى الابصار ويسد الأفق فتحير فرعون وعجز.
وقالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ اى مستقرين حوله ظرف وقع موقع الحال إِنَّ هذا يعنى موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق فى علم السحر.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ لمّا غلب عليه سلطان للمعجزة حطة عن دعوى الربوبية الى الاستظهار من القوم وجعلهم أمراء على نفسه وتنفيرهم عن موسى واظهار الخوف عن ظهوره واستيلائه على ملكه.
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ يعنى اخر أمرهما وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ ناسا يحشرون اى يجمعون السحرة.
يَأْتُوكَ مجزوم فى جواب الأمر بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يفضلون عليه فى السحر امال سحّار ابن عامر «1» وابو عمرو والكسائي.
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ عطف على جمل محذوفة تقديره فبعث حشرين فذهبوا فحشروا السحرة لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة قال البغوي روى عن ابن عباس قال وافق ذلك يوم السبت فى أول يوم السنة وهو النيروز.
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استفهام بمعنى الام وفيه استبطاء لهم فى الاجتماع حثّا على عدم الاستبطاء والمبادرة اليه.
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ يعنون موسى وهارون وقومهما اى نتبعهم فى دينهم قلت وجاز انهم يعنون به السحرة الذين طلبهم اى لعلنا نتبع السحرة فى ابطال امر موسى إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ والترجي يناسب التأويل الثاني واما على التأويل الاول فالترجى باعتبار الغلبة المقتضية للاتباع ومقصودهم الأصلي ان لا يتبعو امر موسى.
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ استفهام للتقرير.
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ عطف على مضمون نعم يعنى ان لكم اجرا وانكم إِذاً اى إذا كان لكم الغلبة متعلق بما بعده لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ التزم لهم القربة زيادة على ما طلبوا من الاجر عند الغلبة- فقال السحرة لموسى امّا ان تلقى وامّا ان نكون نحن الملقين كما مرّة فى الأعراف فحينئذ.
قالَ لَهُمْ
__________
(1) والصحيح امال سحّار ابو عمرو والدوري عن الكسائي والصوري عن ابن ذكوان وقال الأزرق عن ورش واما لاخفش عن ابن ذكوان فبا الفتح بلا خلاف وهى طريق التيسر والشاطبية وقرا هشام وابو الحارث بالفتح بلا خلاف- ابو محمد عفا الله عنه(7/66)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به الأمر بالسحر بل أراد به الاذن فى تقديم ما هم فاعلون لا محالة توسلا الى اظهار امره فلا يرد عليه ان الأمر بالمعصية حرام او يقال هذا الأمر للتحقير اى لتحقير سحرهم فى مقابلة المعجزة فليس من باب الطلب فى شىء.
فَأَلْقَوْا اى السحرة حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ تبرّكوا بعزة فرعون لفرط اعتقادهم انه من السعداء او اقسموا بعزته على إتيانهم بأقصى ما يمكن ان يؤتى به من السحر.
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ اى تبتلع قرأ حفص بالتخفيف والباقون بالتشديد ما يَأْفِكُونَ ما موصولة يعنى ما يقلبونه عن وجهه بتمويههم وتزويرهم فيخيّل حبالهم وعصيهم انها حيات تسعى او مصدرية اى تبتلع إفكهم تسمية للمافوك به مبالغة.
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ يعنى انهم لمّا راو ما راوا لم يتمالكوا أنفسهم لعلمهم بان مثله لا يتاتى بالسحر فطرحوا على وجوههم وانه تعالى ألقاهم بما وفقهم للتوبة وفيه دليل على ان منتهى السحر تمويه وتزوير يخيّل شيئا لا حقيقة له.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل من القى بدل اشتمال او حال بإضمار قد.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ابدال للتوضيح ودفع التوهم والاشعار على ان الموجب لايمانهم ما اجرى على أيديهما من المعجزة.
قالَ فرعون تعنتا ليلبس على قومه كيلا يعتقدوا انهم أمنوا عن بصيرة وظهور حق آمَنْتُمْ لَهُ قرأ حمزة والكسائي وابو بكر وروح ءامنتم بالهمزتين والباقون بهمزة واحدة «1» وحذف همزة الاستفهام الإنكاري قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فعلّمكم شيئا دون شىء ولذلك غلبكم او المعنى انه وادعكم ذلك وتواطئتم عليه فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تهديد اجمالا ثم فصله بقوله لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.
قالُوا لا ضَيْرَ اى لا ضرر علينا فى ذلك لاستلزامه الشهادة والاجر الجزيل الذي يتلاشى فى مقابلته المصائب الدنيوية إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بما توعّدنا به او بسبب اخر من اسباب الموت وقتلك أنفعها وارجلها تعليل لنفى الضير.
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا اى لان كنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من اتباع فرعون او من اهل المشهد قلت والظاهر ان معناه ان كنّا
__________
(1) والصحيح انه قرأ فالون والأزرق عن ورش وابن كثير وابو عمرو وابن ذكوان وابو جعفر وهشام بخلف عنه ءامنتم بهمزة محققة فمسهلة ثم الف وقرأ ابو بكر وحمزة والكسائي وخلف وروح وهشام بوجهه الثاني بهمزتين محققتين ثم الف وقرأ الباقون وهم الاصبهانى عن ورش وحفص ورويس بهمزة واحدة محققة والف على الخبر 12 ابو محمد عفا الله عنه(7/67)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
من أول المؤمنين وأول المؤمنين هم الذين يقتدى بهم غيرهم والجملة تعليل ثان لنفى الضير او تعليل للعلة المتقدمة او بدل اشتمال لها.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ما اقام بين أظهرهم سنين يدعوهم الى الحق ويريهم الآيات فلم يزيدوا الا عتوّا وفسادا أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وقومه ليحولوا بينكم وبين الخروج من مصر تعطيل للاسراء قال البغوي روى عن ابن عباس قال اوحى الله الى موسى عليه السلام ان اجمع بنى إسرائيل اهل كل اربعة أبيات فى بيت ثم اذبحوا أولاد الضأن فاضربوا بدمائها على أبوابكم فانى سامر الملائكة فلا تدخل بيننا على بابه دم وسامرها فيقتل أبكار ال فرعون من أنفسهم وأموالهم. ثم اخبزوا خبزا فطيرا فانه اسرع لكم ثم اسر بعبادي حتى تنتهى الى البحر فيأتيك امرى ففعل ذلك فلمّا أصبحوا قالوا لفرعون «اى طرى قريب حديث العمل- نهاية منه رح» هذا عمل موسى واتباعه قتلوا ابكارنا من أنفسنا وأموالنا فارسل فى اثره الف الف وخمس مائة الف ملك سود مع كل ملك الف وخرج فرعون فى الكرسي العظيم لكن قلت عدد جنوده بهذه للمثابة مما يستبعده العقل ولم يرو من النقل ما يوجب العلم به.
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ معطوف على محذوف تقديره فاسرى موسى قومه فبلغ الخبر فرعون وأراد ان يتبعهم فارسل فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يعنى الشرط ليحشروا اى ليجمعوا الجيش قلت لعله بعث ناسا ليجمعوا اهل المدائن المتصلة بمصر بحيث يمكن اجتماعهم فى تلك الليلة الى الصباح قائلا لهم.
إِنَّ هؤُلاءِ يعنى بنى إسرائيل لَشِرْذِمَةٌ بالكسر القليل من الناس كذا فى القاموس ثم أكده بقوله قَلِيلُونَ لاشعاره غاية القلة فهذه الاية تدل على بطلان ما روى انهم كانوا ست مائة وسبعين الفا وانما استقلهم بالاضافة الى جنوده على ما قيل فى عدد جنوده انه كانت مقدمته سبع مائة الف والساقة والجناحين والقلب على قياس ذلك فانه لا يجوزه العقل نظرا الى أجياد ملوك الأرض لا سيما ملك مصر. قلت لعل إيراد الشرذمة لبيان قلتهم بالنسبة الى جنود فرعون وإيراد قليلون لبيان قلتهم فى نفس الأمر.
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لنا متعلق بغائظون والمغني انهم اصحاب غيظ وعداوة لنا يعنى مبغضون لنا او المعنى انهم لفاعلون بنا ما يغيظنا.
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ قرأ اهل الحجاز والبصرة حذرون وفرهين بغير الف ووافقهم هشام فى حذرون والباقون خاذرون وفارهين بالألف فيهما والاول للثبات والثاني للتجدد وهذا معنى ما قال الفراء الحاذر الذي يحذرك الان والحذر المخاوف وقيل حاذرون مؤدون مفوّون اى ذووا ازاءة وقوة اى مستعدون شاوا السلاح كذا قال الزجاج ومعنى حذرون خائفون مستيقظون اى غير غافلين.(7/68)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
فَأَخْرَجْناهُمْ تقديره فاجتمعوا واتفقوا على الاتباع فاخرجناهم يعنى انهم خرجوا بتقديرنا ومشيتنا مِنْ جَنَّاتٍ اى بساتين وَعُيُونٍ انهار.
وَكُنُوزٍ اى اموال من الذهب والفضة وَمَقامٍ كَرِيمٍ اى منازل حسنة ومجالس بهيّة يعنى مجالس الأمراء والرؤساء تحفها الاتباع.
كَذلِكَ اى الأمر كذلك وَأَوْرَثْناها يعنى تلك الجنات والعيون والكنوز والمقام الكريم بَنِي إِسْرائِيلَ وذلك بان الله تعالى ردّ بنى إسرائيل الى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه وأعطاهم جميع ما كان لفرعون وقومه من الأموال والمساكن.
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ اى داخلين فى وقت شروق الشمس.
فَلَمَّا تَراءَا قرأ حمزة بامالة فتحة الراء فاذا وقف اتبعها الهمزة فاما لها مع جعلها بين بين على أصله فيصير بين الفين ممالتين الاولى أميلت لامالة فتحة الراء والثانية أميلت لامالة فتحة الهمزة وهذا بحكم المشابهة غير ان هذا حقيقته على مذهبه والباقون يخلصون فتحة الراء والهمزة فى حال الوصل فاما الوقت فالكسائى يقف بامالة فتحة الهمزة فيميل الالف التي بعدها المنقلبة من الباء لامالتها وورش يجعلها فيه بين بين على أصله فى ذوات الياء والباقون يقفون بالفتح الْجَمْعانِ اى تقاربا بحيث يرى كل فريق من قوم موسى وقوم فرعون آخرين قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعنى سيد ركنا قوم فرعون ولا طاقة لنا بهم.
قالَ موسى ثقة بوعد الله كَلَّا لن يدركونا إِنَّ مَعِي قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها رَبِّي بالعون والحفظ سَيَهْدِينِ اى يدلنى على طريق النجاة-.
فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ مفسرة لاوحينا لما فيه معنى القول اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ عطف على محذوف تقديره فضرب موسى عصاه على البحر فانفلق البحر اى النيل فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ من الماء كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الضخم الثابت فى مقره فدخل كل سبط فى شعب من شعابها.
وَأَزْلَفْنا اى قربنا ثمّ فى ذلك المكان الْآخَرِينَ يعنى قوم فرعون.
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحبس البحر عن الجريان الى ان عبروا.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعنى قوم فرعون.
إِنَّ فِي ذلِكَ اى إنجاء موسى ومن معه وإهلاك فرعون وقومه لَآيَةً حجة واضحة على صدق موسى عليه السلام وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر اتباع فرعون مُؤْمِنِينَ قيل لم يكن أمن لموسى من ال فرعون الا آسية امراة فرعون وحزئيل مومن ال فرعون الذي يكتم إيمانه وامرأته ومريم بنت ناموسيا التي دلت على قبر يوسف عليه السّلام.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ فى الانتقام(7/69)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
من أعدائه الرَّحِيمُ باوليائه..
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ اى على اهل مكة عطف قوله إذ نادى ربّك موسى لكونه مقدرا باذكر نَبَأَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ ابراهيم متعلق بمحذوف اى اذكر إذ قال بدل من قوله اتل عليهم لِأَبِيهِ آزر سماه الله أبا لكونه عما ومربيا له وَقَوْمِهِ «1» ما تَعْبُدُونَ سالهم ليريهم ان ما يعبدونه لا يستحق العبادة.
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ أطالوا فى الجواب تبجحا به وافتخارا ونظلّ هاهنا بمعنى ندوم وقال البغوي كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل.
قالَ ابراهيم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ اى هل يسمعون دعاءكم وقال ابن عباس معناه هل يسمعون لكم إِذْ تَدْعُونَ أورد صيغة المضارع مع إذ على حكاية الحال الماضية.
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ على عبادتكم لها أَوْ يَضُرُّونَ من اعرض عنها.
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ يعنون انها لا تسمع قولا ولا تنفع نفعا ولا تدفع ضرّا بل اقتدينا بآبائنا يفعلون مفعول ثان لوجدنا وكذلك صفة لمصدر محذوف ليفعلون يعنى بل وجدنا آباءنا يفعلون فعلا كذلك الفعل اى كفعلنا ذلك.
قالَ ابراهيم أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ همزة الاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على الإقرار والفاء للعطف على محذوف وما استفهامية والجملة الاستفهامية قائمة مقام مفعولى رايتم او موصولة وهى مع صلتها أول مفعولى رايتم والثاني مقدر وتقدير الكلام أتأملتم فرايتم اىّ شىء تعبدون يعنى تعبدون ما لا ينفعكم ولا يضركم تقليدا لابائكم عبثا. او تقديره أتأملتم فرايتم الذي تعبدونه شىء لا ينفعكم ولا يضركم ووصف الآباء بالتقدم للاشعار بان التقدم لا يدل على الصحة ولا ينقلب به الباطل حقا.
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي قرأ نافع وابو عمره وورش «2» بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى ان عبدتهم فانهم عدولى أسند عداوتهم الى نفسه تعريضا واشعارا بانهم اعداء لكم حيث يتضررون بعبادتها فوق ما يتضرر الرجل من عدوه. وهذا دأب الناصح الكريم يبدأ بنفسه والتعريض انفع من التصريح ونظيره قوله تعالى وما لى لا اعبد الّذى فطرنى يعنى ما لكم لا تعبدونه واطلاق العدو على الجمادات مبنى على التجوز اما لوصول الضرر من جهتها او باعتبار ما يؤل الأمر اليه يوم القيامة قال الله سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّا وافراد العدو لانه فى الأصل مصدر على
__________
(1) وليس فى الأصل وقومه
(2) لا وجه لذكر الورش بعد ذكر نافع لعله من سباق القلم- ابو محمد(7/70)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
وزن فعول كالقبول او على معنى ان كل معبود لكم فهو عدولى وقيل يجوز اطلاق العدو والصديق على الواحد والجمع لان كلّ صفة على وزن فعول او فعيل يستعمل كذلك يقال رجل عدو وقوم عدو قال الله تعالى فان كان من قوم عدوّ لّكم وهو مؤمن وقال الله تعالى وكذلك جعلنا لكلّ نبىّ عدوّا شياطين الانس والجنّ إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع كانه قال فانّهم عدوّ لّى لكن ربّ العلمين وليّي وقيل انهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله تعالى فقال ابراهيم كل من تعبدونه عدوّ لّى الّا ربّ العلمين او يقال كان من ابائهم من يعبد الله.
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ فانه يهدى كل مخلوق لما خلق له من امور المعاش والمعاد قال الله والّذى قدّر فهدى هداية مدرجة من مبدا الإيجاد الى منتهى اجله يتمكن بها من جلب المنافع ودفع المضار مبداها بالنسبة الى الإنسان هداية الجنين الى امتصاص دم الطمث من سرة ومنتهاها الى طريق الجنة ولذائذها الموصول مع صلتها صفة لرب العلمين او خبر مبتدا محذوف اى هو الّذى خلقنى او منصوب على المدح والفاء للعطف واختلاف النظم لتقدم الخلق واستمرار الهداية وللموصولات الثلاثة معطوفات عليه او الموصول مبتدا خبره فهو يهدين والفاء للسببيه وقوله.
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ على هذا مبتدا محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا الذان بعده وتكرير الموصول على الوجوه كلها للدلالة على ان كل واحد من الصلات مستقلة لاقتضاء الحكم.
وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ عطفه على يطعمنى ويسقين لكونها من روادفها فان الصحة والمرض فى الغالب يتبعان المأكول والمشروب ولم ينسب المرض الى الله تعالى مع ان المرض والشفاء كلّا منهما بخلقه سبحانه رعاية لحسن الأدب كما قال خضر فاردت ان أعيبها وقال فاراد ربّك ان يّبلغا أشدّهما وأسند الى نفسه هضما ونظرا ال ان ما أصاب الإنسان من مصيبة فيما كسبت يداه ولان المقصود تعديد النعم. وأسند الموت الى الله سبحانه لان الموت من حيث انه لا يحس به لا ضرر فيه وانما الضرر فى مقدماته وهى المرض ولان الموت لاهل الكمال خلاص من انواع المحن ووصلة الى نيل النعم التي يستحقر دونها الحيوة الدنيوية كما قيل الموت جسر يوصل الحبيب الى الحبيب وفى الحديث موت الفجاءة راحة للمؤمن واخذة الأسف للفاجر. رواه احمد والبيهقي بسند حسن عن عائشة مرفوعا وفى الحديث الموت كفارة لكل مسلم. رواه ابو نعيم فى الحلية والبيهقي بسند ضعيف عن انس ولان المريض فى الغالب يحدث بتفريط الإنسان فى مطاعمه ومشاربه ولما بين الاخلاط والأركان من التنافي والتنافر(7/71)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
والصحة انما يحصل باستحفاظ اجتماعها والاعتدال المحفوظ عليها قهرا بقدرة العزيز الحكيم.
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ فى الاخرة.
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ذكر ذلك «1» هضما لنفسه او تعليما لامته ان يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر منها ويطلبوا المغفرة لما صدر عنهم او استغفارا لما فات منه العزيمة وعمل بالرخصة شفقة على أمته كيلا يضيق عليهم نطاق الأمر وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث قوله انّى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم وقوله لسارة هذه أختي كما قال به مجاهد وقوله للكوكب هذا ربى كما قال الحسن زائدا على الثلاث ضعيف لانها معاريض وليست بخطايا والله اعلم روى البغوي عن مسروق عن عائشة انها قالت يا رسول الله ابن جدعان فى الجاهلية كان يصل الرحم ويطعم المساكين فهل كان نافعه قال لا ينفعه ان لم يقل يوما ربّ اغفر لى خطيئتى يوم الدّين- وهذا كله احتجاج من ابراهيم على قومه واشعار بانه من لا يستطيع ان يفعل هذا لا يصلح للالوهية.
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً اى كمالا فى العلم والعمل بحيث يستعد خلافة الحق ورياسة الخلق وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ووفقني الكمال فى العمل حتى انتظم فى سلك الصالحين الّذين لا يشوبهم فساد أصلا وهم الأنبياء المعصومون.
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ يعنى ثناء حسنا وذكرا جميلا مطابقا للواقع وقبولا
__________
(1) قال الامام فخر الدين الرازي فى التفسير الكبير هذا ضعيف لانه ان كان صادقا فى هذا التواضع لزم الاشكال يعنى كون النبي غير معصوم وان كان كاذيا يرجع الجواب الى الحاق المعصية به لاجل تنزهه عن المعصية وايضا لا يجوز ان يكذب نعرض تعليم الامة- قلت قول الرازي هذا ضعيف لانه انما يلزم الكذب والمعصية إذا يرى نفسه بريّا من الذّنب ويقول بلسانه انى مذنب خاطئى وليس كذلك بل الأمر ان الصوفي إذا تم فقره وفناؤه يرى وجوده وكمالاته مستعارة من الله ويرى نفسه عدما محضا منشا للشر حيث قال الله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك فحينئذ إذا قال انى مذنب لا يسمى كاذبا سهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم على رأس الركعتين من الظهر فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسمت يا رسول الله قال كل ذلك لم يكن قال ذو اليدين بعض ذلك قد كان فحاشا ان يكون قوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك لم يكن كذبا او ذنبا لما كان على نسيان فكذا قال المعصوم ربّ اغفر لى خطيئتى بل اولى لانه إنشاء لا يحتمل الكذب ومعنى قولنا هضما لنفسه اى لاجل انهضام نفسه وحال كون نفسه منهضما منكسرا عند شعسعان جلال ربه لا انه يقول ذلك تواضعا مع ما يرى نفسه غير مذنب فيكون كذبا وسنذكر بعض هذا المقال فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم فى تفسير قوله تعالى واستغفر لذنبك 12 منه برد الله مضجعه-(7/72)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
عامّا فى الأمم اللاتي يأتين من بعدي والمعنى يكون لسان الآخرين فى ثنائى صادقا.
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ فى الآخرين.
وَاغْفِرْ لِأَبِي قرأ نافع وابو عمرو وورش «1» بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى اغفره بالهداية والتوفيق للايمان.
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ عن طريق الحق وكان هذا الدعاء قبل ان يتبين له انه عدو لله ولم يقدر له الهداية والايمان قال الله تعالى وكان استغفار ابراهيم لابيه الّا عن مّوعدة وّعدها ايّاه فلمّا تبيّن له انّه عدوّ لله تبرّا منه او لانه لم يمنع بعد الاستغفار للكفار.
وَلا تُخْزِنِي اى لا تفضحنى بمعاتبتي على ما فرطت او ينقص مرتبتى عن مرتبة الصالحين من الخزي بمعنى الهوان او من الخزاية بمعنى الحياء يَوْمَ يُبْعَثُونَ الضمير للعباد لكونهم معلومين او للضالين اخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر انه سئل كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى النجوى قال يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم ثم يقول نعم ثم يقول انى سترتها عليك فى الدنيا وانا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه واما الكافر والمنافق فينادى به على رؤس الاشهاد هؤلاء الّذين كذّبوا على ربّهم الا لعنة الله على الظّالمين.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ اى خالص من الشرك والشك فاما الذنوب فليس يسلم منها أحد قال البغوي هذا قول اكثر المفسرين قال سعيد بن جبير القلب السليم قلب المؤمن وقلب الكافر والمنافق مريض قال ابو عثمان النيشابوري هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن الى السنة يعنى اهل السنة والجماعة يعنى لا ينفع مال ولا بنون أحدا الا مؤمنا فالمستثنى مفرغ فى محل النصب اولا ينفع مال ولا بنون الآمال مومن وبنوه فالمستثنى فى محل الرفع على البدلية والحاصل ان الكافر وان بذل ماله فى صلة الرحم واطعام المساكين لا ينفعه لعدم إسلامه وكذا بنوه وان كانوا صلحاء او أنبياء لا ينفعون آباءهم بالشفاعة او الاستغفار ما كان للنّبىّ والّذين أمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى روى البخاري عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له ابراهيم الم اقل لك لا تعصنى فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب انك وعدتني ان لا تخزنى يوم يبعثون فاى خزى اخزى من ابى الأبعد فيقول الله انى حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا ابراهيم انظر ما تحت رجليك فينظر فاذا بذيخ «2»
__________
(1) ذكر الورس هنا ايضا من سياق قلم. ابو محمد عفا الله عنه-
(2) قوله بذيخ بكسر المعجمة وسكون التحتانية والمعجمة ذكر الضبع الكثير الشعر 12 الفقير الدهلوي.(7/73)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى فى النار فيتبرا منه يومئذ انتهى. واما المؤمن فينفعه ماله الذي أنفقه فى الطاعة وولده بالشفاعة والاستغفار وقيل الاستثناء منقطع والمعنى ولكن سلامة من اتى الله بقلب سليم ينفعه.
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ بحيث يرونها من الموقف فيتججون بانهم للمحشورون.
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ فيرونها مكشوفة ويرون انهم يساقون إليها قال البيضاوي وفى اختلاف القولين ترجيح لجانب الوعد.
وَقِيلَ لَهُمْ اى للغاوين أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعنى اين الذين كنتم تعبدونها وترجون شفاعتها.
مِنْ دُونِ اللَّهِ حال من الضمير المنصوب هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ الاستفهام للانكار والتوبيخ اى هل يمنعونكم من العذاب أَوْ يَنْتَصِرُونَ اى يدفعون العذاب عن أنفسهم بل هم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم.
فَكُبْكِبُوا فِيها قال البغوي قال ابن عباس اى جمعوا وقال مجاهد دهوروا وقال مقاتل قذفوا وقال الزجاج طرح بعضهم على بعض وقال القتيبي القوا على رؤسهم وفى القاموس كبه اى قلّبه وصرحه كاكّبه وكبكبه فاكب وهو لازم يعنى كبّ وكبكب بمعنى واحد وقال البيضاوي كبكب تكرير الكب لتكرير معناه كانّ من القى فى النار ينكب مرّة بعد اخرى حتى يستقر فى قعرها هم يعنى الالهة الباطلة وَالْغاوُونَ اى عابدوها.
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ اى متبعوه من عصاة الثقلين ويقال ذريته أَجْمَعُونَ تأكيد للجنود ان جعل مبتدا خبره ما بعده او للضمير المرفوع فى كبكبوا مع ما عطف عليه.
قالُوا يعنى الغاوون للشياطين والمعبودين وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ حال من فاعل قالوا والضمير المرفوع المنفصل يعود الى العابدين والمعبودين جميعا ينطق الله الأصنام فيخاصمون العبدة.
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة والجملة مقولة قالوا.
إِذْ نُسَوِّيكُمْ ايها المعبودون فى استحقاق العبادة بِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ نسوّيكم متعلق بقوله كنا ويجوز ان يكون الضمير المنفصل وما يعود اليه راجعا الى العبدة فحسب كما فى قالوا بناء على عدم صلاحية الاختصام فى الأصنام والخطاب الى الأصنام وفائدة الخطاب المبالغة فى التحسر والندامة والمعنى انهم مع تخاصمهم فى مبدا ضلالهم معترفون بانهماكهم فى الضلالة فيتحسرون عليها.
وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ قال مقاتل يعنون الشياطين وقال الكلبي الأولين الذين اقتدو بهم
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما ان للمؤمنين شفعاء من النبيين والملائكة وإخوانهم الصالحين.
وَلا صَدِيقٍ اى صادق فى المؤدة جمع الشافع ووحّد الصديق لكثرة الشفعاء فى العادة وقلة الصديق ولان الصديق الواحد يسعى اكثر مما يسعى الشفعاء ولاطلاق الصديق على الجمع كالعدو(7/74)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
كما ذكرنا ان وزن فعول وفعيل يجىء فى الجمع والواحد ولانه فى الأصل مصدر كالجنين والصهيل حَمِيمٍ اى قريب فى القاموس حميم كامير القريب جمعه احماء وقد يكون الحميم للجمع والمؤنث يعنون انه ليس لنا صديق ولا قريب يشفع لنا فان الاخلّاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ الّا المتّقين روى البغوي عن جابر بن عبد الله يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الرجل ليقول فى الجنة ما فعل صديقى فلان وصديقه فى الجحيم فيقول الله تعالى اخرجوا له صديقه الى الجنة فيقول من بقي فما لنا من شافعين ولا صديق حميم قال الحسن استكثروا من الأصدقاء المؤمنين فان لهم شفاعة يوم القيامة
فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً اى رجعة الى الدنيا بتمني للرجعة أقيم فيه لو مقام ليت لاشتراكهما فى معنى التقدير او شرط حذف جوابه يعنى لكان خيرا فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جواب للتمنى او عطف على كرّة
إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما ذكر من قصة ابراهيم لَآيَةً اى لحجة واضحة لمن أراد ان يستبصر بها ويعتبر فانها جاءت على الظم ترتيب واحسن تقرير يتفطن المتأمل فيها لغزارة علمه لما فيها من الاشارة الى اصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها وحسن دعوته للقوم وحسن مخالفته معهم وكمال اشفاقه عليهم وتصوير الأمر فى نفسه واطلاق الوعد والوعيد على سبيل الحكاية تعريضا وايقاظا ليكون ادعى لهم الى الاستماع والقبول وايضا فيه حجة واضحة على صدق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر قومه مُؤْمِنِينَ به
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ القادر على الانتقام الرَّحِيمُ باهمال الكفار لكى يؤمنوا به هم او واحد من ذريتهم. وانعام المؤمنين.
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ القوم مؤنث ولذلك تصغر على قويمة أورد المرسلين بصيغة الجمع والمراد به الجنس يقال يركب فلان الخيل وان لم يكن له إلا فرس واحد او لانهم كانوا ينكرون بعث الرسل وروى عن الحسن البصري انه قيل له يا أبا سعيد ارايت قوله تعالى كذّبت قوم نوح ن المرسلين كذّبت عاد ن المرسلين كذّبت ثمود المرسلين وانما أرسل إليهم رسول واحد قال ان الاخر جاء بما جاء الاول فاذا كذّبوا واحدا كذّبوا الرسل
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ فى النسب لا فى الدين نُوحٌ عطف بيان للاخ أَلا تَتَّقُونَ الله فتتركون عبادة غيره
إِنِّي لَكُمْ لهدايتكم الى ما هو خير لكم رَسُولٌ من الله أَمِينٌ على وحيه مشهور فيكم بالصدق والامانة
فَاتَّقُوا اللَّهَ اجتنبوا من عذابه وَأَطِيعُونِ فيما أمركم به من التوحيد والعبادة لله وحده
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على دعائكم الى الله والنصح مِنْ أَجْرٍ حتى تتّهمونى(7/75)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
فى النصح بالطمع إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وابن عامر وابو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ كرره للتاكيد والتنبيه على ان دلالة كل واحد من أمانته وعدم طبعه مستقلة على وجوب طاعته فيما يدعوهم اليه فكيف إذا اجتمعا
قالُوا يعنى قومه إنكارا عليه أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ حال بتقدير قد قرأ يعقوب اتباعك جمع تابع كشاهد وإشهاد او تبع كبطل وابطال الْأَرْذَلُونَ جمع أرذل على وزن اعور على السلامة فى القاموس وهو الدون الخسيس قال البيضاوي الأقل جاها ومالا قال البغوي السفالة وعن ابن عباس الصاغة قال عكرمة الحاكة والاساكفة وهذا من سخافة عقلهم وقصور رأيهم على حطام الدنيوية حتى جعلوا اتباع المقلين فيها مانعا عن اتباعهم وايمانهم بما يدعوهم اليه ودليلا على بطلانه واشاروا بذلك الى ان اتّباعهم ليس عن نظر وبصيرة وانما هو لتوقع مال ورفعة فلذلك
قالَ نوح وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى انى لا اعلم انهم عملوا ذلك الاتباع إخلاصا لله او طمعا فى رفعة فى الدنيا وما علىّ الا اعتبار الظاهر
إِنْ حِسابُهُمْ يعنى ما حسابهم على بواطنهم إِلَّا عَلى رَبِّي فانّه المطلع عليها لَوْ تَشْعُرُونَ يعنى لو كان لكم شعور لادركتم ذلك ولكن الله عطل مشاعركم عن درك الحق وأعمى بصائركم قال البغوي يعنى لو علمتم ذلك عبدتم لصنائعهم قال الزجاج الصناعات لا يضر فى الديانات
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ جواب لما او هم قولهم من استدعاء طردهم
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كالعلة لعدم الطرد يعنى ما انا الا مبعوث لانذار الناس من عذاب الله ومنعهم عن الكفر والمعاصي ودعوة الخلق الى الله تعالى سواء كانوا أعزاء او أذلاء فكيف يسوغ لى طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء إذ ما علىّ الا انذاركم قال الضحاك انذارا بينا بالبرهان الواضح فلا علىّ ان اطردهم لاسترضائكم
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما نقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المشتومين كذا قال الضحاك او من المقتولين بالحجارة كذا قال مقاتل والكلبي
قالَ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ اظهار لما يدعو الى دعائه عليهم وهو تكذيب الحق لا تخويفهم إياه واستخفافهم به
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً من الفتاحة وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ قرا ورش وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من قصدهم او شوم عملهم
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ اى بعد انجائه والمؤمنين الْباقِينَ من قومه وهم الكافرون
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً شاعت وتواترت وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ(7/76)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ انثه باعتبار القبيلة وهو فى الأصل اسم أبيهم
إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ فى النسب لا فى الدين هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ عذاب الله بالتوحيد وترك الإشراك
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ أمين على الرسالة قال الكلبي أمين فيكم قبل الرسالة يعنى ما كنتم تتهمونى قبل ذلك فكيف تتهمونى اليوم
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن عامر وابو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فان أداء الرسالة طاعة لله تعالى فاجره عليه مسئله لا يجوز أخذ الاجرة على الطاعة والا لا يكون الطاعة طاعة لله تعالى ولا يستحق الاجر من الله تعالى
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ الاستفهام للتوبيخ او التقرير والاستغراق فى كل ريع غير حقيقى بل المراد به الكثير بالكثرة فى نفسها دون الكثرة بالاضافة قال الوالبي عن ابن عباس اى بكل شرف يعنى بكل مكان مرتفع وريع الأرض لنمائها وقال الضحاك ومقاتل بكل طريق وهو رواية العوفى عن ابن عباس وعن مجاهد هو الفج بين الجبلين وعنه ايضا المنظر وفى القاموس الريع بالكسر والفتح المرتفع من الأرض او الطريق المنفرج فى الجبل او الجبل المرتفع او مسيل الوادي من كل مكان مرتفع وبالكسر الصومعة وبرج الحمام آيَةً اى علامة مذكرة للبساتى تَعْبَثُونَ اى تفعلون فعلا لا يفيدكم فى الاخرة بل فى الدنيا ايضا او معنى الاية علامة للمارّة تعبثون ببنائها إذ كانت المارّة يهتدون بالنجوم فى أسفارهم فلا يحتاجون إليها وقيل انهم كانوا يبنون المواضع المرتفعة ليشرفوا على المارّة والسابلة فيسخرون منهم ويعبثون بهم وعن سعيد بن جبير هذا فى بروج الحمام أنكر عليهم هود اتخاذها بدليل قوله تعبثون اى تلعبون وهم كانوا يلعبون بالحمام قلت والظاهر انهم كانوا يبنون قصورا وبروجا وقلاعا تبقى على وجه الأرض بمر الدهور تكون ذلك علامة مذكرة لمن بناه كما هو داب اهل الدنيا يدل عليه قوله تعالى الم تر كيف فعل ربّك بعاد ارم ذات العماد الّتى لم يخلق مثلها فى البلاد وكل ذلك عبث فانكر عليهم هود عليه السلام كما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال إذا أراد الله بعبد شرّا حصر له فى اللبن والطين حتى يبنى. رواه الطبراني بسند جيد من حديث جابر ورواه فى الأوسط من حديث ابى البشر الأنصاري بلفظ إذا أراد الله بعبد هوانا أنفق ماله فى البنيان وقال صلى الله عليه وسلم كل بنيان وبال على صاحبه الا ما كان هكذا. وأشار بكفه رواه الطبراني بسند حسن عن واثلة بن الأسقع وعن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما ونحن معه فراى قبة مشرفة فقال ما هذه قال أصحابه هذه لفلان رجل من الأنصار فكت وحملها(7/77)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
فى نفسه حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم سلّم عليه فى الناس فاعرض عنه صنع ذلك مرارا حتى عرف الرجل الغضب منه والاعراض عنه فشكى ذلك الى أصحابه فقال والله انى لانكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالو اخرج فراى قبتك فرجع الرجل الى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يرها قال ما فعلت القبة قالوا شكى إلينا صاحبها اعراضك عنه فاخبرناه فهدمها فقال اما ان كل بناء وبال على صاحبه الا مالا الا مالا- رواه ابو داود واللفظ له يعنى الا ما لا بد منه وروى احمد وابن ماجة عن انس عنه صلى الله عليه وسلم اما ان كل بناء فهو وبال على صاحبه يوم القيامة الا ما كان فى مسجد او دار ويدل على ما ذكرت قوله تعالى
وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ ماخذ الماء وقصورا مشيدة وحصونا عطف على تبنون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ كانكم تبقون فيها ابدا فتحكمون بنائها (مسئلة) يكره طول الأمل ويستحب قصره عن ابن عمر قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدى فقال كن فى الدنيا كانك غريب او عابر سبيل وعدّ نفسك من اصحاب القبور رواه البخاري وعن عبد الله بن عمرو قال مرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا وأمي نطين شيئا فقال ما هذا يا عبد الله قلت شىء نصلحه قال الأمر اسرع من ذلك- رواه احمد والترمذي وقال هذا حديث غريب وعن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهريق الماء فيتيمم بالتراب فاقول يا رسول الله ان الماء منك قريب فيقول ما يدرينى لعلى لا أبلغه. رواه البغوي فى شرح السنة وابن الجوزي فى كتاب الوفاء
وَإِذا بَطَشْتُمْ أخذتم أخذا بالعنف تعذيبا الظرف متعلق بقوله بَطَشْتُمْ معطوف على تبنون جَبَّارِينَ قتّالين فى غير حق بلا رأفة فى القاموس الجبار المتكبر وقلب لا يدخله رحمة والقتال فى غير حق
فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم اليه فانه انفع لكم
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ كرر الأمر بالتقوى مرتبا على امداد الله إياهم بما يعرفونه من انواع النعم تعليلا له وتغبيها على الواعد بدوام الامداد والوعيد على تركه بالانقطاع ثم فصّل بعض تلك النعم كما فصل بعض مساويهم المدلول عليها اجالا بالإنكار فى الا تتّقون مبالغة فى الاتعاظ والحث على التقوى فقال
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ بدل من امدّكم السابق ثمّ أوعدهم فقال
إِنِّي فتح الياء حرميان وابو عمرو والباقون يسكنونها أَخافُ عَلَيْكُمْ ان عصيتمونى كذا قال ابن عباس عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فى الدنيا او الاخرة فان القادر على الانعام قادر على الانتقام والجملة فى مقام التعليل.(7/78)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
قالُوا يعنى قوم هود فى جوابه سَواءٌ عَلَيْنا مصدر بمعنى المفعول غير مقدم لقوله أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ مبتدا بتأويل المصدر يعنى مستو عندنا وعظك إيانا وعدمه لا نترك ما نحن عليه بوعظك والوعظ كلام يلين القلب بذكر الوعد والوعيد غيّر شق النفي عما يقتضيه المقابلة حيث لم يقل او عظت أم لم تعظ للمبالغة فى عدم اعتدادهم لوعظه
إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ قرأ ابو جعفر وابو عمرو والكسائي ويعقوب بفتح الخاء وسكون اللام يعنى ما هذا الذي جئتنا به من الوعظ الا كذب الأولين واختلاقهم كما فى قوله تعالى وتخلقون إفكا او المعنى ما خلقنا هذا الا خلق الأولين نحيى ونموت مثلهم لا بعث ولا حساب وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وابن كثير «1» بضمتين اى ما هذ الّذى جئتنا به إلا عادة الأولين كانوا يكذبون مثله او ما هذا الّذى نحن عليه من الدين الا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون او ما هذا الذي نحن عليه من الحيوة والموت الا عادة قديمة لم يزل الناس عليها
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه
فَكَذَّبُوهُ تأكيد وتقرير لما سبق من قوله ان هذا الّا خلق الأولين على بعض التأويلات فَأَهْلَكْناهُمْ السبب التكذيب بريح صرصر كما ذكر فى غير هذا الموضع إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فيه اشارة الى انه لو أمن أكثرهم او شطرهم لما أخذوا بالعذاب وان قريشا انما عصموا عن مثله ببركة من أمن منهم قال الله تعالى ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنت الى قوله لعذّبنا الّذين كفروا منهم عذابا أليما
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وابن عامر وابو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا انكار لتركهم فيما انعموا فى الدنيا او تذكير بالنعمة فى تخلية الله إياهم فى اسباب التنعم آمِنِينَ غير خائفين من العذاب ثم فسر ما هاهنا بقوله.
فِي جَنَّاتٍ مع ما عطف عليه بدل من قوله فيما هاهنا وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها اى ثمرتها هَضِيمٌ قال ابن عباس اى لطيف ومنه هضيم الكشح إذا كان لطيفا وروى عطية عنه نافع نضيج وقال عكرمة هو اللين وقال الحسن هو الرخو وقال مجاهد منهشم متفمّت إذا يبس وذلك انه مادام رطبا فهو هضيم فاذا يبس فهو هشيم وقال الضحاك ومقاتل قد ركب
__________
(1) قرأ ابن كثير بفتح الخاء وسكون اللام فعدها فى هذه القراءة سهو 12 ابو محمد عفا الله عنه(7/79)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
بعضها بعضا اى كثير وقال اهل اللغة هو المنضم بعضه الى بعض فى دعائه قبل ان يظهر قال الأزهري هو الداخل بعضه فى بعض وقيل هضيم اى هاضم يهضم الطعام وكل هذا للطافة
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً عطف على قوله امنين لتضمنه معنى الفعل على طريقة فالق الإصباح وجعل اللّيل سكنا والتقدير تأمنون وتنحتون او حال من ضمير امنين بتقدير وأنتم تنحتون فارِهِينَ قرأ نافع «وابو جعفر ويعقوب- ابو محمد» وابن كثير وابو عمرو فرهين وهو ابلغ لانه صفة مشبهة يدل على الدوام والباقون فارهين يعنى حاذقين بنحتها من قولهم فره الرجل فراهة فهو فاره وقال عكرمة معناه ناعمين وقال قتادة معجبين بصنيعكم وقال السدىّ متحيرين وقال الأخفش فرحين والعرب يعاقب بين الحاء والهاء مثل مدحته ومدهته وقال اى شرهبين يعنى حريصين والشّره غلبة الحرص وقال ابو عبيدة مرحين أشرين بطرين وهو الطغيان بالنعمة وعدم قبول الحق تكبرا
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ قال ابن عباس اى المشركين وقال مقاتل هم التسعة الذين عقر والناقة
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي وَلا يُصْلِحُونَ ولا تطيعون الله فيما أمرهم به-
قالُوا يعنى ثمود إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ اى من المسحورين المخذوعين كذا قال مجاهد وقتادة وقال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب يقال سحره اى علله بالطعام والشراب يعنى انك تأكل الطعام والشراب ولست بملك بل
ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فلا أنت بنبي او المعنى انك ذو سحر وهى الرية اى انسان فحينئذ ما أنت الّا بشر مثلنا تأكيد له فَأْتِ بِآيَةٍ دليل على صحة قولا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك- فاخرج الله سبحانه ناقة من الصخرة بدعائه على ما اقترحوا اية على صدقه حتى.
قالَ صالح هذِهِ ناقَةٌ اية صدقى لَها شِرْبٌ اى حظ ونصيب من الماء صفة لناقة وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فاقتصروا على شربكم ولا تزاحموها فى شربها والجملة حال عن الضمير المستكن فى لها شرب. فكانت الناقة تشرب الماء كله فى يوم نوبتها ولا تشرب أصلا فى يوم نوبتهم وهذا دليل على جواز المهاياة
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ اى بضرب وعقر عطف على هذه ناقة فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى يوم عظيم عذابه وهو ابلغ من تعظيم العذاب لان الوقت إذا عظم بسببه كان وقعه من العظمة أشد
فَعَقَرُوها عطف على قال نسب العقر الى الكل مع صدوره من بعضهم لامرهم ورضائهم به وكذلك أخذوا فى العذاب كلهم فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها خوفا من نزول العذاب لا توبة او عند معائنة العذاب حين لا ينفعهم
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود(7/80)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع وابو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها «1» إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ جملة أتأتون بيان او بدل لقوله الا تتقون يعنى أتأتون من دون من عداكم من العلمين الذكر ان تجامعونهم لا يشارككم فيه غيركم او اتأتون الذكر ان بالجماع دون النساء من العلمين من أولاد آدم عليه السلام مع كثرتهم وغلبة النساء فيهم فالمراد بالعلمين على الاول كل من ينكح وعلى الثاني الناس
وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لاجل استمتاعكم مِنْ أَزْواجِكُمْ من للبيان ان أريد بما جنس الإناث وللتبعيض ان أريد به العضو المباح منهن فانهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم ايضا كما تفعله الرافضة- وفيه دليل على حرمة ادبار الزوجات وللملوكات بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ مجاوزون من حد الحلال الى الحرام فى قضاء الشهوة زدتم فى قضائها على سائر الناس بل على الحيوانات او مفرطون فى المعاصي وهذا من جملة ذلك او أحقاء بان توصفوا بالعدوان لارتكاب هذه اللائمة-
قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ جواب قسم محذوف يلوط عما تدعيه او عن فهينا بقبيح أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من قريتنا
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ من المبغضين فابة البغض لا أبالي من الإخراج وهو ابلغ من ان يقول انّى لعملكم قال لدلالته على انه معدود فى زمرتهم مشهور بانه من جملتهم وكذلك قوله بل أنتم قوم عادون مكان تعدون ثم لمّا ظهر عند لوط عدم تأثير دعوته فيهم دعا ربه ان ينجوه من مصاحبتهم ويعافيهم عما يلحقهم من العذاب فقال
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ اى من شومه وعذابه
فَنَجَّيْناهُ عطف على قال المقدر قبل قوله ربّ نجّنى وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ اى اهل بيته ومتبعيه فى دينه بإخراجهم من بينهم وحلول العذاب بهم دونه
إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ مقدرة فى الباقين فى العذاب والهلاك أصابها حجر فى الطريق فاهلكها لانها كانت مائلة الى القوم راضبة بفعلهم وقيل كانت فيمن بقي فى القرية ولم يخرج مع لوط عليه السلام
ثُمَّ دَمَّرْنَا اى أهلكنا الْآخَرِينَ
وَ
__________
(1) وفى الأصل بياض لقدر ربع الصفحة بعد الا تتّقون وكذا بعد وما اسئلكم وكذا بعد بإسكانها 12 [.....](7/81)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قال وهب بن منبه الكبريت والنار
فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ اللام فيه للجنس حتى يصح وقوع المضاف اليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو ممطرهم
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ قرأ ابو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي الأيكة هاهنا فى سورة ص بالهمزة وسكون اللام وكسر التاء والحرميان وابن عامر ليكة بفتح اللام والتاء غير مهموز وهو اسم بلد غير منصرف ولم يختلفوا فى سورة الحجر «1» وق فانهما مهموزتان مكسورتان مع سكون اللام غير ان ورشا يلقى حركة الهمزة على اللام على أصله والايكة الغيضة من الشجر الملتف كانت غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة فبعث الله تعالى إليهم شعيبا كما بعثه الى مدين وكان شعيب من اهل مدين ولم يكن من اصحاب الايكة وكذلك قال
إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل أخوهم شعيب كما قال فى ذكر مدين أخاهم شعيبا لانه كان منهم نسبا
أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ انما كانت دعوة هؤلاء الأنبياء كلهم فيما حكى الله عنهم على صيغة واحدة لاتفاقهم على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص فى العبادة والامتناع من طلب الاجر على الدعوة وتبليغ الرسالة ومن ثم قال الله تعالى انّا أوحينا إليك كما أوحينا الى نوح والنّبيّين من بعده وقال الله تعالى اقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه
أَوْفُوا الْكَيْلَ يعنى اتموه الجملة مع ما عطف عليه بيان للتقوى وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين لحقوق الناس بالتطفيف
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ قرا مرّة «وحفص وخلف ابو محمد» والكسائي بكسر القاف والباقون بضمها وهو الميزان وهو ان كان عربيا فان كان من القسط بمعنى العدل ففعلاع بتكرير العين والا فهو فعلال رباعى الْمُسْتَقِيمِ المستوي الذي لا تطفيف فيه
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ اى لا تنقصوا شيئا من حقوقهم وَلا تَعْثَوْا اى لا تفسدوا فِي الْأَرْضِ بالقنل والغارة وقطع الطريق والنهب وغير ذلك مُفْسِدِينَ يعنى قاصدين الفساد فمن وقع منه نوع فساد بنية الإصلاح كمن رمى كافرا (تترّس بأسير مسلم) بنية الكافر وأصاب الأسير المسلم فلا غرم عليه ومن وقع منه فساد خطأ من غير قصد فهو غير مفسد
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ اى ذوى الجبلة الأولين
__________
(1) وفى للاصل فى سورة الحج وف وهو من سبق قلم لا شك فيه- ابو محمد عفا الله عنه-(7/82)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
يعنى من تقدمهم من الخلائق.
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا الواو للعطف على ما سبق للدلالة على انه جامع بين وصفين متنافيين للوسلة مبالغة فى تكذيبه وجاز ان يكون حالا مما سبق وَإِنْ نَظُنُّكَ يعنى وانا فظنك لَمِنَ الْكاذِبِينَ فى دعواك
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً قرأ حفص هاهنا وفى سبأ بفتح السين والباقون بسكونها اى قطعة مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك
قالَ شعيب رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من نجس الكيل والوزن وغير ذلك وهو يجازيكم عليه إنشاء وليس العذاب الىّ وما علىّ الا الدعوة
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وذلك انه أخذهم حر شديد وكانوا يدخلون الا سراب فاذا دخلوها وجدوها أشد حرّا فاظلهم سحابة وهى الظلة فاجتمعوا إليها فامطرت عليهم نارا فاحترقوا وقد ذكر القصة فى سورة هود إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هذا اخر القصص السبع المذكورة على الاختصار تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمكذبين به.
وَإِنَّهُ اى القران لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ مصدر بمعنى المفعول يعنى منزل من رب العالمين عطف على قوله تلك آيات الكتاب المبين
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ حال بتقدير قد او تأكيد لما سبق او علة لكونة تنزيلا من الله قرأ اهل الحجاز وابو عمرو وحفص نزل بالتخفيف والرّوح الامين بالرفع على الفاعلية يعنى نزل بالقران الرّوح الامين يعنى جبرائيل عليه السلام وهو أمين الله على الوحى الى الأنبياء وقرأ ابن عامر وابو بكر «خلف ويعقوب ابو حمد» وحمزة والكسائي بتشديد الزاء ونصب الروح الامين على المفعولية يعنى نزّل الله جبرئيل بالقران
عَلى قَلْبِكَ يا محمد حتى وعيته والمراد بالقلب هو القلب الصنوبري دون اللطيفة الربانية اللامكانية التي أصلها فوق العرش وبرزتها فى القلب الصنوبري لانه من عالم الأمر وهو لا يحتمل اعياء الوحى والنبوة بل الحامل لها هو القلب الصنوبري الجامع للعناصر والنقش وبرزات عالم الأمر ومن ثم لم يوجد الإيحاء الا بعد كمال البدن او بلوغه أشدّه عند أربعين سنة لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ اى المخوفين عمّا يؤدى الى العذاب من فعل او ترك
بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى قال ابن عباس يعنى بلسان قريش لئلا يكون لهم عذر بانا لم نفهم ما اوحى إلينا متعلق بنزل او بالمنذرين قيل معناه(7/83)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198)
نزل به على قلبك بلسان عربى ولو كان اعجميّا لكان نازلا على سمعك دون قلبك لانك حينئذ تسمع صوتا لا تضهم معناه وقد يكون الرجل عارفا بعدة لغات فاذا كلمه أحد بلغة نشا عليها أحاط قلبه اولا بمعاني الكلام وان كلمه بغيرها كان قلبه اولا متوجها الى ألفاظها ثم فى معانيها فيقول بلسان عربىّ تقرير لقوله نزل على قلبك
وَإِنَّهُ اى ذكر إنزال القران كذا قال اكثر المفسرين وقال مقاتل اى ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وقيل معناه اى القران لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ اى كتبهم وهذه الجملة معطوفة على ما سبق او حال وعلى التأويل الأخير قال بعض الحنفية القران اسم للمعنى فقط لانه لم يكن فى الزبر السابقة بهذا اللفظ العربي قطعا ومن أجل ذلك أجاز ابو حنيفة القراءة فى الصلاة بالفارسي وهذا القول مردود بل القران اسم للنظم والمعنى جميعا حيث قال الله تعالى قرءانا عربيّا فان العربي صفة للنظم ولان القران معجز والاعجاز من خواص النظم ومن أجل ذلك جاز للمجنب ان يقرا ترجمة القران بالفارسي وانما أجاز ابو حنيفة القراءة بالفارسي فى حق جواز الصلاة خاصة لجعله النظم ركنا غير لازم فى الصلاة خاصة رعاية للخضوع وقد رجع ابو حنيفة عن هذا القول وقال بعدم جواز القراءة بالفارسي كما قال صاحباه واكثر الائمة وبه يفتى
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يعرفوا رسولهم ولم يكن لّهم اية على رسالته- قرا ابن عامر تكن بالتاء الفوقانية واية بالرفع على انه اسم كان وخبره لهم وان يعلمه بدل من اية او خبر مبتدا محذوف وجاز ان يكون لم تكن تامة فاعله اية ولهم حال منه وان يعلمه بدل من الفاعل او خبر مبتدا محذوف او يكون فى لم تكن ضمير القصة وان يعلمه مبتدا واية خبره مقدم عليه ولهم حال من اية والعامل معنى الثبوت المستفاد من الحمل والجملة خبر كان- وقرأ الباقون بالياء التحتانية واية منصوب على الخبرية واسمه ان يعلمه ولهم حال من اية أَنْ يَعْلَمَهُ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم بنعته المذكورة فى التورية كما يعرفون أبناءهم او يعلمون القران انه منزل من الله عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ قال عطية كانوا خمسة عبد الله بن سلام وابن يامين وثعلبة واسد وأسيد وقال ابن عباس بعث اهل مكة الى اليهود وهم بالمدينة فسالوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا ان هذا لزمانه وانا لنجد فى التورية نعته وصفته
وَلَوْ نَزَّلْناهُ اى القران عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ هو جمع أعجم وهو الّذى لا يفصح ولا يحسن العربية وان كان عربيّا فى النسب(7/84)
فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
والعجمي هو المنسوب الى العجم وان كان فصيحا بالعربية ومعنى الاية ولو نزّلناه على رجل غير فصيح اللسان بالعربية وقال البيضاوي هو جمع أعجمي على التخفيف ولذالك جمع جمع السلامة يعنى لو كان جمع أعجم لما جاز جمعه للسلامة لان مؤنثه عجماء فان افعل فعلاء لا يجمع جمع السلامة ونظيره اشعرون جمع اشعرى على التخفيف أصله اشعريون والمعنى ولو نزّلنا القران عربيّا كما هو على بعض الأعجمين زيادة فى الاعجاز او بلغة العجم
فَقَرَأَهُ اى الأعجمي عَلَيْهِمْ اى على اهل مكة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ أفرط عنادهم واستكبارهم واستنكافهم من اتباع الأعجمي او لعدم فهمهم يقولون ما نفقه ما تقول نظيره قوله تعالى ولو جعلناه قرءانا اعجميّا لّقالوا لولا فصّلت آياته
كَذلِكَ فى محل النصب بفعل مضمر يفسره ما بعده سَلَكْناهُ الضمير عائد الى الشرك التكذيب المدلول عليه بقوله ما كانوا به مؤمنين كذا قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعنى أدخلنا الشرك والتكذيب فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فيدل الاية على انه بخلق الله تعالى وقيل الضمير للقران اى أدخلنا القران فى قلوبهم فعرفوا معانيه واعجازه ومع ذلك لم يؤمنوا به عنادا
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بالقران بيان لقوله كذلك سلكناه او حال او دليل على ما سبق وفى الاية اخبار بحال من علم الله موته على الشرك حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ الى الايمان وذلك بعد الموت فى القبور
فَيَأْتِيَهُمْ العذاب بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه
فَيَقُولُوا حينئذ تحسرا وناسف هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ الاستفهام للتمنى يتمنون الرجعة والنظرة قال مقاتل لمّا أوعدهم الله سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا الى متى ما توعدنا به ومتى هذا العذاب قال الله تعالى
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره ابوعيدنا لا يستيقنون فبعذابنا يستعجلون وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة وقيل هذا كناية عن قولهم انزل علينا حجارة من السّماء او ائتنا بعذاب اليم وقولهم فاتنا بما تعدنا ولمّا كان استعجالهم العذاب بناء على اعتقادهم انه غير كائن وانهم يتمتعون أعمارا طوالا فى سلامة وأمن أنكر الله تعالى على استعجالهم ثم قال على تقدير التسليم
أَفَرَأَيْتَ الاستفهام للتقرير والفاء للعطف على المحذوف تقديره أتفكرت فرايت يعنى فعلمت إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ كثيرة ولو مدة حيوة الدنيا.(7/85)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ والمعنى انهم إذا راوا العذاب الأليم حين يأتيهم بغتة يقولون هل نحن منظرون ولكنهم لا ينظرون اى لا يمهلون ولو سلمنا إهمالهم فلو تفكرت علمت انا ان متعناهم سنين كثيرة ثم جاءهم ما كانوا يوعدون به من العذاب ما اغنى عنهم تمتيعهم وإهمالهم المتطاول فى دفع العذاب وتخفيفه بل صار التمتع نسيا منسيّا كانهم لم يكونوا فى نعيم قط
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا قرية لَها مُنْذِرُونَ اى رسل انذروا أهلها فلم ير تدعوا
ذِكْرى اى تذكرة ومحلها النصب على العلة او المصدرية لانها فى معنى الانذار او الرفع لانّها صفة منذرون بإضمار ذووا او بجعلهم ذكرى مبالغة لامعائهم فى التذكرة او خبر مبتدا محذوف والجملة اعتراضية وَما كُنَّا ظالِمِينَ
وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ عطف على نزل به الرّوح الامين يعنى ليس كما زعمت المشركون ان الشياطين يلقون القران على محمد صلى الله عليه وسلم.
وَما يَنْبَغِي لَهُمْ اى للشياطين ان يلقوا القران على محمد فان القران هداية والشياطين انماهم دعاة الى الضلال وَما يَسْتَطِيعُونَ ان يلقوا الاخبار بالمغيبات المذكورة فى القران
إِنَّهُمْ اى الشياطين عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة من السماء لَمَعْزُولُونَ اى محجوبون مرجومون بالشهب
فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ تهييج لازدياد الإخلاص ولطف لسائر المكلفين قال ابن عباس رض يحذر به خيره يقول أنت أكرم الخلق علىّ ولو اتخذت الها غيرى لعذبتك
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ الأقرب منهم فالاقرب فانهم اولى باهتمام شأنهم او لنفى التهمة فان الإنسان يساهل قرابته او ليعلموا انه لا يغنى عنهم من الله شيئا وان النجاة فى اتباعه- قال البغوي روى محمد بن إسحاق بسنده عن ابن عباس رض عن على بن ابى طالب رضى الله عنهم انه قال لما نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا على ان الله أمرني ان انذر عشيرتى الأقربين فضقت بذلك ذرعا وعرفت انى متى انذرهم واناديهم بهذا الأمر ارى منهم ما اكره فصمتّ عليها حتى جاءنى جبرئيل فقال يا محمد ان لم تفعل ما تؤمر بعذبك ربك فاصنع لنا صاما من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسا من لبن ثم اجمع لى بنى عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت(7/86)
به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا او ينقصون فيهم أعمامه ابو طالب وحمزة والعباس وابو لهب فلمّا اجتمعوا له دعا بالطعام الذي صنعت فجئت به فلمّا وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذية «1» من اللحم فشقها بأسنانه ثم القاها فى نواحى الصحفة ثم قال خذوا بسم الله فاكل القوم حتى ما بهم حاجة وايم الله وان كان الرجل الواحد ليأكل مثل ما قدمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العش فشربوا حتى رووا جميعا وايم الله الرجل او أحد يشرب مثله فلما راى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يكلمهم «اى سبقه- منه رح» بدره ابو لهب فقال سحركم صاحب كم فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لغديا على ان هذا الرجل قد سبق الى ما علمت من القول فتفرق القوم قبل ان أكلمهم فعدلنا بمثل ما صنعت ثم اجمعهم ففعلت ثم جمعتهم ثم دعانى بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس فاكلوا وشربوا ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بنى عبد المطلب انى قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة وقد أمرني الله ان أدعوكم اليه فأيّكم يوازرنى على امرى ويكون أخي ووصيي وخليفتى فاحجم القوم عنها جميعا فقلت وانا أحدثهم سنّا انا يا نبى الله انا وزيرك عليه فاخذ برقبتى ثم قال ان هذا أخي ووصيي وخليفتى فيكم فاسمعوا له وأطيعوا فقام القوم يضحكون أمرنا ان نسمع لعلى ونطيع وفى الصحيحين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت وانذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع ان يخرج أرسل رسولا فينظر ما هو فجاء ابو لهب وقريش فقال ارايتكم لو أخبرتكم ان خيلا بالوادي يريد ان يغير عليكم أكنتم مصدقى قالوا نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال فانّى نذير لّكم بين يدى عذاب شديد قال ابو لهب تبّا لك سائر اليوم الهذا جمعتنا فنزلت تبّت يدا ابى لهب وتبّ ما اغنى عنه ماله وما كسب الى اخر السورة. وفى الصحيحين عن ابى هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انزل الله وانذر عشيرتك الأقربين قال يا معشر قريش او كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا اغنى عنكم من الله شيئا يا بنى عبد مناف لا اغنى عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب لا اغنى عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا اغنى عنك من الله
__________
(1) وفى القاموس الحذية بالحاء المهملة المكسورة والذال المعجمة الساكنة فالياء ما قطع طولا او القطعة الصغيرة 12 الفقير الدهلوي(7/87)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
شيئا يا فاطمة بنت محمد سلينى ما شئت من مالى لا اغنى عنك من الله شيئا. وذكر البغوي حديث ابن عباس بلفظ لما نزلت وانذر عشيرتك الأقربين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد على الصفا فهتف يا صباحاه فقالوا من هذا فاجتمعوا اليه فقال ارايتم ان أخبرتكم ان خيلا يخرج من صفح هذا الجبل أكنتم مصدقى قالوا ما جربنا عليك كذبا قال انى نذير لّكم بين يدى عذاب شديد قال ابو لهب تبّا لك ما جمعتنا الا لهذا ثم قام فنزلت تبّت يدا ابى لهب قد تبّ هكذا قرأ الأعمش يومئذ. وروى البغوي عن عبد الله بن حمار المجاشعي رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله امر فى ان أعلمكم ما جهلتم عما علمنى يومى هذا وانه قال كل مال نحلته عبادى فهو لهم حلال وانى خلقت عبادى خفاء كلهم فاتتهم الشياطين فاحتالهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وامرتهم ان لا يشركوا بي ما لم انزل به سلطانا وان الله نظر الى اهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من اهل الكتاب وان الله أمرني ان أخوف قريشا فقلت يا رب إذا يثلغوا رأسى حتى يدعوه خبزة فقال بعثت لابتليك وابتلى بك قد أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقراه فى المنام واليقظة فاغزهم تغزك وأنفق تنفق عليك وابعث جيشا غددك بخمسة أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك ثم قال اهل الجنة ثلاثة امام مقسط ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذى قربى ومسلم ورجل غنى عفيف متعفف متصدق واهل النار خمسة الضعيف الذي لا زبر «1» له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون بذلك أهلا ولا مالا ورجل ان أصبح أصبح يخادعك «2» عن أهلك ومالك ورجل لا يخفى له طمع وان دق الا ذهب به والشنظير «3» وذكر البخل والكذب والله اعلم اخرج ابن جرير عن ابن جريح قال لما نزلت وانذر عشيرتك الأقربين بدا باهل بيته فشقّ ذلك على المسلمين فانزل الله تعالى
وَاخْفِضْ جَناحَكَ اى لئنّ جانبك لِمَنِ اتَّبَعَكَ مستعار من خفض الطائر جناحه إذا أراد ان ينحط مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بيان لمن اتّبعك لان من اتّبع أعم ممن اتبع الدين او غيره او للتبعيض على ان المراد بمن اتبعك كمال الاتباع وبالمؤمنين أعم منهم ومن عصاة المؤمنين كما يدل عليه قوله
فَإِنْ عَصَوْكَ فى بعض الأمور فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعنى برئ مما تعملون من المعاصي والسيئات وليس فيه براءة من أنفسهم
وَتَوَكَّلْ قرأ اهل المدينة والشام فتوكّل بالفاء وكذا فى مصاحفهم على انه بدل من قوله فقل انّى برئ ممّا تعملون والباقون بالواو عطفا على قوله واخفض جناحك والتوكل تفويض امره الى غيره
__________
(1) لا زبر له اى لا عقل له يزبره وينهاه عن الاقدام على ما لا ينبغى وروى بعضهم لا زبر لهم بالياء المثناة من تحت فسرده انه لا راى له والمحفوظ بالباء الموحدة 12 منه رحمه الله
(2) وفى الأصل ورجل ان أصبح مخادعك إلخ ولا يستقيم 12 الفقير الدهلوي؟.
(3) وفى مجمع البحار الشنظير بكسر شين وسكون نون الفحاش وهو السيئ الخلق 12 الفقير الدهلوي(7/88)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
وذالا يجوز عقلا وشرعا الا على من كان قادرا على نفعه ودفع الضرر عنه سميعا بأقواله بصيرا بأحواله عليما بعاقبة امره رقيبا عليه ولذلك قال عَلَى الْعَزِيزِ اى الغالب الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه الرَّحِيمِ الذي يرحم عليك وعلى اتباعك
الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
داعيا للناس الى التوحيد ومجاهدا فى سبيل الله او المراد حين تقوم الى الصلاة كذا قال المفسرون
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ عطف على الضمير المنصوب فى يراك يعنى ويرى تقلبك فى صلاتك فى حال قيامك وركوعك وسجودك وقعودك او فى محل تقوم يعنى يراك حين تقوم وحين تقلبك وقال عطية وعكرمة عن ابن عباس فى الساجدين اى فى المصلين وقال مقاتل اى ومع المصلين فى الجماعة يعنى يراك حين تصلى وحدك وحين تصلى مع المصلين فى الجماعة وقال مجاهد يرى تقلب بصرك فى المصلين فانه كان يبصر من خلفه كما كان تبصر من امامه. روى البغوي عن ابى هريرة ان رسول الله صل الله عليه وسلم قال هل ترون قبلتى هاهنا فو الله لا يخفى على خضوعكم انى لاراكم من وراء ظهرى وقال الحسن تقلبك فى الساجدين اى تصرفك فى ذهابك ومجيئك فى أصحابك المؤمنين وقال سعيد بن جبير يعنى وتصرفك فى أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك والساجدون هم الأنبياء وقيل معناه ترودك فى تصفح احوال المتهجدين قال البيضاوي روى انه لما نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله والتلاوة وانما ذكر تقلبه فى الساجدين من أحواله لكونه من اسباب الرحمة المقتضية للتوكل على من يتصف به- وقال عطاء عن ابن عباس أراد تقلبك فى أصلاب الآباء من نبى الى نبى لكن فى هذا التأويل ليس كمال المدح لاشتراك قريش بل جميع الناس فيه بل الاولى ان يقال المراد منه تقلبك من أصلاب الطاهرين الساجدين لله الى أرحام الطاهرات الساجدات ومن أرحام السجدات الى أصلاب الطاهرين اى الموحدين والموحدات حتى يدل على ان اباء النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا مؤمنين كذا قال السيوطي وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي (شعر) : -
وينقل أحد نورا عظيما ... تلألا فى وجوه الساجدين
تقلب فيهم قرنا فقرنا ... الى ان جاء خير المرسلين
وممّا يؤيد هذا التأويل ما رواه البخاري فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه-(7/89)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
وروى مسلم من حديث واثلة بن الا سقع قوله صلى الله عليه وسلم ان الله اصطفى من ولد ابراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة واصطفى من بنى كنانة قريشا واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفائى من بنى هاشم وروى البيهقي فى دلائل النبوة من حديث انس قال ما افترق الناس فرقتين الا جعلنى الله من خيرهما فاخرجت من بين ابوىّ ولم يصبنى شىء من عهد الجاهلية خرجت من نكاح لم اخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت الى ابى وأمي فانا خيركم نفسا وخيركم أبا- وقد صنف السيوطي رحمه الله فى اثبات ايمان اباء النبي صلى الله عليه وسلم اجمالا وتفصيلا كتابا وذكر فيه ما له وما عليه ولخصلت منه رسالة فليرجع إليها
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بأقواله الْعَلِيمُ بأفعاله ونيّاته وعواقب أموره فهو الحقيق بالتوكل.
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ متصل بقوله وما تنزّلت به الشّياطين جوابا عن قولهم تنزل عليه شيطان. ثم بين فقال
تَنَزَّلُ فى الموضعين مضارع من التفعل بإسقاط احدى التاءين عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ كثير الافك اى الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم غير مطيع لله تعالى ففيه بيان ان محمدا لا يصح ان يكون من يتنزل عليه شيطان بوجهين أحدهما انه انما يتنزل على شرير كذاب كثير الإثم لاشتراط التناسب بين المفيض والمستفيض ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك وثانيهما قوله
يُلْقُونَ السَّمْعَ الى الشياطين فيتلقون منهم أشياء فيضمون إليها أشياء على حسب تخيلاتهم لا يطابق أكثرها الواقع وذلك قوله تعالى وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كذلك فانه يخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وكلما يخبر بشئ يطابق الواقع لا محالة والجملة صفة لا ثيم او استيناف عن عائشة قالت سال أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انهم ليسوا بشئ قالوا يا رسول الله فانهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنّى فيقرها «1» فى اذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها اكثر من مائة كذبة متفق عليه وعنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الملائكة تنزل فى العنان وهو السحاب فيذكر الأمر الذي قضى فى السماء فتسترق الشياطين السمع فيسمعه
__________
(1) فيقرها قال فى مجمع البخار القرر وبدك الكلام فى اون المخاطب حتى يفهمه وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته فان ردّدت قلت قرقرت 12 فهو مضاعف من باب النصر الفقير الدهلوي(7/90)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
فيوحيه الى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم رواه البخاري وعن ابى هريرة ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كانه سلسلة على صفوان فاذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا للذى قال الحقّ وهو العلىّ الكبير فسمعها مسترفوا السمع ومسترقا لسمع هكذا بعضه فوق بعض (ووصفه سفيان يكفه فحرفها وبدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها الى من تحته ثم يلقيها الاخر الى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر او الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها وربما يلقيها قبل ان يدركه فيكذب معها مائة كذبه فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا كذا ويوم كذا كذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء رواه البخاري وعن ابن عباس رض عن رجل من الأنصار انهم بيناهم جاوس ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بنجم واستنار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما كنتم تقولون فى الجاهلية إذا رمى مثل هذا قالوا الله ورسوله اعلم كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى امرا سبح جملة العرش ثم سالج اهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح اهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم عمّا قال فيستخبر بعض اهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا فيخطف الجنّ السمع فيقذفون الى أوليائهم ويرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون- رواه مسلم والله اعلم- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس قال تهاجا رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والاخر من قوم آخرين وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فانزل الله تعالى
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ كذا ذكر البغوي عن الضحاك قال وهى رواية عطية عن ابن عباس واخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة نحوه وقال اكثر المفسرين أراد به شعراء الكفار الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر مقاتل أسماءهم فقال عبد الله بن زبير السهمي وهبيرة بن ابى وهب المخزومي وشافع بن عبد مناف وابو عزة عبد الله بن عمر الجمحي وامية بن ابى الصّلت الثقفي فتكلموا بالكذب والباطل وقالوا نحن نقول مثل ما يقول محمد ويقولون اشعار او يجمع إليهم غواة قومهم يسمعون أشعارهم حين يهجون نبى الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيروون عنهم فذلك قوله تعالى والشّعراء يتّبعهم الغاوون هم الرواة الذين يروون هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وقال قتادة ومجاهد الغاوون هم الشياطين وهذه الجملة مستانفة لابطال(7/91)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
كون النبي صلى الله عليه وسلم شاعرا ويقرره قوله تعالى
أَلَمْ تَرَ ايها المخاطب أَنَّهُمْ اى الشعراء فِي كُلِّ وادٍ من اودية الكلام كالمدح والذم والافتخار وبيان الحب والبغض وغيره الك- والوادي نوع من انواع الكلام يقال انا فى واد وأنت فى واد اخر يَهِيمُونَ جملة الم تر تعليل لما سبق والهائم الذاهب على وجهه بحيث لا يقف على حد يعنى يبالغون فى الكلام كل المبالغة لا يبالون الكذب واكثر مقدماتهم خيالية لا حقيقة لها قال قتادة يمدحون بالباطل ويهجون بالباطل وقيل فى كل واد يهيمون اى على كل حرف من حروف الهجاء يصوغون القوافي.
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ اى يكذبون كثيرا فى أشعارهم ولمّا كان اعجاز القران من جهة النظم والمعنى وكانوا يقدحون فى المعنى بانه ممّا تنزّلت به الشّياطين وفى اللفظ بانه من جنس الشعر رد الله سبحانه قولهم ببيان المباينة والمضادة بين حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحال الكهنة والشعراء عن ابى هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لان يمتلى جوف قيحا حتى يفسده خيرا له من ان يمتلى شعرا رواه البخاري ومسلم واحمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وروى عن ابى سعيد الخدري قال بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج «1» إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا الشيطان او أمسكوا الشيطان لان يمتلى جوف رجل قيحا خير له من ان يمتلى شعرا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون «2» قالها ثلاثا. رواه مسلم يعنى الغالون فى الكلام وعن ابى ثعلبة الخشتى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان أحبكم الى وأقربكم منى يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وان أبغضكم الىّ وأبعدكم منى مساويكم أخلاقا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون. رواه البيهقي فى شعب الايمان قال فى النهاية الثرثارون الذين يكثرون الكلام تكلفا وخروجا عن الحق والمتشدقون المتوسعون فى الكلام من غير احتياط واحتراز قلت وهذا صفة الشعراء وروى الترمذي عن جابر نحوه وفى رواية قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتقيهقون قال المتكبرون وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مررت ليلاة اسرى بي بقوم يقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت يا جبرئيل من هؤلاء قال خطباء أمتك الّذى يقولون ما لا يفعلون رواه الترمذي
__________
(1) بالعرج قال فى مجمع البحار العرج بفتح فسكون جبل بطريق مكة وهو أول تهامة 12 الفقير الدهلوي
(2) المتنطعون قال فى مجمع البحار هم المتعمقون الغالون فى الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعمل فى كل تعمق قولا وفعلا 12 الفقير دهلوى(7/92)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
وقال هذا حديث غريب والله اعلم اخرج ابن ابى حاتم عن عروة قال لما نزلت والشّعراء يتّبعهم الغاوون الى قوله ما لا يفعلون قال عبد الله بن رواحة قد علم الله انى منهم فانزل الا الّذين أمنوا الى اخر السورة واخرج هو وابن جرير والحاكم عن ابى الحسن البراد «1» قال لما نزلت والشعراء يتّبعهم الغاوون الاية جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت فقالوا يا رسول الله والله لقد انزل الله هذه الاية وهو يعلم انا شعراء هلكنا فانزل الله الّا الّذين أمنوا الاية فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً «2» اى لم يشغلهم الشعر عن الإكثار فى الذكر ويكون اكثر أشعارهم فى الذكر والتوحيد والثناء على الله والحث على طاعته قال ابو يزيد الذكر الكثير ليس بالعدد لكنه بالحضور وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ولو كان فى كلامهم هجو لاحد أرادوا به الانتصار مما هجاهم ومكافحة هجاء المسلمين روى البغوي فى شرح السنة والمعالم عن كعب بن مالك انه قال للنبى صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى قد انزل فى الشعر ما انزل قال النبي صلى الله عليه وسلم ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والّذى نفسى بيده لكانّما ترمونهم به نضح النبل. وفى الاستيعاب لابن عبد البر انه قال يا رسول الله ماذا ترى فى الشعر قال ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه وروى البغوي عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة فى عمرة القضاء وابن رواحة يمشى بين يدى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفى حرم الله يقول الشعر فقال النبي صلى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر فلمى اسرع فيهم من نضح النبل وفى الصحيحين عن البراء بن عازب قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت اهج المشركين فان جبرئيل معك- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان أجب عنى اللهم أيده بروح القدس- وروى مسلم عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اهجوا قريشا فانه أشد عليهم من رشق النبل. وروى عنها ايضا قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان ان روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هجاهم حسان فشفا وأشفي. وروى البخاري عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرا فى المسجد يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم او ينافح ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ان
__________
(1) هكذا فى الأصل وفى تهذيب التهذيب ابو الحسن مولى بنى نوفل. ابو محمد عفا الله عنه
(2) عن ابن عباس الّا الّذين أمنوا وعملو الصّلحت وذكروا الله كثيرا قال ابو بكر وعمر وعبد الله بن رواحة 14 منه رحمة الله(7/93)
الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح او فاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وروى البغوي عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اهجوا قريشا فانها أشد عليهم من رشق النبل فارسل الى ابن رواحة فقال اهجهم وهاجهم فلم يرض فارسل الى كعب ثم أرسل الى حسان بن ثابت فلمّا دخل عليه حسان قال قد ان لكم ان ترسلوا الى هذا الأسد الضارب بذنبه ثمّ اولع لسانه يحركه فقال والذي بعثك بالحق لافرينهم بلساني فرى الأديم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجل فان أبا بكر اعلم قريش بانسابها وان لى فيهم نسبا حتى يلخص لك فيهم نسبى فاتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله قد لخص لى نسبك فالّذى بعثك بالحق لاسلنك كما يسلى الشعر من العجين قال حسان شعر
هجوت محمّدا فاجبت عنه ... وعند الله فى ذاك الجزاء
هجوت محمّدا برّا حنيفا «1» ... رسول الله شيمته الوفاء
فان ابى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وفاء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
وعن ابن سيرين مرسلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك هبه فانشده فقال لهو أشد عليهم عن وقع النيل.
(فائدة) : - ثبت من هذه الأحاديث ان الشعر لا بأس به ما اجتنب الكذب وأشباهه من المحرمات روى الدار قطنى عن عائشة قالت ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ورواه الشافعي عن عروة مرسلا وذكر البغوي انه قالت عائشة الشعر كلام فمنه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد الا كلّ شىء ما خلا الله باطل. متفق عليه وعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال هل معك من شعر امية بن الصلت شىء قال نعم قال هيه فانشدته بيتا فقال هيه ثم أنشدته بيتا فقال هيه حتى أنشدته مائة بيت. رواه مسلم وعن جندب ان النبي صلى الله عليه وسلم كان فى بعض المشاهد وقد دميت إصبعه فقال
__________
(1) وفى تفسير البغوي تفيا 12 الفقير الدهلوي(7/94)
هل أنت الا إصبع دميت. وفى سبيل الله ما لقيت متفق عليه وعن الشعبي قال كان ابو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان على أشعر الثلاثة- وروى عن ابن عباس انه كان ينشد الشعر فى المسجد ويستنشد فروى انه دعا عمرو بن ربيعة فاستنشده القصيدة أولها شعر
أمن ال نعمى أنت غاد ومبكر ... غدة غدام رائح فمهجر
فانشد ابن ابى ربيعة القصيدة الى آخرها وهى قريب من سبعين بيتا ثم ان ابن عباس أعاد القصيدة جميعا وكان يحفظها بمرة واحدة (فائده) : - الشعر طاعة ان كان فيه ذكر الله او علما من علوم الدين او نصحا ووعظا للمسلمين عن ابى بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من الشعر حكمة رواه البخاري وعن الصخر بن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان من البيان سحرا وان من العلم جهلا وان من الشعر حكما واف من القول عيالا رواه ابو داؤد وعن ابن عباس انّ من البيان سحرا وانّ من الشّعر حكما. رواه ابو داود واحد وقد مرّ فيما سبق ان المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه- وروى ابو داود والنسائي والدارمي عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاهدوا المشركين باموالكم وأنفسكم والسنتكم. وبعد ما ذكر الله سبحانه شعراء المشركين والمسلمين أوعد شعراء المشركين فقال وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا اى أشركوا وهجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيَّ مُنْقَلَبٍ مصدر او ظرف منصوب بما بعده قدمه لاقتضاء الاستفهام صدر الكلام والجملة الاستفهامية قائم مقام المفعولين لسيعلم والاستفهام للتهديد يَنْقَلِبُونَ يعنى اى رجوع اى مرجع يرجعون بعد الموت قال ابن عباس الى جهنم والسعير قال البيضاوي تهديد شديد لما فى سيعلم من الوعيد البليغ وفى الّذين ظلموا من الإطلاق والتعميم وفى اىّ منقلب من الإيهام والتهويل- والمعنى ان الظالمين يطمعون ان ينقلبوا من عذاب وسيعلمون ان ليس لهم وجه من وجوه الانقلاب اخرج ابن ابى حاتم عن عائشة رضى الله عنها قالت كتب ابى فى وصية سطرين بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اوصى ابو بكر بن ابى قحافة عند خروجه من الدنيا حين يومن الكافر ويتقى الفاجر ويصدق الكاذب انى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فان يعدل فذاك ظنى به ورجائى فيه وان يجر ويبدّل فلا اعلم الغيب(7/95)
وسيعلم الّذين ظلموا اىّ منقلب ينقلبون 5 الحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد واله أصحابه أجمعين. قد وقع الفراغ من تفسير سورة الشعراء من التفسير المظهرى يوم الخميس رابع رجب من السنة الخامسة بعد الف ومائتين من الهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام والتحية ونتلوه سورة النمل ان شاء الله تعالى.(7/96)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
سورة النّمل
مكّيّة وهى ثلاث وتسعون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ اشارة الى آيات السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ اى اللوح المحفوظ وإبانته انه خط فيه ما هو كائن فهو تنبيه للناظرين فيه وتأخيره هاهنا باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه فى الحجر باعتبار سبقه على القران فى الكتابة. او المراد به القران المبين للاحكام من الحلال والحرام وغير ذلك ومبين لصحته باعجازه وعطفه على القران كعطف احدى الصفتين على الاخرى وتنكيره للتعظيم. نكر الكتاب هاهنا وعرفه فى الحجر ونكر القران هناك وعرف هاهنا لان القران والكتاب اسمان علمان لما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ووصفان له لانه يقر او يكتب فحيث جاء بلفظ التعريف أريد به العلم وحيث جاء بالتنكير أريد به الوصف.
هُدىً وَبُشْرى منصوبان حالان من القران والعامل فيهما معنى الاشارة او مجروران بدلان منه او مرفوعان خبران آخران لتلك او خبران لمحذوف اى هى هدى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ متعلق بهدى وبشرى على سبيل التنازع او ببشرى فقط يعنى هدى لجميع الحلق فمن لم يهتد فبسوء اختياره وبشرى للمؤمنين خاصة.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يحافظون على فرائضها وسننها وآدابها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ من تمّة الصلة والواو للحال او للعطف وتغير النظم بتقديم المسند اليه على الفعل للدلالة على قوة يقينهم وثباته وقصد الحصر يعنى ما يوقنون بالاخرة(7/97)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
حق الإيقان الا هؤلاء الجامعين بين الايمان والأعمال الصالحة فان الجهد فى الأعمال دليل على ايقانهم. وجاز ان يكون خارجا عن الصلة استينافا كما يدل عليه تغير النظم يعنى الّذين كذلك هم الموقنون لا غير.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة بتسليط النفس وجعلها مشتهاة لها فَهُمْ يَعْمَهُونَ لا يدركون عواقب أمرها جملة زيّنّا خبر لان وقولهم فهم يعمهون معطوف عليها او هذا خبر لان والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط وزيّنّا حال من فاعل لا يؤمنون بتقدير قد وجملة انّ الّذين لا يؤمنون معترضة لبيان حال من نجاست المذكورين.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ فى الدنيا اخبار بما يلحقهم يوم بدر من قتل واسر وذل وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ من غيرهم حيث أكرمهم الله من بين الناس حيث بعث فيهم رسولا من أنفسهم يريد ان يطهرهم ويزكيهم ويوصلهم الى أكرم الكرامات فى الدنيا والاخرة فاختاروا على هذا فى الدنيا القتل والاسر وفى الاخرة النار المؤيدة المؤصدة جملة أولئك الى آخرها وما عطف عليها استيناف لبيان عاقبة أمرهم.
وَإِنَّكَ يا محمد لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ عطف على آيات القران وتنكير الحكيم والعليم للتعظيم يعنى من عند اىّ حكيم واىّ عليم لا يدرك كنه علمه ولا حكمته أحد والجمع بين الوصفين مع ان العلم داخل فى الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل والاشعار بان علوما منها ما هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والاخبار بالمغيبات وهذا تمهيد لما يذكر فيه من القصص منها ما قال.
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ فى مسيره من مدين الى مصر الظرف متعلق باذكر وجاز ان يكون متعلقا بعليم إِنِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها آنَسْتُ اى أبصرت ناراً سَآتِيكُمْ اى امكثوا مكانكم ساتيكم ذكر هاهنا ساتيكم على التيقن وفى القصص لعلىّ اتيكم على الترجي لان الراجي على تقدير حصول رجائه يعد بالإتيان قطعا اشعارا على غرفه وجزمه بما يعدبه وفيه دليل على جواز نقل الحديث بالمعنى وجواز النكاح بغير لفظ النكاح والترويح مما يؤدى معناه مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق لانه قد ضل الطريق والسين للدلالة على بعد المسافة الوعد بالإتيان وان ابطا أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قرأ الكوفيون «ويعقوب- أبو محمد» بالتنوين على ان قَبَسٍ بدل منه اوصف له فان الشهاب شعلة من نار ساطعة والقبس مشعلة يقتبس من معظم النار كذا فى(7/98)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
القاموس. والباقون بلا تنوين باضافة الشهاب الى القبس والاضافة بيانية لجواز اطلاق القبس على الشهاب. وقال البغوي الشهاب والقبس متقاربان فى المعنى فان القبس هو العود الذي أحد طرفيه تار وليس فى طرفه الاخر نار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ افتعال من الصلى وهو الإيقاد بالنار اى راجيا ان تستدفئوا بها من البرد وكان فى شدة الشتاء.
فَلَمَّا جاءَها يعنى لمّا قرب موسى من النار التي راها يقال بلغ فلان المنزل إذا قرب منه وان لم يبلغه بعد نُودِيَ أَنْ بُورِكَ ان مفسرة لما فى النداء معنى القول او التقدير بان بورك على انها مصدرية او مخففة من الثقيلة والتخفيف وان اقتضى التعويض بلا او قد او السين او سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره فى احكام كثيرة مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها روى عن ابن عباس رض وسعيد بن جبير والحسن معناه قدس من فى النّار وهو الله سبحانه على معنى انه تعالى نادى موسى وأسمعه كلامه قيل كان ذلك نوره عزّ وجلّ حسبه موسى نارا فلذلك ذكر موسى بلفظ النار روى مسلم عن ابى موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال ان الله لا ينام ولا ينبغى له ان ينام يخفض القسط ويرفعه برفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفت لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه. وقال سعيد بن جبير كانت النار بعينها وهى احدى حجب الله تعالى كما ورد فى بعض الروايات حجابه النار لو كشفها لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه وعلى هذا التأويل هذه الاية من المتشابهات كقوله تعالى هل ينظرون الّا ان يأتيهم الله فى ظلل من الغمام ولمّا كان فى هذا الكلام إيهام التحيز والتشبيه نزه الله سبحانه نفسه وهو المنزه من كل سوء وعيب فقال وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وروى مجاهد عن ابن عباس انه قال بوركت النار وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رض انه قال سمعت ابيّا يقول ان بوركت النار ومن حولها وكلمة من على هذا زائدة وبورك النار وبورك فى النار معناهما واحد فان العرب يقول بارك الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد والمعنى بورك فى النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى عليه السلام ويسمى النار مباركة كما يسمى البقعة مباركة قال الله تعالى فى البقعة المباركة وقيل معناه بورك من فى طلب النار او من فى مكان النار بحذف المضاف وهو موسى عليه السلام ومن حولها وهم الملائكة الذين حول النار حاضرين هناك فهذه تحية من الله لموسى بالبركة كما حيّا ابراهيم على السنة الملائكة حين دخلوا على ابراهيم فقالوا رحمة الله وبركاته عليكم اهل البيت وقيل من فى النار(7/99)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
هم الملئكة وذلك ان النور الذي راه موسى كان فيه ملائكة لهم رجل بالتسبيح والتحميد والتقديس ومن حولها موسى لانه كان بالقرب منها وقيل من حولها عام شامل لكل من فى ذلك الوادي وحواليهما من ارض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وتصدير الخطاب بذلك بشارة بانه قد قضى له امر عظيم ينتشر بركته فى أقطار الشام وعلى هذه التأويلات قوله تعالى وسبحن الله ربّ العلمين لدفع توهم التشبيه الناشي من سماع كلامه وللتعجيب من عظم ذلك الأمر.
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الضمير الشأن اسم ان وانا الله خبرها او الضمير للمنادى اسمها وانا خبرها والله عطف بيان له والعزيز الحكيم صفتان له ممهدتان لما أراد ان يظهره يعنى انا القوىّ القادر على ما يبعد من الأوهام كتقليب العصا حيّة الفاعل لكل ما يفعله بحكمة وتدبير.
وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على بورك داخل فى حيزان المفسرة يدل عليه قوله تعالى فى غير هذه السورة وان الق عصاك بعد قوله ان يا موسى انّى انا الله بتكرير ان والتقدير نودى هذا المقول وهذا المقول فهو من قبيل عطف المفرد على المفرد وليس من عطف الإنشاء على الخير فَلَمَّا رَآها اى راى موسى عصاه تَهْتَزُّ تتحرك بالاضطراب كَأَنَّها جَانٌّ اى حية خفيفة فى سرعة سيره وكثرة اضطرابه وَلَّى اى هرب موسى من الخوف مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع من عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرار يا مُوسى لا تَخَفْ جملة النداء وما بعده فى محل النصب على تقدير القول يعنى قلنا يا موسى لا تخف من هذه الحية إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ يعنى لاجل قربهم بي واستقرارهم بحضرتي الْمُرْسَلُونَ الجملة فى مقام التعليل لعدم الخوف يعنى الذين يبلغون رسالاتى فانهم يخشوننى وحدي ولا يخشون أحدا غيرى فلا منافاة بين هذه الاية وبين قوله عليه السلام انا أخشاكم بالله او المعنى لا يخافون مطلقا عند نزول الوحى لفرط الاستغراق او المعنى انهم لا يكون لهم سوء عاقبة فيخافون.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ قيل هذا استثناء متصل وفيه اشارة الى موسى حيث قتل القبطي والمعنى لا يخيف الله أنبياءه من أحد غيره الا بذنب أصابه أحدهم والمراد بالظلم الذنب الصغيرة او ترك الأفضل وعلى هذا قوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ يعنى توبة بعد ذنب عطف على ظلم داخل فى الصلة وانما قيد بهذا إيذانا بانه لا يحوز صدور ذنب من الأنبياء وان كانت صغيرة او قبل النبوة الا مستعقبا للتوبة فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ معطوف على بدل تقديره فانى اغفر له وارحمه وقيل قوله ثم بدل الى آخره كلام مبتدا معطوف على محذوف بيان لحال من ظلم من الناس كافة تقديره فمن ظلم ثمّ بدّل حسنا بعد سوء فانّى غفور رّحيم. وقيل الاستثناء منقطع لان المرسلين(7/100)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
لا يجوز منهم الظلم وعلى انقطاعه تقديره لكن من ظلم من الناس وهم غير المرسلين فانهم يخافون غير الله تعالى وقيل هو استدراك لما يختلج فى الصدور من نفى الخوف عن كلهم مع ان فيهم من فرطت منه صغيرة فالتقدير لكن من صدر منه صغيرة منهم فانه وان فعلها فقد اتبعها ما يبطلها واستحق به من الله مغفرة ورحمة فهو ايضا لا يخاف غير الله- لكن هذين التأويلين يقتضيان ان موسى لم يخف من الحية وذلك غير واقع لقوله فلمّا راها- ولّى يدبّرا ولم يعقّب وقوله تعالى فاوجس فى نفسه خيفة موسى الا ان يراد بنفي الخوف من الأنبياء ففى مطلق الخوف منهم لانتقاء سوء العاقبة نظيره قوله تعالى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لكن سوق الكلام يأبى عنه إذ الموجود المنهي عنه انما هو الخوف من الحية وقال بعض العلماء الا هاهنا بمعنى ولا يعنى لا يخاف لدىّ المرسلون ولا المذنبون التائبون اى هم صلحاء المؤمنين فان غير المعصوم لا يخلو عن ذنب لكن من استدرك ذنبه بالتوبة صار كمن لا ذنب له وهذا التأويل ايضا يناسب نفى مطلق الخوف لا خوف غير الله فقط كالتأويلين السابقين «1» .
وَأَدْخِلْ يَدَكَ عطف على الق عصاك فِي جَيْبِكَ اى جيب قميصك وهو طرقه كذا فى القاموس وقيل الجيب هو القميص لانه يجاب اى يقطع قال البغوي قال اهل التفسير كان عليه مدرعة من صوف لاكم لها ولا آزر تَخْرُجْ اى يدك مجزوم فى جواب الأمر بتقدير ان تدخل يدك تخرج بَيْضاءَ نيرة تغلب نور الشمس حال من الضمير المستتر فى تخرج مِنْ غَيْرِ سُوءٍ اى كائنا من غير برص صفة لبيضاء او حال مرادف له او حال من الضمير فى بيضاء فِي تِسْعِ آياتٍ يعنى هاتان آيتان لك فى تسع آيات اى فى جملتها او معها على التسع هى فلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والذم والطمسة والجذب فى بواديهم والفقصان
__________
(1) أقول هذا البحث الطويل لا يجدى شيئا ولا يشفى غليل الذكي للمتفطن والحق ما قاله حكيم الامة المحمدية خاتم المفسرين والمحدثين الولي الكامل الشيخ التهانوى نور الله مرقده فى تفسير المسمى ببيان القران فى تفسير قوله تعالى خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الاولى ما نصه. اور موسى عليه السلام كادر جانا بعض نى كما هى كه طبعى هى جو كسى طرح جلالت شاركى منافى نهين اور بعض نى كها هى كه جو حادثه مخلوق كى جانب سى هواس مين تونه درنا كمال هى جيسى ابراهيم عليه السلام اتش نمرودى سى نهين درى اورجو امر خالق كى طرف سى هواس مين درناهى كمال هى كه وه فى الحقيقة حق تعالى سى درنا هى جيسى هواتيز هونى كى وقت جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم كاگهبرا جانا حديثون مين أيا هى سو چونكه أس تبدل مين مخلوق كاواسطه نه تها أس سى درگئى كه يه كوئى قهر الهى نهو وقال رحمه الله تعالى فى رسالته المسماة بمسائل السلوك من كلام ملك الملوك فى تفسير هذه الآية قال العبد الضعيف فيه بقاء الطبائع فى الكاملين حيث خاف عليه السلام خوفا طبعيا وفيه الأمر بتعديل الطبعيات بالعقليات انتهى فالحاصل وفه عليه السلام كان من الله تعالى الا من غيره او كان طبعيا والمنتهى عنه هو الخوف العقلي فلا منافاة فلا حاجة الى الدفع 12 لفقير الدهلوي(7/101)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
فى مضارعهم ومن عدّ العصا واليد مع التسع عدّ الأخيرين واحدا ولم يعد الفلق لانه لم يبعث به الى فرعون او التقدير اذهب فى تسع آيات على انه استيناف بالإرسال فيتعلق به قوله إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وعلى الأولين تقدير هاهنا مبعوثا او مرسلا على انه حال من فاعل الق وادخل على سبيل التنازع إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للارسال..
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا يعنى جاءهم موسى بها مُبْصِرَةً اى بينة واضحة اسم فاعل بمعنى اسم المفعول اشعارا بانها لفرط وضوحها للابصار صارت بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر او ذات بصر يبصر بها قالُوا يعنى فرعون وقومه هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريته وجملة لمّا جاءتهم معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على نودى تقديره نودى ان الق عصاك وادخل يدك فى جيبك اذهب فى تسع آيات الى فرعون وقومه او مبعوثا إليهم اذهب إليهم فالقى موسى عصاه وادخل يده فى جيبه ثم ذهب الى فرعون قومه فلمّا جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين.
وَجَحَدُوا بِها اى أنكروا بايتنا انّها من عند الله «1» عطف على قالوا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ اى وقد استيقنتها لان الواو الحال والاستيقان ابلغ من الإيقان ظُلْماً وَعُلُوًّا منصوبان على العلة او حالان من فاعل جحدوا يعنى لاجل الظلم والتكبر او ظالمين أنفسهم باستيجارهم النار المؤبدة متكبرين عن الايمان بما جاء به موسى فَانْظُرْ ايها المخاطب نظر استبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف خبر لكان قدم عليه لاقتضائه الصدارة والجملة مفعول لانظر يعنى انظر كيفية عاقبتهم حيث اغرقوا فى الدنيا فادخلوا نارا بعد الموت..
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً بذات الله سبحانه على حسب الطاقة البشرية وبصفاته وأحكامه وبأحوال المبدا والمعاد ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال ولانه الحديد وَقالا شكرا للنعمة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بالنبوة والكتاب وغير ذلك عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ عطفه بالواو اشعارا بان ما قالا بعض ما أتيا به فى مقابلة النعمة فهو معطوف على محذوف تقديره فعلا على حسب ما علما وعرفا حق النعمة وقالا هذا القول ولولا تقدير المحذوف لكان المناسب الفاء موضع الواو كما فى قولك أعطيته
__________
(1) قال البيضاوي رحمة الله تعالى وحجدوا بها اى فى ظاهر أمرهم إلخ فلا يردان الجحود بعد اليقين مستبعد 12 الفقير الدهلوي(7/102)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
نشكر وفى الاية دليل على شرف العلم وكونه موجبا للفضل وتقدم العلماء على من سواهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما انما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ يحظ وافر. رواه احمد والترمذي وابو داود وابن ماجة من حديث كثير بن قيس وسماه الترمذي قيس بن كثير وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم الحديث رواه الترمذي عن ابى امامة الباهلي وفيها تحريض على الشكر على نعمة العلم وعلى ان يتواضع ويعتقد بانه وان فضل على كثير فقد فضل عليه كثير وفوق كلّ ذى علم عليم-.
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ نبوته وملكه وعلمه كذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة واحتجّت الروافض بهذه الاية على ان الأنبياء يورثون كغيرهم وهى حجة عليهم لا لهم لدلالتها على انه ورث سليمان دون سائر أولاد داود وقد كان لداود تسعة عشر ابنا- والإرث عبارة عن ان ينقل شىء الى أحد بعد ما كان لغيره من غير عقد جرى بينهم ولا ما يجرى مجرى العقد سواء كان بينهما قرابة اولا قال الله تعالى وأورثناها بنى إسرائيل وأورثكم ارضهم وديارهم- ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم لا نورث انه لا يملك أحد من الناس مال نبى بعد موته بل يكون ماله موقوفا محبوسا على ملك الله تعالى قال البغوي اعطى سليمان ما أعطي داؤد وزيد له تسخير الريح والشياطين وقال وقال مقاتل كان سليمان أعظم ملكا من داود وأقضي منه وكان داود أشد تعبدا من سليمان وكان سليمان شاكرا لنعم الله قلت وكذا داود وَقالَ سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فيه شكر لنعمة الله عليه ودعاء للناس الى التصديق بذكر المعجزة. والنطق والمنطق عبارة عما يعبر به عما فى الضمير مفردا كان او مركبا فى القاموس نطق ينطق نطقا ومنطقا ونطوقا تكلم بصوت وحروف يعرف بها المعاني ولما كان فهم المعاني للناس منحصرا فيما يتلفظ به الإنسان زعموه من خواص الإنسان. ولمّا كان سليمان عليه السلام يفهم من صوت الطير ما فى ضميرها كما كان يفهم من كلام الإنسان سماه منطقا قال البغوي روى عن كعب قال صاح ورشان عند سليمان فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول. لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاحت فاختة فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال انها تقول ليت هذا الخلق لم يخلق وصلح طاءوس فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول من لا يرحم لا يرحم وصاح صرد فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال انه يقول استغفروا(7/103)
لله يا مذنبون قال وصاحت طيطوى «1» فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال فانها يقول كل هى ميّت وكل جديد بال وصلح خطاف فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال انه يقول قدموا خيرا تجدوه وهدرت حمامة فقال أتدرون ما تقول قالوا لا قال تقول سبحان ربى الا على ملأ سماواته وارضه وصاح قمرى فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول سبحان ربى الا على قال والغراب يدعوا على العشار والحدأة تقول كل شىء هالك الا الله والقسطاة تقول من سكت سلم والببغاء يقول ويل لمن الدنيا همه والضفدع يقول سبحان ربى القدوس والبازي يقول سبحان ربى وبحمده والضفدعة سبحان المذكور بكل لسان. وعن مكحول قال صاح دراج عند سليمان فقال أتدرون ما يقول قالوا لا قال فانه يقول الرحمان على العرش استوى. وعن فرقد السيحى قال مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال أتدرون ما يقول هذا البلبل قالوا الله ونبيه اعلم قال انه يقول أكلت ونصف تمرة فعلى الدنيا العفا- وروى ان جماعة من اليهود قالوا لابن عباس انا سائلون عن سبعة أشياء فان اخبرتنا امنّا صدّقنا قال سلوا تفقها ولا تسئلوا تعنتا قالوا أخبرنا ما يقول القنبر «2» فى صفيره والديك فى صقيعه والضفدع فى نقيفه والحمار فى تهيقه والفرس فى صهيله وماذا يقول الزرزور والدراج. قال نعم اما القنبر فيقول اللهم العن مبغضى محمد ومبغضى ال محمد والديك يقول اذكروا الله يا غافلون والضفدع يقول سبحان المعبود فى لجج البحار واما الحمار فيقول اللهم العن الغشار واما الفرس يقول إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح واما الزرزور يقول اللهم انى أسئلك قوت يوم بيوم واما الدراج يقول الرحمان على العرش استوى فاسلم اليهود وحسن إسلامهم. وروى عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن على عليهم السلام قال إذا صاح النسر قال ابن آدم عشق ما شئت آخره الموت وإذا صاح العقاب قال السلامة فى البعد من الناس وإذا صاح
القنبر قال الهى العن مبغضى ال محمد وإذا صاح الخطاف قرأ الحمد لله ربّ العالمين ويمد الضّالّين كما يمد القاري. قلت ما روى عن كعب شرح أصوات الطيور عن سليمان عليه السلام وكذا ما روى عن مكحول وعن فرقد عنه عليه السلام يحتمل حمله على ان كل واحد منها واقعة هان ولا يدل على انحصار نطقهم فى الكلمات المذكورة وما قص الله تعالى فى هذه السورة قصة النمل والهدهد صريح فى انها تتكلم بكل ماسخ لها لكن ما روى من سوال اليهود وعن ابن عباس رضى الله عنه وجوابه إياهم يدل على انحصار مقالهم فيما ذكر فان صح هذا
__________
(1) طيطوى كنينوى ضرب من القطا او غيره كذا فى القاموس 12 الفقير الدهلوي [.....]
(2) القنبر هكذا فى الأصل قال فى القاموس القبر كشكرّ وصرد طائر الواحدة بهاء ويقال القنبراءة قنابر 12 الفقير الدهلوي(7/104)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
الرواية لزم تأويلها والله اعلم وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ المراد به كثرة ما اولى كما يقال فلان يقصد كل أحد ويعلم كل شىء ومثله وأوتيت من كلّ شىء والضمير فى علّمنا وأوتينا له ولابيه عليهما السلام اوله ولاتباعه فان اتباعه يأخذون منه ما علمه الله وأعطاه اوله وحده تعظيما على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة. وقال ابن عباس المراد كل شىء من امر الدنيا والاخرة وقال مقاتل يعنى النبوة وو الملك وتسخير الشياطين والرياح إِنَّ هذا العطاء لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ يعنى ليس هذا باستحقاق منّا او جزاء لاعمالنا بل تفضل من الله تعالى او المعنى زيادة ظاهرة على من عدانا. وهذا القول وارد على الشكر كقوله صلى الله عليه واله وسلم انا سيد ولد آدم ولا فخر آدم ومن دونه تحت لوائى يوم القيامة امتثالا لقوله تعالى وامّا بنعمة ربّك فحدّث قال البغوي روى ان سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبع مائة سنة وستة أشهر جميع اهل الدنيا الجن والانس والطير والدوابّ والسباع واعطى مع ذلك العلم بمنطق كل شىء وفى زمنه صنعت الصنائع العجيبة.
وَحُشِرَ اى جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فى مسير له فَهُمْ يُوزَعُونَ اى يكفون ويحبسون اى يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وفيه اشارة الى انهم مع كثرتهم لم يكونوا مبعدين. فى القاموس وزعته اى كففته ومنه الوزعة جمع وازع وهم المانعون من المحارم والكلب والزاجر والتوزيع القسمة والتفريق كالايزاع والتوزع وقال مقاتل يوزعون اى يساقون وقال السدىّ يوقضون قال محمد بن كعب كان معسكر سليمان عليه السلام مائة فرسخ خمسة وعشرون منها للجن وخمسة وعشرون منها للانس وخمسة وعشرون منها للطير خمسة وعشرون منها للوحش وكان له الف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاث مائة منكوحة وسبع مائة سرية يأمر الريح العاصف فترفعه ويأمر الرخاء فتسيره فاوحى الله اليه وهو يسير بين السماء والأرض انى قد زدتّ فى ملكك انه لا يتكلم أحد من الخلائق الا جاءت به الريح وأخبرتك.
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ وقف الكسائي بالياء فقال وادي والباقون بغير ياء النَّمْلِ تعدية الإتيان بعلى اما لان إتيانهم كان من عال واما لان المراد قطعه من قولهم اتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره روى عن وهب بن منبه عن كعب كان سليمان إذا ركب حمل اهله وخدمه وحشمه وقد أخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع فى قدر منها عشر جزائر وقد اتخذ ميادين الدواب له امامه فيطبخ الطباخون ويخبز الخيارون ويجرى الدواب من بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوى فسار من إصطخر الى اليمن فسلك مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذه دار هجرة(7/105)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
نبى اخر الزمان طوبى لمن أمن به وطوبى لمن اتبعه وراى حول البيت أصناما تعبد من دون الله فلما جاوز سليمان البيت بكى البيت فاوحى الله الى البيت ما يبكيك فقال يا رب أبكاني ان هذا نبى من أنبيائك وقوم من أوليائك مرو ابى ولم يصلّوا عندى والأصنام تعبد حولى من دونك فاوحى الله اليه ان لاتبك فانى سوف املؤك وجوها سجدا وانزل فيك قرأنا جديدا او ابعث منك نبيا فى اخر الزمان أحب انبيائى واجعل فيك عمارا من خلقى يعبدوننى وافرض على عبادى فريضة يدفون إليك دفيف «الدّفيف السير الغير الشديد كذا فى النهاية منه رح» النسور الى وكرها ويجنون إليك حنين الناقة الى ولدها والحمامة الى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبده الشياطين ثم مضى حتى مرّ بواد السدير واد من الطائف فاتى على واد النمل هكذا قال كعب انه واد بالطائف وقال مقاتل وقتادة هو ارض بالشام وقيل هو واد كان يسكنه الجن وأولئك النمل مراكبهم قال فرق الحميرى كان نمل ذلك الوادي أمثال الذباب وقيل كالبخاتى والمشهور انه النمل الصغير قالَتْ نَمْلَةٌ قال الشعبي كانت تلك النملة ذات جناحين وقيل كانت نملة عرجا وقال الضحاك كان اسمها طاحية وقال مقاتل كان اسمها حذمى يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لم يقل ادخلن لان الإنسان إذا تكلم وهو يرى غيره من الحيوانات غير عاقلة فيجعل لها ضمائر الجمادات كما يجعل للنساء ضمائرها الحاقا اياهن بغير ذوى العقول لضعف عقولهن واما الحيوانات إذا تكلم بعضها بعضا ترى أنفسها من ذوى العقول فتخاطب العقلاء فحكى الله سبحانه قول النملة كما قالت لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ نهى لهم عن الحطم والمراد نهيهن عن التوقف والبروز كيلا يؤدى الى حطمهم اياهن كقولهم لا ارينك هاهنا اى لا تقف هاهنا فهو استيناف او بدل من الأمر لا جواب له فان النون لا تدخله فى السعة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ انهم يحطمونكم ولو شعروا لم يفعلوا كانها شعرت عصمة سليمان وأصحابه من الإيذاء عمدا. فويل للروافض لم يشعروا شعور النملة حتى نسبوا الظلم الى اصحاب سيد الأنبياء- فان قيل كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على نساط بين السماء والأرض قيل كان بعض جنوده ركبانا ومنهم مشاة على الأرض تطوى لهم وقيل يحتمل ان يكون هذا قيل تسخير الريح لسليمان. وقال بعض اهل العرفان معناه لا يحطمنكم اشتغالكم بروية جنود سليمان وطمكه وما أعطاه الله من زهرة الحيوة الدنيا فيشغلكم عن ذكر الله ويهلككم فسمع سليمان قولها من ثلاثة أميال كذا قال مقاتل وذلك لما انه كلما كان يتكلم خلق الا حملت الريح فالقته فى مسامع سليمان.
فَتَبَسَّمَ سليمان عطف على محذوف تقديره فسمع سليمان مقالها وأدرك معناها ففرح بما سمع وأدرك ما لا يسمع ولا يدرك غيره وبوصفها إياه وجنوده بالعدل او تعجب(7/106)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
من حذرها وتحذيرها واهتدائها الى مصالحها فتبسم سرورا او تعجبا ضاحِكاً حال من فاعل تبسم يعنى تبسم مبالغا فى التبسم وأصلا الى الضحك وجاز ان يكون مصدرا اى تبسم تبسما شديدا كانه ضحك على طريقة قمت قائما قال الرجاج اكثر ضحك الأنبياء التبسم وقيل كان اوله التبسم وآخره الضحك. عن عائشة قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ضاحكا مستجمعا حتى ارى لهواته انما كان يتبسم رواه البخاري وعن عبد الله بن الحارث بن جزء ما رايت أحدا اكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي مِنْ قَوْلِها اى لاجل قول النملة فحبس جنوده حتى دخل النمل مساكنهم وَقالَ شكر الله وهضما لنفسه من أداء الشكر واستعانة من الله على شكره رَبِّ أَوْزِعْنِي قرأ ورش والبزي بفتح الياء والباقون بإسكانها والمعنى الهمنى قيل هذا ايضا بمعناه الحقيقي كما ان معناه الحبس والمنع كذا فى القاموس وقال البيضاوي معناه اجعلنى أزع شكر نعمتك عندى اى اكفه وارتبطه لا ينفلت عنى بحيث لا انفك عنه وقال بعض المحققين معناه اجعلنى بحيت أزع اى احبس نفسى عن الكفر وقيل معناه احبس نفسى عن كل شى غيرك أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ فان الانعام على الوالدين وجعل أحد ولدا الخيار الناس نعمة عليه قال الله تعالى الحقنا بهم ذرّيّتهم وما ألتناهم من عملهم من شىء وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ فى بقية عمرى وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي زمرة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس يريد مع ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب ومن بعدهم من الأنبياء.
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ اى طلبها وبحث عنها والتفقد طلب ما فقد فلم يجد فيها الهدهد وكان سبب تفقده ان سليمان كان إذا نزل منزلا تظله جنده الطير من الشمس فأصابته من موضع الماء تحت الأرض كما يرى فى الزجاجة ويعرف قربه وبعده فينقر الأرض فتجئ الشياطين فيسلخونه ويستخرجون الماء. كذا اخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم وصححه عنه قال سعيد بن جبير لما ذكر ابن عباس هذا قال له نافع بن ازرق يا وصاف انظر ما يقول ان الصبى يضع الفخ ويحثو عليه التراب فيجئ الهدهد ولا يبصر الفخ حتى يقع فى عنقه فقال له ابن عباس ويحك ان القدر إذا جاء حال دون البصر. وفى رواية إذا جاء القضاء والقدر ذهب وعمى البصر. فنزل سليمان منزلا فاحتاج الى الماء فطلبوا فلم يجدوا فتفقد الهدهد ليدل على الماء فلم ير الهدهد وظن انه حاضر ولم يره لساتر او غير ذلك فَقالَ هذه الجملة معطوفة على تفقّد الطّير وهى معطوفة على محذوف معطوف على وحشر لسليمان جنوده تقديره وامر الطيور بالاظلال فوقع الشمس على(7/107)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
سريره فنظر وتفقّد الطّير او يقال حشر لسليمان جنوده فنزل منزلا فلم يجد الماء فطلب الهدهد وتفقّد الطّير فقال ما لِيَ قرأ عاصم وابن كثير والكسائي وهشام «وابن وردان بخلاف عنه. ابو محم» بفتح الياء والباقون بإسكانها لا أَرَى الْهُدْهُدَ الاستفهام للتعجب وجملة لا ارى حال من الضمير للمتكلم والعامل فيه معنى التعجب فلما لم يره بعد التفقد ولاح له انه غائب فاضرب عن ذلك وسال عن صحة ما لاح له فقال أَمْ كانَ أم منقطعة بمعنى بل والهمزة يعنى بل أكان الهدهد مِنَ الْغائِبِينَ ولمّا ثبت انه غائب قال.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ليعتبر به أبناء جنسه قيل العذاب الشديد ان ينتف ريشه وذنبه ويلقيه فى الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل ولا من هو أم الأرض وقال مقاتل لاطلينّه بالقطران ولاشمسنّه وقيل لاودعنه القفص وقيل لافرقنّ بينه وبين الفه وقيل لاحبسته مع ضده وقيل اولا لزمنه خدمة اقرانه وكان التعذيب جائزا له عليه السلام أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي قرأ ابن كثير بنونين الاولى مشددة مفتوحة والثانية نون الوقاية والباقون بنون واحدة مشيددة مكسورة بِسُلْطانٍ مُبِينٍ اى بحجة بينة فى غيبته وعذر ظاهر والحلف فى الحقيقة على أحد الاقرين بتقدير عدم الثالث لكن لمّا اقتضى ذلك وقوع أحد الثلاثة ثلّث المحلوف عليه بعطفه عليهما وجاز ان يكون او فى او لياتينّى بمعنى الّا ان كما فى قولك لالزمنك او تعطينى حقى يعنى الا ان تعطينى حقى..
فَمَكَثَ الهدهد قرا عاصم «اى روح ابو محمد» ويعقوب بفتح الكاف والباقون بضمها وهما لغتان غَيْرَ بَعِيدٍ اى مكثا غير طويل او زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا من سليمان على نفسه وكان سبب غيبة الهدهد على ما ذكره العلماء ان سليمان لمّا فرغ من بناء البيت المقدس عزم على الخروج الى ارض الحرم وامام هناك ما شاء الله ان يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين الف كبش وقال لمن حضره من اشراف قومه ان هذا مكان يخرج منه نبىّ عربىّ صفته كذا يعطى النصر على جميع من ناداه ويبلغ هيبته مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء لا تأخذه فى الله لومة لائم قالوا باىّ دين يدين يا نبى الله قال بدين الحنيفة فطوبى لمن أدركه وأمن به فقالوا كم بيننا وبين خروجه قال مقدار الف عام فليبلّغ الشاهد منكم الغائب فانه سيد الأنبياء وخاتم الرسل. قال فاقام بمكة حتى قضى نسكه ثم خرج من مكة وسار صباحا نحو اليمن ووافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فراى أرضا حسنا تزهر خضرتها فاحب النزول بها ويصلى ويتغدّى فلمّا نزل قال الهدهد ان سليمان قد اشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر الى طول الدنيا وعرضها ففعل ذلك(7/108)
فنظر يمينا وشمالا فراى بستانا لبلقيس فسال الى الخضرة فوقع فيه فاذا هو بهدهد فهبط اليه وكان اسم هدهد سليمان يعفور واسم هدهد اليمن عنفير فقال عنفير اليمن ليعفور سليمان من اين أقبلت واين تريد قال أقبلت من الشام مع صاحبى سليمان بن داود فقال من سليمان قال ملك الجن والانس والشياطين والطير والوحوش والرياح فمن اين أنت قال من هذه البلاد قال ومن ملكها قال امراة يقال لها بلقيس وان لصاحبكم ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه ملكة اليمن كلها وتحت يدها اثنى عشر الف قائد تحت يد كل قائد مائة الف مقاتل فهل منطلق معى حتى تنظر الى ملكها قال أخاف ان تفقدنى سليمان فى وقت الصلاة إذا احتاج الى الماء قال الهدهد اليماني ان صاحبك يسره ان تأتيه بخير هذه الملكة فانطلق معه ونظر الى بلقيس وملكها وما رجع الى سليمان الا وقت العصر قال فلمّا نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة وكان نزل على غير الماء فسال الجن والانس والشياطين عن الماء فلم يعلموا فتفقّد الطير ففقد الهدهد فدعا عريف الطير وهو النسر فساله عن الهدهد فقال أصلح الله الملك انا لا أدرى اين هو وما أرسلته فغضب عند ذلك ثم قال لاعذّبنّه عذابا شديدا او لاذبحنّه او لياتينّى بسلطان مبين ثم دعا العقاب سيد الطير فقال علىّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الى الدنيا كالقصعة بين يدى أحدكم ثم التفت يمينا وشمالا فاذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده فلما راى الهدهد ذلك علم ان العقاب يقصده بسوء فناشده الله الذي قواك وأقدرك علىّ الا رحمتنى ولم تتعرض لى بسوء قال قولى عنه العقاب فقال له ويلك ثكلتك أمك ان نبى الله قد حلف ان يعذبك او يذبحك ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلمّا انتهيا الى العسكر تلقاه المنسر والطير فقالوا له ويلك اين غبت فى يومك هذا لقد توعدك نبى الله وأخبره بما قال فقال الهدهد ما استثنى رسول الله قالوا بلى قال او ليايتينّى بسلطان مبين قال فنجوت إذا ثمّ طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه فقال العقاب قد أتيتك به يا نبى الله فلما راه الهدهد رفع راسه وارخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان فلما دنى منه أخذ برأسه فمده اليه فقال له اين كنت لا عذبنك عذابا شديدا فقال الهدهد اذكر وقوفك بين يدى الله عزّ وجلّ فلمّا سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ثم ساله فقال ما الّذى ابطاك عنى فَقالَ الهدهد عطف على محذوف تقديره فانى فقال أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته واستعماله فى غير علم الله سبحانه اما بطريق المجاز او المبالغة والمعنى علمت مستيقنا ما لم تعلم وفى مخاطبته إياه بذلك تنبيه(7/109)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
على ان فى ادنى خلق الله تعالى من أحاط علما ما لم يحط به سليمان ليتحاقر
اليه نفسه ويتصاغر لديه علمه وفيه دليل على بطلان قول الروافض ان الامام لا يخفى عليه شىء ولا يكون فى زمانه اعلم منه وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ اسم بلد باليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة ايام قرأ ابو عمرو والبزي من سبا وبسبا فى سورة سبأ مفتوحة الهمزة بلا تنوين غير منصرف على تأويل البلدة او المدينة وقرأ قنبل ساكنة الهمزة على نية الوقف والباقون بكسر الهمزة والتنوين منصرفا لما كان فى الأصل اسم رجل. قال البغوي جاء فى الحديث ان النبي صلى الله عليه واله وسلم سئل عن سبا فقال كان رجلا له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشام اربعة يعنى ستة منهم أخذوا اليمن وطنا والباقون أخذوا الشام وطنا بِنَبَإٍ يَقِينٍ اى بخبر متيقن قال سليمان وماذك قال.
إِنِّي وَجَدْتُ اى أصبت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ صفة لامراة كان اسمها بلقيس بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان وكان أبوها ملك عظيم عظيم الشأن قد ولده أربعون ملكا وهو فى آخرهم وكان يملك ارض اليمن كلها وكان يقول لملوك الأطراف ليس أحد منكم كفوا لى وابى ان يتزوج فيهم فزوجوه امراة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن فولدت له بلقيس ولم يكن له ولد غيرها. وورد فى الحديث ان احدى أبوي بلقيس كان جنيّا فلمّا مات ابو بلقيس طمعت فى الملك فطلبت من قومها ان يبايعوها فاطاعها قوم وعصاها آخرون فملّكوا عليهم رجلا وافترقوا فرقيتن كل فرقة استولت على طرف من اليمن ثم ان الرجل الّذى ملّكوه أساء السيرة فى اهل مملكته حتى كان يمديده الى حرم رعيته ويفجر بهن فاراد قومه خلعه فلم يقدروا عليه فلما رات بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فارسلت اليه تعرض نفسها عليه وأجابها الملك وقال ما منعنى ان ابتداك بالخطبة الا الياس منك فقالت لا ارغب عنك كفو كريم فاجمع رجال قومى فاخطبنى إليهم فجمعهم وخطبها إليهم فقالوا لا نراها تفعل ذلك فقال لهم انما ابتدأت وانا أحب ان تسمعوا قولها فجاءوها فذكرو لها فقالت نعم أحببت الولد فزوجوها فلمّا زفت اليه خرجت فى أناس كثير من جيشها فلما راته سقته الخمر حتى سكر ثم جزت رأسه وانصرفت من الليل الى منزلها فلمّا أصبح الناس راوا الملك قتيلا ورأسه منصوب على باب داره فطموا ان تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا أنت بهذا الملك أحق من غيرك (حديث) : - روى احمد والبخاري فى الصحيح والترمذي والنسائي عن ابى بكرة رضى الله عنه قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اهل فارس ملّكوا عليهم بنت كسرى قال لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امراة قوله تعالى وَأُوتِيَتْ حال بتقدير قد من فاعل تملكهم مِنْ كُلِّ شَيْءٍ(7/110)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
يحتاج اليه الملوك من الآلة والعدة او المراد به الكثرة كما سبق وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ حال بعد حال اى سرير ضخم كان مضروبا من الذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد عليه سبعة أبيات على كل بيت باب يغلق. روى ابن ابى حاتم عن زهير بن محمد قال سرير من ذهب وصفحتاه موصول بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا فى عرض أربعين ذراعا وقال ابن عباس كان عرش بلقيس ثلاثون ذراعا فى ثلاثين ذراعا وطوله فى السماء ثلاثون ذراعا وقال مقاتل كان طوله ثمانين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا.
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ظرف متعلق بيسجدون وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة من عبادة الشمس وغيرها جملة وزين مع ما عطف عليه حال من فاعل يسجدون بتقدير قد فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ المستقيم فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ اليه عطف على يسجدون.
أَلَّا يَسْجُدُوا قرأ ابو جعفر والكسائي «رويس ابو محمد» الا بالتخفيف على انه حرف تنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف تقديره الا يا هؤلاء اسجدوا قال ابو عبيدة امر مستأنف من الله تعالى وجاز كونه امرا من سليمان لمن حضره وعلى هذا حذفت همزة الوصل فى الدرج والالف من حرف النداء لالتقاء الساكنين فى اللفظ وفى خط مثبتان وإذا قف وقف على الا او على يا وابتدا بقوله اسجدوا وقرأ الباقون الّا يسجدوا بالتشديد لاجل ادغام نون ان المصدرية فى اللام من حرف النفي الداخلة على المضارع وان مع صلته بتقدير حرف الجر متعلق بزين لهم او بصدهم- والمعنى زيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم لئلا يسجدوا لله او يقال ان لا يسجدوا بدل من أعمالهم يعنى زين لهم الشيطان ان لا يسجدوا وجاز ان يكون لا زائدة وان مع صلتها متعلق بلا يهتدون تقديره فهم لا يهتدون ان يسجدوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخبء بمعنى المخبؤ وهو ما خفى غيره وإخراجه إظهاره قال اكثر المفسرين خبء السماوات المطر وخبء الأرض النبات وقيل يريد علم غيب السموات والأرض واللفظ يعم اشراق الكواكب وإنزال المطر وإنبات النبات وإخراج ما فى الشيء من القوة الى الفعل وإخراج ما فى الإمكان والعدم الى الوجوب والوجود ومعلوم انه يختص بالواجب لذاته فهو يستحق بالاستحقاق للسجود دون غيره وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ فى سرائركم وَما تُعْلِنُونَ فيجب الحذر من اشراكه غيره فى العبادة سرّا وعلانية قرأ الكسائي وحفض بالتاء فيهما على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ(7/111)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
الْعَظِيمِ
بدل من الضمير او خبر ثان الله والجملة تعليل لا سجدوا يعنى فهو المستحق للسجود لا غير.
قالَ سليمان للهدهد سَنَنْظُرُ اى سنستعرف مشتق من النظر بمعنى التأمل أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ غيّر النظر ولم يقل أم كذبت للمبالغة (حيث جعلها منسلكا فى الكاذبين معدودا فيهم ويلزمه كونها كاذبا البتة) ورعاية الفواصل. فدلهم الهدهد على الماء فاحتفر والركايا وروى الناس والدواب ثم كتب كتابا. من عبد الله سليمان بن داود الى بلقيس ملكة سبا بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى اما بعد فلا تعلوا علىّ وأتوني مسلمين قال ابن جريج لم يزد سليمان على ما قص الله فى كتابه وقال قتادة كذلك الأنبياء يكتب جملا لا يطيلن ولا يكثرون فلما كتب الكتاب وطبقه بالمسك وختمه بخاتمه قال للهدهد.
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ قرأ ابو عمرو وعاصم وحمزة بإسكان الصاد وابو جعفر ويعقوب باختلاسها كسرا والباقون بإشباع الكسرة إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ اى تنح عَنْهُمْ الى مكان قريب فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ اى ماذا يرجع بعضهم الى بعض من القول وأخذ الهدهد الكتاب واتى به بلقيس وكانت بأرض يقال لها مارب من صنعاء الى ثلاثة ايام فوافاه فى قصرها وقد غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها فاتاها الهدهد وهى نائمة مستلقية قفاها فالقى الكتاب على نحرها كذا اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة- وقال مقاتل حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة والناس ينظرون اليه حتى رفعت المرأة راسها فالقى الكتاب فى حجرها وقال ابن منبه وابن زيد كانت كوة مستقبلة الشمس تقع فيها حين تطلع فاذا نظرت إليها سجدت لها فجاء الهدهد الكوة فسدها بجناحيه فارتفعت الشمس فلم تعلمها فلما استبطأت الشمس قامت تنظر فرم الصحيفة إليها. فاخذت بلقيس الكتاب وكانت قارية فلما رات الخاتم ارتعدت وخضعت لان ملك سليمان كان فى خانمه وعرفت ان الّذى أرسل الكتاب أعظم ملكا منها فقرأت الكتاب وتأخر الهدهد غير بعيد فجاءت ففعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر الف قائد مع كل قائد مائة الف مقاتل وقال ابن عباس كان مع بلقيس مائة الف قيل مع كل قيل مائة الف والقيل الملك دون الملك الأعظم وقال قتادة ومقاتل كان اهل مشورتها ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة الان قال فجاءوا فاخذوا مجالسهم.
قالَتْ لهم بلقيس يا أَيُّهَا الْمَلَأُ وهم اشراف الناس وكبراؤهم(7/112)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
إِنِّي أُلْقِيَ قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء والباقون بإسكانها إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قال عطاء والضحاك سمته كريما لانه كان مختوما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كرامة الكتاب ختمه رواه الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس واخرج ابن مردوية فى القى الىّ كتاب كريم قال مختوم وروى عن ابن جريح كريم اى حسن وهو اختيار الزجاج وروى عن ابن عباس كريم اى شريف لشرف صاحبه قيل سمته كريما لغرابة شانه إذ كانت مستلقية فى بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به وقيل سمته كريما لكونه مصدرا ببسم الله الرحمان الرحيم ثم بينت ممن الكتاب فقالت.
إِنَّهُ اى الكتاب او العنوان مِنْ سُلَيْمانَ ثم بينت ما فيها فقالت وَإِنَّهُ اى المكتوب او المضمون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ان مفسرة او مصدرية وهو لصلته خبر محذوف اى هو او المقصود ان لا تعلوا او بدل من كتاب والمعنى لا تتكبروا ولا تمتنعوا من الاجابة فان ترك الاجابة من العلو والتكبر وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ مؤمنين او منقادين وهذا كلام فى غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدلالة على ذات الصانع وصفاته صريحا والتزاما والنهى عن الترفع الذي هى أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لامهات الفضائل وليس فيه الأمر بالانقياد قبل اقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فان إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلائل..
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي اى أشيروا الىّ فيما عرض لى واجيبونى فيما أشاوركم فيه والفتيا والفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً اى حاكمة بامر حكما قطعيّا يقطع اختيار المحكوم عليه حَتَّى تَشْهَدُونِ اى حتى تحضروني وتشيرونى او تشهدوا على كونه صوابا جملة قالت مع ما فى حيزها بدل اشتمال من قالت السابقة.
قالُوا مجيبين لها نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فى القتال وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ 5 عند الحرب قال مقاتل أرادوا بالقوة كثرة العدد وبالبأس شدة الشجاعة. لما ان الاستشار منها دائرا بين الصلح والقتال وكان القتال أصعب الامرين أجابوا بامتثال أمرها فى القتال على خلاف ما قالت اليهود اذهب أنت وربّك فقاتلا انّا هاهنا قاعدون وهذا يدل على اجابة أمرها فى الصلح بالطريق الاولى ولذلك خيروها فى الامرين حيث قالوا وَالْأَمْرُ فى الصلح والقتال وفى كل شىء موكول إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من المقاتلة والصلح ما استفهامية والجملة بتأويل المفرد مفعول لا نظرى يعنى فانظرى وتاملى حتى يتعين لك أمرك الّذى ينفعك(7/113)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
نطيعك ونتبع رأيك.
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً قهرا وعنوة أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بتهب أموالهم وتخريب ديارهم حتى يستقيم لهم أمرهما حذرتهم من دخول سليمان عليهم قهرا ثم صرحت بالتحذير وقالت وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ يعنى سليمان وجنوده وقيل هذا تأكيد لما وصف من حال الملوك وتقرير بان ذلك من عادتهم الثابتة المستمرة او تصديق من الله لقولها وفى هذا الكلام اشعار بانها ترى الصلح أصلح.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بيان لما يرى تقديمه فى المصالحة والمعنى اتى مرسلة إليهم رسلا بهدية ادفعه بها عن ملكى والهدية اسم لما يهدى به كالعطية اسم لما يعطى قال البغوي أرادت بلقيس بإرسال الهدية اختيار سليمان املك هو أم نبى تعنى ان كان ملكا قبل الهدية وانصرف وان كان نبيّا لم يرض الا بأتباعه على دينه فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فاهدت اليه وصفا ووصائف قال ابن عباس ألبستهم لباسا واحدا لئلا يعرف ذكر من أنثى وقال مجاهد ومقاتل البس الغلمان لباس الجواري والبس الجواري لباس الغلمان واختلفوا فى عددهم قال ابن عباس مائة وصف ومائه وصيفة وقال مجاهد مائتى غلام ومائتى جارية وقال سعيد بن جبير أرسلت اليه بلبنة فى حرير وديباج وقال ثابت البناني أهدت له صعاع الذهب فى اوعية الديباج وقيل كانت اربعة لبنات من ذهب وقال وهب وغيره عمدت بلقيس الى خمس مائة غلام وخمس مائة جارية فالبست الجواري لباس الغلمان الاقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت فى سواعدهم أساور من ذهب وفى أعناقهم اطواقا من ذهب وفى آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بانواع الجمال وحملت الجواري على خمس مائة رمكة والغلمان على خمس مائة برذون على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت اليه خمس مائة لبنة من فضة وتاجا مكلّلا بالدّر والياقوت المرتفع وأرسلت اليه المسك والعنبر والعود الألنجوج وعمدت الى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلا من اشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت اليه رجالا من قومها اصحاب رأى وعقل وكتبت معه كتابا بنسخة الهدية وقالت ان كنت نبيّا فميز بين الوصفة والوصائف واخبر بما فى الحقة قبل ان تفتحها واثقب الدرة ثقبا مستويّا وادخل خيط الخرزة المثقوبة من غير علاج انس ولا جن وأمرت بلقيس الغلمان إذا تكلم لكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري ان تكلمينه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال(7/114)
ثم قالت للرسول انظر الى الرجل فان نظر إليك نظر غضب فاعلم انه ملك ولا يهو لئك منظره فانا أعز منه وان رايت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم انه نبى مرسل فتفهم قوله ورد الجواب فانطلق الرسل بالهدايا واقبل الهدهد مسرما الى سليمان فاخبره كله فامر سليمان الجن ان يضربو البنات الذهب والفضة ففعلوا ثم أمرهم ان يبسطوا من مرضعه الذي هو فيه الى تسع فراسخ ميدانا واحد البنات الذهب والفضة وان يجعلوا حول الميدان حائطا مشرفها من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال اى الدواب احسن ممّا رايتم فى البحر والبر قالوا يا نبى الله انا راينا دوابّا فى بحر كذا منقطعة مختلفة ألوانها لها اجنحة واعراف ونواص قال علىّ بها الساعة فاتوا بها قال شددوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة والقوا علوفها ثم قال للجن علىّ باولادكم فاجتمع خلق كثير فاقام على يمين الميدان ويساره ثم قعد سليمان فى مجلسه على سريره ووضع له اربعة آلاف كرسى عن يمينه ومثله عن يساره فامر الشياطين ان يصفوا صفوفا فراسخ عن يمينه ويساره فلما دنا القوم ونظروا الى ملك سليمان وراوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها قط تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا. وفى بعض الروايات ان سليمان لما امر بفرش لبنات الذهب والفضة أمرهم ان يتركوا على طريقهم موضعا على قدر اللبنات التي معهم فلما را الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض معروضة خافوا ان يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم فى ذلك المكان فلمّا راوا الشياطين نظروا الى منظر عجيب ففزعوا فقال لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم فكانوا يمرّون على كردوس كردوس من الجن والانس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدى سليمان فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق قال ما وراءكم فاخبره رئيس القوم بما جاءوا به وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه فقال اين الحقة فاتى بها فحركها وجاءه جبرئيل فاخبره بما فى الحقة فقال ان فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب فقال الرسول صدقت فاثقب الدرة وادخل الخيط فى الخوزة فقال
سليمان من لى بثقبها فسال سليمان الانس ثم الجن فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سال الشياطين فقالوا ترسل الى الارضة فاخذت شعرة فى فيها فدخلته فيها حتى خرجت من الجانب الاخر فقال لها ما حاجتك فقالت تصير رزقى فى الشجرة فقال لك ذلك وروى انها جاءت رودة فى الصفصاف فقالت انا ادخل الخيط فى الثقب على ان أيكون رزقى فى الصفصاف فجعل لها ذلك فاخذت الخيط فى فيها ودخلت فى الثقب وخرجت من الجانب الاخر فقال سليمان ما حاجتك قالت ان يجعل رزقى فى الفواكه قال لك ذلك ثم(7/115)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
ميّزه بين الجواري والغلمان بان أمرهم ان يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الانية بإحدى يديها ثم تجعل على اليد الاخرى ثم تضرب بها الوجه والغلام كما يأخذ من الانية يضرب به وجهه وكانت الجارية نصب على باطن ساعدها والغلام على ظهر الساعد وكانت الجارية تصب صبّا وكان الغلام يحدر الماء على يده حدرا فميّز بيهن ثم رد سليمان الهدية كما قال الله عزّ وجل هذا ما ذكره البغوي وهو مأخوذ من روايات مختلفة اخرج بعضها ابن ابى حاتم عن السدىّ وبعضها ابن المنذر وابن ابى حاتم عن يزيد بن رومان-.
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ الرسول او ما أهدت اليه قالَ أَتُمِدُّونَنِ قرأ حمزة ويعقوب تمدّونّى بنون واحدة مشددة واثبات ياء المتكلم فى الحالين والباقون بنونين خفيفتين واثبت ابن كثير الياء فى الحالين وأثبتها فى الوصل فقط نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابو عمرو والباقون يحذفو لها فى الحالين بِمالٍ تنوين مال للتحقير والخطاب للرسول ومن معه او للرسول والمرسل على تغليب المخاطب والاستفهام للانكار يعنى لا حاجة لى الى امدادكم ايّاى بالهدية ولا وقع لها عندى فَما آتانِيَ اللَّهُ من الدين والنبوة والحكمة والملك لا مزيد عليه قرأ قالون وحفص وابو عمرو «وقفا ابو محمد» بخلاف عنهم بإثبات الباء مفتوحة فى الوصل «بلا خلاف» ساكنة فى الوقف وورش «وابو جعفر- ابو محمد» بالياء المفتوحة وصلا وحذفها وقفا والباقون بحذف الياء فى الحالين «1» خَيْرٌ اى أفضل مِمَّا آتاكُمْ تطيل الإنكار المذكور بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لانكم لا تعلمون الا ظاهرا من الحيوة الدنيا فتفرحون بما اهديتم حبّا لزيادة أموالكم او بما تهدونه الى غيركم افتخارا على أمثالكم إضراب عن مفهوم ما سبق من الإنكار يعنى لا افرح بل أنتم تفرحون وبيان لما حملهم عليه وهو قياس حاله على حالهم فى قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها. ثم قال للمنذر بن عمرو.
