فى الكبير عن عقبة بن عامر وابى جحيفة بلفظ شيّبتنى سورة هود وأخواتها وفى الطبراني عن سهل بن سعد بسند ضعيف بزيادة الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت وروى ابن عساكر عن محمّد بن على مرسلا بلفظ شيّبتنى هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلى- وروى عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد وابو الشيخ فى تفسيره عن ابى عمران الجوني مرسلا شيّبتنى هود وأخواتها وذكر يوم القيامة وقصص الأمم- وألفاظ الأحاديث المذكورة صريحة فى ان التشييب مبنى على ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم السابقة لا على الأمر بالاستقامة له ولمن تاب معه والا لاقتصر على سورة هود ولم يذكر معها أخواتها- والله اعلم تمت تفسير سورة هود من التفسير المظهرى (ويتلوه تفسير سورة يوسف عليه السلام ان شاء الله تعالى) سادس عشر ذى القعدة من السنة الاولى بعد المائتين والف سنة 1201 هـ(5/131)
فهرس تفسير سورة يوسف عليه السّلام من التّفسير المظهرى
مضمون صفحه حديث الكريم بن الكريم 4 بحث تحقيق الرؤيا وأقسامها وما ورد فيه من الأحاديث- 5 تأويل همّت به وهمّ بها- 21 الهمّ قسمان- 21 مسئلة جاز للعالم ان يصف نفسه حتّى يعرف الناس قدره إذ جهلت منزلته من العلم فاراد ان ينشر علمه وليس هذا من تزكية النفس فويل الذين يطعنون على اولياء الله فى اظهار فضائلهم 31 حديث رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث فى السجن طول ما لبث 33 مسئلة ينبغى للرجل ان يجتهد فى نفى التهمة عن نفسه لا سيما من كان ممن يقتدى به 37 ما ورد فى مدح يوسف عليه السلام على صبره- 37 وما دل على كمال نزول نبينا صلى الله عليه وسلم 37 مسئلة جاز طلب الولاية والقضاء واظهاراته اهل لها ان كان أمنا على نفسه فان كان أحد لا يقوم مقامه فقد يستحب وقد يجب ان تعين لامضاء احكام الله تعالى- 42 وجاز ان يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر او كافر إذا علم انه لا سبيل الى اقامة الحق الا به- 42 حديث العين حق 47 حديث لا يغنى حذر عن قدر- 47 ما أشكل من تعلق قلب يعقوب بيوسف عليهما السلام وحله- 57 حديث الدنيا ملعونة- 57 حديث سيد بنى دارا ووضع مأدبة 57 وأرسل داعيا- حديث الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها تيعان وان غراسها سبحان الله إلخ- 58 بيان حسن خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وحسن يوسف عليه السلام- 60 حديث لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب اليه من والده وولده- 60 حديث ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان 60 مسئلة جواز التأسف والبكاء عند المصيبة- 61 حديث بكائه صلى الله عليه وسلم على ابنه ابراهيم وابن بنته- 61 حديث ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى السماء الدنيا- 68 قوله صلى الله عليه وسلم عند الوفاة مع الذين أنعم الله عليهم الاية- 71 حديث لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا فلا يتبايعانه ولا يطويانه- 74 تمت.(5/132)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
سورة يوسف عليه السّلام
مكيّة مائة واحدى عشرة اية ربّ يسّر وتمّم بالخير «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) اشارة الى آيات القران والاضافة بمعنى من وهو المراد بالكتاب- اى تلك آيات من القران الظاهر فى الاعجاز- او الواضح معانيه بين حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه- قال قتادة مبين والله بركته وهداه ورشده وقال الزجاج مبين الحق من الباطل والحرام من الحلال وقيل اشارة الى آيات السورة- وهى المراد بالكتاب- اى تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها لمن تدبّر انها من عند الله- او مبين لليهود- قال البيضاوي روى ان علماءهم قالوا للمشركين سلوا محمّدا لم انتقل ال يعقوب من الشام الى مصر- وعن قصة يوسف- فنزلت السورة- ولم يذكر هذا صاحب لباب النقول فى اسباب النزول.