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ يعنى الى بلقيس وقومها فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف والفاء للسببية بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لا طاقة لَهُمْ بِها اى بمقاومتها الجملة صفة لجنود وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها اى من ارضهم أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ اى ذليلون تأكيد لقوله اذلّة وقيل اذلة ضدا عزة وذلك بذهاب عزهم وملكهم والصغار وقوعهم فى الاسر يعنى لنخرجنهم منها ان لم ياتونى مسلمين قال وهب وغيره انه لما رجع رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت الى سليمان انى قادمة إليك بملوك قومى حتى انظر إليك وما تدعوننا اليه من دينك ثم أمرت بعرشها فجعل فى اخر سبعة أبيات بعضها فى بعضها او فى قصر من
__________
(1) قرأ يعقوب وقفا بإثبات الياء الساكنة وقرأو يس وصلا بفتح الياء وروح بالحذف ابو محمد رح.(7/116)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
سبع قصور لها ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما فى قبلك وسرير ملكى لا يخلص اليه أحد ولا برينه حتى اتيك. ثم أمرت مناديا ينادى فى اهل مملكتها يؤذّنهم بالرحيل وشخصت الى سليمان فى اثنى عشر الف قيل من مملوك اليمن تحت يدى كل قيل ألوف كثيرة قال ابن عباس كان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدا بشئ حتى يكون هو الذي يسئل عنه فخرج يومه فجلس على سرير مملكته فراى «الغبار. منه رح» رهجا قريبا منه فقال ما هذا قالو بلقيس قد نزلت منها بهذا المكان وكان على مسيرة فرسخ من سليمان قال ابن عباس وكان بين الحيرة والكوفة قدر فرسخ فاقبل سليمان حينئذ على جنوده و.
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها أراد بذلك ان يريها قدرة الله وعظم سلطانه فى معجزة يأتى بها فى عرشها ويختبر عقلها بان ينكّر عرشها فينظرا تعرفه أم تنكره قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فانها إذا أتت مسلمة لم يحل اخذه الا برضاها.
قالَ عِفْرِيتٌ قال الضحاك هو الخبيث وقال الفراء هو القوىّ الشديد قال ابن قتيبة العفريت الموثق الخلق وأصله من العفر اى التراب يقال عاقره إذا صارعه فالقاه على العافر اى التراب مِنَ الْجِنِّ قال وهب اسمه لوذى وقيل ذكمان وقيل صخر الجنى وكان بمنزلة الجبل يضع قدمه عند منتهى طرف أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ اى مجلسك الّذى تقضى فيه قال ابن عباس له كل غداة مجلس يقضى فيه الى نصف النهار وَإِنِّي عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ على ما فيه من الجواهر هذه الجملة حال من فاعل اتيك قال سليمان انا أريد اسرع من هذا.
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ اخرج ابن ابى حاتم عن ابن لهيعة انه خضر وقال بعضهم هو جبرئيل عليه السلام وقيل هو ملك من الملائكة أيد الله به نبيه سليمان عليه السلام وقال اكثر المفسرين هو اصف بن برخيا وكان صدّيقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى روى جرير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس ان اصف قال لسليمان حين صلى مدّ عينيك حتى ينتهى طرفك فمد سليمان عينيه فنظر نحو اليمن ودعا اصف فبعث الله الملائكة فحملوا السرير تحت الأرض تخد «اى تشق الأرض منه الأخدود. منه رح» خدّا حتى تخرقت الأرض بالسرير بين يدى سليمان وقال الكلبي خرّ اصف ساجدا فدعا باسم الله الأعظم فمال عرشها تحت الأرض حتى نبع عند كرسى سليمان قيل كانت مقدار شهرين واختلفوا فى الدعاء الذي دعا به اصف فقال مجاهد ومقاتل يا ذا الجلال والإكرام وقال الكلبي يا حى يا قيوم وروى ذلك عن عائشة رضى الله(7/117)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
عنها وروى عن الزهري قال دعاء الذي عنده علم الكتاب يا الهنا واله كل شىء الها واحدا لا اله الا أنت ايتني بعرشها. وقد بحثنا عن اسم الله الأعظم فى صدر سورة ال عمران وقول الزهري يوافق ما اخترت وقال محمد بن المنكدر الّذى عنده علم من الكتاب هو سليمان عليه السلام نفسه أتاه الله علما وفهما فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وان هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب فى أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت كانه أراد اظهار معجزة فنحدّاهم اولا فلمّا قال عفريت ما قال استبطأه فقال له ذلك وأراد به انه يتاتى له ما لا يتهيا لعفاريت عن الحسن فضلا عن غيرهم والمراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة او اللوح واتيك فى الموضعين صالح للفعلية والاسمية والطرف تحريك الأجفان للنظر ولمّا كان الناظر يوصف بإرسال الطرف وصف بردّ الطرف والطرف بالارتداد والمعنى انك ترسل طرفك نحو شىء فقيل ان ترده احضر عرشها وهذا غاية الاسراع ومثّل فيه.
فَلَمَّا رَآهُ سليمان معطوف على محذوف تقديره فامره سليمان بالإتيان بالسرير فدعا باسم الله الأعظم فمال عرشها تحت الأرض فنبع عند سرير سليمان فلما راه مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ شكرا للنعمة كما هو دأب المخلصين من عباد الله هذا اى التمكن من إحضار العرش فى مدة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه او غيره مِنْ فَضْلِ رَبِّي اى بعض افضاله علىّ لِيَبْلُوَنِي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمّد» بفتح الياء والباقون بإسكانها اى فضل علىّ لاجل ابتلائى أَأَشْكُرُ نعمة فاراه فضلا من الله من غير حول منى ولا قوة وأقوم بحقه أَمْ أَكْفُرُ بان أجد نفسى أهلا لها او اقصر فى أداء موجبه ومحلهما النصب على البدل من الضمير المنصوب فى ليبلونى وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لانه به يستحب دوام النعمة ومزيدها فان الشكر قيد النعمة الموجودة وصيد النعمة المفقودة وبه يفرغ ذمته عن الواجب ويرتفع درجته عند الله تعالى ويستحق اجرا فى دار الجزاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر- رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن ابى هريرة ورواه احمد وابن ماجة بسند صحيح عن سنان بن سنة بلفظ الطاعم الشاكر له مثل اجر الصائم الصابر وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ ينعم على الشاكر والكافر جواب الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره ومن كفر فلا يضر ربى لانه غنى كريم.
قالَ سليمان نَكِّرُوا لَها اى لبلقيس عَرْشَها يعنى اجعلوها بحيث لا تعرفها إذا رأت روى(7/118)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
انه جعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأحمر الأخضر ومكان الأخضر الأحمر نَنْظُرْ مجذوم على جواب الأمر أَتَهْتَدِي الى معرفته او للجواب الصواب أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ وانما حمل سليمان على ذلك (على ما ذكره كعب ووهب وغيرهما) ان الشياطين خافت ان يتزوجها سليمان فتفشى اليه اسرار الجن لان أمها كانت جنيّة وإذا ولدت ولدا لا ينفكون من تسخير ولده وذريته من بعده فاساء والثناء عليها ليزهدوه فيها وقالوا ان فى عقلها شيئا وان رجليها كحافر الحمار وانها شعراء الساقين فاراد سليمان ان يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر الى قدمها ببناء الصرح.
فَلَمَّا جاءَتْ عطف على قوله فلمّا جاء سليمان قال أتمدّونن بمال وما بينهما معترضات قِيلَ لها أَهكَذا عَرْشُكِ شبّه الأمر عليها زيادة فى امتحان عقلها قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ قال مقاتل عرفته ولكنها شبّهت عليهم كما شبّهوا عليها وقيل اشتبه الأمر عليها فلم يقل نعم ولا لاخوفا من الكذب فعرف سليمان عقلها حيث لم تقر ولم تنكر. وقيل لها فانه عرشك فما اغنى عنك إغلاق الأبواب والحرس فقالت وَأُوتِينَا الْعِلْمَ بكمال قدره الله وصحة نبوة سليمان مِنْ قَبْلِها اى قبل اية العرش بايات اخر من إلقاء هدهد الكتاب وامر الهدية والرسل وقيل انه من كلام سليمان عليه السلام وقومه عطفه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله تعالى ورسله جوّزت ان يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا وإحضاره ثمه من المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله ولا يظهر الا على أيدي الأنبياء عليهم السلام والمعنى وأوتينا العلم بالله تعالى وقدرته وصحة ما جاء من عنده قبلها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لحكمه لم نزل على دينه ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم فى ذلك شكرا له وقيل معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله عزّ وجلّ.
وَصَدَّها اى منعها سليمان عليه السلام ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى عن عبادة الشمس فما فى محل النصب بحذف حرف الجر وإيصال الفعل اليه وقيل ما فى محل الرفع والمعنى وصدّها عن التوحيد ما كانت تعبد من دون الله لا نقصان عقلها كما قالت الجن ان فى عقلها شيئا إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ استيناف اخبر الله تعالى انها كانت من قوم تعبد الشمس فنشات فيهم ولم تعرف الا عبادة الشمس.
ثم أراد سليمان ان ينظر الى قدميها وساقيها من غير ان يسئلها كشفها لما قالت الشياطين(7/119)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
ان رجليها كحافر الحمار وهى شعراء الساقين فامر الشياطين ان يبنوا له صرحا اى قصرا من زجاج وقيل بيتا من زجاج كانه الماء بياضا وقيل الصرح صحن الدار والحضري تحته الماء والقى فيه كل شىء من دوابّ البحر السمك والضفادع وغيرهما. ثم وضع سريره على صدره وجلس عليه وعكفت عليه الطير والانس والجن وقيل اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل الحيطان والضفادع فكان إذا راه أحد ظنّه الماء. فلما جلس على السرير دعا بلقيس فلمّا جاءت.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ
عطف على محذوف تقديره فدخلته يعنى من الباب ورأته اى الصرح بلا حجاب قبل ورودها فلمّا راته سِبَتْهُ لُجَّةً
من ماء كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لتخوضه قرا قنبل عن ساقيها هاهنا وفى ص بالسّؤق وفى الفتح على سؤقه بالهمزة فى الثلاثة- والباقون بغير همزة اخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم فى حديث طويل عن ابن عباس ان سليمان امر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج ابيض واجرى من تحته الماء والقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره فى صدره فجلس عليه فلما بصرته ظنته ماء راكدا فكشف عن ساقيها لتخوضه وتخلص الى سليمان فنظر سليمان فاذا هى احسن الناس ساقا وقد ما الا انها شعراء الساقين فلمّا راى سليمان ذلك صر بصره عنها ومن هاهنا يظهر ان النظر الى الاجنبية على ارادة خطبة النكاح جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع ان ينظر الى ما يدعوه الى نكاحها فليفعل- رواه ابو داود عن جابر وروى احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدار هى عن مغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكماالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
اى مملس ومنه الأمرنْ قَوارِيرَ
من زجاج الَتْ
حين رات المعجزة من سليمان بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بالكفر وعبادة الشمس فتبت عنه الان أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
اى أخلصت له التوحيد وقيل انها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت فى نفسها ان سليمان يريد ان يغرقها وكان القتل أهون من هذا فقالت انّى ظلمت نفسى بذلك الظن لسليمان عليه السلام فتبت عنه وأسلمت- واختلفوا فى أمرها بعد إسلامها فقال عون بن عبد الله سال رجل عبد الله بن عيينة هل تزوجها سليمان قال انتهى أمرها الى قولها وأسلمت مع سليمان لله ربّ العلمين يعنى لا علم لنا وراء ذلك وقال بعضهم تزوجها أخرجه ابن عساكر عن عكرمة ولما أراد ان يتزوجها كره ما راى من كثرة شعر ساقيها فسال الانس(7/120)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
ما يذهب هذا قالوا الموسى فقالت المرأة لم تمسنى حديدة قط فكره سليمان الموسى وقال انه يقطع فسال الجن فقالوا لا ندرى ثم سال الشياطين فقالوا انا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ فلمّا تزوجها سليمان أحبها حبّا شديدا فاقرها على ملكها وامر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا وهى سلحون وسنون وعمد ان ثم كان سليمان يزورها كل شهر مرة بعد ان ردها الى ملكها يقيم عندها ثلاثة ايام يبتكر من الشام الى اليمن ومن اليمن الى الشام وولد له منها ذكر وروى عن وهب قال زعموا ان بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك أزوجكه قالت ومثلى يا نبى الله تنكح الرجال وقد كان لى فى قومى من الملك والسلطان ما كان قال نعم انه لا يكون فى الإسلام الا ذلك ولا ينبغى لك ان تحرمى ما أحل الله لك فقالت زوجنى ان كان لا بد ذلك من ذى تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها الى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا رديعه امير جن اليمن فقال اعمل لذى تبع ما استعملك فيه فلم تزل ملكا يعمل له فيه ما أراد حتى مات سليمان فلما ان حال الحول وتبينت الجن موت سليمان اقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان فى جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن ان ملك سليمان قد مات فارفعوا ايديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذى تبع وملك بلقيس مع ملك سليمن- قلت نظر سليمان الى ساق بلقيس يؤيد قول من قال انه نكحها ويأبى قول من قال انه انكحها ذا تبع والله اعلم قيل ان الملك وصل الى سليمان وهو ابن ثلاث عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة سبحان الله من لا زوال لملكه- شعر
لا ملك سليمان ولا بلقيس ... لا آدم فى الكون ولا إبليس
والكل فصورة وأنت المعنى ... يا من هو للقلوب مقناطيس والله اعلم.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً جواب قسم محذوف وهذه الجملة معطوفة على قوله تعالى ولقد اتينا داود وسليمان وقوله صالحا بدل من أخاهم أَنِ مفسرة لارسلنا او مصدرية بتقدير الباء اى بان اعْبُدُوا اللَّهَ وحده فَإِذا هُمْ مبتدا خبره فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ صفة لفريقين اى ففاجرا التفرق والاختصام فامن فريق وكفر فريق والواو فى يختصمون لمجموع الفريقين قال اختصامهم ما ذكر فى سورة الأعراف قال الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا الى قوله ان كنت من المرسلين.
قالَ لهم صالح يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ اى بالعقوبة حيث تقولون يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين قَبْلَ الْحَسَنَةِ اى قبل التوبة حيث(7/121)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
تاخرونها الى نزول العذاب الاستفهام للانكار والتوبيخ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ بالتوبة من كفركم قبل نزول العذاب لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اى لكى ترحموا بقبولها فانها لا تقبل بعد ما ترون العذاب.
قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ اى تشامنا بكم إذ وقع بيننا الافتراق حين اخترعتم دينا او تتابع علينا الشدائد وامسك عنا المطر قالوا هذه الضراء والشدة من شومك وشوم أصحابك قالَ طائِرُكُمْ اى شومكم يعنى سبب شومكم الذي جاء منه شر عِنْدَ اللَّهِ وهو قضاؤه او عملكم المكتوب عنده سمى القضاء طائرا لسرعة نزوله بالإنسان فانه لا شىء اسرع من قضاء مختوم وسمى العمل طائرا لسرعة صعوده الى السماء وقال ابن عباس طائركم عند الله يعنى شومكم أتاكم من عند الله لكفركم وقيل سمى الشوم طائرا لان اهل الجاهلية كانوا يتشامون بصوت الطائر ومروره على تهج معين معروف عندهم إذا سافروا المستعير لفظ الطائر للشوم لذلك العرف بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضراب عن مفهوم الكلام السابق يعنى ليس طائركم منى ومن أصحابي بل أنتم تفتنون اى تعذبون بكفركم كذا قال محمد بن كعب وقال ابن عباس تختبرون بالخير والشر نظيره قوله تعالى ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنة.
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ اى مدينة ثمود وهى الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ اى تسعة انفس وقع الرهط تميز للتسعة باعتبار المعنى فان معناه الجماعة من الثلاثة او السبعة الى العشرة كما ان النفر من الثلاثة الى التسعة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ خبر لكان واسمه تسعة رهط وفى المدينة حال منه او ظرف وَلا يُصْلِحُونَ يعنى كان شانهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح وهم أبناء الشر افهم الذين اتفقوا على عقر الناقة وهم غواة قوم صالح واشقياهم وأشقاهم قزار بن سالف وهو الذي تولى عقرها.
قالُوا استيناف او حال بتقدير قد يعنى قال بعضهم لبعض تَقاسَمُوا يعنى تحالفوا بالله هو امر مقولة قالوا او فعل ماضى وقع بدلا من قالوا او حال بإضمار قد من فاعل قالوا لَنُبَيِّتَنَّهُ اى لنقتلن صالحا بياتا اى ليلا وَأَهْلَهُ اى قومه الذين اسلموا به ثُمَّ لَنَقُولَنَّ قرأ الأعمش و «خلف- ابو محمد و» حمزة والكسائي لتبيّننّه ولتقوّلنّ بالتاء للخطاب فيما بينهم فيهما وضم التاء الثانية فى الاولى وضم اللام فى الثانية لدلالتها على الواو المحذوفة للجمع والباقون بالنون للتكلم وفتح التاء واللام لِوَلِيِّهِ لولى دمه ما شَهِدْنا اى ما حضرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ قرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام من الإهلاك يحتمل للمصدر والزمان والمكان وكذا على قراءة حفص بفتح الميم وكسر اللام من الهلاك فان مفعلا قد جاء مصدرا لمرجع وقرأ ابو بكر بالفتح فيكون مصدرا وَإِنَّا لَصادِقُونَ يعنى ونحلف(7/122)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
انّا لصادقون او والحال انّا لصادقون فيما ذكر لان الشاهد للشئ غير المباشر له عرفا او لانا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رايت ثم رجلا بل رجلين..
وَمَكَرُوا مَكْراً اى غدروا غدرا حيث قصدوا تبييت صالح وَمَكَرْنا مَكْراً بان جعلناها سببا لاهلاكهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من فاعل مكرنا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ عاقبة اسم كان وكيف خبره مقدم عليه لصدارته والاستفهام للتعجب. والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر أَنَّا دَمَّرْناهُمْ قرأ الكوفيون ويعقوب انّا بفتح الهمزة على انه خبر مبتدا محذوف او بدل من اسم كان او خبر له وكيف حال او التقدير لانّا دمّرناهم والباقون بكسر الهمزة على الاستيناف وعلى هذا ان كان كان ناقصة فخبرها كيف وان كان تامة فكيف حال ولا يجوز ان يكون انّا دمّرناهم خبر كان لعدم العائد- اختلفوا فى كيفية إهلاكهم قال ابن عباس أرسل الله الملائكة تلك الليلة الى دار صالح يحرسونه فاتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلهم وقال مقاتل جلسوا فى سفح الجيل ينتظرون بعضهم ليأتوا دار صالح فحثم عليهم الجبل فاهلكهم الله تعالى اخرج عبد الرزاق وعيد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة قال مكر الله بهم رماهم بصخرة فاخذتهم وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ اهلكهم الله تعالى بالصيحة.
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً اى خالية من خوى البطن إذا خلا او ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط منصوب على الحال والعامل فيه معنى الاشارة بِما ظَلَمُوا اى خاوية بسبب كفرهم وظلمهم إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما فعل يثمود لَآيَةً على كمال قدر تناء صدق الأنبياء لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيتعظون به.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي وهم صالح ومن معه وكانوا اربعة آلاف.
وَلُوطاً منصوب بفعل مضمر يدل عليه قوله لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ تقديره وأرسلنا لوطا وجاز ان يكون منصوبا باذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لفعل مقدر وهو اذكر او متعلق بأرسلنا على تقدير كونه عاملا فى لوطا او بدل من لوط على تقدير كونه منصوبا باذكر أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة البالغة فى القبح الاستفهام للانكار والتوبيخ وكذا الاستفهام الثاني وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ اى تعلمون فخشها من بصر القبائح مع ان اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح وقيل معناه ويبصر بعضكم بعضا فانهم كانوا يعلنون بها ويفعلونها بمشهد القوم فيكون افحش او المعنى وأنتم تبصرون اثار من قبلكم من العصاة وما نزل بهم.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ(7/123)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ
اللائي خلقن لذلك بيان لاتيانهم الفاحشة وشهوة منصوب على العلية للدلالة على قبحه والتنبيه على ان الحكمة فى المواقعة طلب النسل لاقتضاء الشهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ اى تفعلون فعل من يجهل بقبحها او يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبح او تجهلون العاقبة والتاء فى تجهلون لكون الموصوف به فى معنى المخاطب قيل اجتمع هاهنا الخطاب بقوله أنتم والغيبة بقوله قوم فغلب الخطاب على الغيبة. وهذه الآيات تدل على ان حسن الافعال وقبحها ثابتة لها فى أنفسها قبل ورود الشرع وان كانت معرفة بعضها متوقفة على الشرع.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ اى يتنزهون عن أفعالنا او عن الاقذار وجملة انهم أناس فى مقام التعليل للاخراج.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها اى قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ اى الباقين فى العذاب.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى امر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بعد ناقص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظمة شأنه وما خص به رسله من الآيات والتشريفات ان يحمد الله على إهلاك الكفار من الأمم الخالية وعلى جميع نعمه وعلى اعلامه ما جهل من أحوالهم وان يسلم على من اصطفاه من عباده عرفانا بفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم فى الدين وقوله الَّذِينَ اصْطَفى قال مقاتل هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وقال ابن عباس فى رواية مالك هم اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن سفيان الثوري انها نزلت فى اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال الكلبي هم امة محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الاية وقيل هم المؤمنون كلهم السابقون واللاحقون- وقيل هذا من تمام قصة لوط عليه السلام وخطاب للوط عليه السلام بتقدير القول يعنى وقلنا له قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ امره بان يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلّم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة من الهلاك او على محمد وأمته فان ما وصل بالأنبياء والأمم من الكرامات ودفع البليّات كان ببركة نوره صلى الله عليه واله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أول الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث.
رواه ابو سعد عن قتادة مرسلا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد(7/124)
رواه ابن سعد بسند صحيح عن ميسرة بن سعد عن ابى الجدعاء والطبراني عن ابن عباس آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ متصل بما سبق فى صدر السورة إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ الى قوله هُمُ الْأَخْسَرُونَ وهذا الزام وهكم بهم وتسفيه لرأيهم بعد ما ذكر من القصص الدالة على قدرته تعالى على إكرام عباده الصّلحين وكبت أعدائه يعنى من هذا شانه هو مستحق للعبادة والخوف والرجاء خير من غيره امّا يشركونه من الأصنام وغيرها مما لا يضر ولا ينفع وضره اقرب من نفعه خير من الله القادر القاهر لمن يعبد- قرأ ابو عمرو وعاصم ويعقوب يشركون بالياء التحتانية على الغيبة والباقون بالتاء الفوقانية خطابا لاهل مكة اتيسوان پاره ختم.(7/125)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
(الجزء العشرون) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أم متصلة وما عطف عليه بأم محذوف تقديره ءالهتكم التي لم يخلقوا شيئا وهم يخلقون خير أم من خلق. وقيل منقطعة بمعنى بل والهمزة قيل للاضراب عن الاستفهام السابق لبداهة كون الله تعالى مبدا لكل خير وعدم الخيرية رأسا فيما اشركوه فكيف يمكن الموازنة والاستفهام عنه والهمزة للتقرير اى حمل المخاطب على الإقرار بخيرية من خلق السّموات والأرض وَأَنْزَلَ لَكُمْ اى لاجل انتفاعكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ اى بساتين جمع حديقة قال الفراء الحديقة البستان المحاط عليها فان لم يكن عليه حائط فليس بحديقة قال البيضاوي من الاحداق وهو الإحاطة ذاتَ بَهْجَةٍ اى حسن المنظر يبتهج به صفة لحدائق وافراد بهجة لتأويل حدائق بجماعة حدائق وفى الكلام التفات من الغيبة الى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته تعالى والتنبيه على ان اثبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما صرح بقوله ما كانَ اى ما يمكن لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها اى شجرة من أشجارها والاضافة للجنس والجملة ما كان لكم إلخ صفة لحدائق أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أعانه على ذلك الاستفهام للانكار يعنى ليس أحد أعانه على ذلك فلا مستحق للعبادة غيره معه لانفراده بالخلق بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة قَوْمٌ يَعْدِلُونَ من لا يخلق بمن يخلق فيشركون به او المعنى بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن الحق الذي هو التوحيد فيه التفات من الخطاب الى الغيبة-.
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلخ والكلام فى أم فى هذا وفى ما بعدها مثل ما سبق وجعلها قرارا إبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يمكن الاستقرار عليها(7/126)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
وَجَعَلَ خِلالَها وسطها ظرف مستقر وقع ثانى مفعول جعل وكذا فى الجملة التاليتين أَنْهاراً جارية وَجَعَلَ لَها اى للارض رَواسِيَ جبالا ثابتة منعها من الحركة واتبع منها الأنهار وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذاب والملح حاجِزاً مانعا من الاختلاط أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ ليس كذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ انه لا اله الا هو لاهمالهم النظر الصحيح مع الادلة القاطعة فيشركون به جهلا وبعضهم يعلمون ذلك ولكن ينكرونه تعنتا وعنادا.
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ اسم فاعل من الاضطرار وهو افتعال من الضر يعنى من ابتلى بضر أحوجه شدته الى الجاء الى الله تعالى يجيبه إِذا دَعاهُ بفضله إنشاء فان اللام فى المضطر للجنس دون الاستغراق فلا يلزم منه اجابة كل مضطر وَيَكْشِفُ اى يدفع السُّوءَ الّذى ألجأه الى الدعاء وَيَجْعَلُكُمْ عطف على يجيب خُلَفاءَ الْأَرْضِ اى خلفاء من قبلكم فى الأرض بان ورّثكم سكناها والتصرف فيها او سلطانها- وقيل يعنى جعلكم خلفاء الجن فى الأرض قلت ويمكن ان يقال معناه جعل منكم خلفاء الله تعالى فى ارضه بدليل قوله تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ... أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي خلقكم بهذه النعم العامة والخاصة يعنى ليس كذلك قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ الا الله ما مزيدة وقليلا منصوب يتذكرون على المصدرية او على الظرفية والمراد بالقلة العدم او الحقارة المزيحة للفائدة قرأ ابو عمرو وهشام يذّكّرون بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب وقرأ حمزة «خلف- ابو محمد» والكسائي وحفص بتخفيف الذال والباقون بتشديدها..
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ بالنجوم وعلامات الأرض فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إذا سافرتم فى الليالى أضاف الظلمات الى البحر والبرّ للملابسة وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعنى المطر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر مثل ذلك تَعالَى اللَّهُ القادر الخالق عَمَّا يُشْرِكُونَ عن اشراك العاجز المخلوق-.
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الاماتة والكفار وان أنكروا الاعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها من النقل المشهود عليه بالمعجزات مع إمكانها عقلا وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى من اسباب سماوية واسباب ارضية أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على ذلك قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ان مع الله الها اخر يقدر على شىء من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى الإشراك فان كمال القدرة من لوازم الالوهية قال البغوي ولمّا سال(7/127)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة نزلت.
قُلْ يا محمد فى جوابهم لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملئكة وَمن فى الْأَرْضِ من الجن والانس ومنهم الأنبياء عليهم السلام من موصول او موصوف الْغَيْبَ يعنى ما غاب عن مشاعرهم ولم يقم عليه دليل عقلى إِلَّا اللَّهُ لكن الله يعلم ما غاب عنهم وغيره تعالى لا يعلم الا بإعلامه فالاستثناء منقطع لانه تعالى منزه عن الاستقرار فى السموات والأرض ورفعه على لغة بنى تميم فانهم يجيزون النصب والبدل فى المنقطع كما فى المتصل وعليه قول الشاعر- شعر
وبلدة ليس بها أنيس ... الا اليعافير والا العيس
وقيل الاستثناء متصل ودخول المستثنى فى المستثنى منه على سبيل فرض المحال وفرض المحال ليس بمحال وقال فى البحر المواج المستثنى منه محذوف وفى الكلام حذف تقديره لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ لا يعلمه أحد الّا الله فهذه الجملة تعليل لنفى العلم قلت ويمكن ان يكون التقدير لا يعلم من فى السّموات والأرض الغيب بشئ الّا بالله اى بتعليمه وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ اى متى يحشرون يعنى وقت حشرهم ممّا لا يدرك بالمشاعر فهو من الغيب الذي لا يمكن العلم به والاطلاع عليه الا بتعليم من الله تعالى وانه تعالى لم يطلع على ذلك أحدا بل استأثر علمه لنفسه فلا يتصور لهم العلم به وهذا تخصيص بعد تعميم وفائدته التأكيد ومطابقة الجواب السؤال وحتم احتمال التخصيص فانه قوله تعالى لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ يفيد نفى علمهم بالغيب وذلك مخصوص بما حصل لهم بتعليم من الله تعالى بتوسط الرسل-.
بَلِ ادَّارَكَ كذا قرأ ابو جعفر وابن كثير وابو عمرو بهمزة القطع على وزن أكرم من الافعال اى بلغ ولحق عِلْمُهُمْ فاعل لادرك فِي الْآخِرَةِ ظرف لادرك والمفعول محذوف دلّ عليه ما سبق والمعنى انهم لا يدركون وقت قيام الساعة فى الدنيا قط بل يدرك علمهم ذلك فى الاخرة إذا عاينوه او المعنى بل أدرك علمهم اليوم بتعليم الرسل صلى الله عليه وسلم إياهم فى شأن الاخرة أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لكنهم لا يعلمون وقت مجيئها وفرأ الباقون بل ادّرك أصله تدارك يعنى تدارك وتكامل علمهم وحصل لهم اليوم بتعليم الرسول صلى الله عليهم وسلم فى شأن الاخرة او يحصل لهم العلم بذلك إذا عاينوه يقال تدارك الفاكهة إذا تكاملت نضجا وحصول العلم القطعي للمؤمنين فى الدنيا ظاهر وللكافرين باعتبار قيام الادلة الموجبة للقطع مقامه بَلْ هُمْ يعنى كفار مكة فِي شَكٍّ مِنْها اى من قيام الساعة بعد وجود ما يوجب القطع(7/128)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
من اخبار الرّسول صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات وقيل قوله بل ادّرك على طريقة الاستفهام معناه هل تدارك وتتابع علمهم فى الاخرة يعنى لم يتتابع وضل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه لان فى الاستفهام ضربا من الجحد يدل هذا التأويل قراءة ابن عباس بلى بإثبات الالف المكتوب بصورة الياء ءادّرك بفتح الهمزة للاستفهام وسقوط همزة الوصل اى لم يدرك وفى قراءة أبيّ أم تدارك علمهم والعرب يضع بل موضع أم وأم موضع بل وذكر على بن عيسى وإسحاق ان بل فى بل ادّرك بمعنى لو والمعنى لو أدركوا فى الدنيا ما أدركوه فى الاخرة لم يشكوا بل هم اليوم فى شك من الساعة بَلْ هُمْ مِنْها اى من الساعة عَمُونَ جمع عمى وهو عمى القلب نفى الله عنهم علم الغيب اولا ثم أكّد ذلك بنفي شعورهم بما هو ما لهم لا محالة ثم بالغ فيه بان اضرب عنه وبيّن ان منتهى علمهم وما تكامل فيه اسباب العلم من الحجج والآيات مقصور على ان القيامة كائنة لا محالة وهم لا يعلمونها كما ينبغى ثم اضرب عنه وقال بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منها بعد تكامل الادلة كمن يتحير فى امر لا يجد عليه دليلا فهم لا يستطيعون ازالة الشك ثم اضرب عنه وقال بل هم فى أسوأ حال منه فانهم عمون لا يدركون دليلهم لاختلال بصيرتهم وهذا او ان اختص بالمشركين فمن فى السموات والأرض نسب الى جميعهم كما يسند فعل البعض الى الكل وقيل الاضراب الاول عن نفى الشعور بوقت القيامة عنهم بوضعهم باستحكام علمهم فى امر الاخرة تهكما وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدرك الشمرة لانها تلك غايتها التي عندها يعدم وما بعدها إضراب عن علمهم بامر الاخرة مبالغة فى نفيه ودلالة على ان شعورهم بها انهم شاكون فيها ثم اضرب عنه وقال هُمْ مِنْها عَمُونَ ليس لهم صلاحبة العلم أصلا-.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على مضمون قوله تعالى بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ وكالبيان له وضع المظهر هاهنا موضع الضمير ولم يقل وقالوا لكون ذكر الكافرين مجملا فيما سبق أإذا قرأ «وابو جعفر- ابو محمد» نافع إذا بغير همزة الاستفهام على صيغة الخبر وهمزة الاستفهام على هذا مقدرة والباقون بهمزتين على الاستفهام كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا قرأ ابن عامر والكسائي بنونين أحدهما للوقاية وبهمزة واحدة على صيغة الخبر وتقدير همزة الاستفهام والباقون بنون واحدة وهمزتين على الاستفهام وضمير أإنّا راجع إليهم والى ابائهم غلبت الحكاية على الغائب لَمُخْرَجُونَ من القبور أحياء ومن حال الموت الى الحيوة وهذا كالبيان لعمهم والعامل فى إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره انخرج إذا كنا ترابا أنحن مخرجون حينئذ والاستفهام للانكار- والجملة الاستفهامية(7/129)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
الثانية تأكيد للاولى تكرير للانكار مبالغة له ولا يجوز ان يكون مخرجون عاملا فى إذا لان كلام من الهمزة وانّ واللام مانعة من عمله فيما قبله.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا اى البعث جواب قسم محذوف نَحْنُ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وَآباؤُنا على لسان غيره من الأنبياء مِنْ قَبْلُ وعد محمد صلى الله عليه وسلم وتقديم هذا على نحن هاهنا لان المقصود بالذكر هاهنا هو البعث وحيث اخّر فالمقصود هو المبعوث إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها كالاسمار.
قُلْ يا محمد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ تهديد لهم على التكذيب وتخويف بان ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم والتعبير عنهم بالمجرمين ليكون لطفا بالمؤمنين فى ترك الجرائم.
وَلا تَحْزَنْ يا محمد عَلَيْهِمْ اى على تكذيبهم واعراضهم وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ قرأ ابن كثير بكسر الضاد والباقون بالفتح وهما لغتان يعنى لا تكن فى ضيق صدر وغم مِمَّا يَمْكُرُونَ من للسببية وما مصدرية اى بسبب مكرهم قال البغوي نزلت فى المستهزئين الّذين عقاب مكة يعنى ان الله بالغ أمرك الى الكمال..
وَيَقُولُونَ عطف على قال الَّذِينَ كَفَرُوا وما بينهما معترضات مَتى هذَا الْوَعْدُ اى الموعود من العذاب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ان العذاب نازل.
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ اى ردفكم واللام مزيدة للتاكيد يعنى عسى ان يتبعكم ويلحقكم بلا مهلة بَعْضُ تنازع فيه الفعلان يكون وردف اعمل أحدهما وأضمر فى الاخر الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ حلوله وهو عذاب يوم بدر قال البيضاوي عسى ولعل وسوف فى مواعيد الملوك كالجزم بها وانما يطلقونه إظهارا لوقارهم واشعارا بان الرمزة منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده وهذا المعنى قول من قال ان عسى ولعل فى كلام الله واجبة الوقوع يعنى واما فى الوعيد فيجوز العفو بشرط الايمان واما الكافر فلا يستحق العفو وقوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ليس من هذا الباب ومن ثم لم يوجد من فرعون تذكر ولا خشية.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ فيغفر المؤمن ان شاء ولا يستعجل الكافر بالعذاب وكذلك لم يعجل على اهل مكة بالعذاب كذا قال المقاتل هذه الجملة اما حال او معترضة وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ولا يعرفون حق النعمة فيستعجلون العذاب بحملهم.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ اى ما نخفى صدور الناس وَما(7/130)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
يُعْلِنُونَ
اى الناس من عداوتك فيجازيهم عليه وليس تأخير العذاب عنهم لخفاء حالهم وهذه الجملة معطوفة على عسى فان عسى فى كلام الله كالتحقق.
وَما مِنْ غائِبَةٍ اسم ما ومن زائدة اى ما من شىء غائب عن أبصار الناس وهى من الصفات الغالبة كالخافية والتاء فيهما للمبالغة كما فى الرواية او اسمان لما يغيب ويختفى فالتاء فيه كالتاء فى عافية وعاقبة وقال البغوي هى صفة لمحذوف اى جملة غائبة من مكتوم سر وخفى امر وشىء غائب كائنة فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ ظرف لغو متعلق بغائبة إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ مستثنى مفرغ خبر ما اى بين او مبين ما فيه لمن يطالعه وهو اللوح المحفوظ.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ اى يبيّن لهم أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من امر الدين قال الكلبي ان اهل الكتاب اختلفوا بينهم وصاروا أحزابا يطعن بعضهم فنزل القران ببيان ما اختلفوا فيه هذه الجملة مع ما عطف عليه متصل بقوله تعالى وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ واقعة عنها مقام التعليل وما بينهما معترضات.
وَإِنَّهُ اى القران لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فانهم هم المنتفعون به دون الكفار من اهل الكتاب وغيرهم.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي اى يحكم بَيْنَهُمْ اى بين المختلفين فى امر الدين يوم القيامة بِحُكْمِهِ متعلق بيقضى فان قيل قوله يقضى معناه يحكم فكيف يتعلق به بحكمه فانه نظير ينصره بنصره وذالا يجوز قلنا المراد الحكم هذا بمعنى المحكوم والمعنى يحكم بما حكم به فى القران او المراد بحكمته وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا رادّ لقضائه الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضى فيه وحكمته.
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تبال بمن عاداك متصل بقوله إِنَّ رَبَّكَ يقضى بينهم إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ البين حقيقة علل التوكل بانه على الحق الظاهر الّذى لا مساغ فيه اشارة الى ان صاحب الحق حقيق بالوثوق على الله ونصره.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى اى الكفار شبّههم بالموتى لعدم الانتفاع لهم بتسامع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالأصم فى قوله تعالى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ والدعاء مفعول للفعلين على التنازع قرا ابن كثير لا يسمع بالياء وفتحها وفتح الميم على صيغة الغائب من المجرد والصّمّ بالرفع على الفاعلية وكذلك فى سورة الروم والباقون بالتاء وضمها وكسر الميم على صيغة المخاطب من الاستماع ونصب الصّمّ على المفعولية إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فان قيل ما معنى لهذا القيد فان الأصم الذي لا يسمع سواء عليه ان يولّى او لا قيل ذكره على التأكيد والمبالغة وقيل الأصم إذا كان حاضرا قد يسمع برفع الصوت او يفهم(7/131)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
بالاشارة او الكتابة فاذا ولى لم يسمع ولم يفهم رأسا يعنى ان الكفار لفرطا عراضهم عما يدعون اليه كالميت الّذى لا سبيل الى استماعه وكالاصم المدبر الذي لا سبيل الى افهامه قيل الظرف متعلق بالفعلين على سبيل التنازع ويرد عليه ان نسبة التولي الى الأصم جائز والى الموتى لا يجوز فكيف يتصور التنازع والجواب ان الموتى والأصم كلا منهما مستعار للكافر وهو من اهل التولي ويسمى هذه الاستعارة استعارة مجروة وهى ان يوصف المستعار بوصف ملائم للمستعار له والله اعلم-.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ قرأ الأعمش وحمزة هاهنا وفى الروم تهدى بالتاء المفتوحة واسكان الهاء بغير الف على صيغة المضارع والعمى بالنصب وإذا وقف اثبت ياء تهدى فى السورتين والباقون بالياء المكسورة وصيغة اسم الفاعل مضافا والعمى بالجر ووقفوا هاهنا بالياء وفى الروم بغير ياء اتباعا للمصحف عَنْ ضَلالَتِهِمْ يعنى ما أنت بمرشد من أعمى الله قلبه عن الايمان إِنْ تُسْمِعُ يعنى لا تسمع ولا ينفع اسماعك القران أحدا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يعنى من قدّرنا إيمانه فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون من اسلم وجهه لله-.
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعنى إذ دنا وقوع معنى ما قيل عليهم اى ما وعدوا به من البعث والعذاب أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً قال البغوي روى عن على رضى الله عنه ليس بدابة لها ذنب ولكن لها لحية كانه يشير الى انه رجل والأكثر على انها دابة ذات اربع قوائم. اخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال الدابة ذات وبر وريش مولفة فيها من كل لون لها اربع قوائم ثم يخرج بعقب من الحاج وروى عن جريح عن ابى الزبير انه وصف الدابة فقال رأسها رأس الثور وعينها عين الخنزير واذنها اذن الفيل وقرنها قرن ابل وصدرها صدر اسد ولونها لون تمر وخاصرتها خاصرورة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنى عشر ذراعا معها عصا موسى وخاتم سليمان فلا يبقى مومن الا نكتت فى مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء يضئ بها وجهه ولا يبقى كافر الا نكتت وجهه بخاتم سليمان نكتة سوداء فيسود بها وجهه حتى ان الناس يتبايعون فى الأسواق بكم يا مؤمن بكم يا كافر ثم تقول لهم الدابة يا فلان أنت من اهل الجنة يا فلان أنت من اهل النار وذلك قوله عزّ وجلّ وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ متعلق باخرجنا روى البغوي عن ابن عمر رضى الله عنهما قال تخرج من صدع فى الصفا كجرى الفرس ثلاثة ايام وما خرج ثلثا وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما انه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال ان الدابة تسمع قرع عصاى. وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال تخرج الدابة من شعب فيمس رأسها السحاب ورجلاها فى الأرض(7/132)
ما خرجتا فتمرّ بالإنسان يصلى فتقول ما الصلاة من حاجتك فتخطمه.
وذكر البغوي حديث ابى شريحة الأنصاري رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجا باليمن فيفشو ذكرها فى البادية ويدخل ذكرها القرية يعنى مكة ثم بينا الناس يوما فى أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله عزّ وجل يعنى المسجد الحرام لم تر عنهم الا هو فى ناحية المسجد يدنو ويدنو كذا قال عمرو ما بين الركن الأسود الى باب بنى مخزوم فى وسط من ذلك فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا انهم لم يعجزوا الله مخرجت عليهم تنفض راسها من التراب فمرّت بهم فجلّت عن وجوههم حتى تركتها كانها الكواكب الدرية ثم دكت فى الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى ان الرجل ليقوم فيعود منها بالصلوة فيأتيه من خلفه فتقول يا فلان الان تصلى فتقبل بوجهه وتسمه فى وجهه فتجاوز الناس فى ديارهم وتصطحبون فى أسفارهم وتشتركون فى الأموال ويعرف الكافر من المؤمن فيقال للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر وعن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة قلت يا رسول الله من اين تخرج قال من أعظم المساجد هرمة على الله تعالى بينهما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وتنشق الصفا مما يلى المشرق وتخرج الدابّة من الصفا أول ما يبدو منها رأسها بلمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب وتسم الناس مومنا وكافرا اما المؤمن فتترك وجهه كانه كوكب درى ونكتت بين عينيه مومن واما الكافر فنكتت بين عينيه نكتة سوداء ونكتت بين عينيه كافر. رواه البغوي وكذا اخرج ابن جرير وروى البغوي عن سهل بن صالح عن أبيه عن ابن عباس رضى الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال بئس الشعب شعب حناد مرتين او ثلاثا قيل ولم ذلك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها بين الخافقين قال وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من راها ان اهل مكة كانوا محمد والقران لا يوقنون- تُكَلِّمُهُمْ صفة لدابة يعنى تكلم الدابة الناس قال السدىّ تكلمهم ببطلان سائر الأديان سوى دين الإسلام وقال بعضهم كلامها ان تقول لواحد هذا مؤمن ولاخر هذا كافر كما مرّ فى الأحاديث وقيل كلامها ما قال الله تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال مقاتل تكلمهم بالعربية فتقول عن الله تعالى أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا(7/133)
لا يُوقِنُونَ
تخبر الناس ان اهل مكة لم يؤمنوا بالقران والبعث- قرأ الكوفيون «ويعقوب- ابو محمد» انّ بالفتح وهو حكاية عن قول الدابة او على تقدير الجار تقديره بان او حكاية قول الله الّذى قيل عليه ودنا وقوعه او علة خروجها على حذف اللام على قول غيره وقرأ الآخرون انّ بالكسر على الاستيناف اى انّ الناس كانوا بايتنا لا يوقنون قبل خروجها قيل أراد بايتنا خروجها اى خروج دابة الأرض وسائر اشراط الساعة وأحوالها فانها من آيات الله تعالى- قال البغوي قرا ابن جبير وعاصم الجحدري وابو رجاء العطاردي تكلّم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم بمعنى الجرح وقال ابن الحوراء سألت ابن عباس عن هذه الاية تكلمهم او تكلّمهم فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلّم الكافر قال ابن عمر رضى الله عنهما وذلك يعنى خروج الدابة حين لا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر قال الشيخ جلال الدين المحلى ومن خروج الدابة ينقطع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ولا يؤمن كافر بعد ذلك كما اوحى الله الى نوح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ قلت وهذا يستنبط من الأحاديث والآثار- (فصل) عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بادروا بالأعمال ستّا الدخان والدجال ودابّة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وامر العامة وخويصة أحدكم- رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابّة على النّاس ضحى وأيتهما كانت قيل صاحبتها فالاخرى على اثرها قريبا- رواه مسلم وعن حذيفة بن اسد الغفاري قال اطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون قالوا نذكر الساعة قال
انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر ايت فذكر الدخان والدجال والدّابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وثلث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس الى محشرهم. وفى رواية نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس الى المحشر- وفى رواية فى العاشرة وريح يلقى الناس فى البحر رواه مسلم وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تخرج الدّابة ومعها خاتم سليمان وعصا موسى فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم انف الكافر بالخاتم حتى ان اهل الخوان ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا ... يا كافر. رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن ابى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تخرج الدابّة قسّم الناس على خراطيمهم ثم يعمرون فيكم حتى يشترى الرجل الدابّة فيقال ممّن اشتريت فيقول من الرجل المختم رواه احمد(7/134)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
عن ابن عمر رضى الله عنهما قال تخرج الدابّة ليلة جمع والناس يشيرون الى منى- واخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن الحسن ان موسى عليه السلام سال ربه ان يريد الدّابّة فخرجت ثلاثة ايام ولياليهن يذهب فى السماء لا يرى واحد من طرفيها قال فراى منظرا فظيعا فقال رب ردها فردها قلت والأحاديث المذكورة تدل على ان الدابة تميّز بين المؤمنين الصادقين فى ايمانهم وبين المنافقين الذين أظهروا الايمان وابطنوا الكفر والمراد بالكفر اما ضد الإسلام المجازى الّذى قلوب أهاليهم غير مصدقة بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واما ضد الإسلام الحقيقي الّذى قلوب أهاليهم وافقت ألسنتهم فى التصديق لكن لم يؤمن نفوسهم ولم تطمئن فان كان المراد بالكافر هذا المعنى فقول الدّابة يا فلان أنت من اهل النار يراد به دخولها لا خلودها ولا يجوز ان يكون المراد بالكفر المجاهر بالكفر لان المجاهر بالكفر لم يبق بمكة بعد الفتح وايضا المجاهر بالكفر ممتاز عن المسلمين قبل خروج الدابة لا حاجة فى امتيازهم الى الدابة والله اعلم.
وَيَوْمَ نَحْشُرُ يعنى يوم القيامة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً اى من كل قرن جماعة كلمة من هاهنا للتبعيض وفوجا مفعول لنحشر ومن كل امة حال منه قلت وذلك حين يقول الله تعالى لادم ابعث بعث النار من ذريتك وقد مرّ الحديث فى صدر سورة الحج مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا صفة لفوج ومن هاهنا للبيان اى فوجا مكذبين فَهُمْ يُوزَعُونَ اى يجلس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا قال البيضاوي هو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم.
حَتَّى ابتدائية داخلة على الشرطية إِذا جاؤُ الى المحشر قالَ الله تعالى لهم أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الاستفهام للتوبيخ وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال يعنى أكذبتم بها بادى الرأى غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وانها حقيقة بالتصديق او التكذيب او للعطف يعنى أجمعتم بين التكذيب بها وعدم النظر والتأمل فى حقيقتها أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تقديره أم لم تكذّبوا فان لم تكذّبوا فماذا كنتم ودع يعنى اىّ شىء كنتم تعملون غير التكذيب وهذا ايضا توبيخ وتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون ان يقولوا فعلنا ذلك.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ عطف على قال فى حيز جزاء الشرط اى وجب عليهم العذاب الموعود لهم بِما ظَلَمُوا اى بسبب ظلمهم اى تكذيبهم بايات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار إذ ليس لهم عذر فى نفس الأمر او لما لا يؤذن لهم فيعتذرون وقيل لا ينطقون لان أفواههم مختومة وقيل لا ينطقون لشغلهم بالعذاب والظاهر هو الاول يدل عليه قوله.
أَلَمْ يَرَوْا يعنى كيف يعتذرون على الكفر بعد رؤية الادلة الموجبة للايمان والاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات يعنى قد رئوا(7/135)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
أَنَّا جَعَلْنَا اى خلقنا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ بالنوم والقرار وَالنَّهارَ مُبْصِراً كان أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه يجعل الابصار حالا من أحواله المجعول عليه بحيث لا ينفك عنه وجملة انّا جعلنا قائم مقام المفعولين لقوله الم تروا فان الرؤية بمعنى العلم يعنى الم يعلموا بتعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص نافع مناط لمصالح معاشهم ومعادهم انّ لها خالقا حكيما قادر قاهرا وان من كان قادرا على ذلك قادر على بعثة الرسل ليدعوا الخلق الى عبادته وقادر على الانعام والانتقام على اطاعته وعصيانه وقادر على ابدال الموت بالحياة كما هو قادر على ابدال الظلمة بالنور واليقظة بالنوم وقد دلت المعجزات على صدق الرسل وما جاءوا به إِنَّ فِي ذلِكَ الأمور لَآياتٍ دالة على التوحيد وصدق الرسول فاىّ عذر للمكذب بعده وقيد ثبوت الآيات بقوله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لانهم هم المنتفعون بها قيل جملة الم يروا الى آخرها دليل للحشر فان تعاقب اليقظة النوم يدل على جواز تعاقب الحيوة الموت-.
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ معطوف على قوله ويوم نحشر عن ابن عمر ان أعرابيا سال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور قال قرن ينفخ فيه. رواه ابو داود والترمذي وحسّنه والنسائي وابن حبان والحاكم وعن ابن مسعود نحوه رواه مسدد بسند صحيح وعن زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واحنى جبهته وأصغى بالسمع متى يؤمر فسمع بذلك اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل- وروى احمد والحاكم والبيهقي والطبراني عن ابن عباس رض نحوه والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابى سعيد نحوه وابو نعيم عن جابر نحوه واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وهو صاحب الصور يعنى اسرافيل قال القرطبي علماء الأمم مجمعون على ان ينفخ فى الصور اسرافيل فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة وأرواح المؤمنين وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الانس اختلف العلماء فى هذه النفخة هل هى الصعق او غير ذلك فقيل النفخات ثلاث أولها نفخة الفزع تفزع منها الخلائق ثانيتها نفخة الصعق تصعق اى تموت بها الخلائق ثالثتها نفخة البعث فهذه الاية تدل على نفخة الفزع وقوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فيه اخرى فاذا هم قيام ينظرون تدل على نفخة الصعق ونفخة البعث وهذا اختيار ابن العربي. وقد صرّح بالنفخات الثلاث فى حديث طويل لابى هريرة وسنذكره من قريب. وقيل هما نفختان فقط ونفخة(7/136)
الفزع هى نفخة الصعق قالوا الأمر ان متلازمان اى فزعوا فزعا ماتوا منه وهذا ما صححه القرطبي واستدل بانه استثنى من نفخة الفزع كما استثنى من نفخة الصعق حيث قال الله تعالى فيهما إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ فدلّ على انهما واحد- وهذا الاستدلال غير صحيح لان الاستثناء منهما بقوله الا ما شاء الله لا يدل على اتحاد النفختين ولا على اتحاد المستثنى فيهما وان كان المستثنى منه فى الكلامين واحد قال البغوي واختلفوا فى هذا الاستثناء روى عن ابى هريرة رضى الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال هم الشهداء لانهم احياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم ثم ذكر البغوي قول الكلبي ومقاتل وذكر الحديث كما سنذكر من بعد لكن قول البغوي بالاختلاف فى هذه الاية مبنى على اتحاد نفخة الفزع ونفخة الصعق والظاهر انهما متغائران. فلنذكر الأحاديث والآثار الواردة فى الاستثناء روى ابو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال سالت جبرئيل عن هذه الاية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من الّذين لم يشاء الله ان يصعقهم قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه قالوا وانما صح استثناء الشهداء لانهم احياء عند ربهم قال البغوي وفى بعض الآثار الشهداء ثنية الله عزّ وجل اى الذين استثناهم الله تعالى كذا روى هناذ بن السرى والبيهقي والنحاس فى معانى القران عن سعيد بن جبير فى قوله تعالى الا من شاء الله قال هم الشهداء مقلدون السيوف حول العرش وقال الكلبي ومقاتل يعنى جبرئيل واسرافيل وملك الموت عليهم السلام وذلك لما اخرج الفريابي فى تفسيره عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفخ فى الصّور فصعق من فى السّموات ومن فى الأرض الّا من شاء الله قالوا يا رسول الله من هولاء الذين استثنى الله قال جبرئيل وميكائيل وملك الموت واسرافيل وحملة العرش فاذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت من بقي قال سبحانك ربى تبارك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت فيقول خذ نفس اسرافيل فياخذ نفس اسرافيل فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام بقي جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيأخذ نفس ميكائيل فيقع
كالطود العظيم فيقول يا ملك الموت من بقي فيقول بقي جبرائيل وملك الموت فيقول مت يا ملك الموت فيموت- فيقول يا جبرائيل من بقي فيقول وجهك الكريم الباقي الدائم وجبرئيل الميت الفاني قال فلا بد من موته فيقع ساجدا يخفق جناحيه قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ان فضل خلقه على خلق ميكائيل كالطود العظيم على ظرب من الظراب. واخرج البيهقي عن(7/137)
انس رفعه فى قوله فنفخ فى الصور الاية قال فكان ممن استثنى الله ثلاثة جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول الله وهو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وميكائيل وملك الموت فيقول توف نفس ميكائيل فيقول وهو اعلم من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك جبرئيل وملك الموت فيقول توف نفس جبرئيل ثم يقول وهو اعلم يا ملك الموت من بقي فيقول بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت وهو ميت فيقول مت ثم يقول انا بدأت والخلق ثم أعيده فاين الجبارون المتكبرون فلا يجيبه أحد ثم ينادى لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيقول هو الله الواحد القهار ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ- واخرج البيهقي عن زيد بن اسلم قال الذي استثنى اثنا عشر جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وحملة العرش ثمانية وقال البغوي يروى انه يقبض روح جبرئيل وميكائيل ثم روح حملة العرش ثم روح اسرافيل ثم روح ملك الموت واخرج البيهقي عن مقاتل بن سليمان يقبض روح ميكائيل ثم روح جبرئيل ثم روح اسرافيل ثم يأمر ملك الموت فيموت. واخرج ابو الشيخ فى كتاب العظمة عن وهب قال هؤلاء الاربعة جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت أول من خلقهم الله واخر من يميتهم وأول من يحييهم هم المدبّرات امرا والمقسّمات امرا. قال السيوطي لا تنافى بين هذه الروايات يعنى روايات الاستثناء لامكان الجمع بان الجميع من المستثنى. قلت الأحاديث والآثار المذكورة كلها واردة فى بيان الاستثناء الواقع فى نفخة الصعق لا ما وقع فى نفخة الفزع وعندى المستثنى فى نفخة الفزع ما دل عليه قوله تعالى فيما بعد مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ فانه نص فى ان المؤمنين الّذين لا يدخلون النار ويدخلون الجنة لا ينحقهم الفزع لكن عند نفخة الفزع لا يكون من الناس الا الكفار لقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة الا على الأشرار- رواه احمد ومسلم عن ابن مسعود وقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يقال فى الأرض الله الله. رواه احمد ومسلم والترمذي عن انس وقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت- رواه عبد الرزاق فى الجامع وقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى يرفع الركن والقران. رواه السنجري عن ابن عمر ويدل على ذلك غيرها من الأحاديث ولهذا حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المستثنى على أرواح الشهداء فانهم احياء عند ربهم واما الملائكة وأرواح الأنبياء عليهم السلام فهم ايضا داخلون فى المستثنى ولا يفزعون البتة والله اعلم(7/138)
روى ابن جرير فى تفسيره والطبراني فى المطولات وابو يعلى فى مسنده والبيهقي فى البعث وابو موسى المديني فى المطولات وعلى بن معبد فى كتاب الطاعة والعصيان وعبد بن حميد وابو الشيخ فى كتاب العظمة حديثا طويلا عن ابى هريرة ذكر فيه فينفخ ثلاث نفخات الاولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العلمين فيأمر الله اسرافيل بالنفخة الاولى فيقول الله انفخ نفخة الفزع فينفخ فيفزع اهل السماء والأرض الا من شاء الله. الى ان قال فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتى أقطار الأرض فتتلقاهم الملائكة فتضرب وجوهها فترجع وتولى الناس مدبرين ينادى بعضهم بعضا والذي يقول الله يوم التّناد الى ان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والأموات يومئذ لا يعلمون بشئ من ذلك قلت يا رسول الله فمن استثنى الله فى قوله الا من شاء الله قال أولئك الشهداء
وانما يصل الفزع الى الاحياء وهم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ وقاهم الله من فزع ذلك اليوم وامنهم منه وهو عذاب يبعثه على اشرار خلقه يقول الله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ الاية فيمكثون فى ذلك ما شاء الله ثم يأمر الله اسرافيل بنفخة الصعق فصعق اهل السموات والأرض الا من شاء الله فيقول ملك الموت قد مات اهل السموات والأرض الا من شئت فيقول وهو اعلم فمن بقي ثم ذكر موت جبرئيل وميكائيل وحملة العرش وموت ملك الموت نحو ما تقدم من حديث انس ثم ذكر الحديث بطوله الى دخول اهل الجنة الجنة وبقاء اهل الخلود فى النار. فان قيل هذا الفزع لا يكون الا على شرار خلق الله من شياطين الانس والجن وليس أحد منهم فى السماء فما معنى قوله تعالى فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ قلت لعل ذلك على سبيل الفرض او يقال ان الشياطين قد يذهبون الى السماء لاستراق السمع او يقال المراد بالسماء السحاب ونحو ذلك فانه قد يطلق السماء على كل ما بفوقك قال الله تعالى فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ يعنى سقف بيتك او يقال المراد بمن يفزع من اهل السماء أرواح بعض المؤمنين ويكون المراد بمن سبقت لهم الحسنى الأنبياء والمقربون الصديقون- واما المستثنى من نفخة الصعق فالقول فيه ما قال صاحب المفهم التحقيق ان المراد بالصعق(7/139)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
ما هو أعم من الموت فلمن لم يمت الموت ولمن مات الغشية وهذا من قبيل عموم المجاز وهذه الغشية يعم الأنبياء عليهم السلام الا موسى عليه السلام فانه حصل فيه تردد- روى الشيخان فى الصحيحين والترمذي وابن ماجة واللفظ له عن ابى هريرة قال قال رجل من اليهود بسوق المدينة والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه وقال أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قال الله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فاكون أول من رفع رأسه فاذا انا بموسى أخذ بقائم من قوائم العرش فلا أدرى ارفع راسه قبلى او كان ممن استثنى الله ولمّا كان الصعق بمعنى الموت او الغشية يعم الأنبياء فيعم الشهداء بالطريق الاولى والملائكة ايضا والمستثنى منهم جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وحملة العرش فانهم لا يموتون بالنفخة ويموتون بعد ذلك كما مرّ فى الأحاديث والله اعلم.
وَكُلٌّ اى كل واحد من اهل السماوات والأرض أَتَوْهُ اى حاضرون الموقف بعد نفخة البعث او راجعون الى امره كذا قرأ الجمهور بالمد وضم التاء على صيغة اسم الفاعل وقرأ حفص وحمزة «خلف ابو محمد» مقصورا وفتح التاء على صيغة الماضي ومعناه الاستقبال لتحقيق وقوعه عطف على فزع داخِرِينَ صاغرين.
وَتَرَى الْجِبالَ اى تبصرها ايها الناظر وقت نفخة الفزع عطف على يوم ينفخ او على يوم نحشران يقدر هنا ترى ما ترى تَحْسَبُها جامِدَةً اى وافقه مكانها الجملة حال من فاعل ترى ومفعوله اى تظنها قائمة غير متحركة وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من الضمير المنصوب فى تحسبها يعنى تسير الجبال كسير السحاب فى السرعة حتى تقع على الأرض فتستوى بها وذلك لان الاجرام الكبار إذا تحركت فى سمت واحد لا تكاد يتبين حركتها صُنْعَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون جملة متقدمة لا محتمل لها غيره ويسمى تأكيدا لنفسه معنى صنع الله صنعا الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ احكم خلقه وسواه على ما ينبغى إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ قرأ ابن كثير وابو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب اى يجازى كلّا من العاصي والمطيع على خسب فعله ثم بينه فقال.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ قال ابو معشر كان ابراهيم يحلف ولا يستثنى ان الحسنة لا اله الا الله وقال قتادة بالإخلاص وقيل هى كل طاعة فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قيل من للسببية وليس للتفضيل إذ لا شىء خير من قول(7/140)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
لا اله الا الله فالمعنى يحصل له خير وهو الثواب والامن من العذاب من جهة تلك الحسنة وبسبيها وقال محمد بن كعب وعبد الرحمان ابن زيد من تفضيلية والمعنى فله عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله نظيره قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ اى يوم ينفخ فى الصور آمِنُونَ قرأ الكوفيون فزع بالتنوين للتنكير ويومئذ بالنصب على الظرفية والتنكير يفيد الاستغراق لان الجملة فى قوة النفي لان قوله امنون بمعنى لا يخافون ولا يفزعون والنكرة فى حيز النفي يفيد الاستغراق وقرأ الآخرون بلا تنوين باضافة فزع الى يومئذ والاضافة أول على الاستغراق او هى للعهد لتقدم ذكر الفزع فقرأ أكثرهم يومئذ بالجر للاضافة ونافع بفتح الميم على انه مبنى اكتسب البناء ممّا أضيف اليه.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ اى الشرك فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ الفاء للعطف على محذوف لا للجزاء لا تدخل على الماضي بغير قد تقديره من جاء بالسّيئة فله جزاء السّيئة او استحق العذاب فكبّت وجوههم اى فكبوا على وجوههم فِي النَّارِ او المراد بالوجوه أنفسهم هَلْ تُجْزَوْنَ يعنى ما تجزون إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى إلا جزاؤه وفاقا لما عملوا فان الشرك أعظم الجرائم لا شىء فوقه فى السوء وجهنم أشد الاجزية فيه التفات من الغيبة الى الخطاب والتقدير ويقول لهم خزنة جهنّم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ-.
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعنى مكة أضاف الرّب الى البلدة تشريفا لها واشعارا بما فى الكعبة الحسناء من التجليات المختصة بها الَّذِي حَرَّمَها صفة للرب اى جعلها حرما أمنا لا يسفك فيها دم ولا يظلم فيها أحد ولا ينفر صيدها ولا يختلا خلاها ذكر هذا الوصف منة على قريش حيث جعل مسكنهم أمنا من الفتن الشائعة فى العرب وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وملكا مع تلك البلدة عطف على حرمها او حال من الضمير المرفوع المستكن فيها وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بتقدير الباء اى أمرت بان أكون من المنقادين لله تعالى او ثابتين على ملة الإسلام عطف على أمرت ان اعبد.
وَأَنْ أَتْلُوَا تلاوة الدعوة الى الايمان او هو من التلو بمعنى الاتباع والمعنى ان اتبع الْقُرْآنَ عطف على ان أكون وجملة انّما أمرت متصلة بقوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وقال البيضاوي امر الله سبحانه لرسوله ان يقول لهم ذلك بعد ما بين لهم المبدا والمعاد وشرح احوال القيامة اشعارا بانه قد أتم الدعوة وادى(7/141)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
ما كان عليه فلم يبق عليه الا الاشتغال بشأنه والاستغراق فى عبادة ربه والتقدير قل انما أمرت بكذا فَمَنِ اهْتَدى بدعوتك وعيد ربه وحده كما أمرت فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فان منافعه تعود اليه فليس له ان يمن عليك وَمَنْ ضَلَّ اى أخطأ طريق الحق يتبعك بعد تمام الدعوة منك فَقُلْ له إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ يعنى لست عليكم بوكيل ولا علىّ من وبال ضلالك أصلا إذ ليس علىّ الا البلاغ-.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوة وعلى ما وفقك من تمام التبليغ والدعوة الواجبة عليك سَيُرِيكُمْ الله ايها الضالون آياتِهِ القاهرة على حقيقة ما دعوتكم اليه فى الدنيا كما وقع يوم بدر من قتل وسبى وضرب الملائكة وجوههم وادبارهم وكما راوا من انشقاق القمر وتسبيح الحصا ونحو ذلك وكما يجئ من خروج الدابّة وغير ذلك نظيره قوله تعالى سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ او المعنى سيريكم آياته فى الاخرة وقال سيريكم آياته فى السماء وفى الأرض وفى أنفسكم كما سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم فَتَعْرِفُونَها اى فتعرفون انها آيات الله ولكن لا ينفعكم حينئذ المعرفة وَما رَبُّكَ يا محمد ص بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازى كلّا على حسب عمله لوقتهم- تم تفسير سورة النمل من التفسير المظهرى فى التاريخ الثاني والعشرون من شعبان سنة الخامسة بعد الف ومائتين (سنه 1205 هـ) ويتلوه تفسير سورة القصص ان شاء الله تعالى.(7/142)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
سورة القصص
سورة القصص مكية الا قوله تعالى الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الى قوله لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ وفيها آيات نزلت بين مكة والمدينة وهى قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهى ثمان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ابان لازم ومتعد يعنى ظاهر فى كونه من عند الله لاعجازه او مظهر لاحكامه ومواعيده وما فيها من القصص.
نَتْلُوا اى نقراه بقراءة جبرئيل عَلَيْكَ ويجوز ان يكون نتلوا بمعنى ننزل مجازا مِنْ نَبَإِ اى بعض نبا مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ ظرف مستقر حال من نبا اى مقرونا بالصدق او من فاعل نتلوا اى محقين او ظرف لغو متعلق بنتلوا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم هم المنتفعون به.
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا اى استكبر وتجبر وتعظم استيناف بيان لذلك البعض فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر وَجَعَلَ أَهْلَها اى اهل تلك الأرض شِيَعاً اى فرقا يشيعونه فيما يريد من الخدمة او يشيع بعضهم بعضا او فرقا أكرم منهم طائفة وهم القبط وأهان آخرين وهم بنوا إسرائيل او أصنافا فى الخدمة استعمل كل صنف فى عمل او أحزابا اغرى بينهم العداوة كيلا يتفقوا عليه وفى القاموس شيعة الرجل اتباعه وأنصاره والفرقة على حدة يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنوا إسرائيل الجملة حال من فاعل جعل او استيناف يُذَبِّحُ(7/143)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
أَبْناءَهُمْ
لان كاهنا قال يولد مولود فى بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه كذا اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ اى يترك بناتهم احياء بدل من قوله يستضعف سمى ذلك استضعافا لانهم عجزوا وضعفوا عن دفعه عن أنفسهم إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ولذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء لتخيل فاسد إذ لا ينفعه القتل سواء صدق الكاهن او كذب-.
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ اى نتفضّل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ بانقاذهم من بأسه جملة نريد حكاية حال ماضية معطوفة على انّ فرعون علا من حيث انهما واقعان تفسيرا للنبأ- او حال من فاعل يستضعف بتقدير ونحن نريد او عطف على يستضعف والرابط بالموصوف وضع المظهر اى الذين استضعفوا موضع الضمير ولا يلزم من مقارنة الارادة للاستضعاف مقارنة المراد له لكون تعلق الارادة حينئذ تعلقا استقباليا مع ان منة الله بخلاصهم لمّا كانت قرينة الوقوع منه جاز ان يجرى مجرى المقارن وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
يقتدى بهم فى امر الدين دعاة الخير كذا قال مجاهد وقال قتادة ولاة وملوكا بدليل قوله تعالى وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لما كان فى ملك فرعون وقومه.
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر والشام واصل التمكن ان يجعل للشئ مكانا يستقر فيه ثمّ استعير للتسليط ونفاذ الأمر وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما قرأ الأعمش والحمزة والكسائي يرى بالياء ومفتوحة وفتح الراء وامالة فتحها ورفع الأسماء الثلاثة على الفاعلية والباقون بالنون مضمومة وكسر الراء وفتح الياء بعدها ونصب الأسماء الثلاثة على المفعولية مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ والحذر هو التوقي عن الضرر وذلك انهم أخبروا ان هلاكهم على يد رجل من بنى إسرائيل وكانوا على وجل منه فاراهم الله ما كانوا يحذرون..
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وهى يوخابذ بنت لاوى بن يعقوب عليه السلام كذا ذكر البغوي اجمعوا على انه ليس بوحي نبوة وان النبي لا يكون الا رجلا قال قتادة قذف فى قلبها وهو الإلهام فى اصطلاح الصوفية ومن جنسه المنام الصادق الموجب لليقين واطمينان القلب وهو ايضا من قبيل الإلهام وهذه الاية تدل على ان الإلهام(7/144)
ايضا من اسباب العلم وان كان علما ظنّيا والمعتبر الهام القلوب الزاكية والنفوس المطمئنة والفرق بين الوسوسة والإلهام بحصول اليقين واطمينان القلب أَنْ أَرْضِعِيهِ ان مفسرة لاوحينا لان فيه معنى القول او مصدرية يعنى ارضعى موسى ما أمكنك اخفاؤه قال البغوي اختلفوا فى مدة إرضاع موسى عليه السلام امه قيل هى ثمانية أشهر وقيل اربعة أشهر وقيل ثلاثة أشهر كانت ترضعه فى حجرها وهو لا يبكى ولا يتحرك فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ بان يحس به فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ فى البحر يريد النيل وَلا تَخافِي عليه الضياع وَلا تَحْزَنِي لفراقه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ من قريب بحيث تامنين عليه وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ روى عطاء والضحاك عن ابن عباس ان بنى إسرائيل لما كثروا بمصر واستطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر فسلط الله عليهم النبط فاستضعفوهم الى ان نحاهم الله على يدى نبيه- موسى عليه السّلام- قال ابن عباس رض ان أم موسى لما دنى ولادتها وكانت قابلة من قوابل اللاتي وكّلهن فرعون بحبالى بنى إسرائيل مصافية لام موسى فلمّا ضربها الطلق أرسلت إليها وقالت قد نزل بي ما نزل فلينفعنى حبك إياي اليوم قال فعالجت قابلتها فلما ان وقع موسى عليه السلام بالأرض هالها نور بين عينى موسى عليه السّلام فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى عليه السلام فى قلبها ثم قالت يا هذه ما جئت إليك حين دعوتنى الا ومن ورائي قتل مولودك ولكن وجدت لابنك حبّا ما وجدت حب شىء مثل حبه فاحفظى ابنك فانى أراه مدونا. فلمّا خرجت القابلة من عندها ابصر بعض العيون فجاءوا الى بابها ليدخلوا على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب قلفّت موسى فى خرقة فوضعته فى التنور وهو مسجور وطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع فدخلوا فاذا التنور مسجور وراوا أم موسى ع لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لها ما ادخل عليك القابلة قالت هى مصافية لى فدخلت علىّ زائرة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لاخت موسى عليه السلام فاين الصبى قالت لا أدرى فسمعت بكاء الصبى من التنور فانطلقت اليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه بردا وسلاما فاحتملته.
قال ثم ان أم موسى لما رات الحاج فرعون فى طلب الولدان خافت على ابنها فقذف(7/145)
الله فى نفسها ان تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت فى اليم وهو النيل فانطلقت الى رجل من قوم فرعون نجار فاشترت منه تابوتا صغيرا فقال لها النجار ما تصنعين بهذا التابوت قالت ابن لى أخبؤه فى التابوت وكرهت الكذب قال ولم قالت أخشى عليه كيد فرعون فلما اشترت التابوت وحملته فانطلقت انطلق النجار الى الذبّاحين ليخبرهم بامر أم موسى فلمّا هم بالكلام امسك الله تعالى فلم يطق الكلام وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول فلما أعياهم امره قال كبيرهم اضربوه وأخرجوه فلمّا انتهى النجار الى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم فانطلق ايضا يريد الأمناء فاتاهم ليخبرهم فاخذ لسانه وبصره فلم يطلق الكلام ولم يبصر شيئا فضربوه وأخرجوه ووقع فى واد يهوى فيه حيران فجعل عليه ان رد لسانه وبصره ان لا يدل عليه وان يكون معه ويحفظه حيث ما كان فعرف الله منه الصدق فرد الله عليه بصره ولسانه فخر لله ساجدا فقال يا رب دلّنى على هذا العبد الصالح فدله الله عليه فخرج من الوادي وأمن به وصدقه وعلم ان ذلك من الله عزّ وجلّ.
وقال وهب بن منبه لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها من جميع الناس فلم يطلع على حملها أحد من خلق الله وذلك شىء ستره الله لما أراد ان يمن على بنى إسرائيل فلمّا كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن ففتش النساء تفتيشا لم يفتش قبل ذلك وحملت أم موسى ع بموسى فلم ينت بطنها ولم يتغير لونها ولم يظهر لبنها وكانت القوابل لا تتعرض لها فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ولم يطلع عليها أحد الا أخته مريم واوحى الله إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ الآية فكتمته امّه ثلاثة أشهر ترضعه فى حجرها لا يبكى ولا يتحرك فلمّا خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا قيل وضعته فى تابوت مطلّى بالقارّ من داخل ممهدا له فيه وأغلقته ثم ألقته فى البحر ليلا- قال ابن عباس وغيره فكان لفرعون يومئذ بنت ليس له ولد غيرها وكانت أحب الناس عليه وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها الى فرعون وكان بها برص شديد وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا فى أمرها فقالوا لها أيتها الملكة لا تبرئى الا من قبل البحر يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيطلح به برصها فتبرا من ذلك وذا يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس- فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون الى مجلس كان له على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم وأقبلت ابنة فرعون فى جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها حتى تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن إذ اقبل النيل بالتابوت(7/146)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
يضربه الأمواج فقال فرعون ان هذا الشيء فى النيل قد تعلق بالشجرة ايتوني به فابتدروا بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فدنت آسية فرات فى جوف التابوت نورا لم يره غيرها فعالجت ففتحت الباب فاذا هى بصبىّ صغير فى مهدة وإذا نور بين عينيه وقد جعل الله رزقه فى ابهاميه يمصهما لبنا فالقى الله تعالى المحبة لموسى فى قلب آسية وأحبه فرعون وعطف عليه- وأقبلت ابنة فرعون فلمّا اخرجوا الصبىّ من التابوت عمدت بنت فرعون الى ما كان من ريقه فلطخت ببرصها فبرات فقبّلته وضمته الى صدرها فقالت الغواة لفرعون ايها الملك انا نظنّ ان ذلك المولود الّذى تحذر منه من بنى إسرائيل هو هذا رمى به فى البحر خوفا منك ان تقتله فهمّ فرعون بقتله قالت آسية قرّة عين لّى ولك لا تقتلوه عسى ان ينفعنا او نتّخذه ولدا وكانت لا تلد فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها وقال فرعون اما انا فلا حاجة لى فيه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قال يومئذ هو قرة عين لى كما هو لك لهداه الله كما هدها فقيل لاسية سميه فقالت سميته موسى لانا وجدناه بين الماء والشجر؟ " فمو" هو الماء- و" سا" هو الشجر..
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ اللام للعاقبة تشبها لعاقبة الأمر ومواده بالغرض الباعث على الفعل لتحقق وقوعها لَهُمْ عَدُوًّا يقتل رجالهم وَحَزَناً يستعبد نساءهم قرأ «وخلف- ابو محمد» حمزة والكسائي بضم الحاء وسكون الزاء والباقون بفتحهما وهما لغتان فى المصدر وهو هاهنا بمعنى الفاعلي إِنَّ فِرْعَوْنَ وَوزيره هامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ فى كل شىء فليس بمبدع منهم ان قتلوا الوفا لاجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون او المعنى كانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بان ربّى عدوهم على أيديهم فالجملة اعتراض لتأكيد خطاءهم او لبيان الموجب لما ابتلوا به.
وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ لفرعون عطف على فالتقطه ال فرعون قال وهب بن منبه لما وضع التابوت بين يديه وفتحوه وجدوا فيه موسى فلما نظر اليه قال عبرانى من اهل الأعداء فغاظه ذلك وقال كيف أخطأ هذا الغلام- وكان فرعون قد استنكح امراة من بنى إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم وكانت من خيار النساء وكانت من بنات الأنبياء وكانت امّا للمساكين ترحمهم وتتصدق عليهم وتعطيهم قالت لفرعون وهى قاعدة الى جنبه هذا الوليد اكبر من ابن(7/147)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
سنة وانما أمرت بذبح الولد لهذه السنة فدعه يكن قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ خبر مبتدا محذوف لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع على التعظيم. وروى انها قالت أتانا من ارض اخرى ليس من بنى إسرائيل عَسى أَنْ يَنْفَعَنا علة لقوله تعالى لا تَقْتُلُوهُ فان فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وذلك لما رات من نور بين عينيه وارتضاعه إبهامه لبنا وبرء البرصاء بريقه أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً او نتبناه فانه اهل له فاطاعوها وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من الملتقطين يعنى هم لا يشعرون ان هلاكهم على يديه فاستحياه فرعون فالقى الله عليه محبته اخرج ابن جرير عن محمد بن قيس مرفوعا انه قال فرعون قرّة عين لّك لالى ولو قال قرة عين لى كما هو لك لهداه الله كما هداها وقال ابن وهب قال ابن عباس لو ان عدو الله قال فى موسى كما قالت آسية عسى ان يّنفعنا لنفعه الله ولكن ابى للشقاء الذي كتبه الله عليه-.
وَأَصْبَحَ يعنى صار عطف على قالت امراة فرعون فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً اى خاليا من العقل لشدة الخوف والحزن حين سمعت وقوعه فى يد فرعون كقوله تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ اى خلاء لا عقول فيها وقال اكثر المفسرين اى خاليا من كل شىء سوى ذكر موسى وهمّه وقال الحسن فارغا اى ناسيا للوحى الذي اوحى الله إليها حين أمرها ان تلقيه فى البحر وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فجاءه الشيطان وقال كرهت ان يقتل فرعون ولدك فيكون لك اجره وثوابه وتوليت أنت قتله فالقيته فى البحر وأغرقته- فلمّا جاءها الخبر بان فرعون أصابه فى النيل قالت انه وقع فى يد عدوه فانساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها- قلت لعل حزنها لمّا كان الهام الأولياء دليلا ظنيّا فافزعته احتمال الخطاء فى الإلهام وقال ابو عبيدة معناه فارغا من الحزن لعلمها بصدق وعد الله تعالى وأنكر القتيبي هذا وقال كيف يكون هذا والله يقول إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ان مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن واللام فارقة اى انها كادت ليظهر به اى بموسى يعنى بامره انه ابنها من شدة جزعها كما قال عكرمة عن ابن عباس رض انها كادت تقول وا ابناه وقال مقاتل لما رات التابوت يرفعه موج ويضعه اخر خشيت عليه الغرق فكادت تصيح من شفقتها وقال الكلبي كادت تظهر انه ابنها وذلك حين سمعت الناس يقولون لموسى بعد ما شبّ موسى بن فرعون فشق عليها فكادت تقول هو ابني فقيل معنى الاية وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من الحزن حين سمعت ان فرعون تبنّاه فكادت لتبدى به اى بانه ابنها حيث لم تملك نفسها من شدة الفرح وروى ابن جرير وابن ابى حاتم(7/148)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)
عن السدىّ انه قالت اخت موسى هل أدلكم الى آخره وجاءت بامها فاخذ موسى ثديها فكادت تقول هو ابني فعصمها الله وقال ابو عبيدة معنى الاية أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً من الخوف والحزن لقوله تعالى لا تخافي ولا تحزنى وان كادت لتبدى به يعنى انها لشدة وثوقها بوعد الله كادت ان تظهر انه ابنها او تظهر بالوحى إليها بان الله وعدني برده الىّ وجعله من المرسلين لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها ظرف لغو متعلق بقوله رَبَطْنا وهى بتأويل المصدر مبتدا خبره محذوف يعنى لولا ربطنا على قلبها موجود او ظرف مستقر خبر للمبتدا اى لولا ربطنا ثابت على قلبها يعنى لولا ربطنا بالصبر على الجزع او على كتمان الفرح على التأويل الاول والثاني او بالصبر على كتم اسرار الله تعالى على تاويل ابى عبيدة وجواب لولا محذوف ايضا دل عليه ما قبله يعنى لابدت به لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ متعلق بربطنا يعنى ربطنا على قلبها بالصبر على الجزع او على كتم الفرح لتكون من المصدقين بوعد الله او متعلق باصبح والمعنى أصبح فؤاد امّ موسى فارغا من الخوف والحزن لتكون من المؤمنين الموقنين بوعد الله وعلى ما ذكرنا من التأويل اندفع انكار القتيبي على تاويل ابى عبيدة وجملة لولا ان رّبطنا معترضة حينئذ قال يوسف بن حسين أمرت أم موسى بشيئين ونهيت عن شيئين وبشرت ببشارتين فلم ينفعها الكل حتى تولى الله حفظها فربط على قلبها وسكن قلقها الذي وجدت من شدة الحزن او القرح لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبنّى فرعون-.
وَقالَتْ أم موسى عطف على أصبح لِأُخْتِهِ مريم بنت عمران قُصِّيهِ اى اتبعى اثره وتبتغى خبره فَبَصُرَتْ بِهِ عطف على محذوف معطوف على قالت تقديره فقضت فبصرت له عَنْ جُنُبٍ اى عن بعد حال من أحد الضميرين المرفوع او المجرور وفى القصة انها تمشى جانبا وننظر اختلاسا ترى انها لا تنظر وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ انها أخته وانها ترقبه.
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ عطف على بصرت والمراد بالتحريم المنع التكويني دون التكليفي والمراضع اما جمع مرضع بالضم يعنى منعنا عنه لبن كل مرضعة فلم يرتضع من أحدا هن واما جمع مرضع بالفتح على انه مصدر ميمى بمعنى الرضاع او ظرف وهو الثدي مِنْ قَبْلُ قصصها قال ابن عباس رض ان امراة فرعون كان همها من الدنيا ان تجد له مرضعة وكانوا كلما أتوا بمرضعة لم تأخذ موسى ثديها حتى راته اخت موسى فى ذلك الحال وفى القصة ان موسى مكث ثمانى ليال لا يقبل ثديا ويصيح فَقالَتْ عطف على حرمنا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ اى(7/149)
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
لاجلكم صفة لاهل بيت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ اى لا يقصرون فى ارضاعه وتربيته والنصح ضد الغش وهو تصفية العمل عن شوب الفساد حال من فاعل يكفلونه قال ابن جريح والسدىّ لمّا قالت اخت موسى وهم له ناصحون أخذوها وقالوا انّك قد عرفت هذا الغلام فدلينا على اهله قالت ما أعرفه وقلت وهم للملك ناصحون كذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن السدى وقيل انها قالت انما قلت هذا وغبة فى سرور الملك واتصالنا به وقيل انها لمّا قالت هل أدلكم على اهل بيت قالوا لها من قالت لامى قالوا لامك ابن قالت نعم هارون (وكان هارون ولد فى سنة لا يقتل فيها الوالدان) قالوا صدقت فأتينا به فانطلقت الى أمها فاخبرتها بحال ابنها وجاءت بها إليهم فلمّا وجد موسى ريح امه قبل ثديها وجعل يمصه حتى امتلأ جنباه قال السدىّ كانوا يعطونها اجرة كل يوم دينارا قيل انما أخذتها لانها كانت مال حربى وذلك قوله عزّ وجلّ.
فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ عطف على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض معطوفة على فقالت هل ادلّكم تقديره فقالوا دلّنى فدلت على أمها فقالوا اتى بها فانطلقت فانت بها فوضعوه فى حجرها فارضعته فرضعته فسلموه إليها للارضاع فرددناه الى امه كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها برد موسى إليها وَلا تَحْزَنَ لفراقه عطف على تقرّ وَلِتَعْلَمَ أم موسى عطف على لا تخزن أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ برده إليها حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس لا يَعْلَمُونَ ان وعد الله حق ولو علموا ذلك لما ارتكبوا منهيات الله خوفا من وعيده وما تركوا أوامره طمعا فى وعده وفيه تعريض على أم موسى لما فرط منها حين جزعت على تأويل أصبح فؤاد امّ موسى فارغا بمعنى خاليا من الصبر وقيل يعنى لا يعلمون بهذا الوعد ولا بان هذه أخته وهذه امه فمكث عندها الى ان فطمته فاتت به الى فرعون فتربى عنده كما قال الله تعالى حكاية عنه فى سورة الشعراء أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً-.
وَلَمَّا بَلَغَ موسى أَشُدَّهُ جمع شدة بمعنى القوة كالنعم جمع نعمة يعنى مبلغه الذي لا يزيد اليه نشوه قال الكلبي الأشد ما بين ثمانى عشرة سنة الى ثلاثين سنة وقال مجاهد وغيره ثلاث وثلاثون سنة وَاسْتَوى عقله اى بلغ أربعين سنة كذا روى سعيد بن جبير عن ابن عباس وقيل استوى اى انتهى شبابه آتَيْناهُ حُكْماً اى النبوة وَعِلْماً اى معرفة بالله وباحكامه قيل ليس المراد به الاستنباء لانه يكون بعد الهجرة فى المراجعة من هذين بل المراد به الفقه والعلم بالشرائع قلت العطف بالواو للجمع المطلق لا دليل فيه على الترتيب فالاستنباء وان كان بعد الهجرة لكن ذكره هاهنا لبيان انجاز الوعد بتمامه حيث قال إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَكَذلِكَ صفة المصدر محذوف(7/150)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
تقديره نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ جزاء كذلك اى مثل ذلك الذي جزينا موسى وامه على إحسانهما..
وَدَخَلَ موسى الْمَدِينَةَ عطف على لمّا بلغ أشدّه قال السدىّ هى مدينة مدين من ارض مصر وقال مقاتل كان قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر وقيل مدينة عين الشمس وقال المحلى مدينة منف دخله بعد ان غاب عنه مدة عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها وهو وقت القائلة واشتغال الناس بالقيلولة وقال محمد بن كعب القرظي دخلها فيما بين المغرب والعشاء قال السدى وذلك ان موسى يسمى ابن فرعون فكان يركب مراكب فرعون ويلبس ملابسه فركب فرعون يوما وليس عنده موسى فلمّا جاء موسى قيل له ان فرعون قد ركب فركب فى اثره فادركه المقيل بأرض منف قد خلها نصف النهار وليس فى طرقها أحد. وقال ابن إسحاق كان لموسى شيعة من بنى إسرائيل يستمعون منه ويقتدون به فلمّا عرف ما هو عليه من الحق راى فراق فرعون وقومه فخالفهم فى دينه حتى ذكر ذلك منه وأخافوه وخافوه وكان لا يدخل قرية الا خائفا مستخفيا فدخلها حين غفلة من أهلها- وقال ابن زيد لما عدا موسى فرعون بالعصا فى صغره وأراد فرعون قتله فقالت امراة فرعون هو صغير فترك قتله وامر بإخراجه من مدينته فلم يدخل الا بعد ان كبر وبلغ أشده ف دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها يعنى حين غفلة عن ذكر موسى من بعد نسائهم خبره وامره لبعد عهدهم به قال البغوي وروى عن على رضى الله تعالى فى قوله تعالى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ صفة لرجلين اى يختصمان ويتنازعان هذا مِنْ شِيعَتِهِ يعنى من بنى إسرائيل هذه الجملة مع ما عطف عليها حال من رجلين بترك الواو على طريقة كلمته فوه الى لىّ بتقدير تقديره فوجد رجلين يقال فيهما هذا من شيعته وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ اى من القبط وجاز ان يكون هذا وهذا بدلا من رجلين وقوله من شيعته ومن عدوه حال من المشار اليه والعامل فيه معنى الاشارة فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عطف على وجد عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ والاستغاثة طلب الغوث استغاث الاسرائيلى على الفرعوني فغضب موسى واشتد غضبه لانه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بنى إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس الا من قبل الرضاعة من أم موسى فقال للفرعونى خل سبيله فقال انما ناخذه ليحمل الحطب الى مطبخ أبيك فتنازعه فقال الفرعوني لقد هممت ان احمله عليك وكان موسى قد اوتى بسطة فى الخلق وشدة القوة والبطش فَوَكَزَهُ مُوسى قرأ ابن مسعود فلكزه(7/151)
قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
موسى ومعناهما واحد وهو الضرب بجمع الكف وقيل الوكز الضرب فى الصدر واللكز فى الظهر وقال الفراء معناهما الدفع وقال ابو عبيدة الوكز الدفع باطراف الأصابع وفى بعض التفاسير عقد موسى ثلاثا وثمانين فضربه فى صدره فَقَضى عَلَيْهِ اى قتله ودفنه فى الرمل كذا قال المحلى ومعناه فرغ من امره فكل شىء فرغت منه فقد قضيته وقضيت عليه ولم يكن الموسى قتله فندم عليه موسى وقالَ إلخ الجملة مستأنفة هذا اى القتل مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ انما قال ذلك لانه لم يكن مأمورا حينئذ بقتل الكفار او لانه كان مأمونا فيهم فلم يكن له اغتيالهم وهذا لم يكن مناف لعصمته لكونه خطأ وانما عدّ ذلك الأمر من عمل الشيطان وسماه ظلما واستغفر عنه على عادة المقربين فى استعظام محقرات صدرت منهم إِنَّهُ اى الشيطان عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ اى ظاهر العداوة-.
قالَ جملة مستانفة رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتل نفس من غير أمرك فَاغْفِرْ لِي خطيئتى فَغَفَرَ لَهُ عطف على قال اى غفر الله لموسى حقه ولم يكن القبطي معصوم الدم حتى لا يتصور المغفرة من غير قصاص او عفو من المقتول او ورثته إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم.
قالَ مستانفة اخرى رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ الباء فى بما أنعمت للقسم وجوابه ما بعده وقوله فلن أكون معطوف على محذوف تقديره اقسم بانعامك علىّ بالنبوة والمغفرة وغير ذلك تبت فلن أكون او الباء متعلق بمحذوف تقديره ربّ اعصمني من الزلات بحق إنعامك علىّ وعلى هذا قوله فلن أكون جواب للدعاء اى ليكن منك اعصامى فعدم كونى ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال ابن عباس اى للكافرين وهذا لو صح لدلّ على ان الاسرائيلى، كان كافرا وهو قول مقاتل وقال قتادة معناه لن أعين بعد هذا على خطيئة وقيل معناه لن أكون معينا لمن أدت معاونته الى جرم-.
فَأَصْبَحَ موسى فِي الْمَدِينَةِ التي قتل فيها القبطي عطف على فقضى عليه خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ الانتقام من ورثة المقتول او يترقب النصر من ربه حالان من فاعل أصبح فَإِذَا للمفاجاة الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ اى يستغيثه مشتق من الصراخ قال ابن عباس اتى فرعون فقيل له ان بنى إسرائيل قتلوا منّا رجلا فخذلنا بحقنا فقال انجوا الى قاتله ومن يشهد عليه فلا يستقيم ان يقضى بغير بينة نميناهم يطوفون لا يجدون ثبتا إذ مر موسى من الغد فراى ذلك الاسرائيلى يقاتل فرعونيّا فاستغاثه على الفرعوني(7/152)
فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
فصادف موسى وقد ندم ما كان منه بالأمس من قتل القبطي قالَ لَهُ اى للاسرائيلى مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بيّن الغواية حيث تسبّبت قتل رجل بالأمس وتقاتل اليوم رجلا اخر وتستغيثنى وقيل انما قال للفرعونى انّك لغوىّ مبين بظلمك ثم أدرك موسى الرقبة الاسرائيلى لمّا راى ظلم الفرعوني عليه فمديده لبطش الفرعوني.
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما اى لموسى والاسرائيلى لانه لم يكن على دينهما ولان القبط كانوا اعداء بنى إسرائيل ظن الاسرائيلى انه يريد بطشه لما راى من غصته وسمع قوله انّك لغوىّ مبين قالَ الاسرائيلى يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ او قال ذلك القبطي لما توهم من قوله انه الّذى قتل القبطي بالأمس لهذا الاسرائيلى والاول اظهر إِنْ تُرِيدُ اى ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالا بالغضب فِي الْأَرْضِ اى فى ارض مصر حيث تطاول على الناس ولا تنظر العواقب وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هى احسن فلمّا سمع القبطي قول الاسرائيلى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ علم ان قاتل القبطي بالأمس كان موسى انطلق الى فرعون وأخبره بذلك فامر فرعون بقتل موسى او سمع الناس مقالاتهم واشتهر ان موسى قتل القبطي وارتفع الى فرعون وملئه فهموا بقتله.
وَجاءَ رَجُلٌ عطف على قال يا موسى قال اكثر اهل التأويل هو حزئيل مومن ال فرعون وقيل اسمه شمعون وقيل سمعا مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ ظرف مستقر صفة لرجل وليس متعلقا بجاء لان تخصيصها الحقه بالمعارف فصح ان يكون قوله يَسْعى حالا منه يعنى جاء ذلك الرجل يسرع فى مشيه فاخذ طريقا قريبا حتى سبق الى موسى فاخبره وأنذره وقالَ يا موسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ اى يأمر بعضهم بعضا متلبسا ذلك الأمر بِكَ لِيَقْتُلُوكَ اى لكى يقتلوك او يأمر بعضهم بعضا بقتلك واللام زائدة وقيل معناه يتشاورون بك سمى التشاور ايتمار الان كلا من المتشاورين يأمر الاخر لكى يقتلوا فَاخْرُجْ من المدينة إِنِّي لَكَ متعلق بمحذوف خبر لان يعنى انى نافع لك مِنَ النَّاصِحِينَ خبر ثان ولا يجوز ان يكون لك متعلقا بناصحين لان معمول الصلة لا يتقدم على الموصول وقيل متعلق بناصحين والكلام محمول على التقديم والتأخير وقيل لك بيان لمبهم كانه قال انّى من النّاصحين ثم أراد ان يبيّن(7/153)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
فقال لك اى انصح لك واللام فيه لتقوية عمل فعل محذوف.
فَخَرَجَ موسى مِنْها من تلك القرية خائِفاً على نفسه يَتَرَقَّبُ اى ينتظر الطالب من خلفه وقيل يترقب النصر من ربه فان قيل هذه الاية تدل على جواز الخوف للانبياء من غير الله سبحانه وقد قال الله تعالى فيهم وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فما التوفيق قلنا الخوف على نفسه من مقتضيات الطبعية لا ينافى النبوة والمراد بقوله تعالى لا يخشون أحدا الّا الله انّهم لا يبالون فى إتيان أوامره تعالى والانتهاء عن مناهيه لحوق مضرة بهم من أحد سوى الله تعالى بخلاف سائر الناس فانهم يخشون النّاس كخشية الله او أشدّ خشية وإذا أوذي فى الله جعل فتنة النّاس كعذاب الله قالَ موسى استيناف او حال بتقدير قد من فاعل خرج رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ اى الكافرين يعنى خلصنى منهم واحفظني من لحوقهم وفى القصة ان فرعون بعث فى طلبه حين اخبر بهربه فقال اركبوا بينات الطريق فانه لا يعرف كيف الطريق-.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قال الزجاج اى سلك الطريق التي يلقى فيها مدين وهى قرية سميت باسم مدين بن ابراهيم عليه السلام وكان موسى قد خرج بلا ظهر وبلا زاد وكان مدين على مسافة ثمانية ايام من مصر ولم يكن فى سلطنة فرعون ولمّا ظرف فيه معنى الشرط متعلق بقوله قالَ يعنى موسى توكلا على الله وحسن ظن به عَسى رَبِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير وابو عمرو بالفتح والباقون بالإسكان أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ والجملة معطوفة على قال ربّ نجّنى واضافة سواء الى السبيل اضافة صفة الى موصوفه والمعنى ان يهدينى السبيل السوي الّذى لا زحمة فيه ولم يكن موسى يعرف الطريق إليها فلما قال هذا جاءه ملك بيده عنزة فانطلق به قال المفسرون خرج موسى من مصر ولم يكن معه الأورق الأشجار والبقل حتى يرى خضرته فى بطنه وما وصل الى مدين حتى وقع خف قدميه. قال ابن عباس رض هو أول ابتلاء من الله لموسى عليه السّلام..
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ اى وصل اليه وهو بئر كانوا يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ اى على الماء يعنى جانب البئر أُمَّةً اى جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اى فى مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ(7/154)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
حال من امرأتين او صفة لهما ان تمنعان أغنامها عن الماء لئلا تختلط باغنامهم قالَ موسى للمرءتين- ما خَطْبُكُما اى ما شأنكما حيث تمنعان مواشيكما من الماء والخطب بمعنى الشان كذا فى القاموس قيل هو مصدر بمعنى المفعول يعنى ما مخطوبكما يعنى ما مطلوبكما من هذا المنع قالَتا لا نَسْقِي أغنامنا حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ قرأ ابو جعفر وابو عمرو وابن عامر يصدر بفتح الياء وضم الدال على انه فعل لازم بمعنى يرجع والباقون بضم الياء وكسر الدال من الافعال يعنى حتى يصرف الرعاء مواشيهم عن الماء حذف المفعول من يسقون وتذودان ولا تسقى لان الغرض هو الفعل دون المفعول الا ترى انه انما رحمهما لانهما كانتا على الزود مع الحاجة الى السقي لاجل ضعفهما والناس على السقي ولم يرحمهما لان مزودهما غنم وسقيهم ابل وايضا الغرض بيان ما يدل على عفتهما واحترازهما عن مزاحمة الرجال وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ السنّ لا يقدر ان يسقى مواشيه ولذلك احتجنا الى سقى المواشي والجملة حال من فاعل لا نسقى ووجه مطابقة جوابهما سواله انه سالهما عن سبب الذور فقالتا السبب فى ذلك انا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ونستحيى من اختلاطهم فلا بد لنا من الذور وتأخير السقي كيلا يختلط الغنم قال البغوي اختلفوا فى اسم أبيهما فقال مجاهد والضحاك والسدى والحسن هو شعيب عليه السلام وقال وهب وسعيد بن جبير هو ثيرون بن أخي شعيب وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعد ما كف بصره فدفن بين المقام والزمزم وقيل رجل ممن أمن بشعيب عليه السلام فلما سمع موسى قولهما رحمهما.
فَسَقى لَهُما غنمهما قال ابن عباس زاحم القوم ونحاهم عن رأس البئر فسقى غنم المرأتين وقيل اقتنع موسى صخرة من رأس بئر اخرى كانت بقربها لا يطيق رفعها الا الجماعة من الناس قيل عشرة انفس ويقال انه نزع دلوا واحدا ودعا فيه بالبركة فروى منه جميع الغنم ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة فجلس فى ظلها من شدة الحرّ ولمّا طال البلاء بموسى انس بالشكوى الى مولاه ولا بأس فى الشكوى إذا كان الى المولى دون غيره فَقالَ موسى رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ قال اهل العلم اللام بمعنى الى يقال فقير له وفقير اليه والمراد بالانزال الإعطاء(7/155)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
يقال انزل الله تعالى نعمه او نعمته على الخلق اى أعطاهم إياه وذلك قد يكون بانزال الشيء نفسه كانزال القران وإنزال المطر وقد يكون بانزال أسبابه والهداية اليه كما فى قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ ... وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وأَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً. وأنزلت هاهنا صيغة ماض أريد به المستقبل او بمعنى قدرت انزاله الىّ والمعنى انى ما تعطينى او قدرت إعطاءه ايّاى مِنْ خَيْرٍ اى طعام قليل او كثير فَقِيرٌ محتاج «1» سائل يعنى أعطني ما شئت قليلا او كثيرا ولتضمنه معنى السؤال عدى باللام موضع الى قال ابن عباس سال الله لقمة يقيم بها صلبه قال الباقر عليه السلام لقد قالها وانه لمحتاج الى شق تمرة وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس لقد قال موسى عليه السلام رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ وهو أكرم على الله وقد افتقر الى شق تمرة قال مجاهد ما ساله الا الخير وقيل معناه انى لما أنزلت اى بسبب ما أنزلت الىّ من خير اى الدين والحكمة فقير اى صرت فقيرا فى الدنيا لاجل مخالفة فرعون فى الدين فانه كان فى سعة عند فرعون والغرض منه اظهار التبهج والشكر على ذلك- قلت وجاز ان يكون المعنى وانى الى ما أنزلت الىّ من خير اى الدين والحكمة فقير سائل منك المزيد فيه كانه قال رب زدنى علما. قلت وجاز ان يكون أنزلت مشتقا من النزل بضم النون والزاء وهو ما يعدّ للنازل من الزاد يقال أنزلت فلانا اى أضفته والمعنى الى فقير محتاج سائل لما تعدلى من الطعام..
فَجاءَتْهُ عطف على محذوف تقديره فرجعتا الى أبيهما سريعا قبل الناس واغناهما «احنك البعرين أشدهما أكلا منه رح» حنك بطان فقال لهما أبوهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى أغنامنا فقال لاحدهما اذهبي فادعيه لى فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ الظرف حال من فاعل تمشى وجملة تمشى حال من فاعل جاءت قال البغوي قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه ليست بسلفع من النساء خرّاجة دلّاجة ولكن جاءت مستترة وضعت كم درعها على
__________
(1) وعن عمر بن الخطاب ان موسى لمّا ورد ماء مدين وجد عليه امّة من النّاس يسقون فلمّا فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها الا عشرة رجال فاذا هو بامراتين قال ما خطبكما فحدثناه فاتى الحجر فرفعه وحده ثم استقى فلم يسق الا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم فرجعت المرأتان الى أبيهما فحدثناه وتولى موسى الى الظل وقال رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ الى اخر القصة 12 منه بزد الله مضجعة(7/156)
وجهها استحياء قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا اخرج ابن عساكر وكذا ذكر البغوي انه قال ابو حازم سلمة بن دينار لما سمع موسى ذلك أراد ان لا يذهب ولكن كان جائعا فلم يجد بدّا من الذهاب فمشت المرأة ومشى موسى خلفها فكانت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقها فكره موسى ان يرى ذلك منها فقال لها امشى خلفى ودلّنى على الطريق ان اخطأت ففعلت كذالك فلمّا دخل على شعيب إذا هو قد تهيّا للعشاء فقال اجلس يا شابّ فتعشّ فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك الست بجائع قال بلى ولكن أخاف ان يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وانا من اهل بيت لا نطلب على عمل من اعمال الاخرة عوضا من الدنيا فقال شعيب لا والله يا شابّ ولكن عادتى وعادة ابائى نقرئ الضيف وو نطعم الطعام فجلس موسى فاكل قلت قوله تعالى قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا صريح فى انها دعت موسى الى إعطاء الاجر وموسى أجاب دعوتها ومشى معها ولم يكن ذلك بعد ما أراد ان لا يذهب على ما قال ابو حازم فالاية تدل على بطلان هذه القصة فانها تدل على الإنكار بعد الدعوة وايضا هذه القصة يعارض قول موسى فى قصة الخضر لو شئت لتّخذت عليه اجرا وعن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم فقال أصحابه وأنت يا رسول الله قال كنت أرعى على قراريط لاهل مكة- رواه البخاري وسنذكو قوله صلى الله عليه وسلم ان موسى اجر نفسه ثمان سنين او عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه- والحق ان المكروه انما هو أخذ الاجر واشتراطه على عمل هو عبادة مقصودة بنفسها او شرط لعبادة مقصودة كالاذان والامامة وتعليم القران لا على ما هو مباح فى نفسه يصير طاعة بنية صالحة وقد أجاز الشافعي أخذ الاجرة على الاذان ونحو ذلك وأجاز المتأخرون من الحنفية أخذ الاجرة على تعليم القران والله اعلم.
فَلَمَّا جاءَهُ معطوف على جمل محذوفة تقديره فلما جاءته وقالت ما ذكر جاء موسى شعيبا عليه السّلام فلمّا جاءه اى جاء موسى عنده اى عند شعيب حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه وَقَصَّ موسى عليه السلام عَلَيْهِ الْقَصَصَ مصدر بمعنى المفعول فى القاموس قص اثره قصّا وقصصا تتبعه وقص الخبر اعمل(7/157)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)
معنى الاية اخبر موسى خبره اجمع من قتله القبطي وقصد فرعون قتله قالَ شعيب لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى من فرعون وقومه وانما قال ذلك لان فرعون لم يكن سلطانه على مدين وجملة نجوت تعليل لقوله لا تخف.
قالَتْ إِحْداهُما يعنى التي استدعته يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اى اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ اى خير من استعملت من قوىّ على العمل وادي الامانة تعليل سائغ تجرى مجرى الدليل على انه حقيق بالاستيجار وللمبالغة فيه جعل خير اسم انّ وذكر الفعل بلفظ الماضي وان كان المعنى على الاستقبال للدلالة على انه مجرب معروف- اخبر الخطيب فى تاريخه عن ابى ذر يرفعه انه قال لها أبوها وما أعلمك بقوته وأمانته قالت اما قوته فانه رفع حجرا من رأس البئر لا يرفعها الا عشرة وقيل أربعون رجلا واما أمانته فانه قال لى امشى خلفى حتى لا تصف الريح بدنك- روى عن ابن مسعود قال افرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف حيث قال عَسى أَنْ يَنْفَعَنا وابو بكر رض فى عمر رض حيث جعله خليفة فى حياته.
قالَ شعيب عند ذلك إِنِّي «ابو جعفر- ابو محمد» قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ اسمهما صفورة وليّا فى قول شعيب الجبائي وقال ابن إسحاق صفورة وشرقا وقال غيرهما الكبرى صفراء والصغرى اصغيرا قال وهب بن منبه زوجه الكبرى وذهب أكثرهم الى انه زوجه الصغرى واسمها صفورة وهى التي ذهبت لطلب موسى كذا روى البزار والطبراني من حديث ابى ذر مرفوعا وكذا اخرج البخاري عن انس قال البغوي روى ابو ذر مرفوعا إذا سئلت اىّ الامرأتين انكحها إياه فقل الصغرى منهما وهى التي جاءت فقالت يابت استاجره فتزوج صغراهما عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي اى تأجر نفسك منى وتكون لى أجيرا وقال الفراء ان تجعل ثوابها من تزويجها يقول العرب أجرك يأجرك اى أثابك والمعنى على ان تثيبنى من تزويجها ان ترعى غنمى ثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف على التأويلين الأولين ومفعول به على تأويل الفراء بإضمار مضاف والحجج السنون واحده حجة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً اى عشر سنين فى رعى الغنم فَمِنْ عِنْدِكَ اى فذلك تفضل من عندك وتبرع وليس بواجب عليك وهذا استدعاء لعقد النكاح لانفسه(7/158)
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
إذ لو كان عقدا لقال قد أنكحتك هذه تبعين إحداهما فالظاهر انه جرى بعد ذلك العقد على واحدة معينة منهما لكن هذه الاية تدل على ان رعى الغنم ثمان سنين جعل تمام المهر او بعضه بانضمام مال اخر معه ويدل عليه ما رواه احمد وابن ماجة عن عتبة بن المنذر قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى بلغ قصة موسى فقال ان موسى عليه السلام اجر نفسه ثمان سنين على عفة فرجه وطعام بطنه.
(مسئلة) : - بهذه الاية والحديث استدل الفقهاء على انه من نكح امراة على ان يرعى الزوج غنمها جاز حيث ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة موسى من غير بيان نفيه فى شريعتنا وبه قال ابو حنيفة رحمة الله فى رواية ابن سماعة عنه ولا يجوز ذلك عند ابى حنيفة فى رواية الأصل والجامع وجه قول ابى حنيفة ان الاستدلال بهذه الاية والحديث المذكور فى هذه المسألة لا يجوز الا إذا ثبت كون العتم ملكا للبنت للاجماع على ان المهر فى شريعتنا يكون للزوجة لا لوليها والغنم كانت لشعيب عليه السلام فالاجماع دل على ان هذا الحكم كان فى شريعتهم لا فى شريعتنا وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ... وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بالزام تمام العشرة او المناقشة فى مراعات الأوقات واستيفاء الأعمال- المشقة مشتقة من الشق بمعنى الفرق فان ما يصعب عليك يشق اى يفرق عليك اعتقادك فى اطاقته ورأيك فى مزاولته سَتَجِدُنِي «ابو جعفر- ابو محمد» قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قال عمر فى حفظ الصحبة والوفاء بما قلت وهذه الجملة تأكيد لقوله ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ والمراد بالاشتراط بمشية الله فيما وعد من الصلاح الاتكال على توفيقه فيه ومعونته وعدم الاتكال على نفسه لا التردد فى الوعد..
قالَ موسى ذلِكَ الشرط ثابت بَيْنِي وَبَيْنَكَ مما شرطتّ علّى فلك وما شرطتّ لى من تزويج إحداهما فلى أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ اىّ منصوب بقضيت وما زائدة مؤكدة للابهام والمعنى اى الأجلين أطولهما او اقصرهما قَضَيْتُ اى وفيتك فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ جزاء لما تضمن ايّما معنى الشرط والجملة الشرطية بدل من قوله ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يعنى لا تعتدى علّى بطلب الزيادة فكما لا أطالب(7/159)
بالزيادة عند قضاء عشر سنين كذلك لا أطالب بالزيادة عند قضاء ثمان- او فلا أكون معتديا بترك الزيادة عليه كقولك لا اثم علىّ وهو ابلغ فى اثبات الخيرة وتساوى الأجلين فى القضاء من ان يقال ان قضيت الا قصر فلا عدوان على وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من المشارطة وَكِيلٌ قال ابن عباس فيما بينى وبينك والجملة حال ممّا سبق والوكيل هو من وكل اليه الأمر واستعمل هاهنا موضع الشاهد والرقيب ولذلك عدى بعلى وروى شداد بن أوس مرفوعا بكى شعيب النبي صلى الله عليه واله وسلم حتى عمى فرد الله بصره ثم بكى حتى عمى فرد الله بصره فقال الله ما هذا البكاء اشوقا الى الجنة أم خوفا من النار فقال لا يا رب ولكن شوقا الى لقائك فاوحى الله اليه ان يكن ذلك فهنيئا لك لقائى يا شعيب لذلك اخدمتك موسى- ولمّا تعاقدا هذا العقد بينهما امر شعيب ابنته ان تعطى موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه واختلفوا فى تلك العصا قال عكرمة خرج بها آدم من الجنة فاخذها جبرئيل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا فدفعها اليه. وقال آخرون كانت من أس الجنة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبى الا كلمته فصار من آدم الى نوح ثم الى ابراهيم ثم وصلت الى شعيب وكانت عصا الأنبياء عنده فاعطاها موسى. وقال السدى كانت تلك العصا أودعها ملك فى صورة رجل فامر ابنته ان تأتيه بعصا فاتته بها فلما راها شعيب قال لها ردى هذه العصاء واتيه بغيرها فالقتها وأرادت ان تأخذ غيرها ولا تقع فى يدها الا هى حتى فعلت ذلك ثلاث مرات فاعطاها موسى فاخرجها موسى معه ثم ان الشيخ ندم وقال كانت وديعة فذهب فى اثره وطلب ان يرد العصا فابى موسى ان يعطيه وقال هى عصاى فرضيا ان يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فاتاهما ملك فى صورة رجل فحكم ان يطرح العصا فمن حملها فهى له فطرح فعالجها ليأخذها فلم يطقها فاخذها موسى فرفعها فتركها له الشيخ- ثم ان موسى لما أتم الاجل وسلّم شعيب ابنته قال موسى للمرءة اطلبى من أبيك ان يجعل لنا بعض الغنم فطلبت من أبيها فقال شعيب لكما كلما ولدت هذا العام على غير شيتها «كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. منه رح» قيل أراد شعيب ان يجازى موسى على حسن رعيته إكراما له ووصلة لابنته فقال انى قد وهبت لك من الجدايا التي تضع اغنامى هذه السنة كل أبلق وبلقاء فاوحى(7/160)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
الله الى موسى فى المنام ان اضرب بعصاك الماء الذي فى مسقى الأغنام فضرب بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحد منها الا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب ان ذلك رزق ساقه الله عز وجلّ الى موسى فامره فوفى له بشرطه وسلم الأغنام اليه-.
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ اى أتمه وفرغ منه روى البغوي عن سعيد بن جبير قال سالنى يهودى من اهل الحيرة اىّ الأجلين قضى موسى قلت لا أدرى حتى اقدم على خبر العرب فاسئله فقدمت فسالت ابن عباس فقال قضى أكثرهما واطيبهما ان رسول الله إذا قال فعل- قال البغوي روى ابو ذر إذا سئلت اىّ الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأبرهما- رواه البزار وقال مجاهد لما قضى موسى الاجل مكث بعد ذلك عند صهره عشرا اخر فاقام عنده عشرين سنة ثم استأذنه فى العود الى مصر فاذن له فخرج الى مصر وَسارَ بِأَهْلِهِ حتى إذا بلغ برية قريبا من طور سيناء فى ليلة مظلمة شديدة الشتاء وأخذ امرأته الطلق آنَسَ اى ابصر مِنْ جانِبِ الطُّورِ اى من جهة التي تلى الطور ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا مكانكم وجمع الضمير ان صح ان لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون باسكانه آنَسْتُ ناراً الجملة فى مقام التعليل لامكثوا لَعَلِّي قرا الكوفيون بإسكان الياء والباقون بفتحها آتِيكُمْ مِنْها اى من النار لاجل اضاءتها الطريق بِخَبَرٍ الطريق وكان قد أخطأ الطريق أَوْ جَذْوَةٍ قرأ عاصم بفتح الجيم «وخلف- ابو محمد» وحمزة بضمها والباقون بكسرتها ثلاث لغات قال البغوي قال قتادة ومقاتل هى العود الذي قد احترق بعضها وجمعها جذى وفى القاموس الجذوة مثلثة القبسة من النار والجمرة مِنَ النَّارِ اى نتخذه من النار ومن للابتداء او للتبعيض وقال البيضاوي هى عود غليظ سواء كان فى راسه نارا ولم يكن ولذلك بينه بقوله من النار فمن للبيان لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ اى نستدفؤن بها..
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ اى جانب الْوادِ الْأَيْمَنِ اى الوادي الذي عن يمين موسى فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ متعلق بنودى يعنى مباركة لموسى حيث(7/161)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
كلمه الله تعالى هناك وبعثه نبيّا وقال عطاء يريد المقدسة مِنَ الشَّجَرَةِ بدل اشتمال من الشاطئ لانها كانت نابتة على الشاطئ قال ابن مسعود كانت شجرة اخضر تبرق وقال قتادة ومقاتل والكلبي كانت عوجة وقال وهب من العليق وعن ابن عباس انها العذب أَنْ مفسرة لنودى يا مُوسى إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقال فى طه انّى انا ربّك وفى النمل انّه انا الله العزيز الحكيم والمقصود واحد فهو اما رواية بالمعنى او ذكر الله سبحانه فى المحكي بالصفات المذكورة كلها واقتصر فى الحكاية على بعضها كما اقتصر على بعض ما تكلم به فى كل موضع فانه ذكر فى طه فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً إلخ وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى وقال فى النمل بورك من فى النّار ومن حولها وسبحان إلخ.
وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها عطف على محذوف تقديره فالقاها فصارت ثعبانا واهتزت فلمّا راها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ يعنى كانها حية صغيرة فى سرعة حركتها وشدة اضطرابها وَلَّى مُدْبِراً هاربا منها وَلَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع فنودى يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ عن المخاوف فانّه لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ-.
اسْلُكْ اى ادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ اى جيب قميصك تَخْرُجْ مجزوم فى جواب الأمر بَيْضاءَ حال من المفعول المحذوف لتخرج اى تخرجها بيضاء ذات شعاع مِنْ غَيْرِ سُوءٍ متعلق ببيضاء وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ قرأ الكوفيون غير حفص واهل الشام بضم الراء وسكون الهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء والباقون بفتحهما وكلها لغات بمعنى الخوف قال عطاء عن ابن عباس امره الله ان يضم يده اليه ليذهب عنه الخوف وقال ما من خائف بعد موسى الا إذا وضع يده على صدره زال خوفه وقال مجاهد كل من فزع فضم جناحيه اليه ذهب عنه الفزع والجناح اليد كلها وقيل العضد وقيل المراد من ضم الجناح السكون والتجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر فانه إذا خاف نشر جناحيه وإذا أمن واطمان ضمهما اليه قال البغوي اى اسكن روعك واخفض عليك جانبك لان من شأن الخائف ان يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ومثله قوله تعالى وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وقوله تعالى وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ يريد(7/162)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
رفق بهم وقال الفراء أراد بالجناح عصا معناه اضمم إليك عصاك وقيل الرهب الكم بلغة حمير قال الأصمعي سمعت بعض العرب يقول أعطني ما فى رهبك اى ما فى كمك معناه اضمم إليك يدك مخرجا من الكم لانه تناول العصا ويده فى كمه حين قال له الله تعالى خُذْها وَلا تَخَفْ والظاهر عندى ان هذا عطف تفسيرى لقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ واضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ اى أدخلها فى جيبك والغرض من التكرير ترتب الامرين عليه أحدهما التجلد وضبط النفس ودفع الخوف واظهار الجراءة وهو المراد بقوله اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ اى يديك المبسوطتين اللتين تتقى بهما الحية فى جيبك من الرهب اى من أجل دفع الرهب وثانيهما ظهور معجزة اخرى وهو المراد بقوله تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ويدل على هذا قوله تعالى فى سورة طه وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ... آيَةً أُخْرى ... فَذانِكَ اشارة الى العصا واليد قرأ ابن كثير وابن عمرو بتشديد النون والباقون بتخفيفها بُرْهانانِ اى حجتان قال فى القاموس البرهان بالضم الحجة وبرهن عليه اقام البرهان فهو فعلال وقيل هو فعلان من البرة يقال بره الرجل إذا ابيض ويقال برهاء وبرهرهة للمرءة البيضاء وفى القاموس ابره اتى بالبرهان او بالعجائب وغلب الناس مِنْ رَبِّكَ اى كائنان من ربك صفة لبرهانان إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف اى مرسلا بهما الى فرعون وَمَلَائِهِ فهو صفة بعد صفة لبرهانان او استيناف متعلق بمحذوف اى اذهب بهما الى فرعون وملائه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فى مقام التعليل اى لانهم كانوا أحقاء بان يرسل إليهم.
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ضمير المفعول محذوف اى يقتلونى.
وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وانما قال لعقدة كانت فى لسانه من وضع الجمرة فى فيه فَأَرْسِلْهُ يعنى هارون مَعِي قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها رِدْءاً اى معينا يقال اردأته اى أعنته حال من الضمير المنصوب وهو فى الأصل اسم مايعان به كالدفء. قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح «1» الدال من
__________
(1) قرأ نافع وابو جعفر بنقل حركة الهمزة على الدال فنافع وصلا بالتنوين ووقفا بالألف بدل التنوين وابو جعفر فى الحالين بالألف 12 ابو محمد عفا الله عنه-(7/163)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
غير همزة والباقون بإسكان الدال والهمزة وحمزة على مذهبه فى الوقف يُصَدِّقُنِي قرأ عاصم وحمزة بالرفع صفة لردا اى ردا مصدقا لى وقرأ الآخرون بالجزم على جواب الدعاء والضمير المرفوع عائد يعنى ان أرسلته معى يصدقنى بتقرير الحجة وازاحة الشبهة وفصاحة اللسان وقيل المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه لكنه أسند اليه الفعل اسناده الى المسبب وقال مقاتل الضمير المرفوع عائد الى فرعون والمعنى ان أرسلت معى هارون يصدقنى فرعون بحسن تقرير هارون إِنِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قرأ الجمهور بحذف الياء وأثبتها «ويعقوب فى الحالين- ابو محمد» ورش فى الوصل فقط يكذبونى يعنى فرعون وقومه حيث لا يطاوعنى لسانى عند المحاجة.
قالَ الله تعالى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ اى سنقويك فان شدة العضد مستعار للتقوية فان قوة الشخص بشدة اليد على مزاولة الأمور ولذلك يعبر عنه باليد وشدتها بشدة العضد بِأَخِيكَ اى بإرسال أخيك هارون معك وكان هارون يومئذ بمصر وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً اى غلبة او حجة فَلا يَصِلُونَ اى فرعون وقومه إِلَيْكُما بمكروه بِآياتِنا متعلق بمحذوف اى اذهبا باياتنا او بنجعل يعنى نجعل لكما بايتنا اى بالمعجزات التي نعطيكما سلطانا على الأعداء او بمعنى لا يصلون والمعنى نمتنعون اى فرعون وقومه بايتنا اى بسبب المعجزات او قسم جوابه لا يصلون او بيان للغالبون فى قوله تعالى أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ بمعنى انه صلة لما بنيه او صلة له على ان اللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي..
فَلَمَّا جاءَهُمْ معطوف على محذوف تقديره فجاء موسى الى فرعون وقومه بالآيات البينات وهى العصا واليد فلما جاءهم مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا اى العصا ونحوه إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً اى مختلق لم يفعل قبله مثله او سحر يعمله موسى ثم يفتريه على الله او سحر موصوف بالافتراء كسائر انواع السحر وَما سَمِعْنا بِهذا السحر او دعاء النبوة فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ كائنا فى ايامهم.
وَقالَ مُوسى رَبِّي قرأ «ابو جعفر- ابو محمد» نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْلَمُ منكم بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ فيعلم انى محق وأنتم مبطلون تجحدون بالحق بعد وضوح الآيات وبعد ما استيقنت به أنفسكم ظلما وعلوّا معطوف على قالوا والمراد حكاية القولين حتى ينظر فيهما فيميز(7/164)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
الصحيح من الفاسد وقرأ ابن كثير قال موسى بغير واو العطف كذلك هو فى مصاحفهم لانه فى جواب كلامهم فهو استيناف فى جواب ما قال موسى فى جواب قولهم وَمَنْ تَكُونُ قرأ حمزة «وخلف ابو محمد» والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لكون المسند اليه مؤنثا غير حقيقى يجوز فيه الأمران لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ عطف على من جاء بالهدى يعنى اعلم بمن تكون له عاقبة محمودة فى الدار الاخرة وقال البيضاوي المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الاصلية هى الجنة لان الدنيا خلقت مزرعة للاخرة مجازا إليها والمقصود منها الثواب والعقاب انما قصد بالعرض وقال المحققون العقبى والعاقبة يطلفان على ما يعقب الحسنات من الثواب- والعقاب والعقوبة والمعاقبة يختص بما يعقب السيّئات ويترتب عليها من العذاب قال الله تعالى خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً وقال لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ وفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ والْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وقال الله تعالى فَحَقَّ عِقابِ وقال شديد العقاب وقال وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يعنى لا يفوزون بالهدى فى الدنيا وحسن الثواب فى الاخرة.
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفى علمه باله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضى الجزم بعدمه ولذلك قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ وهو كان وزير فرعون قال له فاطبخ لى الاجر قيل هو أول من اتخذ الاجر وبنى به عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً قصرا عاليا فان التنكير للتعظيم لَعَلِّي قرأ الكوفيون «ويعقوب- ابو محمد» بإسكان الياء والباقون بفتحها أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى توهم انه لو كان لكان فى السماء ويمكن الترقي اليه وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ يعنى موسى عليه السلام مِنَ الْكاذِبِينَ فيما يقولون ان للارض والسماء خالقا كان فرعون دهريا لم يعتقد وجوب استناد الممكنات الى الواجب ويزعم انه من كان سلطانا متغلبا كان الها مستحقا للعبادة- قال البغوي قال اهل التفسير جمع هامان العملة والفعلة حتى اجتمع خمسون الف بناء سوى الاتباع والاجراء ومن يطبخ الاجر والجص ومن ينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله عزّ وجلّ ان يفتنهم فيه فلمّا فرغوا منه ارتقى فرعون وقومه فامر بنشابة «النشاب النبل الواحدة بها- قاموس منه رح» فرمى بها فى السماء فردت اليه وهى متلطخة دما فقال قد قتلت اله موسى وكان(7/165)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
فرعون يصعده على البرازين- فبعث الله جبرئيل حين غروب الشمس فضربه بجناحه وقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم الف الف رجل ووقعت قطعة فى البحر وقطعة فى المغرب ولم يبق من عمل بشئ الا هلك..
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بغير الاستحقاق فان الاستكبار بالحق لمن لا يكون فوقه كبير ولا مثله ولا دونه وما هو الا الله سبحانه خالق كل ما سواه فهو المتكبر على الحقيقة المبالغ فى الكبرياء ومن ثم قال الله تعالى الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى فى واحد منهما قذفته فى النار رواه احمد وابو داود وابن ماجة بسند صحيح عن ابى هريرة وابن ماجة عن ابن عباس ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابى هريرة بلفظ الكبرياء ردائى فمن نازعنى فى ردائى قصمته- ورواه سمويه عن ابى سعد وابى هريرة بلفظ الكبرياء ردائى والعزّ إزاري فمن نازعنى فى شىء منهما عذبته وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ قرأ نافع ويعقوب وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم على البناء للفاعل من المجرد والباقون بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول من الإرجاع.
فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ اى القيناهم فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ احذر قومك عن مثلها.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قدوة لاهل الضلال بالحمل على الإضلال او قدوة ورؤساء فى الدنيا بإعطاء المال والجاه يَدْعُونَ الناس إِلَى النَّارِ الى موجباتها من الكفر والمعاصي جملة يدعون صفة لائمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ يعنى لا يدفع أحد عنهم عذاب الله تعالى عطف على يدعون.
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طردا عن الرحمة او لعن اللاعنين يلعنهم الله والملائكة والمؤمنون عطف على جعلنا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ متعلق بمقبوحين هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ اى المبعدين الملعونين قال ابو عبيدة من المهلكين وعن ابن عباس من المشوهين لسواد الوجه وزرقة العين يقال قبحه الله وكذا يقال شوهه الله إذا جعله قبيحا ويقال قبحه قبحا وقبوحا إذا أبعده من كل خير-.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية جواب قسم محذوف مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا ما مصدرية الْقُرُونَ الْأُولى قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم(7/166)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
بَصائِرَ لِلنَّاسِ حال من الكتاب اى حال كونه موجبا للبصائر جمع بصيرة وهى نور فى القلوب يبصر به قلوبهم حقائق الأشياء من الواجب والممكن على ما هى عليه بقدر الطاقة البشرية ويميز الحق من الباطل والرشد من الغى وَهُدىً يهتدوا به الى طريق النجاة وما فيه صلاح المعاش والمعاد وَرَحْمَةً اى حال كون الكتاب سبيلا لنيل رحمة الله ان جعلوا بها او حال كونه مقتضى لرحمة الله الازلية عليهم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اى لكى يتذكروا او يكونوا على حال يرجى منهم التذكر فان التذكر والخشية من ثمرات العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ-.
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ من مقام موسى وهو الطور قال قتادة والسدى اى بجانب الجبل الغربي وقال الكلبي بجانب الوادي الغربي عنوا انه ليس من باب اضافة الصفة الى الموصوف بل الموصوف محذوف قال ابن عباس يريد حيث ناجى موسى ربه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى ما كنت يا محمد حاضرا إِذْ قَضَيْنا اى أوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ بالرسالة الى فرعون وقومه وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ للوحى اليه او على الوحى اليه وهم السبعون الذين اختاره من قومه لميقات ربه- يعنى اخبارك بقصة موسى اخبار بالغيب لا يمكن الاطلاع عليه الا بالوحى فهو معجزة لك وبرهان على دعواك النبوة ولذلك استدرك بقوله.
وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً اى رجالا مقارنين فى كل عصر او اهل قرون بحذف المضاف ان كان القرن بمعنى الزمان فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ يعنى ولكنا أوحينا إليك لبعد الفترة واندراس العلوم وتغير الشرائع والاضطراب والتعارض فى الاخبار لما انا انشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فتطاولت عليهم المدد ووقع التكاذب والتخالف فيما بينهم فحذف المستدرك وأقيم سببه مقامه- وقال البغوي ان الله قد عهد الى موسى وقومه عهودا فى محمّد صلى الله عليه وسلم والايمان به فلما طال عليهم العمر وخلقت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها فمعنى الاية ما كنت حاضرا حين عهدنا الى موسى فى أمرك ولم يكن ذلك باستدعائك ولكنا فعلنا ذلك تفضلا ابتدائيّا حسما لاعتذار من خالفك إذا نشأنا قرونا فتطاول عليهم نظيره قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ الى قوله أَنْ تَقُولُوا ... إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ وَما كُنْتَ(7/167)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
ثاوِياً
اى مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كمقام موسى وشعيب فيهم تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا تذكرهم بالوعد والوعيد خبر ثان لكنت او حال من الضمير فى ثاويا قال مقاتل يعنى لم تشهد فى اهل مدين فتقرأ على اهل مكة خبرهم وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إياك الى اهل مكة وسائر الناس بالمعجزات واخبار المغيبات ولولا ذلك لما تلوت قصصهم على هؤلاء.
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ اى بناحية الجبل الذي كلم الله عليه موسى إِذْ نادَيْنا موسى ان خذ الكتاب بقوّة فالمراد بهذا وقت إعطائه التوراة وبالأول وقت استنبائه وقال وهب قال موسى يا رب أرني محمدا صلى الله عليه وسلم قال انك لن تصل الى ذلك وان شئت ناديت أمته وأسمعتك صوقهم قال نعم يا رب قال الله تعالى يا امة محمد فاجابوا من أصلاب ابائهم وقال ابو زرعة بن عمرو بن جرير نادى يا امة محمد ص قد أجبتكم قبل ان تدعونى وأعطيتكم قبل ان تسئلونى وروى عن ابن عباس قال الله تعالى يا امة محمد فاجابوا من أصلاب الآباء وأرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لك لا شريك لك قال الله تعالى يا امة احمد ان رحمتى سبقت غضبى وعفوى عقابى قد أعطيتكم من قبل ان تسئلونى وقد أجبتكم من قبل ان تدعونى وقد غفرت لكم من قبل ان تعصونى من جاء يوم القيامة بشهادة ان لا اله الّا الله وان محمدا عبدى ورسولى دخل الجنة وان كان ذنوبه اكثر من زبد البحر وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ اى لكن رحمناك رحمة من ربّك بإرسالك والوحى إليك واطلاعك على المغيبات او أرسلناك او علمناك رحمة من ربك لِتُنْذِرَ متعلق بمحذوف وهو الفعل الناصب لقوله تعالى رحمة يعنى رحمناك وأرسلناك او علمنك لتنذر قَوْماً ما أَتاهُمْ صفة لقوم مِنْ نَذِيرٍ فاعل أتاهم بزيادة من مِنْ قَبْلِكَ والمراد بالقوم اهل مكة لم يبعث نبى بمكة بعد إسماعيل عليه السّلام وكانت دعوة موسى وعيسى وغيرهما فى بنى إسرائيل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اى لكى يتذكروا ويتعظوا متعلق بقوله لتنذر.
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ اى عقوبة ونقمة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بسبب ما أتوا به من الكفر والمعاصي ولما كان اكثر الأعمال بتزاول الأيدي نسبت الأعمال الى الأيدي تغليبا وان كان بعضها من افعال القلوب فَيَقُولُوا منصوب لكونه معطوفا على تصيبهم والعطف بالفاء للسببية المنبهة بان يكون سببا لانتفاء ما يجاب به لولا الامتناعية وانه لا يصدر عنهم هذا القول(7/168)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
الا بعد ما أصابهم العقوبة رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ منصوب فى جواب لولا التحضيضية تشبيها له بالأمر تقديره هلا كان منك إرسال رسول إلينا فاتباعا منا آياتِكَ وَنَكُونَ عطف على نتبع مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وجواب لولا الامتناعية محذوفة والمعنى لولا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلغنا آياتك فنتبعها ونكون من المصدقين لما بعثناك إليهم رسولا وعاقبناهم بكفرهم من غير إنذار سابق على العقاب ولكن بعثناك إليهم قطعا لاعتذارهم وإلزاما للحجة عليهم نظير قوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بعد الرّسل.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعنى القران او محمدا صلى الله عليه واله وسلم رسولا مصدقا بالكتاب المعجز مِنْ عِنْدِنا قالُوا يعنى كفار مكة تعنتا واقتراحا لَوْلا هلا أُوتِيَ محمّد صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الآيات كالعصا واليد البيضا او الكتاب جملة واحدة وهذه الجملة معطوفة على مضمون جملة سابقة ولكن بعثناك إليهم قطعا لاعتذارهم وإلزاما للحجة فلمّا جاءهم الحق إلخ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ القران الاستفهام للانكار وانكار النفي اثبات والواو للعطف على محذوف تقديره الم يكذبوا موسى ولم يكفروا بما اوتى موسى يعنى قد كذّبوا موسى وكفروا بما اوتى موسى من قبل هذا فكيف يطلبون منك مثل ما اوتى موسى يعنى ان أبناء جنسهم فى الرأى والمذهب وهم كفرة زمان موسى كفروا بما اوتى موسى وقال الكلبي لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم اهل مكة الى الإسلام بعثوا رجالا الى أحبار اليهود بالمدينة فسالوهم عن امر محمد صلى الله عليه وسلم فاخبروهم ان نعته فى كتابهم التورية فرجعوا فاخبروهم بقول اليهود فكفروا يعنى اهل مكة بموسى وبما اوتى به قالوا ساحران كذا قرأ اهل الحجاز والبصرة والشام على وزن اسم الفاعل يعنون محمدا وموسى صلى الله عليهما وسلم وقرأ الكوفيون سِحْرانِ بكسر السين واسكان الحاء على المصدر على حذف المضاف او جعلهما سحرين مبالغة او عنوا بالسحرين التوراة والفرقان وعلى قول غير الكلبي قالوا يعنى كفرة زمان موسى ساحران يعنون موسى وهارون تَظاهَرا اى تعاونا يعنى محمدا وموسى بتوافق الكتابين او موسى وهارون وَقالُوا اى كفار مكة او كفار زمن معسى إِنَّا بِكُلٍّ اى بكل منهما او بكل(7/169)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
واحد من الأنبياء كافِرُونَ والظاهر قول الكلبي على ما يقتضيه السياق وبدليل قوله تعالى-.
قُلْ يا محمد فَأْتُوا يا اهل مكة والفاء فى جواب شرط مقدر يعنى ان كفرتم بالكتابين القران والتورية وقلتم انهما سحران فأتوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما اى مما اوتى محمد وموسى من القران والتورية واضمارهما لدلالة المعنى أَتَّبِعْهُ مجزوم فى جواب الأمر يعنى ان تأتوا باهدى منهما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعواكم انهما سحران ومن جاءا بهما ساحران وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله اعنى فأتوا وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ومجئى حرف الشك التهكم بهم.
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك الى الإتيان بالكتاب الاهدى حذف المفعول للعلم به ولان فعل الاستجابة يعدى بنفسه الى الدعاء وباللام الى الداعي فاذا عدى اليه حذف الدعاء غالبا والمعنى انه ان لم يأتوا بكتاب اهدى فَاعْلَمْ انهم الزموا ولم يبق لهم حجة وأَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ إذ لو اتبعوا حجة لا توابها عند الحاجة إليها وَمَنْ أَضَلُّ يعنى لا أحد أضل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ فى موضع حال للتوكيد او التقييد فان هواء النفس قد يوافق الحق إذا كمل ايمان المرء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به- رواه البغوي فى شرح السنة عن عبد الله بن عمرو وقال النووي حديث صحيح إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالانهماك فى اتباع الهوى-.
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ قال الفراء يعنى أنزلنا آيات القران يتبع بعضها بعضا قال البيضاوي يعنى فى الانزال ليتصل التذكير او فى النظم ليتقرر الدعوة بالحجة والمواعظ بالمواعيد والنصائح بالعبر قال فى المدارك التوصيل تكثير الوصل وتكريره وقال ابن عباس معناه بيّنا قلت يعنى بيّن بعض الكتاب ببعض وقال قتادة وصّل لهم القول فى هذا القران كيف صنع بمن مضى وقال مقاتل بيّنا لكفار مكة بما فى القران من اخبار الأمم الماضية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد وصّلنا لهم خبر الدنيا بخبر الاخرة حتى كانهم عاينوا الاخرة فى الدنيا لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اى لكى يتذكرون(7/170)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
متعلق بوصّلنا.
اخرج ابن جرير والطبراني عن رفاعة القرظي قال نزلت وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ فى عشرة انا أحدهم- واخرج ابن جرير عن على بن رفاعة قال خرج عشرة رهط من اهل الكتاب منهم رفاعة يعنى أباه الى النبي صلى الله عليه وسلم فامنوا قاوذوا فنزلت.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل من قبل القران هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ اخرج ابن جرير عن قتادة قال كنا نحدث انها نزلت فى أناس من اهل الكتاب كانوا على الحق حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فامنوا به منهم عثمان وعبد الله بن سلام رض وكذا ذكر البغوي وكذا اخرج ابن مردويه عن ابن عباس واخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عباس ان أربعين من اصحاب النجاشي قدموا فشهدوا وقعة خيبر فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم- فلمّا راوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا يا رسول الله انّا اهل ميسرة فائذن لنا نجئى باموالنا نواسى بها المسلمين فانزل الله فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ- واخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير قال لما اتى جعفر وأصحابه النجاشي أنزلهم واحسن إليهم فلما أرادوا ان يرجعوا قال من أمن من اهل مملكته ايذن لنا فلنخدم هؤلاء فى البحر ونأتى هذا النبي فنحدث به عهدا فانطلقوا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أحدا وحنينا وخيبر ولم يصب أحد منهم فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم ايذن لنا فلنأت ارضنا فان لنا أموالا فتجئ بها فننفقها على المهاجرين فانّا نرى بهم جهدا فاذن لهم فانطلقوا فجاءوا باموالهم وأنفقوها على المهاجرين فانزل الله فيهم الاية- وذكر البغوي عن سعيد بن جبير نحوه قال فانزل الله فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ الى قوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وذكر البغوي عن ابن عباس ان الاية نزلت فى ثمانين من اهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام- ثم وصفهم الله تعالى فقال.
وَإِذا يُتْلى يعنى القران عَلَيْهِمْ الظرف متعلق بقوله قالُوا آمَنَّا بِهِ اى بانه كلام الله عطف على يؤمنون إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استيناف لما أوجب إيمانه إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل نزوله مُسْلِمِينَ مخلصين لله فى التوحيد مؤمنين(7/171)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
بمحمد صلى الله عليه وسلم انه نبى وذلك لما بشر به عيسى عليه السلام حيث قال مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ وكان ذكره فى التورية والإنجيل. وهذا استيناف اخر للدلالة على ان ايمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ وانما هو امر تقادم عهده وجاز ان يكون هذه الجملة بيان لقوله آمَنَّا فانه يحتمل البعيد والقريب وبهذه الآية حمل على البعيد واندفع احتمال القريب..
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على ايمانهم بكتابهم وبالقران قبل نزوله بشهادة نبيهم وكتابهم ومرة على ايمانهم بالقران بعد نزوله بِما صَبَرُوا اى بصبرهم وبقائهم على الايمان بالقران بعد نزوله كما كان قبل نزوله بخلاف غيرهم من اهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون به قبل نزوله ويستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به حسدا ولم يصبروا على الايمان روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى موسى الأشعري رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد والعبد المملوك إذا ادى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده امة يطاها فادّبها فاحسن تأديبها وعلمها فاحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال ابن عباس يدفعون بشهادة ان لا اله الا الله الشرك وقال مقاتل يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو قلت وجاز ان يقال يدفعون عداوة من عاداهم بالإحسان إليهم فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وقيل معناه يدفعون بالطاعة المعصية قال الله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبع الحسنة السيئة يمحها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فى سبيل الخير.
وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ اى القبيح من القول أَعْرَضُوا عَنْهُ قال البغوي كان المشركون يسبون مؤمنى اهل الكتاب ويقولون (تبّا لكم) تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ اى لنا ديننا ولكم دينكم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ليس المراد التحيّة ولكنه سلام المتاركة معناه سلمتم منا لا نردكم بالشتم والقبيح لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ اى لا نطلب دين الجاهلين ولا نجب دينكم الذي أنتم عليه قيل معناه لا نطلب صحبة الجاهلين(7/172)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
وقيل معناه لا نريد ان نكون من الجاهلين يعنون انه ان صدر منا شتمكم وسبّكم فى مقابلة ما صدر منكم شتمنا فنكون حينئذ مثلكم ونحن لا نريد ذلك نعوذ بالله ان نكون من الجاهلين والجملة الشرطية اعنى إذا سمعوا اللّغو الى آخره معطوف على قوله وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قال البغوي وهذا كان قبل ان يؤمر المسلمون بالقتال قلت وهذا القول من البغوي لا يطابق ما ذكر من سبب نزول الاية فان الاية نزلت امّا فى عبد الله بن سلام وأصحابه وكان إسلامهم بعد الهجرة واما فى اصحاب النجاشي حين قدموا مع جعفر بن ابى طالب وذلك فى غزوة خيبر سنة ست من الهجرة واما فى أربعين من اهل نجران وثمانية من اهل الشام وكل ذلك كان بعد الهجرة بعد ما أمرنا بالقتال والله اعلم- اخرج مسلم وغيره عن ابى هريرة قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلم لعمه ابى طالب قل لا اله الا الله اشهد لك يوم القيامة قال لولا تعير فى نساء قريش يقلن انه حمله على ذلك الجزع لا قررت بها عينك فانزل الله تعالى.
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته او من أحببته لقرابته وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قال مجاهد ومقاتل بمن قدر له الهدى واخرج النسائي وابن عساكر فى تاريخ دمشق بسند جيد عن ابى سعيد بن رافع قال سالت ابن عمر عن هذه الاية إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ فى ابى جهل وابى طالب قال نعم واخرج الشيخان والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية والبيهقي من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه قال حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن ابى امية بن المشيرة فقال اى عم قل لا اله الا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال ابو جهل وعبد الله بن ابى امية أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد انه بتلك المقالة حتى قال ابو طالب اخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب وابى ان يقول لا اله الا الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستغفرن لك ما لم انه عنك فانزل الله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الاية وانزل الله فى ابى طالب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.(7/173)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
اخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس ان أناسا من قريش قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم ان نتبعك يتخطفنا الناس فانزل الله.
وَقالُوا يعنى اهل مكه عطف على قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى وما بينها اعتراضات إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا قال البغوي نزلت فى الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف انه قال للنبى صلى الله عليه وسلم انا لنعلم ان الّذى تقول حق ولكنا ان اتبعناك خفنا ان تخرجنا العرب من ارض مكة وهو معنى قوله نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا- كذا اخرج النسائي وابن المنذر عن ابن عباس واخرج النسائي عن ابن عباس ان الحارث بن عامر بن نوفل الّذى قال ذلك والاختطاف الانتزاع بسرعة فرد الله عليهم ذلك وقال أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم نسكنهم بمكة ولم نمكّن لّهم حَرَماً آمِناً وذلك ان العرب فى الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا وكان اهل مكة امنون حيث كانوا لحرمة الحرم ومن المعروف انه كان يأمن فيه الظباء من الدّياب والحمام من الحداة يُجْبى إِلَيْهِ قرأ نافع ويعقوب «وابو جعفر ابو محمد» بالتاء الفوقانية لاجل الثمرات والباقون بالياء التحتانية للحائل بين الاسم المؤنث والفعل ولان التأنيث غير حقيقى اى يجلب ويجمع اليه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل جانب رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فاذا كان هذا حالهم وهم عبدة الا يوثان فكيف يعرضهم للتخويف والتخطف إذا ضموا الى حرمة البيت حرمة التوحيد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جهلة لا يَعْلَمُونَ لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا وقيل انه متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا اى قليل منهم يتدبرون فيعلمون ان ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره وانتصاب رزقا على المصدر من معنى يجبى فان معناه يرزق رزقا او على الحال من الثمرات لتخصيصها بالاضافة ثم بيّن ان الأمر بالعكس فان الواجب ان يخافوا من بأس الله على ما هو عليه من الكفر والمعاصي بقوله.
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ اى من اهل قرية كانت حالهم كحالكم بَطِرَتْ اى أشرت وطغت وصفت القرية بوصف أهلها يعنى طغى أهلها بنعم الله ولم يشكروها قال عطاء عاشوا فى البطر فاكلوا رزق الله وعصوه وعبدوا الأصنام مَعِيشَتَها منصوب على الظرفية يعنى طغت مدة معيشتها فدمّر الله وخرّب ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خربة وهى حجر وقرى قوم لوط تعليل لما سبق من إهلاك القرى لَمْ تُسْكَنْ حال من مساكنهم والعامل(7/174)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
فيه معنى الاشارة مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد ما اهلكوا إِلَّا قَلِيلًا منصوب على المصدرية او الظرفية يعنى الا سكونا قليلا او زمانا قليلا قال ابن عباس لم يسكنها الا مسافرا ومار طريقا يوما او ساعة وقيل معناه لم يبق من يسكنها الا قليلا من شوم معاصيهم وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ إذ لم يخلفهم أحد يتصرف بصرفهم فى ديارهم وسائر متصرفاتهم.
وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اى لم يكن عادته إهلاك الْقُرى الكافر حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها يعنى أكبرها وأعظمها رَسُولًا ينذرهم خص الأعظم ببعثة الرسل فيها لان الرسل يبعث الى الاشراف فان الاتباع يتبعهم فى الايمان والكفر. ومن أجل ذلك كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى هرقل اسلم تسلم والا فعليك اثم الأريسين والاشراف يسكنون المدائن والمواضع التي هى أم ما حولها يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل يخبرهم ان العذاب نازل بهم ان لم يؤمنوا فيه التفات من الغيبة الى الخطاب وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ بتكذيب الرسل والعتو بالكفر.
وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من زخارف الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها تتمتعون وتتزينون بها مدة حياتكم المنقضية وَما عِنْدَ اللَّهِ من الجنة ومراتب قربه تعالى خَيْرٌ فى نفسه من ذلك لانه لذة خالصة وبهجة كاملة وَأَبْقى لانه أبدى أَفَلا تَعْقِلُونَ الاستفهام للانكار والفاء للعطف والتعقيب على محذوف تقديره الا تتفكرون فلا تعقلون.
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ عطف على قوله وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى والهمزة لانكار تعقيب المعطوف للمعطوف عليه يعنى ابعد هذا التفاوت الجلى جعلتم من وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً اى بالجنة فان حسن الوعد بحسن الموعود فَهُوَ لاقِيهِ اى مدركه لا محالة لامتناع الخلف فى وعد الله سبحانه ولذلك عطف بالفاء المفيدة للسببية كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا المشوب بالآلام المكدر بالمتاعب المستعقب للتحسر على الانقطاع ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب او العذاب وثم للتراخى فى الزمان او الرتبة قرأ نافع «1» وابن عامر فى رواية والكسائي ثمّ هو بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل قال قتادة يعنى المؤمن والكافر لا يستويان بل المؤمن احسن حالا قال البغوي وكذا اخرج ابن جرير انه قال مجاهد نزلت فى النبي صلى الله
__________
(1) والصحيح قرا قالون عن نافع والكسائي وابو جعفر بخلف عنه ثمّ هو بسكون الهاء إلخ ابو محمد عفا الله عنه(7/175)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)
عليه وسلم وابى جهل. واخرج من وجعه اخر عنه انها نزلت فى حمزة وابى جهل وقال البغوي قال مقاتل ومحمد بن كعب نزلت فى حمزة او على وفى ابى أجهل وقيل نزلت فى عمار ووليد بن المغيرة.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة او منصوب باذكر فَيَقُولُ الله سبحانه للمشركين أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ اى تزعمونهم فى الدنيا شركائى حذف مفعولى تزعمون لدلالة الكلام عليه قلت لعل المراد بالشركاء رؤساء الكفرة الذين ترك الاتباع عبادة الله واختاروا عبادتهم واتباعهم وتسميتهم شركاء على سبيل الاستهزاء.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ اى وجب عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ لوجوب مقتضاه والمراد بالقول لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وغيره من آيات الوعيد يعنى قال رؤساء الكفار رَبَّنا هؤُلاءِ اى الاتباع مبتدا خبره الَّذِينَ أَغْوَيْنا الضمير المنصوب العائد الى الموصول محذوف يعنى أغويناهم أَغْوَيْناهُمْ فغووا كَما غَوَيْنا الكاف صفة لمصدر فعل محذوف دل عليه أغويناهم تقديره فغووا غيّا كما غوينا اى مثل ما غوينا وهو استيناف للدلالة على انهم غووا باختيارهم مثل ما غوينا باختيارنا وانا لم نفعل بهم الا وسوسة وتسويلا وتسويلنا وان كان داعيا لهم الى الكفر فقد كان دعاء الله تعالى لهم باقامة الحجج وبعث الرسل وإنزال الكتب اولى بالاتباع من تسويلنا وهذا كقوله تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الاية ويجوز ان يكون الموصول صفة وأغويناهم الخبر لاجل ما اتصل به من المقدر والملفوظ أعتى فغووا كما غوينا فافاد زيادة على الصفة وهو وان كان فضلة لكنه صار من اللوازم تَبَرَّأْنا منهم ومما اختاروا من الكفر هوى منهم إِلَيْكَ متعلق بتبرّأنا بتضمين معنى التوجه يعنى تبرأنا منهم متوجهين إليك ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ اى ما كانوا يعبدوننا بل كانوا يعبدون أهواءهم وقيل ما مصدرية متصلة بتبرأنا اى تبرأنا من عبادتهم إيانا.
وَقِيلَ يعنى للكفار عطف على قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ... ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ لتخلصكم من العذاب والمراد بالشركاء هاهنا الأصنام ونحوها المعبودون بالباطل فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة او لاجل ما كانوا يزعمون انهم يشفعون عند الله فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الاجابة والنصرة وَرَأَوُا يعنى الكفار الْعَذابَ لانفسهم ولالهتهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ جواب لو محذوف تقديره لو انهم يهتدون فى الدنيا لم يروا العذاب والأظهر ان لو للتمنى اى تمنوا انهم كانوا مهتدين.
وَيَوْمَ(7/176)
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ
عطف على الاول فانه تعالى يسئلهم اولا سوال توبيخ عن اشراكهم وثانيا عن تكذيبهم الرسل.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ اى فصارت الانباء عليهم كالعميان لا يهتدى إليهم وأصله فعموا عن الألباء الكنه عكس مبالغة ودلالة على ان ما يحضر الدهر انما يغيض ويرد عليه من خارج فاذا أخطأه لم يكن حيلة الى استحضاره والمراد بالانباء الاعذار فى تكذيب الرسل وقال مجاهد الحجج والمعنى انهم لا يجيبون بشئ ولا يأتون بحجة أم لم يكن عندهم حجة يَوْمَئِذٍ تأكيد لقوله يَوْمَ يُنادِيهِمْ قال البيضاوي وإذا كانت الرسل ينتعنون فى الجواب عن مثل ذلك من الهول ويفوضون الى علم الله تعالى فما ظنك بالكفار وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ اى لا يسئل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة او العلم بانه مثله.
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً اى جمع بين الايمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند الله وعسى تحقيق على عادة الكرام او ترجى من النائب والمعنى فليتوقع للفلاح..
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ من يشاء لما يشاء فاختار محمدا صلى الله عليه وسلم للنبوة من بين سائر الناس قال البغوي نزلت جوابا للمشركين حين قالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنون الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ الخيرة اسم من الاختيار قائم مقام المصدر ويطلق بمعنى المفعول ايضا يقال محمد خيرة الله من خلقه ومعنى الاية ليس للعباد الاختيار فى ذلك حتى يقولوا لولا أرسل إلينا فلان فهذا بمنزلة التأكيد نما سبق ولذلك خلا من العاطف ويؤيده سياق القصة انها نزلت جوابا لما قال المشركون ويناسبه قوله تعالى سُبْحانَ اللَّهِ اى تنزيها له ان ينازعه أحدا ويزاحم اختياره اختيار غيره وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ اى عن اشراكهم او مشاركة ما يشركونه به وقيل ما فى قوله ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ موصولة فى محل النصب على المفعولية ليختار والعائد محذوف والمعنى وربك يختار ما كان لهم اى للعباد فيه الخيرة اى الخير والصلاح يعنى كان إرسال محمد صلى الله عليه واله وسلم لهم خيرا دون إرسال غيره وعلى هذا التأويل مع ما فيه من التكلف لا حجة المعتزلة على وجوب الأصلح على الله تعالى بل المراد انه يفعل بفصلا ما هو خير لهم غالبا وقيل ما كان لهم الخيرة نفى لاختيار العباد رأسا ودليل على كون العباد مجبورين فى أفعالهم وهذا(7/177)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
ايضا باطل إذ لو كان المراد ذلك لنكر الخيرة ولم يورد بلام العهد المشير الى اختيار معين وهو اختيار الرسل كما يدل عليه سبب النزول.
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ كعداوة الرسول وحقده وَما يُعْلِنُونَ كالطعن فيه.
وَهُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا يستحقها غيره تقرير لما سبق لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ لانه الجميل على الإطلاق وجمال غيره مستعار منه هو المولى للنعم كلها عاجلها وأجلها يحمده المؤمنون فى الاخرة كما حمدوه فى الدنيا يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ... الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ابتهاجا بفضله والتذاذا بحمده لاجل التكليف وَلَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ فى كل شىء قال ابن عباس حكمه لاهل طاعته بالمغفرة ولاهل معصيته بالشقاء وَإِلَيْهِ اى الى حكمه تُرْجَعُونَ بالنشور بعد الموت.
قُلْ يا محمد ص أَرَأَيْتُمْ أخبروني يا اهل مكة إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً اى دائما من السرود وهو المبالغة والميم زائدة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا تطلع عليكم الشمس مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ تطلبون فيه المعيشة ومن للاستفهام للانكار والمعنى لا اله غير الله يأتيكم به قال البيضاوي كان حقه هل اله فذكر بمن على زعمهم ان غيره الهة أَفَلا تَسْمَعُونَ موعظتى سماع تدبرو استبصار.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً بإسكان الشمس فى وسط السّماء إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة عن تعب الاشغال أَفَلا تُبْصِرُونَ ايتنا ولعله لم يصف الضياء بما يقابل السكون لان الضوء نعمة بذاته مقصودة بنفسه ولا كذلك الليل ولان منافع اليوم اكثر من ان يذكر ولذلك قرن به أفلا تسمعون وبالليل أفلا تبصرون لان استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.
وَمِنْ رَحْمَتِهِ من للسببية متعلق بجعل لكم قدم عليه للحصر جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ اى فى الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ اى من منافع الدنيا والاخرة فى النهار فهو لف ونشر مرتب وقال الزجاج يجوز ان يكون معناه لتسكنوا فيهما ولتبتغوا من فضله فيهما قلت وعلى هذا انما ذكر بالليل والنهار ولم يقل وجعل لكم الزمان لتغائر أنحاء السكون والابتغاء فيهما وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اى لكى تشكروا على نعماء الله تعالى.
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ(7/178)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انهم يشفعون لكم وينجركم من عذاب الله تقريع بعد تقريع للاشعار بانه لا شىء اجلب لغضب الله من الإشراك به وكان الاول توبيخ على اتباعهم رؤساءهم وترك عبادة الله باتباعهم وهذا بيان لفساد رأيهم ورجائهم الشفاعة من الحجارة ونحوها.
وَنَزَعْنا اى أخرجنا عطف على يقول على سبيل الالتفات او اعتراض مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبيهم فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ اى حجتكم على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ فى الالوهية لا يشاركه فيها أحد وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب عنهم غيبة الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ فى الدنيا من الباطل-.
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى قال البغوي كان ابن عمه لانه كان قارون بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب عليه السّلام وموسى بن عمران بن قاهت بن لاوى بن يعقوب عليهما السلام كذا اخرج ابن المنذر عن ابن جريح- وقال ابن إسحاق كان قارون عم موسى ع كان أخا عمران وهما ابنا يصهر بن قاهت ولم يكن فى بنى إسرائيل اقرأ للتورية من قارون ولكنه نافق كما نافق السامري وقال جلال الدين المحلى كان ابن عمه وابن خالته فَبَغى عَلَيْهِمْ قيل كان عاملا لفرعون على بنى إسرائيل فكان يبغى عليهم اى يظلمهم وقال الضحاك بغى عليهم بالشرك وقيل بغى عليهم بالكبر والعلو وقيل معناه حسدهم وطلب الفضل عليهم واخرج عبد بن حميد وابن ابى حاتم عن قتادة قال كان قارون ابن عم موسى أخي أبيه وكان قطع البحر مع بنى إسرائيل وكان يسمى «1» من حسن صوته بالتوراة لكن عدو الله نافق كما نافق السامرىّ ما هلكه الله ليغيه وانما بغى الكثرة ماله ولده- لكن قوله تعالى فى سورة المؤمن وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ يدل على ان قارون لم يؤمن بموسى قط لا طاهرا ولا باطنا- قال شهر بن حوشب زاد قارون فى طول ثيابه شبرا عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا ينظر الله الى من جرثوبه خيلأ- رواه البغوي وروى مسلم عن ابى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم ان الله لا ينظر الى من يجر رداءه بطرا وروى احمد والنسائي بسند صحيح عن ابن عباس مرفوعا قال ان الله لا ينظر الى مسبل إزاره وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ اى الأموال المدخرة ما إِنَّ مَفاتِحَهُ اى مفاتح صناديقه جمع مفتح بكسر الميم وهى التي يفتح بها وهذا قول قتادة ومجاهد وجماعة وقيل مفاتحة اى خزائنه
__________
(1) هكذا البياض في الأصل.(7/179)
كما قال الله تعالى وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ اى خزائنه وقياس واحدها الفتح لكن على هذا التأويل قوله تعالى لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ لا يدل على كثرة خزائنه غاية الكثرة فان ما يحمله أربعون من الرجال لا يبلغ غالبا اربع مائة الف درهم. وقال جرير عن منصور عن خيثمة قال وجدت فى الإنجيل مفاتح خزائن قارون وقرستين بغلا ما يزيد مفتاح منها على إصبع لكل مفتاح كنز ويقال ان قارون اين ما ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه وكانت من حديد فلمّا ثقلت عليه جعل من خشب فثقلت عليه فجعلت من جلود البقر على طول إصبع وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا- وهذه الروايات لا يساعدها القران إذا لعصبة لا يطلق الا على الرجال دون البغال قال البغوي واختلفوا فى العصبة قال مجاهد ما بين العشرة الى خمسة عشر وقال الضحاك عن ابن عباس ما بين الثلاثة الى العشرة وقال قتادة ما بين العشرة الى الأربعين وكذا فى القاموس وقيل سبعون وروى عن ابن عباس رض انه قال كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا أقوى ما يكون من الرجال- ومعنى قوله لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ اى تنتقلهم وتميل بهم إذا حملوها لثقلها وقال ابو عبيدة هذا من المقلوب تقديره ما ان العصبة لتنوء بها يقال ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا والجملة خبر ان وهى مع جملتها صلة ما وهى ثانى مفعولى اتيناه ومن الكنوز حال مقدم عليه إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ ظرف لتنوء لا تَفْرَحْ الفرح السرور وانكشاف الصدر بوجدان المرغوب والفرح المنهي عنه هو البطر بمعنى الطغيان والتكبر عن قبول الحق عند ما يرى نفسه غنيّا قال الله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى فى القاموس الفرح السرور والنظر وفسر البغوي لا تفرح بقوله لا تبطر ولا مأشر ولا تمرح وانما ذلك لان الفرح بمعنى السرور عند وجدان المرغوب امر طبغى لا اختيار للعبد فيه فلا يتصور عنه النهى. وقال البيضاوي والفرح بالدنيا مذموم مطلقا لانه يحبسه حبها والرضاء بها والذهول عن ذهابها فان العلم بان ما فيها من اللذات مفارقة لا فحاله توجب التبرج ولذلك قال الله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وعلل النهى هاهنا بكونه مانعا من محبة الله إيانا فقال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ بزخارف الدنيا المتكبرين بها غير شاكرين عليها قال بعض المحققين قد ورد ذم الفرح فى مواضع عديدة من القران قال الله تعالى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما(7/180)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
وقال وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وقال ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بغير الحق وقال حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا- ولم يرخص فى الفرح الا فى قوله تعالى فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وقوله وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ. وعندى ان الفرح فى الدنيا بما يفيد فى الاخرة محمود مطلقا ومامور به فى قوله تعالى فَبِذلِكَ فليفرحوا والفرح بلذّات الدنيا ان كان مقرونا بالشكر فمحمود ايضا حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعم الشاكر كالصائم الصابر. والفرح ان كان مقرونا بالطغيان والكفران فمذموم حقّا فالمدح والذم انما يتوجه الى ما يتعلق به الفرح او ما معه من الشكر او الكفران واما نفس الفرح والسرور بدرك المرغوب فامر طبعى لا اختيار للعبد فيه فلا يتوجه اليه التكليف غير انه إذا أحب العبد الله صادقا لا يفرح الا بما يرضى به ربه ولا يحب الله الا من يحبه فلا يحب الله من يفرح بمرغوبه من حيث هو مرغوبه لا من حيث هو مرغوب ربه والله اعلم-.
وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من نعماء الدنيا الدَّارَ الْآخِرَةَ يعنى الجنة بان تقوم بشكرها وتنفقها فى مرضاة الله وَلا تَنْسَ اى لا تترك ترك المنسي نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا يعنى ما تحصل بها آخرتك فان حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا ان يعمل للاخرة فان الدنيا مزرعة الاخرة كذا قال مجاهد وابن زيد وقال السدى نصيبك من الدنيا الصدقة وصلة الرحم وقال على رضى الله عنه لا تنس صحتك وقوتك وشبابك وغناك ان تطلب الاخرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتنم خمسا قبل خمس حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وفراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك- رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح واحمد فى الزهد وروى البغوي وابن حبان وابو نعيم فى الحلية عن عمر بن ميمون الأودي مرسلا نحوه وقال الحسن أمران يقدم الفضل ويمسك ما يغنيه يعنى ما يكفيه وقال منصور بن زاذان لا تنس نصيبك من الدنيا قوتك وقوة أهلك وَأَحْسِنْ الى عباد الله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ او احسن عبادة الله بدوام الذكر والشكر والطاعة كما احسن الله إليك بانعام متواتر غير منقطع بحيث لا تعدو لا تحصى وَلا تَبْغِ اى لا تطلب الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ قال البيضاوي نهى له مما كان عليه من الظلم والبغي وقال البغوي كل من عصى الله فقد طلب الفساد فى الأرض إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بسوء أعمالهم..(7/181)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ الظرف منصوب على الحال من الضمير المرفوع عِنْدِي قرا نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابن كثير بخلاف عنه وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ظرف مستقر صفة لعلم او لغو متعلق باوتيته كقولك هذا عندى اى فى ظنى واعتقادي وفيه رد لقولهم أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ يعنى لم يحسن الىّ الله من غير استحقاق منى تفضلا محضا حتى يجب علىّ شكره والإحسان الى عباده بل أوتيت الجاه والمال والتفوق على الناس حال كونى على علم كائن عندى او فى اعتقادي- قيل المراد به علم الكيميا قال سعيد بن المسيب كان موسى يعلم الكيميا فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم وعلّم كالب بن يوقنّا ثلثه وعلّم قارون ثلثه فخذعهما قارون حتى أضاف علمهما الى علمه وكان ذلك سبب أمواله- وقيل عَلى عِلْمٍ عِنْدِي بالصرف فى التجارات والزراعات وانواع المكاسب قال سهل ما نظر أحد الى نفسه فافلح والسعيد من صرف بصره عن أفعاله وأقواله وفتح له سبيل رؤية منة الله فى جميع الافعال والأقوال والشقي من زين فى عينيه أقواله وأفعاله وأحواله فافتخر بها وادعاها لنفسه فسوف يهلك يوما كما خسف بقارون لما ادعى لنفسه فضلا أَوَلَمْ يَعْلَمْ جملة معترضة والاستفهام للتعجب والتوبيخ والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكر قارون ولم يعلم أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ولو علم ذلك لما اغتر بماله ولم تتكبر ولو علم ان الله هو المهلك فهو المعطى وهو المانع لا اله غيره ولا استحقاق لاحد عليه وفيه رد لا دعائه العلم وتعظمه به بنفي هذا العلم الحلي فان الله قد أهلك عاد للاولى وكان أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً فان شداد بن عاد ملك الأرض كلها وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فانه تعالى مطلع عليها لا يحتاج الى السؤال والاستعلام فيعاقبهم فى الدنيا باهلاك وفى الاخرة بإدخال النار- لمّا هدوا لله قارون بذكر إهلاك من كان قبله ممن كانوا أقوى منه واغنى أكد ذلك بانه لم يكن ذلك ما يخصهم بل الله مطلع على ذنوب المجرمين كلهم متقدميهم ومتاخريهم معاقبهم عليها لا محالة قال قتادة يدخلون النار بغير سوال ولا حساب وقال مجاهد يعنى لا يسئل الملائكة عنهم لانهم يعرفونهم بسيماهم وقال الحسن لا يسئلون سوال استعلام بل يسئلون سوال تقريع وتوبيخ.
فَخَرَجَ قارون يوم اعطف(7/182)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
على قال عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قال ابراهيم النخعي خرج هو وقومه فى ثياب خضر وحمرو قال ابن زيد خرج فى سبعين الف عليهم المعصفرات وقال مجاهد خرج على براذين بيض عليها سروح الأرجوان عليهم المعصفرات وقال مقاتل خرج على بغلة شهباء عليها سروح من ذهب عليه الأرجوان ومعه اربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاث مائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا على ما هو عادة الناس فى الرغبة فى الدنيا يا لَيْتَ يعنى يا قوم ليت لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ تمنوا مثله لا عينه حذرا من الحسد وذلك لما كان بنوا إسرائيل مؤمنين إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا تعليل للتمنى.
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بما وعد الله للمومنين فى الاخرة للذين تمنوا كذا قال مقاتل وقال ابن عباس هم الأحبار من بنى إسرائيل وَيْلَكُمْ الويل مصدر بمعنى الهلاك منصوب على المصدرية يعنى هلكتم هلاكا او على المفعولية تقديره ألزمكم الله هلاكا فهو فى الأصل دعاء استعمل للزجر عما لا يرتضى ثَوابُ اللَّهِ فى الآخرة خَيْرٌ مما اوتى قارون بل من الدنيا وما فيها لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً متعلق بخير او بثواب الله يعنى ثواب الله لمن أمن خير او متعلق ب قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى قالوا ذلك لمن أمن وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ كلام مستأنف او حال من الضمير فى خير والضمير للكلمة التي تكلم بها الأحبار او للثواب فانه بمعنى المثوبة او للجنة او للايمان والعمل الصالح فانهما فى معنى السيرة والطريقة يعنى لا يتاتى تلك الكلمة او الثواب او الجنة او السيرة الا الصابرون على الطاعات وعن المعاصي الزاهدون فى الدنيا.
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ اى أعوان يفئى إليهم الرجل عند المصيبة الفاء للتعليل يَنْصُرُونَهُ فيدفعون عنه عذاب الله مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ اى الممتنعين مما نزل به من الخسف يقال نصره من عدوه فانتصر إذا منعه فامتنع عطف على فما كان- قال اهل العلم بالأخبار كان قارون اعلم بنى إسرائيل بعد موسى وهارون واقرأهم للتورية وأجملهم وأغناهم وكان حسن الصوت فبغى وطغى وكان أول طغيانه وعصيانه ان الله اوحى الى موسى ان يأمر قومه يعلّقوا فى أرديتهم خيوطا اربعة فى كل طرف خيطا اخضر كلون السماء يذكرون به السماء إذا نظروا إليها ويعلمون(7/183)
اله منزل منها كلامى فقال موسى يا رب أفلا تأمرهم ان يجعلوا أرديتهم خضرا كلها فان بنى إسرائيل تحقر هذه الخيوط فقال له ربه يا موسى ان الصغير من امرى ليس بصغير فاذا هم لم يطيعونى فى الأمر الصغير لم يطيعونى فى الأمر الكبير. فدعاهم موسى وقال ان الله يأمركم ان تعلقوا على أرديتكم خيوطا حضرا كلون السماء لكى تذكروا ربكم إذا رايتموها ففعلت بنوا إسرائيل ما أمرهم به موسى واستكبر قارون فلم يطعه وقال أخا يفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكى يتميزوا عن غيرهم وهذا بدو عصيانه وبغير فلمّا قطع موسى ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة لهارون وهى رياسة الذبح فكان بنوا إسرائيل يأتون بهديهم الى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتاكله فوجد قارون من ذلك فى نفسه واتى موسى فقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست فى شىء من ذلك وانا اقرأ للتورية لا صبر لى على هذا فقال موسى ما انا جعلتها فى هارون بل الله جعلها له فقال قارون والله لا أصدقك حتى ترينى بيانه فجمع موسى رؤساء بنى إسرائيل فقال هاتوا عصيكم فخرجها والقاها فى القبة التي كان يعبد الله فيها فجعل يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فاصبحت عصا هارون قد اهتز لهم ورق اخضر فقال قارون والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر واعتزل قارون موسى باتباعه وجعل موسى يداديه للقرابة التي بينهما وهو يؤذيه فى كل وقت ولا يزيد الا عتوا وتجبرا ومعاداة حتى بنى دارا وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملا من بنى إسرائيل يغدون ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه- قال ابن عباس فلمّا نزلت الزكوة على موسى أباه قارون فصالحه عن كل الف دينار على دينار وكل الف درهم على درهم وعن كل الف شاة على شاة وعن كل الف شىء على شىء ثم رجع الى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم يسمح بذلك نفسه فجمع بنى إسرائيل فقال لهم يا بنى إسرائيل ان موسى قد أمركم بكل شىء فاطعتموه وهو الان يريد ان يأخذ أموالكم قالوا أنت كبيرنا فأمرنا بما شئت فقال أمركم ان تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها مجعلا حتى نقذف موسى بنفسها فاذا فعلت ذلك خرج بنو إسرائيل فرفضوه. فدعوها فجعل لها قارون الف درهم وقيل الف دينار وقيل طستا من ذهب وقيل قال أمولك(7/184)
واخلطك بنسائى على ان تقذنى موسى بنفسك غدا إذا حضر بنوا إسرائيل فلمّا كان من الغد جمع قارون بنى إسرائيل ثم اتى موسى فقال ان بنى إسرائيل ينتظرون خروجك فتأمرهم وتنهاهم فخرج إليهم موسى وهم فى براح من الأرض فقام فيهم فقال يا بنى إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ومن زنى وله امراة رجمناه حتى يموت- فقال له قارون وان كنت أنت قال وان كنت انا فقال ان بنى إسرائيل يزعمون انك فجرت بفلانة قال ادعوها فان قالت فهو كما قالت فلما ان جاءت قال لها موسى يا فلانة انا فعلت بك ما يقول هؤلاء وعظم عليها وسال بالّذى فلق البحر لبنى إسرائيل وانزل التورية الا صدقت فتداركها الله تعالى فقالت فى نفسها أحدث اليوم توبة أفضل من ان أوذي رسول الله فقالت لا كذبوا ولكن جعل لى قارون جعلا على ان أقذفك بنفسي- فخر موسى ساجدا يبكى ويقول اللهم ان كنت رسولك فاغضب لى فاوحى الله الى موسى انى أمرت الأرض ان تطيعك فمرها بما شئت فقال موسى يا بنى إسرائيل ان الله بعثني الى قارون كما بعثني الى فرعون فمن معه فليلث
ومن كان معى فليعتزل فاعتزلوا فلم يبق مع قارون الا رجلان ثم قال موسى يا ارض خذيهم فاخذت الأرض باقدامهم وفى رواية كان سريره وفرشه فاخذته حتى غيبت سريره ثم قال خذيهم فاخذتهم الى الركب ثم قال يا ارض خذيهم فاخذتهم الى الأوسط ثم قال بأرض خذيهم فاخذتهم الى الأعناق وقارون وأصحابه فى كل ذلك يتضرعون يناشده قارون الله تعالى والرحم حتى انه ناشده سبعين مرة وموسى فى كل ذلك لا يلتفت اليه لشدة غضبه ثم قال يا ارض خذيهم فانطبت عليهم الأرض- واوحى الله الى موسى ما اغلظ قلبك له استغاث بك سبعين مرة فلم تغثه اما وعزتى وجلالى لو استغاث بي مرة لاعنته وفى بعض الآثار قال لا اجعل الأرض بعدك طوعا لاحد. قال قتادة خسف به الأرض فهو يتجلجل «1» فى الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قعرها الى يوم القيامة وأصبحت بنوا إسرائيل يتناسقون فيما بينهم ان موسى انما دعا على قارون ليسيد بداره وبكنوزه وبامواله فدعا الله موسى حتى خسف بداره وبكنوزه وأمواله الأرض فذلك قوله تعالى فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما
__________
(1) اى يفوض فيها والجلجلة حركة مع صوت. نهايه منه رح(7/185)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ.
وَأَصْبَحَ اى صاد الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ اى منزلته بِالْأَمْسِ اى منذ زمان قريب يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ هذه اللفظة عند البصريين من وى للتعجب وكأنّ للتشبيه ومعناه ما أشبه الأمران اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ يعنى الأمران سيئان مرتبطان بمشية الله لا لكرامة يقتضى البسط ولا لهو ان يوجب القبض. وقال الخليل وى اسم فعل للتعجب والتندم فان القوم تندموا فقالوا متندمين على ما سلف وكانّ معناه أظن ذلك وأقدره كما يقول كانّ الفرح قد أتاك اى أظن ذلك واقدره- وقال قطرب ويك بمعنى ويلك حذف منه اللام وانّ منصوب بفعل مقدر تقديره ويلك اعلم انّ الله يبسط ويقدر اى يوسع ويضيق وقيل ويكانّ حرف تنبيه بمنزلة الا وعن الحسن انه قال كلمة ابتداء تقديره وان الله وقال مجاهد معناه الم تعلم وقال قتادة الم تر وقال الفراء هى كلمة تقرير كقول الرجل اما ترى الى صنع الله وإحسانه وذكر انه سمع اعرابية تقول لزوجها اين ابنك فقال ويكانّه وراء البيت يعنى اما ترينه وراء البيت لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فلم يعطنا ما عنينا لَخَسَفَ قرأ حفص ويعقوب بفتح الخاء والسين على البناء للفاعل والعامة بضم الخاء وكسر السين على البناء للمفعول بِنا كما خسف بقارون وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة الله او المكذبون برسله وبما وعدوا لهم من ثواب الاخرة- لا يصلح هاهنا معنى ما أشبه فى ويكانّه ويصلح غير ذلك من المعاني-.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ صفة بعد صفة لتلك اشارة تعظيم كانّه قال تلك الدّار الاخرة التي سمعت خبرها وبلغك وصفها نَجْعَلُها خبر لتلك لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ قال الكلبي ومقاتل اى استكبارا عن الايمان وقال عطاء غلبة وقهرا على الناس وتهاونا بهم وقال الحسن يطلبون الشرف والعز عند ذى السلطان وعن علّى كرم الله وجهه انها نزلت فى اهل التواضع من الولاة واهل القدرة يعنى من كان من الولاة واهل القدرة متواضعا فهو لا يريد علوّا فى الأرض وَلا فَساداً قال الكلبي هو الدعاء الى عبادة غير الله وقال عكرمة هو أخذ اموال الناس بغير حق وقال ابن جريج ومقاتل العمل بالمعاصي وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قال قتادة اى الجنة قلت العاقبة يستعمل فيما يعقب الحسنات ويتاب(7/186)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
عليها كما ان العقاب يستعمل فيما يعقب السيئات وتنقم بها.
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها اى عشر اضعافها الى سمع مائة ضعف والى ما شاء الله وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع المظهر موضع المضمر تهجينا لحالهم بتكرير اسناد السيئة إليهم إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى الّا مثل ما كانوا يعملون حذف المثل واقام ما كانوا يعملون مقامه مبالغة فى المماثلة-.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يعنى أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل به كذا قال عطاء وقال البغوي قال اكثر المفسرين يعنى انزل عليك القران لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ يعنى الى مكة وقدرده يوم الفتح وانما نكّره لانه فى ذلك اليوم له شأن ومرجعا له اعتداد لغلبة رسول الله وقهره اعداء الله وظهور الإسلام وذل الشرك وهى رواية العوفى عن ابن عباس وهو قول مجاهد قال القتيبي معاد الرجل بلده لانه ينصرف ثم يعود الى بلده.
ذكر البغوي ان النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار مهاجرا الى المدينة سار فى غير الطريق مخافة الطلب فلمّا أمن ورجع الى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق الى مكة اشتاق إليها فقال له جبرئيل عليه السلام أتشتاق الى بلدك ومولدك قال نعم قال فان الله يقول إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ فرده الله يوم الفتح كذا اخرج ابن ابى حاتم عن الضحاك والاية نزلت بحجفة بين مكة والمدينة وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رض المعاد الموت قلت لانه عود الى الحالة الاصلية قال الله تعالى كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال الزهري وعكرمة يعنى الى القيامة وقيل الى الجنة كانه لما حكم ب إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ أكّد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين ووعده بالعاقبة الحسنى فى الدارين.
ولمّا قال كفار مكة للنبى صلى الله عليه وسلم انّك لفى ضلل مبين انزل الله سبحانه قُلْ رَبِّي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وابو عمرو وابن كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها وروى ابو ربيعة عن قنبل وعن البزي ايضا بالإسكان «فهو غير ماخوذ- ابو محمد» أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وما يستحقه من الثواب والنصر يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم من منصوب بفعل يدل عليه(7/187)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
اعلم تقديره ربى اعلم الكائنات يعلم من جاء بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وما يستحقه من العذاب والاذلال يعنى به المشركين وفى هذه الاية تقرير للوعد السابق ولذا عقبه وكذا قوله.
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ اى يوحى إليك الْكِتابُ اى القران إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ قال الفراء الاستثناء منقطع معناه لكن ألقاه ربك رحمة منه ويجوز ان يكون الاستثناء منفصلا مفرغا محمولا على المعنى كانه قال ما القى إليك ربك الكتاب لشئ الا رحمة اى الا لاجل الرحمة فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم والتحمل عنهم والاجابة الى طلبهم قال مقاتل وذلك حين درعى الى دين ابائه فذكّر الى نعمه ونهاة عن مظاهرتهم على ما هم عليه.
وَلا يَصُدُّنَّكَ يعنى كفار مكة عَنْ آياتِ اللَّهِ اى عن قراءتها والعمل بها بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ اى الى معرفته وتوحيده وعبادته وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمظاهرتهم.
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هذا وما قبله يقطع اطماع المشركين عن مساعدته لهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تعليل للنهى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ يعنى الا ذاته فان ما عداه ممكن هالك معدوم فى حد ذاته لا شىء الا ووجوده مستفاد مستعار منه تعالى قيل معناه كل عمل لغو باطل الا ما أريد به وجهه وجملة كلّ شىء تعليل لَهُ الْحُكْمُ اى القضاء النافذ فى الخلق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تردونّ فى الاخرة فيجازيكم بأعمالكم.
تمت سورة القصص ويتلوه سورة العنكبوت ان شاء الله تعالى 28 ربيع الاول سنة 146 هجرى.(7/188)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
سورة العنكبوت
مكّيّة وهى تسع وستون اية وقال الشعبي عشر آيات من أولها مدنيّة ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اخرج ابن ابى حاتم عن الشعبي ان ناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة انه لا يقبل منكم اقرار بالإسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين الى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم.
الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ فكتبوا إليهم انه قد انزل فيكم كذا وكذا فقالوا نخرج فان اتبعنا أحد قاتلنا فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فانزل الله فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا الاية واخرج ايضا عن قتادة قال نزلت فى ناس من اهل مكة خرجوا يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فعرض لهم المشركون فرجعوا فكتب إليهم إخوانهم بما نزل فيهم فخرجوا فقتل من قتل وخلص من خلص فنزل فيهم وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا الاية وذكر البغوي عن ابن عباس قال أراد بالناس الّذين أمنوا بمكة سلمة بن هشام وعياش بن ربيعة والوليد بن الوليد وعمار بن ياسر وغيرهم واخرج ابن سعيد وابن جرير وابن ابى حاتم عن عبيد الله بن عمير قال نزلت فى عمار بن ياسر إذ كان يعذب فى الله احسب النّاس الاية وكذا ذكر البغوي قول ابن جريح وقال قال مقاتل نزلت فى مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول من يدعى الى باب الجنة من هذه الامة قلت وهو أول من خرج من المسلمين مبارزا يوم بدر فقتله عامر بن الحضرمي بسهم وكان أول من قتل كذا فى سبيل الرشاد ولمّا جزع عليه أبواه وامرأته(7/189)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
انزل الله تعالى فيهم هذه الاية- وقوع الاستفهام بعد الم دليل على استقلاله والمراد بالحسبان الظنّ وهو متعلق بمضمون جملة للدلالة على جهة ثبوتها ولذلك يقتضى مفعولين او ما يسدّ مسدهما كقوله ان يتركوا والاستفهام للانكار والتوبيخ وان يّقولوا تقديره لان يقولوا وهم لا يفتنون حال من فاعل يقولوا والمعنى أظنوا أتركهم غير مفتونين لقولهم آمنّا فالترك اوّل مفعوليه وغير مفتونين من تمامه ولقولهم هو الثاني كقولك حسبت ضربه للتأديب او المعنى احسبوا أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم أمنا يعنى لا يحسبوا ذلك بل يمتحتهم الله بالمشاق كالمهاجرة والمجاهدة وانواع المصائب فى الأنفس والأموال والأولاد ليتميز المخلص من المنافق والثابت فى الدين من المضطر فيه ولينالوا بالصبر عليها عوالى الدرجات. وذكر البغوي ان الله تعالى أمرهم فى لابتداء بمجرد الايمان ثم فرض عليهم الصلاة والزكوة وسائر الشرائع فشق على بعضهم فانزل الله هذه الاية فالمعنى احسبوا ان يتركوا على مجرد الايمان وهم لا يفتنون بالأوامر والنواهي فان مجرد الايمان وان كان مانعا عن الخلود فى العذاب لكن نيل الدرجات يترتب على وظائف الطاعات ورفض الشهوات.
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأنبياء والمؤمنين فمنهم من نشر بالمناشير ومنهم من قتل وابتلى بنوا إسرائيل بفرعون يسومهم سوء العذاب الجملة متصل بقوله احسب او بقوله لا يفتنون يعنى ذلك سنة قديمة جارية فى الأمم كلها فلا ينبغى ان يتوقع خلافه او معترضة لتسلية المؤمنين فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا فى قولهم أمنا معطوف على قوله ولقد فتنّا وفيه التفات من التكلم الى الغيبة وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ الله عالم ازلا ومعنى الاية ليتعلقن علمه حاليا يتميز به الذين صدقوا فى الايمان من الذين كذبوا فيه وينوط به ثوابهم وعقابهم وقيل معناه ليظهرن الله الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلومه وقال مقاتل ليرين الله وقيل لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ اى الكفر والمعاصي فان العمل يعم افعال القلوب والجوارح أَنْ يَسْبِقُونا ان يفوتنا فلا نقدر على الانتقام منهم وان مع صلتها ساد مساد مفعولى حسب معطوف على احسب وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة(7/190)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
والاضراب لان هذا الحسبان ابطال من الحسبان الاول لان فى الحسبان الاول يقدران لا يمتحن لايمانه وفى هذا ان لا يجازى بمساويه وقالوا الاول فى المؤمنين وهذا فى الكافرين قلت وجاز ان يكون أم متصلة والإنكار ورد على أحد الحسبانين المتردد فيهما بالهمزة وأم والنكرة فى حيز النفي المستفاد من الإنكار يعم فالمعنى كلا الحسبانين باطلان فلا تحسبوا ايها المؤمنون ان لا تمتحنوا بل تمتحنون بالمصائب لتنالوا الدرجات الرفيعة ولا يحسب أعداؤكم ان لا يعذبهم الله فى الدنيا والاخرة بل يعذبهم الله فى الدنيا بايدى المؤمنين وفى الاخرة بعذاب من عنده والحاصل ان المؤمنين يمتحنون بالمصائب ثم يكون الغلبة لهم فى اخر الأمر ساءَ ما يَحْكُمُونَ ما موصولة مرفوعة على الفاعلية او موصوفة منصوبة على التميز من الضمير المبهم المرفوع والمخصوص محذوف اى بئس الذي يحكمونه حكمهم هذه او بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا.
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ قال ابن عباس الرجاء بمعنى الخوف اى من يخشى البعث والحساب وعذاب الله وقال سعيد بن جبير من كان يطمع فى ثواب الله قلت وجاز ان يكون المعنى من كان يرجوا رؤية الله فيستدل بهذه الاية ان رؤية الله فى الدنيا غير واقع الا ما قيل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم راى ربه ليلة المعراج وكان ذلك خارجا من الدنيا فمن ادعى رؤية الله فى الدنيا برأى العين فقد كذب فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ يعنى أجل لقائه يحذف المضاف ووقته الموعود له لَآتٍ لا محالة قال مقاتل يعنى يوم القيامة لكائن فليبادر الى ما يحقق رجاءه وينجوه عما يخاف عنه وهذا كقوله تعالى فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ... وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوال العباد الْعَلِيمُ.
بعقائدهم وأفعالهم وَمَنْ جاهَدَ اعداء الله يعنى الكفار فى الحرب او نفسه فى الكف عن الشهوات المنهية والترفع والصبر على الطاعات والشيطان فى دفع وساوسه عطف على الشرطية السابقة فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لان منفعته راجعة إليها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لا حاجة له الى طاعتهم وانما كلف عبادة رحمة عليهم ومراعاة لمصالحهم الجملة تعليل لما سبق.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعنى نذهب سيئاتهم(7/191)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
بحسناتهم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر رواه مسلم وقد مر فى تفسير قوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ... وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ منصوب بنزع الخافض الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ اى بأحسن أعمالهم وهو الطاعة يعنى لا نضيعها وقيل معناه نعطهم اكثر مما عملوا عشر أمثالها الى سبع مائة ضعف الى ما شاء الله وقيل احسن بمعنى حسن-.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ الوصية التقدم الى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أمرناه بإتيان فعل ذا حسن او كانه فى ذاته حسن تفرط حسنه متلبسا ذلك الفعل بوالديه اى يبرهما ويعطف عليهما وقيل معناه ووصّينا الإنسان ذا حسن بان يبرهما اخرج مسلم والترمذي والبغوي وابن ابى حاتم وابن مردويه عن سعد بن ابى وقاص وهو سعد بن مالك ابو إسحاق الزهري أحد العشرة المبشرة رضى الله عنه كان من السابقين الأولين وكان بارّا بامه انه لما اسلم قالت امه وهى حمنة بنت ابى سفيان بن امية بن عبد الشمس (قد امر الله بالبر وفى رواية) قالت ما هذا الّذى أحدثت والله لا اطعم طعاما ولا اشرب شرابا حتى أموت او تكفر وفى رواية حتى ترجع الى ما كنت عليه او أموت فتعير بذلك ابد الدهر يقال قاتل امه فنزلت وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي بإضمار القول اى وقلنا له وان جاهداك لتشرك بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بالوهيته عبر عن نفيها بنفي علم بها اشعارا بان ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه وان لم يعلم بطلانه فضلا عما علم بالادلة القطعية بطلانه فَلا تُطِعْهُما فى ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق رواه احمد والحاكم وصححه عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري وفى الصحيحين وسنن ابى داؤد والنسائي عن على رضى الله عنه لا طاعة لاحد فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف. قال البغوي ثم انها اى أم سعد مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب وقيل لبثت ثلاثة ايام كذلك فجاء سعد وقال يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت دينى ان شئت كلى وان شئت فلا تأكلى فلمّا أيست منه أكلت وشربت إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ(7/192)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
بالجزاء عليه ونزلت ايضا فى قصة أم سعد التي فى لقمان والتي فى الأحقاف.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ من الأنبياء والشهداء والأولياء اى نجعلهم فى جملتهم ونحشر معهم او فى مدخلهم وهى الجنة والكمال فى الصلاح منتهى درجات المؤمنين ومتمنى أنبياء الله المرسلين فان كمال الصلاح عبارة عن عدم شىء الفساد فى الاعتقاد والأعمال والأخلاق والاشغال عطف على وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ وما بينهما اعتراض- اخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال كان قوم من اهل مكة قد اسلموا وكانوا يخفون الإسلام فاخرجهم المشركون معهم يوم بدر فاصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فاكرهوا فاستغفر لهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الاية فى سورة النساء فكتبوا بها الى من بقي بمكة منهم وانه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت.
وَمِنَ النَّاسِ عطف على ما سبق ذكر المؤمنين اولا ثم ذكر المنافقين مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بان عذبهم الكفار على الإسلام جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ الأذى الذي لحقهم من الكفار كَعَذابِ اللَّهِ فى الاخرة اى جزع من عذاب الناس ولم يصبر فاطاع الناس وترك الإسلام كما يترك المسلمون الكفر والمعاصي بخوف عذاب الله فى الاخرة والجملة الشرطية عطف على صلة من قال ابن عباس رض فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزّبوا فقالوا نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فنزلت ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا الاية فكتبوا بذلك فخرجوا فلحقهم فنجا من نجا وقتل من قتل- واخرج عن قتادة انها نزلت فى القوم الذين ردهم المشركون الى مكة وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ
اى فتح وغنيمة للمؤمنين لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ فى الدين جواب قسم محذوف فى اللفظ وفى المعنى جزاء للشرط وهذه الشرطية معطوفة على شرطية سابقه اعنى فاذا أوذي وقيل الاية نزلت فى المنافقين ويؤيده قوله تعالى أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ الهمزة للانكار والواو للحال والإنكار راجع الى الحال والمعنى ليس الحال انهم يقولون ذلك وليس الله(7/193)
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
لعالم بما فى صدورهم بل الحال ان الله عالم بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإخلاص والنفاق فيجازى المنافقين على نفاقهم او للعطف على مضمون ما سبق يعنى نافقوا ولا يخفى ذلك على الله.
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ جواب قسم محذوف والجملة معترضة وعدا للمؤمنين ووعيدا للمنافقين او معطوف على مضمون انكار نفى علمه تعالى تأكيد له الَّذِينَ آمَنُوا مخلصين وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فيجازى كلا على حسب ما أضمر قال الشعبي هذه الآيات العشر من أول السورة الى هنا مدنية وما بعدها مكية.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كفار مكة كذا قال مجاهد لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا قال الكلبي ومقاتل قاله ابو سفيان لمن أمن من قريش اتبعوا ديننا وملة ابائنا عطف على ما سبق من ذكر المنافقين وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ اى ان كان ذاك خطيئة او ان كان ذاك خطيئة ان كان بعث ومواخذة أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة فى تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزار عنهم تشجيعا لهم وقال الفراء لفظه امر ومعناه جزاء مجازه ان اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله تعالى فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ولمّا كان فى كلامهم تشجيعا على الكفر والمعاصي ردّ الله عليهم قولهم وكذبهم بقوله تعالى وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ الجملة حال من فاعل قال إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فى الاخبار بالحمل عنهم المستفاد من قولهم ولنحمل خطاياكم من الاولى للتبيين والثانية مزيدة والتقدير وما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ اى أوزار أعمالهم التي عملوا بانفسهم جواب القسم المقدر وهو حكاية قسم لا انشائية فهو خبرية معطوفة على ما هُمْ بِحامِلِينَ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ لما تسببوا له بالإضلال وهو الحمل على المعاصي من غير ان ينقص من أوزار اتباعهم وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سوال تقريع وتبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل التي أضلوا بها-.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ عطف على قوله وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وفيه التفات من الغيبة الى التكلم فَلَبِثَ عطف على أرسلنا فدل على انه بعد الإرسال فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء يقال لما طاف بكثرة من سيل ظلام او نحوها طوفان يعنى فغرقوا وَهُمْ(7/194)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
ظالِمُونَ بالكفر حال من مفعول أخذهم قال ابن عباس بعث نوح لاربعين سنة وبقي فى قومه يدعوهم الف سنة الا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وكان عمره الفا وخمسين سنة- أخرجه ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردوية وذكره البغوي. وعن وهب انه عاش الفا واربع مائة سنة فقال له ملك الموت يا أطول الأنبياء عمرا كيف وجدت الدنيا قال كدار لها بابان دخلت وخرجت لم يقل تسع مائة وخمسين عاما لان اللفظ اخصر ولان المقصود بيان طول مصابرته على مكايد أمته فكان ذكر الالف افخم.
فَأَنْجَيْناهُ يعنى نوحا وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ الذين ركبوها معه من أولاده واتباعه وكانوا ثمانين وقيل ثمانية وسبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث وقد مر فى سورة هود وسورة الأعراف تمام القصة وَجَعَلْناها اى السفينة او الحادثة آيَةً لِلْعالَمِينَ يتعظون ويستدلون بما.
وَإِبْراهِيمَ عطف على نوح يعنى وأرسلنا ابراهيم او منصوب بإضمار اذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ ظرف لارسلنا اى أرسلناه حين كمل عقله وتم نظره بحيث عرف الحق وامر الناس به او بدل اشتمال منه ان قدّرا ذكر وَاتَّقُوهُ اى خافوا واحذروا عذابه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم عليه تعليل للامر بالعبادة والتقوى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جزاؤه محذوف والتقدير ان كنتم تعملون الخير والشر وتتميزون بينهما او كنتم تنظرون بنظر العلم دون نظر التعصب والجدال او كنتم من اولى العلم والتميز لا يخفى عليكم ان ذلكم خير لكم مما أنتم عليه.
إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً حجارة لا تضر ولا تنفع وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً منصوب على المصدر اى تكذبون كذبا او تقولون قولا ذا افك فى تسميتها الهة وادعاء شفاعتها عند الله او على العلية اى تخلقونها وتنحتونها للافك او على المفعولية على ان المعنى تخلقون شيئا ذا افك والجملة معترضة لبيان شناعة حالهم وكذا ما بعده او استدلال على شرارة ما هم عليه من حيث انه زور وباطل إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأوثان وغيرها لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً دليل اخر على شرارة ذلك من حيث انه لا يجدى نفعا ورزقا يحتمل المصدر اى لا يستطيعون ان يرزقوكم ويحتمل ان يراد به المرزوق وتنكيره(7/195)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
للتعميم والتحقير اى لا يملكون شيئا من الرزق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كله فانه المالك لا غير وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ متوسلين الى مطالبكم مقيدين لما اعطاكم من النعم بشكره مستعدين للقائه بهما فانه إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ حال مقدرة من فاعل اشكروا-.
وَإِنْ تُكَذِّبُوا اى تكذبونى فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ رسلا من قبلى فلم يضرهم تكذيبهم إياهم وانما أضر أنفسهم حيث تسبب لمّا حلّ بهم من العذاب فكذا تكذيبكم وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الذي يزيل الشك يعنى لا يضره تكذيب من كذّبه وليس الواجب عليه هداية الخلق إذ ليس ذلك فى وسعه- هذه الاية وما بعدها الى قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ
جاز ان يكون من كلام ابراهيم من جملة قصته وجاز ان يكون اعتراضا بذكر شأن النبي صلى الله عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفى القصة من حيث ان مساقها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بان أباه خليل الله كان فى مثل حالك من مخالفة القوم وتكذيبهم إياه.
أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ ابو بكر «وخلف- وابو محمد» وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية خطابا والباقون بالياء التحتانية غيبة الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم ينظروا ولم يروا او الواو للحال والإنكار انكار لحال عدم الرؤية عند التكذيب تقديره فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ والحال انهم قد رأوا- كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ اى كيفية بدء خلقهم قلم يعتبروا به خلقهم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم يخرج طفلا ثم يتحول أحوالا حتى يموت ثُمَّ يُعِيدُهُ الى الحيوة بعد الموت معطوف على او لم يروا لا على يبدئ فان الرؤية غير واقعة عليه ويجوز ان يأوّل الاعادة بأن ينشئ فى كل سنة مثل ما كان فى السنة السابقة من النبات والثمار ونحوها فحينئذ يعطف على يبدئ ويجوز ان يعطف على يبدئ ويجعل وقوع الرؤية على ما يدل على إمكان الاعادة رؤية عليها مجازا إِنَّ ذلِكَ الاعادة او ما ذكر من الامرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر فى فعله الى شىء ولا يتعب فيه.
قُلْ سِيرُوا حكاية خطاب من الله تعالى لابراهيم عليه السّلام بتقدير القول يعنى قلنا لابراهيم قل سيروا او خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا(7/196)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ
على اختلاف الأجناس والأحوال ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ كان القياس ان يقول (فانظروا كيف بدا الله الخلق ثمّ ينشئ النّشاة الآخرة) فغيره على هذا النمط لان المقصود اثبات جواز الاعادة- فلمّا قررهم فى الإبداء بانه من الله احتج بان الاعادة مثل الإبداء فمن كان قادرا على الإبداء لا يعجزه الاعادة فكانه قال ثم الذي أنشأ النشأة الاولى هو الذي ينشئ النّشاة الاخرة فللتنبيه على هذا المعنى ابرز الله اسمه وأوقعه مبتدا- قال بعض المحققين ثمّ ينشئ النّشاة الآخرة معطوف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره قل سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ فقد أنشأ الله النشاة الاولى ثم الله الذي أنشأ النشاة الاولى ينشئ النشاة الاخرة.
قرأ ابن كثير وابو عمرو النّشأة بفتح الشين ممدودا هاهنا وفى النجم والواقعة والباقون بإسكان الشين من غير الف ووقف حمزة على وجهين فى ذلك أحدهما ان يلقى الحركة على الشين ثم يسقطها طردا للقياس والثاني ان يفتح الشين ويبدّل الهمزة الفا اتباعا للخط قال الداني ومثله قد يسمع من العرب إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لان قدرته مقتضى ونسبة ذاته الى الممكنات بأسرها سواء فيقدر على النشاة الاخرى كقدرته على الاولى.
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه فى الاخرة بالنار وفى الدنيا بالخذلان او بالحرص او بسوء الخلق او بالاعراض عن الله او اقتراف البدعة وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته بإدخال الجنة فى الآخرة وفى الدنيا بالتأييد والقناعة وحسن الخلق والإقبال على الله واتباع السنة وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ تردون.
وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربكم عن ادراككم فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ان فزرتم من قضائه بالتواري فى الأرض او الهبوط فى مهاريها او بالتحصن فى السّماء او القلاع الذاهبة فيها وجاز ان يكون ولا فى السماء تقديره ولا من فى السّماء عطفا على اسم ما كقول حسان
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ يحرسكم عن بلاء يظهر فى الأرض او ينزل من السماء ويدفعه عنكم-.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيته او باياته المنزلة فى كتبه وَلِقائِهِ اى بالبعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي اى ييئسون منها يوم القيامة(7/197)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
او المراد بالرحمة الجنة وهم آيسون فى الدنيا منها لانكارهم البعث وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذه ان كان من كلام ابراهيم فالتقدير قال الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وان كان معترضا من الله تعالى فمعطوف على قوله قل سيروا لا على مقولة قل ثم رجع الى قصة ابراهيم فقال.
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ عطف على أرسلنا ابراهيم إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ قال ذلك بعضهم لبعض او قاله واحد منهم وأسند الفعل الى كلهم لرضائهم به فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ معطوف على محذوف تقديره فاتفقوا على تحريقه فقذفوه فى النار فانجاه الله منها بان جعله بردا وسلاما إِنَّ فِي ذلِكَ الانجاء لَآياتٍ هى حفظه من أذى النار وإخمادها مع عظمها فى زمان يسيرو إنشاء روض فى مكانها لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فانهم هم المنتفعون بها-.
وَقالَ ابراهيم لقومه عطف على قال يقوم اعبدوا الله إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ مصدر بمعنى المفعول يعنى مودودا او على تقدير المضاف اى سبب مودة قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي «اى الايس- ابو محمد» ويعقوب بالرفع «بلا موييل- ابو محمد» مضافا الى بَيْنِكُمْ بالجر على انه خبر مبتدا محذوف اى هى مودودة او سبب مودة بينكم يعنى يود بعضكم بعضا ويتواصلون بسبب اجتماعكم على عبادتها- والجملة صفة أوثانا او خبر ان على ان ما مصدرية او موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الاول اى انما اتخذتموه من دون الله أوثانا سبب للمودة منكم وقرأ «وروح- ابو محمد» حفص وحمزة مودّة مضافا الى بينكم منصوبا على العلية اى لتتودوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادة الأوثان وأوثانا المفعول الاول لاتخذتم ومفعوله الثاني محذوف اى اتخذتم أوثانا معبودين من دون الله وجاز ان يكون مودة مفعوله الثاني بتقدير مضاف او بتأويلها بالمودودة اى اتخذتم أوثانا سبب المودة بينكم او مودودة وقرأ نافع وابن عامر وابو بكر مودّة منونة ناصبة بينكم منصوبا على ما ذكرنا فى قراءة حفص فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بمودة يعنى مودة بينكم تنحصر فى الدنيا وتنقطع بعده ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يكون الاخلّاء بعضهم لبعض عدوّ يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا اى يقع التناكر والتلاعن بين الكفار او بينهم وبين الأوثان والجملة معطوفة(7/198)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
على مقولة قال وَمَأْواكُمُ جميعا ايها العابدون والمعبودون النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها.
فَآمَنَ عطف على قال لَهُ اى لابراهيم لُوطٌ لكونه معصوما عن تكذيب الأنبياء وهو أول من صدق ابراهيم وكان ابن أخيه هاران وَقالَ ابراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من قومى إِلى رَبِّي اى الى حيث أمرني ربى او الى حيث يتيسّر لى هناك عبادة ربى. او المعنى انى مهاجر من قومى معرض عنهم متوجها الى ربى وهى السفر فى الوطن على اصطلاح الصوفية قال المفسرون هاجر ابراهيم من كوثى (وهو من سواد كوفة) الى حران ثم اتى الشام ومعه لوط وامرأته سارة وهو أول من هاجر «1» فنزل ابراهيم فلسطين ولوط السدوم قالوا كان ابراهيم حين هاجر ابن خمس وسبعين سنة إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الذي يمنعنى من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يأمرنى الا بما فيه صلاحى.
وَوَهَبْنا لَهُ بعد إسماعيل إِسْحاقَ بعد ما ايس من الولادة لكبر سنه وكبر امرأته وكونها عاقرا وَيَعْقُوبَ ولد الولد نافلة وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ اى ابراهيم النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ من التورية والإنجيل والزبور والفرقان وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته إلينا فِي الدُّنْيا ج بإعطاء الولد فى غير او انه والذرية الطّيّبة كذا قال السدىّ واستمرار النبوة فيهم وانتماء اهل الملل اليه والثناء والصلاة عليه الى اخر الدهر كذا قالوا- قلت لعل اجره فى الدنيا اللذة فى الذكر والفكر والعبادة لله فوق ما يستلذون بها اهل الدنيا من المستلذات الحسنة نظيره قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ اى فى عداد الكاملين فى الصلاح عطف على اتيناه اجره فى الدّنيا وغير الأسلوب من الفعلية الى الاسمية للدلالة على استمرار الاخرة دون الدنيا.
وَلُوطاً عطف على ابراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي بالهمزتين على الاستفهام للانكار والتوبيخ والباقون بهمزة واحدة على الخبر لَتَأْتُونَ جواب قسم محذوف الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة فى القبح ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ هذه الجملة صفة
__________
(1) عن اسماء بنت ابى بكر قالت هاجر عثمان الى الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم انه أول من هاجر بعد ابراهيم ولوط وعن ابن عباس قال اوّل من هاجر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط الى ابراهيم. وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بين عثمان ورقية وبين لوط من مهاجر 12 منه رحمه الله.(7/199)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
للفاحشة على طريقة ولقد امر على اللّئيم يسبّنى او حال او مستأنفة لكونه فاحشة.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ بيان للفاحشه وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وذلك انهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن مرّ بهم من المسافرين فترك الناس الممرّ بهم وقيل معناه تقطعون سبيل النساء بايثار الرجال على النساء وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ اى فى مجالسكم ولا يقال النادي النادي الا لما فيه اهله روى البغوي عن ابى صالح مولى أم هانى بنت ابى طالب رضى الله عنها قالت سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قلت ما المنكر الذي كانوا يأتون قال كانوا يحذفون اهل الطرق ويسخرون بهم رواه احمد والترمذي وغيرهما قوله يحذفون اهل الطريق اى يرمونهم بالبنادق قال البغوي ويروى انهم كانوا يجلسون فى مجالسهم عند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فاذا مر بهم عابر سبيل قيل خذوهم فايّهم أصابه فهو اولى به وقيل كان يأخذ ما معه وينكحه ويغرنه ثلاثة دراهم ولهم قاض بذلك وقال القاسم بن محمد كانوا يتضارطون فى مجالسهم وقال مجاهد كان يجاهد بعضهم بعضا فى مجالسهم وعن عبد الله بن سلام كان يبزق بعضهم على بعض وعن مكحول قال كان من اخلاق قوم لوط مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء وحل الإزار والصغير والحذف واللوطية فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ عطف على قال إِلَّا أَنْ قالُوا استهزاء ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما اوعدتنا به من نزول العذاب او فى استقباح تلك الافعال او فى دعوى النبوة المفهوم من التوبيخ.
قالَ لوط رَبِّ انْصُرْنِي بانزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة واستبانها لما بعدهم وصفهم بذلك مبالغة فى استنزال العذاب واشعارا بانهم أحقاء بان يعجل لهم العذاب-.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بالبشارة بالولد والنافلة اعنى إسحاق ويعقوب قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية سدوم والاضافة لفظية لان معناه الاستقبال إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تعليل لاهلاكهم بإصرارهم وتماديهم فى ظلمهم الذي هو الكفر والمعاصي.
قالَ ابراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً اعتراض عليهم بان فيها من لم يظلم او معارضة للموجب بالمانع وهو كون النبي بين أظهرهم قالُوا اى(7/200)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)
الرسل وهم الملائكة نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ قرأ حمزة والكسائي بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وَأَهْلَهُ تسليم لقوله مع ادعاء مزيد العلم وجواب عنه بتخصيص اهل القرية بمن عداه وعدى اهله او تأقيت الإهلاك بإخراجهم عنها وفيه تأخير البيان عن الخطاب وذلك جائز وانما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إِلَّا امْرَأَتَهُ زق كانَتْ فى علم الله تعالى مِنَ الْغابِرِينَ الباقين فى العذاب او فى القرية تعليل للاستثناء-.
وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ اى الحقه المساءة والغم بِهِمْ اى بسبب الرسل مخافة ان يقصدهم قومه بسوء وان صلة لتأكيد الفعلين واتصالهم وَضاقَ لوط بِهِمْ بسبب الرسل ذَرْعاً تميز من النسبة والذرع الطاقة يقال فلان طويل الذراع اى شديد القوة لان طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيرها والمعنى ضاق طاقته بشأنهم وتدبير أمرهم فى الحفظ عن قومه وَقالُوا اى الرسل لما راوا فيه اثر الغم والمساءة لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ على تمكّنهم منّا او لا تخف تمكّنهم منا ولا تحزن باهلاكنا إياهم إِنَّا مُنَجُّوكَ
تعليل للنهى قرأ ابن كثير «ويعقوب وخلف ابو محمد» وحمزة والكسائي وابو بكر بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وموضع الكاف نصب عند الكوفيين ويؤيده عطف وَأَهْلَكَ بالنصب وعند البصريين محل الكاف جر ونصب أهلك بإضمار فعل اى وننجى أهلك او بالعطف على المحل البعيد للكاف فان الاضافة اللفظية فى حكم الانفصال وهو فى الأصل منصوب إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ إِنَّا مُنْزِلُونَ قرأ ابن عامر بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال.
عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً اى عذابا سمّى بذلك لانه يقلق المعذب من قولهم ارتجز إذا ارتجس اى اضطرب مِنَ السَّماءِ قال مقاتل الخسف والحصب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها اى من قريات لوط آيَةً بَيِّنَةً قال ابن عباس هى اثار منازلهم الخزية وقال قتادة هى الحجارة الممطورة التي اهلكوا بها أبقاها الله حتى أدركها أوائل هذه الامة وقال مجاهد هى ظهور الماء الأسود على وجه الأرض وقيل هى حكايتها الشائعة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتدبرون فى الآيات تدبر ذوى العقول..
وَإِلى مَدْيَنَ متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا الى مدين معطوفا على ولقد أرسلنا(7/201)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
نوحا أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ قيل الرجاء هاهنا بمعنى الخوف يعنى خافوا عذاب اليوم الاخر او المعنى افعلوا فعلا ترجون به ثواب الاخرة فاقيم المسبب مقام السبب وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال موكدة لعاملها وجاز ان يكون الحال منتقلة والمعنى لا تفسدوا فى الأرض على قصد الإفساد احتراز عما إذا أفسدوا على قصد الإصلاح كالقتل والجرح وتخريب الديار وقطع الأشجار فى حرب الكفار من اهل الحرب.
فَكَذَّبُوهُ فى دعوى النبوة فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة وقيل صيحة جبرئيل لان القلوب ترجف فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ باركين على الركب ميتين والمراد من دارهم بلدهم او دورهم ولم يجمع للامن من اللبس.
وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بإضمار اذكر او فعل دل عليه ما قبله مثل أهلكنا معطوف على قوله فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قرأ حمزة وحفص ويعقوب ثمود غير منصرف على تأويل القبيلة وَقَدْ تَبَيَّنَ مع ما عطف عليه جملة معترضة لَكُمْ يا اهل مكة مِنْ مَساكِنِهِمْ اى بعض مساكنهم او المعنى قد تبين لكم إهلاكهم من مساكنهم إذا نظرتم إليها عند مروركم بها وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر والمعاصي فَصَدَّهُمْ الشيطان عَنِ السَّبِيلِ اى سبيل الّذى بيّن لهم الرسل الموصل الى الجنة وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ قال مقاتل وقتادة والكلبي كانوا معجبين فى دينهم وضلالتهم يحسبون انهم على الهدى والمعنى انهم كانوا عند أنفسهم مستبصرين- وقال الفراء كانوا عقلاء ذوى البصائر متمكنين من النظر والاستبصار لكنهم لم يفعلوا وقيل معناه كانوا مبينين ان العذاب لاحق بهم بأخبار الرسل لكنهم ألحوا حتى هلكوا.
وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ معطوفون على عاد قيل قدم قارون لشرف نسبه وفيه اشعار بان الكفر والعصيان من شريف النسب أقبح وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ اى فائتين بل أدركهم امر الله بالتعذيب. من سبق طالبه إذا فاته.
فَكُلًّا اى كل واحد منهم منصوب بقوله أَخَذْنا اى عاقبناه بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً اى الريح التي تحمل الحصباء وهى الحصى الضعيف وهم قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ يعنى ثمود ومدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعنى قارون(7/202)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا يعنى قوم نوح وفرعون وقومه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ اى يعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من عادته وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالتعريض للعذاب.
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعنى مثل الكفار فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا من الأصنام كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ فيما اتَّخَذَتْ بَيْتاً فى الوهن والخوار بل ذاك اوهن فان لهذا حقيقة وانتفاعا ما يعنى مثل دينهم كمثل بيت العنكبوت او المعنى مثل الكفار الذين اتخذوا من دون الله اولياء بالنسبة الى الموحد كمثل العنكبوت بالنسبة الى رجل بنى بيتا من حجر وجصّ والعنكبوت «1» يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث والتاء فيه كتاء الطاغوت ويجمع على عناكيب وعكاب واعكب وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بيت اوهن واقل وقاية للحر والبرد منه هذه الجملة حال او مستانفة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يرجعون الى علم لعلموا ان هذا مثلهم وان دينهم اوهن من ذلك.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ على إضمار القول اى قل للكفرة انّ الله يعلم ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قرأ ابو عمرو «ويعقوب- ابو محمد» وعاصم يدعون بالباء على الغيبة حملا على ما قبله من ذكر الأمم والباقون بالتاء للخطاب الى كفار مكة وما استفهامية منصوبة بيدعون فيعلم معلقة منها ومن للتبيين او نافيه ومن مزيدة وشىء مفعول يدعون والكلام تجهيل لهم وتأكيد للمثل او مصدرية وشىء مصدر او موصولة مفعول ليعلم ومفعول يعلم عائده المحذوف والكلام وعيد لهم وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تعليل لما سبق فان من فرط الغباوة اشراك ما لا يعدل شيئا بمن هذا شأنه وان الجماد بالاضافة الى القادر على كل شىء البالغ فى العلم وإتقان الفعل كالمعدوم وان من هذا صفته قادر على مجازاتهم.
وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها اى ما يعقل حسن تلك الأمثال وفائدتها إِلَّا الْعالِمُونَ الّذين يتدبرون فى الأشياء على ما ينبغى فيعقلون عن الله سبحانه روى البغوي عن عطاء وابى الزبير عن جابر رض انه تلى هذه الاية وَتِلْكَ
__________
(1) عن على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت انا وابو بكر العار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن 12(7/203)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ قال العالم من عقل عن الله فعمل بطاعنه واجتنب معصية وكذا روى الثعلبي والواحدي وروى ابو داود بن الحرمي كتاب العقل من طريق الحارث بن اسامة وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات.
خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فان المقصود بالذات من خلقها افاضة الخير والدلالة له على ذاته وصفاته كما أشار اليه بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق لَآيَةً دالة على وجود الله تعالى وعلمة وقدرته وإرادته ووحدته وتنزهه عن المناقص لِلْمُؤْمِنِينَ فانهم هم المنتفعون بها.(7/204)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
(الجزء الحادي والعشرون) .
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ اى القران تقربا الى الله بتلاوته وتحفظا لاتعاظه وأحكامه واعتبارا بامثاله واستكشافا لمعانيه فان القاري المتأمل قد ينكشف له بالتكرار ما لا ينكشف له أول مرة حتى يتمثل لاوامره وينتهى عن مناهيه وَأَقِمِ الصَّلاةَ المفروضة إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى هذه الجملة تعليل للامر باقامة الصلاة عَنِ الْفَحْشاءِ اى ما ظهر قبحه شرعا وعقلا وَالْمُنْكَرِ للانتهاء عن المعاصي من حيث انها تذكر الله وتورث للنفس خشية قال البغوي روى عن انس رضى الله عنه قال كان فتى من الأنصار يصلى الصلوات الخمس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يدع شيئا من الفواحش الا ركبه فوصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان صلاته تنهاه يوما فلم يلبث ان تاب وحسن حاله- وفى مسند إسحاق والبزار وابى يعلى عن ابى هريرة قال جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم قال ان فلانا يصلى بالليل فاذا أصبح سرق قال ان صلاته تنهاه. قال البغوي قال ابن عباس رض وابن مسعود فى الصّلوة منتهى ومزدجر عن معاصى فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد صلاته من الله الا بعدا- وقال الحسن وقتادة من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه- وقيل المراد بالصلوة القران كما فى قوله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ يعنى بالقران فى الصلاة ولا شك ان القران ينهى عن الفحشاء والمنكر- روى البغوي عن جابر قال قال رجل للنبى صلى الله عليه وسلم انّ رجلا يقرأ القران بالليل كله فاذا أصبح سرق قال ستنهى قراءته- وفى رواية قيل يا رسول الله ان فلانا يصلى بالنهار ويسرق باللّيل قال ان صلاته ستردعه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عطاء ولذكر الله اكبر من ان يبقى معصية والمراد بذكر الله الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر. وانما غير عنها بالذكر(7/205)
للتعليل بان اشتمالها للذكر هو السبب لكونها مفضية الى الحسنات ناهية عن السيئات- وقد ورد فى فضل الذكر أحاديث منها حديث ابى الدرداء رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أنبئكم بخير أعمالكم وأذكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله- رواه مالك واحمد والترمذي وابن ماجة الا ان مالكا وقفه على ابى الدرداء وعن ابى سعيد الخدري رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه سئل اى العباد أفضل وارفع درجة عند الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات قيل يا رسول الله ومن الغازي فى سبيل الله فقال لو ضرب بسيفه الكفار حتى تنكسر وتخضب دما لكان الذاكرون الله كثيرا أفضل منه درجة رواه احمد والترمذي وقال الترمذي حديث غريب وعن عبد الله بن بسر قال جاء أعرابي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اى الناس خير قال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اى الناس خير قال طوبى لمن طال عمره وحسن عمله قال يا رسول الله اى الأعمال أفضل قال ان تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله- رواه احمد والترمذي وعن ابى هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير فى طريق مكة فمر على جبل يقال له حمدان فقال سيروا هذا حمدان سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات- رواه مسلم وعن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت. متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون اهل الذكر فاذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا الى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم الى السماء قال فيسئلهم ربهم (وهو اعلم بهم) ما يقولون عبادى قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجّدونك قال فيقول هل راؤنى قال فيقولون لا والله ما راوك قال فيقول كيف لو راونى قال يقولون لو راوك كانوا أشدّ لك
عبادة وأشدّ لك تمجيدا واكثر لك تسبيحا قال فيقول فما يسئلون قالوا يسئلونك الجنة قال يقول هل راوها فيقولون لا والله ما راوها قال يقول كيف لو راوها قال يقولون لو انهم راوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد طلبا وأعظم فيها رغبة قال فلم يتعوذون قال يقولون من النار قال يقول فهل راوها قال يقولون لا والله يا رب ما راوها قال يقول(7/206)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
فكيف لوراوها قال يقولون لو راوها كانوا أشد لها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فاشهدكم انى قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم انما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم- رواه البخاري وروى مسلم نحوه وفيه قال يقولون رب فيهم عبد خطاء انما مرّ فجلس معهم قال فيقول ولغفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم- وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال قال حلق الذكر. رواه الترمذي وروى مسلم من حديث معاوية رض ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال وما اجلسكم هاهنا قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للاسلام ومنّ به علينا قال ان الله عزّ وجلّ يباهى بكم الملائكة- وعن مالك قال بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذاكر الله فى الغافلين كالمقاتل خلفه الفارين وذاكر الله فى الغافلين كغصن اخضر فى شجر يابس وذاكر الله فى الغافلين مثل مصباح فى بيت مظلم وذاكر الله فى الغافلين يريه مقعده من الجنة وهو حى وذاكر الله فى الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم من بنى آدم والبهائم- رواه رزين وعن معاذ بن جبل قال ما عمل آدمي عملا انجاله من عذاب الله من ذكر الله- رواه مالك والترمذي وابن ماجه وعن ابى سعيد شهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال لا يقعد قوم يذكرون الله الا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ورواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا عند ظن عبدى بي وانا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وان ذكرنى فى ملاء ذكرته فى ملاء خير منهم متفق عليه وقال قوم معنى قوله تعالى ولذكر الله اكبر لذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه ويروى ذلك عن ابن عباس رض وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير قال البغوي ويروى ذلك مرفوعا عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى انه لا تقصروا فى ذكر الله فان ذكركم إياه يفضى الى ذكره إياكم ولذكره إياكم أفضل من ذكركم إياه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ لا يخفى عليه شىء كذا قال عطاء.
وَلا تُجادِلُوا يعنى لا تخاصموا عطف على أقم الصّلوة اى ولا تجادل أنت والمؤمنون أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي اى بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ الخصال يعنى بالقرءان والدعاء الى الله(7/207)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
باياته والتنبيه على حججه فالمستثنى مفرغ او المعنى الا بالتي هى احسن مما يفعله الكافرون يعنى معارضة الخشونة باللين والغضب بالكظم والمشاغبة بالنصح فالمستثنى منقطع لان النصح ليس بمجادلة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بنبذ العهد او عدم قبول الجزية فقاتلوهم حتى يسلموا او يعطوا الجزية عن يدوّهم صاغرون كذا قال سعيد بن جبير ان المستثنى اهل الحرب والباقي بعد الثنيا اهل الذمة والظاهر انه كان الحكم بحسن المجادلة قبل الأمر بالقتال لان الاية مكية فالمراد حينئذ بالذين ظلموا المفرطون فى الاعتداء والعناد والقائلون بإثبات الولد وبان يد الله مغلولة وبانّ الله فقير ونحن اغنياء فحينئذ جاز مجادلتهم بالعنف وعلى هذا قال قتادة ومقاتل هذه الاية منسوخة باية السيف وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ بيان لحسن المجادلة. ويحتمل ان يكون المعنى ولا تجادلوا اهل الكتاب إذا أخبروا مما ذكر فى كتبهم يعنى لا تكذبوهم الّا الّذين ظلموا منهم يعنى الا من اخبر بشئ معلوم قطعا انه كاذب فيه كقولهم بتأبيد دين موسى او قتل عيسى او كون عيسى ابن الله ونحو ذلك فحينئذ يجب تكذيبه والمباهلة عليه وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ اى مطيعون له خاصة وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله عن ابى هريرة رضى الله عنه قال كان اهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنّا بالله وما انزل إلينا وما انزل إليكم الاية- رواه البخاري وعن ابى نملة الأنصاري انه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة فقال يا محمد هل يتكلم هذا الميت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اعلم فقال اليهودي انها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثكم اهل الكتب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا امنّا بالله وكتبه ورسله فان كان باطلا لم تصدقوهم وان كان حقّا لم تكذبوهم.
وَكَذلِكَ اى كما أنزلنا على من قبلك أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ وحيا مصدقا لسائر الكتب الالهية وهو تحقيق لقوله فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ به يعنى مومنى اهل الكتب عبد الله بن سلام وأمثاله او المعنى الذين آتَيْناهُمُ الْكِتابَ كانوا يؤمنون به قبل مبعث(7/208)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
النبي صلى الله عليه وسلم وَمِنْ هؤُلاءِ اى من اهل مكة او من العرب او ممن فى عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم من الكتابين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى بالقران وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الاضافة للعهد يعنى بايات القران إِلَّا الْكافِرُونَ يعنى الكافرون بالله وبالكتب كلها يعنى من كذب بالقران فقد كذب بالتوراة والإنجيل ايضا لانهما مصدقان للقران فتكذيبه تكذيب بهما فمن أنكر القران وادعى الايمان بالتورية فدعواه باطل قال قتادة الجحود انما يكون بعد المعرفة عرفوا ان محمدا حق والقران حق فجحدوا.
وَما كُنْتَ تَتْلُوا يا محمد ص عطف على كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ما انزل إليك الكتاب مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ ولا تكتبه بِيَمِينِكَ ذكر اليمين زيادة تصوير للمنفى ونفى للتجوز فى الاسناد إِذاً يعنى إذا كنت قاريا للكتب المتقدمة كاتبا لها لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ اى الكافرون يعنى اهل مكة وقالوا لعله التقطه من كتب الأقدمين كذا قال قتادة وانما سماهم مبطلين لكفرهم او لارتيابهم بانتفاء وجه واحد مع وجود المعجزات المتكاثرة وقيل معناه لا ارتياب اهل الكتاب لوجدانهم نعتك فى كتبهم بالامى كذا قال مقاتل فيكون على هذا ابطالهم باعتبار الواقع دون المقدر.
بَلْ هُوَ اى القران آياتٌ بَيِّناتٌ واضحة الدلالة على صدقها إضراب عما فهم فيما سبق يعنى ما هذا القران مختلقا من عندك ولا مخطوطا بيمينك بل هو آيات بينات فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى المؤمنين الذين حملوا القران يحفظونه لا يقدر أحد على تحريفه وهى من خصائص القران كونه آيات بينات الاعجاز وكونه محفوظا عن التحريف والاسقاط لقوله تعالى وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وكونه محفوظا فى الصدور بخلاف سائر الكتب فانها لم تكن معجزة فكانوا يحرفون الكلم منها عن مواضعها وما كانت تقرا الا من مصحف وقال ابن عباس بل هو يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم ذوايات بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من اهل الكتاب لانهم يجدون نعته ووصفه فى كتبهم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ الظلم وضع الشيء فى غير موضعه يعنى آياتنا معجزة واضحة الدلالة على صدقها لظما ومعنى فمن جحد بها بعد وضوح اعجازها فهو الظالم المكاير للحق.
وَقالُوا عطف على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وما بينهما معترضات لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ(7/209)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
كما انزل على الأنبياء من قبل مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى قرأ نافع وابن عامر والبصريان وحفص آيات على الجمع والباقون اية على التوحيد قُلْ يا محمّد ص إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ اى فى قدرته مربوطا بإرادته لست أملكها فاتيكم بما تقرحون وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأنى الا الانذار وابانة بما أعطيت من الآيات.
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الهمزة للانكار والتوبيخ والواو للحال من فاعل فعل مقدر تقديره أتطلبون منك اية والحال انه لم يكفهم اية قوية مغنية عما اقترحوه أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ وأنت امّىّ الْكِتابَ المعجز الجامع لانواع العلوم الشريفة مطابقا لما قبله من الكتب يُتْلى عَلَيْهِمْ يدوم تلاوته عليهم متحدين به
لم يقترن بزمان وهى تخبرنا ... عن المعاد وعن عاد وعن ارم
دامت لدنيا ففاقت كل معجزة ... من النبيّين إذ جاءت ولم تدم
إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الّذى هو اية مستمرة مبينة لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اى تذكرة لمن همه الايمان دون التعنت هذه الاية تعليل للتوبيخ- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم والدارمي فى مسنده وابو داود فى المراسيل من طريق عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة مرسلا قال جاء ناس من المسلمين بكتف كتب فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم كفى بقوم ضلالة ان يرغبوا عما جاء به نبيهم الى ما جاء به غيره الى غيرهم فنزلت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ. روى ان كعب بن الأشرف قال يا محمد من يشهد بانك رسول الله فنزلت.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يخفى عليه شىء الجملة صفة لشهيدا او تعليل لكفى وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس يعنى بغير الله وقال مقاتل يعنى الذين عبدوا الشيطان وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فى تجارتهم حيث اختاره الباطل على الحق واشتروا النار بالجنة هذه الجملة معطوفة على كفى.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ عطف على قالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ نزلت الاية حين قال النضر بن الحارث فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قال ابن عباس يعنى ما وعدتك ان لا أعذب قومك ولا استأصلهم وأؤخر عذابهم الى يوم(7/210)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
القيامة كما قال بل الساعة موعدهم والسّاعة أدهى وامرّ وقال الضحاك مدة أعمارهم لانهم إذا ماتوا صاروا الى العذاب وقيل يوم بدر لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب وقيل الاجل بَغْتَةً فجاة فى الدنيا كوقعة بدر او فى الاخرة عند نزول الموت بهم وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ إعادة تأكيدا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ عطف على لياتينّهم بغتة يعنى سيحيط بهم يوم يأتيهم العذاب. او هى الان كالمحيطة لاحاطة الكفر والمعاصي التي يوجبها لهم واللام للعهد على وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على موجب الإحاطة او للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف لمحيطة او لمقدر مثل كان كيت وكيت مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ اى من جميع جوانبهم وَيَقُولُ قرأ نافع والكوفيون بالياء يعنى ويقول الله او بعض ملائكته بامره والباقون بالنون على التكلم ذُوقُوا ما كُنْتُمْ اى جزاء ما كنتم تَعْمَلُونَ يا عِبادِيَ قرأ ابو عمرو «ويعقوب وخلف- ابو محمد» وحمزة والكسائي بحذف الياء فى الوصل وفتحها الباقون فى الوصل وأثبتوها ساكنه فى الوقف الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي
قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها بإسكانها واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
ايّاى منصوب بفعل مضمر يفسره الشرطية الواقعة بعدها والفاء جزاء شرط محذوف تقديره ان لم تستطيعوا ان تعبدونى فى الأرض التي كنتم فيها فاعبدونى فى ارض غيرها فحذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول حتى صار الضمير المتصل منفصلا وأفاد تقديمه معنى الاختصاص وصار فاياى اعبدوا ثم أضمر الفعل الناصب وفسره بقوله فاعبدونى ليفيد التأكيد كانّه قال فاعبدونى فاعبدونى قال مقاتل والكلبي نزلت فى ضعفاء المسلمين بمكة يقول ان كنتم بمكة فى ضيق من اظهار الايمان فاخرجوا الى ارض غيرها يمكن لكم فيها اظهار الايمان كالمدينة ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
وقال مجاهد إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
فهاجروا وجاهدوا فيها وقال سعيد بن جبير إذا عمل فى ارض بالمعاصي فاخرجوا منها ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
وقال عطاء إذا أمرتم بالمعاصي فاهربوا ف إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
وكذلك يجب على كل من كان فى بلده يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك ان يهاجر الى حيث يتهيا له العبادة وقيل نزلت فى قوم تخلفوا عن الهجرة بمكة وقالوا نخشى من الجوع ان هاجرنا فانزل الله هذه الاية لم يعذرهم بترك الخروج(7/211)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
قال مطرف بن عبد الله إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
اى رزقى لكم واسع فاخرجوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرّ بدينه من ارض الى ارض ولو شبرا استوجب الجنة وكان رفيق ابراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم رواه الثعلبي من حديث الحسن مرسلا.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ اى واجد حرارته وكربه لا محالة كما يجد الذائق طعم المذوق فلا تقيموا دار الشر اى خوفا من الموت بل لا بد لكم من الاستعداد لها بعبادة الله ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنجازيكم بأعمالكم فهاجروا فى سبيل الله نجازيكم عليه قرأ ابو بكر باليا على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب ففيه الالتفات من الغيبة الى الخطاب.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ قرأ حمزة والكسائي لنثوينّهم بالتاء المثلثة ساكنة وتخفيف الواو وبالياء من غير همزة يقال ثوى الرجل وأثويته إذا أنزلته منزلا والباقون بالباء الموحدة وفتحها وتشديد الواو وهمزة بعدها اى لننزلهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أعالي قال صاحب البحر المواج لنبوّئنّهم بالباء الموحدة فعل متعد الى مفعول واحد ومجرده لازم وغرفا منصوب بنزع الخافض ليس مفعولا ثانيا له الا على تضمينه معنى لننزلن تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخصوص بالمدح محذوف دل عليه ما قبله تقديره عرف الجنة او أجرهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على ذية المشركين والهجرة للذين الى غير ذلك من المحن والشاق لاجل مرضاة الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعتمدون على ان يرزقهم من حيث لم يحتسبوا- قال البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقنا اذاهم المشركون هاجروا الى المدينة فقالوا كيف نخرج الى المدينة وليس لنا بها دار ولا مال فمن يطعمنا ويسقينا فنزلت.
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ محتاجة الى الغذاء من البهائم والطيور لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا معها ولا تدخر لغد قال سفيان بن على بن أرقم ليس شىء من خلق الله يدخر الا الإنسان والفارة والنمل اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ حيثما كنتم يعنى انها مع ضعفها وعدم ادخار أرزاقها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء فى انه لا يرزقها وإياكم الا الله تعيشون كما تعيشون وتموتون كما تموتون فاجتهادكم عبث فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوالكم سمع(7/212)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
قولكم لا نجد ما ننفق بالمدينة الْعَلِيمُ بما فى قلوبكم من ضعف اليقين اخرج عبد بن حميد وابن ابى حاتم والبيهقي وابن عساكر بسند ضعيف وكذا ذكر البغوي عن ابن عمر قال دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا من حوائط الأنصار فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقط الرطب بيده ويأكل فقال يا ابن عمر كل فقلت لا أشتهيها يا رسول الله قال لكنى أشتهيها وهذه صبح رابعة منذ لم اطعم طعاما ولم أجده فقلت انا لله المستعان قال يا ابن عمر لو سالت ربى لاعطانى مثل ملك كسرى وقيصر أضعافا مضاعفة ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فكيف بك يا ابن عمر رض إذا عمرت وبقيت فى قوم يحيئون رزق سنة ويضعف اليقين قال فو الله ما برحنا ولارمنا حتى نزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ الاية. عن انس قال ان النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئا لغد. رواه الترمذي وصححه وعن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغذ وخماصا وتروح بطانا- رواه الترمذي وابن ماجة وعن ابن مسعود- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من شىء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار الا قد أمرتكم به وليس من شى يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة الا قد نهيتكم عنه وان روح القدس نعت فى روعى ان نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها الا فاتقوا الله واجملوا فى الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق ان تطلبوا بمعاصي الله فانه لا يدرك ما عند الله الا بطاعته- رواه البغوي فى شرح السنة وذكره فى المعالم-.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعنى اهل مكة شرط فى جواب قسم محذوف مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جملة استفهامية واقعة بتأويل المفرد فى محل النصب على المصدرية لقوله سالتهم تقديره سالتهم هذا السؤال لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فاعل لفعل محذوف تقديره ليقولنّ خلقهن الله وقوله ليقولن جواب للقسم لفظا وجزاء للشرط بمعنى يعنى والله لا يقولن الا هذا الجواب لما تقرر فى العقول من انتهاء الممكنات الى واحد واجب لذاته فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعنى فكيف يصرفون عن توحيدهم بعد إقرارهم بذلك.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يحتمل ان يكون الموسع له والمضيق عليه واحدا على التعاقب فى الزمان وان يكون على(7/213)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
وضع الضمير موضع من يشاء اى ويقدر لمن يشاء منهم لان من يشاء منهم غير معين وكان الضمير مبهما مثله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) يعلم مصالح كل شىء ومفاسده قال الله تعالى ان من عبادى المؤمنين لمن يسئلنى الباب من العبادة فاكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الغناء ولو أفقرته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الفقر ولو أغنيته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه الا الصحة ولو أسقمته لافسده ذلك وان من عبادى المؤمنين لا يصلح إيمانه الا السقم ولو اصححته لافسده ذلك انى أدبر امر عبادى بعلمي فى قلوبهم انى عليم خبير- رواه البغوي فى حديث طويل عن انس وسنذكره فى سورة الشورى إنشاء الله تعالى.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعنى اهل مكة عطف على لان سالتهم والكلام فيه مثل ما مرّ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعنى اهل مكة معترفون بان موجد الأشياء كلها بسائطها ومركباتها أصولها وفروعها هو الله لا غير ومع ذلك يشركون به فى العبادة بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شى قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك عن مثل هذه الضلالة او على تصديقك واظهار حجتك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ «1» قبح صنيعهم وتناقض أقوالهم حيث يقرون بانه المبدأ لكل ما عداه ومع ذلك يشركون به اخس الموجودات وأعجزها.
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا اشارة تحقير إِلَّا لَهْوٌ وهو ما يشغله عما يغنيه فان اشتغال المرء بالدنيا يشغله عما يفيده فى الحيوة المؤبدة وَلَعِبٌ اى عبث سميت بها لانها فانية وما يفعل المرء فى الحيوة الدنيا من الطاعات فهى ليست من الدنيا بل هى من امور الاخرة لظهور ثمرتها فيها وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ اى دار الحيوان يعنى ليس فيها الا الحيوة لامتناع طريان الموت عليها او جعلت ذاتها حيوة للمبالغة والحيوان مصدر بمعنى الحيوة أصله حييان قلبت الياء الثانية واو او هو ابلغ من الحيوة لما فى بناء فعلان من الدلالة من الحركة والاضطراب اللازم للحيوة ولذلك اختير عنها هاهنا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فناء الدنيا وبقاء الاخرة لم يؤثروا الدنيا على الاخرة.
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وخافوا الغرق متصل بما دل عليه شرح حالهم اى هم على ما وضعوا من الشرك والعناد إذا ركبوا فى الفلك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى يدعون
__________
(1) وفى الأصل لا يعلمون-(7/214)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
كائنين فى صورة من أخلص دينه من المؤمنين حيث لا يذكرون الا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بانه لا يكشف الضر الا الله فَلَمَّا نَجَّاهُمْ الله إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ اى فاحبؤا المعاودة الى الشرك عطف على الشرطية السابقة- قال عكرمة كان اهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام فاذا اشتدت بهم الريح ألقوها فى البحر وقالوا يا رب يا رب وعلى قوله مخلصين له الدين على الحقيقة يعنى كانوا عند الشدائد يخلصون الدين لله ويتركون الشرك وعند النجاة يعودون الى الشرك.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ هذا لام الأمر ومعناه التهديد والوعيد كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اى ليجحدوا نعمة الله فى انجائه إياهم وقيل هى لام كى اى يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة الانجاء او المعنى لا فائدة لهم فى الإشراك الا الكفر والتمتع بما يستمتعون به فى العاجلة من غير نصيب فى الاخرة على خلاف عادة المؤمنين المخلصين فانهم يشكرون نعمة الله إذا أنجاهم ويجعلون نعمة النجاة ذريعة الى ازدياد الطاعة وَلِيَتَمَتَّعُوا قرأ ابن كثير «وخلف- ابو محمد» وحمزة والكسائي وقالون عن نافع بسكون اللام فهو لام الأمر على قراءتهم والباقون بكسر اللام نسقا على قوله ليكفروا وحينئذ يحتمل لام الأمر ولام كى فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك حين يعاقبون.
أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم ينظروا ولم يروا اهل مكة أَنَّا جَعَلْنا مكة حَرَماً مصونا عن النهيب والتعدي آمِناً اهله عن القتل والسبي وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ عطف على جملة محذوفة مفهومة عما سبق تقديره انّا جعلنا مكّة حرما آمنا لا يغار ولا يتعرض أهلها وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ- وقد كان العرب يختلسون الناس قتلا وسبيا ولا يتعرضون اهل مكة أَفَبِالْباطِلِ الهمزة للانكار والفاء للتفريع على مضمون ما سبق يعنى أنعم الله على اهل مكة هذه النعمة وهم بعد هذه النعمة الظاهرة وغيرها مما لا يقدر عليه الا الله سبحانه بالباطل يعنى بالأصنام او بالشيطان وجاز ان يكون المراد بالباطل كل شىء سوى الله لقوله صلى الله عليه وسلم الا ان احسن القول قول لبيد الا كلّ شىء ما خلا الله باطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره وتقديمه للاهتمام او الاختصاص على طريق(7/215)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
المبالغة وقيل المراد بنعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم والقران.
وَمَنْ أَظْلَمُ يعنى لاحد اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان زعم ان له شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ اى الرسول والقران لَمَّا جاءَهُ فى كمّا تشفيه لهم بانهم لم يتوقفوا ولم يتاملوا حين مجئ الرسول بل سارعوا الى التكذيب أول ما سمعوا أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ استفهام تقرير للثواء يعنى الا يستوحبون الثواء اى القرار فى جهنم وقد افتروا على الله وكذّبوا بالحق مثل هذا التكذيب او تقرير لاجترائهم يعنى الم يعلموا ان فى جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة.
وَالَّذِينَ جاهَدُوا الجهاد بذل الوسع والطاقة والمراد الذين بذلوا وسعهم بطاقتهم فى محاربة الكفار ومخالفة النفس والهوى فِينا اى فى ابتغاء مرضاتنا ونصرة ديننا وامتثال او أمرنا والانتهاء عن مناهينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا اى سبل السير إلينا والوصول الى جنابنا وصولا بلا كيف او لنرينهم سبل الخير ونوفّقهم سلوكها قال الله تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وعن ابى الدرداء انه قال معناه والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم الى ما لم يعلموا. وعن عطاء والّذين جاهدوا فى رضائنا لنهدينّهم سبل ثوابنا وعن الجنيد الَّذِينَ جاهَدُوا فى التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص وقال سفيان بن عيينة إذا اختلف الناس فانظروا الى ما عليه اهل الثغور فان الله قال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقال الحسن أفضل الجهاد مخالفة الهوى وقال الفضيل بن عياض وَالَّذِينَ جاهَدُوا فى طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به. وقال سهيل بن عبد الله والّذين جاهدوا فى اقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة وقال ابن عباس رض والّذين جاهدوا فى طاعتنا لنهدينّهم سبل ثوابنا وفى الحديث من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم قوله لنهدينهم سبلنا جواب قسم محذوف والجملة القسمية خبر للموصول والموصول المبتدا مع خبره عطف على الّذين أمنوا وعملوا الصّلحت وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر والاعانة فى الدنيا والثواب والمغفرة فى العقبى وقالت الصوفية ان الله لمع(7/216)
المحسنين معية غير متكيفة يدركها بصائر اهل البصائر- هذه الجملة عطف على والّذين جاهدوا وجاز ان يكون حالا من فاعل لنهدينّهم والعائد وضع الظاهر موضع الضمير تقديره وانّا لمع المحسنين والتصريح باسمه تعالى لمزيد التأكيد والله اعلم تم تفسير سورة العنكبوت من التفسير المظهرى (ويتلوه تفسير سورة الروم ان شاء الله تعالى) فى التاسع من رجب من السنة السادسة بعد الف ومائتين سنة 1206 هج والله اعلم.(7/217)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
سورة الرّوم
مكيّة وهى ستون اية رب يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اخرج ابن ابى حاتم عن ابن شهاب واخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ويحيى بن يعمر وقتادة قال ابن شهاب بلغنا ان المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قبل ان يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون تشهدون «اى الروم- ابو محمد» انهم اهل الكتاب وقد غلبتهم المجوس وانكم تزعمون ستغلبوننا بالكتاب الذي انزل على نبيكم فكيف غلبت المجوس الروم وهم اهل الكتاب فستغلبكم كما غلبت فارس الروم «1» .
الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ اى ادنى ارض العرب منهم لانها الأرض المعهودة عندهم او فى ادنى ارضهم من العرب واللام بدل من الاضافة قال عكرمة هى أذرعات وكسكر وقال مجاهد ارض الجزيرة وقال مجاهد «2» الأردن وفلسطين وَهُمْ اى الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ مصدر مبنى للمفعول اى من
__________
(1) اخرج الترمذي والحاكم وصححه عن ابن عباس فى هذه الاية انه قال كان المشركون يحبون ان يظهر فارس على الروم لانهم كانوا اصحاب أوثان- وكان المسلمون يحبون ان يظهر الروم على فارس لانهم كانوا اصحاب كتاب فلمّا غلبت الروم ذكروه لابى بكر فذكره ابو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم امام انهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا اجعل بيننا وبينك أجلا فان ظهرنا كان لنا كذا وان ظهرتم كان لكم كذا وكذا وكذا فجعلا بينهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك ابو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الا جعلته (أراه قال) دون العشرة فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله الم غُلِبَتِ الرُّومُ- قال سفيان سمعت انهم ظهروا عليهم يوم بدر- ولهذا الحديث طرق متعددة مستفيضة عن ابن مسعود والبراء بن عازب وينار بن مكرم الأسلمي 12 منه نور الله مضجعه-
(2) هكذا فى الأصل لعلهم نقلوا عن مجاهد قولين او صدر هذا من سبق قلم- ابو محمد عفا الله عنه-(7/218)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
بعد ان غلبوا على صيغة المجهول سَيَغْلِبُونَ على فارس.
فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث الى السبع وقيل ما بين الثلاث الى التسع وقيل ما دون العشرة وقال الجوهري تقول بضع وبضعة عشر رجلا فاذا جاوزت العشرين لا تقول بضع وعشرون ولهذا يخالف ما جاء فى الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الايمان بضع وسبعون شعبة قال البغوي كان بين فارس والروم قتال فكان المشركون يودّون غلبة فارس على الروم لان اهل فارس كانوا مجوسا أميين والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لانهم كانوا اهل كتاب فبعث كسرى يعنى پرويز بن هرمز بن نوشيروان جيشا الى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهريزاد وبعث قيصر جيشا وامّر عليهم رجلا يقال له يحيس فالتفتا ما ذرعات الشام وبصرى (وهواد فى الشام الى ارض العرب والعجم) فغاب فارس الروم فبلغ ذلك المسلمين بمكة فشق ذلك عليهم وفرح به كفار مكة وقالوا للمسلمين انكم اهل كتاب والنصارى اهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا اهل فارس على إخوانكم من الروم فان قاتلتمونا لنظهرن عليكم فانزل الله تعالى هذه الاية فخرج ابو بكر الصديق رضى الله عنه الى الكفار فقال فرحتم بظهور إخوانكم فو الله ليظهرن الروم على فارس على ما أخبرنا بذلك نبينا فقال أبيّ بن خلف الجمحي كذبت فقال أنت أكذب يا عدو الله فقال اجعل بيننا وبينك أجلا انا جئك (والمناحبة المراهنة) على عشر قلائص منى وعشر قلائص منك فان ظهر الروم على فارس غرمت وان ظهر فارس على الروم غرمت ففعلوا وجعل الاجل ثلاث سنين فجاء ابو بكر الى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره بذلك (وذلك قبل تحريم القمار) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هكذا ذكرت انما البضع ما بين الثلاث الى التسع فزائده فى الخطر وماده فى الاجل فخرج ابو بكر فراى ابيّا فقال لعلك ندمت قال لا أزايدك فى الخطر وامادك فى الاجل فجعل مائة قلوص ومائة قلوص الى تسع سنين وقيل الى سبع سنين قال قد فعلت- فلمّا خشى أبيّ بن خلف ان يخرج ابو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال انى أخاف ان تخرج من مكة فاقسم لى كفيلا فكفل له عبد الله بن ابى بكر ابنه فقال لا والله لا أدعك حتى تعطينى كفيلا فاعطاه- ثم خرج الى أحد فرجع أبيّ بن خلف الى مكة فمات بمكة من جراحته التي جرحه النبي حين بارزه- فظهرت(7/219)
الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناجئتهم وقيل كان يوم بدر قال الشعبي لم يمض تلك المدة مدة عقد المناحبة بين اهل مكة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف والمسلمين وصاحب قمارهم ابى بكر الصديق (وكان ذلك قبل تحريم القمار) حتى غلبت الروم فارس وربطوا خير لهم بالمدائن وبنوا للرمية فقمر ابو بكر ابيّا وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به وحمله الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم تصدق به واخرج الترمذي من حديث ابى بكر نحوه.
(مسئلة) : - قال ابو حنيفة العقود الفاسدة كعقد الربوا وغيرها جائزة فى دار الحرب بين المسلمين والكفار مستدلا بقصة ابى بكر ولان اموال الكفار غير معصوم يجوز أخذها ما لم يكن غدرا بعد الاستيمان.
قال البغوي وكان سبب غلبة الروم على فارس على ما قال عكرمة ان شهريزاد بعد ما غلب الروم لم يزل يطيئهم ويخرّب مدائنهم حتى بلغ الخليج- فبينا اخوه فرخان جالس على سريره يشرب فقال لاصحابه لقد رأيت انى جالس على سرير كسرى فبلغت حكمته كسرى فكتب الى شهريزاد إذا أتاك كتابى فابعث الىّ راس فرخان فكتب اليه ايها الملك انك لن تجد مثل فرخان وان له نكابة وصوتا فى العدو فلا تغفل- فكتب اليه ان فى رجال فارس خلقا منه فعجل الىّ برأسه فكتب فغضب كسرى ولم يجبه وبعث بريدا الى اهل الجيش انى قد نزعت منكم شهريزاد واستعملت عليكم فرخان ثم دفع الى البريد صحيفة صغيرة امر فيها بقتل شهريزاد فقال إذا ولّى فرخان الملك وانقاد له اخوه فاعطه الصحيفة- فلمّا قرأ شهريزاد الكتاب قال سمعا وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان ودفع الصحيفة فقال ايتوني بشهريزاد فقدمه ليضرب عنقه فقال لا تعجل علىّ حتى اكتب وصيتي قال نعم فدعى بالسقط وأعطاه ثلاث صحائف وقال كل هذا راجعت فيك لسرى وأنت تريد ان تقتلنى بكتاب واحد فرد الملك الى أخيه فكتب شهريزاد الى قيصر ملك الروم ان لى إليك حاجة لا يحملها البريد ولا يبلغها الصحف فالقنى ولا تلقنى الا فى خمسين روميا فانى ألقاك فى خمسين فارسيّا فاقبل قيصر فى خمسين روميا «1» وجعل يضع العيون بين يديه فى الطريق وخاف ان يكون قد مكر حتى أتاه عيون له انه ليس معه الا خمسون
__________
(1) وفى الأصل خمسين الف روميا 12(7/220)
رجلا ثم سقط لهما والقيافى قبة ديباج ثم ضربت لهما ومع كل واحد منهما سكين فدعوا بترجمان بينهما فقال شهريزاد ان الذين خربوا مدائنك انا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وان كسرى حسدنا وأراد ان اقتل أخي فابيت ثم امر أخي ان يقتلنى فقد خلقنا جميعا فنحن تقاتله معك فقال قد أصبتما ثم استأثر أحدهما على صاحبه ان السر بين اثنين فاذا جاوزهما فشا فقتلا الترجمان معا بسكينهما فادليت الروم على فارس عند ذلك فابتغوهم فقتلوهم ومات كسرى وجاء الخبر الى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح هو ومن معه فذلك قوله الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ الاية- وقرئ غلبت بالفتح على صيغة المعروف وسيغلبون بالضم ومعناه ان الروم غلبوا على ارض فارس والمسلمون سيغلبونهم- وفى السنة التاسعة من غلبة الروم غذاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا يكون الغلب مصدرا مبنيّا للفاعل مضافا الى الفاعل ويؤيد هذه القراءة ما اخرج الترمذي عن ابى سعيد قال لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فاعجب ذلك المؤمنين فنزلت الم غُلِبَتِ الرُّومُ.... بِنَصْرِ اللَّهِ بفتح الغين واخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه وهذه قراءة شاذة والاولى هى المتواترة ولعل النبي صلى الله عليه وسلم لما غلب الروم على فارس علم بالوحى الغير المتلو انه غلبت اليوم الروم على فارس فى ادنى الأرض وهم اى الروم من بعد ان غلبوا على الفارس سيغلبهم المؤمنون فقرأ على ما رواه الترمذي عن ابى سعيد بفتح الغين من غلبت على البناء وسيغلبون على البناء للمفعول والله اعلم لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ اى قبل غلبة الروم على فارس حين كونهم مغلوبين وَمِنْ بَعْدُ اى بعد غلبهم عليهم حين كونهم غالبين ليس شىء منهما الا بقضائه وقدره هذه الجملة تعليل لقوله سيغلبون وَيَوْمَئِذٍ اى يوم إذا كان الغلبة للروم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ من له كتاب على من ليس له كتاب وظهور صدقهم فيما أخبروا به المشركين وغلبتهم فى رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم فى دينهم. قال السدى فرح النبي صلى الله عليه وسلم بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور اهل الكتاب على اهل الشرك- قال جلال الدين المحلى فرح المسلمون بذلك وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبرئيل بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه- هذه الجملة معطوفة(7/221)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
على قوله وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء اخرى وَهُوَ الْعَزِيزُ ينتقم من عباده بتسليط غيرهم عليهم تارة الرَّحِيمُ ويرحمهم ويتفضل عليهم بتضرهم اخرى.
وَعْدَ اللَّهِ اى وعد الله وعدا مصدر مؤكد لنفسه لا ما قبله وهو قوله وهم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فى معنى الوعد لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لا يَعْلَمُونَ وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم.
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى امور معاشهم كيف يكتسبون وكيف يتجرون وكيف يزرعون ونحو ذلك وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ التي هى المستقر ابدا هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم هم الثانية تكرير للاولى او مبتدا وغافلون خبره والجملة خبر الاولى والرابطة إعادة لفظ المبتدا نحو الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الاخرة وهذه الجملة محققة لمضمون الجملة السابقة بدل من قوله لا يَعْلَمُونَ تقريرا وتشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها دون العلم بجميعها فان من العلم بظاهر معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وافعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهرا واما باطنها انها مجاز الى الاخرة ووصلة الى نيلها وأنموذج لاحوالها واشعارا بانه لا فرق بين عدم العلم والعلم الذي يختص بظاهر الدنيا.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا الهمزة للتوبيخ والواو للعطف على محذوف تقديره اقصروا نظرهم على ظاهر من الحيوة الدنيا ولم يتفكروا فِي أَنْفُسِهِمْ اى لم يحدثوا التفكر فيها حتى يظهر لهم بعض بواطنها او المعنى او لم يتفكروا فى امر أنفسهم فانها اقرب إليهم من غيرها وامراة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له فى الممكنات بأسرها فان الإنسان عالم صغير حتى يعلموا ويقولوا ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ اى ما خلقها باطلا عبثا بغير حكمة بالغة بل خلقها مقرونة مصحوبة بالحكمة وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعنى ما خلقها للخلود بل لاجل معين ينتهى عنده وبعده قيام الساعة ووقت الحساب والثواب والعقاب قال الله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ يدل على ان تركهم غير راجعين عبث فمن تفكر فى نظام السموات والأرض(7/222)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
وما بينهما يحكم ان خالقه حكيم والحكيم لا يفعل العبث والحكمة فى خلقها معرفة الخالق وصفاتها ولولا البعث والنشور والثواب والعقاب يستوى العارف والكافر فمن تفكر فيها يكتسب العلم بالاخرة فلا يكون من الغافلين وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لاجل غباوتهم وعدم تفكرهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ اى بجزائه عند انقراض الدنيا لَكافِرُونَ اى لجاحدون يحسبون ان الدنيا ابدية ولا بعث ولا حساب.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا الهمزة للانكار والتوبيخ وانكار النفي اثبات وتقرير والواو للعطف على محذوف تقديره الم يخرج اهل مكة من ديارهم ولم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا منصوب فى جواب النفي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم كيف فى محل النصب على انه خبر كان قدم عليه لما له صدر الكلام والجملة فى محل النصب على انه مفعول لينظروا يعنى انهم قد ساروا فى أسفارهم ونظروا الى اثار الّذين كذّبوا الرسل من قبلهم فدمروا على تكذيبهم كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد وثمود وغيرهم فان القرون الماضية كانوا أشد قوة وأطول أعمارا واكثر اثارا من القرون التالية- هذه الجملة مع ما عطف عليه مستأنفة فى جواب كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَأَثارُوا الْأَرْضَ مع ما عطف عليه عطف على كانوا اى قلّبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وكربوها للزرع وغير ذلك وَعَمَرُوها اى الأرض عمارة أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها منصوب على انه صفة مصدر محذوف يعنى عمروها عمارة اكثر من عمارة اهل مكة إياها فانهم فى واد غير ذى زرع لا تبسط لهم فى غيرها وفيه تهكم بهم حيث كانوا مفترين بالدنيا مفتخرين بها وهم أضعف حالا فى الدنيا فان مدارها على التبسط فى البلاد والتسلط على العباد والتصرف فى أقطار الأرض بانواع العمارة وهم ضعفاء يلجئون الى واد لا نفع لها ولولا رحلتى الشتاء والصيف لهم الى اليمن والشام لماتوا جوعا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ عطف على كانوا أشدّ منهم قوة فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ معطوف على جملتين محذوفتين معطوفتين على جاءتهم تقديره جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم فدمرهم الله فى الدنيا فما كان الله ليظلمهم اى ما كان صفة الله ظلمهم فان اللام لام الجحود وان بعدها مقدرة يعنى ما كان صفة الله ان يفعل بهم(7/223)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)
ما يفعل الظلمة من التعذيب بغير جرم ولا تذكير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما ادى الى تدميرهم.
ثُمَّ اى بعد التدمير فى الدنيا عطف على جملة مقدرة وهى فدمرهم الله ثم كانَ عاقِبَةَ قرأ اهل الحجاز والبصرة بالرفع على انه اسم كان وخبره ما بعده او محذوف كما سنذكر واهل الكوفة والشام بالنصب على انه خبر كان والاسم ان كذّبوا الَّذِينَ أَساؤُا من الأعمال تقديره ثم كان عاقبتهم فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على بعض ما يقتضى تلك العاقبة السُّواى تأنيث أسوأ كالحسنى تأنيث احسن يعنى الخصلة التي تسؤهم او عقوبة هى أسوأ العقوبات او هو مصدر كالبشرى نعت به مبالغة قيل السّوآء اسم من اسماء جهنم كما ان الحسنى اسم من اسماء الجنة أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عطف على كذّبوا وان كذّبوا مع ما عطف عليه منصوب على العلية لقوله ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا- السُّواى تقديره لان كذبوا وجاز ان يكون بدلا او عطف بيان السّواى يعنى ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب يعنى حملهم تلك السيئات على ان كذبوا بايات الله. عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء فى قلبه فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وان زاد زادت حتى تعلو قلبه ذلكم الران الّذى ذكر الله فى كتابه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ رواه احمد والترمذي والنسائي وغيرهم وجاز ان يكون ان كذبوا مع ما عطف عليه خبر كان والسواى مصدر أساءوا او مفعوله والمعنى ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة ان طبع الله على قلوبهم حتى كذبوا بايات الله ويجوز ان يكون السّواى مصدرا ومفعولا للفعل وان كذّبوا تابعا لها بدلا او عطف بيان والخبر محذوف للابهام والتهويل تقديره ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ فعلوا السيئات اى التكذيب جهنم وما لا يعرف ما أعد لهم من العذاب فيها وجاز ان يكون مفسرة للاساءة فان الاساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة لمعنى القول-.
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ اى يخلقهم ابتداء ثُمَّ يُعِيدُهُ اى الخلق يبعثهم بعد الموت ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجزيهم بأعمالهم قرأ ابو بكر بالياء للغيبة لان الضمير عائد الى الخلق والباقون بالتاء التفاتا من الغيبة الى الخطاب للمبالغة(7/224)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
فى المقصود.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف متعلق بقوله يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ والجملة معطوفة على قوله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قال قتادة والكلبي اى ييئسون من كل خير وقال مجاهد يغتضحون وقال الفراء ينقطع كلامهم وحجتهم فى القاموس البلس محركة من لا خير عنده والمبلس الساكت على ما فى نفسه وابلس يئس وتحير ومنه إبليس او هو أعجمي وقال الجزري فى النهاية المبلس الساكت من الحزن او الخوف والإبلاس الحيرة.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ اى من الذين اشركوهم بالله سبحانه فى العبادة على زعم انهم يشفعون لنا عند الله فهم لا يكونون لهم شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب الله أورد بصيغة الماضي لتحقق وقوعه وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ اى يحجدون بآلهتهم حين يئسوا منهم- وقيل معناه كانوا فى الدنيا بسبب شركائهم كافرين بالله تعالى.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف متعلق بيتفرّقون يَوْمَئِذٍ بدل من يوم تقوم الساعة او تأكيد له اى يوم إذا كانوا مبلسين وكانوا بشركائهم كافرين يَتَفَرَّقُونَ قال مقاتل يتفرقون بعد الحساب سيق المؤمنون الى الجنة والكافرون الى النار ثمّ لا يجتمعون ابدا ثم فصله بقوله.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ اى ارض ذات ازهار وانهار من رياض الجنة يُحْبَرُونَ قال ابن عباس رض يكرمون وقال مجاهد وقتادة ينعمون وقال ابو عبيدة يسرون والحبرة السرور وقيل الحبرة كل نعمة حسنة والتخبير التحسين وفى النهاية للجزرى الحبرة بالفتح النعمة وسعة العيش والحبرة بالكسر وقد يفتح الجمال والهيئة الحسنة وفى القاموس نحوه وفى حديث ابى موسى لو علمت انك يا رسول تسمع لقراءتى لحبرتها لك تحبيرا اى حسنت صوتى بها- قال البغوي وقال الأوزاعي عن يحيى بن كثير يحيرون هو السّماء فى الجنة وكذا اخرج هناد والبيهقي عن يحيى بن كثير فى هذه الاية وقال الأوزاعي إذا أخذ فى السماع لم تبق شجرة فى الجنة الا ورفت وقال ليس أحد من خلق الله احسن صوتا من اسرافيل فاذا أخذ فى السماع قطع على اهل سبع سموت صلاتهم وتسبيحهم- واخرج ابن عساكر عن الأوزاعي فى هذه الاية قال هو السماء إذا أراد اهل الجنة ان يطربوا اوحى الله تعالى الى رياح يقال لها العفافة(7/225)
فدخلت فى اجام قصيب اللؤلؤ الرطب فحركته فضرب بعضه بعضا فتطرب الجنة فاذا طربت لم يبق شجرة فى الجنة الا ورقت- واخرج الطبراني والبيهقي عن ابى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد يدخل الا ان تجلس عند رأسه وعند رجليه ثنتان من الحور العين يغنيان بأحسن صوت سمعه الانس والجن وليس بمزمار الشيطان ولكن بتحميد الله وتقديسه واخرج البيهقي عن ابن عباس رض انه سئل فى الجنة غناء قال الكرار من مسك عليها يمجدون الله تعالى بصوت لم يسمع الاذن مثله قط- قلت الطرب بالشعر والغناء فى الدنيا لا يحصل الا بذكر المحبوب بكلام موزون فى صوت حسن موزون ولا شك ان الناس إذا فازوا يرؤية جمال الله سبحانه ولاجمال فوق جماله فلا محبوب لهم غيره فيطربون بسماع ذكره بصوت حسن موزون وفى بعض الأحاديث ان الحور العين يغنّين لازواجهن بأصوات ما سمعها أحد قط فيكون ممّا يغنّين
نحن الخيرات الحسان ... ازواج قوم كرام
ومما يغنّين
نحن الخالدات فلا نموتن ... نحن الامنات فلا نخافن
نحن المقيمات فلا نطحن
كذا اخرج الطبراني عن ابن عمر رض مرفوعا واخرج الطبراني والبيهقي وابن ابى الدنيا عن انس نحوه وعن مالك بن دينار عند احمد فى الزهد يقول الله لداؤد عليه السلام مجدنى بذلك الصوت الحسن فيندفع داود بصوت ستقرع نعيم اهل الجنة وعن ابى هريرة عند الاصبهانى مرفوعا ان الله تعالى ليوصى الى شجرة الجنة ان اسمعي عبادى الذين شغلوا أنفسهم عن المعازف والمزامير بذكرى فيسمعهم بأصوات ما سمع الخلائق مثلها قط بالتسبيح والتقديس. وفى الباب أحاديث كثيرة واخرج الحكيم فى نوادر الأصول عن ابى موسى رض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استمع الى صوت غناء لم يؤذن له ان يسمع صوت الروحانيين قال يا رسول الله ما الروحانيون قال قراء اهل الجنة واخرج دينورى عن مجاهد قال ينادى مناد يوم القيامة ان الذين كانوا ينزهون أصواتهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان قال فيحلهم الله فى رياض من مسك فيقول للملائكة اسمعوا عبادى تحميدي و(7/226)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
تمجيدى واخبروهم ان لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- وروى الديلمي عن جابر بن عبد الله مرفوعا مثله.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى البعث والقيامة فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ مدخلون لا يغيبون عنه.
فَسُبْحانَ اللَّهِ مصدر لفعل محذوف تقديره فسبحوا لله سبحانا حذف الفعل وأضيف المصدر الى المفعول والفاء للسببية والتفريع على ما سبق من صفاته تعالى من الإبداء والاعادة وغيرها والمراد بالتسبيح الصلاة يعنى صلوا لله حِينَ تُمْسُونَ اى حين تدخلون فى المساء صلوة المغرب شكرا لما أنعم الله من تمام النهار بالسلامة والنعمة والدخول فى الليل للسكون والراحة- بدا بذكر صلوة المغرب لتقدم الليل على النهار فى اعتبار الشهور والأيام وَحِينَ تُصْبِحُونَ شكرا لما أنعم الله عليه من تمام الليل بالسلامة والراحة والدخول فى النهار لكسب المعاش والمعاد ذكر صلوة الصبح بعد المغرب لمقابلة الصباح بالمساء.
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس اى يحمدون اهل السموات والأرض ويصلون له الجملة حال من الله او معترضة وَعَشِيًّا اى اخر النهار عن عشى العين إذا نقص نورها عطف على يصبحون يعنى صلوا صلوة العصر صلوة الوسطى- ولما كان ذلك وقت اشتغال الناس بامور الأسواق قدم ذكرها على ذكر الظهر اهتماما يعنى لا بد لكم من الاشتغال بالصلوة حين اشتغال الناس بامور الدنيا كيلا تكونوا من الذين لا يلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وَحِينَ تُظْهِرُونَ اى تدخلون فى الظهيرة يظهر عليكم صولة الشمس ويذكركم حر نار جهنم وحر ذكائها يوم القيامة- خص هذه الأوقات لما تظهر فيها قدرته وتتجدد نعمته ولما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزيهه واستحقاقه الحمد والشكر ممن له نميز من اهل السموات والأرض ذكر فى هذه الاية أربعا من الصلوات الخمس وقيل حين تمسون اشارة الى المغرب والعشاء جميعا اخرج ابن جرير والطبراني والحاكم قول ابن عباس ان الاية جامعة للصلوات الخمس حين تمسون كناية عن المغرب والعشاء جميعا-(7/227)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
وقال البغوي قال نافع بن الأزرق لابن عباس هل تجد الصلوات الخمس فى القران قال ابن عباس نعم وقرأ هاتين الآيتين وقال جمعت هذه الاية الصلوات الخمس ومواقيتها.
عن ابن عباس رض قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من قال حين يصبح وحين يمسى سبحان اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ الى قوله.
وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته فى يومه ذلك ومن قالهن حين يمسى أدركه ما فاته فى الليلة- رواه ابو داؤد وعنه عليه السّلام من سره ان يكتال له بالقفيز الا وفى فليقل فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ الاية- رواه الثعلبي من حديث انس بسند ضعيف جدا عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال سبحان الله وبحمده فى يوم مائة مرة حطت خطاياه وان كانت مثل زبد البحر متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسى سبحان الله ويحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به الا أحد قال مثل ما قال او زاد عنه متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم- متفق عليه وعن جويرية بنت الحارث بن ابى ضرار رضى الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات غداة من عندها (وكان اسمها برة) فخرج وهى فى المسجد فرجع بعد ما تعالى النهار وقال مازلت فى مجلسك هذا منذ خرحت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك اربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضاء نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته- رواه مسلم وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الكلام اربع سبحان «1» الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر وفى رواية أحب الكلام الى الله اربع
__________
(1) عن ابن عباس رض قال قال عمر رض بن الخطاب اما الحمد لله فقد عرفناه فقد يحمد الخلائق بعضهم بعضا واما لا اله الا الله فقد عرفناها فقد عبدت الالهة من دون الله واما الله اكبر فقد يكبر المصلى واما سبحان الله فما هو فقال رجل من القوم الله اعلم فقال لقد شقى عمر ان لم يكن يعلم ان الله اعلم فقال على رض يا امير المؤمنين هو اسم ممنوع ان ينتحله أحد من الخلائق واليه مفزع الخلق واجب ان يقال له فقال هو كذلك. منه رحمه الله-[.....](7/228)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر لا يضرك بايتهن بدأت- رواه مسلم وعن ابى ذر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم اىّ الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده- رواه مسلم وعن جابر رض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة فى الجنة رواه الترمذي.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالانسان من النطفة والطائر من البيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ النطفة والبيضة من الحيوان او يعقب الحيوة بالموت وبالعكس وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها وَكَذلِكَ اى مثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ من قبوركم احياء بعد الموت فلم تنكرونه بعد ما تشاهدون نظيره فهى تعليل للبعث قرأ «وخلف وابن ذكوان بخلاف عنه ابو حمد» حمزة والكسائي بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل والباقون يضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول..
وَمِنْ آياتِهِ اى من آيات قدرته تعالى على البعث أَنْ خَلَقَكُمْ اى خلق أصلكم آدم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ إذا للمفاجاة مضاف الى الجملة والعامل فيه معنى المفاجاة والمعنى ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين فى الأرض بعد ما كنتم جمادا بلا حس وحركته.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من للابتداء لان حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء من نطف الرجال او للبيان لانهن من جنسهم لا من جنس اخر أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها وتألفوا لها فان الجنسية علة الضم والاختلاف سبب التنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ اى بين الرجال والنساء او بين افراد الجنس مَوَدَّةً وَرَحْمَةً بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظما لامر المعاش او بان تعيّش الإنسان موقوف على التعاون المحوج الى التواد والتراحم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فى عظمة الله وقدرته فيعلمون ما فى ذلك من الحكم ومن التناسل.
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ اى لغاتكم بان علّم كل صنف لغة وألهمه واقدره عليها او أجناس نطقكم واشكاله وكيفيات أصواتكم بحيث لا يكاد يلتبس صوت أحد بغيره وَأَلْوانِكُمْ اى ألوان الجلد من السواد والبياض وغيرها(7/229)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
او مشخصات الأعضاء وهياتها وألوانها وحلاها بحيث لا يلتبس أحد بغيره إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لا يكاد يخفى على عاقل من ملك او انس او جن وقرا حفص بكسر اللام خصهم بالذكر لانهم أحقاء بالمعرفة قال الله تعالى.
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ منامكم فى زمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية وَابْتِغاؤُكُمْ المعاش والمعاد مِنْ فَضْلِهِ فى كلا الزمانين او المعنى منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بالزمانين والفعلين بعاطفين اشعارا بان كلّا من الزمانين وان خص بأحدهما فهو صالح للاخر عند الحاجة ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واستبصار فان الحكمة فيه ظاهرة.
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدر بان او الفعل فيه نزل منزلة المصدر كقوله تسمع للمعيدى خير من ان تراه او صفة لمحذوف تقديره اية يريكم بها البزق خَوْفاً من الصاعقة وفى حالة السفر وَطَمَعاً فى الغيث إذا كنتم فى منازلكم ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فان إراءتهم يستلزم رؤيتهم الى البرق للخوف او الطمع او الفعل مذكور بحذف المضاف اى لاراءة خوف وطمع او بتأويل الخوف والطمع بالاخافة والاطماء كقولك فعلته رغما للشيطان او على الحال مثل كلمته شفاها وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالانبات بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اى يستعملون عقولهم فيدركون كمال قدرة الصانع وحكمته.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ اى يبقيان فى حيزيهما بِأَمْرِهِ اى بإقامته لهما وإرادته ببقائهما ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ الجملة معطوفة على ان تقوم بتأويل المفرد كانّه قال ومن آياته قيام السماء والأرض ثم خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة وثم لتراخى زمانه او لعظم ما فيه وقوله مِنَ الْأَرْضِ قال البغوي اكثر العلماء على انه متعلق بتخرجون وقال البيضاوي هذا لا يجوز لان ما بعد إذا لا يعمل فيما قبله بل متعلق بقوله دعاكم كقوله دعوته من أسفل الوادي- اخرج ابن عساكر عن زيد بن جابر الشافعي فى قوله تعالى وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ قال يقف اسرافيل على صخرة بيت المقدس فيقول يا ايها العظام النخرة والجلود المتمزقة والاشعار المتقطعة ان الله يأمرك ان تجتمع لفصل الحساب- وإذا الثانية للمفاجاة ولذلك ناب مناب الفاء فى جواب الاولى ظرف مضاف الى الجملة والعامل فيه معنى المفاجاة تقديره ففاجأتم وقت خروجكم.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا كُلٌّ اى كل واحد منها(7/230)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
لَهُ قانِتُونَ مطيعون قال الكلبي هذا خاص بمن كان منهم مطيعا والصحيح انه عام لبيان قهرمانه والمراد الانقياد فى الأوامر التكوينية قال ابن عباس كل مطيع له فى الحيوة والموت والبعث ونحو ذلك وان عصوا فى العبادة اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة قال تعجب الكفار من احياء الموتى فنزلت.
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الإهلاك وَهُوَ الاعادة وتذكير الضمير لتذكير الخبر او الاعادة بمعنى ان يعيد أَهْوَنُ عَلَيْهِ الجملة حال من فاعل يعيد او معطوفة على ما سبق قال الربيع بن خيثم والحسن وقتادة والكلبي أهون بمعنى هين ولا شىء على الله بعزيز ويجئ افعل بمعنى الفعيل وهو رواية العوفى عن ابن عباس. وقال مجاهد وعكرمة وهو أهون على طريق ضرب المثل اى هو أيسر عليه على ما يقع فى عقر لكم فان فى عقول الناس الاعادة أهون من الإنشاء وقيل هو أهون عليه عندكم وقيل هو يعنى العود أهون على الخلق فانهم فى العود يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم من ان يكونوا نطفا ثم علقا ثم مضغا الى ان يصيروا رجالا ونساء وهذا معنى رواية حبان عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى اى الوصف الأعلى الذي ليس لغيره ما يساويه او يدانيه كالقدرة العامّة والحكمة التامّة قال ابن عباس هى انه ليس كمثله شىء- واخرج عبد الرزاق وابن ابى حاتم انه قال قتادة فى قوله تعالى وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى قال شهادة ان لا اله الا الله قلت أراد به الوصف بالوحدانية فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يصف به ما فيهما نطقا ودلالة وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب فى ملكه وخلقه لقادر على كل شىء لا يعجزه شىء من الإبداء والاعادة الْحَكِيمُ الذي يجرى الافعال على ما يقتضيه الحكمة- اخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان اهل الشرك يكبّون اللهم لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملكت فنزلت.
ضَرَبَ الله اى بيّن لَكُمْ ايها المشركون مَثَلًا كائنا مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى شبها منتزعا من أحوالكم فانها من اقرب الأمور إليكم وهو هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اى من ممّا ليككم مِنْ شُرَكاءَ لكم فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها فَأَنْتُمْ وهم فِيهِ سَواءٌ فى التملك والتصرف يتصرفون فيه كتصرفكم تَخافُونَهُمْ ان تتصرفون فيها دونهم(7/231)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ اى أمثالكم فى الحرية- والاستفهام للانكار يعنى ليس الأمر كذلك وانها معارة لكم مع انهم بشر مثلكم فكيف تجوزون كون الحجارة التي هى أعجز المخلوقات شركاء لخالق الأرض والسموات كَذلِكَ اى تفصيلا مثل ذلك التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ نبيّنها فان التمثيل ما يكشف المعاني ويوضحها لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اى يستعملون عقولهم فى تدبر الأمثال واخرج جويبر مثل ما اخرج الطبراني فى سبب نزول الاية عن داود بن ابى هند عن ابى جعفر محمد بن على عن أبيه عليهم السّلام.
بَلِ اتَّبَعَ إضراب من مضمون الكلام السابق يعنى ليس الله شريك بل اتبع الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتعريضها للعذاب بالاشراك بالله أَهْواءَهُمْ فى الشرك بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من فاعل اتبعوا يعنى جاهلين بما يجب عليهم فَمَنْ يَهْدِي اى إياه الفاء للسببية والاستفهام للانكار إذا اتبعوا أهواءهم ولم يقبلوا هدى الله فلا أحد يهديهم وضع المظهر يعنى قوله مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ موضع الضمير اشعارا بان الله أضلهم فمن يقدر على هدايته وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم عن آفاتها.