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ اى الكتاب قُرْآناً القران اسم جنس يقع على الكل والبعض وصار علما للكل بالغلبة- فيمكن حمله على الكتاب وان أريد به السورة- ونصبه على الحال وهو فى نفسه اما توطية للحال الّتي هى عَرَبِيًّا او هو حال لكونه مصدرا بمعنى المفعول وعربيا صفة له- او حال من الضمير فيه او حال بعد حال والغرض من إيراد قوله
__________
(1) الخط من الناشر-(5/134)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
عربيا انا أنزلناه بلغتكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «1» (2) لكى تعلموا معانيه وتستعملوا فيه عقولكم فتدركوا لطائفه واعجازه لفظا ومعنى روى الحاكم وغيره عن سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه قال انزل على النبي صلى الله عليه وسلم القران فتلا عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فنزل اللَّهُ نَزَّلَ «2» أَحْسَنَ الْحَدِيثِ الاية- زاد ابن ابى حاتم فقالوا يا رسول الله لو ذكرتنا فانزل الله تعالى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ الاية- واخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما وابن مردوية عن ابن مسعود رضى الله عنه مثله قال قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ وذكر البغوي عن سعد بن ابى وقاص الفصول الثلاثة لكنه قدم الفصل الثالث على الثاني أَحْسَنَ الْقَصَصِ منصوب على المصدر يعنى احسن الاقتصاص لانه اقتص على أبدع الاساليب ومعناه نبين لك اخبار الأمم السالفة والقرون الماضية احسن البيان او على المفعولية يعنى احسن ما نقص والمراد قصة يوسف عليه السلام سماها احسن القصص لاشتماله على العجائب والعبر والحكم والنكت والفوائد الّتي تصلح امر الدين والدنيا من سير الملوك والمماليك والعلماء ومكر النساء والصبر على أذى الأعداء وحسن التجاوز عنهم بعد التمكن من الانتقام وغير ذلك من الفوائد- والقصص على هذا فعل بمعنى مقعول كالنقض والسلب مشتق من قص اثره إذا اتبعه والقاص يتبع الآثار ويأتى بالأخبار على وجهها- قال خالد بن معدان سورة يوسف وسورة مريم يتفكه بهما اهل الجنة فى الجنة وقال ابن عطاء لا يسمع سوره يوسف محزون الاستراح «3» إليها بِما أَوْحَيْنا اى بايحائنا
__________
(1) عن خالد بن عرفظة قال كنت جالسا عند عمر إذ اتى برجل من عبد القيس قال عمر أنت فلان العبدى قال نعم فضربه بقناة معه فقال الرجل ما لى يا امير المؤمنين قال اجلس فجلس فقرا عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر الى قوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فقراها ثلاثا وضربه ثلاثا فقال الرجل ما لى يا امير المؤمنين قال أنت الّذي تستحبّ كتاب دانيال قال مرنى بامرك اتبعه قال انطلق فامحه بالحميم والصوف ثم لا تقراه ولا تقرئه أحدا من الناس- فقال انطلقت انا فنسخت كتابا من اهل الكتاب ثم جئت به فى أديم فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا فى يدك يا عمر قلت يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد علما انى علمنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى احمرت وجنتاه ثم نودى بالصلوة جامعة فقالت الأنصار اغضب نبيكم السلاح السلاح حتّى احدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يايها الناس انى قد أوتيت جوامعا لكم وخواتيمه واختصرنى اختصارا ولقد اتيتكم بها بيضاء فقية فلا تتهوكوا ولا يغرنكم المتهكون قال عمر فقمت فقلت رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم- وروى عن ابراهيم النخعي عن عمر نحوه- 12 ازالة الخفا- منه نور الله مرقده [.....]
(2) فى الأصل الله الّذي نزّل إلخ-
(3) فى الأصل استروح-(5/135)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يعنى السورة ويجوز ان يجعل هذا مفعول نقصّ على ان يكون احسن منصوبا على المصدر وَإِنْ كُنْتَ مخففة اى انه كنت مِنْ قَبْلِهِ اى قبل ايحاءنا إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) عن هذه القصة او عن كلّما اوحى إليك من القصص والشرائع والاحكام-.
إِذْ قالَ يُوسُفُ بدل اشتمال من احسن القصص ان جعل مفعولا به وأريد قصة يوسف عليه السلام- لان الوقت مشتمل عليها- او منصوب بتقدير اذكر ويوسف اسم عبرى ولذا لم ينصرف وهو ابن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام روى احمد والبخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم لِأَبِيهِ يعقوب عليه السلام يا أَبَتِ قرا ابن عامر وابو جعفر بفتح التاء فى جميع القران والباقون بكسر التاء- وابن كثير وابن عامر يقفان يابه بالهاء والباقون بالتاء إِنِّي رَأَيْتُ فى المنام من الرؤيا لا من الرؤية بدليل قوله تعالى. لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ وهذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ... أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ روى سعيد بن منصور فى سننه والبزار وابو يعلى فى مسنديهما وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية فى تفاسيرهم- والعقيلي وابن حبان فى الضعفاء- والحاكم فى المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم- وابو نعيم والبيهقي كلامهما فى دلائل النبوة عن جابر رضى الله عنه واسم «1» اليهودي عند البيهقي بستان وقال يا محمّد أخبرني عن النجوم الّتي راهن يوسف- فسكت فنزل جبرئيل عليه السلام فاخبره بذلك- فقال عليه السلام ان أخبرك هل تسلم- قال نعم قال جرثان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين- راها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له- فقال اليهودي اى والله انها لاسماؤها رَأَيْتُهُمْ تأكيد لِي ساجِدِينَ (4) او استيناف ببيان حالها الّتي راها عليها- وأورد صيغة جمع العقلاء وضميرهم لوصفها بصفاتهم- وكان النجوم فى التأويل اخوته وكانوا أحد عشر رجلا يستضاء بهم كما استضاء بالنجوم- والشمس أبوه والقمر امه- وقال السدىّ القمر خالته لان امه راحيل كانت قد ماتت- وقال ابن جريج القمر أبوه والشمس امه لكونها مؤنثة والقمر مذكر-
__________
(1) فى الأصل سمى اليهود عند البيهقي بستان-(5/136)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
قلت تأنيث الشمس لفظى مختص بلغة العرب فلا وجه لجعلها كناية عن امه مع كونها أضوء من القمر- قيل راها ليلة الجمعة ليلة القدر- فلما قصّها على أبيه.