فَأَقِمْ الفاء للسببية يعنى لما ثبت وحدانيته تعالى وظهر ان المشركين انما اتبعوا أهواءهم جاهلين فاقم أنت وَجْهَكَ اى أخلص بوجهك لِلدِّينِ اى للاسلام حَنِيفاً مائلا اليه مستقيما عليه غير ملتفت عنه الى غيره فِطْرَتَ اللَّهِ منصوب على الإغراء اى الزموا فطرة الله اى خلقته والمراد به دينه يعنى الإسلام كذا قال ابن عباس رض وجماعة من المفسرين فالاية خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم ولامته بتبعيته فالاية بمنزلة التأكيد او التفسير لما قبله سماه فطرة لكونه لازما لكل مخلوق كما يدل عليه قوله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم مستعدين لها متمكنين على إدراكها وقيل المراد به العهد المأخوذ من آدم وذريته بقوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى قالوا كل مولود فى العالم مولود على ذلك الإقرار وهو الحنيفة التي وقعت الخلفة عليها وقد مرّ ما ورد فى هذا الباب فى تفسير هذه الاية فى سورة الأعراف عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه او ينصرانه او يمحبسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاع هل تحسون فيها من جدعاء ثم قرأ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ متفق عليه يعنى كل مولود يولد فى مبدا الخلقة على الجبلة السليمة والطبع المهيا لقبول الحق فلو ترك عليها لاستمر على(7/232)
لزومها لان هذا الدين مركوز فى العقول السليمة حسنه وانما يعدل عنه من يعدل لافة من الآفات كتقليد الآباء قوله تعالى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ الظرف المستقر خبر الله والجملة الخبرية معناه النهى يعنى لا تبدلوا دين الله قال مجاهد وابراهيم النخعي الزموا فطرة الله واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك- وقيل فطرة الله منصوب على المصدرية لفعل دل عليه ما بعده يعنى فطر الله الناس فطرة التي فطرهم عليها حكى عن عبد الله بن مبارك قال معنى الحديث كل مولود يولد على الفطرة اى على خلقته التي جبل عليها فى علم الله من السعادة او الشقاوة وكل منهم صائر فى العاقبة الى ما فطر الله عليها وعامل فى الدنيا بالعمل المشاكل لها وعلى هذا معنى قوله تعالى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ يعنى ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة لا يتبدل فلا يكون الشقي سعيدا ولا السعيد شقيّا عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى او سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها. متفق عليه وعن ابى الدرداء قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ما يكون إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوه فانه يصير الى ما جبل عليه. رواه احمد والمعنى على هذا التأويل ان الله فطر كلّا على فطرة لا يتبدل وقد فطرك ومن معك سعداء فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ كانه تعليل وتشجيع على الإخلاص وجاز ان يكون فطرة الله على هذا التأويل منصوبا بتقدير ملتزمين فطرة الله التي فطركم عليها فوضع الظاهر يعنى لفظ الناس موضع الضمير اشعارا بان الناس كلهم مغطورون على فطرة غير تاركوها فانتم اقيموا وجوهكم للدين قال عكرمة ومجاهد يعنى لا تبدلوا خلق الله والمراد منه تحريم اخصاء البهائم ذلِكَ اشارة الى الدين المأمور بالإقامة او الفطرة على التأويل الاول الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الذي لا اعوجاج(7/233)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)
فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى كفار مكة لا يَعْلَمُونَ استقامة لعدم تدبرهم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ اى راجعين اليه من أناب إذا رجع مرة بعد اخرى وقيل معناه منقطعين اليه من غيره من الناب منصوب بفعل مقدر وهو كونوا بدليل عطف لا تكونوا عليه او حال من الضمير فى الزموا او ملتزمين الناصب المقدر لفطرت الله او فى أقم لان الاية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته صدّرت بخطاب الرسول لتعظيمه كما فى قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يدل عليه قوله وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين يعنى تقرقوا واختلفوا فيما يعبدونه على اختلاف اهوائهم قرأ حمزة والكسائي فارقوا يعنى تركوا دينهم الّذى أمروا به وَكانُوا شِيَعاً فرقا تشايع كل امامها الذي اخترع لهم دينا قيل المراد به اهل البدع من هذه الامة حيث تركوا دين الحق واتبعوا أهواءهم واطلق عليهم لفظ المشركين لكونهم ممن اتخذ الهه هواه عن عبد الله بن عمرو رض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة كلهم فى النار الا واحدة قيل من هى يا رسول الله قال ما انا عليه وأصحابي- رواه الترمذي كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ من الاعتقاد فَرِحُونَ مسرورون ظنّا بانهم على الحق روى الدارمي عن ابراهيم بن إسحاق عن ابن المبارك عن الأوزاعي قال قال إبليس لاوليائه من اى شىء تأتون بنى آدم فقالوا من كل شىء فقال فهل تأتونهم من قبل الاستغفار فقالوا هيهات ذاك شىء قرن بالتوحيد قال لابثن فيهم شيئا لا يستغفرون منه قال فبث فيهم الأهواء.
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ يعنى كفار مكة ضُرٌّ قحط وشدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعون اليه من دعاء غيره ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من الشدة او خصبا ورحمة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجاء فريق منهم بالاشراك بربهم الذي عافاهم ونسبوا معافاتهم الى غيره- عن زيد بن خالد الجهتى قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوة الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلما انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن وكافر فاما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب واما(7/234)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب متفق عليه وعن ابى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما انزل الله من السماء بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الله الغيث فيقول بكوكب كذا وكذا. رواه مسلم.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة وقيل للامر بمعنى التهديد لقوله تعالى فَتَمَتَّعُوا غير ان فيه التفات من الغيبة الى الخطاب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتيعكم.
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً أم منقطعة بمعنى بل والهمزة والاستفهام للانكار عطف على كلّ حزب بما لديهم فرحون وجاز ان يكون متصلة معطوفة على مقدر تقديره أيشركون بلا حجة أم أنزلنا عليهم سلطانا قال ابن عباس يعنى حجة وعذرا وقال قتادة كتابا وقيل ذو سلطان يعنى ملكا معه برهان او رسولا مؤيدا بالمعجزة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ نطقا او دلالة كقوله تعالى كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ اى باشراكهم وصحته او بالأمر الذي بسببه يشركون به وبالوهيته والاستفهام فى أم أنزلنا للتقرير يعنى حمل المخاطب على الإقرار بانهم يشركون بلا حجة.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحة وسعة فَرِحُوا بطروا بِها بسببها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ اشدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بشوم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجاءوا القنوط من رحمته وهذا خلاف وصف المؤمن فانه يشكر عند النعمة ويرجو ربه عند الشدة ويصبر ويحتسب.
أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ اى يضيق فما لهم بطروا فى السراء ولم يشكروا وقنطوا فى الضراء ولم يرجعوا الى الله راجين مغفرته بالندم والتوبة وترك المعصية ولم يصبروا ولم يحتسبوا كالمؤمنين إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يستدلون بهما على كمال القدرة والحكمة.
فَآتِ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت ان قبض الرزق والبسط من الله تعالى فات ذَا الْقُرْبى مصدر بمعنى القرابة حَقَّهُ من البر والصلة والنفقة الواجبة بقوله تعالى وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ وقد مرّ بحث نفقة المحارم فى تفسير تلك الاية فى سورة البقرة وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ المسافر الّذى ليس معه ما له وكان له مال فى وطنه اتهم حقوقهم من مال الزكوة ابتغاء مرضات(7/235)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
الله ورجاء من فضله فى الدنيا والاخرة ذلِكَ الإيتاء خَيْرٌ من إيثار اللذات لانفسهم لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ اى ذاته او جهته يعنى يقصدون به رضاءه ويرجون ثوابه دون من يؤتى رياء وسمعة وَأُولئِكَ عطف على الموصول او على ذلك هُمُ الْمُفْلِحُونَ دون غيرهم فانهم اشتروا بالدنيا الفانية العقبى الباقية.
وَما آتَيْتُمْ بالمد عند الجمهور يعنى ما أعطيتم أكلة الربوا مِنْ رِباً زيادة محرمة فى المعاملة او عطية مباحة من هدية او هبة يتوقع بها مزيد مكافاة وعلى هذا التأويل سمى العطية بالربا باسم المطلوب وهو الزيادة- وقرأ ابن كثير ما آتيتم فى الموضعين مقصورا اى ما جئتم به من إعطاء زيادة محرمة او عطية مباحة يتوقعون بها مزيد مكافاة لِيَرْبُوَا قرأ اهل المدينة ويعقوب بالتاء للخطاب مضمومة والباء المضمومة واسكان الواو اى لتربوا أنتم وتصيرون ذا زيادة فِي أَمْوالِ النَّاسِ اى اموال المعطين او المعطى لهم وقرأ الباقون ليربوا بالياء التحتانية المفتوحة وفتح الواو اى ليزيدوا فى أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ فلا يزيدوا عنده ولا يبارك فيه. قال البغوي اختلفوا فى معنى الاية فقال سعيد بن جبير رض ومجاهد وطاءوس وقتادة واكثر المفسرين هو الرجل يعطى غيره العطية ليثيب اكثر منها وهذا جائز حلال ولكن لا يثاب عليه يوم القيامة وهو معنى قوله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وكان هذا حراما على النّبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وقال الضحاك هو الرجل يعطى قريبه او صديقه لتكثير ماله ولا يريد به وجه الله وقال الشعبي هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه لا لوجه الله فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ لانه لا يريد به وجهه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى الدنيا يصيبها او امراة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ اى ما أعطيتم من صدقة او فعلتم أداء الزكوة تُرِيدُونَ به وَجْهَ اللَّهِ ذاته او ثوابه ورضاءه فَأُولئِكَ يعنى الذين يؤتون الزّكوة هُمُ الْمُضْعِفُونَ اى الذين يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشرة أمثالها الى سبع مائة ضعف الى ما لا نهاية له ويضاعف لهم أموالهم ببركة الزكوة او المعنى هم ذووا(7/236)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
الأضعاف من الثواب نظيره المقوي والموسر لذى القوة واليسار- وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة والالتفات فيه للتعظيم كانه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفا لحالهم او للتعميم كانه قال من فعل ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ والراجع منه محذوف ان جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به وقال الزجاج تقديره تاهلها هم المضعفون.
اللَّهُ مبتدا وما بعده خبره الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ... هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ اى ممن اشركتموها بالله من الأصنام وغيرها والاستفهام للانكار اى ليس شىء منها مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ذكر الله سبحانه لوازم الالوهية وأثبتها لنفسه ونفاها عن غيره مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق ثم استنتج من ذلك تقدسه عن ان يكون له شريكا فقال سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ قرا «وخلف ابو محمد» حمزة والكسائي بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية وجاز ان يكون الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة لله وهَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ خبره والرابط من ذلكم لانه بمعنى من أفعاله تقديره الله الّذى خلقكم هل من شركائكم من يفعل شيئا من أفعاله. من الاولى والثانية تفيد ان شيوع الحكم فى جنس الشركاء والافعال والثالثة مزيدة لتعميم النفي وكل منها مستقلة لتعجيز الشركاء.
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق والقتال والجدال ومحق البركات والظلم وكثرة المضار والأمراض والضلال والرياح المفسدة فى البحار ومصادمة الدواب فى البحار. وقال البغوي أراد بالبر البوادي والمفاوز وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن عكرمة انه قال العرب يسمى المصر يحرا يقول احدبت البر وانقطعت مادة البحر وقال عطية وغيرها البر ظهر الأرض من الأمصار وغيرها والبحر هو البحر المعروف وقلة المطر كما تؤثر فى البر تؤثر فى البحر فتخلوا جواف الاصداف لان الصدف إذا جاء المطر ترتفع الى وجه البحر وتفتح فاه فما يقع فى فيه من المطر صار لؤلؤا وقال ابن عباس ومجاهد الفساد فى البر قتل ابن آدم أخاه وفى البحر غصب الملك الجابر السفينة اخرج الفريابي وابن المنذر رض وابن ابى حاتم عن مجاهد انه قال ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ بقتل قابيل أخاه وفى البحر بان ملك عمان جلندى كان يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وقال الضحاك كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتى ابن آدم شجرة «اى ذات أفق اى ذات كلاء وأنيق حسن معجب»(7/237)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
الا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم فلمّا قتل قابيل هابيل اقشرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا أجاجا وقصد الحيوان بعضه بعضا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ اى بشوم معاصيهم او بكسبهم إياه يعنى وقع القحط والجدب بمكة بشوم معاصى أهلها حتى أكلوا العظام والجيف لِيُذِيقَهُمْ قرأ قنبل بالنون على التكلم والباقون بالياء بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا اى بعض جزائه فان تمام الجزاء فى الاخرة واللام للعلة او العاقبة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اى لكى يرجعوا من أعمالهم الخبيثة متعلق بقوله لِيُذِيقَهُمْ قال قتادة امتلأت الأرض ظلما وضلالة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فلمّا بعث رجع راجعون من الناس-.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ اى من قبلكم لتروا منازل الذين ظلموا خاوية كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ الجملة حال بتقدير قد او استيناف للدلالة على ان سوء عاقبتهم كان لظهور الشرك وغليته فيهم او كان الشرك فى أكثرهم وما دونه من المعاصي فى قليلهم فاهلكوا جميعا بشوم الجار السوء او بتركهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر جملة قل سيروا تأكيد من حيث المعنى ليذيقهم لدلالة على اذاقة العذاب.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ حذرا عما لحق بمن قبلك فالفاء للسببية لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ فى الاستقامة وهو دين الإسلام مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ اى لا يقدر أحد ان يرده مِنَ اللَّهِ متعلق بيأتي او بمردّ لانه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته بمجيئه يمكن ان يكون المراد بذلك اليوم يوم يأتيهم العذاب فى الدنيا والظاهر ان المراد به يوم القيامة يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أصله يتّصدّعون اى يتضرفون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فى السّعير او فريق يعذب فى الدنيا وفريق لا يعذب كيوم بدر.
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ اى وباله فى الدنيا والاخرة وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ اى يسوون منازل حسنة فى القبور وفى الجنة.
لِيَجْزِيَ الله متعلق بيمهدون الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ظاهر موضع الضمير لبيان مناط جزائهم مِنْ فَضْلِهِ متعلق بيجزى قال ابن عباس رض ليثيبهم الله اكثر من ثواب أعمالهم اقتصر على جزاء المؤمنين للاشعار بانه المقصود بالذات وان الله انما يريد الاثابة الا من ابى وظلم على نفسه واختار النار(7/238)
لاجل كفرهم كما يدل عليه قوله إِنَّهُ اى الله لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فهم بكفرهم لم يستحقوا تفضله وقال الشيخ جلال الدين قوله ليجزى متعلق بيصّدّعون وقد ذكر جزاء الفريقين فان قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ معناه انه يعاقبهم والله اعلم.
وقوله من فضله دالّ على ان الاثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء او الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر قلت ويؤيده ما اخرج احمد فى الزهد عن ابى الحارث قال اوحى الله تعالى الى داود انذر عبادى الصالحين فلا يعجبوا بانفسهم ولا يتكلوا على أعمالهم فانه ليس عبد من عبادى أنصبه للحساب وأقيم عليه عدلى الا عذبته واخرج ابو نعيم عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تبارك وتعالى اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء أعذبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي- واخرج الطبراني عن واثلة بن الأسقع رضى الله عنه يبعث الله يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول الله تبارك وتعالى باىّ الامرين أحب إليك ان اجزى بعملك او بنعمتي عليك قال اى رب أنت اعلم انى لم اعصك قال خذوا عبدى بنعمة من نعمى فما يبقى له حسنة الا استغرقتها تلك النعمة فيقول بنعمتك ورحمتك. واخرج البزار عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله تعالى يقول الله تعالى لاصغر نعمة من ديوان النعم خذى منك من العمل الصالح فتستوعب العمل الصالح فيقول وعزتك ما استوعبت ويبقى الذنوب وقد ذهب العمل الصالح كله فاذا أراد الله تعالى ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت ولك حسناتك وتجاوزت عن سياتك ووهبت لك نعمتى واخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عمر رضى الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لا اله الا الله كان له بها عهدا عند الله ومن قال سبحان الله كتب له بها مائة الف حسنة فقال رجل يا رسول الله كيف نهلك بعد هذا قال والّذى نفسى بيده ان الرجل ليجىء يوم القيامة بعمل لو وضع على جبل لاثقله فتقوم نعمة من نعم الله تعالى فكان كله يستنفد ذلك كله يوما يتفضل الله به من رحمته(7/239)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
واخرج الشيخان عن عائشة وعن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى الله بمغفرته ورحمته- وعند مسلم عن جابر نحوه وقد ورد هذا ايضا من حديث ابى سعيد أخرجه احمد ومن حديث ابن ابى موسى وشريك بن طارق أخرجهما البزار ومن حديث شريك بن طريف واسامة بن شريك واسد بن كرز أخرجها الطبراني.
وهاهنا إشكالان أحدهما انه لا يبقى حينئذ فائدة فى الطاعة وترك المعصية فان الله تعالى لو لم يتفضل عذّب اهل الطاعة ولو تفضل غفر اهل المعصية وادخل الجنة وثانيهما انه معارض لقوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فانه يدل على ان دخول الجنة مسبب بالأعمال- والجواب عن الاول ان الطاعة يقتضى محبة الله عبده حيث قال الله تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله سبحانه ما يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحببته رواه البخاري عن ابى هريرة فى حديث طويل والمحبة يقتضى التفضل والتفضل سبب لجلب كل خير ودفع كل ضرر وعن الثاني بان للجنة منازل تنال فيها بالأعمال فان درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال واما اصل دخولها والخلود فيها فبفضل الله ورحمته يؤيده ما أخرجه هناد فى الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون المنازل بأعمالكم واخرج ابو نعيم عن عون بن عبد الله مثله والله اعلم..
وَمِنْ آياتِهِ دلائل قدرته أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ من الشمال الى الجنوب وبالعكس ومن المشرق الى المغرب وبالعكس على حسب إرادته من غير محرك كما يشهد به الحس قرا حمزة «1» والكسائي الرّيح على ارادة الجنس مُبَشِّراتٍ بالمطر حال من الرياح وَلِيُذِيقَكُمْ المذوقات من الحبوب والثمار وغيرها معطوف على معنى مبشرات كانّه قال ليبشركم وليذيقكم او على محذوف تقديره يرسل
__________
(1) هذا وهم لانهم جمعوا على قراءته بالجمع والمختلف فيه الرّيح فتثير والذي وقع بعد هذا فقرأه بالتوحيد ابن كثير وحمزة والكسائي وخلف- ابو محمد عفاء الله عنه-(7/240)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
الرياح ليذهب عنكم الحر والسموم وليذيقكم مِنْ رَحْمَتِهِ من للابتداء وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بالرياح بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا الأرباح بالتجارة فى البحر مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اى ولتشكروا نعم الله فيها فتجلبوا ثمراته فى الدنيا والاخرة جملة من آياته متصل بقوله اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ الاية..
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
بالدلالات الواضحات على صدقهم فامن بهم قوم وكفر بهم آخرون يدل عليه قوله انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
اى عذبنا الذين كفروا بهم كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
معطوف على جملة محذوفة تقديره ونصرنا الذين أمنوا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
وفيه اشعار بان الانتقام من الكفار كان لاجل نصر المؤمنين واظهار كرامتهم. فان قيل هذه الاية تدل على وجوب نصر المؤمنين تفضلا فيلزم منه ان لا يغلب الكفار عليهم قط وقد يرى خلاف ذلك- قلنا اللام والاضافة فى نصر المؤمنين للعهد والمراد ان المؤمنين الذين جاهدوا الكفار خالصا لاعلاء كلمة الله والموعود من الله ان ينصرهم ولو بعد حين وعن ابى الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه الا كان حقّا على الله..
... ان يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا هذه الاية كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
. أخرجه الترمذي وحسنه وأخرجه إسحاق بن راهويه والطبراني وغيرهما من حديث اسماء بنت يزيد وقد يوقف على حقّا على انه متعلق بالانتقام.
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ متصلا تارة فِي السَّماءِ اى فى سمتها كقوله تعالى وفرعها فى السماء كَيْفَ يَشاءُ حال من مفعول يبسط اى سائرا او واقعا مطبقا او غير مطبق من جانب دون جانب الى غير ذلك وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا تارة اخرى «بخلاف عن وهب وابو جعفر- ابو محمد» قرأ ابن عامر بسكون السين على انه مخففا او جمع كسقة او مصدر وصف به فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فى التارتين فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعنى بلدهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بمجئى الخصب.
وَإِنْ كانُوا مخففة من الثقيلة يعنى وانهم كانوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر خفف المكي و «بضريان- ابو محمد و» البصري ينزل مِنْ قَبْلِهِ(7/241)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم وليس فى قراءة ابن مسعود كلمة من قبله لَمُبْلِسِينَ اللام فارقة وقيل ان نافية واللام بمعنى الا والمعنى وما كانوا من قبله الا آيسين.
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ يعنى اثار الغيث من النبات والأشجار والحبوب والثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وقرأ الجمهور اثر رحمت الله مفردا على ارادة الجنس كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالانبات بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها إِنَّ ذلِكَ الذي قدر على احياء الأرض بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى يحييهم بعد ما يميتهم فما وجه انكاركم ايها الكفار بعد ما تشاهدون ما يماثله وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ان نسبة قدرته الى جميع الممكنات على السواء.
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً موجبا ليبس الأرض فَرَأَوْهُ اى راوا الأثر او الزرع فانه مدلول عليه بما تقدم مُصْفَرًّا واللام جواب قسم مقدر لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ بنعمة الله جواب للقسم سدّ مسد الجزاء مبنية حال الكفار لقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم- والنظر السوي يقتضى ان يتوكلوا على الله ويلتجئوا اليه بالاستغفار إذا احتبس المطر عنهم ولا ييئسوا من رحمة الله. وان يبادروا الى الشكر والاستدانة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولا يفرطوا فى الاستبشار وان يصبروا على بلائه إذا ضرب بزرعهم آفة ولا يكفروا نعمه.
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى «1» وهم مثلهم لسدهم عن الحق مشاعرهم وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ قرأ ابن كثير لا يسمع بالياء على الغيب على البناء للفاعل من المجرد ورفع الصم والجمهور على صيغة الخطاب من الافعال ونصب الصم الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ
__________
(1) اخرج مسلم عن انس رض بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثة ايام حتى جيفوا ثم أتاهم فقام يناديهم فقال يا امية بن خلف يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا فسمع عمر صوته فجاء فقال يا رسول الله تناديهم بعد ثلاث وهل يسمعون يقول الله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فقال والّذى نفسى بيده ما أنتم باسمع منهم ولكنهم لا يطيقون ان يجيبوا- وروى مثله عن ابن عمر قلت إذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الموتى تسمع كلام الحي فمعنى قوله تعالى إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى باختيارك وقدرتك كما أنت تسمع الحىّ على ما جرى به عادة الله تعالى لكن الله تعالى يسمع الموتى كلام الاحياء إذا شاء او انك لا تسمع الموتى سماعا تترتب عليه الفائدة 12 منه نور الله مرقده-(7/242)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
قيد الحكم به ليكون أشد استحالة فان الأصم المقبل وان لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا.
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ اى الكفار قرأ حمزة تهدى بصيغة المضارع سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الابصار او لعمى قلوبهم عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ سماع إفهام وقبول إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فان ايمانهم يدعوهم الى تلقى اللفظ وتدبر المعنى ويجوز ان يراد بالمؤمن المشارف للايمان او من قدر الله له الايمان فَهُمْ مُسْلِمُونَ لما تأمرهم به..
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ اى ابتداؤكم ضعف اى ضعف الطفولية او جعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ او المعنى خلقكم من اصل ضعيف وهو النطفة اى ذى ضعف كقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ اى ضعف الطفولية قُوَّةً اى شبابا ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً هرما وَشَيْبَةً قرأ ابو بكر وحمزة من ضعف فى المواضع الثلاثة بفتح الضاد وكذلك روى حفص عن عاصم فيهن غير انه ترك ذلك واختار الضم اتباعا منه لرواية حدثه بها الفضل بن مرزوق عن عطية العوفى عن عبد الله بن عمر رض انه صلى الله عليه وسلم اقرأ ذلك بالضم وردّ عليه الفتح- كذا اخرج ابو داؤد والترمذي عن ابن عمر رض وهذه الرواية ضعيفة كذا قال الداني وما رواه حفص عن عاصم عن ائمته أصح والباقون بضم الضاد فيهن كذا قال الداني وقال البغوي فى التفسير قرأ حفص بضم الضاد وفتحها والآخرون بفتحها وهما لغتان فالضمة لغة قريش والفتح لغة تميم وفى القاموس الضعف بالفتح فى الرأي وبالضم فى البدن يَخْلُقُ ما يَشاءُ من الضعف والقوة والشباب والشيب وَهُوَ الْعَلِيمُ بتدبير خلقه الْقَدِيرُ على كل ما يشاء.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ اى القيامة سميت بها لانها تقوم فى اخر ساعة من ساعات الدنيا او لانها يقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالكواكب للزهرة يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ يحلف المشركون ما لَبِثُوا فى الدّنيا والقبور بدليل قوله تعالى.
لَقَدْ لَبِثْتُمْ ... إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ... غَيْرَ ساعَةٍ من الزمان استقلوا مدة لبثهم اضافة الى مدة عذابهم فى الاخرة او نسيانا او لان ما مضى صار كان لم يكن قال الله تعالى كَذلِكَ اى مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق كانُوا فى الدنيا يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الحق حيث(7/243)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
كانوا يشركون بالله ويقولون ان لا بعث وَقالَ عطف على يقسم المجرمون الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ اى الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردّا لقولهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ زمانا كتب الله لكم لبثه فِي كِتابِ اللَّهِ او زمانا كائنا فى كتاب الله اى مكتوبا فيه مدة لبثكم او لبثتم لبثا كائنا فى كتاب الله اى اللوح المحفوظ او صحف الملائكة الموكلين بالأرحام حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثمّ يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله الحديث- او القران وهو قوله تعالى وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ متعلق بقوله لبثتم فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذى كنتم تنكرونه فى الدنيا جملة معترضة او جواب شرط محذوف تقديره ان كنتم تنكرون البعث فهذا يوم البعث اى فانتم مبطلون وقد تبين بطلان انكاركم وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ انه حق لتفريطكم فى النظر.
فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ قرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقى ومفصول وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ اى لا يطلب منهم العتبى اى الرضاء كذا فى القاموس يعنى لا يطلب منهم موجبات رضاء الله منهم من التوبة والطاعة كما طلب منهم فى الدنيا من قولهم استعتبني فلان فاعتبته اى استرضانى فارضية او المعنى لا يطلب رضاؤهم بالله كما يطلب من المؤمنين رضاؤهم عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله يقول لاهل الجنة هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق فيقول اما أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وما أفضل من ذلك فيقول احلّ لكم رضوانى فلا أسخط بعده- متفق عليه وقال الله تعالى وَلَسَوْفَ يَرْضى..
وَلَقَدْ ضَرَبْنا اى بيّنّا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ اى انواع الحكايات التي هى فى الغرابة كالامثال مثل صفة المبعوثين من الكفار يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة وعدم استغنائهم. او بينّا لهم من كل مثل ينبّههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ(7/244)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
جواب قسم محذوف بِآيَةٍ من آيات القران او معجزة كعصا موسى لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط غباوتهم وقساوة قلوبهم إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول والمؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ اى قائلون بالأباطيل.
كَذلِكَ اى طبعا مثل ذلك الطبع الذي طبعنا على قلوب كفار مكة الّذين قالوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ توحيد الله او لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فان الجهل المركب يمنع عن ادراك الحق ويوجب تكذيب المحق.
فَاصْبِرْ على اذاهم إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك واظهار دينك على سائر الأديان حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ اى لا يجملنك على الخفة والقلق او لا يحملنك على الجهل واتباعهم فى الغى الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بتكذيبهم وإيذائهم- تم تفسير سورة الروم خامس عشر رجب سنة الف ومائتين وست والحمد لله رب العالمين ويتلوه إنشاء الله تعالى سورة لقمان والحمد لله.(7/245)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
سورة لقمان
مكّية وهى اربع «1» وثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذى حكمة او وصف الكتاب بصفة الله عز وجلّ على الاسناد المجازى والاضافة بمعنى من.
هُدىً وَرَحْمَةً قرأ حمزة بالرفع على انه خبر بعد خبر لتلك او خبر لمحذوف اى هى هدى ورحمة والحمل على المبالغة كزيد عدل او بحذف المضاف اى ذات هدى والباقون بالنصب على الحال من الآيات والعامل فيه معنى الاشارة لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بيان لاحسانهم او تخصيص بهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها وتكرير الضمير للتؤكيد ولما جعل بينه وبين خبره.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فائزون مقاصدهم لاستجماعهم العقيدة والعمل الصالح.
اخرج جويبر عن ابن عباس قال اشترى النضر بن الحارث قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام الا انطلق به الى قينة فيقول أطعميه واسقيه وغنيه هذا خير مما يدعوك اليه محمد من الصلاة والصيام وان تقاتل بين يديه فنزلت.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ اى ما تلهى وتشتغل عما يفيد من الأحاديث التي لا اصل لها والأساطير التي لا اعتبار فيها والمضاحيك وفضول الكلام- والاضافة بيانية بمعنى من ان أراد بالحديث المنكر او تبعيضية ايضا بمعنى من ان أراد به الأعم منه. واخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس انها نزلت فى رجل من قريش اشترى
__________
(1) وفى الأصل تسع وثلاثون صدر هذا من سبق قلم لا شك فيه. لان آياتها ثلاث وثلاثون عند اهل الحجاز واربع وثلاثون للباقى- ابو محمّد عفا الله عنه(7/246)
جارية مغنية وروى البغوي عن ابى سلمة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل تعليم المغنيات وأثمانهن حرام وفى مثل هذا نزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الاية وما من رجل يرفع صوته بالغناء الا بعث الله شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب ولا يزالان يضربان بارجلهما حتى يكون هو الذي يسكت- اخرج الترمذي وغيره عن ابى امامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير فى تجارة فيهن وثمنهن حرام وفى مثل هذا أنزلت وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ- وقال البغوي قال مقاتل والكلبي نزلت فى النضر بن الحارث بن كلدة كان يتّجر فيأتى الحيرة ويشترى بها اخبار الأعاجم ويحدث بها قريشا ويقول ان محمدا يحدنكم بحديث عاد وثمود وانا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار واخبار الاكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القران فانزل الله هذه الاية- وكذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان عن ابن عباس رض وقال مجاهد يعنى القينات والمغنين ومعنى الاية على هذا مَنْ يَشْتَرِي ذات لهو او ذا لهو الحديث او المعنى من يشتري لهو الحديث اى يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القران- قال مكحول من اشترى جارية ضرابة لتمسكها لعنائها وضربها مقيما عليه حتى يموت لم أصلّ عليه لان الله تعالى قال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الاية- وعن ابن مسعود رض وابن عباس والحسن وعكرمة وسعيد بن جبير قالوا لهو الحديث الغناء والاية نزلت فيه وقال ابو الصهباء البكري سالت ابن مسعود عن هذه الاية قال هو الغناء والله الذي لا اله الا هو يردّدها ثلاث مرات- وقال ابن جريج هو الطبل قلت مورد النص وان كان خاصّا وهو الغناء او قصص الأعاجم لكن اللفظ عام والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب ومن اقال قتادة هو كل لهو ولعب وقال الضحاك هو الشرك.
(مسئلة) : - اتخاذ المعازف والمزامير حرام باتفاق فقهاء «1» الأمصار عن ابى
__________
(1) فى المتفق ضرب المزامير واستماعها حرام وفى الفتاوى الكبرى يحرم ضرب الطبل واستماعه لانه من الملاهي الا طبول الحراب والقافلة لان فيها اعلاما للغزاة والرفقاء وانه طاعة وفى الملتقط ومن الناس من يقول لا بأس بالغناء فى الأعراس والوليمة الا ترى انه لا يأس بضرب الدف فى الأعراس والوليمة وان كان فى ذلك نوع لهو وانما لم يكن به بأس لانه فيه اظهار النكاح واعلانيه وبه امر صاحب الشرع حيث قال أعلنوا النكاح ولو بالدّف وكذلك الفتوى- وفى الذخيرة ومنهم من قال لا بأس بالدّفّ فى الأعياد روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا فى بيته يوم العيد وفى دهليزه جاريتان تغنيان بالدّف فجاء ابو بكر وقال لهما أتغنّيان فى دهليز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السّلام دعهما فان هذا اليوم يوم عيد 12 قدس سره-(7/247)
هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وكسب الزمارة- رواه البغوي وعن ابى مالك الأشعري انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يشربون الناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ويضرب على رؤسهم المعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير رواه ابن ماجة وصححه ابن حبان وأصله فى صحيح البخاري وعن على بن ابى طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل وما هى يا رسول الله قال إذا كان المغنم دولا والامانة مغنما والزكوة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعقّ امه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات فى المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شرة وشربت الخمر ولبست الحرير واتخذت القينات والمعازف ولعن اخر هذه الامة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا- رواه الترمذي وقال غريب- (مسئله) : - قالت الفقهاء الغناء حرام بهذه الاية لكونه لهو الحديث وبما ذكرنا من الأحاديث. وقالت الصوفية كان من الرجال ذى قلب مطمئن بذكر الله فارغا عن غيره لا يلتفت الى ما سوى الله ولا يكون المغنى محلّا للشهوة وكان المجلس خاليا عن الأغيار ولا يكون وقت صلوة او نحوها جاز له السماع بل يستحب لان فى السماع خاصية انه يستعمل به نار المحبة الجامدة المستورة فى القلب وذلك هو السبب لحرمته فى حق العامة فان العوام قلوبهم مشغولة بحب النساء او الغلمان فعند السماع يشتعل ذلك المحبّة ويشغلهم عن ذكر الله فكان فى حقهم لهو الحديث ومن كان قلبه مشغولا بمحبة الله وذكره فارغا عن غيره يكون السماع فى حقه موجبا لاشتغال(7/248)
محبة الله فيكون فى حقه مستحبا «1» - والجواب عن النصوص ان الاية ناطقة بالحرمة لما هو لهو الحديث وسماع الصوفية ليس منه والأحاديث الموجبة لحرمة الغناء مخصوصه بالبعض لورود أحاديث اخر دالة على الإباحة فحملنا أحاديث حرمة الغناء على ما كان منه على قصد اللهو لا لغرض مشروع داعيا الى الفسوق- فلنذكر الأحاديث الدالة على اباحة الغناء بل على اباحة ضرب الدف ايضا منها حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بنى علىّ فجلس على فراشى كمجلسك منى فجعلت جويريات لنا يضر بن بالدف ويندبن من قتل من ابائى يوم بدر إذ قالت إحداهن.
وفينا نبى يعلم ما فى غد فقال دعى هذه وقولى ما كنت تقولين رواه البخاري وروى ابن ماجة نحوه وفيه اما هذا فلا تقولوه لا يعلم ما فى غد الا الله- وعن عائشة قالت زفت امرأة الى رجل من الأنصار فقال نبى الله صلى الله عليه وسلم ما كان معكم لهو فان
__________
(1) فى شرح الكافي واعلم ان المكروه من السماع عند علمائنا ما يكون على سبيل اللهو وارادة العصيان بان يجتمع الفساق على ذلك ويتركون الصلاة وقراءة القران- واما ما كان من اهل الصلاة واهل القران من جملة الصالحين فسماع هؤلاء حلال بلا خلاف بين علمائنا إذ لا يريدون بذلك الا وجه الله وحضوره ويذكرون الله فى خوف الاخرة وكل ذلك محمود غير مذموم والتواجد والرقص ايضا غير مذموم لهذا المعنى- وفى شرح البزدوى المسمى بالنوري صنفه ابو القاسم بن محمد بن عبد الله الدمشقي- اعلم ان السماع انما يختلف علماءنا فى حقه فهو ما كان على سبيل اللهو واللعب يجتمع الفساق وشاربوا الخمر وتركوا الصلاة- فاما من سمع السماع وهو صالح دائم الصلاة لا تارك الورد وقراءة القران فهو حلال بلا خلاف بين علمائنا وكذلك الرقص والتواجد وفى الاقناع ان السماع يحصل به رقة القلب والخشوع واثارة الشوق الى لقاء الله تعالى والخوف من سخطه وعذابه والمفضى الى ذلك قربة فاذا كان السماع هكذا فكيف يكون فيه شائبة اللهو والهواء وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي فى العوارف والسماء يستجلب الرحمة من الله الكريم والله اعلم- وفى فتاوى الخلاصة يجب ان يعلم ان التغنّى لا يناس الغير مكروه عند عامة المشايخ ومنهم من جوز ذلك فى العرس والوليمة واما التغنّى لدفع الوحشة عن نفسه لا يكره عند البعض وبه أخذ الامام السرخسي والمكروه عندهم ما يكون على سبيل اللهو ومنهم من يقول جميع ذلك مكروه وبه أخذ الامام خواهر زاده وفى الجامع المضمرات قال ذكر فى النافع والذخيرة ان المتغني إذا لم يسمع غيره ولكن يسمع نفسه لازالة الوحشة فلا بأس به وقال سمعت الشيخ الامام الاجل نجم الدين رحمه الله انه قال لو سمعه من جاريته يباح له ذلك واحاله الى واقعات الحسانيته وفى العوارف او زوجته كذا فى فتاوى ابراهيم شاهى- وفى المحيط ذكر محمّد فى السير الكبير عن انس بن مالك انه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان يتغنى 12 منه برد الله تربته(7/249)
الأنصار يعجبهم اللهو- رواه البخاري وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلنوا هذا النكاح واجعلوا فى المساجد واضربوا عليه بالدّفوف رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب وعن عائشة قالت كانت عندى جارية من الأنصار زوجتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة الا تغنين فان هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء رواه ابن حبان فى صحيحه وعن ابن عباس قال أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اهديتم الفتاة قالوا نعم قالوا أرسلتم معها من تغنّى قالت لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الأنصار قوم فيه غزل فلو بعثتم معها من يقول اتيناكم فحيانا وحياكم. رواه ابن ماجة وعن عامر ابن سعد قال دخلت على قرظ بن كعب وابى مسعود الأنصاري فى عرس وإذا جوار تغنين فقلت اى صاحبى رسول الله واهل بدر يفعل هذا عندكم فقالا اجلس ان شئت فاستمع معنا وان شئت فاذهب فانه قد رخص لنا فى اللهو عند العرس- وعن عائشة ان أبا بكر رضى الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان فى ايام منى تدففان وتضربان والنبي صلى الله عليه وسلم متفس بثوبه فانتهرهما ابو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال دعهما يا أبا بكر فانها ايام عيد (تلك ايام منى) رواه البخاري وعند ابن ماجة ان لكل قوم عيدا وهذا عيدنا وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان امرأة قالت يا رسول الله انى نذرت ان اضرب على رأسك بالدف قال او فى بنذرك- رواه ابو داود وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وفاء لنذر فى معصية الله رواه مسلم وروى ان النبي صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة ونزل فى بنى نجارا صبرن جوار من بنى النجار يتغنين ويقلن
نحن جوار من بنى نجار ... يا حبذا محمدا من جار
رواه ابن ماجة عن انس وفيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم الله يعلم انى لاحبكن- وروى البيهقي عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة جعل النساء والولاية والصبيان يقلن شعر
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعى الله داع
ايها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع(7/250)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
وروى احمد عن انس اما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعن محمد بن حاطب الجمحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدّف فى النكاح- رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة فظهر ان المحرم من الغناء ما يدعوا الى الفسق ويشغل عن ذكر الله وما ليس كذلك فليس بحرام «1» غير انه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة رضى الله عنهم استماع الغناء تقربا الى الله تعالى ولاجل ذلك ما اختار الكرام من النقشبندية وغيرهم ارتكابه وان لم يرتكبوا الإنكار عليه والله اعلم- لِيُضِلَّ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى عن دينه او ذكره وقراءة كتابه قرأ ابن كثير وابو عمرو «ورويس يخلف عنه- ابو محمد» ليضلّ بفتح الياء على صيغة المجرد بمعنى يلبث على ضلاله ويزيد فيه بِغَيْرِ عِلْمٍ بحال ما يشتريه او بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القران وقال قتادة بحسب المؤمن الضلالة ان يختار حديث الباطل على حديث الحق وَيَتَّخِذَها اى آيات الله قرأ حمزة «وخلف- ابو محمد» والكسائي ويعقوب «2» وحفص بالنصب عطفا على قوله ليضل والباقون بالعطف على قوله يشترى بالرفع هُزُواً مهزوّا به سخرية أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) ذو اهانة.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى لا يتوجه اليه مُسْتَكْبِراً متكبرا الجملة الشرطية عطف على يشترى كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال من المستكن فى ولّى او مستكبرا او استئناف كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ قرأ نافع اذنه «3» بلفظ المفرد على ارادة الجنس وَقْراً ثقلا مانعا من السماع بدل من كان لّم يسمعها او حال من المستكن فى لم يسمعها او استئناف فَبَشِّرْهُ اى أخبره وذكر البشارة على التهكم بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) يحيق به.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) اى نعيم الجنات عكس للمبالغة.
خالِدِينَ فِيها حال مقدر من الضمير فى لهم او من جنات والعامل ما تعلق به اللام اى مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها وَعْدَ اللَّهِ اى وعد الله وعدا
__________
(1) فى الاحياء السماع فى اوقات السرور تأكيدا للسرور وتهيجا له مباح ان كان ذلك السرور مباحا كالغناء فى ايام العيد وفى العرس وفى وقت قدوم الغائب وفى الوليمة والعقيقة وعند ولادة الولد وختانه وعند حفظ القران- قلت وكذا عند تفويض الولد للمقرى لاجل التعليم 12 عنه أنار الله برهانه
(2) هذا سهو لان يعقوب قرأ بالرفع بلا خلاف كابى عمرو- 12 ابو محمد عفا الله عنه
(3) هذا ليس بشئ قرأ نافع اذنيه بإسكان الذال لا بالإفراد. 12 ابو محمد عفا الله عنه-(7/251)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
مصدر مؤكد لنفسه لكون ما قبله وعد حَقًّا اى حق ذلك الوعد حقا مصدر موكد لغيره لان كون الوعد حقا امر مغائر لنفس الوعد وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل شىء لا يمنعه شىء من انجاز وعده ووعيده الْحَكِيمُ (9) الذي لا يفعل الا ما يقتضيه الحكمة.
خَلَقَ السَّماواتِ صفة للحكيم بحذف الموصول تقديره الذي خلق او حال من الضمير المستتر فيه بتقدير قد او استئناف فى محل التعليل بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها جملة ترونها صفة لعمد والضمير راجع اليه وهو صادق بان لا عمد لها أصلا او الضمير راجع الى السموات والجملة لا محل لها من الاعراب وقد سبق فى الوعد وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا راسخات كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ او لان لا تميد بكم وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) اى من كل صنف حسن كثير المنفعة فيه التفات من الغيبة الى التكلم كانه استدل به على عزته التي هى كمال قدرته وحكمته التي هى كمال العلم ومهّد به قاعدة التوحيد وقررها بقوله.
هذا اى ما ذكرت مما تعاينون خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الفاء للسببية يعنى كل ما ترونه مخلوق لله تعالى فماذا خلق الهتكم حتى استحقوا مشاركته فى العبادة ماذا منصوب بخلق او ما استفهام انكار مبتدا وذا بمعنى الذي مع صلته خبره فارونى معلق عن العمل وما بعده سد مسدّ المفعولين بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) إضراب عن تبكيتكم الى التسجيل عليهم بالضلال الذي لا يخفى على من له ادنى تأمل ووضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على انهم ظالمون.
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ بن باعور بن ناخور بن تارخ وهوازر كذا قال البغوي وقال قال وهب كان ابن اخت أيوب عليه السلام وقال مقاتل ذكر انه كان ابن خالة أيوب عليه السّلام- وذكر البيضاوي وغيره انه عاش حتى أدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتى قبل مبعثه ثم ترك الفتيا بعد مبعثه وقال الا اكتفى إذا كفيت وقال الواقدي كان قاضيا فى بنى إسرائيل وفى الدر المنثور اخرج ابن ابى شيبة واحمد فى الزهد وابن ابى الدنيا فى كتاب المملوكين وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس كان لقمان عبدا حبشيا نجارا وكذا ذكر البغوي عن خالد الربعي وقال قال مجاهد كان عبدا اسود عظيم الشفتين متشقق القدمين وقال قال سعيد بن المسيب كان خياطا(7/252)
وقيل كان رعى غنم والله اعلم الْحِكْمَةَ فى القاموس وهى العدل والعلم والحلم والنبوة والقران والإنجيل والمراد بالحكمة فى قوله صلى الله عليه وسلم ان من الشعر لحكمة هو العلم وما ورد فى قوله صلى الله عليه وسلم الا وفى رأسه حكمة المراد به العقل وكل من المعاني المذكورة يحتمل المقام قال البغوي اتفق العلماء على انه كان حكيما اى فقيها عليما ولم يكن نبيّا الا عكرمة فانه قال كان نبيّا وتفرد بهذا القول واخرج ابن ابى حاتم عن وهب بن منبه انه سئل أكان لقمان نبيّا قال لا لم يوح اليه وكان رجلا حكيما وكذا اخرج ابن جرير عن مجاهد- وقال بعضهم خيّر لقمان بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة قال البغوي وروى انه كان نائما فى نصف النهار فنودى يا لقمان هل لك ان يجعلك الله خليفة فى الأرض فتحكم بين الناس بالحق فاجاب الصوت فقال ان خيرنى ربى قبلت العافية وان عزم على فسمعا وطاعة فانى اعلم ان فعل ذلك أعانني وعصمنى فقالت الملائكة بصوت (لا يراهم) لم يا لقمان قال لان الحكم باشد المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان ان أصاب لقمان فبالحرىّ ان ينجو وان أخطأ أخطأ طريق الجنة ومن يكن فى الدنيا ذليلا خير من ان يكون شريفا ومن يختار الدنيا على الاخرة تفته الدنيا ولا يصيب الاخرة- فعجبت الملائكة من حسن نطقه فنام نومه فاعطى الحكمة فانتبه وهو يتكلم بها- ونودى داود عليه السّلام بعدها فقبلها ولم يشترط ما شرط لقمان فهوى فى الخطيئة غير مرة كل ذلك يعفو الله عنه وكان يوازره لقمان لحكمته وهذه الرواية تدل على انه ليس المراد بالحكمة العدل فى الحكم بين الناس ولنعم ما قال الجزري فى النهاية فى تفسير الحكمة انها عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم قلت أفضل الأشياء ذات الله تعالى قال الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقال عزّ وجلّ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قل الله وأفضل علم لا يعتريه الغفلة وهو العلم الحضوري فان العلم الحصولى لا ينفك عن غفلة وايضا لا يمكن درك الله سبحانه بالعلم الحصولى فانه حصول صورة الشيء فى الذهن وهو سبحانه منزه عن الصورة والتحيز بل العلم الذي يتعلق بذات الله سبحانه هو فوق العلم الحضوري والعلم الحضوري الذي يتعلق بذات العالم بالنسبة الى ذلك العلم كالحصولى بالنسبة الى الحضوري وهو من(7/253)
خصائص قلب الإنسان ومن ثم وقع فى الحديث القدسي لا يسعنى ارضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن ويحصل ذلك لاخص الخواص من اولياء الله والله اعلم- اخرج الحاكم والبيهقي فى شعب الايمان عن انس ان لقمان كان عبدا لداود وهو يسرد الدروع فلم يسئله عنها فلمّا أتمها لبسها وقال نعم لبوس الحرب أنت فقال الصمة حكمة وقليل فاعله- وروى انه سئل اىّ الناس شر قال الذي لا يبالى ان راه الناس مسيئا- واخرج ابن ابى شيبة واحمد وابن جرير عن خالد الربعي قال كان عبدا حبشيّا نجارا فقال له سيده اذبح شاة وائتني بأطيب مضغتين منها فاتى باللسان والقلب ثم بعد ايام امر بان يأتى بأخبث مضغتين منهما فاتى بهما ايضا فسأله عن ذلك فقال هما أطيب شىء إذا طابا وأخبث شىء إذا خبثا- أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ الظاهر ان تقديره وقلنا له ان اشكر لله على ما اعطاك من الحكمة
وقال اكثر المفسرين ان مفسرة فان فى إيتاء الحكمة معنى القول- قلت وتوجيه ذلك ان إيتاء الحكمة عبارة عن تعليمها والتعليم يكون بالقول غالبا فالمعنى اتيناه الحكمة اى أمرناه بالشكر وهذا يدل على ان الحكمة هو الشكر وإيتاء الحكمة الأمر بالشكر والمراد بالأمر الأمر التكويني دون التكليفي فان امر التكليفي يعم لقمان وغيره وهو لا يستلزم حصول الشكر بخلاف التكويني فانه يستلزمه كما يستلزم إيتاء الحكمة حصولها وتفسير الحكمة بالشكر مبنى على المجاز فان الشكر لازم للحكمة فيجوز اطلاق أحدهما على الاخر مبالغة مجازا والشكر عبارة عن اظهار النعمة وضده الكفران وهو ستر النعمة وفى القاموس الشكر بالضم عرفان الإحسان قيل هو مقلوب عن الكشر اى الكشف فانه اظهار النعمة وهو ثلاثة اضرب شكر القلب تصور النعمة وشكر اللسان الثناء على النعمة وشكر الجوارح مكافات النعمة بالطاعات- قيل أصله من عين شكر اى ممتلية فالشكر على هذا الامتلاء من ذكر النعم ونعمته ومن أجل هذا قال الله تعالى وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ووصف الله تعالى فى القران رجلين من عباده بالشكر أحدهما ابراهيم قال فيه شاكرا لّانعمه وثانيهما نوح حيث قال إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً قال فى النهاية الشكر مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية فيثنى من المنعم بلسانه ويديب نفسه فى طاعته ويعتقد انه مولاها وهو من شكرت الإبل شكرا إذا أصاب مرعى فسمنت عليه- وجاز(7/254)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
ان يكون تقديره وقلنا له ان اشكر لله على ما اتيناك من الحكمة وغيرها وَمَنْ يَشْكُرْ الله فَإِنَّما يَشْكُرُ الله لِنَفْسِهِ اى لنفع نفسه فان الشكر قيد للموجود وصيد للمفقود وموجب تقرب الى الرب المعبود وثواب فى دار الخلود قال الله تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ الاية وَمَنْ كَفَرَ نعمة الله فَإِنَّ وباله عليه واللَّهَ غَنِيٌّ عن شكره لا يحتاج اليه حَمِيدٌ (12) حقيق بالحمد وان لم يحمد ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.
وَاذكر إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ اسمه أنعم او اشكم او ماثان وَهُوَ يَعِظُهُ حال من لقمان يا بُنَيَّ تصغير اشفاق قرأ ابن كثير بإسكان الياء وحفص بفتح الياء والباقون بكسرها لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ متعلق بلا تشرك وجاز ان يكون قسما جوابه ما بعده قيل كان ابنه كافرا فلم يزل به حتى اسلم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) تعليل للنهى الظلم وضع الشيء فى غير موضعه المختص به اما بنقصان او بزيادة واما بعدول عن وقته او مكانه- ويقال على التجاوز عن الحق قليلا كان التجاوز او كثيرا ولهذا يستعمل فى الذنب الصغير والكبير ولا شك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فانه وضع العبادة فى موضع لا يحتمل صلاحيتها أصلا وتسوية من لا نعمة الا منه بمن لا يصلح الانعام مطلقا.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ اى أمرناه ان يبرّهما ويشكرهما جملة معترضة بين قصة لقمان حَمَلَتْهُ أُمُّهُ معترضة فى معترضة مؤكدة للتوصية فى حق الام خاصة عن ابى هريرة قال قال رجل يا رسول الله من أحق بحسن صاحبتى قال أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فادناك متفق عليه وقال عليه السّلام ان الله حرم عليكم عقوق الأمهات متفق عليه فى حديث للمغيرة وَهْناً كائنا عَلى وَهْنٍ صفة لوهن وهو حال من فاعل حملته تقديره ذات وهن او يوهن وهنا قال ابن عباس معناه شدة على شدة وقال الضحاك ضعفا على ضعف وقال مجاهد مشقة على مشقة فان المرأة إذا حملت توالى عليها الضعف والمشقة الحمل ضعف والطلق ضعف والوضع ضعف والرضاع ضعف وَفِصالُهُ اى فطامه فِي عامَيْنِ اى فى انقضاء عامين وكانت ترضع فى تلك المدة واحتج بهذه الاية الشافعي وابو يوسف ومحمد ان أقصى مدة الرضاع حولان وقد ذكرنا مسئلة الرضاع فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى(7/255)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ الاية وفى سورة النساء فى تفسير قوله وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ أَنِ اشْكُرْ لِي تفسير لوصينا او بدل من والديه بدل اشتمال وَلِوالِدَيْكَ قال سفيان بن عيينة فى هذه الاية من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله ومن دعا لوالديه فى ادبار الصلوات الخمس فقد شكر لوالديه إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) المرجع فيه وعد ووعيد يعنى اجازيك على شكرك وكفرك.
وَإِنْ جاهَداكَ عطف على قوله ان اشكر عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ باستحقاق الإشراك يعنى فكيف وأنت تعلم بطلان الإشراك بالادلة القاطعة فَلا تُطِعْهُما فى ذلك فان حق الله غالب على حق كل ذى حق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاطاعة للمخلوق فى معصية الخالق- رواه احمد والحاكم وصححه عن عمران والحكيم ابن عمرو الغفاري وفى الصحيحين وسنن ابى داؤد والنسائي عن علىّ نحوه وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا صحابا مَعْرُوفاً يرتضيه الشرع والعقل.
(مسئلة) يجب بهذه الاية الانفاق على الأبوين الفقيرين وصلتهما وان كانا كافرين عن اسماء بنت ابى بكر قالت قدمت علىّ أمي وهى مشركة فى عقد قريش فقلت يا رسول الله ان أمي قدمت علىّ وهى راغبة أفأصلها قال نعم صليها- متفق عليه- وقد مرّ فى سورة العنكبوت ان هاتين الآيتين نزلتا فى سعد بن ابى وقاص وامه.
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ دين مَنْ أَنابَ اى اقبل إِلَيَّ وأطاعني وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال عطاء عن ابن عباس يريد الله سبحانه به أبا بكر وذلك حين اسلم أتاه عثمان وطلحة والزبير وسعد بن ابى وقاص وعبد الرحمان بن عوف وقالوا قد صدّقت هذا الرجل وامنت به قال نعم هو صادق فامنوا به ثم حملهم الى النبي صلى الله عليه وسلم حتى اسلموا فهؤلاء سالفة الإسلام اسلموا بإرشاد ابى بكر قال الله تعالى وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعنى أبا بكر.
(مسئلة) لا يجوز إطاعة الوالدين إذا امرا بترك فريضة او إتيان مكروه تحريما لان ترك الامتثال لامر الله والامتثال لامر غيره اشراك معنى ولما روينا من قوله عليه السّلام لاطاعة للمخلوق فى معصية الخالق- ويجب إطاعتهما إذا امرا بشئ مباح لا يمنعه العقل والشرع- وهل يجب إطاعتهما ان امرا بترك إكثار الذكر(7/256)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
والنوافل وكسب الأموال فوق الحاجة ونحو ذلك والظاهر عندى انه لا يجب ذلك لان الله سبحانه امر باتباع سبيل من أناب اليه وإكثار النوافل وترك ما لا يعنيه وترك الدنيا والتبتل الى الله سبيل المنيبين لا محالة- ولا شك ان الصحابة رضوان الله عليهم تركوا الأوطان وهاجروا وبذلوا أنفسهم وأموالهم على خلاف مرضاة ابائهم وأمهاتهم وقد قال الله تعالى قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فكيف يجوز ترك المجاهدة فى سبيل الله مع النفس والشيطان لابتغاء مرضاة الآباء والأمهات- اخرج الحاكم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال قال ابو قحافة لابى بكر أراك يعتق رقابا ضعافا فلو انك اعتقت رجالا اجلد يمنعونك ويقومون دونك فقال يا أبت انما أريد ما عند الله فنزلت وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى حين أعتق بلالا وعامر بن فهير وأم عميس وزبيرة ونحوهم- وهاجر أبو بكر مع اربعة آلاف درهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترك لاهله شيئا على خلاف مرضاة أبيه كما ذكرنا فى قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فى سورة التوبة فى تفسير قوله تعالى إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ... ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ اى مرجعك ومرجعهما فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) فاجازيك على إسلامك واجازيهما على كفرهما هذان الآيتان معترضتان فى أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهى عن الشرك كانه قال ووصينا بمثل ما وصى لقمان وذكر الوالدين للمبالغة فى ذلك فانهما مع كونهما تلوا الباري فى استحقاق التعظيم والطاعة لا يجوز ان يستحقا الطاعة فى الإشراك فما ظنك بغيرهما.
يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بكسرها إِنَّها اى الخصلة من الاساءة او الإحسان وقال قتادة الضمير راجع الى الخطيئة وذلك ان ابن لقمان قال لابيه يا أبت ان عملت الخطيئة حيث لا يرانى أحد كيف يعلمها الله فقال انها إِنْ تَكُ فى الصغر مثلا مِثْقالَ وزن حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ اسم تك ضمير مستتر وخبره مثقال على قراءة الجمهور بالنصب وقرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» مثقال بالرفع على انه اسم تك وهى تامة وتأنيث الفعل(7/257)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
لاضافة المثقال الى الحبة وضمير انها للقصة على هذه القراءة فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يعنى فى أخفى مكان واحرزه كجوف صخرة او أعلاه كمحدب السموات او أسفله كمقعر الأرض وقال قتادة فى صخرة فى جبل وقال ابن عباس هى صخرة تحت الأرضين السبع وهى التي يكتب فيها اعمال الفجار وخضرة السماء منها وقال السدىّ خلق الله الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره الله عزّ وجلّ فى القران ن والقلم والحوت فى الماء على ظهر صفاة «الصخرة والحجر الا ملس 12 نهاية منه رح» والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة (وهى الصخرة التي ذكرها لقمان ليست فى السماء ولا فى الأرض) والصخرة على الريح يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يحضرها فيحاسب عليها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه الى كل خفى ودقيق خَبِيرٌ (16) عليم بكنه كل شىء قال الحسن معنى الاية هو الإحاطة بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها قال البغوي وفى بعض الكتب ان هذه الكلمة اخر ما تكلم بها لقمان فانشقت مرارته من هيبتها.
يا بُنَيَّ قرأ حفص والبزي «وقتل باسكاء ابو محمد» بفتح الياء والباقون بكسرها أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والأذى بسبب الأمر والنهى او غير ذلك إِنَّ ذلِكَ اى الصبر او كل ما امره مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) اى من الأمور التي عزمه الله اى قطعه قطع إيجاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأمور عوازمها اى فرائضها التي عزم الله عليك بفعلها والعزم فى الأصل عقد القلب على إمضاء امر فالعزم على هذا مصدر بمعنى المفعول او المعنى من الأمور التي يعزم عليها بجد لوجوبها.
وَلا تُصَعِّرْ قرأ نافع وابو عمرو «وخلف- ابو محمد» وحمزة والكسائي ولا تصاعر من المفاعلة وابن كثير وابن عامر وعاصم وابو جعفر ويعقوب بتشديد العين من غير الف خَدَّكَ لِلنَّاسِ اى لا تمل عنهم ولا تولهم صفحة وجهك تكبرا قال ابن عباس تقول لا تتكبر فتحقر وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً اى فرحا وبطرا مصدر وقع موقع الحال اى يمرح مرحا او العلة اى لاجل المرح إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ متبختر فى مشيه فَخُورٍ (18) على الناس علة للنهى نشر على غير ترتيب اللف لرعاية القافية.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ اى توسط فيه فوق الدبيب(7/258)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
لانه دليل الخيلاء ومشى المتكبرين ودون الاسراع لانه مشى السفهاء ويذهب البهاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن- أخرجه ابن عدى وابو نعيم فى الحلية من حديث ابى هريرة وأخرجه ابن عدى ايضا من حديث ابى سعيد وابن عمرو المراد بالاسراع المنهي ما يكون بجد فوق مشيه الطبعي واما الاسراع على عادته دون الخبب فمحمود روى ابن سعد عن يزيد بن مرثد انه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى اسرع حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه- وروى الطبراني والبيهقي عن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالسكينة عليكم ... بالقصد فى المشي بجنائزكم واخرج الستة قوله صلى الله عليه وسلم اسرعوا بالجنازة فان يك صالحة يتقدمونها وان يكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم- فهذه الأحاديث تدل على ان المراد بالاسراع ما ذكرت والمراد بالقصد هو الاسراع دون الخبب.
وَاغْضُضْ قال مقاتل اى اخفض مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ يعنى أوحشها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ تعليل لغضّ الصوت يعنى ان صوت الحمير منكر جدّا لكونه جهيرا جدّا فلا يكن صوتك مثل صوتها أول صوتها زفير وآخرها شهيق وهما صوت اهل النار قال موسى بن أعين سمعت سفيان الثوري يقول فى قوله تعالى إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هى العطسة القبيحة المنكرة قال وهب تكلم لقمان باثنى عشر الف باب من الحكمة وأدخلها الناس فى كلامهم وقضاياهم..
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ لاجل نفعكم ما فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم والبحار والجبال من الأرض وَما فِي الْأَرْضِ من المعادن والنباتات والحيوانات بان مكّنكم من الانتفاع بها بوسط او بغير وسط وَأَسْبَغَ اى أتم وأكمل عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ قرأ اهل المدينة وابو عمرو وحفص بفتح العين وضم الهاء على الجمع والاضافة والباقون بسكون العين وبالتاء منونة على صيغة الواحد بارادة الجنس ظاهِرَةً مع ما عطف عليه حال من نعمه والنعمة الظاهرة هى المحسوسة من حسن الصورة وتسوية الأعضاء والرزق والعافية وغيرها من نعماء الدنيا والإسلام والرسول والقران وتخفيف الشرائع وتوفيق اتباع الرسول وظهور الإسلام والنصر على الأعداء وَباطِنَةً من القلب والعقل والحواس الباطنة وحسن الأخلاق والامداد(7/259)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
بالملائكة والإلهام بالاعتقاد الحق وستر الذنوب وعدم التعجيل فى العقوبة ونور معرفة الله ونار عشقه ورسوله وشفاعة رسوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ النبي صلى الله عليه وسلم عطف على وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وما بينهما معترضات فِي اللَّهِ فى توحيده وصفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من الدليل قال البغوي نزلت فى النضر بن الحارث وابى بن خلف وأشباههما وَلا هُدىً راجع الى الرسول وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) منزل من الله بل بالتقليد كما قال الله تعالى.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا لانتبع ما انزل الله بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فيه منع من التقليد فى اصول الدين قال الله تعالى أَيتبعون بتقدير يعنى قل ايتبعون آباءهم وَلَوْ كانَ الواو للحال او للعطف على مقدر يعنى لو لم يكن ولو كان الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ الضمير اما لهم او لابائهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) بإلقاء حسن التقليد او حسن الإشراك فى قلوبهم والاستفهام للانكار والتعجب.
وَمَنْ يُسْلِمْ «1» وَجْهَهُ اى توجهه إِلَى اللَّهِ واقبل بشراشره عليه يعنى لا يفعل فعلا ولا يترك شيئا الا ابتغاء مرضاته ويفوض امره اليه وَهُوَ مُحْسِنٌ فى اعماله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه يعنى بالحضور التام فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى يعنى تمسك باوثق ما يتمسك به واعتصم باقوى ذريعة لا يحتمل انقطاعه تمثيل لطيف للمتوكل على المتشبث بالعروة الوثقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) إذا لكل صائر اليه.
وَمَنْ كَفَرَ ولم يسلم وجهه الى الله فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ تقديره فقد أضرّ نفسه وأوبقه ولا يضرك شيئا لا فى الدنيا ولا فى الاخرة ولمّا كان عدم الضّرر موجبا لعدم الحزن أورده فى مورده قرأ نافع لا يحزنك بضم الياء وكسر الزاء من الأحزان إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فى الدارين فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا بالتعذيب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) من الاعتقادات والخطرات فضلا عما فى الظاهر فيجازى كلّا على حسب اعتقاده وعمله.
نُمَتِّعُهُمْ اى نملهم ليتمتعوا قَلِيلًا اى تمتيعا قليلا او زمانا قليلا فى الدنيا الى انقضاء اجالهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ اى نلجئهم ونردهم فى الاخرة إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ اى عذابا يثقلهم ثقل الاجرام الغلاظ وهو عذاب النار.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ
__________
(1) في الأصل ومن أسلم.(7/260)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من اسناد الخلق الى غيره بحيث اضطروا الى الإقرار به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما الزمهم وألجأهم الى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) ان ذلك يلزمهم وإذا نبهوا عليه لم يتنبهوا.
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا فلا يستحق العبادة غيره إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن حمد الحامدين الْحَمِيدُ (26) المستحق للحمد وان لم يحمد اخرج ابن إسحاق عن عطاء بن يسار وكذا ذكر البغوي انه قال نزلت بمكة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا- فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة أتاه أحبار اليهود فقالوا الم يبلغنا عنك انك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا- إيانا تريد أم قومك فقال كلّا عنيت قالوا الست تتلو فيما جاءك انا أوتينا التورية وفيها تبيان كل شىء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هى فى علم الله قليل فانزل الله تعالى.
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ يعنى لو ثبت كون الأشجار كلها أقلاما وتوحيد شجرة لان المراد تفصيل الآحاد وَالْبَحْرُ المحيط يَمُدُّهُ اى يزيده وينصب فيه مِنْ بَعْدِهِ اى من خلفه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ فاعل يمدّه قرأ ابو عمرو يعقوب البحر بالنصب عطفا على اسم انّ او بإضمار فعل يفسره يمدّه والباقون بالرفع عطفا على انّ ومعمولها وعلى هذا يمدّه حال- وجاز ان يكون البحر مبتدأ وما بعده خبره والجملة مستانفة او فى محل النصب على انه حال فان قيل ليس فيه ضمير راجع الى ذى الحال قلت هو كقولك جئت الجيش قادم ونحو ذلك من الأحوال التي حكمها حكم الظرف وكان مقتضى الكلام ان يقال ولو ان الأشجار أقلام والبحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر لكن اغنى عن ذكر المداد قوله يمدّه لانه من مد الدوات وأمدها- وقال البغوي فى الاية إضمار تقديره وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يكتب بها كلمات الله ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ المعبر بها عن معلومات الله بتلك الأقلام وبذلك المداد ولا بأكثر من ذلك بالغا ما بلغ لان معلوماته تعالى غير متناهية لا يمكن نفادها ولذلك اختار صيغة جمع القلة للاشعار بان ذلك لا يفئ بالقليل فكيف بالكثير إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شىء حَكِيمٌ (27) لا يخرج عن علمه وحكمته امر واخرج ابن جرير عن عكرمة قال سال اهل الكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فانزل الله(7/261)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فقالوا تزعم انا لم نؤت من العلم الا قليلا وقد أوتينا التورية وهى الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فنزلت هذه الاية فعلى ما ذكرنا من الروايات فى سبب النزول الاية مدنية وقيل الاية مكية وانما امر اليهود وفد قريش ان يسئلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكة- واخرج ابو الشيخ فى كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال قال المشركون انما هذا الكلام يوشك ان ينفد فنزل وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ الاية.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ أجمعين إِلَّا كَنَفْسٍ اى الا كخلق نفس واحِدَةٍ وبعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن ويكفى لوجود الكل تعلق إرادته مع قدرته الذاتية فلا يتعذر عليه خلق الكل كما لا يتعذر عليه خلق نفس واحدة إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ (28) يبصر كل شىء لا يشغله ادراك بعضها عن ادراك بعض اخر فكذلك الخلق او المعنى انّ الله سميع لاقوال المشركين ان لا بعث بصير بأعمالهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ عطف على يولج او حال بتقدير قد الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ واحد من النيرين يَجْرِي فى السماء إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى وقت معين وهو يوم القيامة الفرق بينه وبين قوله لِأَجَلٍ مُسَمًّى ان الاجل منتهى الجري وثمه غرضه حقيقة او مجازا وكلا المعنيين حاصل فى الغايات وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) عطف على قوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ وجملة أَلَمْ تَرَ متصل بقوله أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ مقرر له.
ذلِكَ الذي ذكر من سعة عمله وشمول قدرته وعجائب صنعه بِأَنَّ اى بسبب ان اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت اى الواجب وجوده وجميع كمالاته او الثابت ألوهيته وَأَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ ابو عمرو وحفص وحمزة «ويعقوب وخلف- ابو محمد» والكسائي بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب مِنْ دُونِهِ من الالهة الْباطِلُ المعدوم فى حد ذاته او الباطل دعوى الالوهية فيه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ المترفع على كل شىء والمتسلط عليه الْكَبِيرُ (30) الظاهر الباهر كبرياؤه ومن كان هذا شأنه يجب ان يكون علمه وقدرته شاملا لجميع الأشياء..
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ متصل بقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ ... بِنِعْمَتِ اللَّهِ اى بإحسانه فى تهية أسبابه وهو استشهاد اخر على باهر قدرته و(7/262)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
شمول انعامه والباء للصلة او للحال لِيُرِيَكُمْ الله مِنْ آياتِهِ اى بعض دلائل قدرته من عجائب البحر الذي أدركتموه إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) يعنى صبار على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر فى الآفاق والأنفس ويعرف النعم ويشكر عليها مانحها- او المراد لايات للمؤمنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الايمان نصفان فنصف فى الصبر ونصف فى الشكر- رواه البيهقي فى شعب الايمان عن انس يعنى يشكر فى السراء ويصبر فى الضراء.
وَإِذا غَشِيَهُمْ اى علاهم وغطاهم الظرف متعلق يدعوا الله فيه معنى الشرط والجزاء والجملة معطوفة على تجرى فى البحر خبر لانّ وضمير غشيهم راجع الى اهل الفلك رابط بين الاسم والخبر مَوْجٌ فى البحر كَالظُّلَلِ جمع الظلة شبّه بها الموج يأتى منه شىء بعد شىء قال مقاتل كالجبال وقال الكلبي كالسحاب دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بان ينجيهم ولا يدعون غيره لما تقرر فى الأذهان انه لا كاشف لضر الا الله سبحانه ويزول بما غلبهم من الخوف الشديد ما ينازع الفطرة السليمة من الهوى والتقليد فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ متعلق بنجاهم بتضمين معنى أوصلهم وجملة فلمّا نجّاهم معطوفة على إذا غشيهم فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ قيل هو جواب لمّا والظاهر ان جواب لمّا محذوف وهذا دليل عليه تقديره فلمّا نجاهم الى البرّ اختلفوا فمنهم شاكر لنعمة الله ومنهم كافر ومنهم مقتصد يعنى متوسط فى الكفر لانزجاره بعض الانزجار وكان بعض الكفار أشدّ افتراء وأشد قولا من بعض فذكر المقتصد لدلالته على جانبه كذا قال الكلبي معنى المقتصد وقال أكثرهم معنى المقتصد المقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد لما قيل ان الاية نزلت فى عكرمة بن ابى جهل هرب عام الفتح الى البحر فجاءهم ريح عاصف فقال عكرمة لان أنجانا الله من هذه لارجعن الى محمد ولاضعن يدى فى يده فسكنت الرياح فرجع الى مكة والنبي صلى الله عليه وسلم ثمه واسلم وحسن إسلامه والتقدير على هذا فمنهم مقتصد ومنهم كافر يدل عليه قوله وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا المنزلة اى بحقيقتها او بدلائل قدرتنا ومنها الانجاء من الموج إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ اى غدار فانه نقض العهد الفطري او العهد الذي عاهد فى الشدة والختر أسوأ الغدر كَفُورٍ (32) للنعم.
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ اى احذروا عذابه وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي اى لا يغنى والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ الراجع الى(7/263)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
الموصوف محذوف اى لا يجزى فيه والد مؤمن عن ولده الكافر وَلا مَوْلُودٌ مؤمن عطف على والد هُوَ جازٍ صفة لمولود يعنى ولا يجزى مولود مؤمن من شأنه ان يكون هو جاز عَنْ والِدِهِ الكافر متعلق بلا يجزى وانما قيدنا بالكافر لان المؤمن يشفع للمؤمن قال الله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقال الله جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ شَيْئاً منصوب على المصدرية اى لا يجزى شيئا من الاجزاء وجاز ان يكون مولود مبتدأ خبره هو جاز عن والده وتغير النظم للتاكيد فان هذه الجملة واردة على نهج من التأكيد لم يرد عليه المعطوف عليه لان الجملة الاسمية أكد من الفعلية وقد انضم الى ذلك لفظ المولود وفيه تأكيد اخر لان المولود انما يطلق على من ولد بلا واسطة والولد يطلق عليه وعلى ولد الولد كما فى قوله تعالى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فاذا كان المولود لا ينفع أباه فلا ينفع أجداده بالطريق الاولى- ووجه إيراده على التأكيد ان الخطاب كان للمؤمنين فى ذلك الزمان وغالبا مات اباؤهم على الكفر فاريد حسم اطماعهم من ان ينفعوا آباءهم بالشفاعة فى الاخرة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والثواب والعقاب حَقٌّ لا يمكن تخلفه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الفاء للسببية الْحَياةُ الدُّنْيا بزينتها فانها فانية ولذّاتها ضعيفة مشوبة بالمكاره وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ فى حلمه وامهاله الْغَرُورُ (33) الشيطان بان يرجيكم المغفرة فيجسركم على الذنوب.
اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن مجاهد مرسلا قال جاء رجل من اهل البادية وسماه البغوي الحارث بن عمرو بن الحارث بن محارب بن حفصة فسال النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة اى وقتها وقال امراتى حبلى فاخبر ما تلد وبلادنا مجدبة فاخبرنى متى ينزل الغيث وقد علمت باىّ ارض ولدتّ فاخبرنى اين أموت فانزل الله تعالى.
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ اى علم وقت قيامها جملة مستأنفة فى جواب متى يكون ذلك اليوم وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ متى شاء لا يعلم نزولها الا هو وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ اذكر أم أنثى لا يعلمها غيره وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا الله لا يعلم أحد(7/264)
ما يكون فى غد الا الله ولا يعلم ما فى الأرحام الا الله ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة الا الله ولا تدرى نفس باى ارض تموت الا الله ولا يدرى أحد متى يجئى المطر الا الله رواه احمد والبخاري وروى البغوي فى تفسير هذه الاية عن ابن عمر بهذا اللفظ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مفاتح الغيب خمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ وفى الصحيحين فى قصة سوال جبرئيل فى حديث ابى هريرة فى خمس يعنى انّ السّاعة لا يعلمهن الا الله ثم قرأ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الاية- واخرج ابن ابى شيبة فى المصنف عن خيثمة ان ملك الموت مر على سليمان فجعل ينظر الى رجل من جلسائه فقال الرجل من هذا قال ملك الموت فقال كانّه يريدنى فمر الريح ان يحملنى ويلقينى بالهند ففعل فقال الملك كان دوام نظرى اليه تعجبا منه إذ أمرت ان اقبض روحه بالهند وهو عندك والله اعلم.
وانما جعل العلم لله والدراية للعبد لان فيها معنى الحيلة فيشعر بالفرق بين العلمين فى القاموس دريته علمته او لضرب من حيلة فعنه اشارة الى ان العبد ان عمل حيلة وبذل فيها وسعه لم يعرف ما هو لاحق به من كسبه وعاقبته فكيف بغيره ما لم يحصل له علم بتعليم من الله تعالى بتوسط الرسل او بنصب دليل عليه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلها خَبِيرٌ (34) يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها حكى ان منصورا راى فى منامه ملك الموت وسأله عن مدة عمره فاشار اليه بأصابعه الخمس فعبرها المعبرون بخمس سنين او بخمسة أشهر او بخمسة ايام فقال ابو حنيفة هو اشارة الى هذه الاية فان هذه العلوم الخمسة مختصة بالله تعالى والله اعلم.
تم تفسير سورة لقمان من التفسير المظهرى ليلة الثانية والعشرين من رجب سنة الف ومائتين وست سنه 1206 هـ ويتلوه تفسير سورة السجدة ان شاء الله تعالى.(7/265)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
سورة السّجدة
مكّيّة وهى ثلاثون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ان جعل اسما للسورة او القران فهو مبتدا خبره.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ على انه بمعنى المنزل والاضافة من قبيل اخلاق ثياب والا فهو خبر مبتدا محذوف اى هذا تنزيل او مبتدا خبره لا رَيْبَ فِيهِ فيكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) حالا من الضمير فى فيه لان المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ويجوز ان يكون خبرا ثانيا او خبرا اولا ولا ريب فيه اعتراضا لا محل له والضمير فى فيه راجع الى مضمون الجملة كانّه قيل لا ريب فى كونه منزلا مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ او الخبر.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ولا ريب فيه حال من الكتاب او اعتراض ومن ربّ العلمين متعلق بتنزيل والضمير فى فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله تعالى بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فانه تقرير له ونظم الكلام على هذا انه أشار اولا الى اعجازه بقوله الم ثم رتب عليه ان تنزيله من رب العالمين وقور ذلك بنفي الريب عنه ثم اضرب عن ذلك الى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجبا منه فان أم منقطعة بمعنى بل والهمزة للانكار ثم اضرب عنه الى اثبات انه الحق المنزل من الله وبيّن المقصود من تنزيله فقال لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد إذ كانوا اهل الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وجملة ما اتهم صفة لقوم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) بانذارك إياهم.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما الله مبتدا والموصول مع صلته خبره فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أولها يوم الأحد وآخرها الجمعة(7/266)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ عطف على خلق وقد بسطنا الكلام فى الاستواء على العرش فى سورة يونس وذكرنا فى سورة الأعراف ايضا ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ يعنى إذا جاوزتم مرضاته لا ينصركم فى مواطن النصر والشفيع متجوز به للناصر فاذا أخذ لكم لم يبق لكم ولى ولا ناصر استيناف او حال من فاعل استوى أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) بمواعظ الله الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره الا تتفكرون فلا تتذكرون.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف او حال من فاعل استوى او خبر بعد خبر لله او خبر أول والموصول مع صلته صفة لله وما لكم حال يعنى يدبر امر الدنيا مِنَ السَّماءِ اى بأسباب سماوية نازلة اثارها إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ اى يصعد إِلَيْهِ ويثبت فى علمه موجودا او المعنى يدبر الأمر اى يحكم بالأمر وينزل الوحى مع جبرئيل او ينزل القضاء والقدر مع الملك المؤكل به من السماء الى الأرض ثم يعرج اى يصعد جبرئيل او غيره من الملائكة اليه اى الى الله يعنى الى حيث يرضاه فِي يَوْمٍ من ايام الدنيا والمراد باليوم هاهنا مطلق الوقت لا بياض النهار لان نزول الملائكة وصعودها غير مختص بالنهار كانَ مِقْدارُهُ حال بتقدير قد اى وقد كان مقدار عروجه ونزوله أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) يعنى لو سار أحد من بنى آدم لم يقطعه الا فى الف سنة لكن الله بكمال قدرته جعل نزوله وعروجه فى طرفة عين- قال البغوي هذا وصف عروج الملائكة ونزولها من السماء الى الأرض واما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مدة المسافة من الأرض الى سدرة المنتهى التي هى مقام جبرئيل يقول يسير جبرئيل والملائكة الذين معه من اهل مقامه مسيرة خمسين الف سنة فى يوم من ايام الدنيا اى برهة من الزمان هذا كله معنى قول مجاهد والضحاك- قلت وجاز ان يكون المراد فى الآيتين المسافة التي بين الأرض والسدرة المنتهى على اختلاف سير السائرين فانه ورد فى حديث العباس بن عبد المطلب عند الترمذي بعد ما بين السماء والأرض اما واحدة واما اثنتان او ثلاث وسبعون سنة وفى حديث ابى هريرة عند احمد والترمذي مسافة ما بينهما وبين كل سمائين خمس مائة سنة ولا وجه لتطبيقهما الا باعتبار اختلاف سير السائرين والله اعلم.
وقيل معنى الاية يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى امر الدنيا مِنَ السَّماءِ اى بأسباب سماوية(7/267)
كالملائكة وغيرها نازلة اثارها الى الأرض ثم يرجع الأمر والتدبير اليه وحده بعد فناء الدنيا وانقطاع امر الأمراء وحكم الحكام فى يوم كان مقداره الف سنة وهو يوم القيامة لما روى الترمذي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام ونصف يوم واما قوله تعالى تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أراد به ايضا يوم القيامة- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب كنز لا يؤدى زكوة كنزه الا احمى عليه فى نار جهنّم فيجعل صفائح فتكوى بها جنباه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده فى يوم كان مقداره خمسين الف سنة ثم يرى سبيله اما الى الجنة واما الى النار الحديث- ووجه التطبيق بين الحديثين ان يوم القيامة يختلف طوله بالنسبة الى الاشخاص يكون ذلك اليوم على بعض الناس مقدار خمسين الف سنة وعلى بعضهم مقدار الف سنة وعلى بعضهم أخف من ايام الدنيا اخرج الحاكم والبيهقي عن ابى هريرة مرفوعا وموقوفا طول ذلك اليوم على المؤمنين كمقدار بين الظهر والعصر- وكذا ذكر البغوي قول ابراهيم التيمي واخرج ابو يعلى وابن حبان والبيهقي بسند حسن عن ابى سعيد قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين الف سنة ما أطول هذا اليوم فقال والذي نفسى بيده انه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها فى الدنيا- وقال البغوي قال ابن ابى مليكة دخلت انا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان على ابن عباس فسأله عن هذه الاية وعن قوله تعالى خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فقال له ابن عباس ايام سماه الله تعالى لا أدرى ما هى واكره ان أقول فى كتاب الله ما لا اعلم- واخرج البيهقي من طريق ابن ابى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قال هذا فى الدنيا وقوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فهذا يوم القيمة جعله الله على الكافر مقدار خمسين الف سنة- واختار جلال الدين المحلى هذه الرواية فى تفسيره وقيل يقضى قضاء الف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الالف لالف اخر- وقيل يدبر الأمور به من الطاعات منزلا من السماء الى الأرض بالوحى ثم لا يعرج اليه(7/268)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
خالصا كما يرتضيه الا فى مدة متطاولة لقلة المخلصين فى الأعمال.
ذلِكَ المدبر الخالق للسموات والأرض وما بينهما مبتدا خبره عالِمُ الْغَيْبِ اى ما غاب عن الخلق وَالشَّهادَةِ اى ما حضر عندهم فيدبر الأمور على وفق الحكمة الْعَزِيزُ الغالب على امره الرَّحِيمُ (6) على العباد فى تدبيره وفيه ايماء بانه يراعى المصالح تفضلا وإحسانا صفتان لعالم الغيب والشهادة او خبر ثان وثالث لذلك.
الَّذِي أَحْسَنَ الموصول مع الصلة صفة بعد الصفتين المذكورتين او خبر رابع لذلك كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ «وابو جعفر ويعقوب- ابو محمد» قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بسكون اللام فهو بدل اشتمال من كلّ شىء يعنى احسن خلق كل شىء موافرا عليه ما يستعده ويليق به على وفق الحكمة كذا قال قتادة وقال ابن عباس أتقنه وأحكمه اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ قال اما ان است القردة ليست بحسنة ولكنه احكم خلقها وقال مقاتل اى علم كيف يخلق كل شىء من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلم- وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على صيغة الماضي على انه صفة لشئ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعنى آدم عليه السلام مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ سميت به لانها تنسل منه اى تنفصل مِنْ سُلالَةٍ اى نطفة سميت سلالة لانها تسل من الإنسان مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ضعيف بدل من سلالة او بيان له.
ثُمَّ سَوَّاهُ اى الإنسان قوّمه بتصوير أعضائه على ما ينبغى وَنَفَخَ فِيهِ اى فى الإنسان مِنْ رُوحِهِ الضمير اما راجع الى الإنسان او الى الذي احسن خلق كلّ شىء تشريفا وإظهارا بانه خلق عجيب له شأن عظيم ممكن له نسبة بما لا مثل له ولا كيف وَجَعَلَ لَكُمُ التفات من الغيبة الى الخطاب السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لتسمعوا وتبصروا وتعقلوا بعد ما كنتم نطفا بغير سمع وبصر وتعقّل قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (9) ما زائدة مؤكدة للقلة اى شكرا قليلا او فى زمان قليل تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه وتعبدونه.
وَقالُوا اى منكرى البعث عطف على جعل لكم السّمع وفيه التفات من الخطاب الى الغيبة أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ اى غبنا فيها يعنى صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض بحيث لا يتميز بينهما وأصله من قولهم ضل الماء فى اللبن إذا اختلط به وغاب فيه قرأ ابن عامر «وابو جعفر- ابو محمد 3» إذا بهمزة واحدة على الخبر والعامل فيه ما دل عليه أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ(7/269)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
جَدِيدٍ
وهو نبعث ونجدّد خلقا قرأ نافع والكسائي ويعقوب انّا بهمزة واحدة على الخبر- والقائل ابى بن خلف والاسناد الى جميعهم لرضائهم به والاستفهام لانكار البعث استبعادا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ اى بما بعد البعث من الجزاء كافِرُونَ (10) لمّا ذكر كفرهم بالبعث اضرب عنه الى ما هو ابلغ منه وهو انهم كافرون بجميع ما يكون فى الاخرة.
قُلْ يا محمّد يَتَوَفَّاكُمْ اى يستوفى نفوسكم لا يترك منها شيئا او لا يبقى منكم أحدا والتفعل والاستفعال يستعمل أحدهما مقام الاخر يقال تقصّيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته مَلَكُ الْمَوْتِ وهو عزرائيل عليه السلام روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراض والإرجاع كلها بريد الموت ورسول الموت فاذا حان الاجل اتى ملك الموت فقال ايها العبد كم خبر بعد خبروكم رسول بعد رسول وكم بريد بعد بريد انا الخبر ليس بعدي خبر وانا الرسول ليس بعدي رسول أجب ربك طائعا او مكرها ولمّا قبض روحه وتصارخوا عليه قال على من تصرخون وعلى من تبكون والله ما ظلمت له أجلا ولا أكلت له رزقا بل دعاه ربه فليبك الباكي على نفسه فو الله ان لى عودات وعودات حتى لا أبقى فيكم أحدا الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ اى وكل بقبض أرواحكم وله أعوان من الملائكة وقد ذكرنا الأحاديث الواردة فى ملك الموت وأعوانه فى تفسير سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ.
(مسئلة) ملك الموت لا يعلم بوقت أحد ما لم يؤمر به اخرج احمد وابن ابى الدنيا عن معمر قال بلغنا ان ملك الموت لا يعلم متى يحضر أجل الإنسان حتى يؤمر بقبضه واخرج ابن ابى الدنيا عن ابن جريج قال بلغنا انه يقال لملك الموت اقبض فلانا فى وقت كذا فى يوم كذا.
(مسئلة) ملك الموت يظهر للمؤمن بأحسن صورة وللكافر باقبحها اخرج ابن ابى الدنيا عن ابن مسعود وابن عباس قالا لمّا اتخذ الله ابراهيم خليلا سال ملك الموت ان يأذن له ان يبشر له بذلك فاذن له فجاء ابراهيم فبشره فقال الحمد لله ثم قال يا ملك الموت أرني كيف تقبض أنفاس الكفار قال يا ابراهيم لا تطيق ذلك قال بلى قال فاعرض فاعرض ثم نظر فاذا برجل اسود ينال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار وليس من شعرة فى جسده الا فى صورة رجل يخرج من فيه ومسامه لهب النار فغشى على ابراهيم ثم(7/270)
أفاق وقد تحول ملك الموت فى الصورة الاولى- فقال يا ملك الموت لو لم يبق الكافر من البلاء والحزن الا صورتك لكفاه فارنى كيف تقبض أرواح المؤمنين قال فاعرض فاعرض ثم التفت فاذا هو برجل شاب احسن الناس وجها وأطيبهم ريحا فى ثياب بيض فقال يا ملك الموت لو لم ير المؤمن عند الموت من قرة عين والكرامة الا صورتك هذه يكفيه واخرج عن كعب ان ابراهيم أراه ملك الموت الصورة التي يقبض بها المؤمن قال فراه من النور والبهاء شيئا لا يعلمه الا الله والتي يقبض بها الكفار الفجار فرعب ابراهيم رعبا حتى أرعدت فرائصه والصق بطنه بالأرض وكادت نفسه تخرج.
(مسئلة) كيف يكون الموت سوى الآدميين اخرج ابو الشيخ والعقيلي فى الصغاء والديلمي عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آجال البهائم وحشاش الأرض كلها فى التسبيح فاذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها وليس الى ملك الموت من ذلك شىء وله طريق اخر أخرجه الخطيب من حديث ابن عمر مثله قال ابن عطية والقرضى معنى ذلك ان الله تعالى يعدم حياتها بلا مباشرة ملك الموت- قلت جعل ملك الموت وأعوانه للانسان إكراما للمؤمنين واهانة وتعذيبا للكافرين واخرج الخطيب فى تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس قال وكّل ملك الموت يقبض أرواح الآدميين فهو الذي يقبض أرواحهم وملك فى الجن وملك فى الشياطين وملك فى الوحش والطير والسباع والحيتان والنمل فهو اربعة املك والملائكة يموتون فى الصعقة الاولى وان ملك الموت يلى قبض أرواحهم ثم يموت فامّا الشهداء فى البحر فان الله يلى قبض أرواحهم لا يكل ذلك الى ملك الموت لكرامتهم عليه حيث ركبوا سيح البحر فى سبيله- وفيه جويبر ضعيف جدّا والضحاك عن ابن عباس منقطع ولاخره شاهد مرفوع أخرجه ابن ماجة عن ابى امامة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح الا شهداء البحر فان الله يتولى قبض أرواحهم- قلت فشهداء بحر العشق والمعرفة اولى بذلك الكرامة والله اعلم.
ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) يعنى بعد الموت يصعد بروح المؤمن ملائكة الرحمة الى السموات حتى ينتهى بها الى السماء السابعة وبروح الكافر ملائكة العذاب حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له فيطرح روحه طرحا وقد مر الحديث فى سورة(7/271)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
الانعام او المعنى ترجعون بعد الحشر احياء الى موقف الحساب فيجزى كل نفس بما عملت وقد مرّ ثم ذكر الله سبحانه حالهم بعد الحشر فقال.
وَلَوْ تَرى يا محمّد إِذِ الْمُجْرِمُونَ اى المشركين الذين قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ ... ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ حال من الضمير فى المجرمون عِنْدَ رَبِّهِمْ ندامة وحزنا يقولون حال من فاعل ناكسوا او حال مرادف له او استيناف فى جواب ما يقولون حينئذ رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا وكنا مكذّبيه وَسَمِعْنا منك تصديق رسلك فيما كذّبناهم وقيل معناه أبصرنا معاصينا وسمعنا ما قيل فينا فَارْجِعْنا الى الدنيا نَعْمَلْ عملا صالِحاً مجذوم فى جواب الدعاء إِنَّا مُوقِنُونَ (12) الان بما كنا شاكّين فيه قبل وجواب لو محذوف تقديره لرايت امرا فظيعا ويجوز ان يكون لو للتمنى والمضي فى لو وإذ لكون الثابت فى علم الله بمنزلة الواقع ولا يقدر لترى مفعول لان المعنى لو يكون منك رؤية فى هذا الوقت او يقدر ما دل عليه صلة إذ يعنى لو ترى نكوس رءوسهم.
وَلَوْ شِئْنا ان نؤتى كل نفس هداها اى ما يهتدى به الى الايمان والعمل الصالح وخلق الانقياد للرسول باختياره قلبا وقالبا او المعنى لو شئنا هداية كل نفس لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ عاقلة من الجن والانس هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي اى ثبت قضائى بعدم هدايتهم وعدم اهتدائهم وكون مصيرهم الى النار او سبق وعيدى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اللام فيهما للعهد والمراد المجرمون من الفريقين الذين مرّ ذكرهم بدليل قوله أَجْمَعِينَ (13) عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم وعن علىّ رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد الا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما من كان من اهل السعادة فسييسر لعمل اهل السعادة واما من كان من اهل الشقاوة فسييسر لعمل اهل الشقاوة ثم قرأ فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى الاية متفق عليه وعن عبد الله ابن عمرو قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى يده كتابان فقال أتدرون(7/272)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله الا تخبرنا فقال للذى فى يمينه هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء اهل الجنة واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا ثم قال للذى فى شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء لاهل النار واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله ان كان امر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل اهل الجنة وان عمل اىّ عمل وان صاحب النار يختم له بعمل اهل النار وان عمل اىّ عمل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربّكم من العباد فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ- رواه الترمذي- وجملة لاملانّ جواب قسم محذوف وبيان للقول المذكور بتقدير هو او بدل عنه وجاز ان يكون حق القول فى حكم القسم يقال حقّا لافعلن كذا فعلى هذا يكون لاملانّ جوابا له وقال مقاتل المراد بالقول هو قوله تعالى لابليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وفى هذه تصريح بان عدم ايمانهم مسبب بعدم المشيّة- وحق القول اما تقرير لعدم المشية والمعنى ولكن شئت كفرهم ومصيرهم الى النار او تعليل لعدم المشية بسبق القضاء ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله.
فَذُوقُوا الفاء للسببية يعنى لما حقّ القول منّى كذلك فيقول لهم خزنة جهنم إذا دخلوها ذوقوا عذاب جهنم بِما نَسِيتُمْ اى بسبب نسيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ يعنى البعث والرجوع الى الله اى الى موقف حسابه هذا صفة ليومكم حتى عملتم موجبات العذاب إِنَّا نَسِيناكُمْ اى تركناكم من الرحمة او فى العذاب ترك المنسى وفى استينافه وبناء الفعل على ان واسمها تشديد فى الانتقام منهم وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) كرر الأمر للتوكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي كما علله بتركهم تدبر امر العاقبة والتفكر فيها دلالة على ان كل منهما يقتضى ذلك وهذه الاية حجة لنا على الجبرية والقدرية- اما على الجبرية فلقوله بما نسيتم حيث جعل سبب ذوق العذاب نسيانهم وتركهم الايمان والأعمال الصالحة باختيارهم واما على القدرية فانهم يقولون ان الله يشاء من عباده كلهم الايمان والأعمال الصالحة وهم تركوا الايمان بمشيتهم واختيارهم فالاية تدل على انه لا جبر ولا تفويض بل امر بين أمرين.
إِنَّما يُؤْمِنُ(7/273)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها اى وعظوا خَرُّوا وقعوا على وجوههم خوفا من عذاب الله سُجَّداً اى ساجدين وَسَبَّحُوا اى نزهوا عما لا يليق به كالعجز عن البعث بِحَمْدِ رَبِّهِمْ متلبسين بحمده يعنى حامدين له شكرا على ما وفقهم للاسلام وأتاهم الهدى قائلين سبحان الله وبحمده وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) عن الايمان والطاعة.
تَتَجافى حال من فاعل سبحوا اى ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ اى الفرش التي ينامون عليها يَدْعُونَ حال من الضمير المجرور فى جنوبهم وهو فاعل تتجافى على طريقة دابر هؤلاء مقطوع مصبحين رَبَّهُمْ خَوْفاً من سخطه وعذابه وَطَمَعاً فى رحمته وثوابه اخرج هناد عن اسماء بنت يزيد رضى الله عنها قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله يوم القيامة الناس فى صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيقوم مناد فينادى اين الذين كانوا يحمدون الله تعالى فى السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادى اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الخلق فيحاسبون- واخرج ابن راهويه وابو يعلى فى مسنديهما من حديثها نحوه وفيه ينادى اولا بصوت يسمع الخلائق سيعلم اهل الجمع من اهل الكرم قال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وجماعة العلماء هم المتهجدون الذين يقومون لصلوة الليل روى احمد والترمذي وابن ماجة وابن ابى شيبة وابن راهويه فى مسنديهما والحاكم عن معاذ قال قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلنى الجنة ويباعدنى من النار قال لقد سالت من عظيم وانه يسير على من يسره الله عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال الا ادلك على أبواب الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلوة الرجل فى جوف الليل ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يعملون ثم قال الا ادلّك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد ثم قال الا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا نبى الله فاخذ بلسانه وقال كف عليك هذا فقلت يا نبى الله وانا لمواخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس فى النار على وجوههم او على(7/274)
مناخرهم الا حصائد ألسنتهم.
وعن ابى مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فى الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن الان الكلام واطعم الطعام وتابع الصيام وصلّى بالليل والناس نيام- رواه البيهقي فى شعب الايمان- وروى الترمذي عن على نحوه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل- رواه مسلم وروى احمد الفصل الا خير بلفظ أفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة فى جوف الليل وروى البغوي عن ابن مسعود رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجب ربنا عن رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين حبه واهله الى صلوته فيقول الله لملائكته انظروا الى عبدى ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه واهله رغبة فيما عندى وشفقة ممّا عندى ورجل غزا فى سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه فى انهزامه وماله فى الرجوع فرجع حتى أهريق دمه فيقول الله لملائكته انظروا الى عبدى رجع رغبة فيما عندى وشفقة عما عندى حتى أهريق دمه وروى البغوي عن ابى هريرة ما قال ابن «1» رواحة
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات انّ ما قال واقع
يبيت يجافى جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
وقد ذكرنا ما ورد من الأحاديث فى فضائل صلوة الليل فى تفسير سورة المزّمّل واخرج الترمذي وصححه عن انس ان هذه الاية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ نزلت فى انتظار الصلاة التي تدعى العتمة- وقال البغوي قال انس نزلت هذه الاية فينا معشر الأنصار كنا نصلى المغرب فلا نرجع الى رحالنا حتى نصلى العشاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال عن انس ايضا قال نزلت فى أناس من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون من صلوة المغرب الى صلوة العشاء- أخرجه ابن مردوية عن انس وأصله فى سنن ابى داؤد وهو قول ابى حاتم ومحمد بن المنكدر وقالا هى صلوة الأوابين روى ابن نصر عن محمد بن المنكدر مرسلا من صلى ما بين المغرب والعشاء فانها صلوة الأوابين واخرج البزار بسند ضعيف
__________
(1) هذا فى كتب الرجال هو عبد الله بن رواحة الخزرجي شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى الأصل ابن ابى رواحة 12(7/275)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
عن بلال قال كنا نجلس فى المجلس وناس من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب الى العشاء فنزلت هذه الاية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- وقال البغوي عن ابى الدرداء وابى ذر- وعبادة بن صامت هم الذين يصلون العشاء الاخرة والفجر فى جماعة وروى مسلم واحمد عن عثمان رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى العشاء فى جماعة فكانما قام نصف الليل ومن صلى الصبح فى جماعة فكانما صلى الليل كله- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلمون ما فى النداء والصف الاول ثم لم يجدوا الا ان يستهموا عليه لاستهموا عليه ولو يعلمون ما فى التهجير لاستبقوا اليه ولو يعلمون ما فى العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا- رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد والنسائي.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) قيل أريد به الصدقة المفروضة وقيل عام فى وجوه الخير.
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ لا ملك مقرّب ولا نبى مرسل ما أُخْفِيَ لَهُمْ قرأ حمزة ويعقوب بياء ساكنة على انه مضارع أخفيت ويؤيده قراءة ابن مسعود نخفى بالنون والباقون بفتحها على انه ماض مبنى للمفعول مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ من زائدة وقرّة أعين فى محل النصب على قراءة حمزة وفى محل الرفع على قراءة الجمهور اى ممّا تقربه أعينهم عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اقرءوا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ متفق عليه قال هذا ما لا تفسير له جَزاءً منصوب على المصدرية او على العلية يعنى يجزون جزاء وأخفى للجزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) ذكر البغوي واخرج الواحدي وابن عساكر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه انه كان بين على بن ابى طالب رضى الله عنه والوليد بن عقبة بن ابى معيط تنازع وكلام فى شىء فقال الوليد لعلى عليه السلام اسكت فانّك صبى وانا والله ابسط منك لسانا وأشجع منك حبانا واملا منك حشوا فى الكتيبة فقال على اسكت فانك فاسق فانزل الله تعالى.
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً واخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار مثله واخرج الخطيب فى تاريخه وابن عدى من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس مثله واخرج الخطيب وابن عساكر من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس انها نزلت فى على بن ابى طالب وعقبة بن ابى معيط وذلك بسباب كان بينهما والاستفهام للانكار(7/276)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)
والفاء للعطف على محذوف تقديره أيستوي علىّ ولى الله المرتضى ووليد عدو الله أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كان كَمَنْ كانَ فاسِقاً يعنى خارجا عن اهل الايمان لا يكون ذلك لا يَسْتَوُونَ (18) فى الشوف والمثوبة أورد صيغة الجمع لان المراد جنس المؤمن والكافر والجملة تقرير لانكار الاستواء ولمّا كان الاستواء مجملا فصّله بقوله.
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى فانها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة يأوى إليها المؤمنون ويأبى عن دخولها الكافرون باختيارهم الشرك بالله نُزُلًا وو هو ما يعد للضيف حال من جنات وهو فاعل للظرف بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) اى بسبب أعمالهم.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا اى كفروا فَمَأْواهُمُ النَّارُ استبدلوها بجنات المأوى كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها عبارة عن خلودهم فيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) اهانة لهم وزيادة فى غيظهم.
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ عطف على ماوهم النّار مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى يعنى عذاب الدنيا قال أبيّ بن كعب والضحاك والحسن وابراهيم يعنى مصائب الدنيا وأسقامها وهو رواية الوالبي عن ابن عباس وقال عكرمة أراد بها الحدود وقال مقاتل الجوع سبع سنين بمكة حين أكلوا الجيف والعظام والكلاب وقال ابن مسعود هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدىّ دُونَ اى قبل الْعَذابِ الْأَكْبَرِ يعنى العذاب الاخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) الى الايمان يعنى من بقي منهم بعد القحط وبعد البدر.
وَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد اظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها ولم يتدبر فيها وثم لاستبعاد الاعراض عن مثل هذه الآيات مع فرط وضوحها وإرشادها الى السعادة فى الدارين إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) فكيف بمن كان هو اظلم من كل ظالم.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ جواب قسم محذوف وهو مع ما عطف عليه معترضة بين قوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وبين قوله إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يعنى كما اتيناك القرآن اتينا قبل ذلك موسى الكتب يعنى التورية فَلا تَكُنْ يا محمد فِي مِرْيَةٍ فى شك مِنْ لِقائِهِ اى الكتاب مصدر مضاف الى المفعول والفاعل محذوف يعنى من ان لقيت الكتاب الى القران فانه غير مبتدع ممّا لم يكن قبل حتى ترتاب فيه- او من ان لقى الموسى الكتاب بالرضاء والقبول كذا قال السدىّ واخرج(7/277)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ قال لقاء موسى ربه وقيل معناه لا تكن فى شك من لقائك موسى اى ليلة المعراج قاله ابن عباس وغيره- روى الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رايت ليلة اسرى بي موسى رجلا أدما طوالا جعدا كانّه من رجال شنوأة ورايت عيسى رجلا مربوع الخلق الى الحمرة والبياض سبط الراس ورايت مالكا خازن النار والدجال فى آيات أراهن الله إياه فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ- وعن ابن عباس قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بواد فقال اىّ واد هذا فقالوا وادي الأزرق قال كانى انظر الى موسى فذكر من لونه وشعره واضعا إصبعيه فى اذنيه له جؤار «رفع الصوت والاستغاثة- منه رح» الى الله بالتلبية مارّا بهذا الوادي- قال ثم سرنا حتى اتينا على ثنية فقال اىّ ثنية هذه فقالوا مرشا او لغت فقال كانى انظر الى يونس على ناقة حمراء عليه جبة صوف خطام ناقته حلبته مارّا بهذا الوادي ملبيا- رواه مسلم وقد ذكر فى سورة بنى إسرائيل فى حديث المعراج ان النبي صلى الله عليه وسلم راى موسى فى السماء السادسة ومراجعته فى امر الصلاة- وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا اسرى بي الى السماء رايت موسى يصلى فى قبره وَجَعَلْناهُ يعنى الكتاب الذي انزل على موسى وقال قتادة يعنى موسى كذا اخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جعل موسى هدى لبنى إسرائيل هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (24) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل أَئِمَّةً قادة فى الخير يقتدى بهم يعنى الأنبياء الذين كانوا فيهم وقال قتادة اتباع الأنبياء يَهْدُونَ النّاس الى ما فيه من الاحكام بِأَمْرِنا إياهم او بتوفيقنا لهم لَمَّا صَبَرُوا قرأ «ورويس- ابو محمد» حمزة والكسائي لما بكسر اللام وتخفيف الميم اى لصبرهم والباقون بفتح اللام وتشديد الميم اى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمصر- وفيه دليل على ان الصبر يورث امامة الناس وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) لامعانهم فيها بالنظر.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضى بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيميز المحق من المبطل متصل بقوله إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وفيه التفات من التكلم الى الغيبة فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) من امر الدين.
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف والفاعل ضمير راجع الى ربّك او ما دل عليه قوله كَمْ أَهْلَكْنا تقديره الم يعتبروا بمن سبقهم ولم يهد لهم ربك او كثرة إهلاكه مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ(7/278)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
الماضية بسبب كفرهم يَمْشُونَ اهل مكة فى أسفارهم فِي مَساكِنِهِمْ اى مساكن المهلكين إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك لَآياتٍ دلالات على قبح ما فعلوا من الكفر والمعاصي وعلى قدرتنا على الانتقام أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أيعرضون عن ايتنا فلا يسمعون سماع تدبر واتعاظ.
أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يتفكروا ولم يروا اى لم يعلموا بل قد علموا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي جرز نباتها اى قطع وازيل فَنُخْرِجُ بِهِ اى بالماء زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ اى من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتين والورق وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والثمر أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره الا يلقون انظارهم فلا يبصرون ما ذكرنا فيستدلون به على كمال قدرتنا وفضلنا وعلى انا قادرون على بعثهم بعد الموت- اخرج ابن جرير وذكره البغوي عن قتادة قال قال الصحابة للمشركين ان لنا يوما او شك ان نستريح فيه ونتنعم ويحكم الله بيننا وبينكم- قلت لعلهم يعنون يوم القيامة الذي يحكم الله فيه بين العباد وقال الكلبي يعنون فتح مكة وقال السدىّ يوم بدر لان اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون ان الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فقال المشركون استهزاء متى هذا الفتح فنزلت.
وَيَقُولُونَ يعنى كفار مكة عطف على مضمون أَفَلا يُبْصِرُونَ فان نفى أبصار آيات القدرة انكار للقدرة يعنى اينكرون القدرة ويقولون استهزاء مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) فيما تقولون فبينوا لنا وقته.
قُلْ يا محمد جملة مستأنفة فى جواب ماذا أقول لهم حين قالوا ذلك يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ المتبادر منه ان المراد بيوم الفتح يوم القيمة لان ايمان ذلك اليوم لا ينفع البتة ومن حمل الفتح على فتح مكة او يوم بدر قال معناه لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقتلوا او ماتوا على الكفر ايمانهم حين راووا العذاب بعد موتهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) اى يمهلون ووجه تطبيق هذا الجواب بسوالهم عن يوم الفتح ان سوالهم ذلك كان استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء فاجيبوا على حسب ما عرف من عرضهم فى سوالهم- فكانّ التقدير لا تستعجلوا به ولا تستهزءوا فكانّى بكم وأنتم فى ذلك اليوم وأمنتم به فلم ينفعكم ايمانكم واستنظرتم فى درك العذاب فلم تنظروا.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الفاء للسببية يعنى إذا عرفت حالهم(7/279)
وما لهم فاعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم قال ابن عباس نسختها اية السيف وَانْتَظِرْ موعدى لك بالفتح إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) بك حوادث الزمان وقيل انتظر عذابنا فيهم فانهم ينتظرون ذلك.
عن ابى هريرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فى الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ- وعن جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ رواه احمد والترمذي والدارمي وقال الترمذي هذا حديث صحيح وعن خالد بن معدان قال بلغني فى الم تنزيل ومثله فى تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ان رجلا كان يقراهما ما يقرأ شيئا غيرهما وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه وقالت رب اغفر له فانه كان يكثر قراءتى فشفعها الرب تعالى فيه وقال اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة- وقال ايضا انها تجادل عن صاحبها فى القبر تقول ان كنت من كتابك فشفعنى فيه وان لم أكن من كتابك فامحنى عنه وانها تكون كالطير تجعل جناحها عليه فتشفع له فتمنعه من عذاب القبر وقال فضلتا على كل سورة فى القران بستين حسنة- رواه الدارمي وعن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم من قرأ الم تنزيل وتبارك الملك اعطى من الاجر كانما احيى ليلة القدر- رواه الثعلبي وابن مردوية وروى ابن مردوية عن ابن عمر نحوه- قال السيوطي هذا حديث موضوع والله اعلم تم تفسير سورة الم تنزيل يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب من السنة السادسة بعد الف وماتين سنه 1206 ويتلوه ان شاء الله تعالى سورة الأحزاب.(7/280)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
سورة الأحزاب
مدنيّة وهى ثلاث وسبعون اية قال أبيّ بن كعب لذرّكم تعدون سورة الأحزاب قال ثلاثا وسبعين اية قال فو الذي يحلف به أبيّ ان كانت لتعدل سورة البقرة او أطول ولقد قرأنا منها اية الرجم الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم- ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال ان اهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة ابن ربيعة دعووا النبي صلى الله عليه وسلم الى ان يرجع عن قوله على ان يعطوه شطرا من أموالهم وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة ان لم يرجع قتلوه فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ الاية ناداه بالنبي ولم يقل يا محمد وامره بالتقوى تعظيما وتفخيما لشأن التقوى- وقال البغوي نزلت الاية فى ابى سفيان بن الحرب وعكرمة ابن ابى جهل وابى الأعور عمرو بن سفيان السلمى وذلك انهم قدموا المدينة فنزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الامان على ان يكلموه- فقام معهم عبد الله بن ابى سعد وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم (وعنده عمر بن الخطاب) ارفض ذكر الهتنا اللات والعزى ومناة وقل ان لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم فقال عمر يا رسول الله ايذن لى فى قتلهم فقال انى قد اعطيتهم الامان فقال اخرجوا فى لعنة الله وغضبه فامر النبي صلى الله عليه وسلم ان يخرجوهم من المدينة فانزل الله تعالى هذه الاية- قيل الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به الامة وقال الضحاك معناه اتق ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم وقيل الخطاب للنبى صلى(7/281)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
الله عليه وسلم للامر بالثبات عليه ليكون مانعا عمّا نهى عنه بقوله وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من اهل مكة يعنى أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور وَالْمُنافِقِينَ من اهل المدينة عبد الله ابن ابى وعبد الله بن سعد وطعمة بن أبيرق إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخلقه ومصالحهم ومفاسدهم حَكِيماً (1) لا يحكم الا على وفق الحكمة.
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من التوحيد والإخلاص لله هذه الجملة بمنزلة التأكيد للتقوى وعدم إطاعة الكفار إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) قرأ ابو عمرو بالياء فى يعملون خبيرا ... يعملون بصيرا للغيبة والضمير عائد للكافرين والمنافقين يعنى ان الله خبير بمكائدهم يجازيهم عليها وقرأ الباقون بالتاء خطابا للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه فان الأمر بالتقوى وان كان بصيغة الواحد لكن المراد هو وأمته وعلى هذا الجملة تأكيد لامتثال الأمر طمعا فى حسن الجزاء وخوفا عن قبحه.
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ اى ثق به وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) موكولا اليه الأمور كلها تذييل وقال الزجاج عطف على توكل لفظه خبر ومعناه امر اى اكتف بالله وكيلا تميز من النسبة اى اكتف بالله وكيلا يعنى اكتف بوكالته وفى صيغة الأمر اشعار على التعليل للامر بالتوكل والاكتفاء يعنى من كان الله مع كمال علمه وقدرته ورحمته موكولا اليه أموره لا يحتاج الى توكيل غيره فتوكيل أموره الى غيره سفه والله اعلم.
ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ من زائدة وهو فى محل النصب على انه مفعول أول لجعل ولرجل مفعوله الثاني فِي جَوْفِهِ ظرف لغو او صفة لقلبين اعلم ان القلب معدن للروح الحيواني ومنبع للقوى بأسرها وذلك يمنع التعدد إذ لو كان لرجل قلبان فاما ان يفعل بكل واحد منهما شيئا واحدا من افعال القلوب فالثانى فضلة لا حاجة اليه واما ان يفعل بكل واحد غير ما يفعل به الاخر وحينئذ يفضى الى التناقض ذكر البغوي وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن السدىّ وابن نجيح عن مجاهد انها نزلت فى ابى معمر جميل بن معمر الفهري كان رجلا لبيبا حافظا لما يسمع فقالت قريش ما حفظ ابو معمر هذه الا وله قلبان وكان يقول ان لى قلبين اعقل بكل واحد منهما أفضل مما عقل محمد- فلما انهزم قريش يوم بدر وانهزم فيهم ابو معمر لقيه ابو سفيان واحدي نعليه فى يده والاخرى برجله فقال له يا أبا معمر ما حال الناس قال انهزموا قال مالك احدى نعليك بيدك والاخرى(7/282)
برجلك قال ابو معمر ما شعرت الا انهما فى رجلى فعلموا يومئذ انه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده واخرج ابن ابى حاتم من طريق خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة قالوا كان رجل يدعى ذا القلبين فنزلت فيه واخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس مثله ومن طريق قتادة عن الحسن مثله وزاد وكان يقول نفسى يأمرنى ونفسى ينهانى- واخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطر خطرة فقال المنافقون الذين معه الا ترى ان له قلبين قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فانزل الله تعالى هذه الاية- وقال الزهري ومقاتل هذا مثل ضربه الله عز وجل للمظاهر من امرأته وللمتبنّى ولد غيره يقول فكما لا يكون لرجل قلبان لامتناع اجتماعهما لا تكون امراة المظاهر امّا له لامتناع اجتماع النسبتين ولا يكون ولد غيره ولدا له لامتناع اجتماع النسبتين- وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي قرأ قالون «ويعقوب- ابو محمد» وقنبل اللّاء هنا وفى المجادلة والطلاق بالهمزة «الحقيقة- ابو محمد» من غير ياء «وابو جعفر- ابو محمد» وورش بياء مختلسة «اى بهمزة سلمة بغير ياء- ابو محمد» الكسرة خلفا من الهمزة وإذا وقف صيرها ياء ساكنة والبزي وابو عمرو «بخلاف عنه ما وصلا والوجه الثاني لها ورش ابو محمد» بياء ساكنة بدلا من الهمزة فى الحالين والباقون بالهمزة بعدها ياء فى الحالين وحمزة إذا وقف جعل الهمزة بين بين على أصله ومن همز منهم ومن لم يهمز أشبع التمكين للالف فى الحالين الا ورشا «ومن معه- ابو محمد» فان المد والقصر جائز ان عنه تُظْهِرُونَ قرأ عاصم بضم التاء وتخفيف الظاء والف بعدها وكسر الهاء من المفاعلة وحمزة و «خلف- ابو محمد» الكسائي بفتح التاء والهاء وبالألف مخففا من التفاعل بحذف احدى التاءين وقرأ ابن عامر بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء وبالألف ايضا من التفاعل لكن بإدغام التاء بعد القلب بالظاء والإسكان فى الظاء والباقون بفتح التاء والهاء «المشددة- ابو محمد» وتشديد الظاء بغير الف من التفعل بإدغام التاء فى الظاء على ما بيّنّا مِنْهُنَّ عدى التظاهر بمن لتضمنه معنى التجنب لانه كان طلاقا فى الجاهلية فعدل فى الشرع الى الحرمة المنتهية بالكفارة أُمَّهاتِكُمْ صورة المظاهر ان يقول الرجل لزوجته أنت علىّ كظهر أمي وقد ذكرنا مسائل الظهار فى سورة المجادلة- قال البيضاوي ذكر الظهر فى الظهار للكناية عن البطن الذي هو عموده فان ذكره تقارب ذكر الفرج او للتغليظ فى التحريم فانهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها الى السماء وَما جَعَلَ الله أَدْعِياءَكُمْ اى الذين تبنيتهم جمع دعى على الشذوذ وكان قياسه(7/283)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
دعوى كجرحى جمع جريح لانه فعيل بمعنى مفعول كانّه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه كتقىّ وأتقياء وسخى وأسخياء وشقى وأشقياء أَبْناءَكُمْ فلا يثبت بالتبني شىء من احكام النبوة من الإرث وحرمة النكاح وغير ذلك- وفى الاية ردّ لما كانت العرب تقول من ان اللبيب الأريب له قلبان والزوجة المظاهر منها تبين من زوجها وتحرم عليه كالام ودعى الرجل ابنه يرثه ويحرّم بالتبني ما يحرم بالنسب وقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم أعتق زيد بن حارثة بن شرحبيل الكلبي وتبنّاه قبل الوحى وأخا بينه وبين حمزة بن عبد المطلب- فلما تزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد ما طلقه زيد وكانت امرأته وقال المنافقون تزوج محمد امراة ابنه وهو ينهى عن ذلك انزل الله تعالى هذه الاية ذلِكُمْ اشارة الى كل ما ذكر قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ يعنى لا حقيقة لها فى الأعيان كقول الهاذىّ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ يعنى ماله حقيقة فى الأعيان تطابق قوله وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) اى يرشد الى سبيل الحق- روى الدارمي عن عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهل بن عمرو (وكانت تحت ابى حذيفة بن عتبة ابن ربيعة) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ان سالما مولى ابى حذيفة يدخل علينا وانا فضل «1» وانما نراه ولدا وكان ابو حذيفة تبنّاه كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا فانزل الله تعالى.
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ يعنى انسبوهم الى ابائهم الذين خلقوا من نطفهم افراد للمقصود من أقواله الحقة هُوَ الدعاء لابائهم أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل لقوله ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ واقسط اسم تفضيل أريد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل ومعناه البالغ فى الصدق واخرج البخاري عن ابن عمر قال ما كنا نقول زيد بن الحارثة الا زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم حتى نزل القران ادعوهم لابائهم هو اقسط عند الله فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ حتى تنسبوا اليه فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ اى فهم إخوانكم فى الدين وأولياءكم فقولوا هذا أخي فى الدين ومولائى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى اثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ اى فيما نسبتم المتبنّى الى المتبنّى مخطئين قبل النهى او بعده على النسيان او سبق اللسان وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ
__________
(1) فضل اى مبتذلة فى ثياب مهنتها يقال تفضلت المرأة إذا لبست ثياب مهنتها او كانت فى ثوب واحد فهى فضل والرجل فضل ايضا 12 نهايه منه رحمه الله-(7/284)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
قُلُوبُكُمْ اى لكن الجناح فيما تعمّدت قلوبكم او لكن ما تعمّدت قلوبكم ففيه الجناح عن سعيد بن ابى وقاص وابى بكرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ادعى الى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام- رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد وابو داؤد وابن ماجة وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ادعى الى غير أبيه او أنتما الى غير مواليه فعليه لعنة الله المتتابعة الى يوم القيامة- رواه ابو داؤد وقال السيوطي صحيح وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) يعفوا عن المخطئ قال البيضاوي اعلم ان التبنّي لا عبرة له عندنا (يعنى عند الشافعي رحمه الله) وعند ابى حنيفة رحمه الله يوجب عتق مملوكه ويثبت النسب لمجهوله الذي يمكن الحاقه به- وهذا سهو منه فان عند ابى حنيفة رحمه الله لا يعتق المملوك بقوله تبنيتك وجعلتك ابني وكذا لا يثبت النسب إذا قال لمجهول النسب تبنيتك وجعلتك ابني بل عنده ان السيد إذا قال لعبده هذا ابني يعتق عليه سواء كان يولد مثله لمثله اولا تصحيحا لكلامه وحملا له على المجاز كانّه قال هذا حرّ إطلاقا للسبب على المسبّب إذ النبوة سبب للحرية لقوله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه رواه احمد واصحاب السنن وقد خالف أبا حنيفة صاحباه فيما إذا قال لعبده هو اكبر سنا منه هذا ابني قانهما قالا لا يعتق بناء على خلافية فى الأصول ان المجاز عنده خلف عن الحقيقة فى التكلم دون الحكم فاذا صح التكلم بالحقيقة صح التجوز عنده وعتق عليه وعندهما خلف له فى الحكم فاذا لم يمكن الحكم بالحقيقة لم يصح التجوز خلفا ولم يعتق عليه ومن قال لمجهول النسب هذا ابني وهو بحيث يمكن ثبوت النسب منه يثبت نسبه لكونه ماخوذا بإقراره والتزام النسب خالص حقه ولاجل ذلك من قال لمجهول النسب هذا أخي لا يثبت نسبه من أبيه غير انه إذا مات المقر بالنسب على الغير مصرّا على إقراره ولم يكن له وارث اخر يرث المقر له منه لعدم المزاحم وهو مقدم على بيت المال عندنا لا على أحد من الورثة وان كانوا من ذوى الأرحام ولا على الموصى له بجميع المال والله اعلم.
قال البغوي قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس الى الجهاد فيقول قوم نذهب فنستأذن من ابائنا وأمهاتنا فنزلت.
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى من بعضهم لبعض فى نفوذ الحكم عليهم ووجوب طاعته عليهم فلا يجوز(7/285)
إطاعة الآباء والأمهات فى مخالفة امر النبي صلى الله عليه وسلم وهو اولى بهم فى الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه- قال ابن عباس وعطاء يعنى إذا دعاهم النبي الى شىء ودعتهم أنفسهم الى شىء كانت طاعتهم للنبى اولى بهم من طاعتهم لانفسهم وذلك لانه عالم بمصالحهم ومفاسدهم بتعليم الله تعالى ولا يأمرهم ولا يرضى منهم الا ما فيه صلاحهم ونجاحهم قال الله تعالى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ بخلاف أنفسهم فانّها امّارة بالسوء الا من رحم الله وهى ظلوم جهول فيجب عليهم ان يكون الله أحب إليهم من أنفسهم فامره انفذ عليهم من أمرها وشفقته أوفر من شفقتها عليها- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده والناس أجمعين متفق عليه من حديث انس وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مؤمن الا وانا اولى به فى الدنيا والاخرة اقرءوا ان شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فايما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا او ضياعا فليأتنى فانا مولاه- رواه البخاري وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ فى تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأبيد لا فى النظر إليهن والخلوة بهن فانه حرام فى حقهن كما فى حق الاجنبيات قال الله تعالى وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين ولا لاخوتهن وأخواتهن أخوال المؤمنين وخالاتهم- قال الشافعي تزوج الزبير اسماء بنت ابى بكر وهى اخت أم المؤمنين عائشه ولم يقل هى خالة المؤمنين- قلت وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بناته بعلى وعثمان قال البغوي روى الشعبي عن مسروق ان امرأة قالت لعائشة يا امه فقالت لست لك بام انما انا أم رجالكم- وكذا اخرج البيهقي فى سننه فبان بهذا انه تعالى أراد تحريم النكاح وفى قراءة أبيّ بن كعب وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وهو اب لّهم يعنى فى الدين فان كل نبى اب لامته من حيث انه اصل فيما به الحيوة الابدية ولذلك صار المؤمنون اخوة وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ اى فى حكم الله او فى اللوح المحفوظ او فى القران وهو هذه الاية او اية المواريث يعنى فى التوارث ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فايما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ صلة لاولى ومن(7/286)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
تفصيلية والاية ناسخة لما كان فى ابتداء الإسلام التوارث بالهجرة والموالاة فى الدين قال البغوي ... قال قتادة كان المسلمون يتوارثون بالهجرة وقال الكلبي أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس وكان يواخى بين رجلين فاذا مات أحدهما ورثه الاخر عصبة حتى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ- وهذه الاية بعمومه حجة لنا على الشافعي فى توريث اولى الأرحام ممن ليس بذي فرض ولا عصبة عنه عدم ذوى الفروض والعصبات وعند عدم أحد من اولى الأرحام يوضع المال فى بيت المال إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ اى اصدقائكم من المؤمنين والمهاجرين مَعْرُوفاً اى وصية فالموصى له من الأصدقاء اولى من الورثة وهذا عام خص منه البعض بالسنة والإجماع فهو اولى من الورثة فى ثلث المال دون كله وهذا استثناء من أعم ما يقدر الاولويّة فيه من النفع او منقطع وذلك ان الله لمّا نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح ان يوصى بمن يتولاه بما أحب من الثلث- وقيل من فى قوله تعالى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ بيانية والمعنى وَأُولُوا الْأَرْحامِ من المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يعنى لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ اى اقربائكم وصية وان كانوا من غير اهل الايمان والهجرة قال البغوي هذا قول قتادة وعكرمة وعطاء- قلت وعلى هذا يخلوا فعل من اللام والاضافة ومن التفضيلية ثم كون اولى الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم اولى ببعض لا يقتضى نفى التوارث بين المسلم والكافر لا بالمنطوق وهو ظاهر ولا بالمفهوم لان كون المؤمن اولى لا يدل على نفى ميراث كافر من مؤمن عند
عدم وارث مؤمن والله اعلم كانَ ذلِكَ اى ما ذكر فِي الْكِتابِ اى فى اللوح المحفوظ او القران وقيل فى التورية مَسْطُوراً (6) ثابتا مرقوما.
وَاذكر إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ أجمعين مِيثاقَهُمْ عهودهم حين اخرجوا من صلب آدم قال أخذ الله ميثاقهم على ان يعبدوا الله ويدعوا الناس الى عبادته وينصر بعضهم بعضا وينصحوا لقومهم وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خصهم بالذكر بعد التعميم لفضلهم لكونهم اصحاب الشرائع والكتب واولى العزم من الرسل وقدم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فى الذكر تعظيما له واشعارا بما اخبر عنه صلى الله(7/287)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
عليه وسلم حيث قال كنت أول الناس فى الخلق وآخرهم فى البعث رواه سعد عن قتادة مرسلا ورواه البغوي متصلا عن قتادة عن الحسن عن ابى هريرة وقال قال قتادة وذلك قول الله عزّ وجلّ وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الاية فبدأ به صلى الله عليه وسلم قبلهم- وروى ابن سعد وابو نعيم فى الحلية عن ميسرة الفجر بن سعد عن ابى الجدعاء والطبراني فى الكبير عن ابن عباس بلفظ كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً عهدا على الوفاء بما عهدوا غَلِيظاً (7) شديدا عظيم الشان او مؤكدا بالايمان والتكرير لبيان هذا الوصف.
لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ اى فعلنا ذلك ليسئل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهودهم عمّا قالوه لقومهم او عن تصديقهم إياهم تبكيتا لهم او المصدقين لهم عن تصديقهم فان مصدق الصادق صادق او المؤمنين الذين صدقوا عهودهم حتى اشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) عطف على أخذنا من جهة ان بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لاثابة المؤمنين او على ما دل عليه قوله لِيَسْئَلَ كانّه قال فاثاب للمؤمنين وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً....
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ ظرف لنعمة جُنُودٌ اى كفار قريش وغطفان ويهود قريظة كانوا زهاء اثنى عشر الف حتى حاصروا المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم خندقا حولهم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعنى الصبا روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور أرسل الله عليهم ريحا باردة فى ليلة شاتية فقطعت الأوتاد واطناب الفساطيط واطفأت النيران واكفأت القدور وجالت الخيل بعضها فى بعض وَجُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها حتى كثر تكبير الملائكة فى جوانب عسكرهم والقى الرعب فى قلوبهم حتى كان سيد كل قوم يقول يا بنى فلان هلموا الىّ فاذا اجتمعوا عنده قال النجا النجا أبيتم فانهزموا من غير قتال ولم تقاتل الملائكة يومئذ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ ايها المؤمنون من حفر الخندق والتهيؤ للقتال هذا على قراءة الجمهور واما على قراءة البصريين فالمعنى وكان الله بما يعمل المشركون من التحزب(7/288)
والمحاربة بَصِيراً (9) رائيا وكان ذلك الوقعة فى شوال سنة اربع من الهجرة كذا فى مواهب اللدنية من قول موسى بن عقبة بعد ثمانية أشهر من اجلاء بنى النضير وكان اجلاؤهم وتفرقهم فى البلاد ولحوق سلام بن ابى الحقيق وكنانة بن الربيع وحيى بن اخطب وغيرهم بخيبر فى ربيع الاول سنة اربع والمشهور انه فى شوال سنة خمس من الهجرة كذا قال محمد بن إسحاق.
قال البغوي قال محمد بن إسحاق حدثنى يزيد بن رومان مولى ال الزبير عن عروة بن الزبير وعن عبد الله بن كعب بن مالك وعن الزهري وعاصم بن عمرو بن قتادة وعن عبد الله بن ابى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعن محمد بن كعب القرظي وغيرهم من علمائنا دخل حديث بعضهم بعضا ان نفرا من اليهود منهم سلام بن ابى الحقيق وحيى بن اخطب وكنانة بن الربيع بن ابى الحقيق وهودة بن قيس وابو عامر الوائىّ فى نفر من النضير ونفر من بنى وائل (وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم الى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا انا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال لهم قريش يا معشر اليهود انكم اهل الكتاب الاول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد فديننا خير أم دينه قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم اولى بالحق منه (قال فهم الذين انزل الله فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ الى قوله وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) فلمّا قالوا ذلك لقريش سرهم ما قالوا ونشطو الى ما دعوهم اليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوا لذلك- ثم خرج أولئك النفر من اليهود حتى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم الى ذلك واخبروهم انهم سيكونون معهم عليه وان قريشا قد بايعوهم فاجابوهم.
قلت روى انه كان رجال بنى نضير وبنى وائل نحوا من عشرين رجلا فقال لهم ابو سفيان بن حرب مرحبا بكم أحب الرجال عندنا من عاهدنا على عداوة محمد فقالوا لابى سفيان اختر لنا خمسين رجلا من بطون قريش وتكون منهم حتى ندخل نحن وأنتم فى أستار الكعبة ونلزق صدورنا بجدران الكعبة ثم نحلف على ان نتفق على عداوة محمد وتكون كلمتنا واحدة ونتعاهد على ان نحارب محمدا ما بقي منا رجل(7/289)
واحد ففعلوا ذلك- ولما قدم اليهود على غطفان بعد المعاهدة مع قريش حرضوهم على القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوهم على ذلك بتمر سنة ما كان على نخيل خيبر وقيل بنصف ذلك فأجاب عيينة بن حصين الفزاري رئيس غطفان قولهم بذلك الشرط اى بشرط إعطاء تمر سنة وكتب عيينة الى حلفائه من بنى اسد فجاءوا عنده- قال البغوي فخرجت قريش قائدهم ابو سفيان بن حرب وغطفان وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر فى بنى فزارة والحارث بن عوف بن ابى حارثة المزي فى بنى مرة ومسعر بن رحيلة بن نويرة بن طريف فيمن تابعه من قومه من أشجع.
قلت روى ان أبا سفيان جمع العسكر اربعة آلاف رجل واعطى رأيته عثمان بن ابى طلحة وكان فى عسكرهم ثلاث مائة فرس والف بعير حين خرجوا من مكة ونزلوا مر الظهران واجتمع هناك اسلم وأشجع وبنو مرّة وبنو كنانة وفزارة وغطفان حتى صاروا عشرة آلاف وساروا بأجمعهم الى المدينة ولذلك سمى غزوة الأحزاب.
قال البغوي فلمّا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما اجتمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي وكان أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر فقال يا رسول الله انا كنا بفارس إذا حصرنا خندقنا علينا فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحكموه قلت روى انه صلى الله عليه وسلم لما سمع الخبر قال حسبنا الله ونعم الوكيل وجمع أسراء المهاجرين والأنصار واستشارهم فى ذلك وأشار سلمان بضرب الخندق فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم وخرج غازيا واعطى لواء المهاجرين زيد بن حارثة ولواء الأنصار سعد بن عبادة وخرج معه ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار- قلت روى ان معهم ستة وثلاثون فرسا وخرج معه صبيان لم يبلغوا الحلم فردهم الى المدينة من كان منهم لم يبلغ خمسة عشر سنة وأجاز منهم للقتال من كان منهم ابن خمسة عشر سنة منهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وابو سعيد الخدري وبراء بن عازب فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعا لاجل الخندق فى بعض أطراف المدينة فاختار موضعا بقرب جبل(7/290)
سلع جعل جبل سلع على ظهر العسكر وخط خطّا للخندق بينه وبين الكفار- قال البغوي أخبرنا عن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه قال خط رسول الله صلى الله عليه وسلم عامّ الأحزاب ثم قطع لكل عشر أربعين ذراعا- قال احتج المهاجرون والأنصار فى سلمان الفارسي وكان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا اهل البيت.
قال عمر بن عوف كنت انا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار فى أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا بجنب ذى باب اخرج الله من بطن الخندق صخرة مردة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلت يا سلمان ارق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فان راى ان نعدل عنها فان المعدل قريب واما ان يأمرنا بامره فانا لا نحب ان نجاوز خطه فرقى سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية- قال فخرجت صخرة بيضاء من مروة من بطن الخندق فكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيبك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بامرك فانا لا نحب ان نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة التي فى الخندق فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان فضربها به ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكانّ مصباحا فى بيت جوف مظلم فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبّر المسلمون ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية فكسرها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكانّ مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها- فاخذ بيد سلمان ورقي فقال سلمان بابى أنت يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم الى القوم فقال رأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم قال ضربت ضربتى الاولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لى قصور الحيرة ومدائن كسرى كانها أنياب الكلاب وأخبرني جبرئيل عليه السّلام ان أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربة الثانية فبرق الذي رايتم أضاءت لى منها قصور الحمرة من الروم كانها أنياب الكلاب فاخبرنى جبرئيل ان أمتي(7/291)
ظاهرة عليها فابشروا فاستبشر المسلمون وقالوا الحمد لله الذي موعده صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون الا تعجبون من محمد يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وانها تفتح لكم وأنتم انما تحفرون الخندق من الغرق لا تستطيعون ان تبرزوا قال فنزل القران وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وانزل فى هذه القصة قل اللهمّ مالك الملك الاية.
روى البخاري فى الصحيح عن انس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الخندق فاذا المهاجرون والأنصار يحفرون فى غداة باردة ولم يكن لهم عبيد يعملون ذلك فلمّا راى ما بهم من النصب والجوع قال
ان العيش عيش الاخرة ... فاغفر الأنصار والمهاجرة
فقالوا مجيبين له
نحن الذين بايعوا محمّدا ... هلى الجهاد ما بقينا ابدا
وروى ايضا فى الصحيح عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته ينقل تراب الخندق حتى وارى على الغبار جلد بطنه وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل من التراب يقول
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فانزل سكينة علينا ... وثبت الاقدام ان لاقينا
ان الاولى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا
ثم يمدّ صوته بآخرها وفى رواية والله لولا الله ما اهتدينا الى آخره قلت وروى ان سلمان كان رجلا قويا يعمل فى الخندق عمل عشرة من الرجال ويروى انه كان يحفر الخندق كل يوم خمسة اذرع فى عمق خمسة اذرع فاصابه عين من قيس بن ابى صعصعة فصرع فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيسا ان يتوضأ لسلمان ويجعل وضوءه فى اناء ويضل به سلمان ويلقى الإناء خلفه منكوسا ففعلوا ذلك فبرئ سلمان.(7/292)
وروى احمد والبخاري فى الصحيح عن جابر بن عبد الله قال كنا يوم الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت لنا كدبة «بضم الكاف القطعة الصلبة الصماء- منه رح» شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كدية من الجبل عرضت فقال انا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة ايام لا نذوق ذواقا فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول فعادت كثيبا اهيل او اهيم فقلت يا رسول الله ايذن لى البيت فقلت لامراتى انى رايت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديد اما فى ذلك صبر فعندك شىء فاخرجت لى جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن «1» فذبحتها وطحنت ففرغت الى فراغى وقطعتها فى برمتها «البرمة القدر- منه رح» والعجين قد انكسر «2» والبرمة بين الأثافي «الحجارة التي توضع عليها القدر- منه رح» فى قدر كادت ان تنضج ثم ولّيت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا تفضحنى برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه فجئته فساررته فقلت طعيم لى يا رسول الله فقم أنت ورجل او رجلان قال كم هو فذكرت له قال كثير طيب قل لها لا تنزع البرمة والخبز من التنور حتى اتيكم واستقر صحافا ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا اهل الخندق ان جابرا صنع لكم سورا «3» فحى «4» هلابكم- فقلت ويحك «5» جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم فقالت بك «6» وبك هل سألك فقلت نعم فقالت الله ورسوله اعلم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ادخلوا ولا تضاغطوا «اى لا تزوحموا- منه رح» فاخرجت له عجينا فبسق فيه وبارك ثم عمد الى برمتنا فبسق فيها وبارك ثم قال يا جابر ادع خابزة فلتخبز معك واقدحى «اى اغرقى- منه رح» من برمتك ولا تنزلوها- وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم يخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب الى أصحابه ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف اللحم حتى شبعوا وهم الف- قال جابر فاقسم بالله لاكلوا حتى تركوه وانحرفوا وان برمتنا لتغط «7» كما هى وان عجيننا ليخبز كما هو ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلى واهدى فان الناس أصابتهم مجاعة فلم نزل
__________
(1) الشاة التي يعلقها الناس فى منازلهم- نهاية منه رح
(2) اى لان ورطب وتمكن من الخبز- منه رح
(3) اى طعاما يدعو اليه الناس واللفظ فارسية- نهاية جزرى منه رح [.....]