قالَ يا بُنَيَّ تصغير ابن صغّره للشفقة او لصغر السن قال البغوي كان يوسف ابن اثنى عشر سنة- قرا حفص هاهنا وفى الصافات بفتح الياء والباقون بكسرها لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ الرؤيا مختص بما يكون فى النوم او نحو ذلك من الاستغراق فرق بينها وبين الرؤية بحر فى التأنيث كالقرية والقرى- قال البيضاوي الرؤيا انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة الى الحس المشترك- والصادقة منها انما يكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب- عند فراغها من تدبير البدن ادنى فراغ فيتصور بما فيها مما لا يليق من المعاني الحاصلة هناك- ثم ان المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها الى الحس المشترك فتصير مشاهدة- ثم ان كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت الا بالكلية والجزئية- استغنت الرؤيا عن التعبير والا احتاجت اليه- قلت الرؤيا هى مطالعة النفس فى الصور المنطبعة فى الحس المشترك من أفق المتخيلة عند غفلتها وفراغها عن مطالعة المحسوسات فى النوم او الإغماء او نحو ذلك- وهى على ثلاثة اقسام قسمان منها باطلان والقسم الثالث منها صحيحة صالحة من حيث الأصل- لكنها قد تفسد بالعوارض ويقع فيها الخطاء بها وقد يقع الخطاء فى تأويلها- اما القسمان الباطلان فالاول منهما ما تراه النفس من صور الأشياء الّتي راتها فى اليقظة- او تفكر واخترعها المتخيلة من غير اصل لها فى الواقع- وتسمى تلك الرؤيا حديث النفس والثاني منهما ما ألقاه الشيطان فى خياله وتمثل له تخويفا او ملاعبة- فان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم- وتسمى تلك الرؤيا الرؤيا السوء وتخويف الشيطان والحلم- واما الّتي هى صحيحة فهى الهام واعلام من الله تعالى لعبده على شيء مما فى خزائن الغيب- او على شيء من مكنونات صفاته وأحواله ودرجات القرب له من الله تعالى حتّى تكون له بشارة- عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا المؤمن كلام يكلم العبد ربه فى المنام رواه الطبراني بسند صحيح والضياء- وحقيقة تلك الرؤيا(5/137)
الصالحة عند الصوفية ان العالم الكبير شخص له نفس وروح وقوى على هيئة الإنسان ولذلك يسمى إنسانا كبيرا- ولمشابهته يسمى الإنسان عالما صغيرا- فكما ان فى العالم الصغير اعنى الإنسان قوة متخيلة فكذلك فى العالم الكبير متخيلة- يتخيل بها المحسوسات والمعقولات والاعراض والجواهر والمجردات والمعاني- فصور الأشياء كلها حتّى الواجب تعالى وصفاته- والممكنات بأسرها المجردات منها والماديات- وما لا صورة لها فى الخارج كالموت والحياة والأيام والسنين والأمراض موجودة فى تلك المتخيلة- بايجاد الله تعالى- ومن أجل ذلك راى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمى على صورة امراة سوداء- وعبر يوسف عليه السلام البقرات والسنابل بالسنين- ومن هاهنا يظهر انه لا يشترط فى الصورة كونها من حبس المحكي عنه او مشتملا على جميع خصائصه- بل يكفى فى ذلك نوع من المناسبة- فلاجل تلك المناسبة الظاهرة او الخفية يتمثل فى متخيلة العالم الكبير ذلك الشيء بتلك الصورة ولاجل لك المناسبة الخفية راى يوسف عليه السلام أبويه واخوته فى صورة الشمس والقمر والكواكب- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا ستة المرأة خير والبعير حرب واللبن فطرة والخضرة جنة والسفينة نجاة والتمر رزق- رواه ابو يعلى فى معجمه عن رجل من الصحابة بسند ضعيف- وتلك المتخيلة من العالم الكبير تسمى فى اصطلاح الصوفية بعالم المثال ثم تلك الصورة تنطبع لاجل المناسبة والمحاذات من متخيلة العالم الكبير فى متخيلة العالم الصغير اى الإنسان- وتراه النفس حين فراغها «1» عن مطالعة المحسوسات- فالانبياء عليهم الصلوات والتسليمات (لاجل عصمتهم عن الشيطان وعن معارضة الأوهام- ولاجل كون مناماتهم مقتصرة على العيون تنام عيونهم وقلوبهم يقظان- فيميزون مخترعات الخيال عن حقائق الإلهام) انحصرت رؤياهم فى القسم الثالث- ثم عدم العوارض المفسدة للمنامات الموجبة لوقوع الخطاء فيها متيقن فيهم عليهم السلام فرؤيا الأنبياء يكون وحيا قطعيا حتّى تصدى خليل الله عليه السلام لذبح ابنه وقال إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى - قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ- ورؤيا الصلحاء اعنى الأولياء الذين زكوا أنفسهم بالرياضات- وأزالوا عنها الكدورات الجبلية-
__________
(1) فى الأصل فراعه-(5/138)
وتنزهوا عن ظلمات الذنوب والآثام- وتجلى بواطنهم باقتباس أنوار النبوة صالحة صادقة الا نادرا- وذلك عند عروض كدورة بأكل شيء من المشتبهات- او زائدا على الحاجة بحيث تولدت منه كدورة ما- او لاجل لمم من المعصية فانهم غير معصومين- او لانعكاس من صحبة العوام- فرؤيا الأولياء شبيهة بالوحى- ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- متفق عليه من حديث انس وابى هريرة وعبادة بن الصامت ورواه احمد عنهم وابو داؤد والترمذي عن عبادة وروى البخاري عن ابى سعيد ومسلم عن ابن عمرو ابى هريرة واحمد وابن ماجة عن ابى رزين والطبراني عن ابن مسعود بلفظ الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- وروى ابن ماجة بسند صحيح عن ابى سعيد رؤيا المسلم الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة- وابن ماجة واحمد بسند صحيح عن ابن عمرو احمد عن ابن عباس الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة- وفى حديث ابى رزين عند الترمذي رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة- وفى حديث العباس بن عبد المطلب عند الطبراني رؤيا المؤمن الصالح بشرى من الله وهى جزء من خمسين جزءا من النبوة- وفى حديث ابن عمر عند ابن النجار جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة- فان قيل ما معنى كونها جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة- وما وجه التطبيق بين الأحاديث فى عدد الاجزاء- قلنا كان مدة الوحى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وعشرين سنة- وكان نصف سنة منها الوحى بالرؤيا الصالحة لا يرى شيئا فى المنام الا وجده مثل فلق الصبح- فلذلك قال جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- واما روايتا الأربعين والخمسين فمبنيتان على جبر الكسر او طرح الكسر وأخذ العقد تقريبا- واما رواية السبعين فالمراد منها الكثرة فانه يطلق السبعين ويراد به الكثرة قال الله تعالى إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ- فالمعنى انها جزء من اجزاء كثيرة من الوحى واما رواية خمسة وعشرين فشاذ- واما رؤيا العوام- فمنا ماتهم وان كانت مستفادة من عالم المثال- لكنها تفسد وتكذب غالبا- لاجل انكدار خيالاتهم بالكدورات الجبلية النفسانية- والكدورات(5/139)
المكتسبة بالذنوب والآثام- ثم قد يقع الخطاء فى تعبير الرؤيا إذا كانت بين الصورة والمحكي عنها من عالم المثال مناسبة خفية- وصحة التعبير اما بالإلهام من الله تعالى وهو المراد فى الاية وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى يلهمك تعبير المنامات وذا لا يتصور غالبا الا إذا كان المعبر رجلا صالحا أهلا للالهام- واما بالعقل السليم- روى الترمذي بسند صحيح عن ابى رزين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة- وهى على رجل طائر ما لم يحدث بها- فاذا حدث بها سقطت ولا تحدث بها الا لبيبا او حبيبا- وفى بعض الروايات الا من تحب- ورواه ابو داؤد وابن ماجة بسند صحيح عنه بلفظ الرؤيا على رجل طائر ما لم يعبر- فاذا عبرت وقعت ولا تقصّها الا على وادّا وذى رأى- والمراد بالطائر عندى ما قضى الله وقدر له نظيره قوله تعالى وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ اى عمله وما قدر له- فمعنى هذا الحديث عندى والله تعالى اعلم- ان رؤيا المؤمن مبنى على قضاء الله تعالى- وقدر قدّر له