(4) حى هلا كلمة استدعاء فيها حث اى هلموا مسرعين- نهاية منه رح
(5) ويح كلمة ترحم- منه رح
(6) اى جعل الله بك كذا وكذا او فعل بك كذا وكذا والموحدة متعلق بمحذوف 12 نهاية منه رح
(7) اى تفلى وتفور- منه رح-(7/293)
نأكل ونهدى يومنا- قلت وقد صح انهم قد فرغوا من امر الخندق فى ستة ايام.
قال البغوي رجعنا الى حديث ابن إسحاق فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش بمجتمع الاخبال من دومة الجرف والغابة فى عشر آلاف من أحابيشهم «1» ومن تابعهم من اهل التهامة وأقبلت غطفان ومن تابعهم من اهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى الى جانب أحد- وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم الى سلع فى ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب هنا لك عسكره والخندق بينه وبين القوم وامر بالذراري والنساء فرفعوا الى الآطام. «الاجنبية المرتفعة كالحصون- نهادينه رح» وخرج عدو الله حيى ابن اخطب من بنى النضير حتى اتى كعب بن اسد القرظي صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه وعاهده ذلك فلما سمع كعب بحيي بن اخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فابى ان يفتح له فناداه حيى يا كعب افتح لى فقال ويحك يا حيى امر اشوم انى قد عهدتّ محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه ولم أر منه الا الوفاء والصدق قال ويحك افتح أكلمك قال ما انا بفاعل قال والله ان غلقت دونى الا لخشيتك ان أكل معك منها فاحفظ الرجل ففتح له الباب فقال يا كعب جئتك بعز الدهر ببحر «اى مرتفع منه رح» طام جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى انزلتهم بمجتمع الاسبال من دومة وغطفان على قادتها وسادتها حتى امسى بذنب نقمى الى جانب أحد فتعاهدونى وتعاقدونى ان لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال كعب بن اسد جئتنى والله بذل الدهر وبجهام قد أهرق «اى صب 12 منه رح» ماؤه برعد وبرق ليس فيه شىء فدعنى ومحمدا وما انا عليه فانى لم ار من محمّد الا صدقا ووفاء فلم يزل حيى بن اخطب بكعب يقتله «2» فى الذروة والغارب حتى سمح له على ان أعطاه من الله عهدا وميثاقا لان رجعت قريش ولم يصيبوا محمدا ان ادخل معك فى حصنك حتى يصيبنى ما أصابك- فنقض كعب بن اسد عهده وبرئ ممّا كان
__________
(1) احياء من القارة انضموا الى بنى ليث فى محاربتهم قريشا- نهاية منه رح
(2) يفتله فى الذروة والغارب هذا مثل وأصله فى البعير يستصعب عليك فتأخذ القراد من ذروته وغاب سنامه وتفتل هناكه فيجد البعير مهرة فيستأنس عند ذلك فضرب هذا الكلام مثلا فى المراوضة والمخاتلة والذروة والغارب أعلى ظهر البعير يعنى لم يخل يخدعه 12 منه رحمه الله-(7/294)
عليه فيما بينه وبين محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى الى رسول الله الخبر والى المسلمين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أحد بنى الأشهل وهو يومئذ سيد الأوس وسعد بن عبادة أحد بنى ساعدة وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله ابن رواحة أخو بنى الحارث بن الخزرج وخوّات بن جبير أخو بنى عمرو بن عوف فقال انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغني عن هؤلاء القوم أم لا فان كان حقّا الحنوا الىّ لحنا «1» أعرفه لا تفتوا «اى لا تكسروا قوائهم بإدخال الرعب فى قلوبهم- منه رح» أعضاد الناس وان كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به الناس فخرجوا حتى أتوهم فوجدوا على أخبث ما بلغهم منهم ومالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لا عقد بيننا وبين محمد فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه وكان رجلا فيه فقال سعد بن معاذ دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم اربى «أزيد- منه رح» من المشاتمة ثم اقبل سعد وسعد ومن معهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه وقالوا عضل «2» والقارة لعذر عضل والقارة باصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله اكبر ابشروا يا معشر المسلمين وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن ونجم «3» النفاق من بعض المنافقين حتى قال معتب بن قشير أخو بنى عمرو بن عوف كان محمد يعدنا ان ناكل كنوز كسرى وقيصر واحدنا لا يقدر ان يذهب الى الغائط ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً وحتى قال أوس بن قبطى أحد بنى حارثة يا رسول الله إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وذلك على ملا من رجال قومه فاذن لنا فلنرجع الى ديارنا فانها خارجة من المدينة- قلت روى انه لما نقض كعب عهده الذي كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزم على ذلك جمع اشراف قومه منهم زبير بن بلطا ونباش بن قيس وعقبة بن زيد وغيرهم وأخبرهم بذلك لاموه أشد ملامة وكرهوا ذلك حتى ندم كعب على ذلك ولكن لم ينفعه لما كان ذهب عنان الأمر من يده وكان ذلك ما أراد الله إهلاك قريظة وروى الشيخان فى الصحيحين عن الزبير بن العوام رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتى بنى قريظة فيأتينى بخبرهم فانطلقت فلما رجعت جمع لى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال فداك ابى وأمي-
__________
(1) اللحن قول يفهم المخاطب ويخفى على غيره- منه رح
(2) العضل المنع والشدة- منه رح
(3) اى ظهر النفاق- منه رح.(7/295)
قلت وكان إرسال الزبير الى بنى قريظة قبل إرسال سعد وسعد إليهم روى انه لما جاء الزبير من بنى قريظة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بانهم يصلحون حصونهم ويسدون الطرق والثغور ويجمعون دوابهم ومواشيهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل نبى حواريا وحواريى الزبير.
قال البغوي فاقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر ولم يكن بين القوم حرب الا الرمي بالنبل والحصى- فلمّا اشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل الى عيينة بن حصين وابى الحارث ابن عمرو وهما قائدا غطفان فاعطاهما ثلث ثمار المدينة على ان يرجعا بمن معهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فجرى بينه وبينهم الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم يصنع الشهادة وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه فقالا يا رسول الله أشيء أمرك الله به لا بد لنا من عمل به أم امر تحبه فتصنعه أم شىء تصنعه لنا قال بل لكم والله ما اصنع ذلك الا انى رايت العرب قدر منكم عن قوس واحدة وكالبوكم «1» من كل جانب فاردتّ ان اكسر عنكم شوكتهم فقال لهم سعد بن معاذ قد كنا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون ان يأكلوا تمرة الا قرى او بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ومالنا بهذا حاجة والله لا تعطهم الا السيف حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وبينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانت وذلك فتناول سعد الصحيفة فمحى ما فى الكتاب ثم قال ليجتهدوا علينا قلت وروى ان أسيد ابن حضير قال ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم اولا ثم قال مثله سعد وسعد وكان عيينة بن حصين أطال رجله فى ذلك المجلس فقال له أسيد يا عين الهجرس اطو رجلك ولولا مهابة مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لوضعت رمحى فى خاسرتك فانقلب عيينة والحارث خائبين وعلموا ان لا يكون لهم سلطان على المدينة وحيث راوا قوة الأنصار وشدتهم تزلزلوا- قال البغوي فاقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدوهم فحاصروهم ولم يكن
__________
(1) اشتدوا عليكم وأصله من الكلب والصفار- منه رح(7/296)
بينهم قتال الا فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود أخو بنى عامر بن لوى وعكرمة بن ابى جهل وهبيرة بن ابى وهب المخزوميان ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب ومرداس بن لوى أخو بني محارب بن فهر قد تلبسوا القتال وخرجوا على خيلهم ومروا على بنى كنانة وقالوا تهيئوا للحرب يا بنى كنانة فستعلمون اليوم من الفرسان ثم اقبلوا نحو الخندق حتى وقفوا على الخندق فلما راوه قالوا والله ان هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها ثم تيمموا «اى قصدوا- منه رح» مكانا من الخندق ضيقا فضربوا خيولهم فاقتحمت فجالت بهم فى المسبحة بين الخندق والسلع- وخرج على بن ابى طالب رضى الله عنه فى نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعيق «اى لسرع منه رح» نحوهم وكان عمرو بن عبد ود قاتل يوم بدر حتى اثبت الجراحة فلم يشهد أحدا فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه فلمّا وقف هو وخيله قال له علىّ يا عمرو انك كنت تعاهد الله لا يدعوك رجل من قريش الى خلتين الا أخذت منه إحداهما قال أجل قال له على ابن ابى طالب فانى أدعوك الى الله والى رسوله والى الإسلام قال لا حاجة لى بذلك قال فانى أدعوك الى النزال قال لم يا ابن أخي فو الله ما أحب ان أقتلك قال على لكن والله أحب ان أقتلك فحمى عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره او ضرب وجهه ثم اقبل على علىّ فتناولا وتجادلا فقتله علىّ وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو رجلان منبه بن عثمان بن عبد السياق بن عبد الدار أصابه سهم فمات عنه بمكة ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وكان قد اقتحم الخندق فتورط فيه فرموه بالحجارة فقال يا معشر العرب قتله احسن من هذه فنزل له علىّ فقتله فغلب المسلمون- فسالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يبيعهم جسده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حاجة لنا فى جسده وثمنه فشأنكم فخلى بينهم وبينه.
قالت عائشة أم المؤمنين كنا يوم الخندق فى حصن بنى حارثة وكان احرز حصون المدينة وكان سعد بن معاذ معنا فى الحصن وذلك قبل ان يضرب علينا الحجاب فخرج سعد ابن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها وبيده حربقة «1» وهو يقول
__________
(1) اى جعل لنفسه علامة تعرف بها البراز للحرب- منه رح(7/297)
يا ليت قلاملا يدرك الهيجاء جمل ... لا بأس بالموت إذا حان الاجل
فقالت امه الحق «1» يا بنى فقد والله أخرت فقلت لها يا أم سعد والله لوددتّ ان درع سعد كانت أسبغ مما هى وخفت عليه حيث أصاب السهم قالت امه يقضى الله ما هو قاض فرمى يومئذ بسهم قطع منه الا كحل رماه حيان بن قيس الغرفة أحد بنى عامر بن لوى فلما أصاب السهم قال خذها واما ابن الغرفة فقال سعد وجعك الله فى النار ثم قال سعد اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش فابقنى له فانه لا قوم أحب الىّ ان اجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لى شهادة ولا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة وكانوا حلفاؤه ومواليه فى الجاهلية- قال مجاهد ومحمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال كانت صفية بنت عبد المطلب فى رقاع حصن حسان بن ثابت قالت وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون فى نحور عدوهم لا يستطيعون ان ينصرفوا إلينا عنهم إذ أتانا ات فقلت يا حسان ان هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وانى والله ما امنه ان يدخل عورتنا من ورائنا من اليهود وقد شغل عنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل اليه فاقتله فقال يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد عرفت وما انا بصاحب هذا فلمّا قال لى ذلك ولم ار عنده شيئا احتجزت «اى شدوت الميزر» ثم أخذت عمودا ثم نزلت عن الحصن اليه فضربت عنقه بالعمود حتى قتلته فلمّا فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت يا حسان انزل عليه فاسلبه فانه لم يمنعنى من سلبه الا انه رجل قال مالى بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب- قلت روى ان بنى قريظة أرادوا ان يبيتوا على المدينة وطلبوا فى ذلك مددا من قريش فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن اسلم مع مائتى رجل وزيد بن حارثة مع ثلاث مائة رجل حتى يحرسوا بقاع المدينة وحصونها- وروى ان عباد بن بشر مع أصحابه كانوا يحرسون كل ليلة خيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) يعنى اى پسر بشتاب وبا رسول كريم ملحق شو وبخدا كه تو دير كردى- منه رح(7/298)
وكان المشركون يريدون ان يجاوزوا الخندق والصحابة يمنعونهم برمى السهام والحجارة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس بنفسه الكريمة روى الشيخان فى الصحيحين عن عائشة قالت سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة ليلة فقال ليت لى رجلا صالحا يحرسنى إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال سعد قال ما جاء بك قال وقع فى نفسى خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت احرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام وفى رواية قالت عائشة أحب سعدا من يوم كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ايام الخندق كان من الخندق موضعا يخاف عبور الكفار من ذلك الموضع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ذلك الموضع وإذا اشتد عليه البرد يأتينى ويستد فأبى ثم يذهب ويحرس ويقول لا أخاف على العسكر الا من هذا الموضع فجاءنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة ليستد فأبى وقال ليت لى رجلا صالحا يحرسنى الليلة حتى أنام إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال سعد قال احرسنا ذلك الموضع ففعل فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت صوت نفسه.
وروى عن أم سلمة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرس بنفسه الكريمة وكان البرد شديدا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ليلة من الليالى صلى فى خيمته ثم ذهب يحرس فقال هؤلاء فرسان المشركين حول الخندق فنادى عباد بن بشير فقال لبيك يا رسول الله فقال هل معك أحد فقال نعم رجال من قومى يحرسونك فقال اذهب برجال قومك فان رجالا من المشركين حول الخندق يريدون ان يبيتوا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم فذهب عباد بن بشير بأصحابه الى الخندق فاذا ابو سفيان ورجال من المشركين دخلوا فى مضيق الخندق والمسلمون يرمونهم بالسهام والحجارة فلحقهم عباد بن بشير قال عباد فرميتهم مع المؤمنين حتى انهزم المشركون فرجعت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى فلمّا فرغ من الصلاة أخبرته الخبر فقالت أم سلمة فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت صوته ولم ينتبه حتى اذن بلال للصبح فخرج فصلى بالناس وكانت أم سلمة تقول اللهم ارحم عباد بن بشير وعن أم سلمة(7/299)
رضى الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائما فى خيمته فاذا انتصفت الليل ارتفعت الأصوات وسمعت يقولون يا خيل الله اركبوا وكان هذا فى تلك الغزوة شعار المهاجرين (وفى رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا بيتوا اى الكفار فشعاركم حم لا ينصرون ووجه الجمع ان هذا كان شعار الأنصار وذلك شعار المهاجرين) فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوم وخرج من خيمته على رجال كانوا يحرسون خيمته منهم عباد بن بشير فسأله ما تلك الأصوات وامر عبادا ان يأتي بالخبر فذهب عباد وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اتى وقال يا رسول الله هذا عمرو بن عبد ود مع جمع من المشركين يحاربون مع المؤمنين يترامون بالسهام والحجارة فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمته ورفع سلاحه فخرج وركب الفرس وسار الى المعركة بجمع من الصحابة ثم رجع بعد ساعة فرحان وقال قد ذهب الله بشرهم وانهزم بجراحات كثيرة- فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونام حتى سمعت صوت نفسه ثم ارتفعت الأصوات مرة ثانية فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا عباد انظر ما تلك الأصوات فذهب عباد ثم رجع وقال يا رسول الله هذا إضرار بن الخطاب بجمع من المشركين يحارب المسلمين بالنبال والحجارة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه سلاح وذهب هناك وحاربهم حتى أصبحوا ثم رجع وقال انهزموا بجراحات كثيرة- قالت أم سلمة كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة مريسع وخيبر وحديبية وفتح مكة وحنين وما كان شىء منها أشد وأشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الخندق وأصاب المسلمون فى تلك الغزوة جراحات كثيرة وكان بردا شديدا وعشرة.
وروى ان يوما من الأيام اجتمعت الكفار وأخذوا حوالى الخندق وحاربوا حربا شديدا حتى غابت الشمس ولم يجد النبي صلى الله عليه وسلم فرصة للصلوة حتى فات عنه صلوة الظهر والعصر والمغرب فصلاها فى وقت العشاء- روى الترمذي والنسائي عن ابى عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود انه قال ان المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اربع صلوات يوم الخندق حتى ذهب من الليل ما شاء الله فامر بلالا فاذّن ثم اقام فصلى الظهر ثم اقام فصلى العصر ثم اقام فصلى المغرب ثم اقام(7/300)
فصلى العشاء قال الترمذي ليس بإسناده بأس الا ان أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع وروى النسائي فى سننه عن ابى سعيد الخدري قال حبسنا يوم الخندق عن الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى كفينا ذلك فانزل الله تعالى وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقام فصلى الظهر كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى المغرب كما كان يصليها قبل ذلك ثم اقام فصلى العشاء كما كان يصليها قبل ذلك وذلك قبل ان ينزل فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً ورواه ابن حبان فى صحيحه ولم يذكر فيه العشاء لانها كانت فى وقتها وذكرها فى الرواية الاخرى باعتبار انها تأخرت عن وقتها المعتاد واخرج البزار عن جابر بن عبد الله انه صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلوة الظهر والعصر والمغرب والعشاء حتى ذهب ساعة من الليل فامر بلالا فاذّن واقام فصلى الظهر ثم امره فاذّن واقام فصلى العصر ثم امره فاذّن واقام فصلى المغرب ثم امره فاذّن واقام فصلى العشاء ثم قال ما على ظهر الأرض قوم يذكرون الله فى هذه الساعة غيركم- وفيه عبد الكريم بن ابى المخارق مضعف وفى الصحيحين عن جابر ابن عبد الله ان عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس جعل يسبّ كفار قريش وقال يا رسول الله ما كدتّ ان أصلي حتى كادت الشمس تغرب قال النبي صلى الله عليه وسلم والله ما صليتها فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلوة وتوضأ نالها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب وفى الصحيحين عن علىّ عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال يوم الخندق ملا الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس- وفى رواية لمسلم ثم صلاها بين المغرب والعشاء- وهذه الأحاديث جاز ان يكون وقائع مختلفة لان ايام وقعة الخندق كانت كثيرة وجاز ان يكون واقعة حال واحد ويمكن الجمع بينها كما لا يخفى.
(مسئلة) إذا فاتت صلوات يوذّن للاولى ثم يقيم لكل صلوة والاولى ان يؤذّن ويقيم لكل صلوة كما يدل عليه حديث البزار والله اعلم.
ولمّا اشتد البلاء على المؤمنين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكفار فاستجاب الله دعاءه روى البخاري فى الصحيح عن عبد الله بن ابى اوفى قال(7/301)
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب قال اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم- قلت وروى عن جابر بن عبد الله رضى الله عنه انه صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب ثلاثة ايام متتابعات فى مسجد الفتح قيل هو يوم الاثنين والثلثاء والأربعاء فاستجاب الله دعاءه يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فرايتا الفرح فى وجهه قال فما ناب لنا نائبة ودعانا الله تعالى فى تلك الساعة الا استجاب الله دعاءنا.
قال البغوي ثم نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انى قد أسلمت وان قومى لم يعلموا بإسلامي فمرنا بما شئت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا ان استطعت فان الحرب خدعة- قلت وفى رواية قال نعيم يا رسول الله ايذن لى ان أقول ما شئت فاذن له- فخرج نعيم بن مسعود حتى اتى بنى قريظة وكان لهم نديم فى الجاهلية فقال لهم يا بنى قريظة قد عرفتم ودى إياكم خاصة قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم ان قريشا وغطفان جاءوا للحرب قد ظاهرتموهم عليه وان قريشا وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بكدكم به أموالكم وأولادكم ونساؤكم ولا تقدرون ان تتحولوا منه الى غيره وان قريشا وغطفان أموالهم وأولادهم ونساؤهم بعيدة ان راوا نهزة وغنيمة أصابوها وان راوا غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به ان خلا بكم فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من اشرافهم يكون بايديكم ثقة على ان تقاتلوا معكم محمدا حتى تناجزوه «1» فقالوا لقد أشرت بنصح ثم خرج حتى اتى قريشا فقال لابى سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش قد عرفتم ودى إياكم وبرائى من محمد وقد بلغني امر رايت حقّا ان أبلغكم نصحا لكم فاكتموا علىّ قالوا نفعل قال لتعلمن ان معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وقد أرسلوا اليه انا ندمنا على ما صنعنا فهل يرضيكم عنا من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فيضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم فارسل إليهم ان نعم فاذا بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم فلا تدفعوا
__________
(1) المناجزة فى الحرب المبارزة نهاية منه رح(7/302)
إليهم منكم رجلا واحدا- ثم خرج حتى اتى غطفان فقال يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتى وأحب الناس الىّ ولا أراكم تتهمونى قالوا صدقت قال فاكتموا علىّ قالوا نفعل ثم قال لهم مثل ما قال القريش وحذرهم ما حذرهم.
فلمّا كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس وكان ممّا صنع الله لرسوله ان أرسل ابو سفيان ورقة بن غطفان وعكرمة بن ابى جهل فى نفر من قريش وغطفان الى بنى قريظة وقالوا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فاعدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ ممّا بيننا وبينه- فارسلوا إليهم اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فاصابهم ما لم يخف عليكم ولسنا مع ذلك نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكون بايدينا ثقة لنا حتى تناجز محمدا فانا نخشى ان ضرتكم الحرب واشتد عليكم القتال ترجعون الى بلادكم وتتركونا والرجال فى بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمد- فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان لتعلمن والله ان الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق فارسلوا الى بنى قريظة والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا فان كنتم تريدون فاخرجوا فقاتلوا- فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا ان الذي ذكر نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم الا ان يقاتلوا فان وجدوا فرصة انتهزوها «اغتنموا ها منه رح» وان كان غير ذلك اشمأزوا «اجتمعوا- منه رح» الى بلادهم دخلوا بينكم وبين الرجل فى بلادكم فارسلوا الى قريش وغطفان اما والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا فابوا عليهم فخذل الله بينهم وبعث عليهم الريح فى ليلة شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.
فلمّا بلغ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلا روى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي وروى غيره عن ابراهيم التيمي عن أبيه قالا قال فتحا من اهل الكوفة لحذيفة بن اليمان يا أبا عبد الله رايتم رسول الله صلى الله عليه وصحبتموه قال نعم يا ابن أخي قال كيف تضعون قال والله لقد كنا نجهر قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرض ولحملناه على أعناقنا ولخدمناه وفعلنا فقال حذيفة يا ابن أخي والله لقد رايتنى ليلة الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من يقوم فيذهب الى هؤلاء(7/303)
القوم فيأتينا خبرهم ادخله الله الجنة فما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويّا «1» من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فسكت القوم وما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويّا من الليل ثم التفت إلينا فقال من رجل فيقوم فينظر لنا ما فعل القوم على ان يكون رفيقى فى الجنة فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد- فلمّا لم يقم أحد دعانى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا حذيفة فلم يكن لى بد من القيام حين دعانى فقلت لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته وان جنبىّ لتضطربان فمسح رأسى ووجهى ثم قال ايت هؤلاء القوم حتى تأتى بخبرهم فلا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ ثم قال اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته فاخذت سهمى وشددتّ علىّ اسلابى ثم انطلقت امشى نحوهم كانى امشى فى حمام فذهبت فدخلت فى القوم قد أرسل الله عليهم ريحا وجنودا وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء وابو سفيان قاعد يصطلى «2» فاخذت سهمى فوضعت فى كبد قوسى فاردتّ ان ارميه فلو رميته أصبته فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" لا تحدثن شيئا حتى ترجع الىّ" فرددتّ سهمى فلما راى ابو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله بهم لا تقرّبهم قدرا ولا نارا ولا بناء فقام وقال يا معشر قريش ليأخذ كل رجل منكم جليسه فلينظر من هو فاخذت بيد جليسى فقلت من أنت فقال سبحان الله اما تعرفنى انا فلان بن فلان فاذا برجل من هوازن فقال ابو سفيان يا معشر قريش انكم والله ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنوا قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فانى مرتحل ثم قام الى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما اطلق عقاله الا وهو قائم وسمعت غطفان فعلت ما فعلت قريش فاستمروا راجعين الى بلادهم قال فرجعت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانّى امشى فى حمام فاتيته وهو قائم يصلى فلمّا سلم أخبرته بخبر القوم فضحك حتى بدت أنيابه فى سواد الليل قال فلمّا أخبرته وفرغت وزرت وذهب عنى الدفاء أدناني النبي صلى الله عليه وسلم فاتانى
__________
(1) الهوى بالفتح الحين الطويل من الزمان وقيل هو مختص بالليل- منه رح [.....]
(2) الاصطلاء الاستدفاء بالنار- منه رح(7/304)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
عند رجليه والقى علىّ طرف ثوبه والزق صدرى ببطن قدميه فلم ازل نائما حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان.
قلت وعند ابن جرير وابن ابى حاتم عن قتادة لما بعث الله على عسكر المشركين ريحا وكبّرت الملائكة فى جوانب العسكر قال طليحة بن خويلد الأسدي امّا محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجا «1» النجا فانهزموا من غير قتال- قلت قال الشيخ عماد الدين بن كثير فى تفسيره انه لولا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ما تركت الريح أحدا من الكفار الا جعلته كالرميم كما جعلت عادا الريح العقيم وفى رواية فى حديث حذيفة انه قال لما رجعت من عسكر الكفار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايت فى أثناء الطريق عشرين فارسا بيضاء عمائمهم قالوا لى قل لصاحبك ان الله سبحانه كفاك ودفع عنك شر أعدائك. وروى الشيخان فى الصحيحين عن جابر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير انا ثم قال من يأتينا بخبر القوم قال الزبير انا ثم قال من يأتينا بخبر القوم قال الزبير انا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان لكل نبى حوارى وحوارى الزبير وروى البخاري فى الصحيح عن سليمان بن صرد يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين اجلى الأحزاب عنه الان نغزوهم ولا يغزوننا نحن نسير إليهم- وروى ايضا فى الصحيح عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا «رجع- منه رح» قفل من الغزو او الحج او العمرة ببلدة يكبر ثلاث مرات ثم يقول لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير آئبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده- قال محمد بن عمر استشهد فى غزوة الخندق ستة رجال من المسلمين وقتل من المشركين ايضا ستة..
إِذْ جاؤُكُمْ بدل من إذ جاءتكم مِنْ فَوْقِكُمْ اى من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم اسد وغطفان عليهم مالك بن عوف النظري وعيينة بن حصين الفزاري فى الف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي فى بنى اسد وحيى بن اخطب فى يهود بنى قريظة وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعنى من بطن الوادي من قبل المغرب وهم كنانة
__________
(1) النجا السرعة اى اسرعوا سرعة- نهاية منه رح(7/305)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
وقريش عليهم ابو سفيان بن حرب فى قريش ومن تبعهم وابو اعور عمرو بن سفيان السلمى من قبل الخندق وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ اى مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصا «1» من العدو وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رعبا فان الرية تنتفخ من شدة الروع فترتفع القلب بارتفاعها الى رأس الحنجرة وهى طرف الحلقور وهذا مثل يعبر عنه عن شدة الخوف وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) أنواعا من الظن فظن المنافقون استيصال محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لما سبقهم من الوعد فى إعلاء دينه ولحق ضعاف القلوب التزلزل- قرأ ابو بكر واهل المدينة وابن عامر الظّنونا الرّسولا السّبيلا بإثبات الالف وصلا ووقفا لانها مثبة فى المصاحف وقرأ اهل البصرة وحمزة بغير الف فى الحالين على الأصل والباقون بالألف فى الوقف لموافقة رءوس الاى واتباع الخط وبغير الف فى الوصل على الأصل.
هُنالِكَ اى فى ذلك الوقت ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اى امتحنوا ليمتاز المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وهم معقب بن قشير وعبد الله بن أبيّ وأصحابه وإذ بدل من هنالك.
وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد وجبن ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً (12) قال البغوي هذا قول اهل النفاق يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع ان يجاوز رحله هذا والله الغرور وأخرجه ابن ابى حاتم عن السدىّ قال فقال رجل يعنى منافق من الأنصار يدعى بشير بن معتب فذكر نحوه.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى من المنافقين وهو أوس بن قبطى وأصحابه يا أَهْلَ يَثْرِبَ يعنى المدينة وقال ابو عبيدة اسم ارض مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ناحية منها قال البغوي ورد فى بعض الاخبار ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى ان تسمى المدينة يثرب وقال هى طابة كانّه كره هذا اللفظ لانه مشتق من ثربه يثربه وثرّبه وعليه واثربه لامه وعيّره بذنبه والمثرب القليل العطاء كذا فى القاموس لا مُقامَ لَكُمْ قرأ الجمهور بفتح الميم اى لا موضع قيام لكم هاهنا وقرأ حفص بالضم على انه مكان او مصدر من اقام فَارْجِعُوا الى منازلكم عن القتال ورفاقة محمد صلى الله عليه وسلم او لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا
__________
(1) شخوص البصر ارتفاع الأجفان الى فوق وتحديد النظر- منه رح(7/306)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
الى الشرك وأسلموه لتسلموا او لا مقام لكم بيثرب فارجعوا الى الشرك وأسلموه لتسلموا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ وهم بنو حارثة وبنو سلمة يَقُولُونَ حال من فاعل يستأذنون إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ اى غير حصينة يجئ عليها العدو والسارق فكذّبهم الله وقال وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ اى ما يريدون بذلك القول الكاذب إِلَّا فِراراً (13) من القتال.
وَلَوْ دُخِلَتْ المدينة اى دخل هؤلاء الأحزاب عَلَيْهِمْ فى المدينة او فى بيوتهم وحذف الفاعل ايماء بان دخول هؤلاء الأحزاب وغيرهم فى اقتضاء الحكم المترتب عليه سواء مِنْ أَقْطارِها اى جوانبها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ اى الشرك او مقاتلة المسلمين لَآتَوْها قرأ اهل الحجاز بالقصر اى لجاءوها وفعلوها والباقون بالمد اى لاعطوا ما سئلوا من الفتنة وَما تَلَبَّثُوا بِها اى بالفتنة يعنى بإتيانها واعطائها إِلَّا يَسِيراً (14) اى زمانا يسيرا يعنى زمان السؤال والجواب كذا قال اكثر المفسّرين وقيل معناه ما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر الا زمانا قليلا ثم يهلكون او يجلون.
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ غزوة الخندق لا يُوَلُّونَ عدوهم الْأَدْبارَ اى لا ينهزمون قال يزيد بن رومان وهم بنو حارثة هموا يوم أحد ان يقتلوا بنى سلمة فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ان لا يعودوا لمثلها وقال قتادة هم أناس قد غابوا عن وقعة بدر ولمّا راوا ما أعطاه الله اهل بدر من الكرامة والفضيلة قالوا لئن أشهدنا الله قتالا فلنقاتلنّ فسلق الله إليهم ذلك وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا (15) عن الوفاء به يجازى عليه.
قُلْ لهم يا محمّد لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لانه من حضر اجله لا بد له من ان يموت سواء بالقتل او حتف انفه ومتى لا يحضر اجله لا يموت قطعا وَإِذاً اى إذا فررتم لا تُمَتَّعُونَ فى الدنيا حيّا إِلَّا قَلِيلًا (16) اى تمتيعا قليلا او زمانا قليلا وقيل معناه ان نفعكم الفرار فرضا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع الا قليلا لكون الدنيا فانية لا محالة.
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ اى من عذابه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً اى عذابا أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً يعنى ومن ذا الذي يصيبكم بسوء ان أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما فى قوله متقلدا سيفا ورمحا وجاز ان يكون حمل الثاني على الاول لما فى العصمة من معنى المنع وَلا يَجِدُونَ(7/307)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا
قريبا ينفعهم وَلا نَصِيراً (17) يدفع عنهم الضر.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ من التعويق بمعنى التصريف والعوق الصرف والعائق الصارف عن الخير والمراد الذين يصرفون الناس عن ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكنى المدينة هَلُمَّ اى قربوا أنفسكم إِلَيْنا ودعوا محمدا فلا تشهدوا معه الحرب فانا نخاف عليكم الهلاك قال قتادة هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبّطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون لاخوانهم ما محمد وأصحابه الا أكلة رأس وكانوا لحما لالتقمه ابو سفيان وابو سفيان وأصحابه دعوا الرجل فانه هالك- وقال مقاتل ان اليهود أرسلت الى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد ابى سفيان ومن معه فانهم ان قدروا فى هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا وانا مشفق عليكم أنتم إخواننا وجيراننا هلم إلينا فاقبل عبد الله بن أبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بابى سفيان ومن معه وقالوا لان قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد ما عنده خير ما هو الا ان يقتلنا هاهنا انطلقوا بنا الى إخواننا يعنون اليهود فلم يزدادوا المؤمنون بقول المنافقين الا ايمانا واحتسابا فنزلت تلك الاية قوله تعالى وَلا يَأْتُونَ اى المنافقون الْبَأْسَ اى الحرب إِلَّا قَلِيلًا (18) اى اتيانا قليلا او زمانا او بأسا قليلا فانهم كانوا يعتذرون ويثبّطون المؤمنين ما أمكن لهم او يخرجون مع المؤمنين ولكن لا يقاتلون الا قليلا رياء وسمعة من غير احتساب ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا وقيل انه تتمة كلامهم ومعناه ولا يأتى محمد وأصحابه حرب الأحزاب ولا يقادمونهم الا قليلا.
أَشِحَّةً جمع شحيح ونصبها على الحال من فاعل يأتون او المعوّقين او على الذم يعنى بخلا عَلَيْكُمْ بالمعاونة او النفقة فى سبيل الله او الظفر والغنيمة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ فى احداقهم من الخوف كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ اى كنظر المغشى عليه او كدوران عينيه او مشبهين وشبهة بعينيه وذلك ان من قرب موته وغشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص أبصارهم لشدة الخوف فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ قال ابن عباس يعنى نقصوكم وتناولوكم بالنقص و(7/308)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
الغيبة وقيل آذوكم ورموكم فى حالة الا من وقال قتادة بسطوا ألسنتهم منكم وقت قسمة الغنيمة يقولون أعطونا قد شهدنا معكم القتال فلستم أحق منا بالغنيمة أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ نصب على الحال او الذم وليس بتكرير لان كلا منهما مقيد من وجه أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا بقلوبهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ يعنى أبطل الله أعمالهم يعنى لم يعتد بها لعدم الإخلاص وحسن النية وانما الأعمال بالنيات كذا قال مجاهد وَكانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) هيّنا لان تعلق الارادة يكفى لوجود كل ممكن لاراد لفعله.
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا اى هؤلاء لجبنهم يظنون ان الأحزاب لم يذهبوا ففروا الى داخل المدينة وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كررة ثانية يَوَدُّوا تمنوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ يعنى لو ثبت انهم خارجون الى البد ويقال بدا يبدا بدوا وبداوة إذا خرج الى البادية فِي الْأَعْرابِ حال من الضمير فى بادون او خبر بعد خبر لان اى كائنون فى الاعراب يَسْئَلُونَ كل قادم من المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ اى عما جرى عليكم جملة يسئلون خبر بعد خبر او حال مترادف او متداخل وجواب لو محذوف يعنى لكان خيرا وَلَوْ كانُوا يعنى هؤلاء المنافقين فِيكُمْ ولم يفروا من عندكم فى هذه الكرة وكان قتال ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) رياء وخوفا من التعيير كذا قال مقاتل.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون فِي رَسُولِ «1» اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الاسوة معناه القدوة وهو ما يقتدى به والمراد هاهنا ان لكم فى شان رسول الله خصلة حسنة من حقها ان يؤسى بها كالثبات فى الحرب ومقاساة الشدائد- او هو يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم قدوة يحسن التأسي به كقولك فى البيضة عشرون منّا حديد اى فى البيضة هذا القدر من الحديد وقيل هو فعلة من الايتساء كالقدوة من الاقتداء اسم وضع موضع المصدر
__________
(1) عن ابن عباس ان عمر أكب على الركن فقال انى لاعلم انك حجر ولو لم ار حبيبى صلى الله عليه وسلم قبّلك واستلمك ما استلمتك ولا قبّلتك لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وعن يعلى بن منبه قال طفت مع عمر فلما كنت عند الركن الذي يلى الباب مما يلى الحجر أخذت بيده ليستلم قال ما طفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت بلى قال فهل رايته يستلمه قلت لا قال فابعد عنك فان لك فى رسول الله أسوة حسنة- منه رح(7/309)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
اى لكم برسول الله اقتداء حسن اى تنصرون دين الله كما هو ينصر وتصبرون على ما يصيبكم كما هو يصبر كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه وقتل عمه وأوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه فافعلوا أنتم ايضا كذلك واستنوا بسنته لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ اى يرجوا ثواب الله ولقائه ونعيم الاخرة كذا قال ابن عباس او ايام الله واليوم الاخر خصوصا وهذا كقولك أرجو زيدا وفضله وقال مقاتل اى يخشى الله ويخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال وقوله لِمَنْ كانَ صلة لحسنة او صفة لها وقيل بدل من لكم والأكثر على ان الضمير المخاطب لا يبدل منه وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) فى السراء والضراء قرن بالرجاء كثرة الذكر المودي الى دوام الطاعة فان المؤسى بالرسول من كان كذلك..
وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بقوله تعالى فى سورة البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الى قوله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ فان الاية يتضمن ان المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء ولعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرهم بوقعة الأحزاب قبل وقوعه وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فيما اخبر به وَما زادَهُمْ تحزب الأحزاب إِلَّا إِيماناً اى تصديقا بما جاء به الرسول عليه السّلام وَتَسْلِيماً (22) لامره وقدره.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ اى قاموا بما عاهدوا رسول الله من الثبات معه فى القتال مع اعداء الدين من صدقنى إذا قال لك الصدق فان العاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ اى فرغ من نذره ووفى بعهده فلم يبق فى ذمته شىء ما عاهده يعنى صبر على الجهاد والطاعة حتى استشهد او مات والنحب النذر والنحب ايضا الموت يقال قضى نحبه اى اجله فقتل على الوفاء يعنى حمزة وأشباهه وقيل قضى نحبه اى بذل جهده فى الوفاء بالعهد من قول العرب نحب فلان فى مسيرة يومه وليلته اجمع وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الفراغ من نذره يرجو ان يموت على الوفاء وَما بَدَّلُوا العهد ولا غيروه تَبْدِيلًا (23) شيئا من التبديل روى الشيخان والترمذي وابن ابى شيبة والطيالسي وابن سعد والبغوي عن انس بن مالك ان انس بن النضر عم انس بن مالك غاب عن بدر فشق عليه(7/310)
وقال أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لان أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما اصنع فلمّا كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال انس بن النضر اللهم انى اعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء يعنى أصحابه وابرا إليك مما فعل هؤلاء يعنى المشركين فانتهى الى رجال من المهاجرين والأنصار قد القوا ما بايديهم فقال ما يجلسكم قالوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما تصنعون بالحياة بعده قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقبل القوم فلقيه سعد بن معاذ دون أحد فقال سعد انا معك قال سعد فاستقبل انس القوم فلم أستطع ان اصنع ما صنع انس فقال يا سعد (وفى لفظ يا أبا عمرو) ها لريح الجنة ورب النضر إني لاجد ريحها دون أحد ثم تقدم فقاتل حتى قتل فوجدوا فى جسده بضعا وثمانين ضربة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم قال انس ووجدنا قد مثل به المشركون فما عرفه أحد منّا الا أخته بشامّة ببنانه فكنا نرى او نظنّ ان هذه نزلت فيه وفى أشباهه رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ- وروى البغوي عن خباب بن الأرت قال هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من مضى لم يأكل من اجره شيئا منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد شيئا نكفن فيه الا نمرة فكنا إذا وضعنا على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعنا على رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعوها مما يلى رأسه واجعلوا على رجليه الاذخر ومنا من انبعث له ثمرته فهو يهديها- وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى طلحة بن عبيد الله فقال من أحب ان ينظر الى رجل يمشى على وجه الأرض وقد قضى نحبه «1» فلينظر الى هذا-
__________
(1) عن عيسى بن طلحة قال دخلت على عائشة أم المؤمنين وعائشة بنت طلحة وهى تقول لاسماء بنت ابى بكر انا خير منك وابى خير من أبيك فجعلت اسماء تشمها وتقول أنت خير منى فقالت عائشة الا أقضي بينكما قالتا بلى قال فان أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت عتيق من النار قالت فمن يومئذ سمّى عتيقا ثم دخل طلحة فقال أنت يا طلحة ممن قضى نحبه- واخرج الترمذي عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول طلحة ممن قضى نحبه- منه رحمه الله-(7/311)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
وروى البخاري عن قيس بن حازم قال رايت يد طلحة شلاء وقى بها النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد- وروى الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم من حديث الزبير مرفوعا أوجب طلحة.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ فى العهود بِصِدْقِهِمْ اى جزاء صدقهم او بسبب صدقهم وهو الوفاء بالعهد وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ ان يموتوا على الكفر والنفاق فيعذبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ان تابوا وأخلصوا دينهم لله قوله لِيَجْزِيَ متعلق بقوله صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ تعليل للمنطوق والمعرض به كانّ المنافقين قصدوا بالتبديل التعذيب كما قصد المخلصون بالوفاء الثواب إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) لمن تاب.
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى الأحزاب من قريش وغطفان بِغَيْظِهِمْ اى كائنين بغيظهم متغيظين لعدم نيلهم بما أرادوا لَمْ يَنالُوا خَيْراً اى ظفرا ولا مالا حال بعد حال يتداخل او يعاقب وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح والملئكة وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا فى ملكه على احداث ما يريده عَزِيزاً (25) فى انتقامه.
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ اى عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنوا قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ اى من حصونهم جمع صيصة وهى ما يحصن به ولذلك يقال لقرن الثور والظبى وشوكة الديك والحائك صئصة وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ اى الخوف فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم الرجال فعند ابن إسحاق انهم كانوا ست مائة وبه جزم ابو عمرو فى ترجمة سعد بن معاذ وعند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبع مائة وقال السهيلي المكثر يقول انهم ما بين ثمان مائة الى تسع مائة وفى حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح انهم كانوا اربع مائة مقاتل فيحتمل فى طريق الجمع ان يقال ان الباقين كانوا اتباعا وقد حكى ابن إسحاق انه قيل انهم كانوا تسع مائة وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وهم النساء والذراري وكانوا سبع مائة وخمسين وقيل تسع مائة وذكر فى سبيل الرشاد ان السبي كان الفا من النساء والصبيان.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ مزارعهم وَدِيارَهُمْ حصونهم وَأَمْوالَهُمْ من النقود والأجناس والمواشي وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بعد قال مقاتل وابن زيد يعنى خيبر وقال قتادة كنا نحدث انها مكة وقال الحسن فارس والروم وقال عكرمة(7/312)
كل ارض يفتح الى يوم القيامة وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) فيقدر على ذلك (قصة غزوة بنى قريظة) قال محمد بن عمر عن شيوخه لما انصرف المشركون عن الخندق خاف بنوا قريظة خوفا شديدا وروى احمد والشيخان مختصرا والبيهقي والحاكم وصححه مطولا عن عائشة وابو نعيم والبيهقي من وجه اخر عنها وابن عابد عن حميد بن هلال وابن جرير عن ابن ابى اوفى والبيهقي عن عروة وابن سعد عن الماجشون وعن يزيد بن الأصم ومحمد بن عمر عن شيوخه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين لمّا رجعوا عن الخندق مجهودين وضعوا السلاح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت عائشة ودعا بماء فاخذ يغسل رأسه وذكر البغوي انه صلى الله عليه وسلم كان عند زينب بنت جحش وهى تغسل رأسه وقد غسلت شقه- قالت عائشة فسلّم علينا رجل ونحن فى البيت قال محمد بن عمر وقف موضع الجنائز فنادى عذيرك «1» من محارب فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا فوثب وثبة شديدة فخرج اليه فقمت فى اثره انظر من خلل الباب فاذا هو دحية الكلبي فيما كنت ارى وهو ينفض الغبار عن رأسه (فقال ابن إسحاق معتجرا بعمامة) «الاعتجار لف العمامة دون التلحي- منه رح» فقال يا رسول الله ما اسرع ما حللتم عذيرك من محارب عفا الله عنك قد وضعتم السلاح ما وضعت الملئكة منذ نزل بك العدوّ وفى لفظ منذ أربعين ليلة وما رجعنا الان الا من طلب القوم حتى بلغنا حمراء الأسد يعنى الأحزاب وقد هزمهم ان الله يأمرك بقتال بنى قريظة وانا عامد إليهم بمن معى من الملائكة لا زلزل بهم الحصون فاخرج بالناس- قال حميد بن هلال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فى أصحابي جهدا فلو انظرتهم أياما فقال انتهض إليهم فو الله لادقنهم كدق البيض على الصفا «الحجارة- منه رح» ثم لاضغضفنّها- «اى لاحركن- منه رح» قالت عائشة فلمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت من ذاك الرجل الذي كنت تكلمه قال ورايته قلت نعم قال بمن تشبهينه قلت بدحية الكلبي قال ذاك جبرئيل أمرني ان امضى الى بنى قريظة- قال حميد فادبر جبرئيل ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار فى زقاق بنى غنم من الأنصار قال انس فيما رواه البخاري كانّى انظر الى الغبار ساطعا وقال قتادة فيما رواه ابن عابدان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يومئذ مناديا ينادى «يعنى يار كبان خيل اركبوا- منه رح» يا خيل الله اركبي وامر بلالا فاذّن
__________
(1) يعنى هات من يعذرك فعيل بمعنى الفاعل- منه رح(7/313)
فى الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر الا ببني قريظة- وروى الشيخان عن ابن عمر والبيهقي عن عائشة وابن عقبة والطبراني عن كعب بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه عزمت عليكم ان لا تصلوا صلوة العصر- ووقع فى مسلم فى حديث ابن عمر صلوة الظهر الا ببني قريظة فادرك بعضهم صلوة العصر وفى لفظ صلوة الظهر فى الطريق فقال بعضهم لا نصليها حتى نأتى بنى قريظة انا لفى عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علينا من اثم فصلوا العصر ببني قريظة حين وصلوها بعد غروب الشمس وقال بعضهم بل نصلى لم يرد منا ان ندع الصلاة فصلوا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا من الفريقين.
(فائدة) وجه الجمع بين حديث صلوة الظهر وصلوة العصر ان طائفة منهم راحت بعد طائفة قيل للطائفة الاولى لا يصلين الظهر الا ببني قريظة وقيل للطائفة الاخرى لا يصلين العصر- وقيل فى وجه الجمع انه صلى الله عليه وسلم قال لاهل القوة او لمن كان منزله قريبا لا يصلين أحد الظهر وقال لغيرهم أحد العصر.
(مسئلة) هذا الحديث يدل على ان المجتهد لا اثم عليه ان اخطأ حيث لم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد من الفريقين من صلّى فى الطريق ومن لم يصل- قال فى زاد المعاد ما حاصله ان كلّا من الفريقين مأجور بقصده الا ان من صلّى فى الطريق جاز الفضيلتين فضيلة امتثال الأمر فى الاسراع فى المشي الى بنى قريظة لان المراد بامره صلى الله عليه وسلم- ان لا يصلوا الا فى بنى قريظة المبالغة فى الاسراع مجازا وفضيلة امتثال الأمر فى المحافظة على الوقت والله اعلم.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن ابى طالب فدفع اليه لواءه وكان اللواء على حاله لم يحل عن مرجعه من الخندق فابتدره الناس- «اى سارعوا اليه- منه رح» قال محمد بن عمرو بن سعد وابن هشام والبلاذري استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم قال محمد بن عمرو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع يقين من ذى القعدة قال البغوي سنة خمس من الهجرة ولبس السلاح والدرع والمغفر والبيضة وأخذ قناه «الرمح- منه رح» بيده وتقلد الترس وركب فرسه اللحيف وحف به أصحابه قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل وكانت ستة وثلاثين فرسا فسار فى أصحابه(7/314)
والخيل والرجال حوله قال ابن سعد وكان معه ثلاثة آلاف.
(مسئلة) هذه القصة تدل على جواز البداية بالقتال فى الشهر الحرام لكن خطبته صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع وفيها المنع من القتال فى الأشهر الحرم متاخر عنه ولعل الله سبحانه أحل لرسوله ذلك القتال فى أشهر الحرم كما أباح له القتال فى حرم مكة ساعة من النهار عام الفتح- ويمكن ان يقال ان هذا ليس بداية بالقتال بل كانت البداية من بنى قريظة حيث ظاهروا قريشا ومن معهم والله اعلم روى الطبراني عن ابى رافع وابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اتى بنى قريظة ركب على حمار عرى يقال له يعفور والناس حوله- وروى الحاكم والبيهقي وابو نعيم عن عائشة ومحمد بن عمرو عن شيوخه وابن إسحاق ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بنفر من بنى النجار بالصّورين «1» فيهم حارثة بن النعمان قد صفوا عليهم السلاح فقال هل مرّ بكم أحد قالوا نعم دحية الكلبي مرّ على بغلة عليها رحاله عليها من إستبرق وأمرنا بحمل السلاح فاخذنا سلاحنا فصففنا وقال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الان قال حارثة بن النعمان وكنا صفين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك جبرئيل بعث الى بنى قريظة لتزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب فى قلوبهم وسبق على بن ابى طالب فى نفر من المهاجرين والأنصار وفيهم ابو قتادة روى محمد بن عمر عن ابى قتادة قال انتهينا الى بنى قريظة فلمّا راينا أيقنوا بالشر وغرز علىّ الراية عند اصل الحصن فاستقبلونا فى صياصيهم يشتمون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه قال ابو قتادة وسكتنا وقلنا السيف بيننا وبينكم وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل قريبا من حصنهم على بئرانا «2» بأسفل حرّة «ارض ذات حجارة- منه رح» بنى قريظة فلمّا راه على رضى الله عنه رجع اليه وأمرني ان الزم اللواء فلزمته وكره ان يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم اذاهم وشتمهم فقال يا رسول الله لا عليك ان لا تدنوا من هؤلاء الاخابيث فقال أتأمرني بالرجوع فقال أظنك سمعت منهم أذى قال نعم فقال لوراونى لم يقولوا من ذلك شيئا- فسار
__________
(1) تثنية صور بالفتح ثم السكون اسم للنخل المجتمع الصغار وموضع فى أقصى بقيع الغرقد مما على طريق بنى قوينمة 12 منه رحمه الله
(2) بالضم وتخفيف النون وقيل بالفتح والتشديد كحتى- منه رح(7/315)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدّمه أسيد بن حضير فقال يا اعداء الله لا نبرح عن حصونكم حتى تموتوا جوعا انما أنتم بمنزلة ثعلب فى جحر فقالوا يا ابن الحضير نحن مواليك دون الخزرج فقال لا عهد بينى وبينكم ولا إلّ ودنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وترسنا عنه ونادى بأعلى صوته نفرا من اشرافهم حتى أسمعهم فقال أجيبوا يا اخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت هل أخزاكم الله انزل بكم نقمته أتشتموني فجعلوا يحلفون ما فعلنا ويقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولا وفى لفظ ما كنت فاحشا واجتمع المسلمون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء وبعث سعد بن عبادة بأحمال تمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان طعامهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الطعام التمر- وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرا وقدّم الرماة فاحاطوا بحصون يهود وراموهم بالنبل والحجارة وهم يرمون من حصونهم حتى امسوا فباتوا حول الحصون وجعل المسلمون يعتقبون يعقب بعضهم بعضا فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم براميهم حتى أيقنوا الهلكة وتركوا رمى المسلمين فقالوا دعونا نكلمكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فانزلوا نباش بن قيس فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ان ينزلوا على ما نزلت عليه بنوا النضير من الأموال والحلقة ونخرج من بلادك بالنساء والذراري ولنا ما حملت الإبل الا الحلقة فابى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا تحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل فابى رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ان ينزلوا على حكمه- وعاد نباش إليهم بذلك فلمّا عاد نباش الى قومه وأخبرهم الخبر قال كعب بن اسد يا معشر بنى قريظة والله قد نزل بكم ما ترون وانى اعرض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا ما شئتم منها قالوا وما هى قال نبائع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم انه نبى مرسل وانه الذي تجدونه فى كتابكم فتامنون به على دمائكم وأموالكم ونسائكم والله انكم لتعلمون ان محمدا نبى وما منعنا معه من الدخول الا الحسد للعرب حيث لم يكن نبيّا من بنى إسرائيل فهو حيث جعله الله تعالى- ولقد كنت كارها لنقض العهد والعقد ولكن البلاء والشوم من هذا الجالس يعنى حيى بن اخطب (وكان حيى دخل معهم فى حصنهم حين رجعت منهم قريش(7/316)
وغطفان وفاء لكعب بن اسد بما كان عاهده عليه) أتذكرون ما قال لكم ابن جوّاس حين عليكم تركت الخمر والحمير والتأمير وحنت الى الشفاء والتمر والشعير قالوا وما ذاك- قال انه يخرج بهذه القرية نبى فان يخرج وانا حى اتبعه وانصره وان خرج بعدي فاياكم ان تخدعوا عنه فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه وقد أمنتم بالكتابين كلاهما الاول والاخر واقرءوه منى السّلام واخبروه انى مصدق به- قال فتعالوا فلنبايعه ولنصدقه فقالوا لا نفارق حكم التورية ابدا ولا نستبدل به غيره- قال فاذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج الى محمد وأصحابه مصلّتين بالسيوف لم نترك ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فان نهلك نهلك ولم نترك ورائنا فصلا نخشى عليه وان نظهر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء قالوا لا نقتل هؤلاء المساكين فما خير فى العيش بعدهم- قال فان أبيتم عن هذه فان الليلة ليلة السبت وانه عسى محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة «غفلة- منه رح» قالوا نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان من قبلنا الا من قد علمت فاصابه ما لم يخف عليك من المسخ- فقال ما بات منكم منذ ولدته امه ليلة واحدة من الدهر جازما- فقال ثعلبة وأسيد ابنا سعية واسد بن عبيد ابن عمهم وهم نفر من هذيل ليسوا من بنى قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك وهو بنوا عم القوم يا معشر بنوا قريظة والله انكم لتعلمون انه رسول الله وان صفته عندنا حدثنا بها علماؤنا وعلماء بنى النضير هذا أولهم يعنى حيى بن اخطب مع خبر بن الهيّان اصدق الناس عندنا
هو اخبر بصفته عند موته قالوا لا نفارق التورية فلما راى هؤلاء النفر آباءهم نزلوا تلك الليلة فى صبحها فاسلموا وأمنوا على أنفسهم وأهليهم وأموالهم- وقال عمرو بن سعد يا معشر يهود انكم خالفتم محمدا على ما خالفتموه عليه فنقضتم عهده الذي كان بينكم وبينه ولم ادخل فيه ولم اشرككم فى غدركم فان أبيتم فاثبتوا على اليهودية واعطوا الجزية فو الله ما أدرى يقبلها أم لا قالوا فنحن لا نقر للعرب «خرج وخراج ما يؤذى كلّ سنة- منه رح» بخرج فى رقابنا يأخذونه القتل خير من ذلك قال فانى برئ منكم وخرج تلك الليلة مع ابني سعية فمرّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن سمة فقال محمد من هذا قال عمرو بن سعد قال محمد اللهم لا تحرمنى(7/317)
عشرة الكرام وخلّى سبيله فخرج حتّى اتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات حتى أصبح فلمّا أصبح غدا فلم يدر اين هو حتى الساعة فسئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذاك رجل نجاه الله بوفائه.
قال اهل المغازي ثم انهم بعثوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ابعث إلينا أبا لبابة (أحد بنى عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس) نستشير فى أمورنا فارسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما راوا قام اليه الرجال وجهش «اى اسرع متباليا 16 منه رح» اليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه فرقّ لهم فقالوا يا أبا لبابة أترى ان ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده الى حلقه انه الذبح- قال ابو لبابة فو الله ما زالت قدماى حتى عرفت انى خنت الله ورسوله ثم انطلق ابو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط فى المسجد على عمود من عمده وقال لا أبرح من مكانى حتى أموت او يتوب الله على ما صنعت وعاهدتّ الله ان لا أطأ ارض بنى قريظة ابدا ولا ارى فى بلد خنت الله ورسوله فيه ابدا وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهابى وما صنعت فقال دعوه حتى يحدث الله فيه ما شاء لو كان جاءنى استغفرت فاذا لم يأتنى وذهب فدعوه وانزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قال ابو لبابة ثم ان الله انزل توبة ابى لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقلت بم تضحك يا رسول الله اضحك الله سنك قال تيب على ابى لبابة فقلت الا أبشره بذلك قال بلى ان شئت قالت فقمت الى باب حجرتى (وذلك قبل ان يضرب عليهن الحجاب) فقلت يا أبا لبابة ابشر فقد تاب الله عليك فثار «اى قاموا- منه رح» الناس ليطلقوه قال لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنى بيده فلمّا مرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا الى الصبح أطلقه- روى حماد بن سلمة عن علىّ بن زيد بن جدعان عن على بن الحسين عليهما السلام ان فاطمة عليها السلام جاءت تحله فقال انى حلفت ان لا تحلني الا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فاطمة بضعة منى- على بن جدعان ضعيف ورواية على بن الحسين مرسلة قال ابو لبابة واذكر رؤيا رايتها فى النوم ونحن محاصرون بنى قريظة كانى فى حماة «طين اسود متغيرة- منه رح» أسنة فلم اخرج منها(7/318)
حتى كدتّ أموت من ريحها ثم ارى نهرا جاريا فارانى اغتسلت فيه حتى استقيت وأراني أجد ريحا طيبا فاستعبرتها أبا بكر فقال لتدخلن فى امر تغتم له ثم يفرج عنك فكنت اذكر قول ابى بكر وانا مرتبط فارجو ان ينزل الله توبتى- قال فلم ازل كذلك حتى ما اسمع الصوت من الجهد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر قال ابن هشام اقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته وقت كل صلوة فتحله حتى يتوضأ ويصلى ثم ترتبط- (قال ابن عقبة زعموا انه ارتبط قريبا من عشرين ليلة قال فى البداية وهذا أشبه الأقاويل وقال ابن إسحاق اقام مرتبطا خمسا وعشرين ليلة وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة او أراد ان يذهب لحاجته فاذا فرغ أعادت الرباط والظاهر ان زوجته تحله مرة وابنته اخرى وانزل الله فى توبة ابى لبابة وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- قال البغوي وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله فى قلوبهم الرعب فلما جهدهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتفوا رباطا وجعل على كتافهم محمد بن سلمة ونحوا ناحية واخرج النساء والذرية من الحصون واستعمل عليهم عبد الله بن سلام وجمعت أمتعتهم ووجدوا فيها الفا وخمس مائة سيف وثلاث دروع والفى رمح والفا وخمس مائة ترس وجحفة وأثاثا كثيرا وآنية كثيرة وخمرا وسكرا فهريق ذلك كله ولم يخمسه ووجد من الجمال النواضح عدة ومن الماشية شيئا كثيرا فجمع هذا كله وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس- ودنت الأوس الى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله حلفاؤنا دون الخزرج وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبيّ وهبت لهم ثلاث مائة حاسر «من لا وزع له منه رح» واربع مائة دارع «صاحب درع- منه رح» وقد ندم حلفاءنا على ما كان من نقضهم العهد فهبهم لنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لم يكلم حتى أكثروا عليه وألحّوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما ترضون ان يكون الحكم فيهم الى رجل منكم قالوا بلى قال فذلك الى سعد بن معاذ وقال ابن عقبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاروا من شئتم من أصحابي فاختاروا سعد بن معاذ- وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم(7/319)
فى خيمة امراة من المسلمين يقال لها رفيدة فى مسجده صلى الله عليه وسلم وكانت تداوى الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة «1» الذي ليس له من يقوم بامره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه فى خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب- فلمّا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم الى سعد خرجت الأوس حتى جاءوه فحملوه على حمار عربى بشنذة «2» من ليف وعلى الحمار قطيفة فوق الشنذة وخطامه «الخطام ما يقاد به الدابة- منه رح» من ليف وكان رجلا جسيما فخرجوا حوله يقولون يا أبا عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّاك امر مواليك لتحسن فيهم فاحسن فيهم فقد رايت ابن أبيّ وما صنع فى حلفائه وأكثروا وهو ساكت لا يتكلم حتّى إذا أكثروا عليه قال قد ان «بالفتح والمد ونا وقرب- منه رح» لسعدان لا يأخذه فى الله لومة لائم فقال الضحاك بن خليفة بن ثعلبة الأنصاري وا قوماه وقال غيره نحو ذلك ثم رجع الضحاك الى الأوس فنعى بهم رجال بنى قريظة قبل ان يصل إليهم سعد كلمته التي سمع منه- وفى الصحيحين فلما دنا سعد من المسجد اى الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعده فى بنى قريظة ايام حصارهم للصلوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا الى سيدكم وفى لفظ الى خيركم فاما المهاجرون من قريش فيقولون انما أراد الأنصار واما الأنصار فيقولون عم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وعند احمد قوموا الى سيدكم فانزلوه وكان رجال من بنى عبد الأشهل يقولون قمنا له على أرجلنا صفين وفى حديث جابر عند ابن عائذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احكم فيهم يا سعد فقال الله ورسوله أحق بالحكم قال عليه السلام أمرك الله ان تحكم فيهم- وقالت الأوس الذين بقوا عنده يا أبا عمرو ان رسول الله قد ولاك الحكم فى امر مواليك فاحسن فيهم فقال سعد أترضون حكمى لبنى قريظة قالوا نعم قد رضينا بحكمك وأنت غائب اختيارا منا لك ورجاء ان تمنّ علينا كما فعل غيرك بحلفائه بنى قينقاع واثرنا عندك اثرنا وأحوج ما كان اليوم الى مجازاتك فقال سعد ما أتوكم جهدا فقالوا ما يعنى بقوله هذا ثم قال سعد عليكم عهد الله وميثاقه ان احكم
__________
(1) الضيعة ترك وضيع مصدر ضاع الشيء صيعا اى تركتهم الضائع الذي ليس له من يقوم بامره 12 منه رح
(2) بشين معجمة فنون فذال مفتوحات شبه الا كاف يجعل لمقدمته اعوجاج 12 منه رحمه الله(7/320)
فيهم ما حكمت قالوا نعم قال سعد وعلى من هاهنا للناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنها إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قال سعد فانى احكم فيهم ان يقتل كل من جرين عليه الموسى وتسبى النساء والذرية وتقسم أموالهم ويكون الديار للمهاجرين والأنصار- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة «السموات قال اى الأعز اتى سموما بالرقيع لانها مرقومة بالنجوم منه رح» ارقعة- وفى رواية قال عليه السلام بذلك طرقنى الملك سحرا- وكان سعد بن معاذ فى الليلة التي فى صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش فابقنى لها فانى لا قوم احبّ الىّ ان أقاتلهم من قوم كذبوا رسولك وآذوه وأخرجوه وان كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنّا وعنهم فاجعله لى شهادة ولا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة فاقر الله سبحانه عينيه منهم.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لتسع ليال وقيل لخمس خلون من ذى الحجة وامر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا فى دار رملة بنت الحارث من بنى النجار- فلمّا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا الى سوق المدينة التي هى سوقها اليوم فامر بأخدود فخذت فى السوق ما بين موضع دار ابى الجهم العدوى الى أحجار الزيت بالسوق فكان أصحابه يحضرون وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه ودعا برجال بنى قريظة فكانوا يخرجون يضرب أعناقهم فى تلك الخنادق فقالوا لكعب بن اسد وهم يذهب بهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا يا كعب ما ترى محمدا يصنع بنا قال ما يسوءكم ويلكم على كل حال لا تعقلون الا ترون الداعي لا ينزع وانه من ذهب منكم لا يرجع هو والله السيف قد دعوتكم الى غير هذا فابيتم قالوا ليس هذا بحين عتاب لولا انا كرهنا ان نرمى برأيك ما دخلنا فى نقض العهد الذي كان بيننا وبين محمد قال حيى بن اخطب اتركوا التلاوم فانه لا يرد عنكم شيئا واصبروا للسيف وكان الذي قتلهم على بن ابى طالب والزبير بن العوام رضى الله عنهما ثم اتى حيى بن اخطب مجموعة يداه الى عنقه عليه حلة فقاحية قد لبسها للقتل ثم عمد إليها فشقها انملة انملة(7/321)
لئلا يسلبه إياها أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اطلع الم يمكنى الله منك يا عدو الله قال بلى والله انا ما لمت نفسى فى عداوتك وقد التمست العز فى مظانة فابى الله الا ان يمكنك منى ولقد قلقلت «حركت- منه رح» كل مقلقل ولكنه من يخذل الله يخذل ثم اقبل على الناس فقال ايها الناس لا بأس بامر الله كتاب الله وقدره ملجمة «القتل وموضعه- منه رح» على بنى إسرائيل ثم جلس فضرب عنقه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنوا أساراهم وأقيلوهم واسقوهم حتى يبردوا فاقتلوا من بقي لا تجمعوا عليهم حر الشمس وحر السيف وكان يوما صائفا فقيلوهم وسقوهم فلمّا أبرد وأراح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل من بقي واتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكعب بن اسد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تنفعتم بنصح ابن جوّاس لكم وكان مصدقا بي اما أمركم باتباعى وان رايتمونى ان تقرءونى منه السلام قال بلى والتورية يا أبا القاسم ولولا ان يعيرنى اليهود بالجزع من السيف لاتبعتك ولكنه على دين يهود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه فاضرب عنقه وامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منه روى احمد واصحاب السنن عن عطية القرظي قال كنت غلاما فوجدونى لم أنبت فخلّوا سبيلى وروى الطبراني عن اسلم الأنصاري قال جعلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسارى بنى قريظة فكنت انظر الى فرج الغلام فان رايته أنبت ضربت عنقه وان لم أره جعلته فى مغانم المسلمين وكان رفاعة بن شمول القرظي رجلا قد بلغ فلاذ بسلمى بنت قيس أم المنذر اخت سليط بن قيس وكانت احدى خالات النبي صلى الله عليه وسلم يعنى خالة جده عبد المطلب فان امه كانت من بنى النجار وكانت سلمى قد صلّت للقبلتين فقالت يا نبى الله بابى أنت وأمي هب لى رفاعة فانه زعم سيصلّى ويأكل لحم الجمل فوهبه لها فاستحيته فاسلم بعد ولم تزل ذلك الداب حتى قتلوا الى ان غاب الشفق ثم رد عليهم التراب فى الخندق كل ذلك بعين سعد بن معاذ فاستجاب الله دعوته رضى الله عنه- ولم يقتل من نسائهم الا امرأة واحدة من بنى النضير يقال لها بنانة كانت تحت رجل من بنى قريظة يقال له الحكم وكان يحبها وتحبه فلما اشتد عليهم الحصار بكت اليه وقالت انك لمفارقى فقال هو والتورية ما ترين وأنت(7/322)
امرأة فدلّى عليهم هذه الرحى فانا لم نقتل منهم أحدا بعد وأنت امرأة وان يظهر محمد علينا فانه لا يقتل النساء وانما اكره ان تسبى فاحبّ ان تقتل وكانت فى حصن الزبير بن باطا فدلّت الرحى من فوق الحصن وكان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون فى فيئة فلمّا راها القوم انفضوا
وتدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه ومات- روى عروة عن عائشة انها قالت والله انها لعندى تحدث وتضحك ظهرا لبطن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسيوف وفى رواية وهى تقول سراة بنى قريظة يقتلون إذ هتف هاتف باسمها اين فلانة قالت انا والله قلت ويلك مالك قالت اقتل قلت لم قالت حدث أحدثته قالت فانطلقت فضرب عنقها بخلاد بن سويد وكانت عائشة تقول لا انسى طيب نفس بنانة كثرة ضحكها وقد عرفت انها تقتل.
(مسئلة) هذا الحديث حجة لمن حكم بالقصاص على القتل بالمثقل وعليه الجمهور وقال ابو حنيفة لا قصاص بالمثقل ولو رماه بابا قبيس لقوله صلى الله عليه وسلم لا تود فى النفس وغيره الا بحديدة وقد مرّ الخلاف فى هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ- وروى محمد بن إسحاق عن الزهري ان الزبير بن باطا القرظي وكان يكنى أبا عبد الرحمن قدم على ثابت بن قيس بن شماس فى الجاهلية يوم بعاث لاخذه فجر ناصية ثم خلّى سبيله فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال ثابت يا أبا عبد الرحمان هل تعرفنى قال وهل يجهل مثلى لمثلك قال انى أريد ان أجزيك بيدك عندى قال ان الكريم يجزى قال ثم اتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد كان للزبير عندى يد وله على منة فاحببت ان أجزيه بها فهب لى دمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لك فاتاه فقال له ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لى دمك قال شيخ كبير لا اهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة فاتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اهله وولده قال فهم لك فاتاه فقال له ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك قال اهل بيت فى الحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فاتى ثابت رسول الله صلى(7/323)
الله عليه وسلم فقال ما له يا رسول الله قال هو لك فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني مالك فهو لك- فقال اى ثابت ما فعل الذي كان وجهه مراة صينية «منسوبة الى الصين- منه رح» حسنة يتراى فيه عذار الحي كعب بن اسد قال قتل قال فما فعل سيد الحاضر والبادي سيد الحيّين كليهما يحملهم فى الحرب ويطعهم فى المحل حيى بن اخطب قال قتل قال فما فعل «مقدمته الحرب ادلة- منه رح» مقدمتنا إذا شددنا وحاشيتنا إذا كررنا عزّالة بن شمول قال قتل- قال فما فعل المجلسان يعنى بنى كعب بن قريظة وبنى عمرو ابن قريظة قال ذهبوا فقتلوا- قال فانى أسئلك بيدي عندك يا ثابت الا ما ألحقتني بالقوم فو الله ما فى العيش بعد هؤلاء من خير ارجع الى دار قد كانوا حلولا فيها فاخلد فيها بعدهم لا حاجة لى فى ذلك ولكنى يا ثابت انظر الى امراتى وولدي فاطلب الى صاحبك فيهم ان يطلقوا وان يردوا أموالهم فطلب ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم اهل الزبير وماله وولده فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم اهله وماله الا السلاح- قال الزبير يا ثابت أسئلك بيدك عندى الا ألحقتني بالقوم فما انا بصابر لله فتلة «1» دلو ناضح حتى القى الا حبة- قال ابن إسحاق فقدمه ثابت فضرب عنقه وقال محمد بن عمر قال ثابت ما كنت لا قتلك قال الزبير لا أبالي من قتلنى فقتله الزبير بن العوام رضى الله عنه- ولمّا بلغ أبا بكر الصديق رضى الله عنه قوله" القى الاحبة" قال يلقاهم فى نار جهنم خالدا مخلدا.
ثم قسم اموال بنى قريظة ونساءهم وأموالهم على المسلمين وكان أول فئى وقع فيه السهمان وكان المسلمون ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثين وكان سهمان الخيل والرجال على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهما للفرس سهمان ولصاحبه سهم وقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة افرس فلم يضرب السهم الا لفرس واحد- وهذا حجة لابى حنيفة ومالك والشافعي حيث قالوا لا سهم الا لفرس واحد وقال ابو يوسف ومحمد واحمد يسهم لفرسين ولا يسهم لاكثر من ذلك اجماعا وقد مرّ
__________
(1) فتلة دلو ناضح قال ابن إسحاق بالفاء والتاء الفوقانية اى مقدار ما يأخذ الرجل الدلو الذي خرجت من البئر فيصبها فى الحوض ثم يفتلها اى يردها الى موضعها- وقال ابن هشام انما هو بالقاف والموحدة وقال بل الدلو هو الذي يأخذها من المستقى- ولفظ الخبر عند ابى عبيد فلست صابرا عنهم افراغه دلوا- 12 منه نور الله مرقده-(7/324)
المسألة فى سورة الأنفال- وأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاد بن سويد وقد قتل تحت الحصن وأسهم لسنان بن محصن ومات ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرهم وكان يقاتل مع المسلمين- وهذا حجة للائمة الثلاثة حيث قالوا الغنيمة لمن شهد الوقعة وان مات قبل هزيمة الكفار وإحراز الغنيمة بدار الإسلام وقد روى ابن ابى شيبة بسند صحيح الغنيمة لمن شهد الوقعة موقوفا على عمر وأخرجه الطبراني مرفوعا وموقوفا والموقوف أصح وروى الشافعي موقوفا على ابى بكر وفيه انقطاع وقال ابو حنيفة لا يتاكد الحق فى الغنيمة الا بالاحراز بدار الإسلام فمن مات او قتل قبل الاحراز لا سهم له ولا يورث منه- والمدد إذ الحق بدار الحرب بعد الوقعة قبل الاحراز بدار الإسلام يسهم لهم وقد مر مسئلة المدد فى سورة الأنفال.
(مسئلة) وفى هذه القصة حجة للجمهور على ابى حنيفة حيث قالوا للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وقال ابو حنيفة سهم له وسهم لفرسه وقد مرّ المسألة فى سورة الأنفال والله اعلم.
(فائدة) أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبي خمسا فكان يعتق ويهب منه من أراد وكذلك النخل عزل خمسه وكل ذلك يسهم عليه خمسة اجزاء وصار الخمس الى محمية بن جز الزبيدي ثم قسم اربعة أخماس على الناس واعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي حضرن القتال ولم يسهم لهن وهن صفية بنت عبد المطلب وأم عمارة نسية وأم سليط وأم العلاء الانصارية والسميرى بنت قيس وأم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة مع السبايا مع سعد بن عبادة يشترى بهم سلاحا وخيلا كذا قال محمد بن عمر وقال ابن إسحاق بعث سعد بن زيد الأنصاري الأشهلي بسبايا من بنى قريظة فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا- واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمان بن عوف طائفة فاقتسما يقال لما قسم جعل الشوابّ على حدة والعجائز على حدة ثم خير عبد الرحمان عثمان فاخذ العجائز فربح عثمان مالا كثيرا وذلك لانه كان يوجد عند العجائز من المال ولم يوجد عند الشواب- قال ابن سيرة وانما لم يؤخذ ما جاءت به العجائز فيكون فى الغنيمة لانه لم يوجد معهن الا بعد شهر او شهرين- وجعل عثمان على كل من اشتراه من سبيهم شيئا(7/325)
موقتا فمن جاء منهن بالذي وقت لهن عتق فلم يتعرض لهن- ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يفرق فى القسم والبيع بين النساء والذرية وقال لا يفرق بين الام وولدها حتى يبلغ قيل يا رسول الله ما بلوغه قال تحيض الجارية- ويحتلم الغلام- رواه الحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت عنه صلى الله عليه وسلم قال لا تفرقوا بين الام وولدها فقيل الى متى قال الى ان يبلغ الغلام وتحيض الجارية- وقال ابن الجوزي قال الدار قطنى فى سنده عبد الله بن عمر بن حسان ضعيف الحديث رماه على بن المديني بالكذب وروى الترمذي عن ابى أيوب الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة- وقال الترمذي حديث حسن غريب وصححه الحاكم على شرط مسلم وفيه نظر لان فى سنده حيى بن عبد الله ولم يخرجه فى الصحيح واختلف فيه ولذا لم يصححه الترمذي وروى الحاكم فى المستدرك عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعون من فرق بين والدة وولدها- وقال اسناده صحيح وفيه طليق بن محمد يرويه تارة عنه عن عمران بن حصين وتارة عنه عن ابى بردة وتارة عن طليق عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا- قلت ويمكن الجمع بان طليقا لعله سمعه عمران وعن ابى بردة كليهما فيرويه تارة عنه وتارة عنه وتارة مرسلا وقال ابن القطان لا يصح الحديث لان طليقا لا يعرف حاله قال ابن همام يريد خصوص ذلك والا فللحديث طرق كثيرة وشهرة وألفاظه توجب صحة المعنى المشترك وهو منع التفريق وروى الدار قطنى بسنده عن ميمون بن ابى شعيب عن على عليه السلام انه فرق بين جارية وولدها فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فرد البيع- ورواه ابو داود ورده بالانقطاع بين ميمون ابن ابى شعيب وعلى قال ابن الهمام ان الإرسال عندنا لا يضر ورواه الحاكم وصحح اسناده ورجحه البيهقي.
(مسئلة) ومن هاهنا قال ابو حنيفة لا يجوز ان يفرق بالبيع او الهبة او نحوهما بين مملوكين صغيرين وكذا بين صغير وكبير يكون بينهما رحم ومحرمية وكذا بين كبيرين كذلك عند احمد وقال مالك لا يفرق بين الام وولدها خاصة وقال الشافعي لا يفرق بين صغير وبين أبويه وان عليا- وجه قول مالك ان الحديث المذكور ورد(7/326)
فى المنع من التفريق بين الام وولدها خاصة والحق الشافعي بالأم الأصول مطلقا- ووجه قول ابى حنيفة واحمد فى المنع من التفريق بين اثنين بينهما رحم ومحرمية ان فى بعض الأحاديث ورد المنع فى غير الأصول والفروع ايضا عن على عليه السّلام قال وهب لى رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على ما فعل غلامك فاخبرته قال رده رده قال الترمذي حديث حسن غريب وتعقبه ابو داود بانه من رواية ميمون بن ابى شعيب عن على وهو لم يدرك عليّا قلنا فهو مرسل والمرسل عندنا حجة وأخرجه الحاكم والدار قطنى من طريق اخر عن عبد الرحمان بن ابى ليلى عن على قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبىّ فامرنى ببيع أخوين فبعتهما وفرقت بينهما ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاخبرته فقال أدركها فارتجعهما ولا تبعهما الا جميعا ولا تفرق بينهما وصححه الحاكم على شرط الشيخين ونفى ابن القطان العيب عنه وقال هو اولى ما اعتمد عليه فى هذا الباب ومن طريق اخر عند احمد والبزار قال ابن همام فيه انقطاع لكن لا يضر على أصلنا على ما عرف وروى الدار قطنى عن طليق بن عمران عن ابى بردة عن ابى موسى قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرق بين الوالدة وولدها وبين الأخ وأخيه وإذا ثبت المنع من التفريق بين أخوين ايضا ظهر ان علة المنع الرحم مع المحرمية ولا يمنع من التفريق المحرمية بالرضاع ونحو ذلك ولا رحم بلا محرمية كابن العم لانه ليس فى معناه.
(مسئلة) من فرق بين والدة وولدها يأثم لكن ينعقد البيع وينفذ عند ابى حنيفة ومحمد وعند مالك والشافعي واحمد لا ينعقد بل هو باطل وكذا لا ينعقد البيع فى غير قرابة الولاد ايضا عند احمد وقال ابو يوسف يفسد البيع فى قرابة الولاد خاصة وعنه انه يفسد مطلقا سواء كان قرابة ولاد او غيرها ومبنى الخلاف على خلافية اصولية فان النهى عن الشرعيات بلا قرينة يوجب البطلان عندهم ويوجب الفساد عند ابى حنيفة وصاحبيه لكن أبا حنيفة ومحمدا قالا ان النهى فى هذا البيع انما هو لمعنى مجاور كالبيع وقت أذان الجمعة فلا يوجب الفساد بخلاف ما كان لوصف لازم- وجه قول ابى يوسف انه صلى الله عليه وسلم امر عليّا برد البيع والارتجاع وذا لا يمكن(7/327)
الا عند فساد العقد وحمل ابو حنيفة الارتجاع على طلب الا قالة.
(مسئلة) يجوز التفريق ان كانا بالغين كما يدل عليه حديث عبادة بن الصامت وقال احمد لا يجوز عملا بإطلاق الاخبار المذكورة وردّ ابن الجوزي حديث عبادة كما ذكرنا ولنا ايضا حديث سلمة بن الأكوع قال خرجنا مع ابى بكر فغزونا فزارة الى ان قال فجئت بهم الى ابى بكر وفيهم امرأة معها ابنة لها من احسن العرب فنفلنى ابو بكر ابنتها فقدمت المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا سلمة هب لى المرأة قلت هى لك فقدى بها أسارى ثلاثة- وما روى انه صلى الله عليه وسلم فرق بين مارية القبطية أم ابراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرين أختها أهداهما المقوقس ملك الاسكندرية الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمان بن حسان- ذكر الحديث ابن عبد البر فى الاستيعاب وذكر البزار ان هذا الحديث فى صحيح ابن خزيمة والله اعلم.
(مسئلة) إذا كان مع الصغير أبواه لا يبيع واحدا منهم ولو كان أم وأخ او أم وعمة او خالة او أخ جاز البيع سوى الام فى ظاهر الرواية لان شفقة الام تغنى عمن سواه ولو كان له ستة اخوة ثلاثة كبار وثلاثة صغار فباع مع كل صغير كبيرا جاز ولو كان مع الصغير جدة وعمة وخالة جاز بيع العمة والخالة ولو كان معه عمة وخالة بدون جدة لا يباع الا معا- والأصل انه إذا كان معه عدد بعضهم ابعد من بعض جاز البيع سوى الأقرب وان كانوا فى درجة واحدة فان كانوا من جنسين مختلفين كالاب والام والخالة والعمة لا يفرق بل يباع الكل او يمسك الكل وان كانوا من جنس واحد كالاخوين والعمين جاز ان يمسك مع الصغير واحدا منهم ويبيع ما سواه والله اعلم.
(مسئلة) ذكر فى سبيل الرشاد انه كان يباع الام وولدها الصغار من سبى بنى قريظة من اليهود ومن المشركين من العرب وإذا كان الولد صغيرا ليس معه أم لم يبع من المشركين ولا من اليهود الا من المسلمين وذا لان الصغير إذا سبى مع أحد أبويه يعتبر كافرا فيجوز بيعه من الكافر مشركا كان او يهوديا فان الكفر ملة واحدة-(7/328)
وان سبى لا مع أحد أبويه يعتبر مسلما بتبعية الدار والله اعلم واستشهد يوم بنى قريظة خلاد بن سويد ومنذر بن محمد.
(فائدة) اصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه ريحانة بنت زيد بن عمرو بن حذافة من بنى النضير المتزوجة فى بنى عمرو بن قريظة وكانت جميلة فعرض عليها الإسلام فابت فعزلها ووجد فى نفسه فارسل الى ابن سعية فذكر له ذلك فقال ابن سعية فداك ابى وأمي هى تسلم فخرج حتى جاءها فجعل يقول لها لا تبتغى قومك فقد رايت ما ادخل عليهم حيى بن اخطب فاسلمى يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجابت الى ذلك فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال ان هاتين لنعلا ابن سعية يبشرنى بإسلام ريحانة فجاءه فقال يا رسول الله لقد أسلمت ريحانة فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفى عنها وهى فى ملكه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص عليها ان يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت يا رسول الله بل تتركنى فى ملكك فهو أخف علىّ وعليك فتركها والله اعلم.
(فائدة) ولمّا انقضى شأن بنى قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ قالت عائشة فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر وعمر فو الذي نفس محمد بيده انى لا عرف بكاء ابى بكر من بكاء عمرو انى لفى حجرتى وكانوا كما قال الله تعالى رحماء بينهم.
(مناقب سعد بن معاذ) عن انس قال لمّا حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون ما أخف جنازته وذلك لحكمه فى بنى قريظة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان الملائكة كانت تحمله- رواه الترمذي وعن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول اهتز عرش الرحمان لموت سعد بن معاذ- متفق عليه وعن البراء ابن عازب قال أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويتعجبون من لينها فقال أتعجبون من لين هذا لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة خير منها وألين- متفق عليه- ذكر البغوي وغيره ان ازواج النبي صلى الله عليه وسلم سالنه من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة فى النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض فهجرهن رسول الله(7/329)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
صلى الله عليه وسلم والى ان لا يقربهن شهرا ولم يخرج الى أصحابه فقالوا ما شأنه وكانوا يقولون طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فقال عمر لا علمكم ما شأنه فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أطلّقت نساءك قال لا قلت يا رسول الله انى دخلت المسجد والمسلمون يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبرهم انك لم تطلقهن قال نعم ان شئت فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتى لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ فكنت انا استنبطت ذلك الأمر فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها اى السعة والتنعم فيها وزخارفها فَتَعالَيْنَ اصل تعال ان يقوله من كان فى مكان مرتفع لمن كان فى مكان دونه ثم كثر حتى استوت فى استعماله الامكنة كلها بمعنى اقبل الىّ والمعنى هاهنا اقبلن بارادتكن واختياركن لطلب الطلاق أُمَتِّعْكُنَّ اى اعطكن المتعة وَأُسَرِّحْكُنَّ اى أطلقكن سَراحاً طلاقا جَمِيلًا (28) من غير ضرار.
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ اى مراتب القرب الى الله ومرضاته وَقرب رَسُولَهُ وَنعماء الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ يعنى لمن أرادت رضوان الله ورسوله والدار الاخرة فانها هى المحسنة إذ الإحسان ان تعبد ربك بالحضور كانك تراه أَجْراً عَظِيماً (29) قال البغوي وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش عائشة بنت ابى بكر وحفصة بنت عمرو أم حبيبة بنت ابى سفيان وأم سلمة بنت امية وسودة بنت زمعة واربع من غير قريش زينب بنت جحش الاسدية وميمونة بنت الحارث الهلالية وصفية بنت حيى بن اخطب الخيبرية وجويرية بنت الحارث المصطلقية- ولمّا نزلت اية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة وكانت أحبهن اليه فخيرها وقرأ عليها القران فاختارت الله ورسوله والدار الاخرة ورات الفرح فى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعنها على ذلك- قال قتادة فلمّا اخترن الله ورسوله شكرهن على ذلك وقصره عليهن فقال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ.(7/330)
اخرج مسلم واحمد والنسائي من طريق ابى الزبير عن جابر قال اقبل ابو بكر ليستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤذن له ثم اقبل عمر فاستاذن فلم يوذن له ثم اذن لهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه واجما «1» ساكتا قال فقال عمر لا قولن شيئا اضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لو رايت بنت خارجة سالنى النفقة فقمت إليها فوجأت «اى ضربت يحاء يضرب- منه رح» عنقها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هن حولى كما ترى يسئلننى النفقة فقام ابو بكر الى عائشة يجأء عنقها وقام عمر الى حفصة يجاء عنقها كلاهما يقولان لا تسئلنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابدا ما ليس عنده- ثم اعتزلهن شهرا وتسعا وعشرين ثم نزلت هذه الاية- قال فبدا بعائشة قال يا عائشة انى أريد ان اعرض عايك امرا احبّ ان لا تعجلى فيه حتى تستشير أبويك فقال وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآيات فقالت أفيك يا رسول الله استشير ابوىّ بل اختار الله ورسوله والدار الاخرة أسئلك ان لا تخبر امرأة من نسائك قال لا تسئلنى امراة منهن الا أخبرتها ان الله لم يبعثنى جحودا ولا مفتنا ولكنه بعثني مبشرا معلما وفى الصحيح عن الزهري ان النبي صلى الله عليه وسلم اقسم ان لا يدخل على أزواجه شهرا قال الزهري فاخبرنى عروة عن عائشة قالت فبدانى فقلت يا رسول الله انك أقسمت ان لا تدخل علينا شهرا فانك بتسع وعشرين اعدهن قال ان الشهر تسع وعشرون.
(فائدة) قال البغوي اختلف العلماء فى هذا الخيار هل كان ذلك تفويض الطلاق حتى يقع الطلاق بنفس اختيارها نفسها أم لا فذهب الحسن وقتادة واكثر اهل العلم انه لم يكن تفويض الطلاق بل خيرهن فى طلب الطلاق فان اخترن الدنيا فارقهن بدليل قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ- وذهب قوم الى انه كان تفويض الطلاق لو اخترن انفسهن كان طلاقا.
(مسئلة) إذا قال الزوج لامراته اختاري ونوى بذلك ان تطلق نفسها ان شاءت فلها ان تطلق نفسها مادامت فى المجلس فان قامت منه او أخذت فى عمل
__________
(1) الوجم ككتف صاحب العبوس المطرق لشدة الحزن وجم كوعد وجما ووجوما سكت على غيظه 12 قاموس منه رحمه الله(7/331)
اخر خرج الأمر من يدها لانه تمليك الفعل منهيّا والتمليكات يقتضى جوابا فى المجلس كما فى البيع قال صاحب الهداية لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضى الله عنهم وقال ابن همام قال ابن المنذر اختلفوا فى الرجل يخير زوجته فقالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس فان قامت من مجلسها فلا خيار لها روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب وعثمان وابن مسعود رضى الله عنهم وفى أسانيدها مقال وبه قال جابر بن عبد الله وبه قال عطاء ومجاهد والشعبي والنخعي ومالك وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وابو ثور واصحاب الرازي- وقالت طائفة أمرها بيدها فى المجلس وبعدها وهو قول الزهري وقتادة وابى عبيدة وابن نصر قال ابن المنذر وبه نقول لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة لا تستعجلى حتى تستأمرى أبويك وحكى صاحب المغني هذا القول من الصحابة عن على رضى الله عنه وأجاب ابن الهمام عن قول ابن المنذر ان الرواية عن على لم يستقر فقد روى عنه قول الجماعة كذا نص محمد فى بلاغاته حيث قال بلغنا عن عمر وعثمان وعلى وابن مسعود وجابر رضى الله عنهم فى الرجل يخير امرأته ان لها الخيار مادامت فى مجلسها ذلك فاذا قامت من مجلسها فلا خيار لها ولم يرو عن غيره من الصحابة ما يخالف ذلك فكان اجماعا سكوتيا وقوله فى أسانيدها مقال لا يضر بعد تلقى الامة بالقبول مع ان رواية عبد الرزاق عن جابر وابن مسعود جيدة- واما التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لا تعجلى فضعيف لانه ليس فى الاية تخيير الطلاق وتفويضه كما يدل عليه قوله تعالى فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا.
(مسئلة) لا بد من النية فى قوله اختاري لانه يحتمل تخيرها فى نفسها ويحتمل تخيرها فى تصرف اخر غيره.
(مسئلة) إذا قال الزوج اختاري فقالت اخترت نفسى فالمروى عن عمرو ابن مسعود وابن عباس انها تقع واحدة رجعية وبه أخذ الشافعي واحمد لان قوله اختاري بمنزلة قوله طلقى نفسك وقولها اخترت نفسى بمنزلة قوله طلقت نفسى والواقع بها رجعى اجماعا وبان الكتاب دل على ان الطلاق يعقب الرجعة الا الثالث- وروى عن زيد بن ثابت انه يقع الطلقات الثلاث وبه أخذ مالك فى المدخول بها وفى غيرها(7/332)
يقبل منه دعوى الواحدة وجه قول زيد ان اختيارها يقتضى ثبوت اختصاصها بها بحيث لا يكون لزوجها إليها سبيل من غير رضاءها والا لا يحصل فائدة التخيير إذا كان له ان يراجعها فى الحال شاءت او أبت وذلك الاختصاص لا يتصور الا فى البائن والطلاق يعقب الرجعة بالكتاب الا ان يكون ثلاثا فيقع الثلاث وثبت عن على رضى الله عنه ان الواقع به واحدة بائنة وبه قال ابو حنيفة رحمه الله لما ذكرنا ان اختصاصها بنفسها لا يتصور الا بالبينونة والبينونة قد يكون بواحدة اجماعا كالطلاق بمال والطلاق قبل الدخول فيحمل عليه لحصول المقصود ولا وجه لجعله ثلاثا بعد حصول المقصود بواحدة- وقد روى الترمذي عن ابن مسعود وعمر ان الواقع بها بائنة كما روى عنهما الرجعية فاختلف الرواية عنهما- قلت البينونة يتنوع الى غليظة وخفيفة فان نوى بها الزوج الغليظة لا بد ان يقع به ثلاثا- لكن أبا حنيفة رحمه الله يقول ان قوله اختاري لا يدل على البينونة بل يفيد الخلوص والصفاء والبينونة يثبت فيه اقتضاء فلا يعم بل يقدر بقدر الضرورة بخلاف أنت بائن ونحوه فلا يقع الثلاث بقوله اختاري وان نوى الثلاث لان النية انما تعمل فيما يحتمله اللفظ ويقع بقوله أنت بائن ثلاثا ان نوى الثلاث وبخلاف قوله اختاري اختاري اختاري لان تعدد اللفظ يدل على تعدد المقصود.
(مسئلة) لو قالت اخترت زوجى بعد ما قال لها اختاري لا يقع شىء عند الجمهور لان الزوج لم يطلقها بل جعل أمرها باختيارها وهى لم تختر الطلاق بل اختارت ابقاء النكاح- وعن على رضى الله عنه انه يقع رجعية كانه جعل نفس اللفظ ايقاعا قال ابن همام لكن قول عائشة خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعدّه علينا شيئا- رواه الستة وفى لفظ الصحيحين فلم يعدد يفيد عدم وقوع شىء كما قاله الجمهور- قلت لما ذكرنا فيما سبق ان تخيير ازواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن تخييرا للطلاق بل كان تخييرا فى طلب انطلاق فلا يكون قول عائشة حجة على ما قاله الجمهور والله اعلم.
(مسئلة) ولا بد من ذكر النفس فى كلامه او كلامها حتى لو قال اختاري فقالت اخترت لا يقع الطلاق لان هذا اللفظ ليس لفظا للطلاق فكان القياس(7/333)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
ان لا يقع بها شىء لان التمليك فرع ملك المملك والزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ لكنا تركنا القياس وقلنا بوقوع الطلاق باختيارها بإجماع الصحابة والإجماع انما هو فى المفسّر من أحد الجانبين بالنفس ولان قوله اختاري مبهم يحتمل تخيرها فى نفسها وتخيرها فى تصرف اخر غيره- والمبهم لا يصلح تفسيرا للمبهم ولا تعيين مع الإبهام- ولمّا كان وقوع الطلاق بقوله اختاري معدولا عن سنن القياس مقتصرا على مورد الإجماع لا يكتفى بالنية وان كان مع القرينة الحالية دون المقالية لعدم الإجماع هناك- وقال الشافعي واحمد يكتفى بالنية مع القرينة الحالية بعد ان نوى الزوج وقوع الطلاق به وتصادقا عليه وقال ابو حنيفة النية بدون احتمال اللفظ يلغوا والا لوقع بجرد النية مع لفظ لا يصلح له أصلا كاسقنى وانما تركنا القياس بموضع الإجماع. قلت لكن قوله النية بدون احتمال اللفظ يلغو ليس فى محله فان لفظ اختاري واخترت بدون ذكر النفس يحتمل تخيرها الطلاق واختارها إياه وغير ذلك وان لم تكن نصّا فيه ولذلك لو قال اختاري فقالت اخترت نفسى يقع الطلاق ان نوى الزوج لان كلامها مفسرة وما نواه الزوج من محتملات كلامه- وكذا لو قال اختاري اختيارة فقالت قد اخترت طلقت ايضا لان الهاء فى اختيارة ينبئ عن الاتحاد وو الانفراد واختيارها نفسها يتحد مرة ويتعدد اخرى فصار مفسرا من جانبه.
(مسئلة) ولو قال الزوج اختاري فقالت انا اختار نفسى فهى طالق والقياس ان لا يطلق لان هذا مجرد وعد او يحتمله فصار كما إذا قال طلقى نفسك فقالت انا اطلق نفسى قال صاحب الهداية وجه الاستحسان قول عائشة لابل اختار الله ورسوله واعتباره صلى الله عليه وسلم جوابا منها- لا يقال ذكر فيما سبق ان قصة عائشة لم يكن تخييرا فى التطليق بل فى طلب الطلاق لانا نقول مقصودنا يحصل باعتباره صلى الله عليه وسلم جوابا للاختيار سواء كان الاختيار متعلقا بالتطليق او طلب التطليق- ولان قولها انا اختار نفسى حكاية عن حالة قائمة وهو اختيار نفسها بخلاف قولها- طلق نفسى لان جمله على الحال متعذر لانه ليس حكاية عن حالة قائمة والله اعلم.
يا نِساءَ النَّبِيِّ التفات من الغيبة الى الخطاب مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قال ابن عباس أراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ(7/334)
قرأ ابن كثير وابن عامر نضعّف بالنون على التكلم وكسر العين وتشديدها بغير الف من التفعيل والعذاب بالنصب على المفعولية- والباقون بالياء التحتانية على الغيبة وو فتح العين على صيغة المجهول والعذاب بالرفع على انه مفعول ما لم يسم فاعله فيقرأ ابو جعفر «ويعقوب- ابو محمد» وابو عمرو بتشديد العين بلا الف من التفعيل والباقون بالتخفيف والالف من الافعال ضِعْفَيْنِ اى ضعفى عذاب غيرهن والضعف من الألفاظ المتضائفة التي يتوقف فهمه على شىء اخر كالنصف والزوج وهو تركب قدرين متساويين ومعنى أضعفت الشيء وضعّفته واحد وهو ضمت اليه مثله وكذا ضاعفته- والضعفين المثلين الذين يضم أحدهما الى صاحبه كالزوجين فان أحدهما يضاعف الاخر ويزاوجه- وقد يطلق الضعف على مجموع المثلين كما فى قوله تعالى حكاية عن الاتباع من الكفار فاتهم عذابا ضعفا من النّار اى مثلى ما نحن فيه من العذاب لانهم ضلوا وأضلونا- وإذا أضيف الضعف الى عدد يراد به ذلك العدد مع مثله فضعف عشرة عشرون وضعف مائة مائتان وضعف الواحد اثنان وإذا أضيف الضعفين الى واحد يّثلثه وفى القاموس ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه او الضعف المثل الى ما زاد يقال لك ضعفه يريدون مثليه وثلاثة أمثاله لانه زيادة غير محصورة- وفسّر الجزري فى النهاية الضعف الواقع فى حديث ابى الدحداح بانه مثلى الاخر وقال يقال ان أعطيتني درهما فلك ضعفه اى درهمان وربما قالوا فلك ضعفاه وقيل ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه- وقال الزهري الضعف فى كلام العرب المثل فما زاد وليس بمقصور على مثلين فاقل الضعف محصور فى الواحد وأكثره غير محصور ومنه الحديث يضعف صلوة الجماعة على صلوة الفذ خمسا وعشرين درجة وقال الله تعالى فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً اى يزاد عليها يقال ضعّفت الشيء وأضعفته وضاعفته إذا زدته قال البغوي ضعّف وضاعف لغتان مثل بعّد وباعد قال ابو عمرو وابو عبيد ضعّفته إذا جعلته مثليه وضاعفته إذا جعلته أمثاله- وشدد ابو عمرو هاهنا لقوله تعالى ضعفين وقوله تعالى ضعفين منصوب على المفعولية لان التضعيف والمضاعفة يتضمنان معنى التصيير او على المصدرية من قبيل ضربته ضربتين او ضربته سوطين او على الحال من العذاب ووجه تضعيف العذاب ان الذنب منهن مع توافر النعمة أقبح ولذلك جعل حد الحر ضعف حد العبد ولان(7/335)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
فى صدور الذنب منهن هتك حرمة مصاحبة سيّد البشر صلى الله عليه وسلم وذلك أشد وأقبح وَكانَ ذلِكَ اى تضعيف العذاب عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) جملة معترضة.
وَمَنْ يَقْنُتْ القنوت الطاعة قرأ يعقوب من تأت وتقنت بالتاء «1» الفوقانية فيهما نظرا الى المعنى والباقون بالياء التحتانية نظرا الى كلمة من يعنى من يدم على الطاعة مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ قرأ حمزة «وخلف- ابو محمد» والكسائي بالياء التحتانية حملا على لفظة من والباقون بالتاء الفوقانية نظرا الى المعنى صالِحاً منصوب على المصدرية او المفعولية نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ اى مثلى اجر غيرها مرة على الطاعة ومرة على طلبهن رضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة قال مقاتل مكان كل حسنة عشر حسنات- قرأ حمزة «وخلف- ابو محمد» والكسائي يؤتها بالياء التحتانية على ان فيه ضمير اسم الله تعالى والباقون بالنون على التكلم وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) اى جليل القدر وهو الجنة زيادة على أجرها قلت وذلك لانهن يرزقن بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم ما يرزق النبي صلى الله عليه وسلم..
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ اى ليست كل واحدة منكن او المعنى لم توجد جماعة واحدة من جماعات النساء مثلكن فى الفضل كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وجملة لستن تعليل لمضمون ما ذكر واصل أحد وحد بمعنى الواحد ثم وضع فى النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد والكثير قال ابن عباس اى ليس قدر كن عندى مثل قدر غير كن من النساء الصالحات أنتن أكرم علىّ وثوابكن أعظم لدىّ- هذه الاية تدل على فضلهن على سائر النساء ويعارضها قوله تعالى فى حق مريم ابنة عمران انّ الله اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ والقول بان المراد من نساء العالمين نساء زمانه يأباه ما رواه الترمذي عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وآسية امراة فرعون فالواجب ان يقال ان النساء فى قوله تعالى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ من حيث انكن ازواج سيد البشر صلى الله عليه وسلم يعنى ليست أحد من النساء شريكة لكنّ فى هذا الفضل والجمهور على ان أفضل نساء
__________
(1) هذا ليس بشئ بل قرأهما يعقوب بالياء كالجمهور- ابو محمّد رحمه الله(7/336)
العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخديجة بنت خويلد خير نساء الرسول صلى الله عليه وسلم ومريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وعائشة الصديقة بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم روى الشيخان فى الصحيحين واحمد والترمذي وابن ماجة عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وان فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام- وفى الصحيحين عن على رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد- وفى رواية كريب وأشار وكيع الى السماء والأرض وفى الصحيحين من حديث عائشة عن فاطمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فاطمة الا ترضين ان تكونى سيدة نساء اهل الجنة او نساء المؤمنين- وعن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال ان هذا ملك لم ينزل الى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه ان يسلم علىّ ويبشرنى بان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة وان الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب إِنِ اتَّقَيْتُنَّ مخالفة حكم الله ورضاع رسوله شرط استغنى عن الجزاء بما مضى فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ الفاء للسببية يعنى إذا ثبت فضلكن على سائر النساء بشرط التقوى فلا بد ان لا يظهر منكن ما ينافى التقوى من الخضوع بالقول للرجال يعنى ان تكلم المرأة مع الرجل الأجنبي كلاما لينا بما تطمعه منها- وذكر الجزري فى النهاية نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يخضع الرجل لغير امرأته ان يلين لها بالقول بما يطمعها منه- والخضوع الانقياد والمطاوعة وذكر ايضا فى النهاية ان رجلا مرّ فى زمان عمر رضى الله عنه برجل وامراة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه فاهدره عمر رضى الله عنه اى ليّنا بينهما الحديث وتكلما بما يطمع كلّا منهما من الاخر وروى الطبراني بسند حسن عن عمرو بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى ان يكلم النساء الا بإذن أزواجهن وروى الدار قطنى فى الافراد عن ابى هريرة انه صلى الله عليه وسلم نهى ان يتمطى الرجل فى الصلاة او عند النساء الا عند امرأته وجواريه فَيَطْمَعَ فى الفجور منصوب فى(7/337)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
جواب النهى بان المقدرة بعد الفاء الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ اى شائبة من النفاق فان المؤمن الكامل الذي مطمئن بالايمان ويرى برهان ربه لا يطمع فيما حرمه الله تعالى والذي إيمانه ضعيف كان فيه شائبة النفاق يشتهى الى ما حرم الله عليه- وفى غير المتواتر من القراءة فيطمع مجزوم عطفا على محل النهى فهو نهى لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول.
(مسئلة) المرأة مندوبة الى الغلظة فى المقال إذا خاطبت الا جانب لقطع الاطماع وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (32) يعنى ما يعرفه حسنا بعيدا من الريبة.
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» وعاصم بفتح القاف من قرّ يقرّ بكسر العين فى الماضي وفتحها فى الغابر أصله اقررن حذفت الراء الاولى ونقلت حركتها الى القاف واستغنى عن همزة الوصل والباقون بكسر القاف من قرّ يقرّ قرارا بفتح العين فى الماضي وكسرها فى الغابر وهما لغتان فيه ومعناهما واحد وكذا تعليلهما واحدة- امر بالقرار فى البيوت وعدم الخروج بقصد المعصية كما يدل عليه قوله تعالى وَلا تَبَرَّجْنَ فانه عطف تفسيرى وتأكيد معنى وليس فى الاية نهى عن الخروج من البيت مطلقا وان كان للصلوة او الحج او لحاجة الإنسان كما زعمه الذين فى قلوبهم مرض من الروافض حتى طعنوا فى الصديقة الكبرى بنت الصديق الأكبر حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم انها خرجت من بيتها الى مكة وذهبت منها الى البصرة فى وقعة الجمل وكان خروجها الى مكة للحج وبعد خروجها استشهد عثمان رضى الله عنه واظهر اهل المصر فتنة فى المدينة حتى هرب منها طلحة وزبير رضى الله عنهما ولحقا بعائشة وأشارا بالخروج للاصلاح ذات البين ولمّا أبت احتجا بقوله تعالى لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فخرجت الى البصرة ووقع الصلح بين من كان معها ومن كان مع على رضى الله عنهما ثم اثار نار الفتنة عبد الله بن سبأ اليهودي المنافق الذي تزىّ بزى شيعة علىّ رضى الله عنه حتى وقع القتال بين المسلمين فى وقعة الجمل وقد ذكرنا القصة فى كتابنا السيف المسلول- والتبرج من البروج بمعنى الظهور والمراد بها اظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال وقال ابن نجيح التبرج «اى التكبر والاعجاب بنفسه- منه رح» التبختر قال البيضاوي فى تفسيره لا تبخترن فى مشيتكن تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى منصوب على المصدرية اى تبرجا مثل تبرج الجاهلية(7/338)
الاولى والمراد بالجاهلية الاولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق بعد الإسلام- قال الشعبي هى ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وقال ابو العالية هى زمن داود وسليمان عليهما السلام كانت المرأة تلبس قميصها من الدر غير مخيط للجانبين فيرى خلقها فيه وقال الكلبي كان ذلك فى زمن نمرود الجبار كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشى وسط الطريق ليس عليها شىء غيره وتعرض نفسها على الرجال وروى عكرمة عن ابن عباس الجاهلية الاولى فيما بين نوح وإدريس وكان الف سنة وكان سبطين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والاخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحا وفى النساء دمامة «بالفتح: القصر والقبح- نهايه رح» وكان النساء السهل صباحا وفى الرجال دمامة وان إبليس اتى رجلا من اهل السهل واجر نفسه منه فكان يخدمه واتخذ شيئا مثل الذي يدمو الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يسمعون اليه واتخذوا عيدا يجتمعون اليه فتبرج النساء للرجال وتزين الرجال لهن وان رجلا من اهل الجبل هجم عليهم فى عيدهم ذلك فراى الرجال والنساء وصباحتهن فاتى أصحابه فاخبرهم بذلك فتحولوا إليهم فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهن فذلك قوله تعالى وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وقد تذكر الاولى وان لم يكن لها اخرى كقوله تعالى أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ولم يكن لها اخرى او المعنى الجاهلية التي كانت قبل زمانكم وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى كل ما امرتنّ به ونهيتنّ عنه فان ذلك هو التقوى الذي هو شرط افضليتكن على سائر نساء العالمين إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ كلام مستأنف يعم حكمه نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من أولاده صلى الله عليه وسلم ولقصد التعميم أورد ضمير المذكر وقد أورد الله سبحانه هذا الكلام فى مقام التعليل لما سبق يعنى انما يريد الله سبحانه فيما امركن به ونهاكن عنه لاذهاب الرجس يعنى عمل الشيطان من الإثم والقبائح الشرعية والطبعية الذي ليس فيه مرضاة الله تعالى عنكن وعن غيركن من اهل البيت أَهْلَ الْبَيْتِ بيت النبي صلى الله عليه وسلم منصوب على النداء او المدح قال عكرمة ومقاتل أراد باهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ورضى عنهن لانهنّ فى بيته وهو
رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس وتلا قوله تعالى(7/339)
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ- رواه ابن ابى حاتم وروى ابن جرير عن عكرمة نحوه وهم استدلوا بسياق الاية وسباقها لكن القول بتخصيص الحكم يهن يأباه ضمير المذكرين وذهب ابو سعيد الخدري وجماعة من التابعين منهم مجاهد وقتادة وغيرهما الى انهم على وفاطمة والحسن والحسين رضى الله عنهم لحديث عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه مرط «يعنى عليه صورة الرجل- منه رح» يعنى عليه صورة الرجل- منه رح مرحل من شعر اسود فجاء الحسن ابن على فادخله ثم جاء الحسين بن على فدخل معه ثم جاءت فاطمة فادخلها ثم جاء على فادخله ثم قال إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- رواه مسلم وحديث سعد بن ابى وقّاص قال لمّا نزلت هذه الاية نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهمّ هؤلاء اهل بيتي رواه مسلم وحديث واثلة بن الأسقع انه صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الاية وقال لعلى وفاطمة وابنيهما اللهم هؤلاء اهل بيتي وخاصتى فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا- واخرج الترمذي وغيره عن عمر بن ابى سلمة وابن جرير وغيره عن أم سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا لما نزلت هذه الاية إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ فحللهم بكساء فقال اللهم هؤلاء اهل بيتي فاذهب عنهم وطهرهم تطهيرا- وهذه الأحاديث ونحوها لا تدل على تخصيص الحكم بهؤلاء الاربعة رضى الله عنهم ويأباه ما قبل الاية وما بعدها ويأباه العرف واللغة لان الأصل فى استعمال اهل البيت لغة النساء واما الأولاد وغيرهم فانها يطلق عليهم تبعا لان لهم بيوتا متغائرة غالبا وقد قال الله تعالى حكاية عن قول الملائكة لسارة امرأة ابراهيم عليه السلام أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ والحق ما ذكرنا ان الاية يعم جميع اهل البيت وان كان سوق الكلام للنساء عن أم سلمة رضى الله عنها قالت فى بيتي أنزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قالت فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى فاطمة وعلى والحسن والحسين فقال هؤلاء اهل بيتي فقلت يا رسول الله اما انا من اهل البيت قال بلى ان شاء الله- رواه البغوي وغيره هذا الحديث يدل على ان اهل البيت يعم(7/340)
كلهم وكلمة ان شاء الله للتبرك وقال زيد بن أرقم اهل بيته من حرم عليه الصدقة ال على وال عقيل وال جعفر وال عباس وال الحارث بن عبد المطلب وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) من نجاسة الآثام بالحفظ فى الدنيا والمغفرة فى الاخرة- بين الله سبحانه انه انما نهاهن وامرهن ووعظهن لئلا يقارف اهل بيت رسوله المأثم وليتصفوا بالتقوى- استعار للذنوب الرجس وللتقوى الطهارة لان عرض المقترف بالمعاصي ملوث كما يتلوث بدنه بالنجاسة والمتقى نقى كالثوب الطاهر النقي- ولكمال المناسبة بين الآثام والارجاس قال ابو حنيفة يتنجس الماء المستعمل للقربة او لرفع الحدث ولما ثبت انه صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فاحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره متفق عليه من حديث عثمان وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ العبد المسلم او المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء الحديث- رواه مسلم احتجت الروافض بهذه الاية على ان عليّا وفاطمة والحسن والحسين معصومون وهم الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم وعلى ان إجماعهم ومن دونهم من الائمة حجة قالوا إذا أراد الله تطهيرهم فهم معصومون لان مراد الله تعالى لا ينفك عن الارادة والأثيم غير طاهر والعصمة شرط للامامة وابو بكر وعمر وعثمان غير معصومين بالإجماع فهم الائمة لا غيرهم. وهذا الاستدلال باطل بوجوه الاول ان الاية غير مختص حكمها بعلى وفاطمة وابنيهما كما ذكرت بل هى نازلة فى
أمهات المؤمنين لكن هؤلاء الكرام داخلون فى حكمهن والثاني ان الاية لا تدل على العصمة وقد ورد مثل ذلك فى اية الوضوء لجميع الامة حيث قال ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لا يقال مقتضى اية الوضوء ان الله يريد ان يطهر أبدانكم من الأنجاس والأحداث ان توضأتو ومقتضى هذه الاية يريد الله ان يطهركم من الآثام فاين هذا من ذلك لانا نقول انها من واد واحد فان الله كما يريد ان يطهر أبدان المؤمنين إذا توضؤا واستعملوا الماء فى مواضعه كذلك يريد ان يطهر اهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من الآثام ان اتقوا ولذلك بين لهم طريقة استعمال الماء لطهارة(7/341)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
الظاهر وبين لهم التقوى بقوله فَلا تَخْضَعْنَ لطهارة الباطن فكما ان طهارة ظاهر البدن يتوقف على اختيار العبد فى استعمال الماء كذلك الطهارة من الآثام يتوقف على اختياره التقوى والله اعلم والثالث ان العصمة ليست بشرط الامامة بل يجوز ان يكون الامام غير معصوم مع وجود المعصوم فيهم الم تر ان الله تعالى جعل الملك والامامة لطالوت مع وجود النبي المعصوم فيهم وهو اشموئيل وداود عليهما السّلام إذ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ انّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً الى قوله تعالى وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ والله اعلم..
وَاذْكُرْنَ عطف على اطعن الله ورسوله وما بينهما اعتراض للتعليل ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ يعنى القران وَالْحِكْمَةِ يعنى الوحى الغير المتلو وهو السنة وقال مقاتل يعنى احكام القران ومواعظه وقال البيضاوي يعنى اذكرن الكتاب الجامع بين الامرين وهو تذكير لما أنعم الله عليهن حيث جعلهن اهل بيت النبوة ومهبط الوحى وما شاهدن من برحاء الوحى مما يوجب قوة الايمان والحرص على الطاعة حثا على الايتمار والانتهاء فيما كلفن به إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً بكم يعظكم ويعلمكم ما يصلح فى الدين خَبِيراً (34) بكل شىء يعلم من يصلح لنبوته ومن يصلح ان يكون اهل بيته وفى صحبته قال الله تعالى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ والله اعلم ذكر البغوي ان ازواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال فى القران ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به انا نخاف ان لا يقبل منا طاعة الله فانزل الله تعالى.
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الاية وروى الطبراني وابن مردوية عن ابن عباس نحوه واخرج ابن سعد عن قتادة نحوه واخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال قال النساء يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات فنزلت ورواه ابن جرير من حديث قتادة مرسلا واخرج الترمذي وحسنه عن أم عمارة الانصارية انها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ما ارى كل شىء الا للرجال وما نرى النساء يذكرن بشئ فنزلت وذكر البغوي انه قال مقاتل قالت أم سلمة بنت ابى امية وأنيسة بنت الكعب الانصارية للنبى صلى الله عليه وسلم ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء فى شىء من كتابه نخشى ان لا يكون فيهن خيرا فنزلت هذه الاية وروى ان اسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها(7/342)
جعفر بن ابى طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت هل نزل فينا شىء من القران قلن لا فاتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان النساء فى خيبة وخسارة قال ومم ذلك قالت انهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال فانزل الله تعالى هذه الاية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ اى المنقادين لحكم الله ورسوله المفوضين أمورهم الى الله المتوكلين عليه من الرجال والنساء وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أمن الناس من يوابقهم من الرجال والنساء وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعة من الفريقين وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ فى القول والعمل اعنى عاملين أعمالا يصدق من يثنى عليها وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ فى المصائب وعلى الطاعات وعن المعاصي واتباع الشهوات وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين غير متكبرين من الرجال والنساء وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ مما رزقهم الله ابتغاء مرضاة الله وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ فرضا ونفلا وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ فروجهن عما لا يحل وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ الله تعالى بقلوبهم وألسنتهم «1» .
قال البغوي قال مجاهد لا يكون العبد من الذّاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا يعنى لا يفتر ذكرهم فى حين من الأحيان- قلت وذلك لا يتصور الا بعد فناء القلب واستغراق القلب فى الذكر وحصول الحضور الدائم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول الله قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات- رواه مسلم من حديث ابى هريرة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من شىء أنجى من عذاب الله من ذكر الله قالوا ولا الجهاد فى
__________
(1) عن معاذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رجلا ساله فقال اىّ المجاهدين أعظم اجرا فقال أكثرهم لله ذكرا قال فاىّ الصائمين أعظم اجزا قال أكثرهم لله ذكرا ثم ذكر الصلاة والزكوة والحج والصدقة كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أكثرهم لله ذكرا فقال ابو بكر لعمر يا أبا حفص ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل 12 منه نور الله مرقده-[.....](7/343)
سبيل قال ولا الجهاد فى سبيل الله الا ان يضرب بسيفه حتى ينقطع رواه البيهقي فى الدعوات الكبير من حديث عبد الله بن عمرو عن ابى سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل اى العباد أفضل وارفع درجة عند الله يوم القيامة قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات قيل يا رسول الله ومن الغازي فى سبيل الله قال لو ضرب بسيفه فى الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما فان الذاكر لله أفضل منه درجة رواه احمد والترمذي وقال هذا حديث غريب وعن مالك قال بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ذاكر الله فى الغافلين كالمقاتل خلف الفارّين وذاكر الله فى الغافلين كغصن شجر اخضر فى شجر يابس وذاكر الله فى الغافلين مثل مصباح فى بيت مظلم وذاكر الله فى الغافلين يريه الله مقعده من الجنة وهو حىّ وذاكر الله فى الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم والفصيح بنوا آدم والأعجم بهائم- رواه رزين- قال البغوي قال عطاء بن ابى رباح من فرض امره الى الله فهو داخل فى قوله إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ومن أقر بأن الله ربه ومحمدا رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل فى قوله وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ومن أطاع الله فى الفرائض والرسول فى السنة فهو داخل فى قوله وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل فى قوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ومن صبر على الطاعة وخاف من المعصية وصبر على الرزية فهو داخل فى قوله وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل فى قوله الْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ ومن تصدق فى كل أسبوع بدرهم فهو داخل فى قوله وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ ومن صام فى كل شهر ايام البيض (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) فهو داخل فى قوله وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ ومن حفظ فرجه عمالا يحل له فهو داخل فى قوله وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ ومن صلى الصلوات الخمس فهو داخل فى قوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ- قال البيضاوي عطف الإناث على الذكور ضرورى لاختلاف الجنسين وعطف الزوجين على الزوجين لتغائر الوصفين ليس بضرورى ولذلك ترك فى قوله تعالى مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ إلخ وفائدته الدلالة على ان الاعداد والموعود لهم للجمع بين هذه الصفات(7/344)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما صدر منهم من الذنوب وَأَجْراً عَظِيماً (35) على طاعتهم والله اعلم- اخرج الطبراني بسند صحيح عن قتادة قال خطب النبىّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وهو يريد لزيد بن الحارثة فظنت انه يريدها لنفسه فلمّا علمت انه يريدها لزيد أبت فانزل الله تعالى.
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الاية فرضيت وسلمت قال البغوي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى زيدا فى الجاهلية بعكاظ فاعتقه وتبناه فلمّا خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيت وظنت انه يخطبها لنفسه فلما علمت انه يخطبها لزيد أبت وكرهت وكذلك أخوها عبد الله بن جحش كره ذلك (وكانت أم زينب وأخيها اميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم) واخرج ابن جرير من طريق عكرمة ومثله من طريق العوفى عن ابن عباس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة فاستنكفت منه وقالت انا خير منه حسبا فانزل الله تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ يعنى عبد الله بن جحش وَلا مُؤْمِنَةٍ يعنى زينب بنت جحش يعنى لا يجوز لاحد إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً يعنى امر امرا على وجه التختم أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ يعنى ان يختاروا من أمرهم ما شاء وابل يجب عليهم ما أمرهم الله به وان يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله- وجمع الضمير الاول لعموم مؤمن ومؤمنة لوقوعهما نكرتين فى حيز النفي وجمع الثاني للتعظيم قرأ الكوفيون وهشام يكون بالياء التحتانية لاجل الفصل بين الفعل وفاعله والباقون بالتاء الفوقانية لاجل التأنيث والخيرة والخيار بمعنى واحد وهذه الاية دليل على ان مطلق الأمر للوجوب ويستفاد من هاهنا ان العالم ومن له فضل من حيث الدين كفؤ للعلوى وغيره من الشرفاء- واخرج ابن ابى حاتم عن ابن زيد قال نزلت الاية فى أم كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط وكانت أول من هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هى وأخوها وقالا انما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجنا غيره فنزلت وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً (36)(7/345)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
بين الانحراف عن الصواب فان كان عصيان ردّ وانكار فهو ضلال كفرون كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فضلال فسق جملة فقد ضلّ تعليل لجزاء الشرط المحذوف تقديره يهلك فقد ضلّ.
قال البغوي فلما نزلت هذه الاية وسمعت زينب بنت جحش وأخوها رضيا بذلك وسلما وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها فانكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فدخل بها وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا ودرعا وإزارا وملحفة وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر ومكثت عنده حينا ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى ذات يوم لحاجة فابصر زينب قائمة فى درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش فوقعت فى نفسه وأعجبه حسنها فقال سبحان الله مقلب القلوب فانصرف فلمّا جاء زيد ذكرت له ذلك ففطن زيد فالقى فى نفسه كراهتها فى الوقت واتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انى أريد ان أفارق صاحبتى فقال مالك ارايت منها شيئا قال لا والله يا رسول الله ما رايت منها إلا خيرا ولكنّها تتعظّم علىّ لشرفها وتؤذيني بلسانها فقال النبي صلى الله عليه وسلم امسك عليك زوجك واتّق الله فى أمرها كذلك روى ابن جرير عن ابى زيد فانزل الله تعالى.
وَاذكر إِذْ تَقُولُ يا محمد الاية واخرج الحاكم عن انس قال جاء زيد بن حارثة يشكو الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش فقال النبي صلى الله عليه وسلم امسك عليك أهلك فنزلت وإذ تقول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ اى هداه للاسلام ورزقه مصاحبتك والقى فى قلبك محبته والرحمة عليه وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالإنفاق والاعتاق وهو زيد بن حارثة رضى الله عنه أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعنى زينب بنت جحش وَاتَّقِ اللَّهَ فى أمرها فلا تطلقها فان الطلاق من ابغض المباحات وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ قوله أَمْسِكْ مقولة تقول وجملة تخفى معطوف على قوله تَقُولُ يعنى وكنت تسرّ فى نفسك ما الله مظهره اخرج البخاري عن انس ان هذه الاية نزلت فى شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة قال الحسن أعجبه قول زيد وأخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فى نفسه حياء وكرما(7/346)
وقيل وقع فى قلبه انه لو فارقها زيد تزوجها وقال ابن عباس حبها وقال قتادة ودّ انه طلقها.
وقال البغوي روى سفيان بن عيينة عن على بن زيد بن جدعان قال سالنى على ابن الحسين زين العابدين عليهما السلام ما يقول الحسن فى قوله عزّ وجلّ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ قلت يقول لما جاء زيد الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبى الله انى أريد ان أفارق زينب أعجبه ذلك فقال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ قال على بن الحسين ليس كذلك كان الله تعالى قد اعلمه انها ستكون من أزواجه وان زيدا سيطلقها فلما جاء زيد وقال انى أريد ان أطلقها قال أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ فعاتبه الله وقال لم قلت امسك عليك زوجك وقد أعلمناك انها ستكون من أزواجك- وهذا هو الاولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لان الله تعالى اعلم ان يبدئ ويظهر ما أخفاه ولم يظهر الله غير تزويجها منه فقال زَوَّجْناكَها فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها او ارادة طلاقها لكان يظهر ذلك وانما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم استحياء ان يقول لزيد التي تحتك وفى نكاحك ستكون امراتى- قال البغوي وهذا قول مرضى حسن وان كان القول الاخر وهو انه أخفى محبتها او نكاحها لو طلقها زيد لا يقدح فى حال الأنبياء لان العبد غير ملوم على ما يقع فى قلبه فان مثل هذه الأشياء ما لم يقصد لا اثم فيه لان الود وميل النفس من طبع البشر- وقوله أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ امر بالمعروف وهو حسنة لا اثم فيه- قلت بل هو أعظم اجرا فانه امر بالمعروف على خلاف طبعه قال الله تعالى وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- وما قال الحسن يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم حين راى زينب سبحان الله مقلب القلوب فانها تدل على انه تعالى قلّب قلب النبي صلى الله عليه وسلم الى ان يتزوجها بعد ما كان فى قلبه ان يزوجها زيدا وَتَخْشَى النَّاسَ عطف على تخفى يعنى تخاف لائمة الناس ان يقولوا امر رجلا ان يطلق امرأته وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ الجملة حال من فاعل تخشى قال عمرو ابن مسعود وعائشة رضى(7/347)
الله عنهم ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم اية هى أشد من هذه الاية وروى عن مسروق قال قالت عائشة لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما اوحى اليه لكتم وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ- قال البغوي لم يرد الله بهذه الاية انه صلى الله عليه وسلم لم يكن يخشى الله فانه صلى الله عليه وسلم قال انى أخشاكم وأتقاكم- قلت وقد قال الله تعالى فى شأن الأنبياء كلهم يَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر ان الله أحق بالخشية فى عموم الأحوال وفى جميع الأشياء قلت فمعنى الاية انك تخشى لائمة الناس وتخشى الله أشد خشية من خشية الناس فان الله أحق ان تخشاه فمن أجل خشية الناس والحياء منهم أخفيت ما أضمرت ومن أجل خشية الله أمرت بالمعروف ولم تترك شيئا مما أمرك الله به ولا منافاة بينهما ومعنى قوله تعالى لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ انهم لا يخشون أحدا فيما يفضى خشيتهم ترك امتثال امر الله تعالى واما خشية الناس حياء فيما عدا ذلك فحسن فان الحياء من الايمان متفق عليه مرفوعا من حديث ابن عمر وفى الصحيحين عن عمران بن حصين قوله صلى الله عليه وسلم الحياء خير كله- وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الحياء والايمان قرنا جميعا فاذا رفع أحدهما رفع الاخر- وفى رواية ابن عباس فاذا سلب أحدهما تبعه الاخر- رواه البيهقي فى شعب الايمان وروى مالك عن زيد بن طلحة مرسلا وابن ماجة والبيهقي فى شعب الايمان عن انس وابن عباس انه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء والله اعلم- واخرج مسلم واحمد والنسائي وابو يعلى وابن ابى حاتم والطبراني وابن مردوية وذكره البغوي وهذا لفظ البغوي عن انس انه
قال لمّا انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها علىّ فانطلق زيد حتى أتاها وهى تخمّر عجينها قال زيد فلمّا رايتها عظمت فى صدرى حتى ما أستطيع ان انظر إليها حين علمت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهرى ونكصت على عقبى فقلت يا زينب أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكرك قالت ما انا بصانعة حتى او امر ربى فقامت الى مسجدها ونزل القران فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً(7/348)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
الاية وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير اذن فقال لقد رايتنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار فخرج الناس وبقي رجلان يتحدثون فى البيت بعد الطعام فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويسلمن عليه ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك فقال ما أدرى انا أخبرت ان القوم قد خرجوا او أخبروني فانطلق حتى دخل البيت قال انس فذهبت ادخل معه فالقى السّتر بينى وبينه ونزل الحجاب- قوله تعالى فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها اى من اهله وهى زينب بنت جحش وطرا اى حاجة بحيث ملّها ولم يبق له فيها حاجة وطلقها وانقضت عدتها قيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق زَوَّجْناكَها اى جعلنها زوجتك روى البخاري واحمد والترمذي والحاكم وابن مردوية وعبد بن حميد والبيهقي فى سننه عن انس انه قال كانت زينب تفخر على ازواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول زوجكن اهاليكن وزوجنى الله من فوق سبع سماوات وفى لفظ ان الله تولّى نكاحى وانتنّ زوجكن اولياؤكن قال البغوي قال الشعبي كانت زينب تقول للنبى صلى الله عليه وسلم انى لادل عليك بثلاث ما من نسائك امراة تدل بهن جدى وجدك واحد وانى أنكحنيك الله فى السماء وان السفير لجبرئيل عليه السّلام وعن انس قال ما أولم النبي ما أولم بزينب أولم بشاة وعن انس قال أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فاشبع المسلمين خبزا ولحما لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ اى ضيق بالتحريم فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ جمع دعىّ وهو المتبنى يعنى زوجناك زينب امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم ان زوجة المتبنى حلال وان كان قد دخل بها المتبنى بخلاف امراة ابن الصلب فانها لا تحل للاب- وفيه دليل على ان حكم الرسول وحكم الامة واحد ما لم يقم دليل على تخصيص الحكم بالنبي صلى الله عليه وسلم إِذا قَضَوْا اى الأدعياء مِنْهُنَّ اى من أزواجهم وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ اى قضاؤه مَفْعُولًا (27) مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب.
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ متعلق بمضمون من حرج لا من لفظه لان معمول المجرور لا يتقدم على الجار(7/349)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
مِنْ حَرَجٍ اى ضيق من زائدة وحرج اسم كان فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ اى فيما قسم له وقدر له من عدد النساء من قولهم فرض له فى الديوان ومنه فروض العسكر لارزاقهم وقيل معنا فيما أحل له سُنَّةَ اللَّهِ مصدر لفعل محذوف اى سنّ الله سنّة او منصوب بنزع الخافض اى كسنّة الله او على الإغراء اى التزموا سنة الله فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء الماضين قال الكلبي أراد داؤد عليه السّلام حيث جمع بينه وبين المرأة التي هواها فكذلك جمع بين محمد صلى الله عليه وسلم وزينب وقيل أشار بالسنّة الى النكاح فانه سنّة الأنبياء وقيل أشار الى كثرة الأزواج مثل داود وسليمان عليه السّلام وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) اى قضاء ماضيا لا محالة.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا من قبل او مدح لهم منصوب او مرفوع وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ كما أنت تخشى الله ولا تخشى غيره فيما أمرك الله به ونهاك عنه وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) كافيا للمخاوف او محاسبا فينبغى ان لا يخشى الا منه.
اخرج الترمذي عن عائشة انها قالت لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس تزوج حليلة ابنه فانزل الله تعالى.
ما كانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ يعنى ليس محمد صلى الله عليه وسلم أبا لزيد ابن حارثة فيحرم عليه نكاح زوجته- فان قيل كان له أبناء القاسم والطيب والطاهر وابراهيم وكذلك الحسن والحسين فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن ان ابني هذا سيد قلنا ان أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم ماتوا صغارا لم يبلغوا مبلغ الرجال واطلاق الابن على الحسنين عليهما السلام على التجوز وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وكل رسول اب لامته لكن لا من حيث النسب حتى يحرم عليه ما يحرم بالنسب بل من حيث الشفقة والنصيحة وَخاتَمَ قرأ عاصم بفتح التاء على الاسم بمعنى الاخر والباقون بكسر التاء على وزن فاعل يعنى الذي ختم النَّبِيِّينَ حتى لا يكون بعده نبى قال ابن عباس يريد الله سبحانه انه لو لم يكن اختم به النبيين لجعلت ابنه بعده نبيّا وروى عطاء عن ابن عباس ان الله تعالى(7/350)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
لما حكم ان لا نبى بعده لم يعطه ولدا ذكرا يعنى رجلا- اخرج ابن ماجة من حديث ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم قال فى ابراهيم حين توفى لو غاش لكان نبيّا- ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لانه إذا ينزل يكون على شريعته مع ان عيسى عليه السّلام صار نبيّا قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقد ختم الله سبحانه الاستنباء بمحمد صلى الله عليه وسلم وبقاء نبى سابق لا ينافى ختم النبوة وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) فيعلم من يليق به ختم النبوة وكيف ينبغى شأنه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلى ومثل الأنبياء كمثل قصر احسن بنيانه وترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه الا موضع تلك اللبنة فكنت انا سددتّ موضع اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل- وفى رواية فانا اللبنة وانا خاتم النبيين- متفق عليه وعن جبير بن مطعم رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان لى اسماء انا محمد وانا احمد وانا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وانا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمى وانا العاقب الذي ليس بعده نبى متفق عليه وعن ابى موسى الأشعري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى لنا نفسه اسماء فقال انا محمد واحمد والمقفى والحاشر ونبى التوبة ونبى الرحمة- رواه مسلم-.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) قال ابن عباس لم يفرض الله على عباده فريضة الا جعل لها حدّا معلوما ثم عذّر أهلها فى حال العذر غير الذكر فانه لم يجعل له حدّا ينتهى اليه ولم يعذر أحدا فى تركه الا مغلوبا على عقله فامر به فى الأحوال كلها فقال فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وقال اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً بالليل والنهار فى البر والبحر والصحة والسقم فى السر والعلانية- وقال مجاهد الذكر الكثير ان لا ينساه ابدا قلت وهذا لا يتصور الا بعد فناء القاب ودوام الحضور.
وَسَبِّحُوهُ اى صلوا له بُكْرَةً يعنى صلوة الصبح وَأَصِيلًا (42) قال الكلبي يعنى صلوة الظهر والعصر والعشاءين وقال مجاهد يعنى قولوا سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة الا بالله العلىّ العظيم فعبر بالتسبيح عن أخواته وقيل المراد بالذكر الكثير هذه(7/351)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
الكلمات يقولها الطاهر والمحدث والجنب- قلت امر الله سبحانه اولا بتعميم الذكر ابدا بحيث لا ينساه ثم خصه باوقات مخصوصة فالمراد بالأول هو الذكر الخفي والحضور الدائم وبالثاني الذكر الجلى والعبادات الراتبة من الفرائض والسنن- وقيل خص اوّل النهار وآخره بالذكر لان ملائكة الليل والنهار يجتمعون فيها- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون فى صلوة الفجر وصلوة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسئلهم ربهم (وهو اعلم بهم) كيف تركتم عبادى فيقولون تركناهم وهم يصلون واتيناهم وهم يصلون- متفق عليه وقيل بُكْرَةً وَأَصِيلًا معمولان للفعلين على سبيل التنازع والفعلان كلاهما متوجهان إليهما يعنى اذكروه بكرة وأصيلا وسبّحوه بكرة وأصيلا يعنى أدوا الصلوات وسائر العبادات ذاكرا لله حاضرين غير غافلين عن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الله عزّ وجلّ مقبلا على العبد وهو فى صلاته ما لم يلتفت وإذا التفت انصرف عنه رواه احمد وابو داود والنسائي والدارمي- قال البغوي قال انس لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال ابو بكر ما خصك الله بشرف الا وقد أشركنا فيه فانزل الله تعالى.
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ واخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه قال البغوي الصلاة من الله رحمة ومن الملئكة استغفار وقيل الصلاة من الله على العبد اشاعة الذكر الجميل له فى العباد وقيل الثناء عليه- وفى القاموس الصلاة الدّعاء والرحمة والاستغفار وحسن الثناء من الله تعالى على رسوله وعبادة فيها ركوع وسجود- وهذه العبارة تقتضى كونها لفظا مشتركا فمن أجاز استعمال اللفظ المشترك فى الأكثر من معنى واحد أجاز ان يكون معناه ان الله يرحم عليكم وملائكته يستغفرونه لكم- واما عند الجمهور فلا يجوز عموم المشترك فيقال المراد بالصلوة هاهنا المعنى المجازى المشترك بين المعنيين الحقيقيين وهو العناية لصلاح أمركم وظهور شرفكم ويسمى عموم المجاز- وقال كثير من اهل اللغة الصلاة هو الدعاء يقال صليت عليه اى دعوت له قال عليه السّلام إذا دعى أحدكم الى طعام فليجب وان كان صائما فليصل اى ليدع لاهله وقال الله تعالى صَلِّ(7/352)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45)
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ
وانما سميت الأركان المخصوصة صلوة لاشتمالها على الدعاء وهو قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ تسمية الكل باسم الجزء والصلاة من الله تعالى على عباده ان يطلب من نفسه لاجل عباده الرحمة والمغفرة ويناسب الطلب من نفسه الإيجاب من نفسه على نفسه المستفاد من قوله تعالى كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فان الإيجاب والطلب بمعنى واحد فان الطلب حتما هو الإيجاب والمراد بالإيجاب الالتزام تفضلا وإذا أريد بالصلوة هاهنا الدعاء لا يلزم عموم المشترك- قال البغوي قال النبي صلى الله عليه وسلم قالت بنوا إسرائيل لموسى أيصلي ربنا فكبر هذا الكلام على موسى فاوحى الله اليه ان قل لهم انى أصلي وان صلاتى رحمتى وسعت كل شىء لِيُخْرِجَكُمْ يعنى انه برحمته ودعاء الملائكة يديم إخراجكم مِنَ الظُّلُماتِ اى ظلمات الكفر والمعاصي إِلَى النُّورِ اى نور الايمان والطاعة ويمكن ان يقال ليخرجكم ساعة بعد ساعة ابدا من ظلمات البعد الى نور القرب ومن استوى يوماه فهو مغبون وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإعلاء قدرهم واستعمل فى دعائهم الملائكة المقربين الجملة معطوفة على الصلة اى الّذى يصلّى عليكم والذي كان بالمؤمنين رحيما.