لا يعلم هو ما قدر له ما لم يحدث بها ويعبر عنها معبر فاذا حدث بها وعبر عنها معبر بالهام من الله تعالى او بقوة الرأى والاستنباط الموهوبة منه تعالى- وقعت اى ظهرت واتضح ما هو مقضى له- ولا تحدث بها الا لبيبا ذا رأى او حبيبا وادّ اى رجلا صالحا يحب الله والمؤمنين ويحبه الله والمؤمنون- وهو المعنى بقوله الا من تحب فان المؤمن لا يحب الا مؤمنا صالحا- فاللبيب يعبر بالرأى السليم- والحبيب لله تعالى يعبر بالإلهام- فلا يقع الخطاء فى تأويلهما- وما ذكرت من اقسام الرؤيا مستفاد من الأحاديث- روى ابن ماجة بسند صحيح عن عوف بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا ثلاثة منها تهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم- ومنها ما يهم به
الرجل فى يقظته فيراه فى منامه- ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة- وروى الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا ثلاث فبشرى من الله وحديث النفس وتخويف الشيطان- فاذا راى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصّها ان شاء- وان راى شيئا يكرهه فلا يقصّها على أحد وليقم يصلى- واكره الغل واحبّ القيد القيد ثبات فى الدين-(5/140)
وروى مسلم عن ابى قتادة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان- فمن راى رؤيا فكره منها شيئا فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان فانها لا تضره ولا يخبر بها أحدا- وان راى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها الا من يحب- وعنه فى الصحيحين وعند ابى داؤد والترمذي بلفظ الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فاذا راى أحدكم شيئا يكرهه فلينفث حين يستيقظ عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله منها فانها لا تضره- فان قيل ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم من راى رؤيا فكره فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله منها- قلنا معناه والله اعلم ان الرؤيا ان كانت من تخويفات الشيطان وتسويلاته فيذهب وسوسته بالتعوذ- وان كان من عالم المثال فقد يكون حكاية عن قضاء معلق فالتعوذ بالله منها اى من الرؤيا يردّ القضاء المعلق ان شاء الله تعالى فلا تضرّه- ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم فلا يقصّها على أحد وليقم يصلى انه ان قصّها على أحد يحزنه تعبيرها- فالاولى ان يرجع الى الله تعالى بالصلوة والدعاء حتّى يدفع القضاء المعلق المحكي عنه بالرؤيا- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردّ القضاء الا الدعاء الحديث- رواه الشيخان فى الصحيحين عن سلمان وابن حبان والحاكم عن ثوبان- وليس النهى عن التحديث على التحريم او التنزيه الا ترى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه يوم أحد انى رايت فى المنام سيفى ذا الفقار انكسر وهى مصيبة- ورايت بقرا تذبح وهى مصيبة- وقد مر الحديث فى تفسير قوله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ فى سورة ال عمران- وانه صلى الله عليه وسلم ارى بنى امية على منبره فساءه ذلك- وقد حدث به وذكرنا الحديث فى تفسير سورة القدر- وراى ابن عباس قتل الحسين عليه السلام فى رؤياه يوم قتل فحدث به- وفى الباب أحاديث كثيرة- قلت وجاز ان يكون النهى عن تحديث الرؤيا المكروهة كيلا يظهر الأعداء الشماتة والفرح- وعن تحديث المبشرات الا عند اللبيب او الحبيب كيلا يحسدوه ولذلك امر يعقوب يوسف عليهما السلام بكتمان رؤياه على اخوته فقال لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً اى فيحتالوا لاهلاكك حيلة حسدا- عدى الكيد(5/141)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
باللام وهو متعد بنفسه لتضمينه معنى فعل يعدى به تأكيدا ولذلك أكد بالمصدر وعلل بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) ظاهر العداوة فيزيّن له الكيد ويحمله عليه.