تَحِيَّتُهُمْ اى تحية المؤمنين منه تعالى أضيف الصدر الى المفعول اى يجبون منه تعالى يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يعنى يوم لقائهم إياه سبحانه يعنى عند الموت او الخروج من القنبر او دخول الجنة او عند رؤية الله سبحانه سَلامٌ اى يسلم الله عليهم تحية ويسلمهم الله من جميع المكاره قال البغوي روى عن البراء بن عازب قال تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يعنى يوم يلقون ملك الموت سلام اى لا يقبض روح مسلم الأسلم عليه- وعن ابن مسعود قال إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال ربك يقرأك السلام وقيل يسلم عليهم الملائكة ويبشرهم حين اخرجوا من قبورهم وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يعنى الجنة ورؤية الله ورضوانه.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على أمتك اخرج ابن المبارك عن سعيد ابن المسيب قال ليس من يوم الا ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم ولذلك يشهد عليهم او شاهدا لامتك مصدقا لهم حين يشهدون للرسل على الأمم(7/353)
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
بالتبليغ اخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلّغت فيقول نعم فيدعى أمته فيقال لهم هل بلغكم فيقولون ما أتانا من نذير ما أتانا أحد فيقال من يشهد لك فيقول محمد وأمته الحديث- وفى الباب أحاديث كثيرة فهو حال مقدرة كقولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا وَمُبَشِّراً بالجنة من أمن بالرسل وَنَذِيراً (45) بالنار لمن كذب الرسل.
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ اى الى توحيده وطاعته او الى جنته او لقائه الغير المتكيفة بِإِذْنِهِ اى بامره وتيسيره قيد به الدعوة إيذانا بانه امر صعب لا يتاتى الا بمعونة من جناب قدسه خصوصا الدعوة الى لقائه فان إيصال العبد اليه تعالى امر لا يمكن الا بفضله قال الله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ... إِلى «1» صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- عن ربيعة الجرشى قال اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له لتنم عيناك ولتسمع اذنك ولتعقل قلبك قال فنامت عينى وسمعت إذ ناى وعقل قلبى قال فقيل لى سيد بنى دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال فالله السيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة- رواه الدارمي وَسِراجاً مُنِيراً (46) سماه سراجا لانه يستضاء به ويهتدى به كالسراج يستضاء به ويهتدى به فى ظلمة الليل يعنى انه صلى الله عليه وسلم كان بلسانه داعيا الى الله وبقلبه وقالبه كان مثل السراج يتلون المؤمنون بألوانه ويتنورون بانواره كالعالم يتنور بنور الشمس والبيت بالسراج- ولاجل ذلك اختصت الصحابة رضى الله عنهم بمزيد الفضل على الناس فان علومه التي تلقتها الامة من لسانه لم يتفاوت فيه الناس من الصحابة وغيرهم بل رب مبلغ اوعى من سامع- واما التنوّر بانواره فانه وان كان حاصلا للناس بتوسط أصحابه واصحاب أصحابه الى يوم القيامة لكن ليس النائب فيه كالشاهد بل مثله كمثل بيت تنوّر بنور الساحة
__________
(1) هكذا فى الأصل وفى القران بعد مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ جمع المؤلف قدس سرّه جملتين من مقامين- ابو محمد عفا الله عنه(7/354)
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
التي تنوّرت بنور الشمس لاجل مقابلتها واين هذا من ذلك والله اعلم- عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص قلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى التورية قال أجل والله انه لموصوف فى التورية ببعض صفته فى القران يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزا للاميين أنت عبدى ورسولى سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بان يقولوا لا اله الا الله ويفتح به أعينا عمياء واذنا صماء وقلوبا غلقاء- رواه البخاري وكذا الدارمي عن عطاء بن سلام نحوه والله اعلم- اخرج البيهقي فى دلائل النبوة عن الربيع بن انس انه قال لما نزلت ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ثم نزل بعدها لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ قال رجال من المؤمنين هنيئا لك يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً (47) وكذا اخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن وقال انس الفضل الكبير الجنة والجملة معطوفة على انّا أرسلناك.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ فيما يخالف شريعتك تحريض له على ما هو عليه من مخالفتهم وَدَعْ أَذاهُمْ قال ابن عباس وقتادة يعنى اصبر على إيذائهم إياك فالمصدر مضاف الى الفاعل والمعنى اجعل إيذاءهم إياك فى جانب ولا تبال به ولا تخف منه وقال الزجاج يعنى لا تجادلهم ولا تتصد على اذاهم يعنى لا تؤذهم فالمصدر مضاف الى المفعول وعلى هذا قيل انه منسوخ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فانه يكفيك وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يعنى إذا جعلت الله موكولا اليه أمورك فهو يكفيك لا يدع حاجة لك الى غيره قال البيضاوي وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخمس صفات وقابل كلّا منها بخطاب يناسبه فحذف مقابل الشاهد وهو الأمر بالمراقبة لان ما بعده كالتفصيل له وقابل المبشر بالأمر ببشارة المؤمنين والنذير بالنهى عن مراقبة الكفار والمبالاة بأذاهم والداعي الى الله بتيسيره بالأمر بالتوكل عليه والسراج المنير بالاكتفاء به فانه من إنارة برهانا على جميع خلقه كان حقيقا ان يكتفى به عن غيره.(7/355)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ خص المؤمنات بالذكر مع ان نكاح المؤمنين بالكتابيات ايضا جائز وحكمهن فى الطلاق قبل الدخول مثل حكم المؤمنات ايماء الى ان اللائق بالمؤمنين ان ينكح المؤمنة دون الكتابية ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ قال البغوي فيه دليل على ان الطلاق قبل النكاح غير واقع لان الله رتب الطلاق على النكاح حتى لو قال لامراة اجنبية إذا نكحتك فانت طالق او قال كل امرأة انكحها فهى طالق فنكحها لا يقع الطلاق وهو قول على وابن عباس ومعاذ وجابر وعائشة رضى الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد ابن جبير وعروة والقاسم وطاءوس والحسن وعكرمة وعطاء وسليمان بن يسار ومجاهد والشعبي وقتادة واكثر اهل العلم وبه قال الشافعي وكذا قولهم فى الاعتاق المعلق بالملك- وروى عن ابن مسعود انه يقع الطلاق وهو قول ابراهيم النخعي واصحاب الرأى اعنى أبا حنيفة وأصحابه وقال ربيعة والأوزاعي ومالك ان عين امراة يقع وان عمم امراة لا يقع وروى عن عكرمة عن ابن عباس انه قال كذبوا على ابن مسعود وان كان قالها فزلة من عالم وان قال فى الرجل ان تزوجت فلانة فهى طالق يقول الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن- واستدل البغوي بحديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاطلاق قبل النكاح- قلت أخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه وقال انا متعجب من الشيخين كيف اهملاه وهو على شرطهما- وقال احمد ان علق طلاق الاجنبية بالنكاح ينعقد وان علق العتاق بالملك فعن احمد فيه روايتان- وقال مالك ان خص بلدا او قبيلة او صنفا او امرأة وعلق طلاقها بالنكاح ينعقد وان عمم مطلقا لا ينعقد- واحتج ابن الجوزي لمذهب احمد بستة أحاديث- أحدها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس على رجل طلاق فيما لا يملك ولاعتاق فيما لا يملك ولا بيع فيما لا يملك- رواه ابن الجوزي من طريق احمد ورواه اصحاب السنن وقال الترمذي هو احسن شىء روى فى هذا الباب ورواه البزار بلفظ لاطلاق قبل نكاح(7/356)
ولا عتق قبل ملك- قال البيهقي فى الخلافيات قال البخاري هذا أصح شىء فى الباب- ثانيها حديث عمرو بن شعيب عن طاؤس عن معاذ بن جبل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يجوز طلاق ولا عتاق ولا بيع ولا وفاء نذر فيما لا يملك- رواه الدار قطنى وروى الدار قطنى من طريق اخر عن ابراهيم ابى إسحاق الضرير عن يزيد بن عياض عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طلاق الا بعد نكاح وان سميت المرأة بعينها قال الحافظ ابن حجر منقطع ويزيد بن عياض متروك وذكر الذهبي فى استيعاب اسماء الرجال قال مالك يزيد بن عياض كذاب وقال يحيى بن معين ضعيف ليس بشئ وقال احمد بن صالح كان يضع للناس يعنى الحديث وقال البخاري ومسلم منكر الحديث وقال ابو داود ترك حديثه وقال النسائي متروك وقال فى موضع اخر كذاب- ثالثها ما رواه الدار قطنى قال حدثنا بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد ابن معدان عن ابى ثعلبة الخشني قال قال لى عم لى اعمل بي عملا حتى أزوجك لبنتى فقلت ان تزوجتها فهى طالق ثلاثا ثم بد الى ان أتزوجها فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسالته فقال لى تزوجها فانه لاطلاق الا بعد نكاح فتزوجتها فولدت لى اسعد وسعيدا- قال الذهبي فى الميزان قال النسائي وغيره بقية بن الوليد إذا قال حدثنا وأخبرنا فهو ثقة قال غير واحد كان مدلسا فاذا قال عن فليس بحجة وثور بن يزيد ثقة صحيح الحديث مشهور بالقدر وهذا رواية بقية بلفظ عن وطعن ابن همام على هذا وقال فيه على بن قرين كذبه احمد قلت ما رواه ابن الجوزي ليس من طريق الدار قطنى وليس فيه على بن قرين والله اعلم.
رابعها حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه سئل عن رجل انه قال يوم أتزوج فلانة فهى طالق قال طلق ما لا يملك- رواه الدار قطنى وفيه ابو خالد الواسطي وهو عمرو بن خالد قال الذهبي ضعفه ابو حاتم وقال ابن همام قال احمد وابن معين كذاب ورواه ابن عدى عن نافع عنه بلفظ لا طلاق الا بعد نكاح قال ابن حجر اسناده ثقات.
خامسها حديث طاؤس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(7/357)
لا نذر الا فيما اطيع الله فيه ولا يمين فى قطعة رحم ولا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك رواه الدار قطنى ورواه الحاكم من طريق اخر وفيه من لا يعرف كذا قال ابن حجر وروى الحاكم عن ابن عباس ما قالها ابن مسعود وان كان قالها فزلة من عالم فى الرجل يقول ان تزوجت فلانة فهى طالق وقد قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ولم يقل إذا طلقتموهن ثم نكحتموهن- وقيل لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا طلاق قبل نكاح وأصح شىء فيه حديث المنكدر عن طاؤس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
سادسها حديث عائشة قالت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان ابن حرب على نجران اليمن فكان فيما عهد اليه ان لا يطلق الرجل ما لا يتزوج ولا يعتق ما لا يملك- قال ابن حجر قال ابن ابى حاتم فى العلل حديث منكر ورواه الحاكم من طريق الحجاج ابن منهال عن هشام الدستوائى عن عروة عن عائشة مرفوعا قال ابن الجوزي وقد روى نحو هذا من حديث على وجابر ولكنها طرق مجتنبة بمرة- قلت اما حديث على فرواه ابن ماجة عنه يرفعه لا طلاق قبل النكاح وفيه جويبر وهو ضعيف واما حديث جابر فقد ذكرنا من قبل وفى الباب حديث المسور بن مخرمة انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طلاق قبل النكاح ولا عتق قبل الملك- وجه قول ابى حنيفة ان المعلق بالشرط ليس بطلاق فان التعليق بالشرط مانع من ان يكون السبب سببا دون الحكم فقوله ان دخلت الدار فانت طالق وكذا قوله ان نكحتك فانت طالق يمين مانع من دخول الدار ومن النكاح الذين هما شرطان لوجود الطلاق فهو مانع من الطلاق فلا يصلح ان يكون سببا موجبا للطلاق لتمانع الوصفين اعنى كونه مانعا وكونه سببا لكن له عرضة ان يصير طلاقا عند الحنث وهو وجود الشرط وإذا لم يكن طلاقا فلا يجوز الاحتجاج بالآية والأحاديث الناطقة بنفي الطلاق قبل النكاح واما حديث ابن عمر وحديث ابى ثعلبة الخشني فلا يصح شىء منهما وقد ذكرنا وجه القدح فيهما فان قيل إذا لم يكن المعلق بالشرط طلاقا فما وجه الفرق بين قوله للاجنبية ان دخلت الدار فانت طالق وان نكحتك فانت طالق حيث ينعقد الثاني دون الاول قلنا وجه الفرق ان اليمين ما يكون مانعا من الفعل اما بخوف الإثم كما فى اليمين بالله تعالى(7/358)
واما بخوف الوقوع فيما لا يريد من الطلاق او العتاق او نحو ذلك ولا شك ان تعليق الطلاق والعتاق بالملك يصلح مانعا من التملك بخلاف تعليق الطلاق والعتاق للاجنبية بدخول الدار حيث لا يصلح ان يكون مانعا لها من دخول الدار فلا يصلح ان يكون يمينا كما لا يصلح ان يكون طلاقا فيلغو- قال ابن همام ومذهبنا مروى عن عمرو ابن مسعود وابن عمرو اخرج ابن ابى شيبة فى مصنفه عن سالم والقاسم ابن محمد وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي والزهري والأسود وابى بكر بن عبد الرحمان ومكحول الشامي فى رجل قال ان تزوجت فلانة فهى طالق او لو أتزوجها فهى طالق او كل امرأة أتزوجها فهى طالق قالوا هو كما قال وفى لفظ يجوز عليه ذلك وقد نقل مذهبنا ايضا عن سعيد بن المسيب وعطاء وحماد بن ابى سليمان وشريح رحمهم الله وقال الشافعي المعلق بالشرط تطليق والتعليق ليس مانعا من سببية السبب بل هو مانع من الحكم كالبيع بشرط الخيار وحديث ابى ثعلبة الخشني نص فيه مفسر وقد ذكره ابن الجوزي بسنده ولم يتعرض بالطعن عليه وهو غير متهم فى اظهار الحق وقوله صلى الله عليه وسلم لا طلاق قبل النكاح وما فى معناه الظاهر انه منع او نفى لتعليق الطلاق بالنكاح واما تنجيز الطلاق قبل النكاح فلا يتصور من عاقل وبطلانه ظاهر فلا يحمل عليه كلام الحكيم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فانه حينئذ فى قوة قول من يقول لا يجب الصلاة على من لم يولد بعد- مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ اى تجامعوهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ايام يتربصن فيها تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها هذا حكم اجمع عليه الامة وفى قوله تعالى فما لكم دلالة على ان العدة حق الرجال لانها لصيانة الماء وعدم وقوع الشك فى النسب والنسب الى الرجال- ومن هاهنا قال ابو حنيفة انه إذا طلق ذمى ذمية وكان معتقدهم انه لا عدة فلا عدة عليها واما إذا كان معتقدهم وجوب العدة يجب عليها العدة والحربية إذا خرجت إلينا مسلمة فلا عدة عليها وان تزوجت على الفور جاز نكاحها لان الحربي يلحق بالجمادات حتى كان محلا للتملك فلا حق له الا ان تكون حاملا لان فى بطنها ولد ثابت النسب- وعن ابى حنيفة انه يجوز النكاح ولا يطاها كالحبلى من الزنى والاول أصح فَمَتِّعُوهُنَّ اى أعطوهن(7/359)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
ما يستمتعن به قال ابن عباس هذا إذا لم يسم
لها صداقا فلها المتعة فان كان قد فرض لها صداق فلها نصف الصداق ولا متعة لها فالاية على قول ابن عباس مخصوصة وقال قتادة هذه الاية منسوخة بقوله تعالى فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ومرجع القولين واحد يعنى لا متعة وجوبا ولا استحبابا لمن طلّقت قبل المسيس وقد سمى لها مهرا- وقيل هذا امر ندب فالمتعة لها مستحب مع نصف المهر وروى عن الحسن وسعيد بن جبير ان المتعة لها واجب بهذه الاية ونصف المسمّى بما فى البقرة وقد ذكرنا الخلاف فى وجوب المتعة واستحبابها ومقدارها فى سورة البقرة فلا نعيده وَسَرِّحُوهُنَّ اى اخرجوهن من بيوتكم وخلوا سبيلهن إذ ليس لكم عليهن من عدة سَراحاً جَمِيلًا (49) من غير ضرار..
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ يعنى مهورهن لان المهر اجر على البضع وتقييد الاحلال له بإعطائها انما هو خرج على حسب الواقع ومخرج عادة النبي صلى الله عليه وسلم فانه كان يعطهن مهورهن معجلة او لايثار الأفضل ولا مفهوم له اجماعا وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ يعنى رد الله عليك من الكفار بان تسبى فتملك مثل صفية وجويرية وهذا القيد ليس للاحتراز ايضا ولا مفهوم لها عند القائلين بالمفهوم لان مارية أم ابراهيم لم تكن مسبية بل كانت مما اهدى اليه مقوقس وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ يعنى نساء قريش وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ يعنى نساء بنى زهرة اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وكلمة مع للموافقة فى نفس الفعل لا بحسب الزمان كما فى قوله تعالى سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
والمراد المهاجرات مطلقا قال البغوي فمن لم يهاجر منهن لم يجز نكاحها اخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من طريق السدى عن ابى صالح عن ابن عباس عن أم هانى بنت ابى طالب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطبنى فاعتذرت اليه فعذرنى فانزل الله هذه الاية فلم أحل له لانى لم أكن من المهاجرات وكنت من الطلقا «1»
__________
(1) وعن ابى صالح مولى أم هانى قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أم هانى بنت ابى طالب فقالت يا رسول الله انى مرتمة وبنى صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه فقال اما الان فلا ان الله انزل علىّ يايّها النّبىّ انّا أحللنا لك أزواجك الى قوله الّتى هاجرن معك ولم تكن من المهاجرات- منه رحمه الله(7/360)
وروى ابن ابى حاتم من طريق إسماعيل بن ابى خالد عن ابى صالح عن أم هانى قالت نزلت فىّ هذه الاية وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ أراد النبي صلى الله عليه وسلم ان يتزوجنى فنهى عنى إذ لم أهاجر- قال البغوي ثم نسخ شرط الهجرة فى التحليل وقيل المراد بالهجرة الإسلام اى اسلمن معك قال رسول الله المهاجر من هجر ما نهى الله عنه- رواه البخاري وبتأويلهم ذلك يدل على انه لم يكن نكاح غير المسلمة من اليهودية والنصرانية حلالا له عليه الصلاة والسلام وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ قال البغوي فاما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها له واختلفوا فى انه هل كان حلالا له نكاح اليهودية والنصرانية بالمهر فذهب جماعة الى انه لا يحلّ له ذلك لقوله تعالى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً وقد ذكرنا تأويل بعضهم قوله تعالى اللَّاتِي هاجَرْنَ معك بالإسلام شرط مستغن عن الجزاء بما مضى وقوله وامرأة منصوب بفعل فسره ما قبله يعنى ونحل لك امراة مؤمنة او عطف على ما سبق ولا يدفعه التقييد بان التي للاستقبال فان معنى الاحلال الاعلام بالحل اى أعلمناك حل امرأة مؤمنة تهب نفسها لك ولا تطلب مهرا ان اتفق ولذلك نكرها إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها شرط للشرط الاول معنى تقديره ان أراد النّبىّ ان يستنكح الواهبة نفسها أحللنا له ان وهبت نفسها فان هبتها نفسها شطر للنكاح فانها بمنزلة الإيجاب منها لا توجب له حلها ما لم يرد النبي نكاحها فانها جارية مجرى القبول بها يتم النكاح فالحل موقوف على كلا الشرطين وهما شطرا العلة اى النكاح والعدول من الخطاب الى الغيبة بلفظ النبي مكررا ثم الرجوع اليه بقوله خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حيث يجب عليهم المهر بالوطى او الموت وان لم يذكر إيذان بانه مما خص به لشرف نبوته وتقرير لاستحقاق الكرامة لاجله وخالصة مصدر مؤكد على وزن عافية اى خلص إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلوصا لك وهذا التأويل انما يتصور إذا كانت القيود احترازية والظاهر انه حال من الضمير فى وهبت والمعنى انه وهبت حال كونها خالصة لك بلا مهر او صفة لمصدر محذوف اى هبة خالصة- اخرج ابن سعد عن عكرمة(7/361)
فى قوله تعالى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً الاية قال نزلت فى أم شريك الدوسية واخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدوسي ان أم شريك عزية بنت جابر بن حكيم الدوسي عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت جميلة فقبلها فقالت عائشة ما فى امراة حين تهب نفسها لرجل خير قالت أم شريك فانا تلك فسماها الله مؤمنة فقال وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ فلمّا نزلت هذه الاية قالت عائشة ان الله يسرع لك فى هواك.
اخرج ابن سعد عن ابى رزين قال همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يطلق من نسائه فلمّا راين ذلك جعلنه فى حل من انفسهن يؤثر من يشاء على من يشاء منهن فانزل الله تعالى إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الى قوله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الاية وقوله تعالى خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يدل على انه كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ان ينعقد النكاح فى حقه بغير مهر وذلك هو المراد بقوله تعالى إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ يعنى ان زوجت نفسها بغير مهر كما ان الزيادة على اربع من النساء كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقيل هذه الاية تدل على ان انعقاد النكاح بلفظ الهبة كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك لغيره قال البغوي وهو قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء وبه قال ربيعة ومالك والشافعي قالوا لا ينعقد النكاح لغير النبي صلى الله عليه وسلم الا بلفظ النكاح والتزويج- قلت وبه قال احمد وذكر فى ترجمة الاية فى اختلاف الائمة قول احمد انه ينعقد النكاح بلفظ الهبة مع ذكر المهر- وقال ابو حنيفة رح انعقاد النكاح بلفظ الهبة ليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بل يجوز نكاح كل أحد بلفظ الهبة والبيع والصدقة والتمليك وكل لفظ وضع لتمليك العين مؤبدا ولا يجوز بلفظ الاجارة والاعارة وقال الكرخي يجوز بلفظ الاجارة والاعارة ايضا لان الثابت بهما تمليك المنفعة وذلك فى النكاح ايضا وقد اطلق الله سبحانه لفظ الاجرة على المهر حيث قال أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ قلنا الاجارة والاعارة ليسا سببين لملك المتعة فلا طريق للاستعارة هناك ولا بلفظ الوصية لانها توجب الملك مضافا الى ما بعد الموت وعن الطحاوي انه ينعقد به النكاح لانه يثبت به ملك الرقبة فى الجملة(7/362)
وعن الكرخي انه قيد الوصية بالحال فان قال أوصيت لك بنتي هذه الان ينعقد لانه صاربه مجازا عن التمليك قلنا الاضافة ماخوذ فى مفهوم الوصية وعدمه فى النكاح فيتضادان- وقال قوم لا ينعقد النكاح الا بلفظ النكاح او التزويج فى حق النبي صلى الله عليه وسلم ايضا كما لا يصح فى حق الامة لقوله تعالى إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وانما اطلق لفظ الهبة فى الاية على النكاح مجازا.
قال البيضاوي محتجا بهذه الاية على مذهب الشافعي ان اللفظ تابع للمعنى وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى اجماعا وهذا القول غير سديد فان جواز اطلاق لفظ الهبة فى النكاح انما هو بطريق المجاز ولا وجه لتخصيص التكلم بالمجاز بحضرة الرسالة صلى الله عليه وسلم والنكاح يصلح ان يكون معنى مجازيا للفظ الهبة ولا اختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لمعناه المجازى- فان قيل معناه الحقيقي غير مراد فى الاية البتة لان المعنى الحقيقي للهبة تمليك العين وهو غير مراد بل المراد تمليك البضع بغير عوض فاذا اختص به معناه المجازى واللفظ تابع للمعنى فلا يجوز لغيره صلى الله عليه وسلم النكاح بلفظ الهبة مجازا- قلنا المعنى المجازى للهبة غير منحصر فى تمليك البضع بغير عوض بل يجوز ان يطلق لفظ الهبة وأريد به تمليك البضع مطلقا سواء كان بعوض او بغير عوض وقال ابن همام انما الكلام فى تحقق طريق المجاز فنفاه الشافعي بناء على انتفاء ما يجوز به التجوز اما اجمالا فلانه لو وجد لصح ان يتجوز بلفظ كل منهما عن الاخر بان يقال نكحتك هذا الثوب مرادا به وهبتك او ملكتك وليس فليس واما تفصيلا فلان التزويج هو التلفيق وضعا والنكاح الضم ولا ضم ولا ازدواج فى المالك والمملوك ولذا يفسد النكاح عند ورود ملك أحد الزوجين على الاخر ولو كان لم ينافه تأكد به- ولنا على الشافعي اولا النقض الإجمالي وهو انه لولا العلاقة المصححة للمجاز بين الهبة والنكاح لما جاز نكاح النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة وذلك جائز ولمّا ثبت العلاقة المصححة للمجاز بينهما وبين النكاح بلا عوض ثبت بينها وبين مطلق النكاح ايضا لوجود الأعم فى ضمن الأخص وثانيا ان معنى الحقيقي للهبة تمليك العين وتمليك العين سبب لملك المتعة فى محلها بواسطة ملك الرقبة وملك المتعة(7/363)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
فى محلها هو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز- واما عدم جواز استعارة النكاح لتمليك العين فلما ذكر فى الأصول انه لا يجوز استعارة اسم المسبب للسبب عندنا الا إذا كان المقصود من السبب شرعيته كالبيع لملك الرقبة وليس ملك المتعة الذي هو موجب النكاح هو المقصود من التمليك بل ملك الرقبة- وقوله لا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوك ممنوع والله اعلم.
قال البغوي اختلفوا فى انه هل كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له قال ابن عباس ومجاهد لم تكن عنده امراة الا بعقد نكاح او ملك يمين وقوله ان وهبت نفسها للنّبىّ على طريق الشرط والجزاء وقال آخرون كانت عنده منهن قال الشعبي هى زينب بنت خزيمة الانصارية يقال لها أم المساكين وقال قتادة ميمونة بنت الحارث وقال على بن الحسين عليهما السّلام والضحاك ومقاتل هى أم شريك بنت جابر من بنى اسد اخرج ابن سعد وابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن على بن الحسين وابن سعد عن عكرمة انها أم شريك بنت جابر وقال عروة بن الزبير هى خولة بنت حكيم من بنى سليم.
قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا اى ما أوجبنا عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين فِي أَزْواجِهِمْ من شرائط النكاح ووجوب القسم والمهر بالوطى حيث لم يسم وان لا يتزوجوا اكثر من اربع وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ بالشراء وغيره بان يكون الامة ممن تحل لمالكها كالكتابية بخلاف المجوسية والوثنية وان يستبرا قبل الوطي وما وسع الله الأمر فيهن فى العدد وعدم وجوب القسم والجملة معترضة لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ متعلقة بقوله خالصة وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما يعسّر التحرز عنه رَحِيماً (50) بالتوسعة فى مضانّ الحرج.
اخرج الشيخان فى الصحيحين عن عائشة انها كانت تقول اما تستحيى المرأة ان تهب نفسها فانزل الله.
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الاية فقالت عائشة ارى ربك ليسارع لك فى هواك وفى لفظ قالت عائشة كنت أعار على اللاتي وهبن انفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول أتهب المرأة نفسها فلما انزل الله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ الاية قلت ما ارى ربك الا يسارع فى هواك- قرأ نافع وحمزة(7/364)
والكسائي وحفص ترجى بإسكان الياء بغير همز والباقون بهمزة مضمومة اى تؤخر من تشاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ منهن قال البغوي اختلف المفسرون فى معنى الاية فاشهر الأقاويل انها فى القسم بينهن وذلك ان التسوية فى القسم بينهن كان واجبا عليه فلمّا نزلت هذه الاية سقط عنه فصار الاختيار اليه فيهن قال ابو زيد وابن زيد نزلت هذه الاية حين غار بعض أمهات المؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم وطلب بعضهن زيادة النفقة فهجرهن النبي صلى الله عليه وسلم شهرا حتى نزلت اية التخيير فامره الله عزّ وجلّ ان يخيرهن بين الدنيا والاخرة وان يخلى سبيل من اختارت الدنيا ويمسك من اختارت الله ورسوله على انهن أمهات المؤمنين فلا ينكحن ابدا وعلى انه يؤوى اليه من يشاء منهن ويرجى من يشآء منهن فيرضين به قسم لهنّ او لم يقسم او قسم لبعض دون بعض او فضّل بعضهن فى النفقة والقسم فيكون الأمر فى ذلك اليه يفعل كيف يشاء وكان ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فرضين بذلك واخترنه على هذا الشرط- قلت وليس هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بل الحكم كذلك فى الامة ايضا فمن كان تحته نساء وقال لهن من شاء منكن حقوق النكاح من النفقة والتسوية فى القسم فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا ومن رضى منكنّ ان تبقى فى نكاحى بلا مطالبة فى النفقة على ان أؤاوي الىّ من أشاء منكن وأرجى منكن من أشاء سواء اقسم لكن او لم اقسم او اقسم لبعض دون بعض او أفضل بعضكن على بعض فى النفقة والكسوة والقسم فقلن له نحن نختارك وتركنا حقنا فى النفقة والقسم يكون الأمر فى ذلك اليه يفعل كيف يشآء والله اعلم قال البغوي واختلفوا فى انه هل اخرج أحدا منهن عن القسم فقال بعضهم لم يخرج أحدا بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما جعل الله له من ذلك يسوى بينهن فى القسمة الاسودة فانها رضيت بترك حقها من القسم وجعل يومها لعائشة- وقيل اخرج بعضهن روى ابن جرير عن منصور عن ابى رزين قال لما نزل التخيير أشفقن ان يطلقهن فقلن يا رسول الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت هذه الاية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ منهن فارجى(7/365)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهن وأوى اليه بعضهن وكان ممن أوى اليه عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة فكان يقسم بينهن سواء وأرجى منهن خمسا أم حبيبة وسودة وصفية وميمونة وجويرية وكان يقسم لهن ما يشاء روى البخاري عن معاذة عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن فى يوم المرأة منّا بعد ان أنزلت هذه الاية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ الاية فقلت لها ما كنت تقولين قالت كنت أقول له ان كان ذاك الىّ فانى لا أريد يا رسول الله ان اوثر عليك أحدا- وقال مجاهد معناه ترجى من تشاء منهن يعنى تعزل منهن من تشاء بغير طلاق وتردّ إليك من تشاء بعد العزل بلا تجديد عقد- وقيل معناه تطلّق منهن من تشاء وتمسك منهن من تشاء وقال الحسن معناه تترك نكاح من شئت وتنكح من تشاء من نساء أمتك وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره ان يخطبها حتى يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل معناه تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي وهبن انفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبل روى البغوي عن هشام عن أبيه قال كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن انفسهن للنبى صلى الله عليه وسلم فقالت عائشة اما تستحيى امراة ان تهب نفسها للرجل فلمّا نزلت هذه الاية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقلت يا رسول الله ما ارى ربك الا يسارع فى هواك- وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ اى طلبت وأردت ان
تؤوي إليك امراة ممن عزلتهن عن انفسهن فَلا جُناحَ اى لا اثم عَلَيْكَ فى شىء من ذلك ذلِكَ التفويض الى مشيتك أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ اى اقرب الى قرة أعينهن وعدم حزنهن ورضائهن جميعهن لان حكم كلهن فيه سواء ثم من أويت منهن إليك وجدت ذلك تفضلا ومن عزلت منهن علمت انه بحكم الله وعلمت منك تفضلا ايضا حيث أبقيت فى نكاحك من غير حاجة منك إليها وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فاجتهدوا فى إحسانه وفيه وعيد لمن لم ترض منهن بمشية رسوله صلى الله عليه وسلم- وقيل معناه اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ من امر النساء والميل الى بعضهن وانما خيرناك فيهن تيسيرا لك وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً (51) لا يعاجل بالعقوبة فهو حقيق(7/366)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
بان يتقى اخرج ابن سعد عن عكرمة قال لما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه واخترن الله ورسوله انزل الله تعالى.
لا يَحِلُّ قرأ ابو عمرو ويعقوب بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية لان تأنيث الجمع غير حقيقى لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ اى بعد هذا اليوم حتى لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح اخرى وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أصله تتبدل حذفت احدى التاءين من مضارع التفعل بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ من مزيدة لتأكيد النفي يعنى لا يجوز لك ان تطلق منهن واحدة وتنكح مكانها اخرى قال البغوي وذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم لما خيرهن واخترن الله ورسوله شكرهن الله وحرم على نبيه من النساء سواهن ونهاه عن تطليقهن والاستبدال بهن وهذا قول ابن عباس وقتادة- واختلفوا فى انه هل أبيح له من بعد اخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد واحمد وعبد بن حميد وابو داؤد فى ناسخه والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردوية والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله ان يتزوج من النساء ما شاء الا ذات محرم بقوله تعالى تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فان تلك الاية وان تقدمها قراءة مسبوق بها نزولا- واخرج ابن ابى حاتم عن أم سلمة مثله واخرج ابن سعد عن ابن عباس مثله وذكر البغوي قول انس مات رسول الله على التحريم- وقال البغوي قال عكرمة والضحاك معنى الاية لا يحل لك النساء بعد اللاتي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها وقيل لابى بن كعب لو مات نساء النبي صلى الله عليه وسلم كان له ان يتزوج قال وما يمنعه من ذلك قيل قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال انما أحل الله له ضربا من النساء فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الاية ثم قال لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ- قال ابو صالح أمران لا يتزوج اعرابية ولا عربية ويتزوج من نساء قومه من بنات العمّ وبنات العمّة وبنات الخال وبنات الخالة ان شاء ثلاث مائة وقال مجاهد لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات بعد المسلمات ولا ان تبدل بالمسلمات غيرهن يقول لا يكون أم المؤمنين يهودية ولا نصرانية الا ما ملكت يمينك أحل له(7/367)
ما ملكت يمينه من الكتابيات ان يتسرى بهن- وروى عن الضحاك معنى ان تبدّل بهن اى ولا ان تبدل بازواجك اللاتي فى حبالتك أزواجا غيرهن بان تطلقهن وتنكح غيرهن فحرم عليه طلاق النساء اللاتي كن عنده إذ جعلهن أمهات المؤمنين وحرمهن على غيره حين اخترنه فاما نكاح غيرهن فلم يمنع عنه وقال ابن زيد فى قوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ انهم كانوا يتبادلون فى الجاهلية بأزواجهم يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتى بان تنزل لى عن امرأتك وانزل لك عن امراتى فانزل الله تعالى وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ يعنى لا تبادل بازواجك غيرك بان تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته الا ما ملكت يمينك فلا بأس بان تبدل بجاريتك ما شئت واما الحلائل فلا- عن ابى هريرة قال دخل عيينة بن حصين على النبي صلى الله عليه وسلم بغير اذن وعائشة رضى الله عنها عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاين الاستيذان قال يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مصر منذ أدركت ثم قال من هذه الحميرى الى جنبك قال هذه عائشة أم المؤمنين قال عيينة أفلا انزل لك عن احسن الخلق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى قد حرّم ذلك فلمّا خرج قالت عائشة من هذا يا رسول الله قال هذا أحمق مطاع وانه على ما ترين لسيد قومه وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ اى حسن الأزواج المستبدلة وهو حال من فاعل تبدل دون مفعوله وهو قوله من ازواج لتوغله فى التنكير وتقديره مفروضا إعجابك بهن قال البغوي يعنى ليس لك ان تطلق أحدا من نسائك وتنكح بدلها اخرى ولو أعجبك جمالها قال ابن عباس انها بنت عميس الخثعمية امراة جعفر بن ابى طالب رضى الله عنه فلمّا استشهد جعفر أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يخطبها فنهى عن ذلك إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ محل ما الرفع استثناء من النساء لانه يتناول الأزواج والإماء وقيل
الاستثناء منقطع قال ابن عباس ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مارية يعنى أم ابراهيم وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) فتحفظوا أمركم ولا تتجاوزوا عمّا حد لكم.
(مسئلة) قال البغوي فى الاية دليل على جواز النظر الى من يريد نكاحها(7/368)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
من النساء عن جابر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاطب أحدكم امرأة فان استطاع ان ينظر الى ما يدعوا الى نكاحها فليفعل رواه ابو داود وعن المغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكما- رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وعن ابى هريرة ان رجلا أراد ان يتزوج امرأة من الأنصار فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظر إليها فان فى أعين نساء الأنصار شىء- رواه مسلم قال الحميدي فان فى أعينهن صفرة والله اعلم.
اخرج الشيخان فى الصحيحين عن انس قال لمّا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فاذا كانه يتهيؤا للقيام فلم يقوموا فلمّا راى ذلك قام فلمّا قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فاذا القوم جلوس ثم انهم قاموا فانطلقت فجئت فاخبرت النبي صلى الله عليه وسلم انهم انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت ادخل فالقى الحجاب بينى وبينه فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الاية وذكر البغوي حديث ابن شهاب عن انس انه كان ابن عشر سنين مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قال أمهاتي يواطينى على خدمة النبي صلى الله عليه وسلم فخدمته عشر سنين وتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وانا ابن عشرين سنة وكنت اعلم الناس بشأن الحجاب حين نزل كان أول ما نزل فى مبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش أصبح النبي صلى الله عليه وسلم بها عروسا فدعى القوم فاصابوا من الطعام الحديث- فذكر مثل رواية البخاري وفى رواية للبخارى قال انس كنت اعلم الناس بهذه الاية اية الحجاب لما أهديت زينب الى النبي صلى الله عليه وسلم كانت معه فى البيت صنع طعاما ودعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فانزل الله تعالى تلك الاية وضرب الحجاب وقام القوم- وفى رواية له قال انس او لم حين بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم فارسلت على الطعام داعيا فيجئ القوم فياكلون ويخرجون ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون(7/369)
فدعوت حتى ما أجد أحدا ادعوه فقلت يا نبى الله ما أجد أحدا ادعوه فقال ارفعوا طعامكم وبقي ثلاثة رهط يتحدثون فى البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق الى حجرة عائشة فقال السلام عليكم اهل البيت ورحمة الله فقالت وعليك السّلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك بارك الله لك فذهب الى حجر نسائه كلّهن يقول لهن كما قال لعائشة ويقلن له كما قالت ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فاذا ثلثة رهط فى البيت يتحدثون وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منعطفا نحو حجرة عائشة فما أدرى أخبرته او اخبر ان القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله فى أسكفة الباب داخلة والاخرى خارجة ارخى الستر بينى وبينه ونزلت اية الحجاب- وفى رواية للبخارى قال انس او لم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بنى بزينب فاشبع الناس خبزا ولحما ثم خرج الى حجرات أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلم عليهن ويدعو لهن ويسلمن عليه ويدعون له فلمّا رجع هو الى بيته راى رجلين جرى بينهما الحديث فلمّا راهما رجع عن بيته فلمّا راى الرجلان نبى الله صلى الله عليه وسلم قاموا فرجع حتى دخل البيت وارخى الستر بينى وبينه. واخرج الترمذي وحسنه عن انس قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتى باب امراة عرس بها فاذا عندها قوم فانطلق ثم رجع وقد خرجوا فدخل وارخى بينى وبينه سترا فذكرته لابى طلحة فقال لان كان كما تقول لينزلن فى هذا شىء فنزلت اية الحجاب.
واخرج الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت كنت أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فى قعب فمرّ عمر فدعاه فاكل فاصابت إصبعه إصبعي فقال اوّه لو أطاع فيكن ما راتكن عين فنزلت اية الحجاب- وكذا اخرج البخاري فى الأدب المفرد والنسائي واخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فاطال الجلوس فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل فدخل عمر فراى الكراهية فى وجهه فقال للرجل ولعلّك آذيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قمت ثلاثا لكى يتبعنى فلم يفعل فقال له عمر يا رسول الله لو اتخذت حجابا فان نساءك لسن كسائر(7/370)
النساء وذلك اطهر لقلوبهم فنزلت اية الحجاب- وقد مرّ فى سورة البقرة ما رواه البخاري وغيره عن عمر قال وأفقت «1» ربى فى ثلاث فقلت لو اتخذت من مقام ابراهيم مصلى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وقلت يا رسول الله ان نسائك يدخل عليهن البر والفاجر فلو امرتهن ان يحتجبن فنزلت اية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه من الغيرة فقلت لهن عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت كذلك- وكذا اخرج النسائي من رواية انس وذكر البغوي نحوه عن ابن عباس وقال البغوي وقد صح فى سبب نزول اية الحجاب ان ازواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن الى المصانع وهو صعيد افيح وكان عمر يقول للنبى صلى الله عليه وسلم احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة ذات ليلة من الليالى عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر ان قد عرفناك حرصا على ان ينزل الحجاب فانزل الله تعالى الحجاب- قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بان ذلك وقع قبيل قصة زينب فلقربه منها اطلق نزول الاية بهذا السبب ولا مانع من تعدد السبب- إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ استثناء مفرغ منصوب على الظرف او على المصدر او على الحال يعنى لا تدخلوا فى وقت الا وقت ان يؤذن لكم او لا تدخلوا دخولا الا دخولا مأذونا لكم او لا تدخلوا فى حال الا حال ان يؤذن لكم إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن لتضمنه معنى يدعى وفيه اشعار بانه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وان اذن كما هو اشعار فى قوله تعالى غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ اى غير منتظرين وقت نضجه حال من فاعل لا تدخلوا او المجرور فى لكم داخل فى الاستثناء اى لا تدخلوا الا بإذن والا غير ناظرين وهذا الاستثناء مختص بمن أراد الدخول لاجل
__________
(1) عن ابن مسعود قال فضل على الناس عمر بن الخطاب بأربع بذكره الأسارى يوم بدر امر بقتلهم فانزل الله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الاية وبذكره الحجاب امر نساء النبي صلى الله عليه وسلم ان يحتجبن فقالت له زينب انك لتغار علينا يا ابن الخطاب والوحى ينزل فى بيوتنا فانزل الله تعالى وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وبدعوة النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أيد الإسلام بعمر وبرأيه فى ابى بكر كان أول الناس من بايعه- منه رح(7/371)
الطعام لا مطلقا- امال حمزة «وهشام وخلف وقلله ورش من طريق الأزرق- ابو محمد» والكسائي اناه فهو حينئذ مصدر انى الطعام إذا أدرك يقال انى الحميم إذا انتهى حره وانى ان يفعل كذا اى حان وقال البغوي انى بكسر الهمزة مقصورة فاذ فتحتها مددتّ وقلت الإناء وفيه لغتان انى يأنى مثل رمى يرمى وان يئين مثل باع يبيع وفى القاموس انى الشيء يأنى أينا واناء وانا بالكسر فهو انى كغنى حان وأدرك وانى الحميم انتهى حره فهو ان وبلغ هذا اناه يعنى بالفتح وبكسر يعنى بلغ غايته او نضجه او إدراكه وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ يعنى أكلتم الطعام فَانْتَشِرُوا يعنى تفرقوا واخرجوا من منزله ولا تمكثوا بعد الاكل وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ مجرور معطوف على ناظرين او منصوب اى لا تدخلوها مستأنسين وقيل تقديره ولا تمكثوا مستأنسين فهو عطف جملة على جملة نهوا ان يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لاجل حديث يحدثه به إِنَّ ذلِكُمْ اللبث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لتضيق المنزل عليه وعلى اهله واشتغاله بما لا يعنيه تعليل لما سبق فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ولا يخرجكم عطف على الجملة الاسمية السابقة وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ عطف او حال او معترضة اى لا يترك الله تأديبكم حياء فان التأديب حق وقال البيضاوي يعنى إخراجكم حق فينبغى ان لا يترك حياء كما لا يترك الله الحق فيأمركم بالخروج وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ اى نساء النبي صلى الله عليه وسلم لدلالة بيوت النبي عليهن لان فيها نساؤه مَتاعاً اى شيئا ينتفع به استعارة او استيهابا او ردّا للعارية فَسْئَلُوهُنَّ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ اى الستر الجملة الشرطية معطوفة على قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ قال البغوي فبعد اية الحجاب لم يكن لاحد ان ينظر الى امرأة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم منتقبة كانت او غير منتقبة ذلِكُمْ اى السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر الشيطانية الجملة تعليل لما سبق.
اخرج ابن ابى حاتم عن ابن زيد قال بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا يقول لو توفى النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت فلانة من بعده فنزلت وَما كانَ اى ما صح لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ اى تفعلوا ما يكرهه وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد وفاته او فراقه أَبَداً واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس(7/372)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
قال نزلت فى رجل همّ ان يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده- قال سفيان ذكر انها عائشة واخرج عن السدىّ قال بلغنا ان طلحة بن عبيد الله قال أيحجبنا محمد عن بنات عمنا ويتزوج نساءنا من بعدنا لان حدث حدث لنتزوجن نساءه من بعده فانزلت هذه الاية- واخرج ابن سعد عن ابى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال نزلت فى طلحة بن عبيد الله لانه قال إذا توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة- واخرج جويبر عن ابن عباس ان رجلا اتى بعض ازواج النبي صلى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال يا رسول الله انها ابنة عمى والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لى قال النبي صلى الله عليه وسلم قد عرفت ذلك انّه ليس أحدا غير من الله وانّه ليس أحدا غير منى فمضى فقال يمنعنى من كلام ابنة عمى لا تزوجها من بعده فانزل الله تعالى هذه الاية- قال ابن عباس فاعتق ذلك الرجل رقبة وحمل عشرة ابعرة فى سبيل الله وحج ماشيا توبة من كلمته- قال البغوي روى معمر عن الزهري ان العالية بنت ظبيان التي طلقها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت رجلا وولدت له وذلك قبل تحريم ازواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس قال البيضاوي خصت التي لم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم- روى ان الأشعث بن قيس تزوج المستعيذة فى ايام عمر رضى الله عنه فهم عمر برجمها فاخبر انه صلى الله عليه وسلم فارقها قبل ان يمسها فتركه من غير نكير إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) اى ذنبا عظيما قلت وجاز ان يكون ذلك لاجل ان النبي صلى الله عليه وسلم حىّ فى قبره ولذلك لم يورث ولم يتئم أزواجه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى علىّ عند قبرى سمعته ومن صلّى علىّ نائيا أبلغته رواه البيهقي فى شعب الايمان.
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من أذى النبي صلى الله عليه وسلم او من نكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ فى أنفسكم قال البغوي نزلت فيمن أضمر نكاح عائشة رضى الله عنها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) تعليل لجزاء محذوف أقيم مقامه تقديره يعلمه الله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيجازيكم عليه وفى هذا التعميم(7/373)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
والبرهان على المقصود بعد التصريح بالنهى عن نكاحهن مزيد تهويل ومبالغة فى الوعيد ولذلك أعتق ذلك الرجل الذي هم بنكاح بعض ازواج النبي صلى الله عليه وسلم رقبة وحمل عشر ابعرة فى سبيل الله وحج ماشيا توبة من كلمته كما مر فى حديث ابن عباس قال البغوي ولما نزلت اية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب ونحن ايضا نكلمهن من وراء حجاب فانزل الله تعالى.
لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ اى فى ترك الاحتجاب من ابائهن وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وانما لم يذكر العم والخال لانه لما ذكر أبناء اخوانهن وأبناء أخواتهن يظهر بدلالة النص حكم الأعمام والأخوال لانهن عمات بالنسبة الى أبناء الاخوة وخالات بالنسبة الى أبناء الأخوات والعم والعمة من جنس واحد كالخال والخالة روى البخاري عن عروة بن الزبير ان عائشة قالت استأذن أفلح أخ ابى القعيس بعد ما انزل الحجاب فقلت لا اذن حتى استأذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فان أخاه أبا القعيس ليس هو ارضعنى ولكن أرضعتني امرأة ابى القعيس فدخل علىّ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ان أفلح أخا ابى القعيس استأذن فابيت ان اذن له حتى استأذنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم تأذنين عمك قلت يا رسول الله ان الرجل ليس هو ارضعنى ولكن أرضعتني امرأة ابى القعيس فقال ائذني له فانه عمك تربت يمينك- قال عروة فلذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما تحرموا من النسب وَلا نِسائِهِنَّ يعنى مؤمنات حرائر وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة كما ذكرنا فى سورة النور وَاتَّقِينَ اللَّهَ هذه الجملة معطوفة على مضمون لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ يعنى وَاتَّقِينَ اللَّهَ فى البروز للاجانب وفى كل ما امرتن به وفيه التفات من الغيبة الى الخطاب لمزيد التأكيد إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من افعال العباد شَهِيداً (55) فيجازى عليه.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ قال ابن عباس ان الله يرحم النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة يدعون له- وعن ابن عباس ايضا يصلون اى يبركون وقيل الصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار قال ابو العالية صلوة الله عليه ثناؤه عند الملائكة وصلوة الملائكة الدعاء وقد ذكرنا الكلام فى الصلاة(7/374)
فى قوله تعالى هو الذي يصلّى عليكم وملئكته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ادعوا له واسئلوا الله تعالى ان يرحمه وَسَلِّمُوا عليه تَسْلِيماً يعنى حيوة بتحية السّلام وقولوا السّلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته والاية تدل على وجوب الصلاة والسّلام فى الجملة ولو فى العمر مرة وبه قال ابو حنيفة ومالك رحمهما الله واختاره الطحاوي قال ابن همام موجب الأمر القاطع الافتراض فى العمر مرة لانه لا يقتضى التكرار وقلنا به- وقيل يجب فى كل صلوة بعد التشهد فى القعدة الاخيرة وبه قال الشافعي واحمد قال فى رحمة الامة فى اختلاف الائمة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فى التشهد الأخير عند ابى حنيفة ومالك سنة وفرض عند الشافعي وقال احمد فى أشهر روايتيه يبطل صلاته بتركها وقال ابن الجوزي فرض عند احمد وعنه انها سنة- وقيل يجب الصّلوة كلما جرى ذكره صلى الله عليه وسلم وبه قال الكرخي استدل من يقول بوجوبها فى الصلاة بحديث سهل بن سعد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا صلوة لمن لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى وفيه عبد المهيمن ابن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال الدار قطنى عبد المهيمن ليس بالقوى وقال ابن حبان لا يحتج به ورواه ابن الجوزي بلفظ لا صلوة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ولا صلوة لمن لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم ولا صلوة لمن لم يحب الأنصار- وفيه عبد المهيمن ضعيف لا يحتج به واخرج الطبراني عن أبيّ بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه قالوا حديث عبد المهيمن أشبه بالصواب مع ان جماعة قد تكلموا فى أبيّ بن عباس وبحديث ابى مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلّى صلوة لم يصل فيها علىّ ولا على اهل بيتي لم يقبل منه- رواه ابن الجوزي من طريق الدار قطنى قال ابن الجوزي وفيه جابر الجعفي ضعيف وقد اختلف فيه فوقفه على ابن مسعود تارة ورفعه اخرى وذكره ابن همام عن ابن مسعود قال قال ابن الجوزي فيه جابر ضعيف وقد اختلف فيه فوقفه تارة ورفعه اخرى وروى الحاكم والبيهقي عن يحيى بن السباق عن رجل من بنى الحارث عن ابن مسعود عنه عليه الصّلوة(7/375)
والسّلام إذا تشهد أحدكم فليقل اللهم صل على محمد وعلى ال محمد وبارك على محمد وعلى ال محمد وارحم محمدا وال محمد كما صليت وباركت وترحمت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انك حميد مجيد- قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات الا هذا الرجل الحارثي فينظر فيه قال ابن همام حديث لا صلوة لمن لم يصل علىّ ضعفه اهل الحديث كلهم ولو صح فمعناه كاملة او لمن لم يصل علىّ فى العمر مرة.
وقال الحافظ ابن حجر أقوى من هذا الحديث حديث فضالة بن عبيد انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو فى صلاته فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عجّل هذا ثم دعاه ثم قال له ولغيره إذا صلّى أحدكم فليبدا بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليدع بما شاء رواه ابو داود والنسائي والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال ولفظ الترمذي بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال اللهم اغفر لى وارحمني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجّلت ايها المصلى إذا صليت فقعدتّ فاحمد الله بما هو اهله وصل علىّ ثم ادعه قال ثم صلّى رجل اخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ايها المصلى ادع تجب- رواه الترمذي وروى ابو داؤد والنسائي نحوه قلت ويمكن الاستدلال على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه فى الصلاة بعد التشهد بان المراد بالأمر فى هذه الاية ان يصلى عليه صلى الله عليه وسلم فى الصلاة كما ان المراد بقوله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ تكبير التحريمة وبقوله تعالى قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وقوله تعالى واركعوا واسجدوا القيام والركوع والسجود فى الصلاة وبقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ القراءة فى الصلاة يدل على هذا ما رواه البخاري عن كعب بن عجرة وكذا فى حديث ابى سعيد الخدري قيل يا رسول الله اما السّلام عليك فقد عرفنا فكيف الصلاة قال قولوا اللهم صل على محمد الى آخره يعنى قد عرفنا السّلام فى التشهد وهو قوله السّلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته فكيف نصلى حينئذ فعلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله اللهم صل على محمد الى آخره وقد تلقته الامة بالقبول واجمعوا على جعلها بعد التشهد وان اختلفوا(7/376)
فى كونها فريضة فعلم بهذا الحديث ان مراد الله سبحانه بالأمر فى هذه الاية جعلها بعد التشهد والله اعلم.
واستدل من يقول بوجوب الصلاة كلّما جرى ذكره صلى الله عليه وسلم بحديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم انف رجل ذكرت عنده فلم يصل علىّ ورغم انف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل ان يغفر له ورغم انف رجل أدرك عنده أبواه الكبر او أحدهما فلم يدخلاه الجنة- رواه الترمذي وابن حبان فى صحيحه وحديث جابر بن سمرة عنه صلى الله عليه وسلم من ذكرت عنده فلم يصلّ علىّ فدخل النار فابعده الله عزّ وجلّ وحديث ابن عباس مرفوعا بلفظ أتاني جبرئيل من ذكرت عنده فلم يصل عليك فدخل النار فابعده الله عز وجل روى الحديثين الطبراني وروى ابن السنى عن جابر مرفوعا بلفظ من ذكرت عنده فلم يصل على فقد شقى- وعن علىّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علىّ- رواه الترمذي ورواه احمد عن الحسين ابن على رضى الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب وروى الطبراني بسند حسن عن الحسين بن على رضى الله عنهما مرفوعا من ذكرت عنده فخطى الصلاة علىّ خطى طريق الجنة- وروى النسائي بسند صحيح عن انس من ذكرت عنده فليصل علىّ فانه من صلى علىّ صلى الله عليه وسلم عشرا.
(فصل) فى فضل الصلاة والسّلام على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها عن عبد الرحمن بن ابى ليلى قال لقينى كعب بن عجرة فقال الا اهدى لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بلى فاهدها لى فقال سالنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم اهل البيت فان الله قد علّمنا كيف نسلم عليك قال قولوا اللهم صلّ على محمّد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى ال محمد كما باركت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم انك حميد مجيد- متفق عليه الا ان مسلما لم يذكر على ابراهيم فى الموضعين وعن ابى حميد الساعدي قال قالوا يا رسول الله كيف نصلى عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا(7/377)
اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صلّيت على ال ابراهيم وبارك على محمّد وأزواجه وذريته كما باركت على ال ابراهيم انك حميد مجيد- متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلّى علىّ واحدة صلى الله عليه عشرا رواه مسلم وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلّى علىّ صلوة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحطت عنه عشر خطيئات ورفعت له عشر درجات- رواه احمد والبخاري فى الأدب والنسائي والحاكم وصححه وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم صلوة- رواه الترمذي وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لله ملائكة سياحين فى الأرض يبلغونى من أمتي السّلام- رواه النسائي والدارمي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يسلم علىّ الا ردّ الله علىّ روحى حتى أرد عليه السّلام- رواه ابو داود والبيهقي فى الدعوات الكبير وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبرى عيدا وصلوا علىّ فان صلاتكم يبلغنى حيث كنتم- وعن ابى طلحة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر فى وجهه فقال انه جاءنى جبرئيل فقال ان ربك يقول اما يرضيك يا محمد ان لا يصلى عليك أحد من أمتك الا صليت عليه عشرا ولا يسلم عليك أحد من أمتك الا سلمت عليه عشرا- رواه النسائي والدارمي.
وعن أبيّ بن كعب قال قلت يا رسول الله انى اكثر الصلاة عليك فكم اجعل لك من صلاتى قال ما شئت قال الربع قال ما شئت وان زدتّ فهو خير لك قلت النصف قال ما شئت وان زدتّ فهو خير لك قلت فالثلثين قال ما شئت فان زدتّ فهو خير لك قلت اجعل لك صلاتى كلها قال إذا تكفى همك ويكفر لك ذنبك- رواه الترمذي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرّه ان يكتال بالمكيال الا وفى إذا صلّى علينا اهل البيت فليقل اللهم صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته واهل بيته كما صليت على ابراهيم انك حميد مجيد- رواه ابو داؤد عن عبد الله بن عمرو قال من صلّى على النبي صلى(7/378)
الله عليه وسلم واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلوة- رواه احمد وعن رويفع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صلّى على محمّد وقال اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتى- رواه احمد وعن عبد الرحمن ابن عوف قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل نخلا فسجد فاطال السجود حتى خشيت ان يكون الله توفاه قال فجئت انظر فرفع رأسه فقال مالك فذكرت ذلك له قال فقال ان جبرئيل عليه السلام قال لى الا أبشرك ان الله عزّ وجلّ يقول لك من صلّى عليك صليت عليه ومن سلّم عليك سلمت عليه- رواه احمد وعن عمر بن الخطاب قال ان الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شىء حتى تصلى على نبيك- رواه الترمذي وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول من صلّى علىّ صلوة صلت عليه الملائكة ما صلى علىّ فليقلل العبد من ذلك او ليكثر- رواه البغوي وعن علىّ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلّى علىّ صلوة كتب له قيراط والقيراط مثل أحد رواه عبد الرزاق فى الجامع بسند حسن وعن ابى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلّى علىّ حين يصبح عشرا وحين يمسى عشرا أدركته شفاعتى يوم القيامة «1» - رواه الطبراني فى الكبير بسند حسن.
(مسئلة) هل يجوز الصلاة والسّلام على غير الأنبياء والصحيح انه يجوز تبعا ويكره استقلالا كما يكره ان يقال محمد عزّ وجلّ مع كونه عزيزا جليلا لاختصاصه
__________
(1) وعن ابى بكر الصديق قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فسلم فردّ النبي صلى الله عليه وسلم واطلق وجهه وأجلسه الى جنبه فلمّا قضى الرجل حاجته نهض فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر هذا الرجل يرفع له كل يوم كعمل اهل الأرض قلت ولم ذاك قال انه كلما أصبح صلى علىّ عشرة مرات كصلوة الخلق اجمع قلت وما ذاك قال يقول اللهم صلّ على محمد النبي عدد من صلّى من خلقك وصل على محمد النبي كما ينبغى لنا ان نصلى عليه وصل على محمد النبي كما امرتنا ان نصلى عليه وعن ابى بكر الصديق قال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم امحق للخطايا من الماء للنار والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عتق الرقاب وحب الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من مهج الأنفس او قال من ضرب السيف فى سبيل الله- منه نور الله مرقده(7/379)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
بالأنبياء عرفا كاختصاص ذلك بالله تعالى وقد ذكرنا هذه المسألة مبسوطا فى سورة التوبة فى تفسير قوله تعالى وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ..
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ قال البغوي قال ابن عباس هم اليهود والنصارى والمشركون فاما اليهود فقالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ويَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ- وقالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ- واما النصارى فقالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ- وثالِثُ ثَلاثَةٍ- واما المشركون فقالوا الملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى ولم يكن له اما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون علىّ من إعادته واما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وانا الأحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد- وفى رواية ابن عباس واما شتمه إياي فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة او ولدا- رواه البخاري وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى يؤذينى ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الأمر اقلب الليل والنهار متفق عليه وقيل معنى يوذينى يلحدون فى أسمائه وصفاته وقال عكرمة هم اصحاب التصاوير عن ابى زرعة انه سمع أبا هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى ومن اظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة او شعيرة- متفق عليه وروى البخاري عن ابن عباس من صور صورة فان الله معذبه حتى ينفخ فيه الروح فليس بنافخ فيها ابدا- وقيل معنى الأذى مخالفة امر الله وارتكاب معاصيه وانما ذكر على ما يتعارف الناس بينهم والله منزه من ان يلحقه أذى من أحد ويؤذون رَسُولَهُ قال ابن عباس هو انه شج وجهه وكسرت رباعيته وقيل ساحر شاعر معلم مجنون- وهذا الذي ذكرنا انما يستقيم على قول من جوز اطلاق اللفظ الواحد على معنيين وعند الجمهور معناه ان الذين يرتكبون ما يكرهه الله ورسوله وجاز ان يكون معنى الاية الذين يؤذون رسول الله وذكر الله لتعظيم الرسول كانّ من أذى الرسول فقد أذى الله اخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس ان الاية نزلت فى الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم(7/380)
حين اتخذ صفية بنت حيى- وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس انها نزلت فى عبد الله ابن أبيّ وناس معه قذفوا عائشة الصديقة الطيبة فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع فى بيته من يؤذينى فنزلت- عن انس وابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال قال الله تعالى من أهان ويووى من عادى وليّا فقد بارزني بالمحاربة وما رددتّ فى شىء انا فاعله ما رددت فى قبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وانا اكره مساية ولا بد له منه وما تقرب بي عبدى المؤمن بمثل الزهد فى الدنيا ولا يعبدنى بمثل ما افترضته عليه- رواه البخاري وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى يقول يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى قال يا ربّ كيف أعودك وأنت رب العالمين قال اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلم تعده اما علمت انك لوعدتّه لوجدتنى عنده يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى الحديث نحوه- رواه مسلم قلت ولا شك ان معاداة الأولياء لمّا كان معاداة ومحاربة مع الله تعالى وأسند الله سبحانه مرض أوليائه الى نفسه تعالى عن ذلك علوا كبيرا لاجل وصل غير متكيف فاسناد إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم الى الله تعالى اولى وقيل نظرا الى ما ذكرنا من الأحاديث معنى الاية الَّذِينَ يُؤْذُونَ اولياء الله على حذف المضاف كقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ يعنى اهل القرية وهذا القول عندى غير سديد لان ذلك يفضى الى تقديم ذكر الأولياء على ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فان قيل هو تخصيص بعد تعميم فان الرسول داخل فى اولياء الله قلنا لو كان كذلك لزم التكرار فى قوله تعالى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) جملة إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مستأنفة كانه فى جواب من سال انا أمرنا بالصّلوة والسّلام على النبي صلى الله عليه وسلم فما شان من أذاه فقال
الله تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ إلخ.
(مسئلة) من أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعن فى شخصه او دينه او نسبه او صفة من صفاته او بوجه من وجوه الشين فيه صراحة او كناية او تعريضا او اشارة كفر ولعنه الله فى الدنيا والاخرة واعدّ له عذاب جهنم وهل يقبل توبته(7/381)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
قال ابن همام كل من ابغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه كان مرتدّا فالسباب بالطريق الاولى ويقتل عندنا حدّا فلا تقبل توبته فى إسقاط القتل قالوا هذا مذهب اهل الكوفة ومالك ونقل عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه ولا فرق بين ان يجئ تائبا بنفسه او شهدوا عليه بذلك بخلاف غيره من موجبات الكفر فان الإنكار فيها توبة ولا تعمل الشهادة معه حتى قالوا بقتل ان سبّ سكران ولا يعفى عنه ولا بد من تقييده بما إذا كان سكره بسبب محظور باشره باختياره بلا اكراه والا فهو كالمجنون وقال الخطابي لا اعلم أحدا خالف فى وجوب قتله واما قتله فى حق من حقوق الله تعالى فتعمل توبته فى إسقاط قتله ولا يحكم بارتداد من اتى بكلمة الكفر سكران فى غير سباب النبي صلى الله عليه وسلم وان كان السكر بسبب محظور باشره باختياره بلا اكراه..
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا اى من غير ان يعملوا ما يوجب إذا هم وقال يقعون فيهم ويرمون بغير جرم فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) تنكير البهتان والإثم للتفخيم قال مقاتل نزلت فى على بن ابى طالب رضى الله عنه وقيل نزلت فى شأن عائشة رضى الله عنها قلت اللفظ عام فى كل من يؤذى «1» مؤمنا او مؤمنة باىّ وجه كان وان كان المورد خاصّا عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من امنه الناس على دمائهم وأموالهم- رواه الترمذي والنسائي وسب عائشة هو سب النبي صلى الله عليه وسلم عرفا وعقلا ونقلا لما ذكرنا فى قول جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع فى بيته من يؤذينى يعنى عبد الله ابن أبيّ حين قذف عائشة فقول من قال هاهنا انها نزلت فى شأن عائشة معناه ان قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الى قوله إِثْماً مُبِيناً نزلت فى شأن عائشة لا الجملة الاخيرة وحدها وكذا من سبّ عليّا فقد أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) عن قتادة فى الاية قال إياكم وأذى المؤمنين فان الله يحوطه ويغضب له- منه رح(7/382)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
أنت منى وانا منك رواه الشيخان فى الصحيحين عن البراء بن عازب بل سب الصحابة عامتهم يفضى الى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مغفل رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله الله فى أصحابي الله الله فى أصحابي لا تتخذوهم غرضا من بعدي فمن أحبهم فبحبى أحبهم ومن ابغضهم فببغضى ابغضهم ومن اذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد أذى الله ومن أذى الله فيوشك ان يأخذه رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب والله اعلم.
وقال الضحاك والكلبي نزلت الاية فى شأن الزناة الذين يمشون فى طرق المدينة وهم المنافقون يتبعون النساء إذا برزن فى الليل لقضاء حوائجهن فيغمزون المرأة فان سكتت اتبعوها وان زجرتهم انتهوا عنها- ولم يكونوا يطلبون الا الإماء ولكن كانوا لا يعرفون الحرة من الامة لان زى الكل كان واحدا يخرجن فى درع وخمار الحرة والامة فشكون ذلك الى أزواجهن فذكروها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية ثم نهين الحرائر ان يتشبهن بالإماء فى الاية اللاحقة والله اعلم اخرج ابن سعد فى الطبقات عن ابى مالك واخرج نحوه عن الحسن ومحمد بن كعب القرظي قال كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين فشكون ذلك فقيل ذلك للمنافقين فقالوا انما نفعله بالإماء فنزلت.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ امر بتقدير اللام اى ليدنين عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ جمع جلباب وهى الملحفة التي تشتمل بها المرأة فوق الدرع والخمار روى البخاري عن عائشة قالت خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امراة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فراها عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال يا سودة اما والله ما تخفين علينا فانظرى كيف تخرجين قالت فانكفات «مالت ورجعت الى بيتها- منه رح» راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم- فى بيتي وانه ليتعشى وفى يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله انى خرجت لبعض حاجتى فقال عمر كذا وكذا قالت فاوحى الله تعالى اليه ثم رفع عنه وان العرق «1» فى يده ما وضعه فقال
__________
(1) العرق بالسكون العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم يقال عرقت العظم واعترقته وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك 12 نهاية منه رح.(7/383)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
انه قد اذن لكن ان تخرجن لحاجتكن- قلت يعنى اذن لكن ان تخرجن متجلببات قال ابن عباس وابو عبيدة امر نساء المؤمنين ان يغطين رؤسهن ووجوههن بالجلابيب الا عينا واحدا ليعلم انهن الحرائر ومن للتبعيض لان المرأة ترخى بعض جلبابها ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ بإضمار الى متعلق بأدنى اى اقرب الى ان يعرفن او بتقدير المضاف اى ادنى اسباب معرفتهن انهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ عطف على يعرفن اى فلا يتعرضهن اهل النفاق والفسق وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف رَحِيماً (59) بعباده حيث يراعى مصالحهم حتى الجزئيات منها- قال انس مرّت بعمر بن الخطاب رضى الله عنه جارية متقنعة فعلاها بالدرة وقال يا لكاع «1» أتشبهين بالحرائر القى القناع.
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وعما يتعرضون للنساء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى ضعف ايمان وقلة ثبات عليه او فجور عن تزلزلهم فى الدين او فجورهم وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ الذين يوقعون فى المدينة الرجفة وهو الزلزلة والاضطراب الشديد وذلك ان أناسا من المنافقين كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون.
فى الناس الاخبار الكاذبة يقولون انهم قتلوا وانهزموا ويقولون قد أتاكم العدو ونحوها وقال الكلبي يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ويفشون الاخبار يعنى الكاذبة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ جواب لقسم محذوف لفظا وللقسم والشرط معا معنى اى لنأمرنك بقتالهم واجلائهم او ما يضطرهم الى طلب الجلاء او لنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ عطف على لنغرينّك لانه يجوز ان يجاب به القسم لصحة قولك لان لم ينتهوا لا يجاورونك ولمّا كان الجلاء عن الوطن من أعظم المصائب عطف بثم لبعد حاله عن حال المعطوف عليه اى لا يساكنونك فِيها اى فى المدينة إِلَّا قَلِيلًا (60) اى زمانا قليلا او جوارا قليلا حتى يخرجوا منها او يقتلوا.
مَلْعُونِينَ منصوب على الذم والشتم او الحال والاستثناء شامل له
__________
(1) اللكع عند العرب العبد ثم استعمل فى الحمق والذم يقال للرجل لكع وللمرءة لكاع واكثر ما يقع فى النداء وهو اللئيم وقيل الوسخ قد يطلق على الصغير 12 نهايه جزرى منه رح(7/384)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
ايضا اى لا يجاورنك الا ملعونين ولا يجوز ان ينتصب بقوله تعالى أَيْنَما ثُقِفُوا اى وجدوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) لان ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبله والتشديد فى قتّلوا يدل على التكثير.
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكد اى سنّ الله ذلك فى الأمم الماضية وهو ان يقتل الذين نافقوا بالأنبياء وسعوا فى وهنهم بالارجاف ونحوه اين ما ثقفوا او منصوب بنزع الخافض اى كسنة الله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) لان الله تعالى لا يبدل سنته وغيره لا يقدر على ان يبدلها.
يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ اى عن وقت قيامها استهزاء او تعنتا او امتحانا فالمشركون كانوا يستهزءون ويسئلون عن الساعة إنكارا واستهزاء واليهود كانوا يسئلون اما تعنتا واما امتحانا لان الله عمى وقتها فى التورية وفى سائر الكتب قُلْ يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لم يطلع الله عليه أحدا من الأنبياء والملائكة وَما يُدْرِيكَ واى شىء يعلمك وقت قيامها إذا لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) اى شيئا قريبا او يكون الساعة عن قريب او انتصابه على الظرف ويجوز ان يكون تذكير قريب لان الساعة فى معنى اليوم- وكونه قريبا مبنى على ان كل ما هو ات قريب ولعل لوجوب الوقوع وفيه تهديد للمستعجلين وإسكات للمتعنتين.
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) نارا شديدا لا يقاد.
خالِدِينَ حال من الضمير فى لهم اى مقدرين خلودهم فِيها اى فى السعير أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم وَلا نَصِيراً (65) يدفع العذاب عنهم.
يَوْمَ تُقَلَّبُ ظرف لقوله لا يجدون او منصوب باذكر اى يوم تصرف وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ من جهة الى جهة كاللحم يشوى بالنار او من حال الى حال خصت الوجوه بالذكر لانها أكرم مواضع من الجسد او الوجه عبارة عن الجملة يَقُولُونَ حال من الضمير المجرور فى وجوههم والمضاف جزء من المضاف اليه وهو مسند اليه فيصح وقوع الحال عنه يا لَيْتَنا اى يا قومنا ليتنا وقيل يا للتنبيه أَطَعْنَا اللَّهَ فى الدنيا وَأَطَعْنَا فى الدنيا الرَّسُولَا (66) فلم نبتل بهذا العذاب فى الاخرة زيدت الالف فى الرَّسُولَا والسَّبِيلَا لرعاية الفواصل والدلالة على انقطاع الكلام واستيناف ما بعده.
وَقالُوا رَبَّنا يا ربنا إِنَّا أَطَعْنا(7/385)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
سادَتَنا وَكُبَراءَنا
يعنون قادتهم الذين سنوا لهم الكفر قرأ ابن عامر ويعقوب سادتنا بكسر التاء والف قبلها على جمع الجمع للدلالة على الكثرة والباقون بفتح التاء بلا الف قبلها فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) بما زيّنوه لنا.
رَبَّنا اى يا ربنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ اى مثلى ما أتيتنا منه لانهم ضلوا وأضلونا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) قرأ عاصم بالباء الموحدة اى أشد اللعن وأعظمه والباقون بالثاء المثلثة اى كثير العدد-.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى يعنى قالوا فيه ما يشينه فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا فاظهر براءته قيل ذلك ما روى عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان موسى كان رجلا حييا كريما ستيرا لا يرى من جلده شىء استحياء منه فاذاه من أذاه من بنى إسرائيل فقال ما يستر هذا الستر الا من عيب بجلده اما برص واما ادرة واما آفة فاراد الله ان يبرئه مما قالوا فخلا وحده وخلع ثيابه ووضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل فلمّا فرغ اقبل على ثيابه ليأخذها فاذا الحجر عدا بثوبه فاخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبى يا حجر ثوبى يا حجر حتى انتهى الى ملأ من بنى إسرائيل فرأوه عريانا احسن ما خلق الله فابراه مما يقولون وقام الحجر فاخذ موسى ثوبه ولبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فو الله ان بالحجر لبقيا من اثر ضربه ثلاثا او أربعا او خمسا فذلك قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا- رواه البخاري والترمذي واحمد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردوية وعبد الرزاق وعبد بن حميد وقال ابو العالية هو ان قارون استأجر امرأة لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ فعصمه الله فبرأ موسى من ذلك وأهلك قارون وقد مر القصة فى سورة القصص- وقال قوم إذا هم موسى انه لما مات هارون فى التيه ادّعوا على موسى انه قتله فامر الله الملائكة حتى مروا به على بنى إسرائيل فعرفوا انه لم يقتله فبراه الله مما قالوا- أخرجه ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم وصححه وابن مردوية عن ابن عباس عن على بن ابى طالب رضى الله عنهم والله اعلم روى البخاري عن عبد الله رضى الله عنه قال قسّم النبي صلى الله عليه وسلم قسما فقال رجل ان هذه القسمة ما أريد بها وجه الله فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاخبرته فغضب حتى رايت الغضب فى وجهه فقال يرحم الله موسى قد أوذي(7/386)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
بأكثر من هذا فصبر وَكانَ موسى عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) اى كريما ذا جاه يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه إذا كان ذو جاه وقدر قال ابن عباس كان عند الله بحيث لا يسئل شيئا الا أعطاه وكذا قال الحسن وقيل كان مجيبا مقبولا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فى ارتكاب ما يكرهه فضلا عما يؤذى رسوله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (70) قال ابن عباس صوابا وقال قتادة عدلا وقال الحسن صدقا وقيل مستقيما وقيل قاصدا الى الحق والمال واحد يعنى صدقا غير كذب ولا مجازفة فان الكذب يمحق والصدق يبقى قيل المراد منه نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل وما خاضوا فيه من حديث افك عائشة قال عكرمة هو قول لا اله الا الله.
يُصْلِحْ مجزوم فى جواب الأمر وكذا ما عطف عليه لَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال ابن عباس يقبل حسناتكم وقال مقاتل يزكى أعمالكم يعنى يصلحها للقبول والاثابة عليها وقيل معناه يوفقكم للاعمال الصالحة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ اى يجعلها مكفرة باستقامتكم على القول والعمل وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) اى ظفر بالخير كله يعيش فى الدنيا حميدا ويبعث فى الاخرة سعيدا.
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وهاهنا ابحاث الاول فى ان الامانة ما هى الثاني فى ان المراد بالسماوات والأرض والجبال ما هى أعيانها او أهلها كما فى قوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ يعنى أهلها والثالث ان المراد بالعرض الخطاب اللفظي او الحالي والرابع فى معنى الحمل والإباء عنه- قال ابن عباس الامانة الطاعة والفرائض التي فرض الله تعالى على عباده عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال يعنى على أعيانها بالخطاب اللفظي على ان أدتها اثابهن وان ضيعتها عذبهن- وقال ابن مسعود الامانة أداء الصلاة وإيتاء الزكوة وصوم رمضان وحج البيت وصدق الحديث والعدل فى الكيل والوزن وأشد من هذا كله الودائع- وقال مجاهد الامانة أداء الفرائض وحفظ الدين وقال ابو العالية ما أمروا به ونهوا عنه وقال زيد بن اسلم هى الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من الشرائع يعنى ما لا مدخل للرياء فيه وقال عبد الله بن عمرو بن العاص أول ما خلق الله من الإنسان فرجه وقال هذه امانة استودعكها فالفرج امانة والاذن امانة والعين امانة والرجل امانة ولا ايمان(7/387)
لمن لا امانة له- وقال بعضهم هى أمانات الناس والوفاء بالعهود فحق على كل مؤمن ان لا يغش مؤمنا ولا معاهدا فى شىء قليل ولا كثير وهى رواية الضحاك عن ابن عباس- ومرجع هذه الأقوال ان الامانة هى التكليفات الشرعية والمراد بالسماوات والأرض أعيانها قال البغوي هذا قول ابن عباس وجماعة واكثر السلف والعرض بالخطاب اللفظي قال البغوي قال الله تعالى لهن أتحملن هذه الامانة بما فيها قلن وما فيها قال ان احسنتن جوزيتن وان عصيتن عوقبتن فقلن لا يا رب نحن مسخرات لامرك لا نريد ثوابا ولا عقابا- قلن ذلك خوفا وخشية وتعظيما لدين الله ان لا يتادى منهن حقه لا معصية ومخالفة وكان العرض عليهن تخييرا لا إلزاما ولو الزمهن لم يمتنعن من حملها- وقيل المراد بالعرض الخطاب اللفظي وبالسماوات والأرض والجبال أهلها كما فى قوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ اى أهلها دون أعيانها- وقيل المراد بالسماوات والأرض والجبال أعيانها وبالعرض اعتبارها بالاضافة الى استعدادهن وبآبائهن الآباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا ما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية وعلى هذا يحسن ان يكون هذان الصفتان باعثتين للحمل عليه قال البيضاوي لعل المراد بالامانة العقل او التكليف ومن فوائد العقل ان يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما عن التعدّى ومجاوزة الحدود الشرعية ومعظم مقصود التكليف تعديلها وكسر شوكتها وايضا قال البيضاوي هذه الاية تقرير للوعد السابق بتعظيم الطاعة وسماها امانة من حيث انها واجبة الأداء والمعنى انها لعظم شأنها بحيث لو عرضت على الاجرام العظام وكانت ذات شعور وادراك لابت ان تحملها وأشفقت منها وحملها الإنسان مع ضعف بنيته ورخاوة قوته لا جرم فاز الراعي بها والقائم بحقوقها بخير الدارين قلت ونظيره قوله تعالى لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فهذه الاية على هذا التأويل كانه مثل ضرب وهذان القولان يعنى قول من ارتكب التجوز فى لفظ السماوات ونحوها وقول من ارتكب التجوز فى العرض والخطاب مبنيان على استبعاد الخطاب مع الجمادات فقال بعضهم فى دفع هذا الاستبعاد انه تعالى لما خلق هذه الاجرام خلق فيها فهما وقال انى فرضت فريضة وخلقت جنة لمن أطاعني ونارا لمن عصانى فقلن نحن مسخرات على ما خلقنا لا نحتمل فريضة ولا نبغى ثوابا- ولما خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فتحمله وكان ظلوما لنفسه بتحمله(7/388)
ما يشق عليه جهولا لو خامة عاقبته- اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد نحوه وفيه فكان بين ان تحملها الى ان اخرج من الجنة قدر ما بين الظهر والعصر.
وقيل فى دفع الاستبعاد ان الجمادات كلها وان كانت غير عاقلة بالنسبة إلينا لكنها بالنسبة الى الله تعالى عاقلة خاضعة مطيعة ساجدة له قال الله تعالى للسماوات والأرض ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وقال الله تعالى وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ... وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقال الله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ قيل المراد بالإنسان فى قوله تعالى وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ آدم عليه السّلام قال الله تعالى لادم انى عرضت الامانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها قال وأنت أخذ بما فيها قال يا رب وما فيها قال ان أحسنت جوزيت وان اسأت عوقبت فحملها آدم فقال بين اذنى وعاتقى فقال الله تعالى إذا قبلت فساعينك واجعل لبصرك حجابا فاذا خشيت ان تنظر الى ما لا يحل فضع عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغالقا فاذا خشيت فاغلق واجعل لفرجك لباسا فلا تكشف على ما حرمت عليك- قال مجاهد فما كان بين ان حملها وبين ما خرج من الجنة الا مقدار ما بين الظهر والعصر قلت لعل الحكمة فى إخراجه من الجنة بعد حمل الامانة ان الجنة ليست محلا لاداء الامانة بل هى محل للثواب على أدائها فاخرج الى الدنيا التي هى مزرعة الاخرة لاداء الامانة- قال البغوي حكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود انه مثّلت الامانة كصخرة ملقاة ودعيت السماوات والأرض والجبال إليها فلم يقربن منها وقلن لا نطيق حملها وجاء آدم من غير ان دعى وحرك الصخر وقال لو أمرت بحملها لحملتها فقال له احملها فحملها الى ركبتيه ثم وضعها وقال والله ان أردت ان ازداد لزدتّ فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فاراد ان يضعها فقال الله تعالى مكانك فانما هى فى عنقك وعنق ذريتك الى يوم القيامة وذكر الزجاج وغيره من اهل المعاني المراد بالامانة الطاعة التي يعم الطبيعية والاختيارية وبعرضها استدعاؤها الذي يعم طلب الفعل من الاختيار وارادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل لامانة ومحتملها لمن لا يؤديها فيبرأ ذمته فيكون الإباء عنه إتيانها بما يمكن ان يتأتى والظلم والجهالة للخيانة والتقصير قال الله تعالى لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وحكى عن الحسن على هذا التأويل انه قال وَحَمَلَهَا(7/389)
الْإِنْسانُ
يعنى الكافر والمنافق حملا الامانة اى خانا قال البغوي قول السلف هو الاول قلت ولمّا كان مقتضى سياق الاية اختصاص الإنسان بحمل الامانة دون غيره من المخلوقات فالقول بان الامانة هى التكليفات الشرعية غير مناسب لاشتراك الجن والملائكة فيها ويلزم منه فضل الملائكة على الإنسان لادائهم الامانة بكمالها لعصمتهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ بخلاف الإنسان لانّ منهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ- ومن ثم قالت الصوفية العلية المراد بالامانة نور العقل ونار العشق فنور العقل يحصل به معرفة الله سبحانه بالاستدلال ونار العشق يحصل بها معرفة الله سبحانه بحرق الحجب والملائكة وان كانوا عباد الله المقربين لكنهم مخلوقين فى مقام معلوم من القرب والعرفان قال الله تعالى حكاية عنهم وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فالترقى الى المراتب الغير المتناهية بنار العشق انما هو من خصائص الإنسان- وعندى على ما استفدت من كلام المجدد للالف الثاني رضى الله عنه ان الامانة ما أودع الله سبحانه فى ماهية الإنسان من الاستعداد للتجليات الذاتية الدائمة فان الجن وان كان بعد الايمان والإتيان بالأعمال الصالحة يلحق بالملائكة وتستعد للتجليات الصفاتية لكن التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاج له من الأرض وهذا الاستعداد هو المستوجب للخلافة وهذا العلم هو المعنى بقوله تعالى للملائكة فى حق آدم عليه السّلام إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعنى اعلموا ان التجلي الذاتي لا يتحملها من لا مزاج له من الأرض واليه الاشارة بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً يعنى مركبا للقوى السبعية الداعية الى التفوق والتعلى المقتضية للترقيات الى أعلى الشواهق جَهُولًا (72) مركبا للقوى البهيمية التي يطيق بها صاحبها تحمل رياضات ومشاق لا بد منها للعاشق فى طلب وصل المحبوب فهو تعليل ومنقبة له- وتلك القوتين جميعا ناشيتان من الأرض فان مادة الأرض لكمال كثافته يتحمل
التجلي الذاتي كما ان الاجرام الارضية لكثافتها تتنور بنور الشمس دون الاجرام اللطيفة والملائكة المقربون منحصرون فى مقاماتهم وولاياتهم وان كانت ولايتهم فوق ولاية الأنبياء لكونها مستفادة من الصفات من حيث البطون اعنى من حيث قيامها بذات الله سبحانه وولاية الأنبياء من الصفات من حيث الظهور اعنى من حيث هى هى لا من حيث قيامها بالذات- ومن هذه الاعتبار(7/390)
هى مباد لمبادى تعينات العالم لكن لاحظ للملائكة من التجلي الذاتي الذي هى كمالات النبوة ولاجل ذلك اختص النبوة بنوع البشر دون غيرهم وصار خواص البشر اى الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وصارت الجنة للبشر والملائكة تدخلون عليهم من كل باب ومن قال ان المراد بالامانة التكليفات الشرعية وبتحملها قبولها بالاختيار فمعنى هذه الجملة عندهم انه كان ظلوما لنفسه بتحمله ما يشق عليه جهولا بوخامة عاقبته وما يلحقه العذاب بترك ادائه وليس فيه مذمة للانسان بل هى بيان للواقع وقال البيضاوي حين قال هذه الاية تقرير للوعد السابق ما معنا ان الامانة مع عظم شأنها بحيث لا يطيق حملها الاجرام العظام لو فرضت ذات شعور وحملها الإنسان مع ضعف بنيته فاز الراعي لها بخير الدارين ان قوله إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً حيث لم يف بها ولم يراع حقها جهولا بكنه عاقبتها وصف للجنس باعتبار الأعم الأغلب وقال صاحب بحر المواج معناه ان الإنسان كان ظلوما حيث زعم نفسه قادرا على أداء ما أشفقت عنه السماوات وأمثالها ثم لم يؤدّها جهولا لعجزه عن أدائها- وهذا التأويل ليس عندى بمرضى لان تحمل الامانة كان من آدم عليه السّلام وهو المراد بالإنسان وهو كان نبيّا معصوما قد ادى ما حمل عليه وضمير انّه راجع الى من حمل وقالت الصوفية معنى الاية انه اى الإنسان باعتبار اكثر افراده كان ظلوما على نفسه حيث ضيع استعداده للمعرفة والتجليات الالهية الذي هو فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها جهولا يحسن ما فات عنه وقبح ما اكتسبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهوّدانه او ينصّرانه او يمجّسانه الحديث متفق عليه من حديث ابى هريرة قلت لما سمعت ان الظلم كناية عن القوة السبعية والجهل عن القوة البهيمية وحسن القوتين وقبحهما ليس الا بحسب متعلقهما ومصرفهما الا ترى ان القوة السبعية ان صرفت لدفع اعداء الدين من الشيطان وأمثاله وكسب التفوق والتعلى الى مدارج القرب كانت حسنة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ وان الله يحب معالى الهمم- وان صرفت فى قهر المعصومين والتكبر والتعلى فى مقابله رب العالمين كانت قبيحة أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ- وكذا القوة البهيمية ان صرفت فى كسب السعادة كانت حسنة وان صرفت فى كسب اللذات كانت قبيحة لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ولا شك ان حسن تعلقهما موقوف على تزكية النفس والقلب والعناصر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فى(7/391)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله الا وهى القلب رواه البخاري- قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها- وامتثال التكليفات الشرعية سبب لتزكيتها فان كان المراد بالامانة التكليفات الشرعية فقوله إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اشارة الى علة تحميل الإنسان وتحمله تلك الامانة فالمعنى إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ولاجل ذلك عرضنا عليه الامانة وتحمله آدم عليه السّلام حتى يتزكى بها عن امر زائل ويستعد للفضائل ويكون محمودا فى الدارين وان كان المراد بالامانة التجليات الذاتية فهو اشارة الى انه كان أهلا لتلك الامانة دون غيره لان تلك الامانة لا يتصور حملها الا من كان جامعا لتلك الصفتين كما ذكرنا وغيرهما من الحواس والقوى.
وعلى كلا التقديرين لمّا كانت الصفتان المذكورتان على تقدير عدم التزكية والخذلان من الله تعالى وكونهما مصروفتين فى الباطل موجبتين للعذاب وعلى تقدير التزكية والتأييد من الله وكونهما مصروفتين فى الحق موجبتين للرحمة والثواب حسن تعليل حمل الامانة وعرضها الذي هو مقتضى تلك الصفتين المركبتين فى الطبيعة الانسانية بقوله تعالى.
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ اللام للعاقبة كما فى قوله لدوا للموت وابنوا للخراب الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ المضيعين للامانة والمنهمكين فى الظلم واللذات وَيَتُوبَ اللَّهُ اى يرجع بالرحمة والمغفرة والجدب والاجتباء وإعطاء مراتب القرب عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المؤدين للامانات المستغرقين فى التجليات- قال ابن قتيبة اى عرضنا الامانة يعنى التكليفات الشرعية او الاستعداد المودع ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهم الله ويظهر ايمان المؤمن (قلت وعرفان العارف) فيتوب عليه بالرحمة والمغفرة ان حصل منه تقصير فى بعض الطاعات قلت وبالتجليات الذاتية الدائمة والوصل بلا كيف من غير حجاب وذكر التوبة فى الوعد اشعار بان كونهم ظلوما جهولا فى جبلتهم فلا يخلوا عن فرطات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للمؤمنين حيث تاب على فرطا بقم رَحِيماً (73) بهم حيث أثابهم على طاعاتهم تفضلا وأفاض عليهم تجلياته وبركاته.
تم تفسير سورة الأحزاب (ويتلوه سورة سبا ان شاء الله تعالى) غرة شهر المحرم من السنة السابعة بعد الف ومائتين سنة 1207 هـ وصلى الله على محمّد واله وأصحابه.(7/392)
الجزء الثامن
فهرست السور القرآنية من التفسير المظهري
فهرست سوره سبا
مضمون/ صفحه/ ان الازمنة كلها وما فيها من الزمانيات الماضية والمستقبلة حاضرة عند الله سبحانه وهو خارج عن الزمان 5 (فائدة) وقد يأتى على بعض الأكابر حالة يخرج فيه من حيز الزمان فيرى الماضي او المستقبل موجودا عنده 5 كان الحديد فى يد داود كالشمع والعجين إلخ 11 حديث ما أكل أحد طعاما قط خيرا من ان يأكل من عمل يديه وان داود نبى الله كان يأكل من عمل يديه 11 كيفية بناء الجن البيت المقدس 13 حديث لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلثا 14 مسئله هل يجوز تزيين المساجد بالذهب والفضة ونحوهما 14 حديث كل مصور فى النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفسا فيعذبه فى جهنم 15 حديث يخرج عنق من النار يوم القيامة إلخ حديث ومن اظلم ممن ذهب يغلق كخلقى 16 مضمون/ صفحه/ قال سليمان عليه السلام اللهم أعم موتى على الجن بعلم الانس ان الجن لا يعلمون الغيب 17 حديث فروة بن مسيك الغطفاني قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبى الله ان سبا قوم كان لهم فى الجاهلية عزوانى أخشى ان يرتدوا عن الإسلام أفأقاتلهم إلخ 18 قال رجل يا رسول الله أخبرني عن السبأ إلخ 19 تفصيل قصة سيل العرم 20 علمه تعالى قديم أكن تعلق العلم بالمعلوم حادث 24 ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الام فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها إلخ 26 كانت الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وخمسين سنة وقيل ستمأئة 27 حديث أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى إلخ 30 حديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معاذ هل تدرى ما حق الله على عباده إلخ 37 حديث لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلخ 38
فهرست سورة الملائكة
حديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلوة لا اله الّا الله وحده لا شريك له 42 حديث ما بين النفختين أربعون إلخ 36 حديث ابن مسعود ما من عبد يقول خمس كلمات إلخ 36 حديث لا يرد القضاء الّا الدعاء إلخ 45 حديث يجيئ ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال إلخ 51 حديث إذا كان يوم القيامة رفع الى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين إلخ 51 قال الشيخ العارف الاجل شهاب الدين السهروردي فى هذه الاية تعريض الى انه من لا خشية له فهو ليس بعالم 53 حديث ابى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسى بيده لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا- 54 حديث ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة إلخ 55 حديث سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له 56 حديث ابى ثابت ان رجلا دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتى إلخ 57 حديث ابى موسى يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول يا معشر العلماء إلخ 57 حديث ابى هريرة يبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء إلخ 59.(8/2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
سورة سبأ
مكّيّة وهى اربع وخمسون اية ربّ يسّر بسم الله الرّحمن الرّحيم وتمّم بالخير الحمد لله الّذى له ما فى السّموت وما فى الأرض ملكا وخلقا وقمرا فهو الحقيق بالحمد سرّا وجهرا دون غيره وانما يحمد غيره لاجل اضافة بعض النعم الى غيره ظاهرا وبالمجاز.
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لان نعماء الاخرة ايضا له تعالى وليس هذا من قبيل عطف المقيد على المطلق بل المعطوف عليه مقيد بكونه فى الدنيا لما يدل الوصف بالموصول والصلة على انه المنعم بالنعم الدنيوية فله الحمد فى الدنيا لكمال قدرته وتمام نعمته وكذا فى الاخرة لان نعماء الآخرة ايضا له تعالى وتقديم الظرف فى الجملة الثانية للاشعار بان الحمد فى الدنيا قد يكون الله تعالى بواسطة من يستحق الحمد لاجلها ولا كذلك نعم الاخرة بل هى مختصة بالله تعالى قيل الحمد فى الاخرة هو حمد اهل الجنة كما قال الله تعالى وقالوا الحمد لله الّذى هدينا لهذا وما كنّا لنهتدى لولا ان هدينا الله وقالوا الحمد لله الّذى صدقنا وعده- والحمد لله الّذى اذهب عنّا الحزن وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي احكم امور الدين الْخَبِيرُ (1) ببواطن الأشياء وظواهرها.(8/3)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
يَعْلَمُ حال او استيناف فى مقام التعليل ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من المطر الذي ينفذ فى مسام الأرض والأموات والكنوز وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات والفلذات والأموات إذا حشروا والماء من الآبار والعيون وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والصواعق والملائكة والكتب والمقادير والأرزاق وانواع البركات واصناف البليات وَما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة واعمال العباد والدعوات وَهُوَ الرَّحِيمُ فينزّل ما يحتاجون اليه الْغَفُورُ (2) للمفرطين فى شكر نعمته مع كثرتها هذه الجملة معطوفة على يعلم.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ انكار لمجيئها معطوف على جملة مقدرة مفهومة من قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ... وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ فانه يفهم منه وعد الله بالرحمة والمغفرة للحامدين يوم تأتى الساعة قُلْ بَلى رد لكلامهم واثبات لما نفوه وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تكرير لايجابه مؤكدا بالقسم وبتوصيف المقسم به بقوله عالِمِ الْغَيْبِ فان عظم المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم وفيه اشارة الى ان الساعة من الغيب وعلمه مختص بالله تعالى يكفى لاثباته شهادة تعالى ولا يجوز لاحد اثبات شيء من الغيب ولا نفيه الا بتعليم من الله تعالى. قرأ حمزة والكسائي علّام الغيب على وزن فعّال للمبالغة والباقون على وزن فاعل وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره ما بعده والباقون بالجر على انه صفة للرب ففيه تأكيد للردّ على انكارهم فان انكار هم ليس الا مبنيّا على جهلهم واستبعادهم ممكنا مثل سائر الممكنات ثابتا إتيانه بأخبار عالم الغيب لا يَعْزُبُ قرأ الكسائي بكسر الزاء والباقون بضمها ومعناهما واحد اى لا يغيب عَنْهُ مِثْقالُ اى مقدار ثقل ذَرَّةٍ اى نملة صغيرة كائنة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ موجهة فى شيء من الازمنة الماضية او المستقبلة او الحال والقول بان المعنى لا يعزب عنه مثقال ذرّة موجودة فى الزمان الحال كائنة فى السماوات او الأرض يأباه المقام لان الجملة واقعة تأكيدا لقوله(8/4)
عالم الغيب بيانا لشمول علمه جميع الكائنات ماضيا كان او مستقبلا حتى يكون مؤكدا للاخبار بإتيان الساعة. وايضا حضور جميع الأشياء الموجودة فى الحال؟؟؟ لبعض من الخلائق كما ذكرنا فى سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا انه قيل يا رسول الله ملك الموت واحد والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بين ذلك من السقط والهلاك انه حوى الدنيا الملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدى فهل يفوته منها شيء فالظاهر من هذه الاية ان الازمنة كلها وما فيها من الزمانيات الماضية والمستقبلة حاضرة عند الله سبحانه وهو خارج عن الزمان كما ان الامكنة والمكانيات حاضرة عنده تعالى وهو خارج عن المكان لا يجرى عليه زمان كما لا يحويه مكان فالزمان مخلوق له تعالى حادث حدوثا ذاتيا كما ان المكان مخلوق له فالماضى والمستقبل بالنسبة اليه سواء كما ان الامكنة كلها بالاضافة اليه سواء وقد نبه على ذلك بعض الأكابر من علماء الظاهر قال الجلال الدواني رحمة الله عليه فى رسالته الزوراء إذا اعتبرت الامتداد الزمانى الذي هو محل التغيير والتبديل وعرض الحوادث الكونية بما يقارنه من الحوادث جملة واحدة وجدته شأنا من شيون العلة الاولى محيطا لجميع الشيون المتعاقبة- ثم ان أمعنت النظر وجدت التعاقب باعتبار حضور حدود ذلك الامتداد وغيبوبتها بالنسبة الى الزمانيات الواقعة تحت حيطته- واما المراتب العالية عليها فلا تعاقب بالنسبة إليها بل الجميع متساوية بالنسبة إليها متحاذية فى الحضور لذاتها فما ظنك ما على شواهق العوالي ليس عند ربك صباح والإمساء تنبيه إذا أخذت امتداد مختلف الاجزاء فى اللون كخشب اختلف اللون فى اجزائه ثم امررته فى محاذات ذرة او غيرها ممّا يضيق حدقته عن الإحاطة بجميع ذلك الامتدادات ليس تلك الألوان المختلفة متعاقبة فى الحضور لديها لضيق حدقتها متقاربة فى الحضور لديك لقوة احاطتك فاعتبروا يا أولى الابصار انتهى كلامه فائدة وقد يأتى على بعض الأكابر حالة يخرج فيه من حيز الزمان فيرى الماضي او المستقبل موجودا عنده ويشهد عليه ما رواه الشيخان فى الصحيحين عن عبد الله بن عباس قال انخسف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله(8/5)
صلى الله عليه وسلم والناس فقام قياما طويلا فذكر الحديث بطوله حتى قال قالوا يا رسول الله رايناك تناولت شيئا فى مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت فقال انى رايت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لاكلتم منه ما بقيت الدنيا ورايت النار فلم ار كاليوم منظرا قط أفظع ورايت اكثر أهلها النساء الحديث- ولا شك ان دخول النساء فى النار لا يكون الا بعد القيامة وقد راه النبي صلى الله عليه وسلم موجودا لا يقال لعل النبي صلى الله عليه وسلم راى صورة النار والجنة فى عالم المثال مثل ما يرى النائم فى المنام لان قوله لو أخذته لا كلتم منه ما بقيت الدنيا صريح فى انه صلى الله عليه وسلم راى حقيقة الجنة والنار دون مثالهما
وما روى مسلم عن جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رايت الجنة فرايت امراة ابى طلحة وسمعت خشخشة امامى فاذا بلال وما روى احمد وابو داود والضياء عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرج بي ربى عزّ وجلّ مررت بقوم لهم اظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون فى اعراضهم وعن جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عرضت علىّ النار فرايت فيها امراة من بنى إسرائيل تعذب فى هرة ربطها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من حشاش الأرض حتى ماتت جوعا ورايت عمر بن عامر الخزاعي يجر قصبه فى النار وكان أول من سيب السوائب- رواه مسلم وقال اكثر المفسرين معنى قوله تعالى لا يَعْزُبُ عَنْهُ اى علمه مِثْقالُ ذَرَّةٍ ... وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ اى من الذرة وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) حملة مؤكدة لنفى العزوب ان كان المراد بالعزوب العزوب عن علمه او المراد بالكتاب المبين علمه تعالى او اللوح المحفوظ الذي حاك عن بعض من علومه وان كان المراد عدم عزوب شيء من ذاته سبحانه فهذا تأسيس لا تأكيد وأصغر واكبر مرفوعان بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على اعمال لا التي لنفى الجنس- ولا يجوز العطف مرفوعا على مثقال ومفتوحا على ذرة فى محل الجر لامتناعها من الصرف لان الاستثناء عنه؟؟؟ ولا يجوزان يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن لان الاستدراك والاستثناء المنقطع(8/6)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
بعد النفي يكون اثباتا فيكون المعنى لا يعزب مثقال ذرة ولا أصغر منه ولا اكبر ولكن يعزب فى كتاب مبين وهذا فاسد- قال البيضاوي اللهم إذا جعل الضمير فى يعزب للغيب وجعل المثبت فى اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب إلا سطورا فى اللوح وهذا التوجيه ضعيف كما يشعر به كلام البيضاوي لان كونه فى اللوح لا يخرجه عن الغيب والكلام فى شمول علمه تعالى ولا مساس لهذا التوجيه بالمدعى على انه ورد فى سورة يونس بلفظ لا يعزب عن ربّك من مّثقال ذرّة فى الأرض ولا فى السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر الّا فى كتب مبين ولا يتاتى هذا التوجيه هناك وقيل هذا على طريقة المدح بما يشبه الذم كما فى قوله تعالى وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ كقولك فى زيد لا عيب فيه الّا انه عالم يعنى لا عيب فيه أصلا والمعنى لا يعزب عنه مثقال ذرة الا فى كتاب مبين حكمه فكيف يغب عنه.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ علة لقوله لتأتينّكم وبيان لما يقتضى إتيانها أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما قصروا فى أداء حقوق العبودية التي لا يمكن استيفاؤها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) حسن فى الجنة لا تعب فيه ولا منّ عليه لما أتوا بها من الحسنات وتفضلا-.
وَالَّذِينَ سَعَوْا عطف على الّذين أمنوا مفعول ليجزى اى ليجزى الذين سعوا فِي آياتِنا بالابطال وتزهيد الناس فيها مُعاجِزِينَ قرأ ابن كثير وابو عمرو معجّزين من التفعيل اى مثبطين عن الايمان من اراده والباقون من المفاعلة اى مقدرين عجزنا او سابقين لنا فيفوتنا لظنهم بأن لا بعث ولا عقاب أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ قال قتادة الرجز سوء العذاب فمن بيانية أَلِيمٌ (5) اى ذو الم يعنى مؤلم قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع هنا وفى الجاثية على انه نعت للعذاب والباقون بالجر على انه نعت للرجز.
وَيَرَى بمعنى يعلم مرفوع عطفا على مضمون بلى لتأتينكم وقيل منصوب معطوف على يجزى اى ليجزى الّذين أمنوا وليعلم الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعنى مؤمنى اهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقال قتادة(8/7)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
هم اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان اى يعلم عند مجيء الساعة انه الحق عيانا كما علموه الان برهانا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القران مفعول أول ليرى هُوَ الْحَقَّ بالرفع «1» مبتدا وخبر والجملة ثانى مفعولى يرى وقرئى بالنصب على انه ثانى مفعولى يرى والضمير للفصل وجملة يرى مستأنفة للاستشهاد باولى العلم على الجهلة الساعين فى الآيات وَيَهْدِي الله او الذي انزل إليك عطف على الحق إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) اى الإسلام.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وبينهما معترضات ووضع المظهر موضع الضمير للتصريح على مناط الحكم يعنى قال منكروا البعث بعضهم لبعض متعجبين منه هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم يُنَبِّئُكُمْ صفة لرجل اى يخبركم بأعجب الأعاجيب وهو انه إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ كل منصوب على المصدرية لاضافته الى المصدر الميمى يعنى إذا متم وتمزق أجسادكم كل تمزق بحيث يصير ترابا او على الظرفية بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحته كل مطرح إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) منصوب بقوله ينبئكم بتضمين معنى القول يعنى يقول انّكم لفى خلق جديد وتقديم الظرف يعنى إذا مزّقتم للدلالة على البعد والمبالغة وعامله محذوف دل عليه ما بعده يعنى ينبئكم بانكم تبعثون إذا مزّقتم كلّ ممزّق يقول انّكم لفى خلق جديد وذلك لان ما قبله لم يقارنه وما بعد انّ لا يعمل فيما قبله وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم بالتنكير مع كونه مشهورا فى قريش شائعا انباؤه بالبعث تجاهلا به وبامره بناء على استبعاده وقصدا الى التحقير.
أَفْتَرى همزة استفهام دخلت على همزة الوصل فسقطت من اللفظ للاستغناء عنها ولعدم اللبس بالخبر فان همزة الوصل هاهنا مكسورة بخلاف ما إذا كان همزة الوصل مفتوحة نحو ءالله والذكر وءائن فان هناك لا تحذف بل تسهل او تبدل الفا ويمد وسقطت من الخط ايضا على خلاف القياس عَلَى اللَّهِ
__________
(1) اجمع القراء على النصب ولا خلاف بينهم فى ذلك- ابو محمد عفا الله عنهم-(8/8)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
كَذِباً منصوب على المصدرية بافترى إذا لافتراء نوع من الكذب وهو التعمد به أَمْ بِهِ جِنَّةٌ اى جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه وزعم بعضهم بجعل الجنون قسيما للافتراء ان بين الصدق والكذب واسطة وهى كل خبر لا يكون على بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بيّن فان الافتراء ليس مساو للكذب بل هو أخص منه فان الكذب خبر لا يطابق الواقع سواء كان عمدا او خطا بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ إضراب من جملة مقدرة اى لم يفتر وليس به جنة بل الّذين لا يؤمنون بِالْآخِرَةِ المشتملة على البعث والعذاب فِي الْعَذابِ فيها وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) من الحق فى الدنيا رد الله سبحانه عليهم ترديد هم واثبت لهم ما هو أقبح من القسمين وهو البعيد من الضلال بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مراده اى العذاب وجعل العذاب مقارنا للضلال فى الحكم مقدما عليه فى اللفظ للمبالغة فى استحقاقهم له والبعد فى الأصل صفة اتصال وصف به الضلال مجازا كقوله شعر شاعر..
أَفَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره اعموا فلم يروا اى لم ينظروا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يعنى الى ما أحاط بجوانبهم مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعنى ان المشاهدات كلها تدل على كمال قدرة الصانع المختار وكمال قدرته يقتضى جواز البعث فكيف يحكمون باستحالته وكونه مكذبا فيه مفترى والمخبر على كمال صفات الكمال من العقل والصدق المعروف بينهم فكيف يحكمون عليه بالجنون والهزاء فما هو الإضلال بعيد- فهذه الجملة تعليل لقوله بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ثم بعد شرح ضلالهم يخوفهم الله تعالى على ما هم عليه بقوله إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ قرأ الكسائي بإدغام الفاء فى الباء والباقون بالإظهار الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ قرأ حمزة والكسائي يشأ يخسف يسقط بالياء فيهن على الغيبة لذكر الله فيما قبل والباقون بالنون على التكلم عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات قرأ حفص كسفا بتحريك السين والباقون بإسكانها قيل قوله أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ(8/9)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
تمهيد للانذار والتخويف والمعنى اعمّوا فلم يروا ما أحاط بهم من السماء والأرض حيثما كانوا واين ما ساروا مقهورين لا يقدرون ان ينفذوا من أقطارهما ويخرجوا من ملكوتنا يعنى قد راوا ذلك فليخافوا ان يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون او يسقط عليهم كسفا من السماء كما أرسلنا حجارة من السماء على قوم لوط لتكذيبهم رسولنا وكفرهم باياتنا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي يرونه من السموات والأرض لَآيَةً دلالة واضحة على كمال القدرة وجواز البعث بعد الموت وجواز تعذيب من كفر بالله لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) راجع الى الله بقلبه لكونه كثير التفكر والتأمل.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا على كثير من عباده المؤمنين يدل على ذلك قوله تعالى حكاية عن سليمان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ويندرج فيه النبوة والكتاب والملك وحسن الصوت وتلين الحديد وغير ذلك وفضلا منصوب على المفعولية ومنّا حال منه يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ بدل من فضلا او من اتينا بتضمين القول اى قلنا يلجبال اوّبى معه اى سبح معه والإياب الرجوع اى ارجعي فى التسبيح كلما رجع داود فيه- او الإياب هو التسبيح يقال اوّب إذا سبح فان المسبح يرجع الى الله معرضا عن غيره وقال القتيبي أصله من التأويب فى السير وهو ان يسير النهار كله وينزل ليلا كانه قال إذا اتى النهار سيرى بالتسبيح معه وقال وهب نوحى معه وَالطَّيْرَ معطوف على الجبال قرأ يعقوب «1» بالرفع حملا على لفظه والباقون بالنصب حملا على محله وجازان يكون النصب عطفا على فضلا او على انه مفعول معه لاوّبى وجازان يكون بالعطف على ضميره قال البيضاوي كان اصل النظم ولقد اتينا داود منّا فضلا وهى تأويب الجبال والطير فبدل به هذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء وسلطانه حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لامره فى نفاذ مشيته فيها قال البغوي كان داود إذا نادى بالنياحة اجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه وقيل كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله
__________
(1) والصحيح انه قرأ يعقوب بالنصب كالجماعة نعم روى الرفع عن روح ابن نهران ولا يؤخذ به ابو محمد عفا الله عنه(8/10)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح وقيل كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) حتى كان الحديد فى يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشأ من غير نار ولا ضرب مطرقة.
قال البغوي كان سبب ذلك على ما روى فى الاخبار ان داود لمّا ملك بنى إسرائيل كان من عادته ان يخرج للناس متنكرا فاذا راى من لا يعرفه يقدم اليه ويسئله عن داود ويقول له ما تقول فى داود وإليكم هذا اىّ رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا فقيض الله له ملكا فى صورة آدمي فلما راه داود تقدم اليه على عادته فساله فقال الملك نعم الرجل هو ولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال ما هى يا عبد الله قال انه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك وسال الله ان يسبب له سببا يستغنى به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله فالان الله له الحديد وعلّمه صنعة الدرع وانه أول من اتخذها ويقال انه كان يبيع كل درع باربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ويقال انه كان يعمل كل يوم درعا يبيعها بستة آلاف درهم فينفق منها الفين على نفسه وعياله ويتصدق باربعة آلاف على الفقراء والمساكين عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما أكل أحد طعاما قط خيرا من ان يأكل من عمل يديه وان نبى الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده- رواه البخاري واحمد وذكر البغوي هذا الحديث بلفظ كان داود لا يأكل الا من عمل يده.
أَنِ اعْمَلْ اى أمرناه ان اعمل ان مصدرية او مفسرة سابِغاتٍ اى دروعا كوامل واسعات طوال يجرها لابسها على الأرض وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السرد خرذ الجلد واستعير لنسج الدرع يعنى قدر فى نسجها بحيث تناسب حلقها ومساميرها فلا تجعلها رقاقا فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق وَاعْمَلُوا يا داود واله صالِحاً خالصا لله صالحا لقبوله منصوب على المفعولية او المصدرية إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) فاجازيكم عليه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله طيب لا يقبل الا طيبا امر المؤمنين بما امر المرسلين(8/11)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
فقال يايّها الرّسل كلوا من الطّيّبات واعملوا صالحا الحديث- رواه مسلم.
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ قرأ ابو بكر عن عاصم بالرفع على انه مبتدا محذوف الخبر تقديره ولسليمان الرّيح مسخّرة أورد الجملة اسمية للدلالة على ان كونها مسخرة لسليمان امر ثابت عند العامة مذكور على الالسنة او على تقدير فعل مجهول يعنى سخّر لسليمان الريح والباقون بالنصب على انه مفعول لفعل محذوف تقديره وسخرنا لسليمان الريح والجملة معطوفة على مفهوم كلام سابق فانه يفهم من قوله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ انه سخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وقد ورد بهذا اللفظ فى سورة الأنبياء غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ جملة مستأنفة اى جريها بالغد ويعنى من الصباح الى الزوال كان مسيرة شهر وبالعشي اى من الزوال الى الغروب كان كذلك قال الحسن كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر وبينهما مسيرة شهر ثم يروح من إصطخر فيبيت ببابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل انه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس عطف على سخرنا لسليمان الريح أسال الله تعالى له النحاس المذاب من معدنه فنبع منه بنوع الماء من الينبوع ولذلك سماه عينا- قال البغوي قال اهل التفسير أجريت له عين النحاس ثلاثة ايام الى اليمن كجرى الماء وكان بأرض اليمن وانما ينتفع الناس اليوم ما اخرج الله لسليمان عليه السلام وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ على تقدير كون الريح مرفوعا الموصول مع الصلة مبتدا خبره محذوف اى مسخرة ومن الجن حال من الضمير المستكن فى يعمل عطف جملة اسمية على جملة اسمية وعلى تقدير كونه منصوبا الموصول معطوف على الريح ومن الجن حال منه مقدم عليه تقديره وسخرنا له من يعمل بين يديه من الجن بِإِذْنِ رَبِّهِ اى بامره وحكمه او بإرادته وتسخيره متعلق بيعمل وَمَنْ يَزِغْ اى من يعدل مِنْهُمْ اى من الجن عَنْ أَمْرِنا اى عما أمرنا به من طاعة سليمان واردنا ذلك نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) قيل المراد به عذاب الاخرة وقيل المراد به الإحراق بالنار فى الدنيا- قلت ان كان المراد بالاذن والأمر الأمر التكليفي(8/12)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
فالمناسب ان يفسر العذاب بالعذاب فى الاخرة لانها هى دار الجزاء على التكليفات وان كان المراد بالاذن الارادة والتسخير كما هو الظاهر فالظاهر ان المراد به عذاب الدنيا قال البغوي وذلك ان الله عزّ وجلّ وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منه عن امر سليمان ضربه صربة أحرقته- لا يقال ان كان الله أراد من الجن العمل فكيف يتصور من الجن العدول عنه لانه يلزم منه تخلف المراد عن الارادة وهو محال لان من فى قوله تعالى وَمِنَ الْجِنِّ للتبعيض فالمعنى ان الله تعالى أراد ان يعمل لسليمان بعض الجن اى أكثرهم ولذلك وكل ملكا يعذب من عدل من امر سليمان وذلك فى الظاهر سبب لان يعمل لسليمان اكثر الجن- او يقال معنى قوله من يرغ من أراد الزيغ منهم يضربه الملك حتى لا يزيغ.
يَعْمَلُونَ لَهُ حال من فاعل يعمل او مستأنفة ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصورا حصينة ومساجد رفيقه ومساكن شريفة سميت بها لانها يدب عنها ويحارب عليها- قال البغوي فكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه داود ودفعه قامة رجل فاوحى الله اليه انى لم اقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملّكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده فلمّا توفاه الله استخلف سليمان فاحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسّم عليهم الأعمال فخصّ كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له فارسل الجن والشياطين فى تحصيل الرخام الأبيض من معادنه- فامر ببناء المدينة بالرخام والصفاح وجعل اثنى عشر ربضا وانزل بكل ربض منها سبطا من الأسباط وكانوا اثنى عشر سبطا فلما فرغ من بناء المدينة ابتدا فى بناء المسجد وفرق الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها فاتى بذلك التي لا يحصيها الا الله عزّ وجلّ- ثم احضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب اللآلي واليواقيت- وبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده(8/13)
بأساطين المينا الصافي وسقّفه بألواح الجواهر الثمينة وجصص سقوفه وحيطانه باللئالي واليواقيت وسائر الجواهر وبسط ارضها بألواح الفيروزج- فلم يكن يومئذ فى الأرض بيت ابهى وأنور من ذلك المسجد كان يضيء فى الظلة كانه القمر ليلة البدر- فلما فرغ منه جمع اليه أحبار بنى إسرائيل فاعلمهم انه بناه الله تعالى وان كل شيء فيه خالص لله واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سال ربه ثلاثا فاعطاه اثنين وانا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة سال حكما يصادف حكمة فاعطاه إياه وسال ملكا لا ينبغى لاحد من بعده فاعطاه إياه وسال ان لا يأتى هذا البيت أحد يصلى فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه وانا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك- رواه البغوي وعن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوة الرجل فى بيته بصلوة وصلوته فى مسجد القباء بخمس وعشرين صلوة وصلاته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلوة وصلاته فى المسجد الأقصى بألف صلوة وصلاته فى مسجدى بخمسين الف صلوة وصلوته فى المسجد الحرام بمائة الف صلوة- رواه ابن ماجة وعن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تشد والرحال الا الى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدى هذا- متفق عليه مسئلة هل يجوز تزيين المساجد بالذهب والفضة ونحوهما قال بعضهم يكره ذلك لان فيه اضاعة المال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اثر بشييد المساجد رواه ابو داود عن ابن عباس وقال ابن عباس لتذخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى وقال عليه السلام ان من اشراط الساعة ان تزين المساجد الحديث- وقال بعضهم هو قربة لما فيه من تعظيم المسجد وقصة سليمان عليه السلام فى تزيين مسجد بيت المقدس يؤيد هذا القول قال صاحب الهداية وهذا إذا فعل من مال نفسه واما المتولى فيفعل من مال الوقف ما يرجع الى احكام البناء دون ما يرجع الى النقش حتى لو فعل يضمن وقال ابن همام ولا شك ان الدفع الى الفقير اولى من تزيين المسجد وعند اكثر علمائنا لا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب وقوله لا بأس يشير الى انه لا يؤجر عليه(8/14)
لكن لا يأثم به كذا فى الهداية قال ابن همام ومحل الكراهة التكلف فيه بدقائق النقوش ونحوه خصوصا فى المحراب او التزين مع ترك الصلاة او عدم إعطائه حقه من اللّفظ فيه والجلوس لحديث الدنيا ورفع الأصوات بدليل اخر الحديث وهو قوله وقلوبهم خاوية من الايمان- قلت حديث النبي صلى الله عليه وسلم اولى بالاتباع من قصة سليمان لان شرائع من قبلنا لا يجوز اتباعه الا إذا لم يثبت فى شريعتنا ما يخالفه- وايضا كان فيما فعل سليمان حكمة وهى ان يشتغل
الشياطين عن إضلال الناس فى اعمال شاقة والله اعلم قال البغوي قالوا يعنى اهل الاخبار فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخت نصر فخرب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان فى سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر فحمله الى دار مملكته من ارض العراق. وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونا كثيرة عجيبة من الصخرة وَتَماثِيلَ اى صورا من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام قيل كانوا يصورون السباع والطيور وقيل كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين فى المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة وكانت مباحة فى شريعتهم قلت ولعل المراد به تماثيل غير ذى الروح لان تماثيل الإنسان كانت تعبد قبل ذلك حيث قال ابراهيم عليه السلام لابيه وقومه ما هذه التّماثيل الّتى أنتم لها عكفون وفى الصحيحين عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل مصور فى النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفسا فيعذبه فى جهنم- قال ابن عباس فان كنت لا بدّ فاعلا فاصنع الشجر وما لا روح فيه- متفق عليه وهذا الحديث عام فى كل مصور غير مختص بمصورى هذه الامة وهو خبر لا يحتمل النسخ والتبديل وعنه مرفوعا من صور صورة عذّب وكلف ان ينفخ فيها وليس بنافخ- رواه البخاري وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج عنق من الناس يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان يسمعان ولسان ينطق يقول انى وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله الها اخر وبالمصورين- رواه الترمذي وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول(8/15)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قال الله تعالى ومن اظلم ممن ذهب يخلق كخلقى فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة او شعيرة متفق عليه وسياق هذه الأحاديث يدل على ان حرمة التصوير غير مختص بهذه الامة لا يقال ان عيسى كان يتخذ صورة من الطين قلنا كان ذلك بإذن الله كان يخلق من الطّين كهيئة الطّير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وانما المحرم على من يتخذ صورة فلا يستطيع ان ينفخ فيه الروح فيكلف ان ينفخ فيها وهو ليس بنافخ ابدا وَجِفانٍ جمع جفنة بمعنى القصعة كَالْجَوابِ قرأ ابن كثير كالجوابى بإثبات الياء وصلا ووقفا وأثبتها ورش وابو عمرو فى الوصل- جمع جابية وهو حوض ضخم كذا فى القاموس مشتق من جبى الخراج يقال للحوض الكبير لما يجيء فيه الماء فهى من الصفات الغالبة قال البغوي كان يقعد على الجفنة الواحدة الف رجل يأكلون منها وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن لا ينزلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم وكانت باليمن اعْمَلُوا اى قلنا له ولاتباعه اعملوا جملة مستانفة يا آلَ داوُدَ شُكْراً تنكيره للتقليل فان الشكر الكثير بالنسبة الى نعماء الله سبحانه خارج عن طوق البشر بل عن طوق كل مخلوق وهو منصوب على العلّية اى اعملوا بطاعتي لشكر نعمتى او على المصدرية لان العمل بالطاعة شكر او على انه وصف للمصدر اى اعملوا عملا شكرا او على الحال اى حال كونكم شاكرين او على المفعولية اى اعملوا شكرا- قال جعفر بن سليمان سمعت ثابتا يقول كان داود نبى الله قد جزّى ساعات الليل والنهار على اهله فلم تكن تأتى ساعة من ساعات الليل والنهار الّا والإنسان من ال داود قائم يصلى وَقَلِيلٌ «1» مِنْ عِبادِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الشَّكُورُ (13) اى المتوفر على أداء الشكر بلسانه وجوارحه فى اكثر أوقاته وتقلبه دائما بلا فتور وذلك بعد فناء القلب ودوام الحضور- ومع ذلك لا يوفى حقه لان توفيقه للشكر نعمة ليستدعى شكرا اخر لا الى نهاية ولذلك قيل الشكور من يرى نفسه عاجزا عن الشكر.
فَلَمَّا قَضَيْنا
__________
(1) عن ابراهيم التميمي قال قال رجل عند عمر اللهم اجعلنى من القليل فقال ما هذا الدعاء الذي تدعو به قال انى سمعت الله يقول وقليل من عبادى الشّكور وذكر اية اخرى فقال عمر كل أحد افقه من عمر؟؟؟ برد الله تربته(8/16)
اى حكمنا عَلَيْهِ اى على سليمان الْمَوْتَ قال البغوي قال اهل العلم كان سليمان عليه السلام يتحرز فى بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقلّ من ذلك واكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فادخل فى المرة التي مات فيها وكان بدؤ ذلك انه كان لا يصبح يوما الا نبتت فى محراب بيت المقدس شجرة فيسئلها ما اسمك فتقول اسمى كذا فيقول لاىّ شيء أنت فتقول لكذا وكذا فيامر بها فتقطع فان كانت نبتت لغرس غرسها وان كانت لدوام كتب حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت قالت الخروبة قال لاىّ شيء نبتّ قالت لخراب مسجدك فقال سليمان ما كان الله ليخرّبه وانا حىّ أنت التي على وجهك هلاكى وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها فى حائط كريم. وقال اللهم أعم موتى على الجن ليعلم الانس ان الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الانس انهم يعلمون من الغيب ما شاء واو يعلمون ما فى الغد ثم دخل المحراب فقام يصلى متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه ومن خلفه وكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها فى حياته وينظرون اليه يحسبون انه حىّ ولا ينكرون احتباسه عن الخروج الى الناس لطول صلاته فمكثوا يدابون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الارضة عصا سليمان فخر ميّتا فعلموا بموته قال ابن عباس فشكرت الجن الارضة فهم يأتونها بالماء والطين فى جوف الخشبة- واخرج ابن ابى حاتم عن ابن يزيد قال قال سليمان لملك الموت إذا أمرت لى فاعلمنى فاتاه فقال يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلى متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقى كذلك حتى أكلها الارضة فخر ثم فتحوا عليه وأرادوا ان يعرفوا وقت موته فوضعوا الارضة على العصا فأكلت يوما وليلا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مأت منذ سنة ما دَلَّهُمْ اى الجن او اله عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ اى الارضة التي يقال لها بالفارسية ديوك وهى دابة صغيرة تأكل الخشب والمراد بالأرض(8/17)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
الثرى أضيف إليها الدابّة وقيل الأرض مصدر ارضت الخشبة بالبناء للمفعول اى اكلتها ارضة فهو من قبيل اضافة الشيء الى فعله كما فى بقرة الحرث ورجل الحرب تَأْكُلُ حال من دآبة الأرض مِنْسَأَتَهُ اى عصاه من نسأت الغنم اى زجرتها وسقتها ومنه نسأ الله فى اجله اى أخره قرأ نافع وابو عمر وبألف ساكنة بدل الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة على الأصل فانه مفعول تأكل وحمزة إذا وقف جعلها بين بين فَلَمَّا خَرَّ اى سقط سليمان على الأرض تَبَيَّنَتِ اى ظهرت الْجِنُّ أَنْ مخففة من الثقيلة اسمه ضمير الشان محذوف لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما غاب عنهم كموت سليمان ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) اى فى التعب والمشقة مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيّا ان مع صلته بدل اشتمال من الجن يعنى ظهر عدم علمهم بالغيب على الناس لانهم كانوا يشبهون ذلك على الانس ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن عباس تبيّنت الانس اى علمت ان لّو كانوا اى الجن يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين- وقيل معنى الاية علمت الجنّ ان لّو كانوا يعلمون الغيب إلخ وهذا التأويل مستبعد جدّا فان الجن كانوا يعلمون جهلهم وانما كانوا يدّعون علمهم بالغيب عند الانس. قال البغوي ذكر اهل التاريخ ان سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ومدة ملكه أربعون سنة وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ فى بناء بيت المقدس لاربع سنين مضين فى ملكه.
اخرج ابن ابى حاتم عن على بن رباح قال حدثنى فلان ان فروة بن مسيك الغطفاني قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بنى الله ان سبا قوم كان لهم فى الجاهلية عزو انى أخشى ان يرتدوا عن الإسلام أفأقاتلهم فقال ما أمرت فيهم بشيء بعد فنزلت.
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ اى دلالة على كمال قدرتنا ووجوب شكرنا قرأ البزي ابو عمر ولسبا بفتح الهمزة من غير تنوين لانه صار اسم قبيلة فمنع عن الصرف للتانيث مع العلمية وقنبل بإسكانها على نية الوقف والباقون بخفضها مع(8/18)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
التنوين لانه كان اسم رجل- قرا حفص وحمزة والكسائي مسكنهم بإسكان السين بغير الف على الافراد غير ان حمزة وحفص يفتحان الكاف على القياس والكسائي بكسرها حملا على ما شذّ من القياس كالمسجد والمطلع والباقون بفتح السين وكسر الكاف والف بينهما على الجمع قال البغوي روى ابو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفى قال قال رجل يا رسول الله أخبرني عن سبا كان رجلا او امراة او أرضا قال كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم منهم اربعة فاما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون وأزد ومذحج وانمار وحمير فقال رجل وما انمار قال الذين منهم خثعم وبحيلة واما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان- وكذا اخرج احمد وغيره عن ابن عباس مرفوعا وسبا هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان جَنَّتانِ بدل من اية او خبر محذوف تقديره الاية جنتان والمراد جماعتان من البساطين جماعة عَنْ يَمِينٍ البلد وَجماعة عن شِمالٍ البلد او يكون بستان لكل رجل عن يمين مسكنه وشماله كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ يعنى من ثمار الجنتين وَاشْكُرُوا لَهُ على ما رزقكم من النعمة والمعنى اعملوا بالطاعة يعنى قال لهم لبيهم ذلك او لسان الحال يعنى دلّ الحال على انهم كانوا أحقاء ان يقال لهم ذلك بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر يعنى بلدكم هذا بلدة طيبة كثيرة الثمر ليست بسبخة قال السدىّ ومقاتل كانت المرأة تحمل على رأسها المكتل وتمرّ بالجنتين فيمتلى المكتل بانواع الفواكه من غير ان تمس شيئا بيدها. وقال ابن زيد لم تكن ترى فى بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الرجل يمر ببلدهم وفى ثيابه القبل فيموت القمل كلها من طيب الهواء فذلك قوله تعالى بلدة طيبة اى طيبة الهواء وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) قال مقاتل رب غفور للذنوب ان شكرتم فيما رزقكم قال وهب أرسل الله الى سبا ثلاثة عشر نبيا دعوهم الى الله وذكّروهم نعمه عليهم وانذرهم عقابه.
فَأَعْرَضُوا عنهم وكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة قولوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا ان استطاع قال الله تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ(8/19)
اى سيل الأمر العرم اى الصعب من عرم الرجل فهو عارم إذا ساء خلقه وصعب او سيل المطر الشديد قيل كان ماء احمر أرسل الله عليهم من حيث شاء وقيل العرم الوادي وأصله من العرامة وهى الشدة والقوة وقيل العرم المسناة وقيل العرم الجراذ الذكر أضاف اليه السيل لانه نقب عليهم سكرا ضربت لهم بلقيس. وفى القاموس عرمة كفرحة سد يعترض به الوادي جمعه عرم أو هو جمع بلا واحد او هو الاحباس تبنى فى الاودية والجرذ الذكر والمطر الشديد وواد ولكل فسر قوله تعالى سيل العرم. قال البغوي قال ابن عباس وابن وهب وغيرهما كان ذلك يعنى العرم السد بنته بلقيس وذلك انهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فامرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير فسدت بين الجبلين بالصخرة والقار وجعلت لها أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخيمة وجعلت فيها اثنى عشر مخرجا على عدة أنهارها يفتحونها إذا احتاجوا الى الماء وإذا استغنوا سدوها فاذا جاء المطر اجتمع ماء اودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فامرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه فى البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث.......... الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب من السنة المقبلة فكان يقسم على ذلك فبقوا على ذلك بعد ذلك مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله عليهم جراذا يسمى الخلد فنقب السدّ من أسفله فغرق الماء جناتهم وخرّب ارضهم- قال وهب وكانوا فيما يزعمون ويجدون فى علمهم وكهانتهم انه يخرّب سدهم فارة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلمّا جاء زمانه وما أراد الله عزّ وجلّ بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فارة حمراء كبيرة الى هرة من تلك الهرر فساودتها حتى استأخرت منها الهرة فدخلت فى الفرجة التي كانت عندهما فتغلغلت فى السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون بذلك فلمّا جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا وتمزّقوا حتى صاروا مثلا عند العرب يقولون صار بنو فلان أيدي سبا وأيادي سبا اى تفرقوا وتبددوا فذلك قوله تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ.(8/20)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ قرأ نافع وابن كثير بإسكان الكاف والباقون بضمها وهما لغتان قال فى القاموس الاكل بالضم وبالضمتين الثمر والرزق قرأ الجمهور أكل ويعقوب- ابو محمد وابو عمرو بالاضافة الى خَمْطٍ فعلى قراءة الجمهور خمط صفة له ومعناه حامض او مرّ او عطف بيان او بدل ومعناه ثمر الأراك وعلى قراءة ابي عمر والخمط كل نبت أخذ طعما مرّا او شجرة الأراك او نحو ذلك فهو لفظ مشترك- قال فى القاموس الخمط الحامض او المرّ من كل شيء وكل نبت أخذ طعما من مرارة وشجر رائحته كالسدر وشجر قاتل وكل شجر لا شوك له وثمر الأراك وقيل شجر الأراك وقال البيضاوي التقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فى كونه بدلا او عطف بيان يعنى على قراءة الجمهور وكون الخمط بمعنى الشجر وقال البغوي الاكل الثمر والخمط الأراك وثمره يقال له البرير هذا قول اكثر المفسرين- وقال المبرد كل نبت قد أخذ طعما من المرارة وقال ابن الاعرابى ثمر شجر يقال له فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به وَأَثْلٍ اى الطرفا معطوف على أكل لا على خمط إذ لا ثمر له وقيل هو شجر يشبه بالطرفاء الا انه أعظم وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) وصف السدر بالقلة فان جناه وهو النبق ممّا يطيب أكله ولذلك يغرس فى البساتين- وقال البغوي لم يكن السدر ذلك بل كان سدرا برّيا لا ينتفع به ولا يصلح ورقه لشئ وتسمية البدل جنتين للمشاكلة والتهكم.
ذلِكَ منصوب المحل على المصدرية يعنى جزيناهم ذلك الجزاء او مرفوع على انه مبتدا ما بعده خبره يعنى ذلك العقاب والتبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا اى بكفرانهم النعمة او بكفرهم الرسل وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) قرأ حفص ويعقوب وخلف- ابو محمد وحمزة والكسائي نجازى بالنون وكسر الزاء على التكلم والبناء للفاعل والكفور بالنصب على المفعولية والباقون بالياء التحتانية وفتح الزاء على الغيبة والبناء للمفعول والكفور بالرفع على انه قائم مقام الفاعل يعنى ما يناقش الا هو وما نناقش الا إياه..
وَجَعَلْنا عطف على بدلنا يقال كان هذا سابقا على التبديل فكيف ذكر بعده لان(8/21)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فلا ينافى كونه سابقا عليه بَيْنَهُمْ اى بين اهل سبا وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالأنهار والأشجار والتوسعة على أهلها وهى قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً اى متظاهرة تظاهر الثانية من الاولى لقربها منها وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ اى وقدّرنا سيرهم فيها يعنى كانوا يسيرون فيها وإذا ساروا كانوا يبيتون فى قرية ويقيلون فى اخرى وكانوا لا يحتاجون من حمل زاد من سبا الى الشام قيل كانت اربعة آلاف وسبع مائة قرية متصلة من سبا الى الشام قال قتادة كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتى بيتها حتى تمتلى مكتلها من الثمار وكان ما بين اليمن والشام كذلك سِيرُوا فِيها على ارادة القول يعنى قلنا بلسان المقال أو الحال فانهم لما مكنوا من السير كذلك كانوا كانهم أمروا به لَيالِيَ وَأَيَّاماً يعنى متى شئتم ليلا او نهارا آمِنِينَ (18) اى حال كونكم لا تخافون عدوّا ولا سبعا ولا جوعا ولا عطفا فبطروا وطغوا ولم يشكروا وقالوا لو كان بين جناتنا ابعد مما هى لكان أجدر ان تشتهيه.
فَقالُوا عطف على جعلنا يا رَبَّنا باعِدْ قرأ ابن كثير وابو عمرو وهشام بعّد بتشديد العين من التفعيل والباقون بالألف من المفاعلة بَيْنَ أَسْفارِنا اى اجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوزات لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ونربح فى التجارات ونتفاخر على الناس فعجل الله لهم الاجابة قرأ يعقوب ربّنا بالرفع على الابتداء وبعد بفتح العين والدال على صيغة الماضي كانهم استبعدوا أسفارهم القريبة أشرا وبطرا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالبطر والطغيان عطف على قالوا فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم تعجبا وضرب مثل فيقولون تفرقوا أيدي سبا وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم فى كل وجه من البلاد كل تفريق قال الشعبي لمّا غرقت قراهم تفرقوا فى البلاد اما غسان فلحقوا بالشام ومرّ الأزد الى عمان وخزاعة الى تهامة ومرّ ال خزيمة الى العراق والأوس والخزرج الى يثرب وهم ال أنمار وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر لَآياتٍ لعبر ودلالات لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي وعلى البلاء والطاعة(8/22)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
شَكُورٍ (19) على النعم قال مقاتل يعنى مؤمنى هذه الامة صبور على البلاء شكور للنعماء وكذا قال مطرف قلت بل هو صبور وشكور دائما فان الدنيا دار البلاء حتى ان النعمة ايضا بلاء يبتلى به العبد هل يشكر عليه أم لا موته بلاء وحياته بلاء قال الله تعالى خلق الموت والحيوة ليبلوكم ايّكم احسن عملا فهو صبور دائما عن المعاصي وعلى المصائب والطاعات وكل بلاء ومصيبة مكفرة للذنوب فهى كما يوجب الصبر يوجب الشكر ثم توفيق الصبر ايضا نعمة من الله يوجب الشكر وقال المجدد رضى الله عنه إيلام المحبوب ألذ من انعامه فهو اولى بالشكر قال الشاعر فانى فى الوصال عبيد نفسى وفى الهجران مولى للموالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الايمان نصفان فنصف فى الصبر ونصف فى الشكر رواه البيهقي فى شعب الايمان قلت فالمؤمن تامّ الايمان جامع للنصفين دائما غير مقتصر على النصف دون النصف-.
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ اى على الناس كلهم كذا قال مجاهد وقيل المراد على اهل سبا اى على الكفار منهم إِبْلِيسُ ظَنَّهُ قرأ اهل الكوفة سدّق بالتشديد يعنى ظنّ فيهم ظنّا حيث قال فبعزّتك لاغوينّهم أجمعين. ولا تجد أكثرهم شكرين فصدّق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه او وجده صادقا وقرأ الآخرون بالتخفيف اى صدق فى ظنه او صدق بظن ظنه مثل فعلته جدك ويجوز ان يعدى الفعل اليه بنفسه كما فى صدق وعده لانه نوع من القول قال ابن قتيبة لما سأل إبليس النظرة فانظره الله فقال لاضلّنّهم ولاغوينّهم ولم يكن مستقينا وقت هذه المقالة ان ما قاله فيهم يتم وانما قاله ظنّا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم ما ظنه فيهم فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) اى من اهل سبا او من الناس كلهم قال السدىّ عن ابن عباس يعنى ان المؤمنين كلهم لم يتبعوه فى اصل الدين قال الله تعالى انّ عبادى ليس لك عليهم سلطان يعنى المؤمنين فمن للبيان وقيل من للتبعيض يعنى بعض المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه.