وَكَذلِكَ اى كما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على الفضل والكمال يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوة والملك والأمور العظام- والاجتباء من جببت الشيء إذا حصّته وأخلصته لنفسك- وجبت الماء فى الحوض إذا جمعته وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى تعبير الرؤيا لان الرؤيا حديث الملك ان كانت صادقة- وحديث الشيطان ان كانت كاذبة- عبر التعبير بالتأويل لانه ما يؤل اليه عاقبة الأمر ويؤل امره الى ما يرى فى منامه- او من تأويل غوامض كتب الله وسنن الأنبياء- قيل هذا كلام مبتدا خارج عن التشبيه كانه قيل وهو يعلمك- والظاهر انه معطوف على ما سبق فان تعليم التأويلات وإتمام النعمة من انواع الاجتباء فهو من قبيل عطف الخاص على العام وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ قيل المراد بهم ابناؤه وكان ابناؤه كلهم أنبياء- علم ذلك استدلالا بضوء الكواكب وقيل المراد بهم أنبياء بنى إسرائيل كَما أَتَمَّها اى النعمة عَلى أَبَوَيْكَ يعنى الجد وأبا الجد مِنْ قَبْلُ إتمامها عليك إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لابويك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء حَكِيمٌ (6) يفعل الأشياء على ما ينبغى-.
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ اى قصة يوسف واخوته العلات- وكانوا عشرة ستة من بطن ليا بنت ليان وهى ابنة خال يعقوب عليه السلام- روبيل وهو أكبرهم وشمعون ولادى ويهودا وريان ويشحر وكانت من بطنها بنتا اسمها دينة- واربعة من بطن سريتين له عليه السلام- إحداهما زلفة واخرى يلهمة دان وتفتالى وجاد واشر كذا قال البغوي- وقال لما توفيت ليّا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين- فكان أبناء يعقوب عليه السلام اثنا عشر رجلا- قال البيضاوي قيل جمع «1» يعقوب بين الأختين- ولم يكن الجمع محرما حينئذ آياتٌ قرا ابن كثير اية على التوحيد والباقون على الجمع يعنى عبر ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته او علامات لنبوتك لِلسَّائِلِينَ (7) عن خبرهم
__________
(1) وكذا فى التورية- ابو محمّد عفا الله عنه(5/142)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
قال البغوي وذلك ان اليهود سالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف- وقيل سالوا عن سبب انتقال ولد يعقوب من كنعان الى مصر- فذكر لهم قصة يوسف فوجدوها موافقة لما فى التورية- وقيل آيات لمن سال ولمن لم يسئل كقوله تعالى سَواءً لِلسَّائِلِينَ- وقيل عبرا للمعتبرين فانها تشتمل على حسد اخوة يوسف وما ال اليه أمرهم من الذل- وعلى رؤياه وما حقق الله منها- وعلى صبر يوسف عليه السلام عن قضاء الشهوة- وعلى الرق وفى السجن وما ال اليه امره من الملك ورضوان الله- وعلى حزن يعقوب وما ال اليه امره من الوصول الى المراد وغير ذلك من الآيات- اذكر.
إِذْ قالُوا يعنى قال بعضهم لبعض لَيُوسُفُ اللام فيه جواب للقسم تقديره والله ليوسف وَأَخُوهُ من أبيه وامه ولذا خصّوه بالاضافة أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وحّده لانه افعل من يستوى فيه الواحد وما فوقه والمذكر والمؤنث- بخلاف أخويه فان الفرق بين المحلى باللام واجب- وفى المضاف جائز وَنَحْنُ عُصْبَةٌ اى والحال انّا جماعة عشرة- قال الفراء العصبة هى العشرة فما زاد- وقيل العصبة ما بين الواحد الى العشرة- وقيل ما بين الثلاثة الى العشرة- وقال مجاهد ما بين العشرة الى خمسة عشر- وقيل ما بين العشرة الى الأربعين- كذا فى القاموس حيث قال العصبة من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة الى الأربعين كالعصابة بالكسر- وكذا قال الجزري فى النهاية ان العصابة الجماعة من الناس من العشرة الى الأربعين- والعصب جمع عصبة كالعصابة- ولا واحد لها من لفظه كالنفر والرهط- وقيل العصبة جماعة متعصبة اى متعاضدة- ومعنى نحن عصبة اى جماعة مجتمعة الكلام متعاضدة إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) ليس المراد من الضلال الضلال عن الدين ولو أرادوا ذلك لكفروا به- بل المراد منه الخطاء فى التدبير يعنون به انا انفع له فى امر الدنيا وإصلاح معاشه ورعى مواشيه- فنحن اولى بالمحبة منهما فهو مخطئ خطاء بيّنا فى إيثاره يوسف وأخاه علينا فى صرف محبته إليهما.