وَما كانَ لَهُ اى لابليس عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ اسم كان ومن زائدة والظرف(8/23)
المستقر اعنى له خبره وعليهم متعلق بالظرف يعنى لم يكن له قدرة على ان يوسوسهم ويعدهم ويمنّيهم الا بتسليطنا إياه عليهم حيث قلنا واستفزز من استطعت منهم بصوتك واجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم لشيء إِلَّا لِنَعْلَمَ اى لتميز مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ فنجازى كلّا منها على حسب ما عمل قال الحسن ان إبليس لم يسل عليهم سيفا ولا ضربهم بسوط وانما وعدهم ومنّاهم فاغتروا- فان قيل هذه الاية تدل على كون علمه تعالى حادثا وهو يقتضى الجهل سابقا تعالى الله عن ذلك أجيب بان علمه تعالى قديم لكن تعلق العلم بالمعلوم حادث والمراد هاهنا بحصول العلم حصول متعلقه مبالغة ويرد عليه ان العلم ما لم يتعلق بالمعلوم لا ينكشف المعلوم عند العالم فان العلم قبل التعلق بالمعلوم انما هو العلم بالقوة لا بالفعل فكون تعلق العلم حادثا يقتضى سبق الجهل فبقى المحذور فاجيب بان علمه تعالى قبل وجود الحادث كان متعلقا به كاشفا عنده تعالى كونه موجودا وهذا لا يقتضى سبق الجهل بل سبق علمه تعالى بكونه معدوما كما هو فى الواقع فلا محذور ومعنى الاية ليتعلق علمنا بذلك موجودا كما تعلق به معدوما لكن يلزم حينئذ كونه تعالى محلّا للتغير فالاولى ان يقال ان الزمان بجميع اجزائه وما فيها حاضر عند الله سبحانه متعلق علمه تعالى بها قديما سرمدا وانما التعاقب فيها بنسبة بعضها الى بعض فزيد الذي هو موجود فى وقت ومعدوم فى وقت حاضر عند الله بكلا الحالتين كما ان كونه فى مكان دون مكان حاضر عنده بلا تغير فى ذاته تعالى فمعنى الاية لنعلم قديما سرمدا من يؤمن ممن هو فى شك وهذا لا يقتضى مسبوقية علمه تعالى كيف وان السابقية والمسبوقية انما يتصور فيما يجرى عليه الزمان كما ان الفوقية والتحتية لا يتصور الا فيما يحويه المكان ومن هو خالق للزمان والمكان منزه عنها كلها- لكن هذه الاية تدل على ان العلم تابع للمعلوم وكون المعلوم حادثا لا يقتضى كون العلم به حادثا فان المعلوم محفوف بالزمان والعلم محيط به شتان ما بينهما قال الله تعالى وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الزمان والزمانيات(8/24)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
ومن المؤمن والكافر حَفِيظٌ (21) رقيب محافظ غير غافل عن شىء فيجازى كلّا على حسب عمله-.
قُلِ يا محمد لكفار مكة ادْعُوا ايّها الكفار الَّذِينَ زَعَمْتُمْ اى زعمتموهم الهة هما مفعولان لزعمتم حذف الاول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه اعنى مِنْ دُونِ اللَّهِ ولا يجوز ان يكون هذا مفعوله الثاني لانه لا يحصل به كلاما مفيدا ولا يملكون لانهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع او دفع ضر يستجيبون لكم ان صح دعواكم كانّ هذا الكلام يدل على الشرطية من القياس الاستثنائى تقديره ان صح دعواكم بانهم الهة من دون الله يستجيبون لكم إذا دعوتموهم لكنهم لا يَمْلِكُونَ فهذا جملة مستأنفة يدل على الاستثناء مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خيرا وشركائه فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فلا يستجيبون لكم فلا يصح دعواكم وذكرهما للعموم العرفي او لان الهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها ارضية كالاصنام او لان الأسباب الظاهرية للشر والخير سماوية وارضية وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ اى شركة ومن زائدة والجملة معطوفة على لا يملكون وَما لَهُ اى لله تعالى مِنْهُمْ اى من شركائكم مِنْ ظَهِيرٍ (22) يعينه على خلقها وتدبيرها-.
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ لاحد إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ان يشفع او اذن ان يشفع له واللام على الاول كما فى قولك الكرم له وعلى الثاني كما فى قولك جئتك لزيد قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي اذن بضم الهمزة على صيغة المجهول والباقون بفتحها على صيغة المعروف وهذا ردّ لما قالت الكفار على سبيل التنزل انه سلمنا ان الملائكة والأصنام لا يملكون شيئا وليسوا شركاء الله لكنهم يشفعون لنا عند الله فقال الله تعالى لا تنفع شفاعة أحد لاحد الّا لمن اذن له والأصنام ليسوا أهلا لان يؤذن الشفاعة لانحطاط رتبتها عنها والكفار لا يستحقون لان يؤذن لاحد فى شفاعتهم لطغيانهم وكفرهم ولا يؤذن للانبياء والملائكة الا لشفاعة المؤمنين-(8/25)
حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قرأ ابن عامر ويعقوب فزّع بفتح الفاء والزاء على البناء للفاعل والضمير المستكن عائد الى الله والباقون بضم الفاء وكسر الزاء على البناء للمفعول والجار مع المجرور قائم مقام الفاعل والتفزيع ازالة الفزع كالتمريض ازالة المرض والضمير فى قلوبهم راجع الى الشافعين والمشفوع لهم المفهومين مما سبق وحتى غاية للجملة المقدرة المفهومة مما سبق اعنى قوله تعالى لا تنفع الشّفاعة عنده الّا لمن اذن له فانه يفهم منه ان الشفعاء والمشفوع لهم ينتظرون الاذن للشفاعة فزعين خائفين احتمال عدم الاذن او فزعين من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل هيبة وجلالا حين يأذن لهم فى الشفاعة قلت وكذلك يأخذهم الغشية كلما قضى الله امرا روى البخاري عن ابى هريرة ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كانه سلسلة على صفوان فاذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ وهو العلىّ الكبير فسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض (ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها الى من تحته ثم يلقيها الاخر الى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر او الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها وربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معه مأته كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء وروى مسلم عن ابن عباس عن رجل من الأنصار انه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث ربّنا تبارك اسمه إذا قضى امرا سبح حملة العرش ثم سبح اهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح اهل هذا السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم ما قال فليستخبر بعض اهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون الى أوليائهم فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق لكنّهم يقذفون ويزيدون- وروى البغوي عن النواس بن سمعان رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله ان يوحى بالأمر تكلم بالوحى أخذت السماوات منه رجفة او قال رعدة شديدة خوفا من الله فاذا سمع ذلك اهل السماوات صعقوا وخروا لله(8/26)
سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرئيل فيكلم الله وحيه بما أراد ثم يمر جبرئيل على الملائكة كلما مرّ بسماء ساله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرئيل فيقول جبرئيل قال الحقّ وهو العلىّ الكبير قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبرئيل فينتهى جبرئيل بالوحى حيث امر الله. والظرف يعنى إذا فزّع عن قلوبهم متعلق بقوله قالُوا يعنى قال بعضهم لبعض حين ينكشف عنهم الفزع اللاحق بهم بالاذن فى الشفاعة ماذا قالَ رَبُّكُمْ فى الشفاعة قالُوا اى بعضهم لبعض الْحَقَّ مقول لقال المقدر يعنى قال ربنا الحقّ وهو الاذن فى الشفاعة التي هو الحق يعنى لمن هو أهلها وهم المؤمنون وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (22) اى ذو العلو والكبرياء لا يستطيع ملك مقرب ولا نبى مرسل ان يتكلم فيه الا باذنه.
قال البغوي قال بعضهم انما يفزعون حذرا من قيام الساعة قال مقاتل والكلبي والسدى كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمس مائة وخمسين سنة وقيل ست مائة سنة لم يسمع الملائكة فيها وحيا فلمّا بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وسمع الملائكة ظنوا انها الساعة لان محمدا صلى الله عليه وسلم عند اهل السماوات من اشراط الساعة فصعقوا ممّا سمعوا خوفا من قيام الساعة فلما انحدر جبرئيل يعنى فى بدء الوحى جعل يمر باهل كل سماء فيكشف عنهم فيرتفعون رءوسهم ويقول بعضهم لبعض ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ يعنون الوحى وهو العلىّ الكبير فان قيل على ما قال مقاتل وأمثاله كيف يرتبط قوله تعالى حتّى إذا فزّع عن قلوبهم بما سبق من الكلام قلت لعل وجه ارتباطه انه متصل بقوله تعالى ويرى الّذين أوتوا العلم الّذى انزل إليك من ربّك هو الحقّ ويهدى الى صراط العزيز «1» الحميد والمراد بالذين أوتوا العلم الملائكة وما بينهما اعتراض والمعنى ويرى الملائكة ما انزل إليك من ربك من القران هو الحق ولذلك افزعوا عند نزوله خوفا من قيام الساعة حيث كان نزوله عندهم من اشراط الساعة حتّى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا الحقّ وهو العلىّ الكبير-
__________
(1) وفى الأصل الى صراط مستقيم.(8/27)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
وقال جماعة الموصوفون بذلك المشركون قال الحسن وابن زيد حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم اقامة للحجة عليهم قالت لهم الملائكة ماذا قال ربّكم على لسان رسله فى الدنيا قالوا الحقّ فاقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار قلت وعلى هذا التأويل هذه الاية مرتبطة بقوله تعالى هو منها فى شكّ يعنى هم فى شك الى الموت حتّى إذا فزّع عن قلوبهم بعد الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار-.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ المطر مِنَ السَّماواتِ وَالنبات من الْأَرْضِ استفهام تقرير اى حمل المخاطب على الإقرار بان الله يرزق لا غير وفيه تأكيد لقوله لا يملكون وهذه الجملة متصلة بقوله قل ادعوا قُلِ اللَّهُ فاعل لفعل محذوف اى يرزقكم الله إذ لا جواب سواه وفيه اشعار بانهم ان سكتوا وتوقفوا فى الجواب مخافة الإلزام فهم مقرّون بقلوبهم ذلك وَإِنَّا اى الموحدين أَوْ إِيَّاكُمْ اى المشركين بالله لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (34) إذ التّوحيد نفى الاشتراك فهو نقيضه والضلال نفى البداية فهو نقيضه وارتفاع النقيضين وكذا اجتماعهما محال فهذه قضية منفصلة حقيقية عنادية والمفهوم مما سبق ان الله يرزق لا غير وهو يستلزم ان الموحد على هدى والمشرك فى ضلال مبين فانعقد القياس الاستثنائى بان الموحدين اما على الهدى او فى ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم على الهدى إذ لا يرزق الا الله فليسوا فى ضلال او لكنهم ليسوا على ضلال فهم على الهدى او يقال المشركون اما على الهدى او فى ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم ليسوا على هدى فهم فى ضلال او لكنهم فى ضلال او لا يرزق الا الله فليسوا على هدى فليس هذا الكلام مبنيا على الشك بل على حصر الاحتمالات وابطال احدى النقيضين لاثبات الاخر او اثبات أحدهما لابطال الاخر كما هو دأب المناظرة وخولف بين حرفى الجر الداخلين على الهدى والضلال لان صاحب المهدى كأنّه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء وصاحب الضلال كانه منغمس فى ظلام لا يدرى اين يتوجه..
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) يعنى(8/28)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
ما أمركم به من التوحيد وترك الإشراك انما هو نصيحة لكم والا فلا مضرة لاحد بعمل غيره ففى هذا الكلام حث وترغيب على ما امر به من التوحيد وفى اسناد الاجرام الى نفسه والعمل الى المخاطب رعاية لحسن الأدب واظهار النصح دون التعصب والتعنت.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا اى بينى وبينكم رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ اى يحكم ويفصل بَيْنَنا بِالْحَقِّ اى بما يستحقه كل منابان يدخل المحق الجنة والمبطل النار وَهُوَ الْفَتَّاحُ اى الحاكم الفاصل فى القضايا المغلقة الْعَلِيمُ (26) بما ينبغى ان يقضى به فى الاية السابقة الزام للكفار على سبيل المناظرة وفيما بعدها على سبيل النصيحة وفى هذه الاية على طريقة التوبيخ بذكر حكم الله فيهم يوم القيامة..
قُلْ أَرُونِيَ اى أعلموني الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ الموصول مع صلته مفعول ثان لارونى وشركاء مفعوله الثالث يعنى الذين ألحقتموهم بالله فى استحقاق العبادة أعلموني كونهم شركاء يعنى باىّ صفة جعلتموهم شركاء هل يخلقون شيئا او يرزقون او ينفعون أحدا او يضرون يعنى لا سبيل الى القول بانهم شركاء الله. فى هذه الاية استفسار عن شبهتهم بعد الزام الحجة عليهم واقامة البرهان زيادة فى تبكيتهم كَلَّا ردع لهم عن الإلحاق بعد ظهور عدم المشاركة فى شىء من الصفات بَلْ هُوَ يعنى المستحق للعبادة ليس الا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) صاحب العزة القاهرة والحكمة البالغة لا شريك له شىء فى شىء من الصفات فكيف تلحقون به الجمادات النازلة فى ادنى مراتب الممكنات المتسمة بالزلة الآبية عن قبول العلم والقدرة رأسا فالضمير عائد الى المستحق للعبادة والله خبره والحصر مستفاد من هذا التركيب والعزيز والحكيم صفتان لله او خبران آخران وجاز ان يكون هو للشأن والله مبتدا والعزيز والحكيم صفتان له والخبر محذوف اى متوحد لاستحقاق العبادة..
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً صفة لمصدر محذوف اى الا ارسالة كافة يعنى عامة شاملة لِلنَّاسِ فانها إذا عمتهم وقد كفتهم ان يخرجوا منها أحد منهم فعلى هذا قوله للناس متعلق بكافة وجاز ان يكون كافة حال من كاف الخطاب والتاء للمبالغة يعنى(8/29)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29)
يعنى وما أرسلناك الا جامعا لهم فى الإبلاغ عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض كلها مسجد او طهورا فايّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل واحلّت لى الغنائم ولم يحل لاحد قبلى وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث الى قومه خاصة وبعثت الى النّاس عامة متفق عليه وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لى الغنائم وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت الى الخلق كافّة وختم بي النبيون- وجاز ان يكون المعنى أرسلناك كافة اى كافّا تكفهم عن الكفر فى الدنيا وعن الوقوع فى النار فى الاخرة عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فانا أخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها- متفق عليه واللفظ للبخارى وقيل للناس متعلق بأرسلناك وكافة حال من الناس قدّم عليه للاهتمام يعنى أرسلناك لاجل ارشاد الناس كافة عامة أحمرهم وأسودهم واكثر النحويين لا يجوّزون ذلك لان ما فى حيز المجرور لا يتقدم على الجار. وجملة ما أرسلناك حال من فاعل قل أروني غير ذلك على سبيل التنازع يعنى قل هذه المقالات لالزام الكفار وإرشادهم والى كونك مرسلا إليهم كافتهم او كافا إياهم بَشِيراً للمؤمنين بالجنة وَنَذِيراً للكافرين من النار حالان من كاف الخطاب مترادفان لكافة على تقدير كونه حالان داخلان تحت الاستثناء بحرف واحد على طريقة ما ضربتك الا ضربا شديدا قائما وما حسبك الا راكبا مسرعا وجاز ان يكونان حالان من الضمير فى كافة على تقدير كونه حالا من الكاف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وهم الكفار لا يَعْلَمُونَ (28) اى لا يعتقدون ذلك بل يحملون إرشادك إياهم على العناد والمخالفة.
وَيَقُولُونَ اى الكفار لفرط جهلهم استهزاء واستبعادا مَتى هذَا الْوَعْدُ اى المبشر به والمنذر عنه او متى هذا الموعود لقولك يجمع بيننا ربّنا ثمّ يفتح بيننا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) يخاطبون به الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين(8/30)
قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
والجزاء محذوف دلّ عليه ما قبله يعنى ان كنتم صدقين فى الوعد فانبؤنى عن وقته.
قُلْ لهم فى الجواب لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ اى وعد يوم او زمان وعد والاضافة الى اليوم حينئذ للتبين لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) عليه والمراد بذلك اليوم يوم القيامة وقال الضحاك يعنى الموت لا تتقدمون ولا تتاخرون بان يزاد فى اجالكم او ينقص ولهذا جواب تهديد مطابق لما قصدوه بسوالهم من الاستهزاء والإنكار-.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ اى بما تقدمه وهو التورية والإنجيل قالوا ذلك حين سالوا اهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فاخبروهم انا نجد نعته فى كتبنا فغضبوا وقالوا ذلك وجاز ان يكون المراد بالّذى بين يديه محمد صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بالّذى بين يديه القيامة والجنة والنار وهذه الجملة معطوفة على ويقولون متى هذا الوعد وَلَوْ تَرى الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم او لكل مخاطب والمفعول محذوف يعنى ولو ترى الظالمين إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ محبوسون عِنْدَ رَبِّهِمْ للحساب الظرف متعلق بتري وجاز ان يكون الظرف مفعولا لترى والمعنى ولو ترى موضع محاسبتهم يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يعنى يتراجعون بينهم القول ويتجاورون والجملة حال من الضمير فى موقوفون او خبر بعد خبر للظالمون يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا اى الاتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى الرؤساء لَوْلا أَنْتُمْ يعنى لولا صدكم إيانا عن الايمان بالله وبرسوله ودعاؤكم إيانا الى الكفر لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) بالنبي فانتم اوقعتمونا فى العذاب و.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فى جوابهم أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ استفهام انكار يعنى نحن لم نصدكم عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الهدى بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) اثبتهم انهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث اثروا التقليد ومتابعة الكفار بلا دليل وتركوا متابعة الرسول المؤيد بالمعجزات ولذلك أورد همزة الاستفهام على الاسم.
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا(8/31)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
لم نصد أنفسنا بَلْ صدنا عن الهدى مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ اى مكركم إيانا فى الليل والنهار وإضافة المكر الى الظرف للاتساع وقيل عنوا بمكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فهما صدنا إِذْ تَأْمُرُونَنا الظرف بدل من الليل والنهار أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً ان مفسرة للامر او مصدرية بتقدير الباء وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ اى أضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير او المعنى أظهروها والهمزة يصلح للاثبات والسلب كما فى أشكيته وَجَعَلْنَا عطف على راوا العذاب الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا فى النار أورد المظهر موضع الضمير تنويها للذم واشعارا بموجب الاغلال هَلْ يُجْزَوْنَ اى لا يجزون جزاء إِلَّا جزاء ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) فى الدنيا تعدية يجزى اما لتضمين فعل متعد نحو تؤتون او لنزع الخافض.
اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم من طريق سفيان عن عاصم عن ابى رزين قال كان رجلان شريكين خرج أحدهما الى الشام وبقي الاخر فلمّا بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب الى صاحبه فكتب صاحبه يسئله ما عمل فكتب اليه انه لم يتبعه من قريش أحد الا رذالة الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم اتى صاحبه فقال دلنى عليه وكان يقرأ بعض الكتب- فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الى ما تدعو فقال الى كذا وكذا فقال اشهد انك رسول الله فقال وما علمك بذلك قال انه لم يبعث نبى الا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم فنزلت.
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ الاية فارسل اليه النبي صلى الله عليه وسلم ان الله قد انزل تصديق ما قلت من زائدة ونذير فى محل النصب على المفعولية إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها حال بتقدير قد من نذير يعنى الّا وقد قال مترفوا تلك القرية اى متنعميها خص المتنعمين بالتكذيب لان الداعي الى التكذيب والإنكار غالبا التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك فى الشهوات والاستهانة بالفقراء ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة الى التكذيب فقالوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) مقابلة الجمع بالجمع.
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً(8/32)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
منكم فنحن اولى منكم ما تدعون ان أمكن لانا أحباء الله حيث أعطانا ذلك وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) اما لان العذاب لا يكون او لان الله أكرمنا فلا يهيننا.
قُلْ يا محمد ردّا لحسبانهم إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ فى الدّنيا لِمَنْ يَشاءُ امتحانا وَيَقْدِرُ اى يضيق الرزق لمن يشاء ابتلاء وليس القبض والبسط فى الدنيا مبنيا على التوهين والتكريم لان الدنيا دار الابتلاء لا دار الجزاء ولذلك يختلف فيها احوال الاشخاص المتماثلة فى الخصائص والصفات وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ اى الكفار لا يَعْلَمُونَ (36) فيظنون ان كثرة الأموال والأولاد للكرامة-.
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي اى متلبسة بالخصلة التي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قال الأخفش زلفى اسم مصدر كأنّه قال يقربكم عندنا تقريبا وجاز ان يكون الباء زائدة والتي محمولا على أموالكم بارادة جماعة أموالكم إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً الاستثناء منقطع يعنى لكن من أمن وعمل صالحا فايمانه وعمله يقربه عنى كذا قال ابن عباس وجاز ان يكون الاستثناء متصلا من مفعول يقربكم يعنى ان الأموال والأولاد لا يقرب الى الله أحدا الّا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله فى سبيل الله ويعلّم ولده الخير ويربّيه على الصلاح- او من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف يعنى الا اموال من أمن وأولاده فانها تقربه فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا قرء يعقوب جزاء منصوبا منونا على التميز او على انه مصدر لفعله الذي دل عليه والضّعف مرفوعا على انه مبتدا ولهم خبره والجملة خبر أولئك تقديره فاولئك لهم الضّعف يجزون جزاء وعن يعقوب رفعهما على ان الجزاء مبتدا والضعف بدل منه ولهم خبره وقرأ الجمهور جزاء بالرفع على انه مبتدا والضعف بالجر على انه مضاف اليه اضافة المصدر الى المفعول والمراد ان الله يضعف جزاء حسناتهم فيجزون بالحسنة الواحدة عشرا الى سبعمائة الى ما لا نهاية له وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) قرأ حمزة الغرفة على ارادة الجنس والباقون على الجمع(8/33)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
والغرف رفع الشيء وهى المنازل الرفيعة من الجنة وقد ذكرنا ما ورد فى الغرفات من الأحاديث فى تفسير سورة الفرقان فى تفسير قوله تعالى أولئك يجزون الغرفة بما صبروا.
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا اى فى ابطال آياتنا مُعاجِزِينَ مقدرين عجزنا او ظانّين انهم يفوتوننا أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) .
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يعنى يوسع عليه تارة ويضيق عليه اخرى فهذا فى شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق فى شخصين فلا تكرار وقال صاحب البحر المواج الاولى لرد فخرهم بالعباد وهذا لرد بخلهم حيث قال وَما أَنْفَقْتُمْ فى سبيل الله ما شرطية فى محل النصب وقوله مِنْ شَيْءٍ بيانه وجواب الشرط فَهُوَ الرب يُخْلِفُهُ اى يعطيه ما يخلفه اما بعجلة فى الدنيا واما بدخوله للاخرة فما لكم لا تنفقون أموالكم فى سبيل الله وتبخلون بها وتقديم المسند اليه على المسند الفعلى للتخصيص والتأكيد وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) فان غيره وسط فى إيصال رزقه واطلاق الرازق على غيره انما هو بالمجاز والرازق الحقيقي ليس الا الله فان قلت يلزم حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز فى قوله الرّازقين قلنا المراد هاهنا عموم المجاز..
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ اى الكفار جَمِيعاً المستكبرين والمستضعفين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ عطف على يحشر قرأ يعقوب وابو جعفر وحفص يحشرهم ويقول بالياء والباقون بالنون فيهما أَهؤُلاءِ الكفار الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هم بنات الله إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) فى الدنيا يقول ذلك تبكيتا للمشركين وتقريعا لهم وإقناطا لهم من الشفاعة وتخصيص الملائكة لانهم اشرف لشركائهم والصالحون للخطاب منهم ولان عبادتهم مبدأ الشرك وأصله والظرف متعلق بقوله.
قالُوا سُبْحانَكَ اى نلزهك تنزيها عن الشريك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ يعنى أنت الذي خص موالاتنا به دونهم يعنى لا موالاة بيننا وبينهم كانّهم بينوا بذلك براءتهم عن الرضاء بعبادتهم بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ(8/34)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
اى الشياطين الذين زيّنوا لهم عبادة الملائكة وقيل كانت الشياطين يتمثلون لهم ويخيلون إليهم انهم الملائكة فيعبدونهم أَكْثَرُهُمْ يعنى اكثر الناس وهم المشركون او المراد بالأكثر الكل والضمير للمشركين بِهِمْ اى بالجن مُؤْمِنُونَ (41) .
فَالْيَوْمَ اى فذلك اليوم لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا يعنى لا يملك بعض الخلائق من الجن والانس والملائكة لبعضهم نفعا اثابة او شفاعة ولا تعذيبا إذ الأمر كله لله وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بوضع العبادة فى غير موضعه ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) فى الدنيا عطف على لا يملك..
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ اى على اهل مكة آياتُنا من القران بَيِّناتٍ واضحات على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم قالُوا ما هذا يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ اى خير غير مطابق للمواقع مُفْتَرىً يعنون انه افترى محمد على الله انه كلامه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ يعنى امر النبوة او الإسلام أو القرآن لَمَّا جاءَهُمْ يعنى بمجرد مجيئه عندهم من غير تدبر وتفكر إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) اى ظاهر سحريته فالاول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه او اعجازه وفى تكرير الفعلى والتصريح بذكر الكفرة وما فى اللام من الاشارة الى القائلين والمقول فيه انكار عظيم له وتعجيب بليغ منه.
وَما آتَيْناهُمْ يعنى كفار مكة مِنْ كُتُبٍ فيها دليل على صحة الإشراك هذه الجملة مع ما عطف عليه حال من فاعل قال الّذين كفروا يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) يدعوهم اليه وينذرهم على تركه فمن اين يدّعون بالشرك ويحكمون على القرآن بالإفك والسحر وعلى النبي بالكذب- وفيه تجهيل لهم وتسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال.
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم رسلنا وهم عاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط واصحاب مدين واصحاب الايكة هذا ايضا حال بتقدير قد او معطوف على قال الّذين كفروا وَما بَلَغُوا يعنى هؤلاء الكفار اى كفار مكة مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ اى عشر ما أعطينا الأمم الخالية من العدة(8/35)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
والنعمة وطول العمر فَكَذَّبُوا رُسُلِي فحين كذبوا رسلى جاءهم نكيرى حيث دمّرناهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ لهم اى كيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك يعنى هو واقع موقعه استفهام توبيخ فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير فى كذّب لان الاول للتكثير والثاني للتكذيب او الاول مطلق غير مقيد بالمفعول فانه نزل منزلة اللازم والثاني مقيد تفصيل بعد الإجمال ولذلك عطف عليه بالفاء وقال صاحب البحر المواج ضمير فكذبوا رسلى عائد الى كفار مكة عطف على ما بلغوا فلا تكرار- قرأ ورش نكيرى بإثبات الياء وصلا لا وقفا والجمهور بحذفها فى الحالين-.
قُلْ يا محمد إِنَّما أَعِظُكُمْ اى أرشدكم وانصح لكم بِواحِدَةٍ اى بخصلة واحدة وهى ما دل عليه قوله أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ليس المراد بالقيام ضد الجلوس والرقود بل المراد به الانتصاب فى الأمر والتصدي له كما فى قوله تعالى أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ والمعنى ان تنتصبوا فى التفكر خالصا لوجه الله معرضا عن التعصب والتقليد مَثْنى وَفُرادى يعنى اثنين اثنين وواحدا واحدا فان الازدحام يشوش الخاطر حالان من فاعل تقوموا ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فى امر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به عطف على تقوموا يعنى قوموا اما اثنين اثنين فيتفكران ويعرض كل واحد منهما فكره على صاحبه وينظران بنظر الانصاف او يتفكر فرد فرد فى نفسه بعدل ونصفة حتى يتضح له الحق- وان مع صلته أما فى محل الجر بدلا من واحدة او بيانا له وأما فى محل الرفع بإضمار هو واما فى محل النصب بإضمار اعنى ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ متعلق بتتفكّروا بتضمين يعلموا ارشاد الى مواد التفكر والمراد ان هذا امر بديهي وهو ان صاحبكم محمدا صلى الله عليه وسلم ليس به جنون فانه ذو عقل سليم ولبّ عظيم وفهم مستقيم لا ينكره الا معاند او مجنون- وبديهي ان من له عقل سليم لا يتصدى الأمر عظيم عبث يعادى بسببه الخلائق مع كونه متوحدا صفر اليد من غير تحقيق ووثوق ببرهان من غير فائدة معتدة به من جلب نفع او دفع ضرر- وجلب نفع او دفع ضرر دنيوى غير موجود اما جلب النفع فمنفى حيث يقول.
ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وكذا دفع الضرر لان ضرر(8/36)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
معادات الخلائق موجود فما هذا الدعوى من محمد صلى الله عليه وسلم الا لجلب نفع متوقع فى غير هذا الدار الدنيا ودفع ضرر كذلك فيثبت بهذه المقدمات قوله إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) يلحق بكم فى غير هذا الدار فهذه المقدمات يرشد الى وجوب اتباعه لا سيما قد انضم ذلك الى معجزات كثيرة- قال ابن عباس لمّا نزلت وانذر عشيرتك الأقربين صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال ارايتكم لو أخبرتكم ان خيلا تريد ان تغير عليكم أكنتم مصدقى قالوا ما جرّبنا عليك الا صدقا قال فانى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فقال ابو لهب تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ- متفق عليه- قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ على الرسالة فَهُوَ لَكُمْ يعنى لا اسئلكم شيئا وقيل معناه ما سألتكم من اجر بقولي ما اسئلكم عليه من اجر الّا من شاء ان يتّخذ الى ربه سبيلا وقوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ... فَهُوَ لَكُمْ اى لفائدتكم لان اتخاذ السبيل الى الله ينفعكم وقربائى قرباكم- قلت بل قربى النبي صلى الله عليه وسلم علماء الظاهر والباطن من اهل بيته وغيرهم ومودتهم يورث التقرب الى الله سبحانه إِنْ أَجْرِيَ قرأ ابن كثير وابو بكر ويعقوب وخلف- ابو محمد وحمزة والكسائي بإسكان الياء والباقون بفتحها إِلَّا عَلَى اللَّهِ فى غير هذا الدار الدنيا ولولا ذلك لم ارتكب تحمل تلك المشقة عبثا فلا بد لكم ان تتبعونى وتعملوا ما يوجب لكم الاجر على الله عزّ وجلّ تفضلا منه بناء على وعده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معاذ هل تدرى ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله قلت الله ورسوله اعلم قال حق الله على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا- متفق عليه عن معاذ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (40) فيجازى كل امرئ على حسب عمله واعتقاده.
قُلْ يا محمد إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ اى يلقيه وينزله على من يشاء ان يجتبيه من عباده او المعنى يرمى به الباطل فيدمغه او المعنى يرمى به الى أقطار الآفاق(8/37)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
فيكون وعدا بإظهار الإسلام روى احمد عن المقداد انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر الا ادخله الله كلمة الإسلام بعز عزيزا وذل ذليل اما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها او يذلهم فيدينون لها عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) بالرفع صفة محمولة على محل اسم انّ او بدل من المستكن فى يقذف او خبر ثان لان او خبر محذوف اى هو علّام الغيوب يعلم من هو اهل للاجتباء بالوحى ويعلم عاقبة امر الإسلام حيث يدفع به الكفر ويظهره فى الأقطار.
قُلْ يا محمد جاءَ الْحَقُّ اى القران والإسلام والتوحيد وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) اى ذهب الباطل يعنى الشرك وزهق فلم يبق منه بقية تبدى شيئا او تعيده كما قال بل يقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فاذا هو زاهق وقال قتادة الباطل إبليس اى ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه وهو قول الكلبي ايضا وقيل الباطل الأصنام- قال البغوي ان كفار مكة كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم انك قد ضللت حتى تركت دين ابائك فانزل الله تعالى.
قُلْ يا محمد إِنْ ضَلَلْتُ يعنى ما تدينت به من الدين ان كان ضلالا كما تقولون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي يعنى وبال ضلالى انما يعود الى نفسى فكيف اختار الوبال على نفسى مع انه لا جنون بي ولا منفعة دنيوية يعود الىّ وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي يعنى ان كان هذا هداية فليس من قبل نفسى ولا من عند أحد من اهل هذا البلد لظهور انى أمي ما كتبت ولا قرأت على أحد فليس هو الا مستفادا من الله وحيا فيجب عليكم ان تتبعونى فتهتدوا كما اهتديت فهذا استدلال على النبوة وهذا الوجه المقابلة بين الشرطين وقال البيضاوي فى وجه المقابلة ان معنى قوله ان ضللت فانّما اضلّ على نفسى فان وبال ضلالى عليها فانه بسببها فانها هى الضالة بالذات والامارة بالسوء وان أهديت فبهدايته تعالى فعلى هذا وزان هذه الاية قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك(8/38)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) يدرك قول كل ضالّ ومهتد وفعله ان أخفاه-.
وَلَوْ تَرى ايها المخاطب إِذْ فَزِعُوا وقت فزع الكفار عند الموت وقال قتادة عند البعث وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا فظيعا فَلا فَوْتَ لهم يعنى فلا يفوتون الله بهرب او تحصن او بإعطاء فداء عن نفسه وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) يعنى من ظهر الأرض الى بطنها كما قيل او من الموقف الى النار وقال الضحاك هو يوم بدر فزعوا وأخذوا من مكان قريب بعذاب الدنيا لكن لا يناسب هذا التأويل قوله.
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ اى بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مر ذكره فى قوله ما بصاحبكم فانهم لم يقولوا يوم بدرا منّا به بل قال ابو جهل حين قتل وكان به رمق وأخذ ابن مسعود لحيته وقال الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله قال بماذا أخزاني هل زاد على رجل قتله قومه وهل كان الّا هذا. وانما يقولون امنّا به عند البأس إذا اخذه سكرات الموات وعند البعث من القبور إذا عاينوا العذاب وعند البعث الى النار وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص وابو جعفر ويعقوب وابو محمد بضم الواو بغير مد ومعناه التناول يعنى من اين لهم ان يتناولوا الايمان والتوبة والباقون التّناؤش بالمد والهمزة وإذا وقف حمزة جعلها بين بين لان ذلك من النئش بالهمزة وهو الحركة فى الإبطاء يعنى انى لهم ان يتحركوا ويطلبوا الايمان والتوبة وجاز ان يكون من النوش بمعنى التناوش فيكون أصله الواو ثم يهمز للزوم ختمها فعلى هذا يقف حمزة بضم الواو ورد ذلك الى أصله كذا قال الداني فى التيسير- قال فى القاموس النأش يعنى بالهمز التناول كالتناوش والاخذ والبطش والنهوض والتأخير ولا يستقيم التأخير هاهنا ويستقيم غير ذلك والنوش يعنى بالواو التناول والطلب والمشي والاسراع في النهوض مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (51) فان تناول الايمان انما هو فى حين التكليف انه بعد عنهم حين التكليف وهذا تمثيل حالهم فى الاستخلاص بعد ما فات عنهم وبعد عنهم مجال من يريد تناول الشيء من غلوة مثل تناوله على ذراع فى الاستحالة(8/39)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
وعن ابن عباس انه قال انهم يسئلون الرد الى الدنيا فيقال وانى لهم الرد من مكان بعيد اى من الاخرة الى الدنيا..
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ اى بالله وقد مر ذكره او بمحمد وقد ذكر بقوله ما بصاحبكم او بالقرآن المذكور بقوله جاء الحقّ او بالعذاب المفهوم من قوله أخذوا والجملة حال من فاعل قالوا مِنْ قَبْلُ ذلك الوقت فى أوان التكليف وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) اى من جانب بعيد من امر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الشّبه الذي تمحلوها فى امر الرسول صلى الله عليه وسلم وحال الاخرة كما حكاه من قبل ولعله تمثيل لحالهم فى ذلك بحال من يرمى شيئا لا يراه من مكان بعيد لا محال الظن فى لحوقه قال مجاهد يرمون محمدا صلى الله عليه وسلم بما لا يعلمون يقولون شاعر ساحر كذّاب بلا تحقيق هذا تكلم بالغيب وقال قتادة يرمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار وهذا معطوف على قوله وقد كفروا به على حكاية الحال الماضية او على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف فى تحصيل ما ضيعوه من الايمان فى الدنيا-.
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الايمان والنجاة من النار او الرجوع الى الدنيا او كل ما يشتهيه الطبع من المأكولات والمشروبات وغيرها التي كانت لهم ميسرة فى الدنيا والظرف قائم مقام فاعل حيل او هو مسند الى مصدره اى حيل الحيلولة قرأ ابن عامر والكسائي حيل بإشمام الضم للحاء والباقون بإخلاص الكسر كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ اى باشباههم من كفار الأمم الخالية مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ من البعث ونزول العذاب بهم مُرِيبٍ (54) موقع للريبة او ذى الريبة منقول من المشكك او الشاك نعت به الشك للمبالغة- تم تفسير سورة السبا من التفسير المظهرى فى العشرين من المحرم من السنة السابعة بعد الف ومائتين سنة 1207 من الهجرة ويتلوه تفسير سورة الملائكة إنشاء الله تعالى وصلى الله على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.(8/40)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
سورة الملائكة
مكّية وهى خمس وأربعون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى خالقهما ومبدعهما من غير مثال سبق من الفطرة بمعنى الشق العدم بإخراجها منه والاضافة محضة لان فاطرا بمعنى الماضي فهو صفة للَّه جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وسائط بين اللَّه وأنبيائه والصالحين من عباده يبلَّغون إليهم رسالاته بالوحى او الإلهام او الرؤيا الصالحة او بينه وبين خلقه يوصلون إليهم اثار صنعه. واضافة جاعل الى الملائكة لفظية لان جاعلا قد عمل فى رسلا ولا يجوز اعماله فى المفعول الثاني الا ان يكون عاملا فى الاول لانه من ملحقات افعال القلوب لا يجوز اقتصارها على أحد المفعولين والمعنى يجعل الملائكة رسلا فى الحال او الاستقبال الى محمد صلى اللَّه عليه وسلم وخواص أمته فقوله جاعل بدل من اللَّه وليس بصفة أُولِي أَجْنِحَةٍ بدل من رسلا مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ صفات لاجنحة قال قتادة ومقاتل بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة اجنحة وبعضهم له اربعة اجنحة وليس هذا للحصر ولدفع توهم الحصر قال اللَّه تعالى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ فى الملائكة وغيرها ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) روى مسلم فى الصحيح عن ابن مسعود فى قوله تعالى لقد راى من ايت ربّه الكبرى قال راى جبرئيل فى صورته له ست مائة جناح- ورواه ابن حبان بلفظ رايت جبرئيل عند سدرة المنتهى له سبع مائة جناح ينشر من ريشه الدر والياقوت- والجملة مستأنفة للدلالة على ان تفاوتهم فى ذلك انما هو مقتضى مشيته تعالى ومودى حكمته لا امر يستدعيه ذواتهم والاية متناولة لزيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وسماحة النفس والعقل والفهم وغير ذلك فما قال ابن شهاب ان المراد به حسن الصوت وقال قتادة الملاحة فى العينين وقيل هو العقل(8/41)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
والتميز كل ذلك على سبيل التمثيل..
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ اى ما يعطى اطلق الفتح وهو الإطلاق وأراد به الإعطاء تجوزا إطلاقا للسبب على المسبب مِنْ رَحْمَةٍ نعمة دينية كالايمان والعلم والنبوة وتوفيق الحسنات او دنيوية كالمطر والرزق والامن والصحة والجاه والمال والولد فَلا مُمْسِكَ لَها اى لا أحد يحبسها ويمنع من اعطائها وَما يُمْسِكْ اى ما يمنعه فَلا مُرْسِلَ لَهُ واختلاف الضميرين لان الموصول الاول فسر بالرحمة فروعى معناه والثاني مطلق يتناولها والغضب فروعى لفظه وفيه اشعار بان رحمة سبقت غضبه مِنْ بَعْدِهِ اى بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على ما يشاء لا يقدر أحد ان ينازعه الْحَكِيمُ (2) لا يفعل الا بعلم وإتقان روى الشيخان فى الصحيحين عن المغيرة بن شعبة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلوة لا اله الّا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ولما بيّن الله سبحانه انه خالق لجميع الأشياء متصرف فيها على ما يشاء امر الناس بشكر انعامه فقال.
يا أَيُّهَا النَّاسُ يا اهل مكة ودخل فى العموم غيرهم اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ حيث اسكنكم الحرم ومنع منكم الغارات وجعل الأرض كمهد ورفع السماء بلا عمد وخلقكم وزاد فى الخلق ما شاء وفتح أبواب الرزق ولا ممسك له- ثم أنكر ان يكون لغيره فى ذلك مدخل حتى يستحق الإشراك به فقال هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر وَالْأَرْضِ النبات من الاولى زائدة فان الاستفهام للانكار بمعنى النفي وخالق مبتدا وغير الله فاعله على قراءة الرفع او خالق مبتدا محذوف الخبر تقديره هل لّكم من خالق غير الله او خبره غير الله ايضا على قراءة الرفع او خبره يرزقكم وغير الله وصف له او بدل منه قرأه حمزة والكسائي «وابو جعفر وخلف ابو محمد» بالجر حملا على لفظه والباقون بالرفع حملا على محله او خالق فاعل لفعل محذوف تقديره هل يرزقكم من خالق غير الله ويرزقكم فى محل الجر او الرفع صفة لخالق او فى محل النصب حال منه(8/42)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
او تفسير لما أضمر او استئناف لا محل له من الاعراب لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) فمن اىّ وجه تصرفون من التوحيد الى الإشراك مع اعترافكم بانه الخالق والرازق لا غير.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فى البعث والتوحيد والعقاب فقاس بمن قبلك من الرسل يعنى اصبر ولا تحزن حذف الجزاء وأقيم مقامه فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ اقامة السبب مقام المسبب وتنكير الرسل للتعظيم المقتضى لزيادة التسلية والحث على الصبر يعنى كذبت رسل ذو عدد كثير وآيات واضحات وأعمار طوال واصحاب حزم وعزم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) فيجازيك على الصبر بالنصر والثواب وإياهم على التكذيب فى الدارين بالعذاب- قرأ حمزة «ابو محمد وابن عامر» والكسائي وخلف ويعقوب بفتح التاء وكسر الجيم على البناء للفاعل والباقون بضم التاء وفتح الجيم على البناء للمفعول..
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث والجزاء حَقٌّ كائن لا يحتمل الخلف فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا اى لا يلهيكم الاشتغال بزخارف الدنيا من طلب الاخرة والسعى لها وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ فى حلمه وامهاله الْغَرُورُ (5) يعنى الشيطان بان ينسيكم عذاب الاخرة او يمنّيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية فانها وان أمكنت لكن ارتكاب الذنب بهذا الاحتمال يشبه تناول السم على احتمال الترياق او رفعه الطبيعة.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة حيث قال و «1» عزّتك لاغوينّهم أجمعين فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا يعنى استيقنوا بعداوته وكونوا على حذر من اتباع وسوسته فى مجامع أحوالكم ولا تطيعوه وأطيعوا الله على رغم انفه فان مقتضى المحبة ان يفعل ما يرضاه المحبوب ويرضيه منه ومقتضى العداوة ان يفعل ما لا يرضاه ويغيظه والجملة تعليل للنهى السابق إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ اى اتباعه من الانس الى المعاصي واتباع الهوى والركون الى الدنيا
__________
(1) وفى القرآن فبعزّتك.(8/43)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) متعلق بيدعو تقرير لعداوته وبيان لغرضه ثم بين حال موافقيه ومخالفيه فقال.
الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واتبعوا الشيطان لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وخالفوا الشيطان لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) .
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ اى راى عمله السيئ حَسَناً معطوف على زين تقرير له يعنى من زين له قبح عمله يعنى خذله الله حتى غلب همه وهواه على عقله واختل رأيه ووسوس له الشيطان فراى السيئ حسنا والباطل حقّا كمن لم يزين له وهداه الله الى الحق ولم يجد الشيطان اليه سبيلا حتى عرف الحق من الباطل واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هى عليه فحذف الجواب لدلالة قوله فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ الهمزة فى أفمن زيّن للانكار والفاء للعطف على المحذوف تقديره أتطمع ان تهتدى كل رجل فيكون المخذول من الله والمهدى سواء لا تطمع ذلك فانّ الله يضلّ من يشآء ويهدى من يشاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ يعنى لا تهلك نفسك عَلَيْهِمْ اى على ضلالهم حَسَراتٍ منصوب على العلية اى للحسرات على غيّهم وضلالهم والحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم او كثرة مساوى أفعالهم المقتضية للتاسف وعليهم ليس صلة لها لان صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب او بيان للمتحسر عليه وقيل تقدير الكلام اتغتم بكفرهم فمن زيّن له سوء عمله فاضله الله تذهب نفسك عليهم حسرة يعنى لا تغتم فلا تذهب عليهم حسرات فقوله تعالى فلا تذهب تدل على الجواب المحذوف وقوله تعالى فانّ الله يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء معترضة فى مقام التعليل قال الحسين «1» بن الفضل فيه تقديم وتأخير مجازه افمن زيّن له سوء عمله فراه حسنا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فانّ الله يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء- قال البغوي قال ابن عباس نزلت الاية فى ابى جهل ومشركى مكة واخرج جويبر عن الضحاك عن ابن
__________
(1) وفى البغوي الحسن بن الفضل. مصحح(8/44)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
عباس قال نزلت الاية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أعزّ دينك بعمر بن الخطاب او بابى جهل بن هشام فهدى الله عمر وأضل أبا جهل ففيهما نزلت وقال سعيد بن جبير نزلت فى اصحاب الأهواء والبدع قال قتادة منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم واما اهل الكبائر فليسوا منهم فانهم لا يستحلون الكبائر بل يعتقدون الباطل باطلا وان كانوا مرتكبين به إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه.
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ عطف على انّ وعد الله حقّ يعنى وعد الله بالبعث حق والله أرسل الرياح واحيى الأرض بعد موتها كذلك نشوركم بالبعث قرا ابن كثير و «خلف- ابو محمد» وحمزة والكسائي الرّيح على ارادة الجنس والباقون بصيغة الجمع فَتُثِيرُ سَحاباً على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ولان المراد بيان إحداثها بهذه الخاصة ولذلك أسند إليها ويجوز ان يكون اختلاف الافعال للدلالة على استمرار الأمر فَسُقْناهُ فيه التفات من الغيبة الى التكلم لانه ادخل فى الاختصاص لما فيها من مزيد الصنع إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص و «ابو جعفر وخلف ابو محمد» بتشديد الياء والباقون بالتخفيف فَأَحْيَيْنا بِهِ اى بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره او بالسحاب فانه سبب السبب الْأَرْضَ اى جعلناها مخضرة ذات نبات بَعْدَ مَوْتِها اى بعد اغبرارها ويبس نباتها أسند موت نباتها وحياتها إليها مجازا كَذلِكَ اى مثل احياء النبات بعد اليبس النُّشُورُ (9) للاموات من القبور لاستوائهما فى المقدورية إذ ليس بينهما الا اختلاف المادة فى المقيس عليه وذلك لا مدخل له فيها وقيل التمثيل فى كيفية الاحياء لما ورد فى حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم فى كيفية البعث حيث قال ثم يرسل الله مطرا كانّه الطل فينبت منه أجساد الناس الحديث واخرج ابو الشيخ فى العظمة عن وهب قال البحر المسجور اوله فى علم الله وآخره فى ارادة الله فيه ماء ثخين شبه ماء الرجل يمطر الله منه على الخلق أربعين يوما بين الراجفة والرادفة فينبتون نبات الجنّة(8/45)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
فى حميل السيل ويجمع أرواح المؤمنين من الجنان وأرواح الكافرين من النار فيجعل فى الصور يأمر الله اسرافيل فينفخ فيه فيدخل كل روح فى جسده الحديث واخرج الشيخان عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عامّا قال أبيت ثم ينزّل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء الا يبلى الا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركّب الخلق يوم القيامة واخرج ابن المبارك عن سليمان قال يمطر الناس قبل البعث أربعين يوما ماء خاثرا- اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال يسيل واد من اصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعين عاما ينبت منه كل خلق بلى من انسان او طيرا ودابة ولو مرّ عليهم مارّ قد عرفهم قبل ذلك نعرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم يرسل الأرواح فتزوج بالأجساد-.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً اى فى الدنيا والاخرة قال الفراء من كان يريد ان يعلم لمن العزّة فلله العزّة جميعا والظاهر ان معناه من كان يطلب لنفسه العزة فليطلبها من عند الله وليتعزز بطاعة الله فان العزة كلها له ملكا وخلقا يؤتيها من يشاء وفيه رد على الكفار حيث طلبوا العزة بعبادة الأصنام قال الله تعالى واتّخذوا من دون الله الهة لّيكونوا لهم عزّا كلّا وعلى المنافقين حيث طلبوا العزة من الكفار قال الله تعالى ايبتغون عندهم العزّة فانّ العزّة لله جميعا......... ثم بين ان ما يطلب به العزة انما هو التوحيد والعمل الصالح فقال إِلَيْهِ اى الى الله يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وهى سبحان الله والحمد لله والله اكبر ولا إله إلّا الله وتبارك الله ونحو ذلك وصعودها مجاز عن قبوله ايّاها كذا روى عن قتادة او المراد بها صعود الكتبة بصحيفتها الى عرشه كما يدل عليه حديث ابن مسعود قال ما من عبد يقول خمس كلمات سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله والله اكبر وتبارك الله(8/46)
الا أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن فلا يمر بهن على جمع من الملائكة الا استغفروا لقائلهن حتى يجئ بها وجه رب العالمين ومصداقه من كتاب الله عزّ وجلّ اليه يصعد الكلم الطيب. رواه البغوي والحاكم وغيره وروى الثعلبي وابن مردوية حديث ابى هريرة نحوه مرفوعا وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قال الكلبي ومقاتل الضمير المستكن فى يرفعه راجع الى الكلم والمنصوب الى العمل المعنى ان العمل لا يقبل الا ان يكون صادرا عن التوحيد وقال سفيان بن عيينة ان المستكن راجع الى الله عزّ وجلّ يعنى ان العمل الصالح اى ما كان خالصا لوجه الله لا يكون مشوبا برياء وسمعة يرفعه الله اى يقبله فان الإخلاص سبب لقبول الأقوال والأعمال. والظاهر ان الضمير المستكن راجع الى العمل الصالح لقربه والمنصوب الى الكلم وهو مفرد ليس بجمع أريد به الجنس ولذا وصفه بالطيب او يقال تقديره اليه يصعد بعض الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وذلك البعض ما كان منه بالإخلاص وإرجاع الضمير هكذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وعكرمة واكثر المفسرين قال الحسن وقتادة الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء الفريضة فمن ذكر الله ولم يؤد الفريضة رد كلامه على عمله وليس الايمان بالتمني ولا بالتجلى ولكن ما وقرنى القلوب وصدقه الأعمال فمن قال حسنا وعمل غير صالح رد الله عليه قوله ومن قال حسنا وعمل صالحا يرفعه القول ذلك بان الله يقول اليه يصعد الكلم الطّيّب والعمل الصّالح يرفعه وجاء فى الحديث لا يقبل قولا الا بعمل ولا قولا ولا عملا الّا بنية- قلت ليس المراد بهذه الاية ان الايمان بغير عمل لا يعتد به كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته وكلمته القاها الى مريم وروح منه والجنة حقّ والنار حقّ ادخله الله الجنة على ما كان من عمل- رواه الشيخان فى الصحيحين عن عبادة بن الصامت بل المراد ان الكلم الطيب يصعد الى الله فان كان معه عمل يرفع شأن(8/47)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
تلك الكلمة ويزيد فى ثوابها ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله قولا الا بعمل يعنى قول المنافق بلا عمل من القلب والجوارح لا يعتد به وكذا القول المقرون بالعمل لا يعتد بهما الا بنية اى باعتقاد واخلاص من القلب وقيل معنى الاية والعمل الصالح يرفع القائل اى درجته.
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ صفة لمصدر محذوف لان الفعل لازم ليس بمتعد الى مفعول به اى يمكرون المكرات السيئات قال ابو العالية يعنى مكرات قريش للنبى صلى الله عليه وسلم فى دار الندوة كما مر فى سورة الأنفال فى قوله تعالى وإذ يمكر بك الّذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك وقال الكلبي معنى الاية الذين يعملون السيئات وقال مجاهد وشهر بن حوشب هم اصحاب الرياء لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ اى الله سبحانه يَبُورُ (10) اى يبطل حيث قال الله تعالى ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين او المعنى الله يبطل اعمال المرائين-.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ معطوف على والله أرسل وهذا ايضا دليل على القدرة على البعث فان بدء الخلق ليس باهون من إعادته مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعنى أصلكم البعيد تراب حيث خلق آدم منه وأصلكم القريب نطفة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أصنافا ذكرانا وإناثا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا متلبسا بِعِلْمِهِ حال يعنى الا معلوما له وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ يعنى ما يقدر عمر أحد وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ اى لا ينقضى من عمر أحد شىء إِلَّا فِي كِتابٍ يعنى كل ذلك مكتوب فى اللوح او فى الصحائف الكرام الكاتبين قال سعيد بن جبير مكتوب فى أم الكتاب عمر فلان كذا سنة ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة ايام حتى ينقطع عمره وقيل معناه لا يزاد فى عمر أحد ولا ينقص الا فى كتاب يعنى كتب فى اللوح المحفوظ ان عمر فلان كذا سنة ثم يزاد عمره ببعض الحسنات او ينقص ببعض السيئات كل ذلك مكتوب فى اللوح يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم لا يرد القضاء الا الدعاء ولا يزيد فى العمر الا البرّ- رواه الترمذي عن سلمان الفارسي وقيل معناه لا يمد فى عمر من هو طويل(8/48)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
العمر ولا ينقص عمر غيره من عمره اى عمر طويل العمر بان يعطى له عمر ناقص من عمره او لا ينقص عمر المنقوص عمره بجعله ناقصا والضمير له وان لم يدكر لدلالة مقابله عليه وللمعمر على التسامح اعتمادا على السامع كقولهم لا يثبت الله عبدا ولا يعاقبه الا بحق إِنَّ ذلِكَ اى كتابة الآجال والأعمال عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) .
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا يعنى أحدهما عَذْبٌ فُراتٌ اى شديد العذوبة وقيل هو ما يكسر العطش سائِغٌ سهل الانحدار شَرابُهُ جملة هذا عذب فرات مع ما عطف عليه صفة للبحرين على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ شديد الملوحة وقيل هو ما يحرق بملوحته ضرب مثل المؤمن والكافر وبيان لكمال قدرته تعالى حيث خلق من جنس وأخذ شيئان مختلفان فى الخواص وَمِنْ كُلٍّ اى من كل واحد من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا استطراد فى صفة البحرين وما فيهما من النعم اولا على سبيل الاستطراد بل لتمام التمثيل والمعنى انه كما انهما وان اشتركا فى بعض الفوائد لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء كذلك المؤمن والكافر وان اشتركا فى بعض خواص الانسانية لا يتساويان فيما هو المقصود من خلق الإنسان وهو معرفة الله وعبادته حيث قال الله تعالى ما خلقت الجنّ والانس الّا ليعبدون او لتفضيل الأجاج على الكافر بما يشارك العذب فى المنافع وَتَسْتَخْرِجُونَ اى من الملح دون العذب حِلْيَةً يعنى اللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها قيل نسب اللؤلؤ الى البحرين لانه يكون فى بحر الأجاج عيون عذبة يمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من بين ذلك وَتَرَى الْفُلْكَ عطف على ومن كلّ تأكلون فِيهِ اى فى كل منهما مَواخِرَ جمع ماخرة على وزن فاعلة من المخر وهو الشق يعنى شاقات للماء تجريها مقبلات ومدبرات لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ اى من فضل الله بالتجارة فيهما واللام متعلق بمواخر ويجوز ان يكون متعلقا بفعل دلّ عليه الافعال المذكورة يعنى جعل الله البحر هكذا لتبتغوا من فضله وَلَعَلَّكُمْ اى ولكى تَشْكُرُونَ (12) الله على ذلك عطف على لتبتغوا لان حرف الترجي استعير لمعنى اللام وإيراد حرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال..(8/49)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ صيفا متصل بقوله والله خلقكم من تراب وبما فى سياقه وجملة ما يستوى معترضة وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ شتاء حيث يقصر النهار ويمد الليل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ اى كل واحد منهما يَجْرِي فى السّماء لِأَجَلٍ مُسَمًّى هى مدة دوره او منتهاه او يوم القيامة حين ينقطع جريها وجملة كلّ يجري بيان للتسخير ذلِكُمُ مبتدا اى الذي فعل هذه الأشياء اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ اخبار مترادفة وكونه تعالى فاعلا لما ذكر موجب لثبوت تلك الاخبار ويحتمل ان يكون له الملك كلاما مبتدءا وَالَّذِينَ تَدْعُونَ اى الذين تعبدونها من الأصنام وغيرها كائنة مِنْ دُونِهِ تعالى ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) من زائدة على المفعول به فضلا ان يملك شيئا اخر وهو لفافة رقيقة على النواة فمن لم يملك كيف يستحق العبادة.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لقضاء حاجتكم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لانها جمادات الجملة الشرطية مع ما عطف عليه خبر ثان للموصول ولم يعطف للدلالة على استبداده لنفى الالوهية وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض او على تقدير كون بعضهم ذا شعور كابليس مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لعدم قدرتهم على الإنفاع او لتبرئهم منكم ومما تدّعون لهم من الالوهية كعيسى وعزير والملائكة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ اى ينكرون باشراككم إياهم يقولون ما كنتم ايّانا تعبدون وَلا يُنَبِّئُكَ اى لا يخبرك بحقيقة الأمر مخبر مِثْلُ خَبِيرٍ (14) اى عالم وهو الله سبحانه فانه هو الخبير بكل شىء على ما هو عليه او المعنى ولا ينبّئك ايها المفتون بأسباب الغرور كما ينبئك الله الخبير بحقائق الأشياء..
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون إِلَى اللَّهِ دائما فى الوجود وتوابعه وفى البقاء وفى النجاة من النار والاثابة بالجنة وغير ذلك وتعريف الفقراء نظرا الى افتقار سائر الخلائق بالاضافة الى فقرهم غير معتد به فانه حمل الامانة مع كونه ضعيفا ظلوما جهولا فهو أجوع من غيره وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ اللام للعهد اى المعروف بالاستغناء على الإطلاق والانعام العام على الموجودات الْحَمِيدُ (15) فى نفسه مستحق الحمد(8/50)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
من جميع خلقه.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ الى العدم دليل على كونه غنيّا عنكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) بقوم آخرين بدلكم أطوع منكم او بعالم اخر غير ما تعرفونه.
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) بمتعذر ولا متعسر.
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ اى لا تحمل نفس آثمة وِزْرَ اى ثقل يعنى اثم نفس أُخْرى اما قوله تعالى وليحملنّ اثقالهم وأثقالا مع اثقالهم ففى الضالّين المضلّين فانهم حملوا أثقال ضلالهم مع أثقال ضلال أنفسهم لانهم أضلّوهم فكل ذلك أوزارهم وليس شىء منها من أوزار غيرهم واماما رواه مسلم عن ابى موسى يرفعه انه يجئ يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها لهم ويضعها على اليهود والنصارى- وما روى ايضا من وجه اخر بلفظ إذا كان يوم القيامة رفع الله الى كل مسلم يهوديا او نصرانيا فيقول هذا فداك من النار- وروى الطبراني والحاكم وصححه ايضا عن ابى موسى نحو الرواية الاولى وابن ماجة والطبراني ايضا نحو الرواية الثانية واخرج ابن ماجة والبيهقي عن انس إذا كان يوم القيامة رفع الى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال هذا فداك من النار فتأويل هذه الأحاديث عندى ان المراد بالذنوب التي توضع على الكفار انهم ارتكبوا بتلك السيئات قبل امة محمد صلى الله عليه وسلم وسنّوا سنة سيئة واقتفى المتأخرون اثارهم فى ارتكاب السيئات فلما غفرت سيئات المؤمنين تفضلا من الله تعالى بقيت سيات الذين سنوا تلك السنة عليهم مضاعفة لاجل الارتكاب ولاجل إبداع السنة السيئة فالوضع كناية عن ابقاء ما لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ الذي عمل بها فاقتفاه مسلم الله اعلم وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ أثقلها أوزارها أحدا غيرها إِلى حِمْلِها اى ليتحمل بعض أوزارها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ اى لم تجب تحمل شىء منه نفى الله سبحانه ان يحمل عنها غيرها ذنبه كما نفى ان يحمل عليها ذنب غيرها وَلَوْ كانَ اى المدعو دلّ عليه قوله ان تدع ذا قُرْبى اى ذا قرابتها قال البغوي قال ابن عباس يلقى الأب والام ابنهما فيقول يا بنى احمل عنى بعض ذنوبى فيقول لا أستطيع حسبى عملى إِنَّما تُنْذِرُ قال الأخفش معناه انما تنفع بانذارك(8/51)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ غائبين عن عذابه او عن الناس فى خلواتهم او غائبا عنهم عذابه وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعنى الذين اجتنبوا المعاصي وأتوا بالواجبات خشية من عذاب الله هم المنتفعون بانذارك واختلاف الفعلين للدلالة على استمرارهم على ذلك فى جميع الأزمنة وَمَنْ تَزَكَّى اى تطهر من دنس المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفعه لها جملة معترضة مؤكدة لخشيتهم وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فيجازيهم على تزكيته..
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى عن الهدى اى الكافر او الجاهل وَالْبَصِيرُ (19) اى المؤمن والعالم.
وَلَا الظُّلُماتُ اى الكفر وَلَا النُّورُ (20) اى الايمان.
وَلَا الظِّلُّ اى الجنة والثواب وَلَا الْحَرُورُ (21) اى النار والعقاب.
وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل اخر للمومنين والكافرين ابلغ من الاول ولذلك كرر الفعل وقيل مثل للجهال والعلماء إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ ان يهديه فيوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات ومبالغة فى الاقناط عنهم.
إِنْ أَنْتَ يا محمد إِلَّا نَذِيرٌ (23) تخوفهم بالنار ولا تقدر على هدايتهم.
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ حال من الضمير المرفوع او المنصوب او صفة لمصدر محذوف اى محقين او محقّا إرسالا متلبسا بالحق ويجوز ان يكون صلة لقوله بَشِيراً للمؤمنين بالوعد الحق وَنَذِيراً للكافرين بالوعيد الحق وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ من الأمم السالفة إِلَّا خَلا اى مضى فِيها نَذِيرٌ (24) اى نبي او من ينوبه من العلماء والاكتفاء بالنذير للعلم بان النذارة قرينة للبشارة قد قرن به من قبل او لان الانذار لهم فان دفع الضرر أهم من جلب النفع.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد فلا تغتم واصبر على اذاهم كما صبر قبلك من الأنبياء فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى كفار الأمم الخالية قبل كفار مكة جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ حال من فاعل كذب بتقدير قد بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات الشاهدات على نبوتهم وَبِالزُّبُرِ كصحف ابراهيم وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) كالتوراة والإنجيل على ارادة التفصيل دون الجمع او المراد بها واحد والعطف لتفائر الوصفين يعنى فصبروا على تكذيبهم.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا(8/52)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ
(26) اى إنكاري بالعقوبة اى هو واقع موقعه قرأ ورش «ويعقوب وابو محمد فى الحالين بإثبات الياء فى الوصل فقط والباقون بحذفها وصلا ووقفا..
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا فيه التفات من الغيبة الى التكلم بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها او أصنافها على ان كلا منها اصناف مختلفة او مختلفا هيئتها من الصفرة والخضرة والحمرة وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ اى ذو جدد اى خطط وطرائق جملة اسمية هى مع ما عطف عليه حال من فاعل أخرجنا على طريقة أتيتك والشمس طالعة بِيضٌ وَحُمْرٌ وصفر مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدة والضعف وَغَرابِيبُ سُودٌ (37) اى صخور شديدة السواد عطف على بيض اى جدد بيض وحمر وسود غرابيب فغرابيب تأكيد لسود مضمر يفسره ما بعده لانه تأكيد وحق التأكيد ان يتبع المؤكد وهذا نظير قوله والمؤمن عاندات الطير وفى مثله مزيد تأكيد باعتبار الإضمار والإظهار كذا قال البيضاوي وقال الجلال المحلى يقال كثيرا اسود غربيب وقليلا غربيب وسود قلت لعل ذلك القليل عند ارادة مزيد التأكيد وجاز ان يكون عطفا على حدد كانّه قيل من الجبال ذو جدر مختلف ألوانها ومنها غرابيب متحدة اللون.
وَمِنَ النَّاسِ عطف على مِنَ الْجِبالِ ... وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ذكّر الضمير لاجل من وقيل تقديره ومن الناس والدّواب والانعام ما هو مختلف ألوانه كَذلِكَ صفة لمصدر محذوف اى اختلافا مثل اختلاف الثمار والجبال.
ولمّا قال الم تر انّ الله انزل من السّماء الى آخره ذكر انواع المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع الدالّة على صانعها وصفاته اتبعه بقوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ- الْعُلَماءُ يعنى الذين تفكروا فى خلق الله واستدلوا به على ذاته وصفاته وأفعاله وآلائه بخلاف الجمال ككفار مكة والذين تجاهلوا ولم يخلص علومهم الى قلوبهم وأنفسهم كاحبار اليهود والنصارى. قال الشيخ العارف الاجل شهاب الدين السهروردي فى هذه الاية تعريض الى انه من لا خشية له فهو ليس بعالم قلت فان معرفة الخشى بعظمته(8/53)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
وجلاله والعلم بصفات كماله يستلزم الخشية وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم قال البغوي قال ابن عباس يريد انما يخافنى من خلقى من علم جبروتى وعزتى وسلطانى فكل من «الجبروت فعلوت من الجبر بمعنى القهر منه» كان اعلم بالله وصفاته كان أخشى منه روى الشيخان فى الصحيحين عن عائشة قالت صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله واثنى عليه ثم قال ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء اصنعه فو الله انى أعلمهم بالله وأشدهم له خشية وروى الدارمي عن مكحول مرسلا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم ثم تلا هذه الاية انّما يخشى الله من عباده العلماء وروى البخاري فى الصحيح عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسى بيده لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا- فكمال الخشية للانبياء ثم للاولياء وهم علماء الحقيقة ثم الأمثل فالامثل قال مسروق كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا قال الشعبي العالم من يخشى الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) تعليل لوجوب الخشية لدلالة على انه عزيز فى ملكه معاقب للمصرّ على طغيانه غفور للتائب من عصيانه..
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ اى يداومون على قراءته واتباع ما فيه حتى صارت عنوانا لهم والمراد بكتاب الله القران او جنس كتب الله فيكون ثناء على المصدقين من الأمم والقراء العلماء منهم بعد اقتصاص حال المكذبين وَأَقامُوا الصَّلاةَ اى اداموها مع رعاية حقوقها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يعنى كيف ما اتفق من غير قصد إليهما وقيل السر فى النافلة والعلانية فى المفروضة يَرْجُونَ تِجارَةً اى يرجون تحصيل الثواب بالطاعة لَنْ تَبُورَ (29) اى لن تكسر ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة.
لِيُوَفِّيَهُمْ الله متعلق بمعنى لن تبور يعنى يرجون تجارة نافعة ليوفيهم بانفاقها أُجُورَهُمْ اى أجور أعمالهم او متعلق بفعل محذوف دل عليه ما عد من أعمالهم يعنى فعلوا ذلك ليوفّيهم او يبرجون واللام للعاقبة يعنى يرجون تجارة لن تبور حتّى يوفّيهم الله أجورهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما يقابل(8/54)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
أعمالهم اخرج ابن ابى حاتم وابو نعيم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوفّيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجب له النار ممن صنع إليهم المعروف فى الدنيا إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) هذه الجملة فى مقام التعليل لما سبق ويرجون خبر ان وجاز ان يكون لهذا خبران بتقدير الرابط يعنى انه غفور لفرطاتهم شكور لطاعاتهم قال ابن عباس يغفر العظيم من ذنوبهم ويشكر القليل من أعمالهم اى يجازيهم عليه وعلى هذا يرجون حال من فاعل أنفقوا اخرج عبد الغنى ان هذه الاية نزلت فى حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف.
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعنى القران ومن للبيان او الجنس او للتبعيض هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى احقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لان حقيقته يستلزم موافقته إياها فى العقائد واصول الاحكام والاخبار إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) عالم بظواهر الأشياء وبواطنها فهو عالم بانك حقيق لان يوحى إليك هذا الكتاب المعجز الذي هو عياد على سائر الكتب..
ثُمَّ أَوْرَثْنَا منك ذلك الْكِتابَ والإرث انتقال الشيء من أحد الى غيره وقيل معنى أورثنا آخرنا ومنه الميراث لانه اخر من سالف ومعنى الاية أخرنا القران من الأمم الماضية وأعطينا الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا من للتبعيض متعلق باصطفينا او بيان للموصول ظرف مستقر حال من الضمير المنصوب المحذوف الراجع الى الموصول يعنى الّذين اصطفيناهم من عبادنا واضافة العباد الى نفسه للتشريف والمراد بالموصول علماء امة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم او الامة بأسرها كذا قال ابن عباس فان الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمته وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصم بكرامة الانتماء الى سيد الأنبياء طوبى لنا معشر الإسلام ان لنا من العناية ركنا غير منهدم لمّا دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم وقيل الجملة معطوفة على انّ الّذين يتلون(8/55)
والّذى أوحينا اعتراض وعندى ان الجملة معطوفة على مضمون والّذى أوحينا إليك وهو الحق يعنى أنزلنا إليك الكتاب الحق ثم اورثناه منك الذين اصطفيناهم من عبادنا فَمِنْهُمْ من هو ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مقصر فى العمل قال الله تعالى فى حقهم وآخرون مرجون لامر الله امّا «1» يعذّبهم وامّا يتوب عليهم وقال الله تعالى يعبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رّحمة الله إن الله يغفر الذّنوب جميعا انّه هو الغفور الرّحيم وَمِنْهُمْ من هو مُقْتَصِدٌ يعمل على ظاهر الكتاب ولا يفوز الى حقيقته قال الله تعالى فيهم وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا واخر سيّئا عسى الله ان يتوب عليهم انّ الله غفور رّحيم وَمِنْهُمْ من هو سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ اى بإرادته فائز الى حقائق القران قال الله تعالى والسّابقون الاوّلون من المهاجرين «2» وو الأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وقال الله تعالى والسّبقون السّبقون أولئك المقرّبون والصنفان الأولان هم اصحاب الميمنة وقيل المقتصد من يعمل بالقران فى غالب الأوقات والسابق من ضم الى العمل التعليم والإرشاد.
روى البغوي بسنده عن ابى عثمان النهدي قال سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه وأ هذا فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقنا سابق ومقتصدنا ناج ظالمنا مغفور له- قال ابو قلابة (من رواة الحديث)
__________
(1) وفى الأصل امّا ان يعذّبهم وامّا ان يتوب عليهم [.....]
(2) وعن صهيب سمعت يقول فى المهاجرين هم السابقون الشافعون المدلون على ربّهم والذي نفس محمد بيده انهم ليأتون يوم القيامة وعلى عواتقهم السلاح فيقرعون باب الجنة فيقول لهم الخزنة من أنتم فيقولون نحن المهاجرون فيقول لهم الخزنة هل حوسبتم فيجثون على ركبهم ويرفعون أيديهم الى السماء فيقولون اى رب ابهذا نحاسب وقد خرجنا و؟؟؟ الأهل والمال والولد- فيمثل لهم اجنحة من ذهب مجوصة بالزبرجد والياقوت فيطيرون فيدخلون الجنة فذلك قوله تعالى وقالوا الحمد لله الّذى اذهب عنّا الحزن الى قوله ولا يمسّنا فيها لغوب- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم بمنازلهم فى الجنة اعرف بمنازلهم فى الدنيا وعن عثمان بن عفان رضى الله عنه انه افرغ بهذه الاية ثم قال الا ان سابقنا اهل جهادنا الا وان مقتصدنا اهل عضدنا وظالمنا اهل بدونا- منه برد الله مضجعه 12 منه(8/56)
فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه ورواه البغوي ايضا مرفوعا وأخرجه سعيد ابن منصور والبيهقي موقوفا على عمر وروى البغوي بسنده عن ابى ثابت ان رجلا دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتى وانس وحشتي وسق الىّ جليسا صالحا فقال ابو الدرداء رضى الله عنه لان كنت صادقا لانا اسعد بك منك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال اما السابق فيدخل الجنة بغير حساب واما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا واما الظالم لنفسه فيحبس فى المقام حتى يدخله الهم ثم يدخله الجنة ثم قرا هذه الاية الحمد لله الّذى اذهب عنّا الحزن انّ ربّنا لغفور شكور- ورواه احمد وابن جرير والطبراني والحاكم والبيهقي وفيه فاما الذين ظلموا فاولئك الذين يحبسون فى طول المحشر ثم هم الذين تلا فاهم الله برحمته لهم الذين يقولون الحمد لله الّذى اذهب عنّا الحزن انّ ربّنا لغفور شكور قال البيهقي له ظرق عن ابى الدرداء قال وإذا كثرت طرق الحديث ظهر ان للحديث أصلا قال البغوي وروى عن اسامة بن زيد فى هذه الاية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم من هذه الامة وكذا اخرج البيهقي عن اسامة واخرج مثل ذلك عن كعب وعطاء ان الأصناف الثلاثة فى الجنة- واخرج ابن ابى الدنيا والبيهقي عن ابن عباس فى الاية قال هم امة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزله فظالمهم مغفور له ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب واخرج احمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الاية قال هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم فى الجنة واخرج الفريابي عن البراء بن عازب فى قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه الآية قال اشهد على الله انه يدخلهم الجنة جميعا واخرج ابن ابى عاصم والاصبهانى عن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميّز العلماء فيقول يا معشر العلماء انى لم أضع علمى فيكم الا لعلمى بكم ولم أضع علمى فيكم لاعذبكم انطلقوا قد غفرت لكم واخرج(8/57)
الطبراني بسند رجاله ثقات عن ثعلبة بن الحكم قال قال رسول الله يقول الله تعالى للعلماء إذا قعد على كرسيه لفصل عباده انى لم اجعل علمى وحكمى الا وانا أريد ان اغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي. واخرج ابن عساكر عن ابى عمر الصنعاني (اسمه حفص بن ميسرة) قال إذا كان يوم القيامة عزلت العلماء فاذا فرغ الله تعالى من الحساب قال لم اجعل حكمتى فيكم الا بخير أريدكم اليوم ادخلوا الجنة بما منكم وقال عقبة بن صهبان سالت عن عائشة عن قوله تعالى أورثنا الكتب الّذين اصطفينا من عبادنا فقالت يا بنى كلهم فى الجنة اما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة واما المقتصد فمن اتبع اثره حتى لحق به واما الظالم لنفسه فمثلى ومثلكم فجعلت نفسها معنا قلت ويمكن حمل هذه الأصناف الثلاثة على المصطفين الأخيار من هذه الامة اى الأولياء فمنهم ظالم لّنفسه وهو من يمنع نفسه عن حقوقه كما يمنعه عن حظوظه كاهل الرياضات والمجاهدات الشاقة رهبانية ابتدعوها ومنهم مقتصد يمنع نفسه عن حظوظه ويعطيه حقوقه فيصوم ويفطر ويصلى ويرقد وينكح ويأكل ويشرب ما أبيح له على ما هو السنة هم الذين قال عائشة فيهم من اتبع اثره حتى لحق به- ومنهم سابق بالخيرات المستغرق فى كمالات النبوة وهم الصحابة رضى الله عنهم والصديقون كما قالت عائشة وزعمت عائشة نفسها من الظالمين هضما وزعمت المخاطبين منهم لاجل رياضاتهم- وبالجملة فالاحاديث كلها تدل على ان الأصناف الثلاثة من المؤمنين او من العلماء فمن قال أريد بالظالم الكافر او المنافق فقوله مردود سئل ابو يوسف عن هذه الاية فقال كلهم مؤمنون واما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله والّذين كفروا لهم نار جهنّم واما الطبقات الثلاث فمن الذين اصطفى من عباده لانه قال فمنهم ومنهم ومنهم والكل راجع الى الذين اصطفى من عباده وهم اهل الايمان وعليه الجمهور- وقدم الظالم فى الذكر لكثرة الظالمين وقلة
السابقين وتوسط المقتصدين او لان الظلم بمعنى الميل الى الهوى مقتضى الجملة والاقتصاد والسبق عارضان لكن الاقتصاد متوسط بين المنزلتين ذلِكَ التوريث او الاصطفاء هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) .(8/58)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
جَنَّاتُ عَدْنٍ خير مبتدا محذوف اى هو او مبتدا خبره محذوف تقديره لهم جنات عدن وقوله يَدْخُلُونَها صفة لجنات او جنّات مبتدا ويدخلونها خبره قرأ ابو عمر وبضم الياء وفتح الخاء على البناء للمفعول من الافعال والباقون بفتح الياء وضم الخاء من المجرد والضمير المرفوع فى يدخلونها راجع الى الأصناف الثلاثة لما مرّ من الأحاديث يُحَلَّوْنَ فِيها حال مقدرة من فاعل يدخلونها او بدل اشتمال من يدخلون او مستأنفة او خبر بعد خبر لجنات عدن او صفة بعد صفة له مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً عطف على محل أساور وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) عطف على يحلون او على جنات عدن او حال من فاعل يحلون او معترضة عن ابى سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى جنّت عدن يدخلونها الاية فقال ان عليهم التيجان ان ادنى لؤلؤ منها ليضئ ما بين المشرق والمغرب رواه الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي قال القرطبي قال المفسرون ليس أحد من اهل الجنة الا وفى يده ثلاثة اسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ- وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء- متفق عليه وعن حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا فى آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا فى صحافها فانها لهم فى الدنيا ولكم فى الاخرة متفق عليه وعن عمر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه فى الاخرة- متفق عليه وروى الطيالسي بسند صحيح وابن حبان والحاكم عن ابى سعيد الخدري نحوه وفى آخره وان دخل الجنة لم يلبسه واخرج ابن ابى حاتم وابن ابى الدنيا عن كعب قال لو ان ثوبا من ثياب الجنة لبس اليوم فى الدنيا لصعق من ينظر اليه وما حملته أبصارهم-.
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ اى يقولون ذلك كما دل عليه ما تقدم من الأحاديث ودل عليه قوله تعالى الّذى احلّنا دار المقامة ويقولون ذلك ايضا عند البعث من القبور لحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على اهل لا اله(8/59)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
الّا الله وحشة فى الموت ولا فى القبور ولا فى النشور كانى انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الحمد لله الّذى اذهب عنّا الحزن رواه الطبراني قال ابن عبّاس حزن النار وقال قتادة حزن الموت وقال مقاتل لانهم كانوا لا يدرون ما يفعل بهم وقال عكرمة خوف الذنوب والسيّئات وخوف رد الطاعات وقال الكلبي ما كان يحزنهم فى الدنيا من امر يوم القيامة وقال سعيد بن جبير همّ الخبز فى الدنيا وقيل همّ المعاش والمعاد والحق ان المراد به جنس الحزن مطلقا إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للذين ظلموا على أنفسهم شَكُورٌ (34) للمقتصدين والسابقين.
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مصدر ميمى اى دار الاقامة مِنْ فَضْلِهِ اى من انعامه وتفضّله إذ لا واجب عليه شىء اخرج البيهقي فى البعث وابن ابى حاتم من طريق نقيع بن الحارث عن عبد الله بن ابى اوفى قال قال رجل يا رسول الله ان النوم مما يقر الله به أعيننا فى الدنيا فهل فى الجنة من نوم قال لا ان النوم شريك الموت وليس فى الجنة موت قال فما راحتهم فاعظم ذلك صلى الله عليه وسلم وقال ليس فيها لغوب كل أمرهم راحة فنزلت لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ اى تعب وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) كلال واعياء من التعب ذكر الثاني التابع للاول للتصريح بنفيه ومزيد التأكيد وجملة لا يمسّنا حال من مفعول احلّنا-.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عطف على ثمّ أورثنا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ اى لا يحكم عليهم بالموت فَيَمُوتُوا ويستريحوا منصوب بان مقدرة فى جواب النفي تقديره لا يكون عليهم قضاء بالموت فيموتوا روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صار اهل الجنة الى الجنة واهل النار الى النار جئ بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادى يا اهل الجنة لا موت ويا اهل النار لا موت فيزداد اهل الجنة فرحا الى فرحهم ويزداد اهل النار حزنا الى حزنهم- واخرج الشيخان عن ابى سعيد نحوه وفيه يجاء بالموت يوم القيامة كانه كبش أملح الحديث وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها طرفة عين بل كلّما نضجت جلودهم بدلوا بجلود غيرها ليذوقوا العذاب وكلّما خبث زيدوا سعيرا كَذلِكَ اى جزاء مثل ذلك الجزاء نَجْزِي كُلَّ(8/60)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
كَفُورٍ (36) اى كافر بالله تعالى فانه أشد كفرا ممّن كفر نعمة منعم غير الله تعالى قرأ ابو عمرو يجزى بضم الياء المثناة من تحت وفتح الزاء ورفع كلّ على غير تسمية الفاعل والباقون بالنون وفتحها وكسر الزاء ونصب كلّ على المفعولية.
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها اى فى النار عطف على لهم نار جهنّم او حال من الضمير المجرور فى لهم يعنى يستغيثون بشدة وعويل يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل فى الاستغاثة لجهد المغيث صوته يا رَبَّنا أَخْرِجْنا من النار نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ بدل من صالحا الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ جملة ربنا الى آخره مقول ليقولون محذوف بيان ليصطرخون وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير صالح او الاعتراف به والاشعار بان استخراجهم لتلا فيه وانهم كانوا يحسبونه صالحا والان ظهر خلاف ذلك- يقول الله تعالى فى جوابهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم نترككم فى دار التكليف ولم نعمّركم ما يتذكّر اى عمرا يتذكر فيه من تذكر من المؤمنين قال البغوي قال قتادة وعطاء والكلبي يعنى ثمانى عشرة سنة وقال الحسن أربعون سنة وقال ابن عباس ستون سنة ويروى ذلك عن على وهو العمر الذي اعذر الله الى ابن آدم لحديث ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اعذر الله الى امرئ اخر اجله حتى بلغ ستين سنة رواه البخاري وكذا اخرج البزار واحمد وعبد بن حميد عن ابى هريرة رضى الله عنه واخرج الطبراني وابن جرير عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة قيل اين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله او لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر- قلت الظّاهر ان ما يتذكر فيه من تذكر متناول لكل عمر يمكن للمكلف التفكر والتذكر فيه ولعل معنى الحديث سلب كل عذر لكل امرئ اخّر اجله حتى بلغ ستين سنة فانه لم يبق من عمره الطبيعي الأكثري شىء لما رواه الترمذي عن ابى هريرة وابو يعلى فى مسنده عن انس كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعمار أمتي ما بين الستين الى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك- والا فبعد البلوغ ليس له عذر معقول فى ترك الصلاة وغيرها من الفرائض لا سيما الايمان بالله ولولا كان(8/61)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
ما يتذكر متناولا لكل عمر يمكن فيه التفكر لما كان هذا القول جوابا لكل كافر بل لمن أدرك ستين سنة فما زاد والله اعلم.
وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فما اجبتموه والنذير محمد صلى الله عليه وسلم كذا اخرج ابن ابى حاتم عن السدّى وابن ابى حاتم وابن جرير عن زيد وهو قول اكثر المفسرين وقيل القرآن والمراد من تفسيرهم ان النذير محمد صلى الله عليه وسلم والقران لهذه الامة وغيرهما من الأنبياء والكتب لغيرهم- وقيل العقل وهذا على رأى من قال ان مجرد العقل كاف لوجوب الايمان بالله حتى يحكمون بكفر شاهق الجبل إذا بلغ عاقلا ولم يبلغه دعوة نبى وهذه الجملة معطوفة على مضمون ما سبق يعنى عمرناكم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير وهذا العطف يقتضى ان النذير ليس المراد به العقل لان العطف يقتضى المغائرة ولا مغائرة بين مجئ العقل وعمر يصلح للتفكر الا فى المفهوم فان العقل ماخوذ فى ذلك العمر وعديم العقل لم يعمر ما يتذكّر فيه من تذكّر وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع المراد بالنذير الشيب أخرجه عن عكرمة عبد بن حميد وابن المنذر وأخرجه ابن مردوية والبيهقي فى سننه عن ابن عباس يقال الشيب بريد الموت قال البغوي وفى الأثر ما من شعرة تبيض الا قالت لاختها استعدى فقد قرب الموت- وقيل النذير موت الأقارب والاقران فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) يدفع عنهم العذاب..
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
فلا يخفى عليه أحوالهم جملة مستأنفة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
(38) تعليل له لانه إذا كان عالما بمضمرات الصدور وهى أخفى ما يكون كان اعلم بغيره.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ يخلف بعضكم بعضا وعلى هذا خطاب لجميع الناس وقيل معناه لجعلكم امة خلفت من قبلها وراث فيمن قبلها ما ينبغى ان يعتبر به وقيل الخليفة بمعنى المستخلف يعنى جعلكم خلفاء فى ارض خليفة بعد خليفة وقد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وخلائف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف(8/62)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
فَمَنْ كَفَرَ منكم فَعَلَيْهِ وبال كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً اى أشد غضبا وبغضنا وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً (39) فى الاخرة والتكرير للدلالة على ان اقتضاء الكفر لكل واحد من الامرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه.
قُلْ يا محمد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى الأصنام أضاف الشركاء إليهم لانهم جعلوهم شركاء لله او لانفسهم فيما يملكونه أَرُونِي تأكيد او بدل اشتمال من ارايتم لانه بمعنى أخبروني ماذا خَلَقُوا مفعول ثان لرأيتم محمول على شركائكم مِنَ الْأَرْضِ اى من اجزاء الأرض بيان لما كانّه قال أخبروني عن لهؤلاء الشركاء أخبروني اى جزء من الأرض استبدوا بخلقه أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ اى شركة مع الله فِي خلق السَّماواتِ فاستحقوا بذلك شركة فى الوهية ذاتية أم منقطعة بمعنى بل والهمزة إضراب عن خلق بعض الأرض بالاستقلال واستفهام عن الشركة فى السّماوات ثم اضرب عنه واستفهم فقال أَمْ يعنى بل آتَيْناهُمْ قال مقاتلء أعطينا كفار مكة كِتاباً ينطق على ما اتخذناهم شركاء فَهُمْ الفاء فى جواب شرط محذوف تقديره ان كان الأمر كذلك فهم يعنى كفار مكة كائنون عَلى بَيِّنَةٍ قرأ ابن كثير وابو عمرو وحفص و «خلف ابو محمد» وحمزة على التوحيد والباقون بيّنات على الجمع يعنى على حجج واضحات مِنْهُ اى من ذلك الكتاب بَلْ إضراب عن الترديد السابق واثبات لما عدا ذلك كلها بقوله إِنْ يَعِدُ اى ما يعد الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً (40) يعنى ليس عندهم علم على شركهم وكتاب ليستدل عليه به بل ما يعد الاسلاف الأخلاف الا غرورا باطلا ما يغرّهم الا بلا سند يشهد عليه يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله..
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا اى لئلا تزولا او كراهة ان تزولا او يمنعهما ان تزولا فان الممكن حال بقائه لا بد له من علة تحفظه كما لا بد له فى إيجاده من علة وَلَئِنْ زالَتا بمقتضاء إمكانها ان لم يوجد من الله سبحانه(8/63)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
افاضة الوجود اللام للقسم إِنْ أَمْسَكَهُما يعنى ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد الله اى سواه او بعد الزوال وجملة انّ الله يمسك الى آخره سدّ مسدّ الجوابين يعنى لم يخلق شيئا أحد غيره وليس لاحد شركة معه من الاولى زائدة والثانية للابتداء إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) فبحلمه أمهل الكفار ولم يستعجل فى عقوبتهم وبغفرانه غفر المسلمين ولولا امهاله وغفرانه لم يمسك السماوات والأرض فيسقط السماء عليهم وينخسف بهم الأرض بذنوبهم- اخرج ابن ابى حاتم عن ابن ابى هلال انه بلغه ان قريشا كانت تقول لو ان الله بعث منا نبيّا ما كانت امة من الأمم أطوع لخالقها ولا اسمع لنبيها ولا أشد تمسكا بكتابها منا فانزل الله تعالى «1» .
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على المصدرية من اقسموا لان الايمان بمعنى الاقسام يعنى اقسموا اقساما بليغة او من المحذوف تقديره اقسموا بالله جهدوا جهد ايمانهم او حال من فاعل اقسموا يعنى جاهدين فى ايمانهم على طريقة مررت به وحده- قال البغوي بلغ قريشا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ان اهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم فاقسموا لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ رسول من الله لَيَكُونُنَّ أَهْدى جواب قسم فى اللفظ وجواب شرط ايضا فى المعنى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ السالفة يعنى من كان من الأمم السالفة على هدى فنحن نكون اهدى منهم قالوا ذلك لما رأوا تكذيب اليهود والنصارى بعضهم بعضا قالت اليهود ليست النّصارى على شىء وقالت النّصارى ليست اليهود على شىء فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ من الله يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم ما زادَهُمْ مجيئه إِلَّا نُفُوراً (42) اى تباعدا من الحق وهذا اسناد مجازى.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ عن الايمان بدل من نّفورا
__________
(1) وفى الأصل اقسموا بغير واو(8/64)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
ومفعول له او حال وَمَكْرَ السَّيِّئِ اى العمل القبيح قال الكلبي هو اجتماعهم على الشرك قلت هو إرادتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ان يثبتوه او يقتلوه او يخرجوه أصله وان مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه ثم بدل ان مع الفعل بالمصدر ثم أضيف- قرأ حمزة السّيّئ ساكنة الهمزة فى الوصل لتوالى الحركات تخفيفا كما سكن ابو عمرو الهمزة فى بارئكم وإذا وقف أبدلها ياء ساكنة ايضا وهى قراءة الأعمش والباقون بخفض الهمزة ويجوز روعها وإسكانها فى الوقف وَلا يَحِيقُ اى لا يحل الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يعنى بمن مكر وقد حاق بهم يوم بدر فقتلوا قال ابن عباس لا يحيق عاقبة الشرك الا بمن أشرك يعنى وبال شركهم راجع إليهم فَهَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ اى سنة الله فيهم يعنى استيصالهم ان أصروا على الكفر فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا يعنى سنة الله لا يتبدل ولا يتغير فلم يبق من اهل مكة الا من أمن منهم وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) بان ينقله من المكذبين الى غيرهم-.
أَوَلَمْ يَسِيرُوا الاستفهام للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره الم يشاهدوا اثار الماضيين ولم يسيروا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا مجزوم بلم عطفا على يسيروا او منصوب بتقدير ان بعد النفي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى قد شاهدوا فى مسيرهم الى الشام واليمن والعراق اثار الماضين وَكانُوا حال بتقدير قد يعنى والحال انه قد كان الذين قبلهم أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من اهل مكة قُوَّةً ومع ذلك قد اهلكوا ولم يغنى عنهم قولهم شيئا فما لهم اى لاهل مكة لا يعتبرون بهم وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ اى ليسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ من زائدة وشىء فى محل الرفع فاعل ليعجزه فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ظرف مستقر صفة لشئ او ظرف لغو متعلق بيعجزه إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها وبما يستحقها قَدِيراً (44) على كل شىء بما يشاء- ولمّا سبق من ان كفرهم يقتضي استيصالهم كما هو سنة الله فى الذين من قبلهم(8/65)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
وقد كانوا أشدّ منهم قوة ذكر سبب إمهالهم فقال.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ فى الدنيا عاجلا بِما كَسَبُوا من المعاصي ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها اى ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ نسمة تدب عليها بشوم معاصيهم او من دابة عاصية وهو الأظهر لقوله تعالى وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ اى يؤخر مواخذتهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو ما بعد الموت او يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ قال ابن عباس يريد به جميع العباد اهل طاعته واهل معصيته بَصِيراً (45) فيجازيهم على حسب أعمالهم.
تمت تفسير سورة الملائكة من تفسير المظهرى (ويتلوه سورة يس ان شاء الله تعالى) وصلى الله على خير خلقه محمّد واله وأصحابه أجمعين حادى عشر شهر صفر من السنة السابعة بعد الف ومائتين من الهجرة سنة 1207 هـ.(8/66)
فهرس السور القرآنية من التفسير المظهرى
فهرس سورة يس
من التفسير المظهرى مضمون/ صفحه ما ورد فى كثرة الخطو الى المساجد- 74 ما ورد فى استقرار الشمس وسجودها تحت العرش 83 تحقيق حركات الكواكب والافلاك حديث النهى عن قتل النساء والاتباع من اهل الحرب 87 ويل واد فى جهنم 90 شغل اهل الجنة فى الجنة- 91 السلام من الله على اهل الجنة- 93 مضمون صفحه حديث إذا القى فى النار من هو مخلد فيها 92 جعلوا فى توابيت من حديد الحديث ما ورد فى شهادة الأعضاء 95 لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل شيئا من الشعر 97 حديث انى والجن والانس فى نبا عظيم 98؟؟؟ وبعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى- مسئلة عظم الميتة طاهر 100 ما ورد فى فضل يس- 103.
فهرس سورة الصّافات من التفسير المظهرى
مضمون صفحه حديث الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها 105 الكوكب كلها فى السماء الدنيا- 106 ما ورد فى الشهاب ورجم الشياطين- 108 ما ورد فى السؤال عن العباد يوم القيامة 113 ما ورد فى الزقوم 117 ما ورد فى علم النجوم وتعليمه وتعلمه- 121 رؤيا الأنبياء وحي- 129 الياس والخضر يصومان شهر رمضان بيت المقدس ويوافيان الموسم 132 مسئلة لا يجوز ذكر ذلة الأنبياء ومن اعترض على أحد من الأنبياء فقد كفر- 135 مضمون صفحه ما ورد فى التفريق والتفضيل بين الأنبياء 145 ما ورد فى فضائل موسى وفضائل نبينا صلى الله عليه وسلم- 146 ما ورد فى كثرة الملائكة فى السماء وان ما منهم الا له مقام معلوم لا يتجاوز عنه- 149 قول على رضى الله عنه من أحب ان يكتال بالمكيال الا وفى الاجر يوم القيامة فليكن اخر كلامه من المجلس سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون الى آخره- 152.(8/67)
فهرس سورة ص من التّفسير المظهرى
مضمون/ صفحه حديث أحب الصيام الى الله صيام داود وأحب الصلاة صلوة داود- 159 حديث صلوة الضحى 160 مسئلة أداء سجود التلاوة فى الركوع إذا نوى 168 مسئلة سقوط سجود التلاوة بسجود الصلاة ان كان على الفور- 168 مسئلة الاختلاف فى سجدة ص 169 ما ورد من الدعاء فى سجود التلاوة 170 من اتبع هواه اختل رايه وضل فى اجتهاده 173 حديث الخيل معقود فى نواصيها الخير الاجر والمغنم 175 حديث ان عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علىّ صلاتى فامكننى الله منه- 182 الشكوى الى الله والدعاء والتضرع لا ينافى الصبر 184 الارتقاء من مقام الصبر الى مقام الرضاء 184 حديث انا أخذ بحجزكم من النار 188 حديث رايت ربى فى احسن صورة قال فيم يختصم الملأ الأعلى 190 حديث رايت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها 190 ايّهم يكتبها يعنى ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا-
فهرس تفسير سورة الزمر من التّفسير المظهرى
ما ورد فى اجر الصبر 201 ما ورد فى غرف الجنة 205 ما ورد فى شرح الصدر 206 انكار البغوي على من يغشى عليه عند استماع القران وما ذكرت فيه وذكر تفسير الحال عند السماع 208 القران ليس بخالق ولا مخلوق وهو الكلام اللفظي العربي- 211 ما ورد فى اختصام الناس بعضهم بعضا يوم القيامة 212 الدعاء عند النوم- 218 دعاء الاستفتاح اللهم رب جبرئيل إلخ 220 الأحاديث الواردة فى عموم رحمة الله ومغفرة الذنوب كلها غير الشرك على خلاف مذهب القدرية 223 ابطال مذهب الجبرية 227 الردة يحبط كل حسنة عملها قبل ذلك فان اسلم بعد الردة فى الوقت يجب عليه إعادة الصلاة ويجب إعادة الحج على من حج قبلها- 231 ما ورد فى زيادة النبي صلى الله عليه وسلم فى الجنة 237 حديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كل ليلة بنى إسرائيل والزمر- 238.(8/68)
فهرس سورة المؤمن من التّفسير المظهرى
مضمون صفحه ما ورد فى حملة العرش ودعائهم للمؤمنين 243 المشاركة فى الايمان يوجب النصح والشفقة 244 ما ورد فى الحاق الآباء والأبناء والأزواج مع الصلحاء فى الدرجة- 245 ما ورد فى تشقق السماوات ونزول الملائكة وقوله تعالى لمن الملك اليوم- 248 ما ورد فى يوم التناد- 255 ما ورد فى فضل الدعاء وفى وعد الاستجابة لمن يدعوا الله 270 فيمن لا يرد دعوته 271 فى شرائط اجابة الدعاء 271 فى سنن الدعاء 272 حديث لو ان رصاصة مثل هذا اى بجهة له الملك من السماء الحديث 276 ما ورد فى عدد الأنبياء والرسل 277 ذكر علم ينفع وعلم ما لا ينفع- 278
فهرس سورة حم السجدة من التفسير المظهرى
ما ورد فى المريض يكتب له فى مرضه ما كان يعمل فى صحته من الحسنات- حديث شهادة الجوارح تفسير الاستقامة وانها لا يتصور الا بعد فناء النفس والقلب حديث بين كل أذانين صلوة- حديث لا يرد الدعاء بين الاذان والاقامة 295 فصل فى فضل الاذان 295 فصل فى جواب الاذان 296 فى تحقيق موضع السجود- 298.
فهرس سورة الشّورى من التّفسير المظهرى
حديث أطت السماء إلخ فى كثرة سجود الملائكة 308 حديث خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتابان إلخ 309 حديث خطر رسول الله صلى الله خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا 312 ما ورد فى التمسك بالجماعة والنهى عن التفرق 313 حديث انما الأعمال بالنيات- 316 حديث من عمل عمل الاخرة للدنيا 316 ما ورد فى وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم فى محبة اله وعترته 318 وما ورد فى حب ابى بكر وعمر وأصحابه وأنصاره وقريش والعرب 319 ما ورد فى التوبة والعفو عن السيئات 322 حديث أفضل الدعاء الحمد لله- 323 ما ورد فى ان المرض والتعب يكفر لذنوب المؤمن 325 حديث الايمان نصفان نصف فى الصبر ونصف فى الشكر 326 حديث المستشار مؤتمن- 328 ما ورد فى المستبّين. 329
فى كيفية الوحى- 333.(8/69)
يس (1)
سورة يس
وتسمى معمة اخرج ابن مردوية والخطيب والبيهقي عن ابى بكر «1» الصدّيق عن النبي صلى الله عليه وسلم انّه قال يس تدعى معمة تعم صاحبها خير الدارين وتسمّى الدافعة لانها تدفع عن صاحبها كل سوء وتسمّى القاضية لانها تقضى كلّ حاجة مكّيّة وهى ثلاث وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
يس (1) اخرج ابو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فى المسجد فيجهر بالقراءة حتى تاذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فاذا أيديهم مجموعة الى أعناقهم وإذا هم عمى لا يبصرون فجاءوا الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ننشدك بالله والرحم يا محمد. ولم يكن بطن من بطون قريش الا وللنبى صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس الى قوله أم لم تنذرهم لا يؤمنون فلم يؤمن من ذلك النفر أحد- قرأ حمزة وابو بكر «والكسائي وخلف وروح- ابو محمد» بامالة فتح الياء والباقون باخلاصها وورش وابو بكر وابن عامر والكسائي يدغمون نون الهجاء فى الواو ويبقون الغنة وكذلك فى ن والقلم غير ان عامة اهل الأداء من البصريين يأخذون فى مذهب ورش هناك بالبيان والباقون بإظهار النون فى السورتين- ويس كسائر المقطعات فى المعنى والاعراب وقيل معناه يا انسان بلغة طى يعنى به محمدا صلى الله عليه وسلم على ان أصله يا انيسين فاقتصر على شطره
__________
(1) وفى رواية عن ابى بكر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس تدعى فى التوراة المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكائد عنه بلوى الدنيا والاخرة وتدفع عنه اطاويل الاخرة وتدعى الدافعة والقاضية تدفع عن صاحبها كل سؤ وتقضى له كل حاجة من قرأها عدلت عشرين حجة ومن سمعها عدلت الف دينار فى سبيل الله ومن كتبها ثم شربها ادخلت جوفه الف دواء والف نور والف يقين والف بر والف رحمة ونزعت عنه كل غل وداء- وعن ابى بكر الصديق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زار قبر والديه او أحدهما فى كل جمعة فقرا عندهما يس غفر الله تعالى له بعدد كل حرف منهما» منه نور الله تربته(8/70)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
لكثرة النداء كما قيل من الله فى ايمن الله كذا روى عن ابن عباس وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وجماعة وقال ابو العالية يا رجل وقال ابو بكر الوراق يا سيد البشر وروى عن ابن عباس انه قسم.
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) اى المحكم بعجيب النظم وبديع المعاني الواو للقسم او العطف ان جعل يس مقسما به.
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) جواب قسم فان قيل الغرض من الاخبار اما إفادة الحكم للمخاطب او إفادة لازم الحكم يعنى إفادة ان المتكلم عالم به وهاهنا لا يتصور شىء منهما فاىّ فائدة فى الاخبار قلنا الغرض هاهنا اعلام الكفار ورد انكارهم وإصرارهم حيث قالوا لست مرسلا.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) متعلق بالمرسلين اى لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم وهو التوحيد والاستقامة فى الأمور او ظرف مستقر خبر ثان لان أو حال من المستكن فى الجار والمجرور وفائدته المدح ووصف الشرع بالاستقامة صريحا وان دلّ عليه لمن المرسلين التزاما-.
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) قرأ حفص وابن عامر وحمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بنصب تنزيل بإضمار اعنى بيان للصراط او بإضمار فعله تقديره نزّل يعنى القران تنزيل العزيز فى ملكه الرّحيم بخلقه حيث نزل الكتاب وأرسل الرسول فحذف الفعل وأضيف المصدر الى الفاعل وقرأ الباقون بالرفع على انه خبر مبتدا محذوف اى القران.
لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق بتنزيل او بمعنى قوله لمن المرسلين ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ ما نافية والجملة صفة لقوم اى لتنذر قوما لم ينذر آباؤهم حيث لم يبعث بمكة نبى بعد إسماعيل عليه السلام فهم أشد احتياجا الى الرسالة من غيرهم فَهُمْ غافِلُونَ (6) اى لم ينذروا فبقوا غافلين وقيل ما موصولة او موصوفة والمعنى لتنذر قوما بالذي او بشئ انذر به آباؤهم الا بعدون فيكون مفعولا ثانيا لتنذر او مصدرية يعنى لتنذر قوما إنذار ابائهم اى مثل إنذارهم وعلى هذه الوجوه قوله فهم غافلون متعلق بقوله انّك لمن المرسلين اى أرسلناك إليهم لتنذرهم فانهم غافلون.
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ(8/71)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
عَلى أَكْثَرِهِمْ
يعنى قوله تعالى لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين فَهُمْ اى ذلك الأكثر لا يُؤْمِنُونَ (7) اخرج ابن جرير عن عكرمة قال ابو جهل لان رايت محمدا لافعلن ولافعلن فنزلت.
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا الى قوله لا يبصرون فكانوا يقولون هذا محمد فيقول اين هو اين هولا يبصره وقال البغوي نزلت فى ابى جهل وصاحبه المخزوميين وذلك ان أبا جهل كان قد حلف لان راى محمدا يصلى ليرضخن رأسه فراه وهو يصلى ومعه حجر ليدمغه فلمّا رفعه انثنت يده الى عنقه ولزق الحجر بيده فلمّا عاد الى أصحابه وأخبرهم بما راى سقط قال رجل من بنى مخزوم انا اقتله بهذا الحجر فاتاه وهو يصلى ليرميه بالحجر فاعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع الى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له ما صنعت فقال ما رايته ولقد سمعت صوته وحال بينى وبينه شىء كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لاكلنى فانزل الله تعالى انّا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ اى الاغلال وأصله الى أذقانهم فلا يخليهم يطاطئون وقال البغوي هى كناية عن الأيدي وان لم يجر لها ذكر لان الغل يجمع اليد الى العنق معناه انّا جعلنا فى أيديهم وأعناقهم أغلالا فهى الى الأذقان فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) الفاء للسببية فان الاغلال سبب للاقحام يعنى هم رافعون رءوسهم غاضون أبصارهم لا يستطيعون النظر الى شىء واخرج البيهقي فى الدلائل من طريق السدّى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان ناسا من بنى مخزوم تواصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه منهم ابو جهل والوليد بن المغيرة فبينا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلّى يسمعون قراءته أرسلوا اليه الوليد ليقتله فانطلق حتى اتى المكان الذي يصلى فيه فجعل يسمع قرائة ولا يراه فانصرف إليهم فاعلمهم فاتوه فلما انتهوا الى المكان الذي هو يصلى فيه سمعوا قرائة فيذهبون الى الصوت فاذا الصوت من خلفهم فيذهبون اليه فيسمعونه ايضا من خلفهم فانصرفوا ولم يجدوا اليه سبيلا فذلك قوله تعالى.
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ(8/72)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
سَدًّا
قرأ حمزة والكسائي وحفص «وخلف- ابو محمد» بفتح السين والباقون بفتحها وهما لغتان فَأَغْشَيْناهُمْ اى فاعميناهم من التغشية وهى التغطية فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) الفاء للسببية قال اهل المعاني هذا على طريق التمثيل ولم يكن هناك غل ولا سد أراد الله سبحانه انا منعناهم عن الايمان بموانع فجعل الاغلال والسد مثلا لذلك فهو تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا يغنى عنهم الآيات والنذر مثلهم بالذين غلّت أعناقهم فهى الى الأذقان فهم مقمحون وبالذين جعل بينهم السد وبين ما يريدون رؤيته فى انهم لا يلتفتون الى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطاطئون رءوسهم له ولو طاطئوا رءوسهم فرضا يمنعهم السد عن الابصار فهم لا يبصرون سبيل الهدى او أراد انا منعناهم عن إيذاء الرسول بحفظنا إياه وجاز ان يكون جعلنا بمعنى نجعل أورد صيغة الماضي لتحقق الوقوع يعنى نجعل فى جهنم فى أعناقهم أغلالا ونجعل بين أيديهم سدّا وذلك بجعلهم الله تعالى فى توابيت من نار.
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) سبق تفسيره فى سورة البقرة-.
إِنَّما تُنْذِرُ انذارا يترتب عليه الفائدة مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ اى القرآن بالتأمل فيه والعمل به وَخَشِيَ الرَّحْمنَ اى خاف عقابه او المعنى انما ينفع إنذارك لمن كان صالحا لاتباع الذكر والخشية مستعدا لذلك لم يقل وخشى القهار المنتقم للدلالة على ان الخشية مع ملاحظة صفة الرحمة كمال الخشية وعين الايمان وان الايمان بين الخوف والرجاء بِالْغَيْبِ حال من فاعل خشى يعنى غائبا عن عذابه قبل ان يعاينه او غائبا عن الناس فى خلوته فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ لذنوبهم وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) حسن وهو الجنة.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى عند البعث او المراد انا نعطى العلم والهداية بعد الجهل والضلال وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ الحسنة كعلم علموه وحبس وقفوه وسنة حسنة سنوه والسيئة كاشاعة باطل وتأسيس ظلم وتائيد كفر وبدعة ابتدعوها قال النبي صلى الله عليه وسلم من سن فى الإسلام سنة حسنة يعمل بها من بعده فله أجرها ومثل اجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء ومن(8/73)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
سن فى الإسلام سنة سيئة بعمل بها من بعده فان له وزرها ووزر من عمل بها من غير ان ينقص من أوزارهم شيء رواه مسلم عن حديث جرير وقال قوم معنى اثارهم فى قوله نكتب ما قدّموا واثارهم خطوهم الى المساجد عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس اجرا فى الصلاة ابعدهم فابعدهم ممشى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الامام أعظم اجرا من الذي يصلى ثم ينام متفق عليه وعن جابر رضى الله عنه قال خلت البقاع حول المسجد فاراد بنو سلمة ان ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم انكم تريدون ان تنتقلوا قرب المسجد قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال يا بنى سلمة دياركم تكتب اثاركم دياركم تكتب اثاركم- رواه مسلم وروى البغوي عن انس نحوه واخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابى سعيد الخدري نحوه وَكُلَّ شَيْءٍ منصوب بفعل مضر يفسره أَحْصَيْناهُ يعنى كتبناه فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) اى فى اللوح المحفوظ..
وَاضْرِبْ لَهُمْ اى مثّل لكفار مكة من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد اى مثال واحد وهو يتعدى الى مفعولين لتضمنه معنى الجعل كانه قيل واجعل لهم مَثَلًا مفعول أول أَصْحابَ الْقَرْيَةِ مفعول ثان بحذف المضاف تقديره اجعل مثلهم اصحاب القرية وهى انطاكية أخرجه الفريابي عن ابن عباس وابن ابى حاتم عن بريدة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة يعنى قل حال اهل مكة مثل حال اهل انطاكية إِذْ جاءَهَا اى تلك القرية بدل اشتمال من اصحاب القرية الْمُرْسَلُونَ (13) يعنى رسل عيسى عليه السلام قال البغوي قال العلماء بأخبار القدماء بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين الى مدينة انطاكية فلما قربا من المدينة فاتيا شيخا يرعى غنمات له وهو حبيب صاحب عيسى عليه السلام فلمّا سلما عليه قال الشيخ لهما من أنتما فقالا رسول الله يدعوكم من عبادة الأصنام الى عبادة الرحمان فقال معكما اية قال نعم نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله فقال الشيخ ان لى ابنا مريضا منذ سنتين قالا فانطلق بنا نطلع حاله فاتى بهما الى منزله فسحا ابنه(8/74)
فقام فى الوقت بإذن الله صحيحا ففشى الخبر فى المدينة وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى وكان لهم ملك قال وهب اسمه انطفس وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام قالوا فانتهى الخبر اليه فدعاهما فقال من أنتما قالا رسولا عيسى قال وفيم جئتما قالا ندعوك من عبادة من لا يسمع ولا يبصر الى عبادة من يسمع ويبصر قال ولكما اله دون الهتنا قالا نعم من أوجدك والهتك قال قوما حتى انظر فى أمركما فتبعهما الناس فاخذوهما وضربوهما فى السوق قال وهب بعث عيسى هذين الرجلين الى انطاكية فاتياها فلم يصلا الى ملكها وطال مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله فغضب الملك فامر بهما فحبسهما وجلد كل واحد منهما مائتى جلدة- قالوا فلمّا كذّب الرسولان وضربا بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على اثرهما لينصرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى انسوا به فرفعوا خبره الى الملك فدعاه ورضى عشرته وانس به وأكرمه. ثم قال له ذات يوم ايها الملك بلغني انك حبست رجلين فى السجن وضربتهما حين دعواك الى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما فقال الملك حال الغضب بينى وبين ذلك قال فان راى الملك دعاهما حتى نطلع ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون من أرسلكما الى هاهنا قالا الله الذي خلق كل شىء وليس له شريك فقال لهما شمعون صفاه وأوجزا فقالا لا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال شمعون وما آيتكما قالا ما تتمنّاه فامر الملك حتى جئ بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة فما زال يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فاخذا بندقتين من الطين فوضعاهما فى حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك ان أنت سالت إلهك حتى يصنع صنعا مثل هذا فيكون لك الشرف فقال الملك ليس لى عنك من سران الهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع- وكان شمعون إذا دخل الملك على الأصنام يدخل ويصلى كثيرا ويتضرع حتى ظنوا انه على ملتهم فقال الملك للرسولين ان قدر إلهكم الذي تعبد انه على احياء ميت أمنا به قالا الهنا قادر على كل شىء فقال الملك ان هاهنا ميتا مات منذ سبعة ايام ابن لدهقان وانا أخرته فلم ادفنه حتى يرجع أبوه وكان غائبا فجاء وأبا لميت وقد تغيروا روح فجعلا يدعوان ربهما(8/75)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
علانية وجعل شمعون يدعو ربه سرّا فقام الميت وقال انى قدّمت منذ سبعة ايام ووجدت مشركا فادخلت فى سبعة اودية من النار وانا أحذركم مما أنتم فيه فامنوا بالله ثم قال فتحت أبواب السماء فنظرت فرايت شابّا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك ومن الثلاثة قال شمعون وهذان وأشار الى صاحبيه فتعجب الملك فلمّا علم شمعون ان قوله اثر بالملك أخبره بالحال فامن الملك وأمن قوم وكفر آخرون- وقيل ان ابنة الملك كانت توفيت ودفنت فقال شمعون للملك أطلب هذين الرجلين ان يحييا ابنتك فطلب منهما الملك ذلك مقاما وصليا ودعوا وشمعون معهما قرأ بسر فاحيا الله المرأة وانشق القبر عنها فخرجت وقالت اعلموا انهما صادقان ولا أظنكم تسلمون ثم طلبت من الرسولين ان يرداها
الى مكانها فذرا ترابا على رأسها وعادت الى قبرها كما كانت وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب بل كفر الملك واجمع هو وقوعه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم الى طاعة المرسلين فذلك قوله عزّ وجلّ.
إِذْ أَرْسَلْنا بدل من إذ السابقة إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ قال وهب اسمهما يحيى ويونس فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا قرأ أبو بكر بالتخفيف والباقون بالتشديد ومعناهما واحد اى فقوينا بِثالِثٍ اى برسول ثالث وهو شمعون كذا اخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير ترك ذكر المفعول به لان المقصود ذكر المعزز به وما لطف فيه من التدبير حتى عز الحق وزهق الباطل وإذا كان الكلام لغرض يجعل سياقه له ويرفض ما سواه- واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة قال بلغني ان عيسى بعث الى اهل القرية رجلين من الحواريين وقال كعب الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم وانما أضاف الله الإرسال الى نفسه لان عيسى بعتهم بامره عزّ وجلّ فَقالُوا كلهم لاهل انطاكية إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا اى اهل انطاكية ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مزية لكم علينا يقتضى اختصاصكم بالرسالة من الله وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ من وحي إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) فى دعوى الرسالة.
قالُوا اى الرسل(8/76)
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) استشهدوا بعلم الله وهو يجرى مجرى القسم ولذلك من قال الله يعلم انى فعلت كذا وهو كاذب كان غموسا وزادوا اللام المؤكدة لانه جواب عن انكارهم دون الاول.
وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) الظاهر البين بالآيات الشاهدة لصحته كابراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى يعنون ان انكاركم لا يضرنا بعد ما كان علينا من أداء التبليغ وانما هو يعود عليكم بالمضرة.
ولمّا حبس الله عنهم المطر بتكذيبهم الرسل قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ يعنون ان ما نزل بنا انما هو بشومكم وذلك لاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له وتنفرهم عنه فان عادة الجهال ان يتمنّوا كل شىء مالت اليه طباعهم وتشاموا ما كرهوه.
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عما تقولون لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة ونقتلنّكم وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) .
قالُوا طائِرُكُمْ اى سبب شومكم مَعَكُمْ وهو كفركم وقال ابن عباس حظكم من الخير والشر معكم لا ينفك عنكم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ وعظّم به وجواب الشرط محذوف والاستفهام للانكار يعنى أإن وعظتم تطيرتم بنا وتوعدتمونا بالرجم لا ينبغى ذلك بل كان ينبغى الاتعاظ والامتنان- قرأ ابو جعفر بفتح الهمزة الثانية وذكرتم بالتخفيف تقديره أتطيرتم وتوعدتم لان ذكرتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) اى قوم عادتكم الإسراف فى العصيان ومنها التشاوم برسل الله والواجب التبرك بهم.
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى وهو حبيب النجار أخرجه عبد الرزاق وابن ابى حاتم عن قتادة وقال السدىّ كان قصارا وقال وهب كان حبيب رجلا يعمل الحرير وكان سقيما وقد اسرغ فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا امسى فقسم نصفين فيطعم نصفا على عياله ويتصدق نصفه فلمّا بلغه ان قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم وقالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على تبلغ الرسالة الجملة تأكيد للاول او بدل يشتمل فائدة زائدة.
وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) الى خير الدارين.(8/77)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ما استفهامية مبتدا والظرف خبر له ولا اعبد حال من ضمير المتكلم والجملة معطوفة على قوله يا قوم اتّبعوا المرسلين وفيه التفات من الغيبة الى التكلم وفيه تلطف فى الإرشاد بايراده فى معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم الى عبادة غيره ولذلك قال وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) مبالغة فى التهديد ثم عاد الى السياق الاول فقال.
أَأَتَّخِذُ الاية واخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة قال كان حبيب فى الغار يعبد الله فلما بلغه خبر الرسل أتاهم يعنى قومه فاظهر دينه وقال يا قوم اتّبعوا المرسلين اتّبعوا من لا يسئلكم اجرا وهم مهتدون فلما قال ذلك قالوا له وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل فقال وما لى لا اعبد الّذى فطرنى اى خلقنى واليه ترجعون- قرأ حمزة ويعقوب «وخلف- ابو محمد» ما لى بسكون الياء والباقون بفتحها قيل أضاف الفطرة الى نفسه والرجوع إليهم لان الفطرة اثر النعمة وكان عليه إظهاره وفى الرجوع معنى الزجر فكان أليق بهم قيل انه لمّا قال اتّبعوا المرسلين أخذوه فرفعوه الى الملك فقال له الملك أفأنت تتبعهم فقال وما لى لا اعبد الّذى فطرنى يعنى اىّ شىء لى إذا لم اعبد خالقى واليه ترجعون عند البعث فيجازيكم ءاتّخذ استفهام انكار اى لا اتخذ مِنْ دُونِهِ اى دون الذي فطرنى آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي اى لا تنفعنى شَفاعَتُهُمْ التي تزعمونها شَيْئاً من الإغناء وَلا يُنْقِذُونِ (23) قرأ ورش «ويعقوب فى الحالين- ابو محمد» بإثبات الياء فى الوصل والباقون بالحذف فى الحالين اى لا ينقذونى من عذاب الله ان عذبنى وفى نفى الإغناء عن الشفاعة فى دفع الضرر والانقاذ من العذاب مبالغة فى نفى النفع عن شفاعتهم مطلقا فان قبول الشفاعة لدفع الضرّ اقرب من قبولها لنيل الرحمة والجملة الشرطية صفة لالهة.
إِنِّي قرأ نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها إِذاً اى إذا اتخذ ما لا ينفع ولا يضر بوجه ما الهة من دون من فطرنى وهو يقدر على النفع والضر لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) ظاهر لا يخفى على من له ادنى تميز كونه ضلالا- والجملة تعليل للانكار على اتخاذ الالهة.
إِنِّي قرأ نافع «وأبو عمرو وأبو جعفر وأبو محمد» وابن(8/78)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
كثير بفتح الياء والباقون بإسكانها آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي خلقكم ايها القوم او ايها الملك فَاسْمَعُونِ (25) اى فاسمعوا إيماني فعلى هذا هذه الاية من تتمة النصح فان القوم إذا قيل لهم اتّبعوا المرسلين كانّهم قالوا هل امنت أنت بهم فقال انى امنت بربّكم فاسمعوا إيماني ولو لم يكن هذا خيرا ما استأثرت به لنفسه وأضاف الرب الى المخاطبين ولم يقل امنت بربي ليكون ادعى لهم الى الايمان.
قال البغوي فلمّا قال ذلك وثب القوم وثبة رجل واحد فقتلوه «1» قال ابن مسعود وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره وقال السدىّ كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول اللهم اهد قومى حتى قطعوه وقتلوه وقال الحسن خرقوا خرقا فى حلقه فعلقوه من سور المدينة وقبره بانطاكية فادخله الله الجنة وهو حى فيها يرزق يعنى حيوة الشهداء وقيل الخطاب للرسل فانه لمّا راى انه يقتل استشهد الرسل على إيمانه قبل ان يموت والتقدير فقال للرسل انّى امنت.
قِيلَ يعنى قال الله تعالى لحبيب النجار رضى الله عنه لمّا استشهد إكراما واذنا فى دخول الجنة كسائر الشهداء ادْخُلِ الْجَنَّةَ وقيل قال الله تعالى ذلك له قبل موته يعنى ادخل قبرك الذي هو روضة من رياض الجنة وانما لم يقل وقيل له لان الغرض بيان المقول دون المقول له فانه معلوم والكلام فيه والجملة مستانفة فى حيز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربه بعد تصلبه فى نصر دينه والله اعلم ولما افضى حبيب الى الجنة قالَ يا رب لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) ما موصولة او مصدرية والباء متعلق بيعلمون اى يعلمون بالذي غفر لى ربى به او بغفران ربى إياي او استفهامية والباء متعلق بغفر اى باىّ شىء غفر لى يريد به الايمان والمصابرة على إيذاء الكافرين.
__________
(1) روى انه قدم عروة بن مسعود الثقفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسلم ثم استاذن ليرجع الى قومه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انهم قاتلوك قال لو وجدوني نائما ما ايقفونى فرجع إليهم فدعاهم الى الإسلام فعصوه واسمعوه من الأذى فلمّا طلع الفجر قام على غرفة فاذّن بالصلوة وتشهد فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه قتله مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه الى الله فقتلوه» منه نور الله؟؟؟(8/79)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
وانما تمنى علم قومه بحاله ليحملهم على اكتساب الايمان والطاعة على دأب الصالحين فى كظم الغيظ والترحم على الأعداء او ليعلموا انهم كانوا على خطأ عظيم فى امره وانه كان على حق.
قال البغوي فلما قتل حبيب غضب الله عليهم وعجل لهم النقمة فامر جبرئيل فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم وذلك قوله تعالى.
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ اى قوم حبيب مِنْ بَعْدِهِ من زائدة اى بعد إهلاكه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ من الاولى زائدة لتأكيد النفي والثانية للابتداء يعنى ما أنزلنا لاهلاكهم جندا من الملائكة كما أرسلنا يوم بدر والخندق بل كفينا أمرهم بصيحة ملك وفيه استحقار لإهلاكهم وايماء بتعظيم الرسول عليه السلام وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) ما نافية اى ما كان شأننا فى إهلاك قوم إنزال جند فان الأمر أيسر من ذلك وانما أنزلنا الأجناد لنصرك بشارة وإكراما لك وتسكينا لقلبك قال الله تعالى وما جعله الله إلّا بشرى ولتطمئنّ به قلوبكم وما النّصر الّا من عند الله- وقيل موصولة معطوفة على جند يعنى ما أنزلنا على قومه ما كنّا منزلين على من قبلهم من حجارة او ريح او امطار شديدة.
إِنْ كانَتْ اى ما كانت الاخذة او العقوبة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبرئيل قرأ الجمهور بالنصب على انه خبر كان وابو جعفر بالرفع جعل الكون تامة بمعنى الوقوع- قال البغوي قال المفسرون أخذ جبرئيل بعضاوتي باب المدينة ثم صاح صيحة واحدة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) اى ميتون شبّهوا بالنار لان الحيوة يتعلق بالحرارة الغريزية فاذا خمدت الحرارة الغريزية مات وجملة ما أنزلنا عطف على قوله وجاء من اقصا المدينة رجل «1» يسعى وجملة ما كنّا منزلين معترضة وجملة ان كانت الّا صيحة تعليل والفاء للسببية يعنى فاجئت الصيحة وقت خمودهم.
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الظرف صفة للحسرة وجعلت الحسرة منادى تنبيها للمخاطبين على وجوب الحسرة عليهم وتنكيرها للتعظيم كانّه قيل يا حسرة اى حسرة تعالى فهذه من الأحوال التي من حقها ان تحضرى فيها وهى ما دل عليه ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) استثناء مفرغ حال من الضمير المنصوب او من رسول او منهما
__________
(1) وفى الأصل من اقصا المدينة يسعى(8/80)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
والاستثناء يعنى الشرط والجزاء يعنى كلما يأتيهم رسول يستهزءون به والجملة تعليل للحسرة فان المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء ان يتحسروا وان يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين ويجوز ان يكون تحسرا من الله عليهم على سبيل الاستعارة لتعظيم جنايتهم على أنفسهم ويؤيده قراءة يا بحسرتا- وقيل المنادى محذوف وحسرة منصوب بفعل مقدر تقديره يايها المخاطبون تحسروا حسرة على العباد- والحسرة شدة الحزن والندامة قال البغوي فيه قولان أحدهما يقول الله يا حسرة وندامة وكابة على العباد يوم القيامة لما لم يومنوا بالرسل والاخر انه من قول الهالكين قال ابو العالية لما عاينوا العذاب قالوا يا حسرة على العباد واللام فى العباد للعهد والمراد بهم اهل انطاكية او كل من لم يؤمن بالرسل واستهزأ بهم فهو تعريض لاهل مكة.
أَلَمْ يَرَوْا الم يعلموا وهو معلق عن قوله كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لان كم لا يعمل فيما قبلها وان كانت خبرية لان أصلها الاستفهام فهو يستدعى صدر الكلام والضمير فى لم يروا لاهل مكة أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) بدل اشتمال من كم على المعنى اى الم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم الم يروا انهم غير راجعين إليهم- ولمّا كان فى قوله انّهم إليهم لا يرجعون إيهاما الى ان الموتى لا يرجع ابدا ندفع ذلك الوهم قال.
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) يوم القيامة قرأ عاصم وحمزة «ابو محمد وابن جمار» لما بالتشديد هاهنا وفى الزخرف والطارق وأخفها ابن عامر الا فى الزخرف فى رواية ابن ذكوان ووافق ابو جعفر فى الطارق والباقون بالتخفيف فمن فرأ بالتشديد فان نافية ولمّا بمعنى الا ومن قرأ بالتخفيف فان مخففة من الثقيلة واللام هى الفارقة وما مزيدة للتأكيد وجميع فعيل بمعنى مفعول ولدينا ظرف له او لمحضرون..
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بالتشديد أَحْيَيْناها بالمطر خير للارض والجملة خير اية او صفة للارض إذ لم يرد بها معينة فهو كقوله ولقد امرّ على اللئيم يسبنى والأرض مبتدا خبرها اية او خبر لكونها نكرة والاية مبتدا والجملة معطوفة على قوله وان كلّ لّما- وجاز ان يكون أحييناها استئنافا لبيان كونها اية وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا(8/81)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
جنس الحب كالحنطة والشعير ونحو ذلك فَمِنْهُ اى من الحب يَأْكُلُونَ (33) قدم الصلة للدلالة على ان الحب معظم ما يؤكل ويعاش به.
وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ اى من انواع النخيل والعنب ولذلك جمعهما دون الحب فان الدال على الجنس مشعر بالاختلاف ولا كذلك وذكر النخيل دون التمر ليطابق الحب والأعناب لاختصاص النخيل بمزيد النفع واثار الصنع وَفَجَّرْنا فِيها فى الأرض مِنَ الْعُيُونِ اى شيئا من العيون فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه عند الأخفش من زائدة.
لِيَأْكُلُوا متعلق بفجّرنا مِنْ ثَمَرِهِ اى ثمر ما ذكر وهو الجنات وقيل الضمير لله على طريقة الالتفات والاضافة اليه لإن الثمر بخلقه قرأ حمزة والكسائي «وخلف ابو محمد» ثمره بضمتين وهو لغة فيه او جمع ثمار وَما عَمِلَتْهُ قرأ حمزة والكسائي وابو بكر «وخلف- ابو محمد» عملت بغير هاء أيديهم عطف على ثمره وما موصولة والمراد ما يتخذ منه كالعصير والدبس ونحوهما وقيل ما نافية والمراد ان الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ويؤيد الاول قراءة الكوفيين بلا هاء فان حذفه من الصلة احسن عن غيرها أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أينكرون انعام الله فلا يشكرون وحيث كان إنكارا على ترك فهو امر بالشكر.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ اى الأنواع والأصناف كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات والشجر وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ اى الذكر والأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) اى ما خلق الله فى البحر والبر ولم يطلع عليها أحدا-.
وَآيَةٌ لَهُمُ على قدرتنا اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ اى ننزع ونكشط وذلك ان الأصل هى الظلمة والنهار داخل عليها بطلوع الشمس فاذا غربت فكانّه سلخ النهار من الليل وظهرت الظلمة فانسلخ هاهنا مستعار من سلخ الجلد- والكلام فى إعرابه مثل ما سبق فى قوله تعالى اية لّهم الأرض الميتة فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) عطف على نسلخ منه النّهار فغاصوا وقت كونهم داخلين فى الظلمة يعنى يذهب بالنهار ويجئ بالليل.
وَالشَّمْسُ عطف على الليل تَجْرِي فى فلكها مثل جرى الحوت فى الماء صفة للشمس بناء على تنكيره او مبتدا وخبر والجملة معترضة لبيان سبب وجود الليل والنهار(8/82)
لِمُسْتَقَرٍّ لَها مصدر ميمى او ظرف يعنى تجرى لاستقرار لها على نهج مخصوص او لموضع استقرارها وهى منتهى دورها تشبهت بالمسافر إذا قطع مسيره او مستقرها كبد السماء قبيل الزوال فان حركتها توجد ابطا بحيث يظن ان لها هناك وقفة او مستقرها نهاية ارتفاعها فى السماء فى الصيف ونهاية هبوطها فى الشتاء او لمنتهى مقدر بكل يوم من المشارق والمغارب فان لها فى دورها ثلث مائة وخمسا وستين مشرقا ومغربا تطلع كل يوم من مطلع وتغرب فى مغرب ثم لا تعود إليهما الى العام القابل او لمنقطع جريها عند خراب الدنيا وهذه التأويلات كلها مبنية على انها فى ظاهر الحال لا تستقر فى وقت من الأوقات ويدل عليه قراءة ابن مسعود ما رواه البغوي عن عمر بن دينار عن ابن عباس انه قرأ والشّمس تجرى لا مستقرّ لها لكن ورد فى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال مستقرها تحت العرش- رواه البخاري فى الصحيح وروى البغوي عن ابى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال حين غربت الشمس أتدري اين تذهب هذه قلت الله ورسوله اعلم قال فانها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك ان تسجد ولا تقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ويقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى والشّمس تجرى لمستقرّ لّها قال مستقرها تحت العرش- متفق عليه ومعنى الحديث والله اعلم ان الشمس بعد غروبها قبل طلوعها تسجد تحت العرش فيؤذن لها فى الطلوع من جانب المشرق فتطلع ويوشك ان لا يؤذن لها بالطلوع من المشرق بل يؤذن لها بالطلوع من المغرب فحينئذ تطلع من مغربها وهى اية من آيات الساعة- لا يقال ان مقدار الليل من وقت غروبها الى طلوعها يتفاوت بتفاوت الأقاليم حتى ان تحت القطب الشمالي من وراء بلغار إذا كانت الشمس عند رأس السرطان يكون الليل بحيث لا يكون هناك وقت العشاء بل بعد غروب الشمس إذا غاب الشفق من جانب طلع الصبح من جانب فاىّ وقت يتصور فيه الشمس ذاهبة تحت العرش ساجدة قلت ليس المراد ان الشمس تدوم ساجدة من وقت غروبها الى وقت طلوعها فجاز ان يكون وقت من الأوقات يكون ظلمة الليل شاملة لجميع الأقاليم وذلك عند منصفها وحينئذ يذهب الملائكة الموكلون(8/83)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
على الشمس بها الى تحت العرش فتخر هناك ساجدة ثم يؤذن لها بالطلوع واختلاف مقدار الليل باختلاف الأقاليم انما يتعلق باختلاف مبدء الليل ومنتهاه والله اعلم والقول بان الحديث من المتشابهات او ان المراد بالسجود هو الانقياد او نحو ذلك يأباه سياق الحديث ذلِكَ الجري على هذا التقدير المتضمن للحكمة التي يكل الفطن عن إحصائها تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كل مقدور الْعَلِيمِ (38) المحيط علمه بكل معلوم..
وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ اى قدرنا مسيره مَنازِلَ او قدرنا سيره فى منازله قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو «وروع- ابو محمد» والقمر بالرفع على انه معطوف على الشمس يعنى اية لهم الليل واية لهم الشمس واية لهم القمر والجملة الواقعة بعدها كالجملة الواقعة بعد الشمس وقرأ الباقون بالنصب بإضمار فعل فسره بقوله قدّرناه منازل- وهى ثمانية وعشرون منزلا- ينزل كل ليلة فى واحدة منها لا يتخطئه ولا يتقاصر عنه فاذا كان فى اخر منازله دقّ واستقوس حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اى الشمراخ المعوج فعلون من الانعراج بمعنى الاعوجاج الْقَدِيمِ (3) العتيق قيل ما مر عليه حول فصاعدا ثم يكون القمر تحت شعاع الشمس فى المحاق.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها اى يصح لها ويتيسر أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ قال البيضاوي اى فى سرعة سيره وهذا مبنى على ما قالت الفلاسفة ان القمر اسرع سيرا من الشمس فان دورها يتم فى شهر ودور الشمس يتم فى سنة وعندى الأمر بالعكس كما سنبين ان شاء الله تعالى فالاولى ان لا يقيد السير بالسرعة بل يقال الشمس لا تدرك القمر فى سيره المخصوص حتى يتحد سيدهما فان ذلك يخل بتكون النباتات وتعيش الحيوانات او فى اثاره ومنافعه او مكانه بالنزول الى محله او سلطانه فتطمس نوره قلت وجاز ان يكون المراد بالشمس النهار وبالقمر الليل وهذا يستقيم المقابلة يعنى لا ينبغى للنهار ان يدرك الليل اى يسبقها وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ اى هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجئ أحدهما قبل وقته كذا تستفاد من كلام البغوي وَكُلٌّ التنوين عوض المضاف(8/84)
اليه اى كل واحد منهما وقال البيضاوي تقديره كلهم والضمير للشموس والأقمار فان اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما فى الذات ولو بالاعتبار او الى الكواكب فان ذكرهما مشعر بها فِي فَلَكٍ واحد من الافلاك وهى السماء الدنيا بدليل قوله تعالى انّا زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح يَسْبَحُونَ (40) كما يسبح السمك فى الماء.
وهذا صريح فى ان الشمس والقمر والكواكب سائرة فى الفلك بقسر قاسر من الملائكة او بالارادة لا انها مرتكزة فى السماء كالمسامير لا تتحرك الا بتحرك السماء حركة وضعية كما يقول به الفلاسفة بناء على ان السباحة يستلزم الخرق والالتيام وزعموا انه محال فاستدلوا بتعدد الحركات للكواكب على تعدد السماوات على حسب تعدد الحركات فقالوا السماوات تسعة كلها منطبقة بعضها على بعض مثل قشور البصل وقالوا السماء التاسع الذي هو حاد للجميع يتحرك من المشرق الى المغرب على منطقة وقطبين بحيث يتم دائرة سيره فى كل يوم وليلة مرة تقريبا وسائر.... السماوات تسير بسيره قسرا ولكل منها حركة بالطبع من المغرب الى المشرق على منطقة اخرى وقطبين آخرين ويحصل التقاطع بين الاقطاب الاربعة قطبى فلك الثوابت وقطبى فلك الافلاك والشمس يلازم لمنطقة فلك الثوابت وينقسم منطقة فلك الثوابت الى اثنى عشر حصة يسمون كل حصة منها برجا ويسمون ذلك الفلك فلك البروج قالوا ذلك لمّا راوا ان الكوكب لا يتم دائرة سيرها فى يوم وليلة- ولما راوا ان الكواكب كلها غير السبعة التي يسمونها سيارات لا يختلف نسبة بعضها مع بعض قط وان سيرها ينقص من الدائرة فى اليوم والليلة قليلا غاية القلة جدا حكموا بان كلها مرتكزة فى فلك واحد وهى السماء الثامنة فلك البروج وان سيرها كان لا سير ولذا سموها ثوابت وفلكها فلك الثوابت ولمّا راوا السبعة ينقص سيرها فى اليوم والليلة من الدائرة نقصانا ظاهرا بحيث يرون القمر يسير فى ثلاثين يوما او تسعة وعشرين دائرة والشمس تسير فى ثلاث مائة وخمس وستين يوما ثلاث مائة وأربعا وستين دائرة وهكذا ان أفلاكها سبعة كلها سائرة من المغرب الى المشرق ولاجل ذلك يرى سيرها فى اليوم والليلة ناقصة من الدائرة وكلما راوا(8/85)
نقصان سيرها من الدائرة أزيد حكموا بكون سيرها اسرع فقالوا فلك القمر اسرع سيرا فان سيرها الى المشرق بقطع الدائرة فى شهر وفلك الشمس يقطع فى سنة ثلاث مائة وخمس وستين يوما وهكذا حكموا فى سائر السيارات- ولمّا راوا خمسا من الكواكب العطارد والزهرة والمشترى والمريخ والزحل تارة سيرها أزيد من دائرة وتارة انقص من دائرة وتارة سيرها دائرة تامة لا زائد ولا ناقص سموها خمسة متحيرة واثبتوا لها تدويرات سير أعلاها يخالف سيرا سفلها كل ذلك بيّن فى علم الهيئة ولمّا دلّت النصوص القطعية على ان عدد السماوات سبع لا مزيد عليها بحيث يكفر جاحدها وعلى جواز الخرق والالتيام على الافلاك بحيث يكفر جاحدها ايضا بل على وقوعها حيث قال الله تعالى إذ السّماء انشقّت إذا السّماء انفطرت وانشقّ القمر ونحو ذلك- ودلت الأحاديث الصحيحة على ان السّماوات غير منطبقة ببعضها على بعضها بل بين كل منها مسافة بعيدة بحيث يفسق جاحدها روى احمد والترمذي عن ابى هريرة مرفوعا حديثا طويلا وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بين الأرض والسّماء وبين كل سماءين خمس مائة سنة وروى الترمذي وابو داود عن العباس بن عبد المطلب مرفوعا حديثا طويلا ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما بين الأرض والسماء وبين كل سمائين اما واحدة واما اثنتان او ثلاث وسبعون سنة ولعل اختلاف ذلك باعتبار اختلاف سير السائرين سرعة وبطئا وجب القول ببطلان علم الهيئة وبان من اعتقدها يخاف عليه الكفر بالكتاب والسنة وإذا ظهر جواز الخرق والالتيام فى السماوات لا مانع من ان يقال ان الكواكب كلها فى السماء الدنيا كما ينطق به قوله تعالى وزيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وان كلا منها فى فلك يسبحون وان سير أكثرها على مقدار واحد قريبا من الدائرة التامة وسير سبعة فيها على مقادير مختلفة على حسب ما يرى ولا مانع من القول بان الخمسة تارة يسير زائدا وتارة ناقصا على حسب ارادة الله تعالى وهى الخنس الجواري الكنس والله اعلم بحقيقة الحال.(8/86)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ اهل المدينة والشام ويعقوب ذرّيّاتهم بالجمع وكسر التاء والباقون ذرّيّتهم على الافراد بفتح التاء فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) اى المملو الظاهر ان المراد بالذرية أولادهم الذين يتبعونهم الى تجاراتهم او صبيانهم ونساؤهم الذين يستصحبونهم فان الذرية يطلق عليهن لانهن توارعها ورد فى الحديث انه صلى الله عليه وسلم راى امراة مقتولة فقال ما كانت هذه تقاتل الحق خالدا فقل له لا تقتل ذرية ولا عسيفا- «العسيف الأجير او العبد منه ره» والمراد بالذرية فى هذا الحديث النساء لاجل الامرأة المقتولة وفى حديث عمر حجوا بالذرية لا تأكلوا أرزاقها وتذروا ارباقها «1» فى أعناقها اى حجوا بالنساء كذا فى النهاية والمراد بالفلك السفائن الصغار والكبار وتخصيص الذرية بالذكر لان استقرارهم فى السفن أشق وتماسكهم فيها اعجب وقال البغوي المراد به سفينة نوح عليه السلام والمراد بالذرية الآباء واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد وقال البيضاوي على تقدير ان يراد بالفلك سفينة نوح عليه السلام معنى الاية ان الله تعالى حمل آباءهم وحملهم وذريتهم فى أصلابهم وتخصيص الذرية بالذكر لانها بلغ فى الامتنان وادخل فى التعجب مع الإيجاز.
وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ اى مثل الفلك مطلقا او مثل فلك نوح ما يَرْكَبُونَ (42) من الإبل فانها سفائن البر او من الفلك والسفن والرواق على هيئة سفينة نوح.
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ مع اتخاذ السفائن فَلا صَرِيخَ لَهُمْ جزاء لشرط محذوف تقديره وان نغرقهم فلا صريخ اى لا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق او فلا استغاثة كقولهم أتاهم الصريخ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) عطف على لا صريخ لهم اى لا ينجون من الغرق قال ابن عباس ولا أحد ينقذهم من عذابى.
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً استثناء مفرغ منصوب على العلية اى لا ينقذون لشئ الا لرحمة منا ولتمتيع إِلى حِينٍ (44) اى زمان قدّر لاجالهم..
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ قال ابن عباس ما بين ايديكم يعنى الاخرة فاعملوا لها وما خلفكم يعنى الدنيا فاحذروها ولا تغتروا وقيل ما بين ايديكم يعنى وقائع الله فيما قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الاخرة وهو قول قتادة وقيل المراد به نوازل السماء ونوائب الأرض كقوله تعالى او لم يروا الى ما بين أيديهم وما خلفهم من السّماء والأرض وقيل المراد به عذاب الدنيا وعذاب الاخرة وقيل عكسه وقيل ما تقدم من الذنوب وما تأخر
__________
(1) ؟؟؟ أريد فريضة حج كه مثل ارباق است يعنى قلادها كه در گردن آنهاست يعنى واجب است منه رحمه الله.(8/87)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) اى لتكونوا راجين رحمة الله وجواب إذا محذوف تقديره إذا قيل لهم اتقوا اعرضوا بقرينة قوله تعالى.
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ من الاولى زائدة لتأكيد النفي والثانية للتبعيض إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) استثناء مفرغ مثل قوله الّا كانوا به يستهزءون هذه الاية فى مقام التعليل لما سبق يعنى إذا قيل لهم اتّقوا اعرضوا لانهم اعتادوه وتمرنوه والجملة الشرطية اعنى قوله وإذا قيل لهم مع ما عطف عليه اعنى وما تأتيهم من اية عطف على قوله وما يأتيهم من رّسول.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ عطف على الشرطية السابقة يعنى كان المؤمنون يقولون لكفار مكة أَنْفِقُوا على المساكين مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الأموال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وضع المظهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بكفرهم لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ يعنى ان الله لم يرزقهم مع قدرته عليه فنحن نوافق مشية الله فلا نطعمهم (قيل قاله مشركوا قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين أخرجه ابن ابى حاتم عن الحسن وعبد بن حميد وابن المنذر عن إسماعيل بن خالد) وهذا قول باطل فان الله تعالى اغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وامر الغنىّ بالإنفاق لا حاجة الى ما لهم ولكن ليبلو الغنى بالفقير فيما فرض له فى مال الغنى ولا اعتراض لاحد على مشية الله وحكمه فى خلقه ولا يدرك العقول كل حكمة فى أفعاله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) حيث أمرتمونا ما يخالف مشية الله ويجوز ان يكون جوابا لهم من الله تعالى او حكاية لجواب المؤمنين لهم..
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ اى القيامة والبعث عطف على الشرطية السابقة استفهام استبطاء إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) فى الاخبار بإتيانه جواب الشرط محذوف يعنى فانبئونا عن وقت إتيانه خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
ما يَنْظُرُونَ حال من فاعل يقولون يعنى يقولون ذلك فى حال ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً استثناء مفرغ منصوب على المفعولية قال ابن عباس يريد به النفخة الاولى فان قيل ان الكفار لم يكونوا يعتقدون النفخة فكيف ينتظرونها قلنا هذه الاية كناية عن عدم تركهم المعاصي(8/88)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
ابدا حتى يموتون او تأتيهم السّاعة بغتة وهم لا يشعرون فانهم لمّا لم ينتهوا عمّا نهوا عنه قبل ذلك فكانّهم ينتظرون لاجل ترك المعاصي صيحة الصعق تَأْخُذُهُمْ صفة لصيحة واحدة والضمير راجع الى الناس المفهوم مما سبق وكذا كل ضمير بعده وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) حال من الضمير المنصوب فى تأخذهم اى يختصمون فى امور الدنيا من متاجرهم ومعاملاتهم لا يخطر ببالهم شىء من إتيانها- أصله يختصمون فسكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين على قراءة عاصم وابن ذكوان والكسائي «ويعقوب وخلف- ابو محمد» وقرأ ابن كثير وورش وهشام ويعقوب «لا بل هو مع عاصم ومن معه ابو محمد» بفتح الخاء بنقل حركت التاء الى الخاء والإدغام وقرأ قالون وابو عمرو باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد وقرأ قالون ايضا وابو جعفر بإسكان الخاء «مع تشديد الصاد- ابو محمد» كانهما جوّزا التقاء الساكنين إذا كان الثاني مدغما. اخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقومنّ «قرأ حمزة بإسكان الخاء وتخفيف الصاد- ابو محمد» الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته الى فيه فلا يطعمها واخرج الفريابي عنه فى هذه الاية قال تقوم الساعة والناس فى أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح وفى حوائجهم.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ عطف على تأخذهم ورابط الموصوف محذوف تقديره فلا يستطيعون بعدها والفاء للسببية تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (51) واخرج عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد عن الزبير بن العوام قال ان الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ثم قرا فلا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون يعنى لا يقدرون على ان يوصوا فى شىء من أمورهم ولا ان يرجعوا الى أهلهم فيروا حالهم بل يموتون حيث يسمعون الصيحة-.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ اى ينفخ ذكر صيغة الماضي لتيقن وقوعه عطف على مضمون فلا يستطيعون يعنى يموتون من ساعتهم وينفخ فى الصور مرة ثانية وبين النفختين أربعون سنة كذا روى ابن ابى حاتم عن ابن عباس وفى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عاما قال أبيت الحديث. وروى ابن ابى داود(8/89)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
عن ابى هريرة حديثا مرفوعا وفيه بين النفختين أربعون عاما فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ جمع جدث وهو القبر إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) اى يخرجون والنسل فى الأصل الانفصال عن الشيء يقال نسل الوبر من البعير ومنه يقال للولد النسل لانفصاله عن والده وقيل معناه يسرعون فى القاموس الماشي ينسل بضم العين وكسره نسلا ونسيلا ونسلانا يسرع.
قالُوا يعنى يقول الكفار حين يبعثهم أورد لفظ الماضي لتيقن وقوعه يا وَيْلَنا؟؟؟ دون الويل يعنى يا ويل احضر فان هذا أوانك او يقال ان المنادى محذوف تقديره يا ايها المخاطب ويلنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه منصوب بفعل مقدر فى معناه قال فى القاموس معناه حلول الشر وقال بعض المحققين لم يرد فى اللغة ان ويلا وضع لهذا المعنى بل هو اسم لواد فى جهنم لما روى احمد والترمذي وابن جرير وابن ابى حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي وابن ابى الدنيا وهناد عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انه قال ويل واد فى جهنم يهوى به الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره- وروى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال الويل واد فى جهنم يسيل من صديد اهل النار جعل للمكذبين- واخرج ابن جرير عن عثمان بن عفان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الويل جبل فى النار- واخرج البزار بسند ضعيف عن سعد بن ابى وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فى النار حجرا يقال له ويل يصعد عليه العرفاء وينزلون مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا سكت حفص هاهنا سكتة لطيفة والوقف عليها عند غيره احسن قال ابن عباس وقتادة انما يقولون هذا لان الله يرفع العذاب عنهم بين النفختين فيوقدون فاذا بعثوا بعد النفخة الاخرة عاينوا القيامة ودعوا بالويل وقول ابن عباس هذا دفع لما قالت المعتزلة ان هذه الاية تدل على نفى عذاب القبر فانها تدل على انهم كانوا كالنيام وقال اهل المعاني ان الكفار إذا عاينوا جهنم بانواع عذابها صارت عذاب القبر فى جنبها كالنوم فقالوا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) مبتدا وخبر وما مصدرية بمعنى المفعول او موصولة والرابط محذوف يعنى هذا ما وعد به(8/90)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
الرّحمن وصدق فيه المرسلون وجاز ان يكون صدق المرسلون جملة مستأنفة معطوفة على جملة فهذا اقرار منهم حين لا ينفعهم الإقرار وقيل هذا قول الملائكة جوابا لهم وقال مجاهد هذا قول المؤمنين فى جوابهم وانما عدل عن سنن الجواب تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه وتنبيها بان الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كانّهم قالوا بعثكم الرحمان الذي وعدكم بالبعث وأرسل إليكم الرسل فصدقوكم وليس الأمر كما تظنون انه بعث النائم فيهكم السؤال عن الباعث بل هو البعث الأكبر ذو الأهوال وجاز ان يكون هذا صفة لمرقدنا وما وعد خبر محذوف او مبتدا خبره محذوف يعنى ما وعد الرّحمان حق وصدق المرسلون وعلى هذا التأويل لا يلايم السكتة او الوقف على مرقدنا.
إِنْ كانَتْ اى ما كانت الفعلة فى بعثهم إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هى النفخة الاخيرة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ اى مجموعون لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) خبر بعد خبر وفى ذلك تهوين لامر البعث والحشر واستغنائهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) حكاية لما يقال لهم تصويرا للموعود وتمكينا له فى النفوس وكذا قوله-.
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ قرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو بسكون الغين والباقون بضمها وهما لغتان مثل السّحت والسّحت- واختلفوا فى معنى الشغل قال ابن عباس فى افتضاض الابكار وقال وكيع بن الجراح فى السّماع وقال الكلبي فى شغل عن اهل النار وعمّا هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم وقال الحسن شغلوا بما فى الجنة من النعيم عمّا فيه اهل النار من العذاب وقال ابن كيسان فى زيارة بعضهم بعضا وفى ضيافة الله تعالى والاولى ان يقال فى شغل ما يشتهونه؟؟؟
العلية الذين لا مقصود لهم الا الله تعالى شغلهم الانهماك والاستغراق فى التجليات الذاتية على حسب مدارجهم وغيرهم كان شغلهم بالسماع والرياح والاكل والشرب والجماع على حسب شهواتهم ورغباتهم- اخرج ابو نعيم عن شيخ طريقتنا ابى يزيد البسطامي انه قال ان لله خواصا من عباده لو حجبهم فى الجنة عن رؤيته لاستغاثوا كما يستغيث اهل النار(8/91)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
بالخروج من النار- وفى تنكير شغل وإبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة والتلذذ وتنبيه على انه أعلى ممّا يحيط به الافهام ويعرب عن كنهه الكلام فاكِهُونَ (55) خبر بعد خبر لان قرأ ابو جعفر فكهون بغير الف حيث كان ووافق حفص فى المطففين وفيه مبالغة والباقون بألف وهما لغتان مثل الحاذر والحذر يعنى ناعمون متلذذون فى النعمة من الفكاهة وقال مجاهد والضحاك معجبون بما هم فيه وعن ابن عباس قال هم فرحون.
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ قرأ حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» ظلل بغير الف جمع ظلّة والباقون ظلال بالألف وكسر الظاء جمع ظلّ وهو موضع الذي لا يقع عليه الشمس كشعاب او ظلة وهو ما يسترك عن الشمس كقباب عَلَى الْأَرائِكِ يعنى السرر فى الحجال واحدتها اريكة قال البغوي قال ثعلب لا يكون اريكة حتى يكون عليها حجلة واخرج البيهقي عن ابن عباس قال لا يكون اريكة حتى يكون السرير فى الحجلة فان كان السرير بغير حجلة لا يكون اريكة وان كان حجلة بغير سرير لا يكون اريكة فاذا اجتمعا كانت اريكة واخرج البيهقي عن مجاهد قال الأرائك من لؤلؤ وياقوت الجار والمجرور متعلق بقوله مُتَّكِؤُنَ (56) هم مبتدا خبره فى ظلل وعلى الأرائك جملة مستأنفة او خبر ثان او الخبر متّكؤن والجار ان صلة له او هم تأكيد للضمير فى شغل او فاكهون وعلى الأرائك متّكؤن خبر آخر لانّ- وأزواجهم عطف على هم للمشاركة فى الاحكام او فى ظلال حال من المعطوف والمعطوف عليه-.
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) اى ما يطلبون لانفسهم يفتعنون من الدّعاء او يتمنون من قولهم ادّع علىّ ما شئت بمعنى منّه علىّ او ما يدّعون في الدنيا من الجنة ودرجاتها وما موصولة او موصوفة مبتدا وخبرها لهم.
سَلامٌ بدل منها ويجوز ان يكون خبرا لهم او اخبر المحذوف اى هم سلام او مبتدا محذوف الخبر اى لهم سلام قَوْلًا يعنى يقول الله قولا او يقال لهم قولا كائنا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) والمعنى ان الله يسلّم عليهم بواسطة الملائكة او بغير واسطة تعظيما لهم وذلك مطلوبهم ومقناهم ويحتمل نصبه على الاختصاص اخرج ابن ماجة(8/92)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
وابن ابى الدنيا والدار قطنى والآجري عن جابر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم بينا اهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فاذ الرب تبارك وتعالى قد اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا اهل الجنة وذلك قوله تعالى سلام قولا من ربّ رّحيم فقال فينظر إليهم وينظرون اليه فلا يلتفتون الى شىء من النعيم ما داموا ينظرون اليه حتى يحجب عنهم ويبقى نوره وبركته فى ديارهم قال السيوطي اشرافه سبحانه واطلاعه منزه عن المكان والحلول قال البغوي يسلم عليهم الملائكة من ربهم وقال مقاتل يدخل الملائكة على الجنة من كل باب سلام عليكم يا اهل الجنة من ربكم الرحيم يعطيهم السلامة اسلموا السلامة الابدية-.
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) قال مقاتل والسديّ والزجاج يعنى اعتزلوا من الصالحين يعنى يساق المؤمنون الى الجنة والمجرمون الى النار عطف على مضمون ما سبق. وقال الضحاك ان لكل كافر فى النار بيتا يدخل ذلك البيت ويردم بابه بالنار فيكون فيه ابد الآبدين لا يرى ولا يرى- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابن ابى الدنيا والبيهقي عن مسعود قال إذا القى فى النار من هو مخلد فيها جعلوا فى توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت فى توابيت من حديد ثم قذفوا فى أسفل الجحيم فما يرى أحدهم انه يعذب غيره- واخرج ابو نعيم والبيهقي عن سويد بن عفلة نحوه.
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ الم آمركم على لسان المرسلين استفهام للانكار وانكار النفي اثبات يعنى قد عهدتّ إليكم والجملة فى مقام التعليل لتميزهم من المؤمنين يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ اى لا تطيعوه فى معصية الله ان مفسرة للعهد فانه فى معنى القول إِنَّهُ اى الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) ظاهر العداوة تعليل للمنع عن طاعته فيما يحملهم عليه.
وَأَنِ اعْبُدُونِي عطف على او لا تعبدوا هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) اشارة الى ما عهد إليهم او الى عبادته تعالى والجملة استيناف لبيان المقتضى للعهد بشقيه او بالشق الأخير والتنكير للمبالغة والتعظيم او للتبعيض فان التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.
وَلَقَدْ أَضَلَّ الشيطان مِنْكُمْ جِبِلًّا قرأ أهل المدينة وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ويعقوب بضم الجيم والباء وتشديد اللام(8/93)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
وابن عامر وابو عمرو بضم الجيم وسكون الباء «وتخفيف الباء ابو محمد» والباقون بضم الجيم والباء بغير تشديد وكلها لغات ومعناها الخلق والجماعة اى خلقا كَثِيراً جواب قسم محذوف رجوع الى بيان معادات الشيطان وظهور عداوته ووضوح إضلاله لمن له ادنى عقل فانه انما يأمر بالفحشاء والمنكر وترك عبادة الخالق الرازق الضارّ النافع الى عبادة من لا يضر ولا ينفع وترك اتباع النبي الناصح المؤيد بالمعجزات الى اتباع هوى النفس أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) عداوته مع وضوحها الاستفهام للتوبيخ وجملة ولقد أضل معترضة للتوبيخ ويقال لهم لما دنوا من النار.
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا ادخلوها وذوقوا حرها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) اى بكفركم فى الدنيا.
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) جملة فيها التفات من الخطاب الى الغيبة اخرج مسلم عن انس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال هل تدرون فيما اضحك قلنا الله ورسوله اعلم قال من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب الم تجرنى من الظلم فيقول بلى فيقول فانى لا أجيز على نفسى الا بشاهد منى فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لاركانه انطقى فينطق بأعماله ثم يخلّى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ اناصل «أجادل منه» . واخرج مسلم عن ابى هريرة قال قالوا يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة قال هل تضارّون فى روية الشمس فى الظهيرة ليست فى سحابة قالوا لا قال فهل تضارون فى رؤية القمر ليلة البدر ليست فى سحابة قالوا لا قال فو الذي نفسى بيده لا تضارّون فى رؤية ربكم الا كما تضارّون فى رؤية اجرهما فياتى العبد فيقول اى فلان الم أكرمك الم اسودك «اى جعلتك سيدا- منه ره» الم أزوجك الم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتراس «اى تكون راسا على قومك- منه ره» وتربغ «1» قال بلى يا رب فيقول أظننت انك ملاقى فيقول لا فيقول انى أنساك كما نسيتنى ثم يلقى الثاني فيقول له مثل ذلك ويقول هو مثل ذلك ثم يلقى الثالث
__________
(1) اى تأخذ اربع مما يحصل لهم من الغانم والكب وكان ذلك عادة الأمر او فى الجاهلية. منه رحمه الله(8/94)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
فيقول له مثل ذلك فيقول امنت بك وبكتابك وبرسولك وصلّيت وصمت وتصدقت ويثنى ما استطاع فيقال أفنبعث عليك شاهدا فيتفكر فى نفسه من ذا الذي يشهد على فيختم على فيه ويقول لفخذه انطقى فتنطق فخذه ولحمه وعظمه بعمله ما كا ذلك قال وذلك المنافق وذلك بعذر عن نفسه وذلك الذي سخط الله عليه- واخرج احمد بسند جيد والطبراني عن عقبة بن عامر مرفوعا ان أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجر الشمال- وفي حديث معاوية بن حيدة عند احمد والنسائي والحاكم والبيهقي قال تجيئون يوم القيامة على أفواهكم الغلام فاول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه واخرج ابن جرير وابن الى حاتم عن ابى موسى الأشعري قال يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف فيقول اى رب عملت عملت فيغفر الله ذنوبه وليستره فيها قال فما على الأرض حليقة يرى من تلك الذنوب شيئا وتبدو حسناته والناس كلهم يرونها ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيحجده ويقول اى ربّ وعزتك كتب علىّ هذا الملك ما لم اعمل فيقول له عملت كذا فى يوم كذا فى مكان كذا فيقول لا وعزتك فاذا فعل ذلك ختم على فيه- قال ابو موسى فانى احسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم نختم على أفواههم الاية- اخرج ابو يعلى والحاكم وصححه عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال إذا كان يوم القيامة غير الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقال أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقال احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله تعالى ويشهد عليهم ألسنتهم فيدخلهم النار.
وَلَوْ نَشاءُ يعنى ولو شئنا طمس أعينهم لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ اى أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق وهو معنى الطمس فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ عطف على طمسنا اى الى الطريق اعتادوا سلوكهم وانتصابه بنزع الخافض او بتضمين الاستباق معنى الابتداء او جعل المسبوق اليه مسبوقا على الاتساع او على الظرفية فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) الفاء للسببية والاستفهام للانكار يعنى فكيف يبصرون(8/95)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
الطريق حينئذ اى لا يبصرون بسبب الطمس قال البغوي هذا قول الحسن والسدّى وقال ابن عباس وقتادة ومقاتل وعطاء ولو نشآء لفقانا أعين ضلالتهم فاعميناهم عن غيّهم وحولنا أبصارهم من الضلالة الى الهدى ابصر وارشدهم يعنى لم نشأ ذلك فانى يبصرون رشدهم.
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ قرأ ابو بكر مكاناتهم بصيغة الجمع والباقون بالإفراد يعنى ولو شئنا لجعلناهم قردة وخنازير فى منازلهم وقيل يعنى لو شئنا لجعلناهم حجارة وهم قعود فى منازلهم لا أرواح لهم فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا اى ذهابا وَلا يَرْجِعُونَ (67) اى ولا رجوعا وضع الفعل موضعه للفواصل- وقيل ولا يرجعون عن تكذيبهم الى التصديق ومعنى هذه الاية والاية السابقة على تأويل الحسن انهم لكفرهم ونقضهم العهد أحقاء ان يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم فى الدنيا واقتضاء الحكمة إمهالهم-.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ اى من نطل عمره نُنَكِّسْهُ قرأ عاصم وحمزة بضم النون الاولى وفتح الثانية وكسر الكاف والتشديد من التنكيس والباقون بفتح النون الاولى وسكون الثانية وضم الكاف مخففا من المجرد والتنكيس ابلغ والنكس أشهر ومعناه نقلبه فِي الْخَلْقِ يعنى كان فى بدو الأمر لا يزال يتزايد قوة ونجعله فى الاخر بحيث لا يزال يتزايد ضعفا حتى يموت أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) عطف على مضمون الشرطية السابقة والاستفهام للانكار يعنى ينبغى ان يعقلوا ويعلموا ان من قدر على ذلك قدر على الطمس والمسخ فانه مشتمل عليهما وزيادة غير انه على تدرج قرأ نافع «ابو جعفر ويعقوب وابو محمد» وابن ذكوان بالتاء على الخطاب لجرى الخطاب قبله فى قوله الم اعهد إليكم والباقون بالياء على الغيبة جريا على قوله لو نشآء لمسخناهم- قال البغوي قال الكلبي ان كفار مكة قالوا ان محمدا شاعر وما تقوله شعر فانزل الله تعالى.
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ عطف على قوله انّك لمن المرسلين وفيه التفات من الخطاب الى الغيبة يعنى ما علّمناه الشّعر بتعليم القرآن فانه غير مقفى ولا موزون وليس معناه مثل معنى الاشعار من التخيلات المرغبة والمنفرة والأقوال الكاذبة(8/96)
وَما يَنْبَغِي لَهُ اى ما يصح له ان يضيع وقته الشريف فى إنشاء الشعر ورعاية الوزن والقافية- واما ما روى الشيخان فى الصحيحين من حديث البراء بن عازب قوله صلى الله عليه وسلم انا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ومن حديث جندب بن ابى سفيان هل أنت الا إصبع دميت- وفى سبيل الله ما لقيت- فاتفاقى من غير تكلف وتصنع وقعت لغير قصد منه الى ذلك ومثله لا يعد شاعرا وقد يقع مثله كثيرا فى تضاعيف المنثورات على ان الخليل ما عدّ المسطور من الرجز شعرا هذا وقد روى انه صلى الله عليه وسلم حرك الباءين من كذب وعبد المطلب وكسر التاء من دميت بلا إشباع وسكن التاء من لقيت وقال البغوي ما كان يتزين له بيت شعر حتى إذا تمثل بيت شعر جرى على لسانه منكسرا «1» روى البغوي عن الحسن ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا فقال ابو بكر يا نبى الله قال الشاعر كفى الشيب والإسلام بالمرء ناهيا فاعاد كالاول فقال ابو بكر اشهد انك رسول الله يقول الله عزّ وجلّ وما علّمناه الشّعر وما ينبغى له- وروى عن المقدام بن شريح عن أبيه قال قلت لعائشة رضى الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل شيئا من الشعر قالت كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت وربما قال ويأتيك الاخبار من لم تزودى. وقال معمر عن قتادة بلغني ان عائشة سئلت هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشئ من الشعر قالت كان الشعر ابغض الحديث اليه قالت ولم يتمثل بشئ من الشعر الا ببيت أخي بنى قيس بن طرف تبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزودى فجعل يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار قال ابو بكر ليس هكذا يا رسول الله فقال انى لست بشاعر وما ينبغى لي- وقيل الضمير للقرآن اى وما يصح للقرآن ان يكون شعرا إِنْ هُوَ اى القرآن إِلَّا ذِكْرٌ عظة وارشاد من الله تعالى وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) للفرائض والحدود والاحكام واخبار الغيب من الماضي والمستقبل التي لا يمكن إتيانها من الشاعر بل
__________
(1) وعن عبد الرحمان بن ابى الزناد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس ارايت قولك أصبح نهيى ونهب العبيد بين الاقراع وعيينه فقال ابو بكر بابى أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا راويه ولا ينبغى لك انما قال بين عيينة والأقرع- منه رحمه الله-(8/97)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
من أحد من البشر.
لِيُنْذِرَ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب «وابو جعفر- ابو محمد» بالتاء للخطاب اى لتنذر يا محمد بالقران وكذلك فى الأحقاف ووافق ابن كثير فى الأحقاف والباقون بالياء للغيبة متعلق بمضمون ما سبق يعنى أنزلنا القران وأرسلنا محمدا لينذر القران او الرسول مَنْ كانَ حَيًّا اى مؤمنا فانه حى القلب يعقل الأشياء على ما هى عليه وايضا الحيوة الابدية بالايمان وتخصيص الابدية لانه هو المنتفع به دون الكافر فانه كالميت لا ينتفع به ولا يدرك الحسن من القبيح يحسب عبادة الأحجار واتباع الشيطان حسنا وعبادة الخالق واتباع الرسول الناصح المؤيد بالمعجزات قبيحا فيكون فى الاخرة بحيث لا يموت ولا يحيى وللاشعار بانهم أموات فى الحقيقة جعلهم فى مقابلة من كان حيّا وقال وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عطف على لينذر اى ليجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (70) .
أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة لاستفهام الإنكار والواو للعطف على محذوف تقديره اينكرون البعث او اينكرون خلق الله ولم يروا يعنى قد راو وأقروا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ اى تولينا احداثه دون غيرنا لانتفاعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا اسناد العمل الى الأيدي استعارة تفيد مبالغة فى الاختصاص والتفرد بالأحداث أَنْعاماً خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) متملكون بتمليكنا إياهم او متمكنون من ضبطها والتصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم.
وَذَلَّلْناها اى سخرناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ اى مركوبهم يعنى الإبل وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) اى ما يأكلون لحمه.
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود والاصواف والأدبار والنسق له واستعمالها فى الحرث وغير ذلك وَمَشارِبُ من ألبانها جمع مشربة بمعنى الموضع او المصدر أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره اينكرون فلا يشكرون لابل يعترفونه ويكفرون كما يدل عليه قوله.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أشركوها به فى العبادة بعد ما راوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا انه المتفرد بها- عطف على مضمون خلقنا لهم يعنى أنعمنا عليهم وهم اتخذوا الهة غيرنا روى البيهقي والحكيم عن ابى الدرداء انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عزّ وجلّ انى والجن(8/98)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
والانس فى نبأ عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) حال من فاعل اتخذوا يعنى راجين ان ينصروهم فيما يهمّهم من الأمور- والأمر بالعكس لانها.
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ اى ان يمنعوهم من العذاب وَهُمْ اى الكفار لَهُمْ اى لالهتهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) معدون لحفظهم والذب عنهم فى الدنيا وهى لا يسوق إليهم خيرا ولا يدفنون عنهم شرّا وقيل معناه يؤتى يوم القيامة بكل معبود من دون الله ومعه أشياعه الذين عبدوهم كانهم جند محضرون فى النار- الجملة حال من فاعل لا يستطيعون.
فَلا يَحْزُنْكَ الفاء للسببية يعنى إذا سمعت الوعيد للكافرين فلا يحزنك قَوْلُهُمْ فى الله بالإلحاد وفيك بالتكذيب والتهجين إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من عداوتك والعقائد الباطلة وَما يُعْلِنُونَ (76) من الأعمال والأقوال الشنيعة فيجازيهم عليه وكفى ذلك ان تتلى به وجملة انا نعلم تعليل للنهى على الاستئناف- اخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال جاء العاص بن وائل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حامل محتة فقال يا محمد أيبعث هذا بعد ما ارى قال نعم يبعث الله هذا يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت.
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ يعنى العاص ابن وائل أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ الى اخر السورة واخرج ابن ابى حاتم من طرق عن مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدىّ والبيهقىّ فى شعب الايمان عن ابى مالك وكذا ذكر البغوي انها نزلت فى ابى بن خلف الجمحي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم فى انكار البعث وأتاه بعظم قد بلى ففتته بيده وقال اترى يحيى الله هذا بعد مادم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك فيدخلك النار فانزل الله تعالى هذه الاية الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره أينكر الإنسان قدرتنا على الاعادة ولم ير يعنى قد علم انّا خلقناه من نطفة فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ الفاء للعطف وإذا للمفاجاة يعنى خلقناه من نطفة ففاجا وقت خصامه مُبِينٌ (77) ظاهر انه مجادل بالباطل لا يريد تحقيق الحق لظهوره حيث يعلم ويعترف ببدو خلقه وينكر ما هو أهون منه وهو الاعادة وفيه تسلّية ثانية بتهوين ما يقول له بالنسبة الى انكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ حيث اتى الكفر فى مقابلة(8/99)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
النعمة التي لا مزيد عليه وهى خلقه من اخس شىء وامهنه شريفا مكرما وقيل معنى فاذا هو خصيم مبين فاذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميّز منطيق قادر على الخصام معرب عمّا فى نفسه وقيل فهو على مهانة أصله ودناءة اوله يتصدى مخاصمة ربه وينكر قدرته على احياء الميت وجملة او لم ير الإنسان الى آخره بدل من قوله او لم يروا انّا خلقنا لهم ممّا عملت أيدينا.
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا امرا عجيبا وهو نفى القدرة على احياء الموتى وتشبيهه بخلقه موصوفا بالعجز عمّا عجزوا عنه وَنَسِيَ خَلْقَهُ اى خلقنا إياه من منى وهو اغرب من احياء العظم قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) حال من العظام استئناف بيان للمثل والرميم ما بلى من العظام فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسما بالغلبة فلذلك لم يؤنث او بمعنى مفعول من رممته- قال البيضاوي فيه دليل على ان العظم ذو حيوة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء يعنى بذلك ان عظم الميتة نجس وبه قال الشافعي وكذا ذكر ابن الجوزي مذهب احمد فى التحقيق وذكر صاحب رحمة الامة ان الصحيح من مذهب احمد طهارة السنّ والريش والعظم احتج القائلون بنجاسة عظم الميتة بهذه الاية وبقوله صلى الله عليه وسلم لا ينتفع من الميتة بشئ- رواه ابو بكر الشامي بإسناده عن ابى الزبير عن جابر قال صاحب المغني وصاحب تنقيح التحقيق اسناده حسن ورواه ابن وهب فى مسنده عن زمعة بن صالح عن ابى الزبير عن جابر ولفظه لا تنتفعوا من الميتة بشئ ولا تنتفعوا بالميت قال صاحب التنقيح زمعة فيه كلام وللحديث علة ذكرها ابن معور وغيره قال صاحب الهداية شعر الميتة وعظمها لا حيوة فيهما يعنى فلا يحلهما الموت فلا يشتملهما الحديث الوارد فى النهى عن الانتفاع بالميتة ويرد على هذا القول هذه الاية فانها تدل على كون الحيوة فى العظم فالاولى ان يقال ان المنجس انما هو الدم المسفوح ولادم فى العظم والعصب والشعر وان كانت فيها حيوة ولهذا موت ما لا دم له سائلا من الحيوانات فى الماء لا يفسده عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل طعام او شراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوؤه. رواه الدار قطنى(8/100)
قال الدار قطنى لم يروه غير بقية عن سعيد بن سعيد الزبيدي وهو ضعيف وقال ابن عدى سعيد مجهول وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا وقع الذباب فى اناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فان فى أحد جناحيه شفاء وفى الاخر داء- رواه البخاري والحجة لنا حديث ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة فقال الا استمتعتم بجلدها فقالوا يا رسول الله انها ميتة قال انما حرم أكلها- متفق عليه وروى الدار قطنى عن ابن عباس انه قال انما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميتة لحمها واما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به- وفيه عبد الجبار بن مسلم قال الدار قطنى ضعيف لكن ذكره ابن حبان فى الثقات قال ابن همام لا ينزل الحديث عن الحسن والعجب من ابن الجوزي انه احتج بهذا الحديث على طهارة صوف الميتة وشعرها ولم يحتج بها على طهارة العظم واحتج على نجاسة العظم بحديث لا تنتفعوا من الميتة بشئ ولم يحتج بها على نجاسة الصوف والشعر والحق ان المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لا تنتفعوا من الميتة بشئ لا تنتفعوا من الميّت مما يؤكل لتنجسه باختلاط الدم المسفوح واما العظم والشعر والصوف مما لا يختلط بالدم فلا بأس به ولا بأس بالجلد بعد الدباغ وازالة الرطوبة وفى الباب أحاديث اخر منها ما روى الدار قطنى عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الا كل شىء من الميتة حلال الا ما أكل منها فاما الجلد والشعر والصوف والعظم فكل هذا حلال لانه لا يزكّى- وفيه ابو بكر الهذلي قال الدار قطنى متروك وقال غندر كذاب وقال يحيى وعلى ليس بشئ وروى الدار قطنى عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرونها إذا غسل بالماء- قال الدار قطنى لم يأت به غير يوسف بن السفر وهو متروك يكذب وقال ابو ذرعة والنسائي هو متروك وقال دحيم ليس بشئ وقال ابن حبان لا يحل الاحتجاج به بحال وروى ابن الجوزي من طريق ابى يعلى عن حميد الشامي عن سليمان عن ثوبان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى لفاطمة قلادة من
عصب وسوارين من عاج- قال ابن الجوزي الحديث لا يصح حميد و(8/101)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
سليمان مجهولان قال احمد لا اعرف حميدا وقال يحيى بن معين لا اعرف سليمان- وايضا المراد بالعاج الزبل قال ابن قتيبة ليس العاج هاهنا الذي يعرفه العامة ويخرطه من العظم والناب ذلك ميتة منهى عنه فكيف يتخذ لها منه سوارا انما العاج الزبل قال ذلك الأصمعي قال ابن همام قول الأصمعي ليس العاج الذي يعرفه العامة. يوهم انه ليس من اللغة وليس كذلك قال فى المحكم العاج أنياب الفيلة ولا يسمى غير الناب عاجا وقال الجوهري العاج عظم الفيل الواحد عاجة فتاويل الأصمعي انما هو لاعتقاده نجاسة عظم الفيل قال ويظهر من القاموس ان العاج مشترك فى الزبل وعظم الفيل وكذا يظهر من النهاية للجزرى والزبل جلد السّلحفاة البحرية او البرية او عظام ظهر دابة بحرية يتخذ منها الا سورة والا مغاط كذا فى القاموس- واخرج البيهقي عن بقية عن عمرو بن خالد عن قتادة عن انس انه صلى الله عليه وسلم كان يمتشط بمشط من عاج قال البيهقي ورواية بقية عن شيوخه المجهولين ضعيفة قال ابن همام فهذه عدة أحاديث لو كانت ضعيفة حسن المتن فكيف ومنها ما لا ينزل عن الحسن وله الشاهد الاول من الصحيحين والله اعلم..
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فان قدرته كما كان لامتناع التغير فيه والمادة على حالها فى القابلية اللازمة لذاتها جملة مستأنفة وقوله وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ اى مخلوق عَلِيمٌ (79) حال من فاعل يحيى اى يعلم تفاصيل المخلوقات وكيفية خلقها فيعلم اجزاء الاشخاص المتغيبة المتبددة أصولها وفصولها ومواقعها وطرق تميزها وضم بعضها الى بعض على النمط السابق وإعادة الاعراض والقوى التي كانت فيها او احداث مثلها.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً بدل من الّذى أنشأها او خبر مبتدا محذوف اى هو او منصوب على المدح بتقدير اعنى قال ابن عباس شجرتان يقال لاحداهما المرخ وللاخرى العفار فمن قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضروان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ على العفار يخرج منها النار يقول العرب فى كل شجر نار و؟؟؟ المرخ والعفار وقال العلماء فى كل شجر نار الا العناب(8/102)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) اى ففاجئتم وقت ايقادكم ولا تشكون فى انها نار خرجت منه فمن قدر على احداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته كان اقدر على إعادة العضاضة فيما كان عضا فيبس وبلى ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال.
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الاستفهام للانكار والعطف على محذوف تقديره اخلق السماوات والأرض كما تعترفون به وليس الذي خلقهما مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بِقادِرٍ قرأ يعقوب «اى رويس ابو محمد» يقدر على صيغة المضارع عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فى الصغر والحقارة بالاضافة إليهما او مثلهم فى اصول الذات وصفاتها وهو المعاد بَلى جواب من الله لتقرير ما بعد النفي اى هو قادر على ان يخلق مثلهم وَهُوَ الْخَلَّاقُ يخلق خلقا بعد خلق الْعَلِيمُ (81) بجميع الممكنات عطف على مضمون بلى.
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً ان يوجد أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) اى فهو يكون نصبه ابن عامر والكسائي عطفا على يقول- قال البيضاوي هو تمثيل لتأثير قدرته فى مراده تعالى بامر المطاع للمطيع فى حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار الى مزاولة عمل واستعمال فمعز الدولة قطعا لمادة الشبهة وهو قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق..
فَسُبْحانَ مصدر فعل محذوف والفاء للسببية يعنى إذا علمتم انه تعالى خلق الإنسان من نطفة وهو قادر على ان يحيى العظام وانه إذا أراد شيئا انما يقول له كن فيكون فسبحوا سبحان الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ اى الملك بمعنى القدرة زيدت الواو والتاء للمبالغة كُلِّ شَيْءٍ اى تنزيه له عما ضربوا وتعجيب عمّا قالوا فيه معللا بكونه مالكا للملك كله قادرا على كل شىء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) عطف على قوله بيده وفيه وعد للمقرين ووعيد للمنكرين.
عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا على موتاكم يس- رواه احمد وابو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وفى لفظ يس قلب القران لا يقرأها رجل يريد الله والدار الاخرة الا غفر له اقرءوها على موتاكم- وذكره الجزري فى الحصن(8/103)
الحصين بلفظ يس لا يقرأها رجل يريد الله والدار الاخرة الا غفر له اقرءوها على موتاكم.
وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لكل شىء قلبا وقلب القران يس من قرأ يس «1» كتب الله له بقراءتها قراءة القران عشر مرات- سنده ضعيف رواه الترمذي
__________
(1) وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ يس كل ليلة غفر له- رواه البيهقي بسند ضعيف وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرا يس فى ليلة أصبح مغفورا له- رواه ابو نعيم فى الحلية بسند ضعيف وعن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرا يس مرة فكانّما قرأ القران مرتين- رواه البيهقي بسند ضعيف وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ يس مرة فكانّما قرأ القران عشر مرات- رواه البيهقي بسند ضعيف وعن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ يس ابتغاء وجه الله غفر له ما تقدم من ذنبه فاقرءوها عند موتاكم- رواه البيهقي بسند ضعيف واخرج الطبراني من حديث انس من دوام على قراءة يس كل ليلة ثم مات مات شهيدا- واخرج الدارمي والطبراني من حديث ابى هريرة من قرأ يس ابتغاء وجه الله غفر له- اخرج الديلمي وابو الشيخ بن حبان فى فضائله من حديث ابى ذر ما من ميت يموت فيقرا عنده يس الا هوّن الله عليه- واخرج المحاملي فى اماليه من حديث عبد الله بن الزبير من جعل يس امام حاجته قضيت له- وله شاهد مرسل عند الدارمي وفى المستدرك عن ابى جعفر محمد بن على قال من وجد فى قلبه قسوة فليكتب يس فى جام من زعفران ثم يشربه- واخرج ابن الضريس عن سعيد بن جبير انه قرأ على رجل مجنون سورة يس فبرئ- واخرج ايضا عن يحيى بن ابى كثير قال من قرأ يس حين أصبح لم يزل فى فرح حتى يمسى ومن قرأها إذا امسى لم يزل فى فرح حتى يصبح اخبر به من جرّب ذلك. منه قدس الله سره
تمّت تفسير سورة يس من التفسير المظهرى (ويتلوه سورة الصافات ان شاء الله تعالى) سلخ ربيع الاول سنة سبع بعد المائتين سنة 1207 هـ والف وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين.(8/104)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
سورة والصّافّات
مكّيّة وهى مائة واثنان وثمانون اية ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) اقسم بالملائكة الذين يصفون فى مقام العبودية كصفوف المصلين عن جابر بن سمرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها قال يتمون الصفوف ويتراصون فى الصف- كذا قال ابن عباس والحسن وقتادة وقيل هم الملائكة تصف بأجنحتها فى الهواء واقفة حتى يأمر الله بما يريد وقيل هى الطير قال الله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ....
فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) يعنى الملائكة تزجر السحاب وتسوقه وقيل الملائكة تزجر الناس عن المعاصي بإلهام الخير او الشياطين عن التعرض لهم. وقال قتادة هى زواجر القران تنهى وتزجر عن القبيح.
فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) هم الملائكة الذين يتلون ذكر الله او آيات من الكتب السماوية على الأنبياء وذكرا منصوب على المفعولية وجاز نصبه على المصدرية من معنى التاليات. او اقسم بنفوس العلماء الصافّين أقدامهم فى الصلاة الزاجرين عن الكفر والسيئات بالحجج والنصيحات التالين آيات ربهم رفيع الدرجات- او بنفوس الغزاة المقاتلين فى سبيل الله صفّا كانّهم بنيان مرصوص الزاجرين الخيل والعدو التالين لذكر الله لا يشغلهم مبارزة العدو عن ذكر الله- والعطف لاختلاف الدوات او الصفات والفاء لترتيب الوجود فان الصف كمال والزجر تكميل بالمنع عن الشر او الاساقة الى الخير والتلاوة افاضة او الرتبة كما فى قوله تعالى ثمّ كان من الّذين أمنوا- ادغم حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها فانها من طرف اللسان واصول الثنايا وابو عمر وعلى أصله فى الإدغام الكبير. جواب القسم.
إِنَّ إِلهَكُمْ يا اهل مكة لَواحِدٌ (4) رد لما قال كفار مكة اجعل الالهة الها وّاحد لانّ هذا لشئ عجاب.
رَبُّ السَّماواتِ(8/105)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ
(5) خبر بعد خبر لانّ او خبر مبتدا محذوف اى هو والمراد بالمشارق مشارق الكواكب كلها او مشارق الشمس فى السنة فانها ثلاث مائة وخمس وستون تطلع كل يوم من واحد وبحسبها يختلف المغارب ولذلك اكتفى بذكرها مع ان الشرق أدلّ على القدرة وابلغ فى النعمة..
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى منكم فيه التفات من الغيبة الى التكلم بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) قرأ الجمهور بالاضافة وهى بيانية اى بزينة هى الكواكب او اضافة المصدر الى المفعول اى بان زينا الكواكب فانها كما جاءت اسما كالليقة جاء مصدرا كالنسبة او الى الفاعل اى بان زينها الكواكب وقرأ حمزة ويعقوب وحفص «لا بل هو كالجمهور- ابو محمد» بتنوين زينة وجر الكواكب على ابدا لها منه اى بزينة هى الكواكب او بزينة هى لها كاضوائها وأوضاعها قال ابن عباس اى بضوء الكواكب وهذه القراءة يؤيد كون الاضافة فى قراءة الجمهور بيانية وقرأ ابو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب على المفعولية فيؤيد كون الاضافة الى المفعول او منصوب بتقدير اعنى او على البدل من محل زينة.
وَحِفْظاً منصوب على المصدرية بإضمار فعله اى وحفظناها حفظا او بالعطف على زينة بحسب المعنى كانّه قال انا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا اى لاجل الحفظ مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) خارج من الطاعة برمى الشهب من الكواكب وهذه الاية تفيد ان الكواكب كلها فى السماء الدنيا وقول البيضاوي ان كون الثوابت فى الكرة الثامنة وما عدا القمر من السيارات فى الست المتوسطة بينها وبين سماء الدنيا ان تحقق لم يقدح فى ذلك فان اهل الأرض يرونها بأسرها كجواهر مشرقة متلالية على سطحها الأزرق باشكال مختلفة مبنى على تجويز قول الفلاسفة والحق ان قول الفلاسفة باطل بالكتاب والسنة والإجماع فان كون السماوات سبعا منصوص عليه بالكتاب فلا يجوز القول بالكرة الثامنة وتسميتها باسم غير السماء لا يفيد كتسمية الخمر بغير اسمها لا يفيد الحل وايضا الدّنيا صفة للسماء ومفهوم الصفة يقتضى حصر زينتها فى السماء الدنيا ولولا ذلك الحصر لما وجه لتقييد السماء بالدنيا وايضا قوله تعالى وحفظا من كلّ شيطان مارد يرد القول بكون الكواكب فى سماء غير سماء الدنيا(8/106)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
فان رجم الشيطان ليس الا من السماء الدنيا ولا سبيل للشياطين فوق سماء الدنيا والقول بان الشهاب تخرج من الكواكب الثابتة فى السماء الثامنة نافذة من السماوات السبع الى سارق السمع من الشياطين يأباه العقل والنقل والله اعلم.
لا يَسَّمَّعُونَ قرأ حفص وحمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بتشديد السين والميم أصله يتسمّعون فادغمت التاء فى السين والمعنى يطلبون السماع وفيه مبالغة فى نفى السماع والباقون بسكون السين وتخفيف الميم من المجرد- وهذا كلام مبتدا لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم ولا يجوز جعله صفة لكلّ شيطان فانه يقتضى حفظها من الشياطين الذين لا يسمعون ولا علة للحفظ على حذف اللام كما فى جئتك ان تكرمنى ثم حذف ان واهدار عملها فان اجتماع ذلك منكر إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى متعلق بلا يسمعون بتضمين معنى الاصفاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه والمراد بالملا الأعلى الملائكة او اشرافهم مدبرات الأمور وَيُقْذَفُونَ اى يرمون عطف على لا يسمعون مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) اى من آفاق سماء الدنيا بالشهب إذا قصدوا المكث والإصغاء.
دُحُوراً مصدر بمعنى الطرد منصوب على المصدرية لان القذف والدحور متقاربان او على الحال بمعنى مدحورين او بنزع الخافض اى بدحور وهو ما يطرد به وَلَهُمْ عَذابٌ اخر واصِبٌ (9) اى دائم او شديد وهو عذاب الاخرة وقال مقاتل لهم عذاب فى الدنيا دائم الى النفخة الاولى يحرقون.
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء من فاعل لا يسمعون وبدل منه وقيل استثناء منقطع والخطفة الاختلاس يعنى من اختلس كلمة من كلام الملائكة مسارقة ولذلك عرّف الخطفة فَأَتْبَعَهُ اتبع بمعنى تبعه اى لحقه شِهابٌ ثاقِبٌ (10) وهو ما يرى كانّ كوكبا انقض وهو شعلة تخرج من كوكب لرجم مسترقى السمع من الشياطين.
وليس كما قالت الفلاسفة انه بخار يصعد الى الأثير ويشتعل فان هذا قول باطل مبنى على الظن والتخمين وانّ الظّنّ لا يغنى من الحقّ شيئا وهذا كقولهم فى المطر انه بخار يصعد من الأرض ويصل الى الطبقة الزمهريرية من الهواء فيجمد ويكون غماما ثم يصل اليه الحرارة من الشمس فيذوب ويقطر ماء وهذه الأقوال الباطلة التي لا دليل عليها يأباه(8/107)
العقل فان الابخرة قد يصعد كثيرا لاجل شدة الحر ولا يكون مطرا الى سنين وقد يكون امطارا متوالية متكاثرة فى البرد من غير ان يدرك حينئذ صعود الابخرة وايضا لو كان كذلك لذاب فى بعض الأحيان الغمام كله ولم ير ذلك قط وايضا البخارات لا تزال تتصاعد دائما فرؤية الشهاب فى بعض الأحيان لا معنى له- وهذه الأقوال باطلة بالكتاب والسنة قال الله تعالى وأنزلنا من السّماء ماءّ وقال الله تعالى وأنزلنا من السّماء من جبال فيها من برد وهذه الاية وزيّنا السّماء الدّنيا بزينة الكواكب الى قوله شهاب ثاقب وروى البخاري عن قتادة قال خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم- وروى ايضا عن ابى هريرة ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كانه سلسلة على صفوان فاذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا للذى قال الحقّ وهو العلىّ الكبير فسمعها مسترقوا السّمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض (ووصف سفيان بكفه فحركها وبدر بين أصابعه) فيسمع الكلمة فيلقيها الى من تحته ثم يلقيها الاخر الى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر او الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل ان يلقيها وربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء- وروى مسلم عن ابن عباس ربنا تبارك اسمه إذا قضى امرا سبح حملة العرش ثم سبح اهل السماء الذين يلونهم حتى تبلغ التسبيح اهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربّكم فيخبرونهم ما قال فيستخبر بعض اهل السماوات بعضا حتى تبلغ اهل هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون الى أوليائهم ويرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم تعرفون فيه و «اى يكذبون منه ره» يزيدون- وروى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الملائكة تنزل فى العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضى فى السماء فيسترق الشياطين السمع فيستمعه فيوحيه الى الكهان فيكذبون معه مائة كذبة من عند أنفسهم- قال(8/108)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
البيضاوي واختلف فى المرجوم يتاذى فيرجع او يحترق به لكن قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولهذا لا يرتدعون..
فَاسْتَفْتِهِمْ الضمير المنصوب لمشركى مكة أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ممن خلقناهم أَمْ مَنْ خَلَقْنا هم أشد خلقا منهم والمراد بمن خلقنا ما سبق ذكره من السماوات والأرض وما بينهما من الخلائق والمشارق والمغارب والكواكب والشهب الثواقب ومن لتغليب العقلاء والاستفهام للتقرير- وقيل المعنى أم من خلقنا من غيرهم من الأمم السالفة كعاد وثمود قد أهلكناهم بذنوبهم فما لكم تأمنون من العذاب والتأويل الاول يوافق قوله تعالىء أنتم «1» أشدّ خلقا أم السّماء ويدل على إطلاقه قوله تعالى إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ
(11) اى لاصق يتعلق باليد وقال مجاهد والضحاك اى منتن فانه فارق بين خلقهم وخلق السماوات والأرض فان خلقها بلا مادة سبق وهذه الجملة متضمنة للسوال المذكور على طريقة عن النّبإ العظيم بعد قوله عمّ يتسآءلون والغرض من هذا الكلام الرد على منكر البعث فانه شهادة عليهم بالضعف لان ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة فمن قدر على خلق السماوات وغيرها قادر البتة على ما لا يعتد به بالاضافة إليها واحتجاج عليهم بان خلقهم الاول من الطين اللازب فمن اين ينكرون ان يخلقوا ثانيا من تراب حيث قالوا أإذا كنّا ترابا أإنّا لفى خلق جديد وان الطين اللازب يحصل بضم الجزء المائى الى الجزء الأرضي وهما باقيان قابلان للانضمام والفاعل لا تغير فى قدرته فعلى ما ينكرون..
بَلْ ابتدائية للانتقال من غرض الى اخر وهو الاخبار بحاله وحالهم وليست للاضراب عَجِبْتَ العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر لم يعهد مثله فيعبر عن تلك الحالة بقوله عجبت وبصيغة التعجب منه قوله صلى الله عليه وسلم عجب ربك من قوم يساقون الى الجنة فى السلاسل- وقوله سبحانه ما أعظم شأنه ويطلق ايضا على الشيء الذي لم يعهد
__________
(1) وفى الأصل أهم أشدّ 12(8/109)
مثله انه عجب قال الله تعالى أكان للنّاس عجبا ان أوحينا الى رجل منهم وكثيرا يستعمل العجب فيما يراه الرجل حسنا غاية الحسن يقال أعجبني كذا ومنه قوله تعالى ومن النّاس من يعجبك قوله وقوله عليه السلام عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة وقوله صلى الله عليه وسلم عجب ربكم من الكم وقنوطكم وقد يستعمل فيما يراه قبيحا غاية القبح يقال عجبت من بخلك وشرهك وقال الشاعر شيئان عجيبان هما أبرد من يخ شيخ يتصبى وصبى يتشيخ- وفيما يراه كثيرا غاية الكثرة يقال ما أكرمه وما أطفاه وما أشد استخراجه وما أجهله وما اشر بياضه فالمعنى ان هذا الشيء بهذا الحسن او بهذا القبح او بهذا الكرام او الجهل او البياض لم يعهد مثله- وقيل هى حالة يعرض للانسان عند الجهل بسبب الشيء وبناء على ذلك قالوا لا يصح على الله العجب لاحاطة علمه بكل شىء وقيل هى حالة يعترى للانسان عند استعظامه الشيء والصحيح ان مال هذين التفسيرين الى ما ذكرنا لان الإنسان يستعظم ما لم يعهد مثله وكذا ما يجهل بسببه يراه غير معهود مثله فلا حاجة الى الصرف عن الظاهر فى قراءة حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» عجبت بضم التاء على صيغة المتكلم رنال البيضاوي العجب من الله اما على الفرض والتخييل او على معنى الاستعظام اللازم وقيل انه مقدر بالقول يعنى قل يا محمد بل عجبت وقال البغوي والعجب من الله إنكاره وتعظيمه والعجب من الله قد يكون بمعنى الإنكار والذم كما فى هذه الاية وقد يكون بمعنى الاستحسان كما فى الحديث عجب ربكم من شابّ ليست له صبوة- وسئل جنيد عن هذه الاية فقال ان الله ما يعجب من شىء ولكن الله وافق رسوله فقال وان تعجب فعجب قولهم اى هو كما تقوله- وقرأ الجمهور على صيغة المخاطب بفتح التاء يعنى عجبت أنت يا محمد من تكذيبهم إياك مع اعترافهم بكونك أمينا صدوقا وشهادة المعجزات على صدقك وكون القرآن معجزا او عجبت من انكارهم قدرة الله على البعث مع ظهور قدرته تعالى على كل شىء فان هذا الأمر لم يعهد مثله قال قتادة عجب نبى الله صلى الله عليه وسلم من هذا القران حين انزل وضلال بنى آدم بعده وذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن ان من سمع لهذا القران يؤمن به فلمّا سمع المشركون وسخروا منه ولم يؤمنوا به عجب(8/110)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى بل عجبت يا محمد وَيَسْخَرُونَ (12) حال من فاعل عجبت بتقدير المبتدا يعنى وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث.
وَإِذا ذُكِّرُوا اى وعظوا بالقران لا يَذْكُرُونَ (13) لا يتعظون او المعنى إذا ذكرهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرتهم.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس ومقاتل هو انشقاق القمر يَسْتَسْخِرُونَ (14) يبالغون فى السخرية او يستدعى بعضهم بعضا ان يسخر منها.
وَقالُوا اى ويقولون إِنْ هذا يعنون ما يرونه من المعجزة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) ظاهر سحريته وقالوا.
أَإِذا مِتْنا قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر «1» الميم وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أصله أنبعث إذا متنا فبدل الفعلية بالاسمية وقدم الظرف وكرر الهمزة مبالغة في الإنكار واشعارا بان البعث مستنكر فى نفسه وفى هذا الحال اولى بالإنكار فهذا ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الاولى وقراءة نافع والكسائي ويعقوب «وابى جعفر- ابو محمد» بطرح الثانية.
أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) عطف على محل اسم ان بعد مضى الخبر او على الضمير فى مبعوثون فانه مفصول عنه بهمزة الاستفهام والاستفهام لانكار الجمع بين بعثهم وبعث ابائهم لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم- وسكن نافع «اى قالون عنه والاصبهانى عن ورش وابو جعفر وابو محمد» وابن عامر الواو على معنى الترديد وعلى هذه «2» القراءة لا يجوز العطف قل يا محمد.
نَعَمْ تبعثون أنتم وآباؤكم قرأ الكسائي بالكسر وهو لغة فيه وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) الدخور أشد الصغار حال من فاعل المقدر.
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ جواب شرط مقدر يعنى إذا كانت البعث فانّما هى اى البعثة وقيل هى ضمير مبهم موضحها خبرها يعنى زجرة واحِدَةٌ اى صيحة واحدة اى نفخة الثانية والزجر الطرد والمنع بالصوت يقال زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها وأمرها فى الاعادة كما امر فى الإبداء ولذلك
__________
(1) هذا هو الصحيح وهكذا فى الأصل فى المتن لكن كتبه على الحاشية بالضم. وهو وهم كما «وبال عمران فى ص 161 ابو محمد
(2) وفى الأصل هذا القراءة(8/111)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
رتب عليها فَإِذا هُمْ قيام من مراقدهم احياء يَنْظُرُونَ (19) عطف على فانّما هى زجرة يعنى انما البعثة زجرة ففاجت وقت كونهم احياء ينظرون اى يبصرون او ينتظرون ما يفعل بهم.
وَقالُوا يا للتنبيه وَيْلَنا اى هلاكنا مصدر لا فعل له من لفظه وجملة قالوا عطف على ينظرون ويقولون يا ويلنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) اى يوم نجازى فيه بأعمالنا.
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ اى يوم القضاء او الفرق بين المحسن والمسيء الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) قيل هذا جواب الملائكة وقد تم كلامهم على يوم الدّين وقيل هذا ايضا من كلامهم بعضهم لبعض- فحينئذ يقول الله سبحانه للملائكة.
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى أشركوا فانّ الشّرك لظلم عظيم يعنى اجمعوهم الى الموقف للحساب والجزاء وَأَزْواجَهُمْ يعنى نظراءهم وأشياعهم واتباعهم اخرج البيهقي من طريق النعمان بن بشير قال سمعت عمر بن الخطاب يقول احشروا الّذين ظلموا وأزواجهم يعنى ضرباءهم الذين هم مثلهم يجيئ اصحاب الربوا مع اصحاب الربوا واصحاب الزنى مع اصحاب الزنى واصحاب الخمر مع اصحاب الخمر ازواج فى الجنة وازواج فى النار- واخرج البيهقي عن ابن عباس يعنى أشباههم- وقال البغوي قال قتادة والكلبي يعنى من عمل مثل عملهم فاهل الخمر مع اهل الخمر واهل الربوا مع اهل الربوا وقال الضحاك قرناؤهم من الشياطين كل كافر مع شيطانه فى سلسلة وقال الحسن أزواجهم من المشركات وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فى الدنيا يعنى الأوثان والطواغيت وقال مقاتل يعنى إبليس واحتج بقوله ان لا تعبدوا الشّيطان واللفظ مخصوص بقوله تعالى انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى أولئك عنها مبعدون.
فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) قال ابن عباس دلوهم الى طريق النار وقال ابن كيسان قدموهم الى النار والعرب يسمى السائق هاديا.
وَقِفُوهُمْ اى احبسوهم قال المفسرون لمّا سيقوا الى النار حبسوا عند الصراط فيقول الله تعالى قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) تعليل بقفوا قال ابن عباس يسئلون عن جميع أفعالهم وأقوالهم وروى عنه عن لا اله الا الله اخرج(8/112)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
مسلم عن ابى برزة الأسلمي رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزول قد ما عبد عن الصراط حتى يسئل عن اربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن علمه ما عمل فيه وعن ماله من اين اكتسبه وفيم أنفقه. واخرج الترمذي وابن مردوية مثله عن ابن مسعود واخرج الطبراني مثله عن معاذ بن جبل وابى الدرداء وابن عباس واخرج ابن المبارك فى الزهد عن ابى الدرداء قال ان أخوف ما أخاف إذا وقعت الحساب ان يقال لى قد علمت فما عملت واخرج احمد فى الزهد عنه قال أول ما يسئل عنه العبد يوم القيامة يقال ما عملت فيما علمت واخرج ابن ابى حاتم عن ابقع بن عبد الله الكلاعى قال ان لجهنم سبع قناطير والصراط عليها فيحبس الخلائق عند القنطرة الاولى فيقولون قفوهم انّهم مسئولون فيحاسبون عن الصلاة ويسئلون منها فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا فاذا بلغوا الثانية حوسبوا عن الامانة كيف أدوها وكيف خانوها فيهلك من هلك وينجو من نجا فاذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها فيهلك من هلك وينجو من نجا قال والرحم يومئذ متدلية الى الهواء يقول اللهم من وصلني فصله ومن قطعنى فاقطعه.
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) اى يقال لهم توبيخا ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا تحريض على التناصر والغرض منه التهكم والتعجيز.
بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) قال ابن عباس اى خاضعون وقال الحسن منقادون يقال استسلم لشئ إذا انقاده وخضع-.
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعنى الرؤساء والاتباع او الكفرة والقرناء يَتَساءَلُونَ (27) حال من الفاعل والمفعول يعنى يسئل بعضهم بعضا توبيخا ولذلك فسر بقوله يتلاومون ويتخاصمون.
قالُوا اى يقول الاتباع للرؤساء او الكفرة للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) اى عن أقوى الوجوه وأيمنها او عن الدين او عن الخير كذا قال الضحاك ومجاهد مستعار عن يمين الإنسان الذي هو أقوى الجانبين وأشرفهما وأنفعهما ولذلك سمى يمينا- وقال بعضهم المراد باليمين الحلف يعنى كنتم تحلفون ان ما تدعوننا اليه من الدين هو الحق- وقيل معناه القوة(8/113)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
والقهر يعنى كنتم تكرهوننا وتقسروننا على الضلال هذه الجملة وما بعدها بيان للتساؤل.
قالُوا اى يقول الرؤساء او الشياطين ما اضللناكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) يعنى كنتم كافرين ضآلين باختياركم.
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من قهر وغلبة تقرير لما سبق بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) اى مختارين الطغيان.
فَحَقَّ اى وجب عَلَيْنا عطف على محذوف مفهوم ممّا سبق تقديره كنتم قوما طاغين كما كنا طاغين فحقّ علينا جميعا قَوْلُ رَبِّنا لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس أجمعين إِنَّا لَذائِقُونَ (31) العذاب.
فَأَغْوَيْناكُمْ اضللناكم عن الهدى ودعوناكم الى ما كنا عليه عطف على فحقّ علينا إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) ضالين يعنون ان ضلال الفريقين ووقوعهم فى العذاب كان امرا مقضيا علينا وانه غاية ما فعلنا بكم انا دعونا الى الغيّ لانا كنا على الغى فاحببنا ان تكونوا مثلنا قال الله تعالى.
فَإِنَّهُمْ الفا للسببية يعنى لمّا كان كلهم من الرؤساء والاتباع والكفرة والقرناء على الغى فهم يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ انا مبتدا والجملة خبر وكذلك فى محل النصب على المصدرية اى فعلا مثل ما نفعل بهؤلاء نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) اى بكل مشرك والمجرم هو المشرك لقوله تعالى.
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ عطف على يستكبرون أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) يعنون النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ردّا عليهم.
بَلْ جاءَ النبي صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ اى التوحيد الذي قام عليه البرهان وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) يعنى ليس هذا دعوى مبتدعا بل ادعاه الأولون من الرسل وهذا يصدقهم ويطابق دعواه دعواهم.
إِنَّكُمْ ايها المجرمون فيه التفات من الغيبة الى الخطاب لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) بالإشراف وتكذيب المرسلين.
وَما تُجْزَوْنَ جزاء إِلَّا جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) فى الدنيا من الشرك.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) الموحدين استثناء منقطع الا ان يكون الضمير(8/114)
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
فى تجزون لجميع المكلفين فيكون استثناؤهم عما سبق باعتبار المماثلة فان ثوابهم يضاعف الى سبع مائة ضعف الى ما شاء الله والمنقطع ايضا بهذا الاعتبار.
أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) خصائصه من الدوام وتمحض اللذة ولذلك فسره بقوله.
فَواكِهُ جمع فاكهة بدل او بيان للرزق وهى ما يقصد به التلذذ دون التغذي والقوت ما يقصد به التغذي دون التلذذ والرزق يعمهما واهل الجنة لمّا كان خلقهم محفوظة عن التحلل كان أرزاقهم فواكه خالصة وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فى نيله يصل إليهم من غير تعب وسوال بخلاف أرزاق الدنيا الجملة عطف على الجملة او حال او خبر بعد خبر.
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) متعلق بالظرف المستقر يعنى لهم رزق معلوم فى جنت ليس فيها الا النعيم او متعلق بمكرمون او حال من المستكن فيه او خبر اخر لاولئك.
عَلى سُرُرٍ يحتمل الحال والخبر فيكون مُتَقابِلِينَ (44) حالا من المستكن فيه او فى مكرمون ويحتمل ان يتعلق على سرر بمتقابلين فيكون متقابلين حالا من ضمير مكرمون.
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ اى باناء فيه خمر او خمر كقول الشاعر وكأس شربت على لذة. وعن الأخفش كل كأس فى القرآن فهى الخمر والجملة حال او خبر مِنْ مَعِينٍ (45) اى خمر جارية فى الأنهار ظاهرة تراها العيون او خارج من العيون وهو صفة الماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لانها تجرى كالماء او للاشعار بان ما يكون لهم بمنزلة الشراب جامع لما يطلب من انواع الاشربة لكمال اللذة.
بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) بخلاف خمر الدنيا فانها كريهة عند الشرب وبيضاء ولذّة صفتان لكأس قال الحسن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ووصفها بلذة للمبالغة او لانها تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب ووزنه فعل-.
لا فِيها غَوْلٌ اى غائلة من غاله يغوله إذا أفسده ومنه الغول يعنى ليس فيها شىء من انواع الفساد كما فى خمر الدنيا من المفاسد من ذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) قرأ حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بكسر الزاء من الانزاف ووافقها حفص فى الواقعة والباقون بفتح الزاء فيهما ولا خلاف(8/115)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فى ضم الياء يقال نزف الشارب على البناء للمفعول فهو نزيف ومنزوف إذا ذهب عقله وانزف الشارب إذا نفد عقله او شرابه وأصله النفاد ونزف لازم ومتعد كذا فى القاموس وانزفت والشيء ابلغ من نزفته وأفرد النزف بالنفي وعطف على ما يعمه لانه من أعظم فساده ذهاب عقله وأشد على الشارب نفاد شرابه.
وَعِنْدَهُمْ عطف او حال قاصِراتُ الطَّرْفِ اى ازواج قصرن عيونهن على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم لحسنهم عندهن عِينٌ (40) خبر مبتدا محذوف اى هن عين اى حسان الأعين يقال رجل أعين وامراة عيناء ورجال ونساء عين.
كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ للنعام اخرج ابن جرير عن أم سلمة عنه صلى الله عليه وسلم العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر وعنه صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى كانّهنّ بيض مكنون قال رقتهن كرقة الجلدة فى داخل البيضة التي على القشر مَكْنُونٌ (49) بريشه لا يصل اليه غبار والبيض جمع بيضة لعوده على لفظه قال الحسن شبههن ببيض النعامة لانها تكفها بريشها من الريح والغبار فلونها ابيض فى صفرة ويقال هذا احسن ألوان النساء ان يكون بيضاء بصفرة والعرب تشبهها ببيض النعامة-.
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ اى بعض اهل الجنة عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) عما مضى عليه فى الدنيا حال والجملة معطوفة على يطاف عليهم اى يشربون فيتحادثون على الشراب قال الشاعر وما بقيت من اللذات الا أحاديث الكرام على المدام.
فانه ألذ تلك اللذات الى العقل والتعبير بالماضي للتأكيد.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ اى من اهل الجنة بيان للتساؤل إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) فى الدنيا ينكر البعث قال مجاهد كان شيطانا وقال الآخرون كان من الانس وقال مقاتل كانا أخوين وقال الباقون كانا شريكين أحدهما كافر اسمه مطروس والاخر مؤمن اسمه يهودا وهما الذان قص الله خبرهما فى سورة الكهف واضرب لهم مثل الرجلين.
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) البعث استفهام للتوبيخ.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) مجزيون بعد البعث كرر الاستفهام لغاية الاستبعاد والإنكار.
قالَ(8/116)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) اى اهل النار لاراكم ذلك القرين وقيل القائل هو الله او بعض الملائكة يقول لهم هل تحبون ان تطلعوا على اهل النار لاراكم ذلك القرين ولتعلموا اين منزلتكم من منزلتهم قال ابن عباس ان فى الجنة كوى ينظر أهلها منها الى النار.
فَاطَّلَعَ هذا المؤمن على اهل النار فَرَآهُ اى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) اى وسطه يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه اخرج هنا وعن ابن مسعود فى الاية قال فاطّلع ثم التفت الى أصحابه فقال رايت جماجم القوم تغلى «الجمجمة كاسه سر- منه ره» .
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) قرأ يعقوب بإثبات الياء فى الحالين وورش وصلا فقط والباقون بحذفها فى الحالين يعنى كدتّ لتهلكنى بالإغواء ان مخففة من الثقيلة واللام فارقة.
وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية والعصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) معك فى النار.
أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى يعنى لسنا ممن شأنه الموت الا التي كانت فى الدنيا فالمستثنى مفرغ منصوب على المصدرية من اسم الفاعل او المعنى فما نحن نموت ابدا الا التي كانت فى الدنيا فالاستثناء منقطع والفاء للعطف على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين والاستفهام للتقرير اى حمل المخاطب على اقرار ما كان ينكره فى الدنيا بقوله اإنّا لمدينون وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) وذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له وجاز ان يكون هذا معاودة الى كلامه مع جلسائه تحدثا بنعمة الله وتعجبا منها وتعريضا للقرين بالتوبيخ وقال بعضهم يقول اهل الجنة للملائكة حين تذبح الموت استبشارا وتبجحا أفما نحن بميّتين فيقول الملائكة لا فيقولون.
إِنَّ هذا الخلود فى النعيم لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) ويحتمل ان يكون هذا من كلام الله كقوله تعالى.
لِمِثْلِ هذا المنزل او لمثل هذا النعيم لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام سريعة الزوال فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) .
أَذلِكَ الذي ذكر لاهل الجنة خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) التي هى نزل اهل النار وهى شجرة مرة خبيثة كريهة الطعم يكره اهل النار على تناولها يزقّمونه على أشد كراهية ومنه قولهم تزقّم الطعام إذا تناوله على كره ومشقة وانتصاب نزلا على التميز(8/117)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
والحال وفى ذكره دلالة على ان ما ذكر من النعيم لاهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ولهم ما وراء ذلك ما يقصر عنه الافهام وكذلك الزقوم لاهل النار اخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن ابى حاتم وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو ان قطرة من الزقوم قطرت فى بحار الدنيا لافسدت على اهل الأرض معاشهم فكيف من يكون طعامه- واخرج عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد وابو نعيم عن ابى عمران الخولاني فى شجرة الزقوم قال بلغنا ان ابن آدم لا ينهش منها نهشة الا نهشت منه مثلها.
إِنَّا جَعَلْناها اى شجرة الزقوم فِتْنَةً اى محنة وعذابا فى الاخرة او ابتلاء فى الدنيا لِلظَّالِمِينَ (63) اى الكافرين كانوا يقولون كيف يكون فى النار شجرة والنار تحرق الشجر وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر فادخله ابو جهل فى بيته وقال يا جارية زقّمينا فاتتهم بالزبد والتمر فقال تزقموا هذا ما يوعدكم به محمد واخرج ابن جرير عن قتادة قال قال ابو جهل زعم صاحبكم هذا ان فى النار شجرة والنار تأكل الشجر وانّا والله ما نعلم الزقوم الا التمر والزبد فانزل الله حين عجبوا ان يكون فى النار شجرة.
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) اى قعر النار واخرج نحوه عن السدى قال الحسن أصلها فى قعر جهنم وأغصانها ترفع الى دركاتها.
طَلْعُها اى ثمرها سمى طلعا لطلوعه كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) قال ابن عباس هم الشياطين بأعيانهم شبّه بها لقبحه فان الناس إذا وضعوا شيئا بغاية القبح قالوا كانه شيطان وان كانت الشياطين لا ترى لان قبح صورتها يتصور فى النفس وقال بعضهم الشياطين حيات هائلة قبيحة المنظر لها اعراف ولعلها سميت بها لذلك وقيل هى شجرة قبيحة مرة منتنة تكون فى البوادي تسميها العرب رؤس الشياطين.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها اى من الشجرة او من طلعها الفاء للسببية تعليل لكونه فتنة فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) لغلبة الجوع او الإكراه على أكلها والملأ حشو الإناء بما لا يحتمل المزيد عليه.
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها اى على أكلها بعد ما ملئوا بطونهم وغلبهم العطش وطال استسقاؤهم ويجوز ان يكون ثم لما فى شرابهم من مزيد الكراهة لَشَوْباً خلطا ومزجا مِنْ حَمِيمٍ
(67) متعلق(8/118)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
بشوبا وحميم ماء حار شديدة الحرارة يعنى يشربون الحميم فيصير فى بطونهم شوبا له.
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) قال البغوي وذلك انهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج من الجحيم كما يورد الإبل الى الماء ثم يردّون الى الجحيم يدل عليه قوله تعالى يطوفون بينها وبين حميم ان وقرأ ابن مسعود انّ مقيلهم لالى الجحيم-.
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا اى وجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) اى يسرعون الجملة فى مقام التعليل اى استحقوا تلك الشدائد تقليدا للاباء فى الضلال مسرعين من غير نظر وبحث.
وَلَقَدْ ضَلَّ عطف على انّهم الفوا قَبْلَهُمْ اى قبل مشركى مكة أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) من الأمم الخالية.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) اى أنبياء انذروهم من العواقب.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) الاستفهام للتعجب والاستعظام والجملة الاستفهامية بتأويل المفرد مفعول لانظر والغرض منه التحقيق اى كان عاقبتهم العذاب فى الدنيا والاخرة.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) استثناء من مضمون الجملة السابقة اى الا الذين تنبهوا بانذارهم فاخلصوا دينهم لله فانهم نجوا من العذاب وقرئ بالفتح اى الذين أخلصهم لدينه- والخطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود خطاب قومه فانهم ايضا سمعوا اخبارهم وراوا اثارهم- ثم شرع فى تفصيل القصص بعد اجمالها فقال.
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ عطف على قوله ولقد أرسلنا فيهم منذرين من قبيل ذكر الخاص بعد العام يعنى ولقد ضلّ قبلهم قوم نوح فارسلنا فيهم نوحا منذرا فدعاهم الى الإسلام فلم يؤمنوا حتى ايئس من إسلامهم واوحى اليه انّه لن يؤمن من قومك الّا من قدا من فنادانا اى دعانا باهلاك قومه فاجبناه احسن الاجابة فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) اى فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف لقيام ما يدل عليه.
وَنَجَّيْناهُ عطف على فاجبناه المقدر وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) اى من أذى قومه.
وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) يعنى لم يبق لاحد من قومه ذرية الا لنوح اخرج الترمذي وغيره عن سمرة(8/119)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله وجعلنا ذرّيّته هم الباقين قال حام وسام ويافث. واخرج من وجه اخر قال سام ابو العرب وحام ابو الحبش ويافث ابو الروم- روى الضحاك عن ابن عباس انّه لمّا خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء الا ولده «1» ونساؤهم- الظاهر من قصة نوح فى القران انه غرق فى الطوفان كل من كان فى الأرض الا من أمن بنوح وركب السفينة ثم لم يبق لاحد ذرية الا لنوح متناسلين الى يوم القيامة قال سعيد بن المسيب كان ولد نوح ثلاثة سام وحام ويافث فسام ابو العرب والروم والفارس وحام ابو السودان ويافث ابو الترك والخوز ويأجوج وماجوج وما هنالك يعنى وما فى بلاد الشرق من الهند وغير ذلك. قلت وعندى ان نوحا لم يكن مبعوثا الى كافة الناس فان الإرسال الى الناس كافة كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم بل كان مبعوثا الى قومه خاصة فلم يؤمنوا فدعا عليهم فاهلكوا بالطوفان والمراد بالأرض فى قوله تعالى ربّ لا تذر على الأرض من الكفرين ديّارا ارضه المعهود فعلى هذا الحصر فى هذه الاية إضافي يعنى جعلنا ذرّيته هم الباقين من قومه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) من الأمم هذا الكلام.
سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) جيء به على الحكاية والمعنى يسلمون عليه تسليما ويقولون هذا القول وقيل هو سلام من الله ومفعول تركنا محذوف تقديره تركنا عليه الثناء والذكر الجميل وفى العالمين متعلق بالظرف المستقر اى عليه.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) يعنى انا نجزى كل محسن جزاء كذلك الجزاء او الذي جزينا نوحا بإبقاء الذكر الجميل والسلام قولا من ربّ العلمين.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) يعنى انما جزيناه ذلك الجزاء بايمانه وإحسانه وفيه بشارة للمحسنين من امة محمد صلى عليه وسلم.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) يعنى غير المحسنين من قومه عطف على نجّينا-
__________
(1) قلت الظاهر عندى ان كل من كان فى السفينة كانوا من ذرية نوح عليه السلام عن أولاد سام او حام او يافث فان لبثه فى قومه الف سنة الّا خمسين عامّا يقتضى ان يكون أولاده فى هذه المدة الطويلة كثيرة جدّا فلم يؤمن حام الأشر ذمة قليلة وهم ركبوا السفينة- منه نور الله مرقده
.(8/120)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ عطف على قوله انّه من عبادنا المؤمنين يعنى ممن شايعة فى الايمان واصول الدين او فى الفروع ايضا جميعها او أكثرها لَإِبْراهِيمَ (83) وكان بين نوح وابراهيم الفان وست مائة وأربعون سنة وكان بينهما هود وصالح عليهم السلام.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ يعنى توجه اليه والظرف متعلق بما فى الشيعة من معنى المشائعة يعنى تابعه وقت مجيئه او بمحذوف وهو اذكر بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (83) من الاشتغال بغير الله تعالى خاليا عن الغير وحبه كما يدل عليه قصة ذبح ابنه لامتثال امر ربه.
إِذْ قالَ بدل من إذ السابقة او ظرف لجاء او لسليم لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) استفهام توبيخ على عبادة الحجارة.
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) هذا الاستفهام ايضا توبيخ بعد توبيخ الهة مفعول به لتريدون ودون الله صفة لالهة وإفكا مفعول له قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم عليه المفعول له لان الأهم ان يقرر ان مبنى أمرهم على الافك والباطل وجاز ان يكون إفكا مفعولا به والهة بدل منه على انها افك فى أنفسها مبالغة وان يكون إفكا حالا بمعنى افكين.
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) اى بمن هو حقيق لكونه ربّا للعالمين حتى تركتم عبادته او أشركتم به غيره ءامنتم من عذابه والمعنى انكار ما يوجب الظن فضلا عن موجب القطع الذي يصد عن عبادته او يجوّز الإشراك به او يقضى الامن من عقابه على طريقة الإكرام وهو كالحجة على ما قبله..
فَنَظَرَ عطف على قال نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) اى فى مواقعها واتصالاتها او فى علمها او فى كتابها وهذا يدل على ان النظر فى علم النجوم وتعليمه وتعلمه كان جائزا فى شريعته لكن صار منسوخا فى شريعتنا حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد- رواه احمد وابو داود وابن ماجة من حديث ابن عباس ورواه رزين وزاد المنجم كاهن والكاهن ساحر والساحر كافر والمعنى ان ثلاثتهم فى الكفر بمنزلة واحدة ويمكن ان يقال انما يحرم النظر فى علم النجوم إذا أسند الحوادث الى الكواكب واما إذا أسندها الى الله سبحانه وجعل اتصالات النجوم علامات حسب جرى عادة الله على خلق بعض الأشياء عند تلك الاتصالات كما ان الله تعالى يخلق الشفاء غالبا عند شرب الدواء(8/121)
ويخلق الموت عند شرب السم ويخلق افعال العباد عند القصد المصمم منهم فلا بأس به- ولعل النبي صلى الله عليه وسلم انما نهى عن اقتباس علم النجوم لئلّا يسند الناس الحوادث الى الكواكب عن زيد بن خالد الجهني قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلمّا انصرف اقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله اعلم قال قال أصبح من عبادى مؤمن بي وكافر بي فامّا من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب واما من قال مطرنا بنؤ كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب- متفق عليه وعن ابى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما انزل الله من السماء من بركة الا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزّل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا- رواه مسلم وقد ذكر الامام محمد الغزالي رحمه الله فى كتابه المنقذ من الضلال ان علم الطب والنجوم انزلهما الله تعالى على بعض الأنبياء ثم بقي العلمان بايد الكفرة- ويدل على إفادة علم النجوم علما ظنيا (مثل الطب) اخبار المنجمين فرعون بولادة موسى وزوال ملكه على يديه- وروى البخاري فى الصحيح بسنده عن الزهري انه كان ابن الناطور (صاحب ايليا وهرقل) اسقفا على نصارى الشام «اسقف رئيس دين النصارى وعالمهم- منه ره» يحدث ان هرقل لما قدم ايليا أصبح يوما خبيث النفس فقال بعض بطارقته «هم خواص دولة الروم- منه ره» قد استنكرنا هيئتك (قال ابن الناطور وكان هرقل حزّاء «اى كاهنا- منه» ينظر «1» فى النجوم) فقال لهم حين سالوه انى رايت الليلة حين نظرت فى النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الامة قالوا ليس يختتن الا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب الى مدائن ملكك فليقتل من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم اتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان بخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمّا استخبره هرقل قال اذهبوا فانظروا امختتن هو أم لا فنظروا اليه فحدثوه انه مختتن وساله عن العرب فقال هم يختتنون فقال هرقل ملك هذه الامة قد ظهر ثم كتب هرقل الى صاحب له برويته
__________
(1) ينظر فى النجوم ان جعل خبرا ثانيا فلا بعد لانه كان ينظر فى الامرين. وان جعل تفسيرا للاول فالكهانة تارة يستند الى إلقاء الشياطين وتارة يستفاد من احكام النجوم 12 فتح الباري منه رحمه الله-[.....](8/122)
فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
وكان نظيره فى العلم وسار هرقل الى حمص فلم يرم بحمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأى هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وانه نبى. قال الشيخ ابن حجر رواية الزهري موصولة لابن الناطور لا معلقة قد بين ابو نعيم فى دلائل النبوة ان الزهري قال لقيت ابن الناطور بدمشق فى زمن عبد الملك بن مروان وأظنه لم يتحمل عنه ذلك الا بعد ان اسلم فان هذا الحديث وأمثاله يدل على إفادة علم النجوم نوعا من العلم لكن لما كان الاشتغال به موجبا لما ذكرنا من المفسدة وهو اسناد الحوادث الى الكواكب وكان اشتغاله اضاعة للاوقات لكونها غير نافعة فى الدين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاشتغال به والظاهران الاشتغال بعلم النجوم كان جائزا فى دين عيسى عليه السلام والا لم يشتغل به علماء النصارى والله اعلم.
ومن زعم ان علم النجوم باطل لا اصل له قال ان هذا القول من ابراهيم كان إيهاما منه قال ابن عباس كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروها عليه. وذلك انه أراد ان يكايدهم فى أصنامهم ليلزم الحجة عليهم فى انها غير مستحقة للعبادة وكان لهم من الغد عيد ومجمع فكانوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم الفراش ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم الى عيدهم زعموا التبرك عليه فاذا انصرفوا من عيدهم أكلوه وقالوا لابراهيم تخرج غدا هنا الى عيدنا فنظر نظرة فى النّجوم.
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) قال ابن عباس اى مطعون وكانوا يفرون من الطاعون وقال الحسن اى مريض وقال مقاتل وجع فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذب ابراهيم الا ثلاث كذبات ثنتين منه فى ذات الله قوله انّى سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا الحديث. وذكر الثالث قوله لسارة أختي وقد مر الحديث فى سورة الأنبياء والمراد بالكذبات التعريضات والتّورية قال الضحاك معناه ساسقم وقيل تأويله ان من فى عنقه الموت سقيم ومنه ما قيل ان رجلا مات فجاءة فقالوا مات وهو صحيح فقال أعرابي اصحيح من الموت فى عنقه وقيل أراد إنى سقيم النفس لكفركم وقد ذكرنا تأويلات قوله بل فعله كبيرهم فى سورة الأنبياء.
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)(8/123)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
الى عيدهم فدخل ابراهيم على الأصنام فكسرها كما قال الله تعالى.
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ اى دخل عليها خفية من روغه الثعلب وأصله الميل بحيلة قال البغوي لا يقال راغ حتى يكون صاحبه مخفيا لذهابه ومجيئه فَقالَ ابراهيم استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ (91) الطعام الذي بين ايديكم.
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) بجوابى حال والعامل فيه معنى الفعل فى ما لكم اى ما تصنعون حال كونكم غير ناطقين.
فَراغَ عَلَيْهِمْ اى مال عليهم مستخفيّا والتعدية بعلى للاستعلاء ولان المراد الميل المكروه ضَرْباً منصوب على المصدرية لان فى راغ معنى ضرب او بفعل محذوف اى فضرب ضربا بِالْيَمِينِ (93) اى بيد اليمنى لانه أقوى من اليسار وقيل أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله تالله لاكيدنّ أصنامكم بعد ان تولّوا مدبرين-.
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يعنى اقبل قوم ابراهيم اليه بعد ما رجعوا وراوا أصنامهم مكسورة وسالوا عن كاسرها بقولهم من فعل هذا بآلهتنا انّه لمن الظّالمين وظنوا انه هو حيث قالوا سمعنا فتى يّذكرهم يقال له ابراهيم يَزِفُّونَ (94) قرأ الأعمش وحمزة بضم الياء والباقون بفتحها قيل هما لغتان والمعنى يسرعون وقيل معنى يزفّون بالضم يحملون على الزفيف يعنى كان يحمل بعضهم بعضا على الاسراع.
قالَ ابراهيم أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) اى ما تنحتونه عن الأصنام استفهام للانكار والتوبيخ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) الجملة حال من فاعل تعبدون والتقيد بالحال انكار بعد الإنكار والظاهر ان ما مصدرية يعنى والحال ان الله خلقكم وخلق أعمالكم فما لكم تتركون عبادة الخالق وتؤثرون عبادة المحتاج إليكم فهذه الاية حجة لنا على ان افعال العباد مخلوقة لله تعالى- وقالت المعتزلة ما موصولة والمعنى خلقكم وما تعملونه يعنى الأصنام فان جوهرها بخلقه تعالى وشكلها وان كان بفعلهم (ولذلك جعل من أعمالهم) فباقداره إياهم عليه وخلقه ما يتوقف عليه من الدواعي والعدد او مصدرية والمعنى عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون- قلنا الوجه هو الاول لان الأخيرين يقتضى الحذف والمجاز ولا شك ان معمولهم ليس الا الشكل دون جوهر الأصنام وعلى التأويلين الأخيرين ايضا يثبت ان الشكل مخلوق لله تعالى ومعمول اى مكسوب للعباد وهو المقصود.(8/124)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
قالُوا فيما بينهم لما عجزوا عن المحاجة ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) اى فى النار الشديدة التأجج كذا فى القاموس واللام بدل الاضافة والجملة معطوفة على جمل محذوفة معطوفة بعضها على بعض تقديره فاملئوه حطبا واضربوه بالنار فاذا التهب القوه فى الجحيم قال مقاتل بنوا له حائطا من الحجر طوله فى السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملئوه من الحطب واوقدوا فيها.
فَأَرادُوا بِهِ اى بإبراهيم عليه السلام كَيْداً اى شرّا وهو ان يحرّقوه كيلا يظهر عجزهم للعامة فطرحوه فيها موثقا يداه ورجلاه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) اى الأذلين بابطال كيدهم وجعله برهانا واضحا على علو شانه حيث جعل النار عليه بردا وسلاما ولم يحرق منه الا وثاقه وكان ذلك بأرض بابل في زمن نمرود الجبار..
وَقالَ ابراهيم حين خرج من النار سالما ولم يؤمنوا به إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي يعنى اهجر دار الكفر واذهب الى حيث اتجرد فيه بعبادة ربى سَيَهْدِينِ (99) عطف على ما يفهم من قوله فجعلناهم الأسفلين يعنى خرج من النار سالما وقال انّى ذاهب الى ربّى سيهدين الى ما فيه صلاح دينى او الى مقصد قصدته حيث أمرني ربى وهو الشام وحينئذ فرّ ابراهيم هاربا مع سارة من ارض بابل من خوف نمرود وكانت سارة من أجمل نساء عصرها ومرّ بحدود مصر وفرعونها يومئذ صادف بن صادف وفى شرح البخاري لابن الملقن اسمه سنان بن علوان أخو الضحاك وقيل اسمه عمرو بن امرأ القيس فغصب سارة من ابراهيم فحمل صادف الجبار سارة الى قصره وجعل الله الجدر والستور لابراهيم كقشر البيضة ينظر إليها كيلا يقيد قلبه إليها وكان رجلا غيورا- فلمّا همّ بها زلزل القصر فلم يدران ذلك من أجلها فتحول الى القصر الثاني فزلزل به فتحول الى القصر الثالث فزلزل به فقالت سارة هذا من الى ابراهيم رد اليه امرأته. وفى رواية فلمّا مدّيده إليها شلت يده فاستغاث صادف بسارة وطلب الدعاء فدعت سارة فعادت اليد كما كانت فمديده إليها ثانية فصارت مشلولة فطلب الدعاء منها ثانيا وعهد ان لا يفعل لهذا الفعل فدعت السارة فمد يده إليها ثالثة(8/125)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
فشلت يده ثالثا وحلف ان عوفى ان لا يفعل ابدا فدعت سارة فصحت يده- وروى احمد فى مسنده والبخاري ومسلم عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو ذات يوم وسارة إذ اتى على جبار من الجبابرة فقيل له ان هاهنا رجل معه امراة من احسن الناس فارسل اليه فساله عنها فقال من هذه قال أختي فاتى سارة فقال يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيرى وغيرك وان هذا سالنى فاخبرته انك أختي فلا تكذبنى فارسل إليها فلمّا دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فاخذ فقال ادعى الله لى ولا اضرك فدعت الله فاطلق ثم تناولها ثانيا فاخذ مثلها او أشد فقال ادعى الله لى ولا اضرك فدعت الله فاطلق فدعا بعض حجبته فقال انك لم تأتينى بانسان انما أتيتني بشيطان فاخدمها هاجر فاتته وهو قائم يصلى فاومى بيده مهيم قالت رد الله كيد الفاجر فى نحره وأخدمني هاجر- وفى المواهب اللّدنية ان فى رواية صارت يد صادف مغلولة حين مدها الى سارة فاستغاث صادف بإبراهيم عليه السلام فدعا ابراهيم فاطلق الله يده فاعطاه هاجر أم إسماعيل عليه السلام وقال لا سبيل لى الى سارة بعد وكانت هاجر امينة وخازنة وجليسة وقال حين وهبها ما أجرك الخطاب لابراهيم ان وهبها له او لسارة ان وهبها لها فسميت هاجر من ذلك ثم وهبها ابراهيم لسارة طلبا لرضاها فلم يلد سارة قبل ولادة إسماعيل وظنت بها العقم وقالت لابراهيم ان هاجر امراة مرغوبة فقد وهبتها لك لعله يكون لك منها ولد فوطيها فولدت إسماعيل عليه السلام.
قلت وذلك حين دعا ابراهيم ربه وقال.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) اى هب لى ولدا كائنا من الصالحين قال مقاتل لما قدم الأرض المقدسة سال ربه الولد..
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) يعنى ذا إناءة وعقل كذا فى القاموس يعنى إسماعيل عليه السلام وهو الصحيح واليه ذهب ابن عمر وهو قول سعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن انس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن عطاء بن ابى رباح ويوسف بن مامك عن ابن عباس قال المفدى إسماعيل- واخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعيد عن أبيه انه كانت سارة تحت ابراهيم فمكثت عنده دهرا لا يرزق ولدا فلمّا رات ذلك وهبت له هاجر امة قبطية فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة وقد(8/126)
ذكرنا القصة فى سورة ابراهيم ثم جاء ابراهيم بها وبإسماعيل بمكة وهى ترضعه حتى وضعهما عند البيت كذا فى البخاري وذكرنا حديث البخاري ايضا فى سورة ابراهيم- وقالت اليهود والنصارى الغلام الذي امر ابراهيم بذبحه هو إسحاق وهذا كذب منهم قال البغوي قال محمد بن كعب القرظي سال عمر بن عبد العزيز رجلا من علماء اليهود (وحسن إسلامه) اىّ ابني ابراهيم امر بذبحه فقال إسماعيل ثم قال يا امير المؤمنين ان اليهود يعلم ذلك ولكنهم يحسدون كم يا معشر العرب على ان يكون أباكم الذي كان من امر الله بذبحه ويزعمون انه إسحاق بن ابراهيم ومن الدليل عليه ان قرنى الكبش كانا منوطين فى الكعبة فى يدى بنى إسماعيل الى ان احترقت البيت واحترق القرنان فى ايام ابن الزبير والحجاج- اخرج سعيد بن منصور والبيهقي فى سننه عن امراة من بنى سليم عن عثمان بن طلحة انه كان قرنا الكبش معلقين بالكعبة وقال البغوي قال الشعبي رايت قرنى الكبش منوطين بالكعبة وقال ابن عباس والذي نفسى بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش تعلق بقرنيه وميزاب الكعبة قد وحش يعنى يبس- قال الأصمعي سالت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسماعيل او إسحاق قال يا اصمع اين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة انما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه قال البغوي وكلا القولين يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت وقول البغوي هذا كناية عن انه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فى الباب شىء إذ لو صح أحدهما لم يعتد بقول اخر- وما ذكر البغوي انه ذهب من الصحابة عمر وعلى وابن مسعود وابن عباس ومن التابعين واتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدى وهو رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس الى انه إسحاق- وقال سعيد بن جبير ارى ابراهيم ذبح إسحاق بالشام فساربه مسيرة شهر فى غدوة واحدة حتى اتى به المنحر بمنى فلمّا امره الله بذبح الكبش وذبحه ساربه مسيرة شهر فى روحة واحدة فطويت له الاودية والجبال- فلعل من قال منهم هذا القول اعتمد على اخبار اليهود والله اعلم- والدليل على كون إسماعيل مامورا بذبحه انه هو المولود اولا بعد الهجرة الى الشام اجماعا وقد عطف الله قوله فبشّرناه بغلام حليم على قوله وقال انّى ذاهب الى ربّى سيهدين بالفاء(8/127)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
لموضوع للتعقيب بلا تراخ واما إسحاق فقد ولد بعد ذلك بتراخ والمأمور بذبحه انما هو ذلك المبشر به لمّا بلغ معه السعى ولان البشارة بإسحاق بعد ذلك معطوفة على البشارة بهذا الغلام فهو غير ذلك دليل واضح على انه غيره لا يقال ان البشارة التي بعد ذلك المعطوفة انما هى بشارة بنبوة إسحاق لا بولادته كما قيل بشر ابراهيم بإسحاق مرتين مرة بولادته ومرة بنبوته لانه خلاف ظاهر الاية فان الله تعالى قال وبشّرناه بإسحاق نبيّا من الصّالحين يعنى بشرناه بنفس إسحاق حال كونه مقضيا بالنبوة والصلاح ولم يقل بشرناه بنبوة إسحاق وصلاحه والصرف عن الظاهر لا يجوز بلا ضرورة. ولان سارة لمّا بشرت بإسحاق بشرت معه بيعقوب ولدا منه حبث قال الله تعالى فبشّرناها بإسحاق ومن وراء اسحق يعقوب فلا يتصور الأمر بذبحه مراهقا قبل ولادة يعقوب..
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ عطف على جملة محذوفة تقديره فولد له الغلام فلمّا بلغ معه السّعى اى بلغ ان يسعى معه فى اعماله ويعينه وقال الكلبي يعنى العمل لله وهو قول الحسن ومقاتل بن حبان وابن زيد قالوا هو العبادة وقال ابن عباس وقتادة لما بلغ ان يسعى الى الجبل معه وقال مجاهد عن ابن عباس يعنى انه شبّ حتى بلغ سعيه سعى ابراهيم قيل كان سنه ثلاث عشرة سنة وقيل سبع سنين- والظرف اعنى معه متعلق بمحذوف دل عليه السعى لا به لان صلة المصدر لا يتقدمه ولا ببلغ فان بلوغهما لم يكن معا كانّه قال فلمّا بلغ السعى فقيل مع من فقيل معه كذا قيل والاولى ان يقال انه ظرف مستقر حال من السعى قالَ يا بُنَيَّ قرأ حفص بفتح الياء إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل انه راى ذلك ويحتمل انه راى ما هو تعبيره قال محمد بن إسحاق كان ابراهيم إذا زاد هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت بالشام حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعى وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته امر فى المنام ان يذبحه وذلك انه راى ليلة التروية كانّ قائلا يقول له ان الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلمّا أصبح روّى فى نفسه اى فكر من الصباح الى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمى يوم التروية فلما امسى راى فى المنام ثانيا(8/128)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
فلما أصبح عرف ان ذلك من الله فمن ثم سمى عرفة كذا اخرج البيهقي فى شعب الايمان من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال ابن إسحاق وغيره فلمّا امر ابراهيم بذبح ابنه قال لابنه خذ الحبل والمدينة ينطلق الى هذا الشعب نحتطب فلمّا خلا ابراهيم بابنه فى شعب ثبير أخبره بما امر به قال مقاتل راى فى المنام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك اخبر به ابنه انّى ارى فى المنام انّى أذبحك- وقال السدىّ لمّا دعا ابراهيم فقال ربّ هب لى من الصّالحين وبشر به قال هو إذا لله ذبيح فلمّا ولد وبلغ معه السّعى قيل له يعنى من الله أوف بنذرك هذا هو السبب فى امر الله بذبح ابنه. وهذا القول ينافى الابتلاء قال البغوي انه قال ابراهيم لاسماعيل انطلق نقرب قربانا لله عزّ وجلّ فاخذ سكينا وحبلا فانطلق معه حتى ذهب به بين الجبال فقال الغلام يا أبت اين قربانك قال يا بنىّ انّى ارى فى المنام انّى أذبحك قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح ياء المتكلم فى انّى ارى وانّى أذبحك والباقون بإسكانها فيهما فَانْظُرْ ماذا تَرى قرأ حمزة والكسائي «وخلف- ابو محمد» بضم التاء وكسر الراء من الافعال من الرأى لا من الرؤية اى ماذا تشير وانما استشاره ليعلم صبره على امر الله وعزيمته على طاعته والباقون بفتح التاء والراء وابو عمرو «وورش يقلله- ابو محمد» يميل فتحة الراء قالَ إسماعيل يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ اى ما تؤمر به فحذفا دفعة او على الترتيب او افعل أمرك اى مأمورك والاضافة الى المأمور وهذا يدل على ان روياء الأنبياء وحي واجب الامتثال وقد روى عبد بن حميد عن قتادة ان رؤيا الأنبياء وحي وروى البخاري فى الصحيح عن ابى سعيد الخدري ومسلم عن ابن عمرو ابى هريرة واحمد وابن ماجة عن ابى رزين والطبراني عن ابن مسعود مرفوعا الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- ولا شك ان رؤيا الأنبياء كلما صالحة لا يحتمل الفساد واما رؤيا غيرهم فمنها صالحة ومنها دون ذلك سَتَجِدُنِي قرأ نافع «وابو جعفر- ابو محمد» بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) على الذبح..
فَلَمَّا أَسْلَما اى استسلما وانقادا وخضعا لامر الله وقال قتادة اى اسلم ابراهيم ابنه واسلم ابنه نفسه وَتَلَّهُ اى صرعه على الأرض لِلْجَبِينِ (103) قال ابن عباس(8/129)
أضجعه على جنبه على الأرض والجبهة بين الجنبين وكان ذلك عند الصخرة بمنى أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم عن ابن عباس واخرج البغوي عن عطاء بن السائب عن رجل من قريش عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه بالمنحر الذي ينحر فيه اليوم- قال البغوي قالوا قال له ابنه يا أبت اشدد رباطى حتى لا اضطرب واكفف عنّى ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمى شىء فينقص اجرى وتراه أمي فتحزن واستحد شفرتك واسرع مر السكين على حلقى ليكون أهون علىّ فان الموت شديد وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام منى وان رايت ان ترد قميصى على أمي فافعل فانه عسى ان يكون اسلى لها قال ابراهيم عليهما السلام نعم العون أنت يا نبى على امر الله ففعل ابراهيم ما قال له ابنه ثم اقبل عليه وقبله وربطه وهو يبكى ثم انه وضع السكين على حلقه فلم يحك السكين وروى انه كان يمرّ الشفرة على حلقه ولا يقطع فشحذه مرتين او ثلاثا بالحجر كل ذلك لا يقطع- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن السدىّ انه امرّ السكين بقوّته على حلقه مرارا فلم يقطع وضرب الله على حلقه صفحة من نحاس قالوا فقال الابن عند ذلك يا أبت كبنى بوجهي على جنبى فانك إذا نظرت فى وجهى رحمتنى وأدركتك رقة تحول بينك وبين امر الله وانى لا انظر الى الشفرة فاجزع ففعل ذلك ابراهيم ثم وضع السكين على قفاه فانقلب السكين- واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن مجاهد ايضا ان ابراهيم كبّه على وجهه- وروى ابو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله لمّا أراد ابراهيم ذبح ابنه قال الشيطان لان لم افتن عند هذا ال ابراهيم لا افتن منهم أحدا ابدا فتمثل الشيطان رجلا فاتى أم الغلام فقال لها هل تدرين اين ذهب ابراهيم بابنك قالت ذهبا يحتطبان من هذا الشعب قال لا والله ما ذهب به الا ليذبحه قالت لا هو ارحم به وأشد حبا له من ذلك قال انه يزعم ان الله امره بذلك قالت فان كان ربه امره بذلك فقد احسن ان يطيع ربه فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشى على اثر أبيه(8/130)
وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
فقال يا غلام هل تدرى اين يذهب بك أبوك قال نحتطب لاهلنا من هذا الشعب قال لا والله ما يريد الا ان يذبحك قال ولم قال يزعم ان ربه امره بذلك قال فليفعل ما امر به ربّه سمعا وطاعة فلما امتنع منه الغلام اقبل على ابراهيم فقال له اين تريد ايها الشيخ قال أريد هذا الشعب لحاجة لما فيه قال والله انى لارى ان الشيطان قد جاءك فى منامك فامرك بذبح ابنك هذا فعرفه ابراهيم فقال إليك عنى يا عدو الله فو الله لامضينّ لامر ربى فرجع إبليس بغيظه ولم يصب من ابراهيم واله شيئا ممّا أراد وامتنعوا منه بعون الله عزّ وجلّ وروى ابو الطفيل عن ابن عباس ان ابراهيم لما امر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر سابقة فسبقه ابراهيم ثم ذهب الجمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أدركه عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم ادكه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى ابراهيم لامر الله عزّ وجلّ وثلّه للجبين-.
وَنادَيْناهُ قال البغوي الواو زائدة ونادينه جواب لمّا وقال البيضاوي جواب لمّا محذوف تقديره كان ما كان فما ينطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله واظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب الجزيل الى غير ذلك قلت وجاز ان يكون الواو للعطف على جواب لمّا المحذوف تقديره فلمّا أسلما وتلّه للجبين منعنا عنه الذبح وناديناه أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) ان مفسرة لنا دينا.
قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا حيث أتيت من الفعل ما كان مقدورا لك والمطلوب من التكليف والابتلاء هو الإتيان بالمقدور لا غير وقيل كان راى فى المنام معالجة الذبح ولم ير اراقة الدم وقد فعل فى اليقظة ما راى فى النوم وعلى هذا قد صدّقت الرّؤيا حقيقة فى معناه وعلى الاول مجاز فان قيل على التقدير الثالث الم يكن ذبح الولد عليه واجبا وانما كان الواجب عليه معالجة اسباب الذبح فما معنى قوله وفديناه فان الفداء لا يتصور الا بعد الوجوب قلنا على التقدير الثاني إذا كان معالجة الذبح واجبا أصالة صار الذبح واجبا دلالة لكونه لازما له(8/131)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108)
عادة فصح اطلاق الفداء عليه وهذا نسخ للحكم قبل القدرة على إتيانه إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) تعليل لفرج تلك الشدة عنهما باحسانهما يعنى انا نجزى المحسنين بإحسانهم جزاء مثل ما جزينا ابراهيم وعفوناه عن ذبح الولد مع ما أعطيناه من الثواب العظيم وفضلناه به على العالمين.
إِنَّ هذا اى الأمر بتذبيح ابنه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) اى الاختبار الظاهر الذي به يتبين المخلص من غيره او المحنة والصعوبة البينة فانه لا أصعب منها وقيل المراد بالبلاء هو النعمة وهى ان فدى ابنه بالكبش-.
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عطف على نادينا روى انه لمّا سمع ابراهيم النداء نظر الى السماء فاذا هو بجبرئيل ومعه كبش أملح اقرن وقال هذا فداء لابنك فاذبحه دونه فكبر جبرئيل وكبر الكبش وكبر ابراهيم وكبر ابنه فاخذ ابراهيم الكبش واتى المنحر من منى فذبحه والفادي على الحقيقة ابراهيم وانما قال وفديناه لانه المعطى له والأمر به على التجوز فى الفداء او الاسناد عَظِيمٍ (107) اى عظيم الجثة سمين او عظيم القدر فى الثواب وقال الحسين بن الفضل لانه كان من عند الله قال سعيد بن جبير حق له ان يكون عظيما وقال مجاهد سماه عظيما لانه متقبل- قال البغوي قال اكثر المفسرين كان ذلك فى الجنة أربعين خريفا وأخرجه ابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وروى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ان الكبش الذي ذبحه ابراهيم هو الذي كان قربه ابن آدم هابيل- استدل الحنفية بهذه الاية على انه من نذر بذبح ولده لزمه ذبح شاة قال البيضاوي وليس فيها ما يدل عليه قلت قد ذكرنا المسألة فى سورة الحج فى تفسير قوله تعالى وليوفوا نذورهم «1» وذكرنا ان القياس يقتضى ان لا يلزمه شىء لانه نذر بالمعصية وبه قال ابو يوسف لكن استحسن ابو حنيفة انه يلزمه شاة لان الحقيقة إذا كانت مهجورة شرعا تعين المجاز فلما نذر بذبح الولد مملناه على التزامه بدله اعنى الشاة بدليل هذه الاية حيث جعل الله تعالى كبشا فداء لابن ابراهيم عليهما السلام وبه افتى ابن عباس كما ذكرنا هناك.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى على ابراهيم عطف على صدر القصة يعنى جاء ربّه بقلب سليم
__________
(1) وفى الأصل نذوركم 12(8/132)
سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وجاز ان يكون عطفا على فديناه فِي الْآخِرِينَ (108) من الأمم الثناء والذكر حذف المفعول لدلالة سياق الكلام وجاز ان يكون قوله.
سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) بتقدير هذا القول مفعولا لتركنا.
كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) تعليل للسلام ولعله طرح عنه انا اكتفاء بذكره مرة فى هذه القصة.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ اى بان نهب لك ولذلك سمى إسحاق نَبِيًّا اى مقضيا نبوته مقدرا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وبهذا الاعتبار وقعا حالين ولا يقدح فيه عدم المبشر به وقت البشارة فان وجود ذى الحال ليس بشرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال فلا حاجة الى تقدير المضاف يجعل عاملا فيهما مثل وبشّرناه بوجود إسحاق اى بان يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين ومع ذلك لا يصير نظير قوله تعالى فادخلوها خالدين فان الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول وإسحاق لم يكن مقدّرا نبوة نفسه وصلاحه حيث ما يوجد- وفى ذكر الصلاح بعد النبوة ثناء عليه وتعظيم لشأنه وايماء بانه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق.
وَبارَكْنا عَلَيْهِ اى أفضنا بركات الدين والدنيا عليه وقيل باركنا اى على ابراهيم فى أولاده وَعَلى إِسْحاقَ بكون الف بنى من نسله أولهم يعقوب وآخرهم عيسى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ فى عمله او على نفسه بالايمان والطاعة وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي مُبِينٌ (113) ظاهر ظلمه وفى ذلك تنبيه على ان النسب لا اثر له فى الهدى والضلال وان الظلم فى اعقابهما لا يضرهما-.
وَلَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) عطف على ولقد نادينا نوح وبينهما معترضات.
وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) اى من فرعون يسومهم سوء العذاب وقيل من الغرق.
وَنَصَرْناهُمْ يعنى موسى وقومه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) على فرعون وقومه.
وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ اى التوراة الْمُسْتَبِينَ (117) البالغ فى بيان احكام الله وشرائعه.
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) الطريق(8/133)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
الموصل الى الحق والصواب لمن يسلكه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) سبق مثل ذلك-.
وَإِنَّ إِلْياسَ قرأ ابن ذكوان برواية النقاش عن الأخفش بحذف الهمزة والباقون بتحقيقها لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) عطف على ولقد مننّا روى عن عبد الله ابن مسعود قال الياس هو الادريس وفى مصحفه انّ إدريس لمن المرسلين وهذا قول عكرمة وقال الآخرون هو نبى من أنبياء بنى إسرائيل قال ابن عباس هو ابن عم اليسع وقال محمد بن إسحاق هو الياس بن بشر بن فنحاص بن عيزار بن هارون بن عمران عليه السلام وقال ايضا محمد بن إسحاق والعلماء من اصحاب الاخبار لمّا قبض الله عزّ وجلّ قبله نبيّا عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وظهر الشرك ونصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله فبعث الله إليهم الياس نبيّا وكانت الأنبياء من بنى إسرائيل يبعثون بعد موسى بتجديد ما نسوا من التوراة- وبنوا إسرائيل كانوا متفرقين فى ارض الشام وكان سبب ذلك ان يوشع بن نون لمّا فتح الشام بوأها بنى إسرائيل وقسمها بينهم فاحل سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين كان منهم الياس فبعثه الله إليهم نبيّا وعليهم يومئذ ملك يقال له أجب فداخل قومه واجبرهم على عبادة الأصنام وكان يعبد صنما يقال له بعل وكان طوله عشرون ذراعا ولها اربعة وجوه- فجعل الياس يدعوهم الى عبادة الله عزّ وجلّ وهم لا يسمعون منه شيئا الا ما كان من امر الملك فانه صدقه وأمن به فكان الياس يقوّم امره ويسدّده ويرشده- وكانت لاجب امراة يقال لها ازبيل فكان يستخلفها على رعيته إذا كان غائبا فى غزاة وغيرها وكانت تبرز وتقضى للناس وكانت قتّالة للانبياء يقال هى التي قتل يحيى بن زكريا عليهما السلام- وكان لها كاتب رجل مؤمن حكيم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلاث مائة نبى كانت تريد قتل كل واحد منهم إذا بعث سوى الذين قتلتهم وكانت فى نفسها غير محصنة وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بنى إسرائيل وقتلت كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال انها ولدت سبعين ولدا(8/134)
وكان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له مزدكى وكانت له جنينة يعيش منها ويقبل على عمارتها ومرمتها وكانت الجنينة الى جانب قصر الملك وامرأته وكانا يشرفان على تلك الجنينة يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويغسلان فيها وكان أجب الملك يحسن جوار صاحبه مزدكى ويحسن اليه وامرأته ازبيل تحسده لاجل تلك الجنينة وتحتال ان تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال ان تقتله والملك ينهاها من ذلك فلم تجد اليه سبيلا- ثم انه اتفق خروج الملك الى سفر بعيد فطالت غيبته فاغتنمت امرأته ازبيل وأمرت رجالا يشهدوا على مزدكى انه سبّ زوجها أجب فاجابوها اليه وكان فى حكمهم فى ذلك الزمان القتل على من سب الملك فاقامت عليه البينة وأحضرت مزدكى وقالت بلغني انك شتمت الملك فانكر المزدكى وأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فامرت بقتله وأخذت جنينته فغضب الله عزّ وجلّ عليهم للعبد الصالح فلمّا قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال ما أحسنت ولا أرانا نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان واحسنّا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت امره بأسوإ الجوار قالت انما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها ما كان يسعه حلمك فتحفظين له حواره قالت قد كانت ما كانت- فبعث الله الياس الى أجب الملك وقومه فامره ان يخبرهم ان الله قد غضب لوليه حين قتلوه ظلما والى على نفسه انهما ان لم يتوبا عن صنيعهما ولم يردا الجنينة الى ورثة المزدكى ان يهلكهما يعنى أجب وامرأته فى جوف الجنينة ثم يدعهما جيفتين ملقاتين فيها حتى يتعرى عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بهما الا قليلا قال فجاء الياس فاخبره بما اوحى الله اليه فى امره وامر امرأته برد الجنينة فلمّا سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه ثم قال له يا الياس ما ارى ما تدعو اليه الا باطلا وما ارى فلانا وفلانا (سمى ملوكا منهم) قد عبدوا الأوثان الا على مثل ما نحن عليه يأكلون ويتنعمون مملكين ما ينقص من دنياهم أمرهم الذي تزعم انه باطل وما نرى لنا عليهم من فضل- قال وهمَّ الملك بتعذيب الياس وقتله فلما احسّ الياس الشرّ رفضه وخرج عنه ولحق بشواهق الجبال وعاد
الملك الى عبادة البعل وارتقى الياس الى أصعب جبل وأشمخه «الشامخ العالي- منه ره» فدخل مغارة فيه يقال انه بقي(8/135)
سبع سنين شريدا خائفا يأوى الى الشعاب والكهوف يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم فى طلبه وقد وضعوا عليه العيون والله يستره- فلمّا تم سبع سنين اذن الله فى إظهاره وشفاء غيظه منهم فامرض الله عزّ وجلّ ابنا لاجب وكان ذلك أحب ولده اليه وأشبههم به فادنف «يعنى مرض شديدا لازما- منه ره» حتى يئس منه فدعا صنمه بعلا وكانوا قد فتنوا ببعل وعظموه حتى جعلوا له اربع مائة سادن فوكلوهم به وجعلوهم أنبياء وكان الشيطان يدخل فى جوف الصنم فيتكلم والأربع مائة يصغون بآذانهم الى ما يقول الشيطان ويوسوس إليهم الشيطان بشريعة من الضلال فيبينونها للناس فيعلمون بها ويسمونهم أنبياء- فلما اشتد مرض ابن الملك طلب إليهم الملك ان يتشفعوا الى بعل ويطلبوا لابنه من قبله الشفاء فدعوه فلم يجبهم ومنع الله الشيطان فلم يمكنه الولوج فى جوفه وهم مجتهدون فى التضرع اليه- فلمّا طال عليهم ذلك قالوا لاجب ان فى ناحية الشام الهة اخرى فابعث إليها أنبياءك فلعلها تشفع لك الى إلهك بعل فانه غضبان عليك ولولا غضبه عليك لاجابك قال ومن أجل ماذا غضب علىّ وانا أطيعه قالوا من أجل انك لم تقتل الياس وفرطتّ فيه حتى نجا سليما وهو كافر بإلهك قال أجب وكيف لى ان اقتل الياس وانا مشغول عن طلبه لوجع ابني وليس لالياس مطلب ولا يعرف له موضع فيقصد فلو عوفى ابني لفرغت لطلبه حتى أجده فاقتله فارضى الهى- ثم انه بعث أنبياءه الأربع مائة الى الالهة التي بالشام يسئلونها ان تشفع الى صنم الملك يشفى ابنه فانطلقوا حتى إذا كانوا بحيال الجبل الذي فيه اليأس اوحى الله اليه ان يهبط من الجبل ويعارضهم ويكلمهم وقال له لا تخف فانى ساصرف عنك شرهم والقى الرعب فى قلوبهم فنزل الياس من الجبل فلما لقيهم استوقفهم فلما وقفوا قال لهم ان الله عزّ وجلّ أرسلني إليكم والى من ورائكم فاستمعوا ايها القوم رسالة ربكم لتبلغوا صاحبكم فارجعوا اليه وقولوا ان الله يقول الست تعلم يا أجب انى انا الله لا اله الا انا اله بنى إسرائيل الذي خلقهم ورزقهم وأحياهم وأماتهم وقلة عملك حملك على ان تشرك بي وتطلب الشفاء لابنك من غيرى ممن لا يملكون لانفسهم شيئا الا ما شئت انى حلفت باسمي لاغضبنك فى ابنك ولاميتنه(8/136)
فى فوره غدا حتى تعلم ان أحدا لا يملك له شيئا دونى فلمّا قال لهم هذا رجعوا وقد ملئوا منه رعبا- فلما صاروا الى الملك اخبروه بان الياس قد انحط عليهم وهو رجل نحيف طوال قد نحل وتمعط شعره واقشعر جلده عليه جبة من شعر وعباءة قد خللها على صدره «نحل جسمه نحولا ذهب من مرض او سفر قاموس منه ره» بخلال فاستوقفنا فلمّا صار معنا قذف له فى قلوبنا الهيبة والرعب وانقطعت ألسنتنا ونحن فى هذا العدد الكثير فلم نقدر ان نكلمه ونراجعه حتى رجعنا إليك وقصوا عليه كلام الياس- فقال أجب لاننتفع بالحياة ما كان الياس حيّا ولا يطاق الا بالمكر والخديعة فقيض له خمسين رجلا من قومه ذوى القوة والبأس وعهد إليهم عهده وأمرهم بالاحتيال له والاغتيال «القتل بالخديعة- منه ره» له وان يطمعوه فى انهم قد أمنوا به هم ومن وراء هم ليستنيم إليهم و «اى يسكن وإليهم يطمئن قاموس منه ره» يغتر بهم فيمكنهم من نفسه فيأتون به ملكهم فانطلقوا حتى ارتفعوا ذلك الجبل الذي يسكن فيه الياس ثم تفرقوا فيه ينادونه بأعلى أصواتهم ويقولون يا نبى الله ابرز إلينا وامتن علينا بنفسك فانا قد أمنا بك وصدقناك وملكنا أجب وجميع الناس وأنت أمن على نفسك وجميع بنى إسرائيل يقرءون عليك السلام ويقولون قد بلغتنا رسالتك وعرفنا ما قلت فامنّا بك وأجبناك الى ما دعوتنا فهلم إلينا فاقم بين أظهرنا واحكم فينا فننقاد لما امرتنا وننتهى عما نهيتنا وليس يسعك ان تتخلف عنا مع أيماننا بك وطاعتنا فارجع إلينا- وكل هذا منهم مما كرة وخديعة فلمّا سمع الياس مقالتهم وقع فى قلبه وطمع فى ايمانهم وخاف الله ان هو لم
يظهر لهم فالهمه الله التوقف والدعاء فقال اللهم ان كانوا صادقين فيما يقولون فأذن لى فى البروز إليهم وان كانوا كاذبين فاكفنيهم وارمهم بنار تحرقهم فما استتم قوله حتى حصبوا بالنار «اى رموا بها- منه ره» من فوقهم فاحترقوا أجمعين قال فبلغ أجب وقومه الخبر فلم يرتدع من همه بالسوء «اى لم يكف ولم يرد- منه ره» واحتال ثانيا فى امر الياس وقيض اليه فئة اخرى مثل عددهم أولئك أقوى منهم وأمكن فى الحيلة والرأى فاقبلوا حتى توقلوا «اى صعدوا» قلل الجبال متفرقين وجعلوا ينادون يا نبى الله انّا نعوذ بالله بك من غضب الله وسطواته «السطوة البطش والقهر قاموس منه ره» انا لسنا كالذين أتوك قبلنا وان أولئك فرقة نافقوا(8/137)
فصاروا إليك ليكيدوا من غير رأينا ولو علمنا بهم لقتلناهم ولكفيناك مؤنتهم فالان قد كفاك ربك أمرهم واهلكهم وانتقم لنا ولك منهم- فلمّا سمع الياس مقالتهم دعى الله بدعوته الاولى فامطر عليهم النار فاحترقوا عن آخرهم وفى كل ذلك ابن الملك فى البلاء الشديد من وجعه- فلمّا سمع الملك بهلاك أصحابه ثانيا ازداد غضبا الى غضب وأراد ان يخرج الى طلب الياس بنفسه الا انه شغله من ذلك مرض ابنه فلم يمكنه فوجه نحو الياس المؤمن الذي هو كاتب امرأته رجاء ان يأنس به الياس فينزل معه واظهر للكاتب انه لا يريد بالياس سوء او انما اظهر له لما اطلع عليه من إيمانه وكان الملك مع اطلاعه على إيمانه مثنيا عليه لما هو عليه من الكفاية والامانة وسداد الرأى- فلمّا وجهه نحوه أرسل معه فئة واوغر «من التوغير اى الإغراء بالحقد- منه ره» الى الفئة دون الكاتب ان يوثقوا الياس ويأتوه به ان أراد التخلف عنهم وان جاء مع الكاتب واثقا به لم يروّعوه «الروع الفزع- منه ره» ثم اظهر مع الكاتب الانابة وقد قال له انه قد ان لى وقد أصابتنا بلايا من حريق أصحابنا والبلاء الذي فيه ابني وقد عرفت ان ذلك بدعوة الياس ولست أمنا ان يدعو على جميع من بقي منا فنهلك بدعوته فانطلق اليه وأخبره انا قد تبنا وأنبنا وانه لا يصلحنا فى توبتنا وما نريد من رضاء ربنا وخلع أصنامنا الا ان يكون الياس بين أظهرنا يأمرنا وينهانا ويخبرنا بما يرضى ربنا- وامر قومه فاعتزلوا وقالوا له اخبر الياس انا قد خلعنا الهتنا التي كنا نعبد وارخينا أمرها حتى ينزل الياس فيكون هو الذي يحرقها ويهلكها وكان ذلك مكرا من الملك- فانطلق الكاتب والفئة حتى علا الجبل الذي فيه الياس ثم ناداه فعرف الياس صوته فتاقت نفسه اليه «اى اشتاقت منه ره» وكان مشتاقا الى لقائه فاوحى الله اليه ان ابرز الى أخيك الصالح فالقه وجدد العهد به فبرز اليه وسلم عليه وصافحه فقال له ما لخبر فقال له المؤمن انه قد بعثني إليك هذا الجبار الطاغي وقومه ثم قص عليه ما قالوا ثم قال له وانى خائف ان رجعت اليه ولست معى ان يقتلنى فمرنى بما شئت افعله ان شئت انقطعت إليك وكنت معك وتركته وان شئت جاهدته معك وان(8/138)
شئت ترسلنى اليه بما تحبّ فابلّغه رسالتك وان شئت دعوت ربّك ان يجعل لنا من أمرنا خرجا ومخرجا- فاوحى الله الى الياس ان كل شىء جاءك منهم مكر وخديعة وكذب ليظفروا بك وانّ أجب الملك ان أخبرته رسله انك لقد لفيت لهذا الرجل ولم يأت بك اتهمه وعرف انه قد واهن فى أمرك فلم يؤمن ان يقتله فانطلق معه وانى ساشغل عنكما أجب فاضاعف على ابنه البلاء حتى لا يكون له هم غيره ثم أميته على شر حال فاذا مات هو فارجع منه قال فانطلق معهم حتى قدموا على أجب فلما قدموا شدّد الله الوجع على ابنه وأخذ الموت بكظمه «الكظم محركة الحلق او الضم او مخرج النفس- قاموس منه ره» فشغل الله بذلك أجب وأصحابه عن الياس فرجع الياس سالما الى مكانه- فلمّا مات ابن أجب وفرغوا من امره وقلّ جزعه انتبه لالياس وسال عنه الكاتب الذي جاء به فقال ليس لى به شغلنى عنه موت ابنك والجزع عليه ولم أكن أحسبك الا وقد استوثقت منه فاضرب عنه أجب وتركه لما فيه من الحزن على ابنه.
فلمّا طال الأمر على الياس ومد الكون فى الجبال واشتاق الى الناس نزل من الجبل وانطلق حتى نزل بامراة من بنى إسرائيل وهى أم يونس بن متى ذى النون استخفى عندها ستة أشهر ويونس بن متى يومئذ مولود مرضع فكانت أم يونس تخدمه بنفسها وتواسيه بذات يدها «اى تخدمه بما لها- منه ره» - ثم ان الياس سئم ضيق البيوت بعد تعوده فسحة الجبال فاحب اللحوق بالجبل فخرج وعاد الى مكانه فجزعت أم يونس لفراقه وأوحشها فقده ثم لم تلبث الا يسيرا حتى مات ابنها يونس حين فطمته فعظمت مصيبتها فخرجت فى طلب الياس ولم تزل ترقى الجبال وتطوف فيها حتى عثرت عليه ووجدته وقالت له انى قد فجعت بعدك بموت ابني فعظمت فيه مصيبتى واشتد لفقده بلائي وليس لى ولد غيره فارحمنى وادع الله جلّ جلاله ليحيى لى ابني وانى تركته مسبّحى لم ادفنه قد أخفيت مكانه- فقال لها الياس ليس هذا مما أمرت به وانّما انا عبد مأمورا عمل بما يأمرنى ربى فجزعت المرأة وتضرعت واعطف الله قلب الياس إليها فقال لها متى مات ابنك قالت مند سبعة ايام فانطلق الياس معها وسار سبعة ايام اخرى حتى انتهى الى منزلها فوجد ابنها ميتا له اربعة عشر يوما(8/139)
فتوضأ وصلى ودعا فأحيى الله يونس بن متى فلمّا عاش وجلس وثب الياس وتركه وعاد الى موضعه- فلمّا طال عصيان قومه ضاق الياس بذلك ذرعا فاوحى الله اليه سبع سنين وهو خائف مجهود فنادى الله الياس ما هذا الحزن والجزع الذي أنت فيه الست أمينا على وحيي وحجتى فى ارضى وصفوتى فى خلقى فاسئلنى أعطيك فانى ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم قال الياس فان تميتنى فتلحقنى بآبائي فقد مللت بنى إسرائيل وملونى فاوحى الله اليه يا الياس ما هذا باليوم الذي اعرى عنك الأرض وأهلها وانما قوامها وصلاحها بك واشباهك وان كنتم قليل ولكن سلنى فاعطيك قال الياس فان لم تمتنى فاعطنى ثارى من بنى إسرائيل قال الله عزّ وجلّ واىّ شىء تريد ان أعطيك قال تمكننى من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشر عليهم سحابة الا بدعوتي ولا تمطر عليهم قطرة الا بشفاعتى فانه لا تذلهم الا ذلك قال الله عز وجل يا الياس انا ارحم بخلقي من ذلك وان كانوا ظالمين قال فست سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك قال فخمس سنين قال انا ارحم بخلقي من ذلك ولكنى أعطيك ثارك ثلاث سنين اجعل خزائن المطر بيدك قال الياس باىّ شىء اعيش قال أسخر لك جيشا من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف «ارض فيها زرع ونخل- منه ره» والأرض التي لم تقحط قال الياس قد رضيت- قال وامسك الله عنهم المطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام والشجر وجهد الناس جهدا شديدا والياس على حالته مستخف من قومه يوضع الرزق حيث ما كان وقد عرف ذلك قومه وكانوا إذا وجدوا ريح الخبز فى بيت قالوا لقد دخل الياس هذا المكان فطلبوه ولقى منهم اهل ذلك المنزل شرّا قال ابن عباس أصاب بنى إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر الياس بعجوز فقال لها هل عندك طعام قالت نعم لشيء من دقيق وزيت قليل قال فدعا بهما ودعا فيه بالبركة ومسه حتى ملا جرابها دقيقا وملأ خوابيها زيتا فلمّا راوا ذلك عندها قالوا من اين لك هذا قالت مربى رجل من حاله كذا وكذا فوصفته بصفته فعرفوه قالوا ذلك الياس فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم انه أوى الى بيت امراة من بنى إسرائيل لها ابن يقال لها اليسع بن أخطوب به(8/140)
ضرّ فاوته وأخفته فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع اليسع الياس وأمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيث ما ذهب وكان الياس قد اسنّ وكبر واليسع غلام شابّ.
ثم ان الله تعالى اوحى الى الياس انك قد أهلكت كثيرا من الخلق فمن لم يعص من البهائم والدوابّ والطير والهوام لحبس المطر- فيزعمون والله اعلم ان الياس قال يا رب دعنى أكون انا الذي ادعو لهم وآتاهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم ان يرجعوا او ينزعوا عما هم عليه من عبادة غيرك فقيل له نعم- فجاء الياس الى بنى إسرائيل فقال انكم قد هلكتم جوعا وجهدا وهلكت البهائم والطير والدوابّ والهوام والشجر بخطاياكم وانكم على باطل فان كنتم تحبون ان تعلموا ذلك فاخرجوا باصنامكم علىّ فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون وان هى لم تفعل علمتم انكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا أنصفت فخرجوا باوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لالياس انا قد أهلكنا فادع الله لنا فدعا لهم الياس ومعه اليسع بالفرج فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فاقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله عليهم المطر فاغاثهم وحييت بلادهم فلمّا كشف الله عنهم الضر نقضوا العهد ولم ينزعوا عن كفرهم فاقاموا على أخبث ما كانوا.
فلمّا راى ذلك الياس دعا ربه تعالى ان يريحه منهم فقيل له فيما يزعمون انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه الى موضع كذا وكذا فما جاءك من شىء فاركبه ولا تهبه فخرج الياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي امر به اقبل فرس من نار وقيل لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه الياس فانطلق به الفرس- فناداه اليسع يا الياس ما تأمرنى به فقذف اليه الياس بكسائه من الجوّ الأعلى وكان ذلك علامة استخلافه إياه على بنى إسرائيل فكان ذلك اخر العهد به ورفع الله اليأس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسيا ملكيّا سماويّا ارضيّا وسلط الله على أجب الملك وقومه عدو الهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى رهقهم فقتل أجب وامرأته ازبيل فى بستان مزدكى فلم يزل جيفتاهما ملقاتين فى تلك الجنينة(8/141)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
حتى بليت لحومهما ورمّت عظامها- ونبّا الله اليسع وبعثه رسولا الى بنى إسرائيل واوحى اليه فامنت به بنوا إسرائيل وكانوا يعظمونه وحكم فيهم قائم الى ان فارقهم اليسع روى السرى بن يحيى عن عبد العزيز عن ابى الرداد قال الياس والخضر يصومان شهر رمضان ببيت المقدس ويوافيان الموسم فى كل عام وقيل ان الياس مؤكل فى الفيافي والخضر مؤكل بالبحار هكذا ذكر البغوي فى تفسير قوله تعالى وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ-.
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) عذاب الله.
أَتَدْعُونَ تعبدون بَعْلًا اسم صنم كانوا يعبدونها سميت بها مدينتهم بعلبك وقال مجاهد وعكرمة وقتادة البعل الرب بلغة اهل اليمن وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) فلا تعبدونه وجملة اتدعون الى آخره بيان او بدل لما قبله.
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص «وخلف- ابو محمد» بالنصب على البدل والباقون بالرفع على الاستئناف.
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) فى العذاب وانما اطلق اكتفاء بالقرينة او لان الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) مستثنى من فاعل كذّبوه لا من المحضرين لفساد المعنى وقيل استثناء منقطع او متصل من المحضرين ان كان المحضرين من قبيل توصيف الكل بوصف البعض كما فى قوله تعالى ايّتها العير انّكم لسارقون فحينئذ يكون شاملا للمستثنى منه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) لغة فى الياس كسيناء وسينين وإسماعيل وسمعين وميكائيل وميكائين وقال الفراء هو جمع أراد الياس واتباعه من المؤمنين فيكون بمنزلة الأشعريين والأعجمين بالتخفيف لكن فيه ان العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام وقرا نافع وابن عامر «ويعقوب- وابو محمد» ال ياسين بفتح الهمزة شبعة وكسر اللام مقطوعة لانها فى المصحف مفصولة فيكون ياسين أبا الياس وجاز ان يكون ياسين اسما لالياس والمراد بال ياسين هو واتباعه- وما قيل ان ياسين محمد صلى الله عليه وسلم او القران او غيره من الكتب السماوية لا يناسب نظم سائر القصص وما قبله وما بعده من قوله.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)(8/142)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
إذ الظاهر ان الضمير لالياس وفى قراءة ابن مسعود سلم على ادريسين يعنى إدريس واتباعه لانه قرأ انّ إدريس لمن المرسلين-.
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) من العذاب الذي نزل على قومه.
إِلَّا عَجُوزاً وهى امرأته كائنة فِي الْغابِرِينَ (135) الباقين فى العذاب.
ثُمَّ دَمَّرْنَا
أهلكنا الْآخَرِينَ
(136) من قومه.
وَإِنَّكُمْ
يا اهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ
اى على منازلهم فى اسفاركم الى الشام فان سدوم فى طريقه مُصْبِحِينَ
(137) داخلين فى الصباح.
وَبِاللَّيْلِ
او مساءً والمعنى نهارا او ليلا ولعلها وقعت قريبا من موضع النزول فيمر المرتحل عنه صباحا والقاصد لها مساءً ان كان السير نهارا او بالعكس ان كان السير ليلا أَفَلا تَعْقِلُونَ
(138) يعنى ألستم ذوى العقول فتعتبروا والجملة معترضة-.
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ
اى هرب وأصله هرب العبد من السيد لكن لمّا كان هربه من قومه بلا اذن ربه حسن إطلاقه عليه إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(140) اخرج عبد الرزاق واحمد فى الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر عن طاؤس انه لمّا وعد قومه بالعذاب خرج من بينهم (يعنى لمّا تأخر عنهم العذاب) قبل ان يأمره الله به فركب السفينة فوقفت فقال الملاحون هاهنا عبد ابق فاقترعوا فخرجت عليه فقال انا الآبق ورمى بنفسه فى الماء وذكر البغوي قول ابن عباس ووهب نحوه وذكر انهم اقترعوا ثلاثا فوقعت القرعة على يونس- قال البغوي وروى انه لمّا وصل الى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد ان يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ثم جاءت موجة اخرى وأخذت ابنه الأكبر وجاء ذئب وأخذ ابن الأصغر فبقى فريدا فجاء مركب اخر فركبه فقعد ناحية من القوم فلمّا مرت السفينة فى البحر ركدت فاقترعوا- وقد ذكرنا القصة فى سورة يونس فذلك قوله تعالى.
فَساهَمَ
فقارع والمساهمة إلقاء السهام على جهة القرعة فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
(141) فصار من المغلوبين بالقرعة وأصله المزلق عن مقام الظفر.
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ اى اخذه(8/143)