اقْتُلُوا يُوسُفَ قال وهب قاله شمعون وقال كعب دان وقال مقاتل روبيل- هذه الجملة المحكي بعد قوله إذ قالوا- وانما أسند هذا القول الى جميعهم مع ان القائل به كان واحدا منهم- لان الباقون رضوا به الا من قال لا تقتلوا فاسند الفعل الى الكل مجاز الصحة اسناده الى أكثرهم لاجل(5/143)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
رضائهم به أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً اى بأرض منكورة بعيدة من العمران- بحيث يبعد عن أبيه- وهو معنى تنكيرها وابهامها- ولذلك نصب كالظروف المبهمة يَخْلُ لَكُمْ جواب الأمر والمعنى يصف لكم وَجْهُ أَبِيكُمْ اى توجهه إليكم عن شغله بيوسف حتّى لا يلتفت عنكم الى غيركم- ولا ينازعكم فى محبته أحد وَتَكُونُوا جزم بالعطف على يخل مِنْ بَعْدِهِ اى بعد يوسف او بعد الفراغ من امره بالقتل او الطرح- او قتله او طرحه قَوْماً صالِحِينَ (9) تائبين الى الله عمّا جنيتم فيعف الله عنكم- او صالحين مع أبيكم يصلح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه كذا قال مقاتل- او صالحين امر دنياكم فانه ينتظم لكم بعده لخلو وجه أبيكم-.
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو يهودا وقال قتادة روبيل- قال البغوي والاول أصح لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فان القتل كبيرة عظيمة وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ اى فى قعره والغيابة كل موضع ستر عنك الشيء وغيّبه- سمى القعر بها لستره ما فيه عن عين الناظر- كذا قرا الجمهور- وقرا ابو جعفر ونافع فى غيبت الجبّ على الجمع كانه كان لذلك الجب غيابات- قال البغوي والجب البئر الغير المطوية لانه جب اى قطع ولم يطو- وفى القاموس الجب بالضم البئر او الكثيرة الماء البعيدة القعر او الجيّدة الموضع من الكلاء او الّتي لم تطوا ومما وجد لا مما حفره الناس يَلْتَقِطْهُ اى يأخذه والالتقاط أخذ الشيء من حيث لا يحس به بَعْضُ السَّيَّارَةِ الذين يسيرون فى الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) بمشورتى فافعلوا هذا- او ان كنتم على ان تفعلوا ما يفرق بينه وبين أبيه فاكتفوا به- قال محمّد بن إسحاق اشتمل فعلهم على جرائم من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الّذي لا ذنب له والغدر بالامانة وترك العهد والكذب مع أبيهم- وعفا الله عنهم ذلك كله حتّى لا ييئس من رحمة الله أحد- قلت لعل وجه مغفرة الله إياهم تلك الجرائم كلها لشدة حبهم بأبيهم يعقوب عليه السلام- فانه انما أوقعهم فى تلك الجرائم ذلك الحب- حيث أرادوا ان يخلوا لهم وجه أبيهم ويندفع ما يخلّ بهم فى محبتهم- وقال بعض اهل العلم انهم عزموا على قتله وعصمهم الله رحمة لهم ولو فعلوا لهلكوا أجمعون-(5/144)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
وكان ذلك قبل ان صاروا أنبياء كذا قال ابو عمرو بن العلاء- فمن قال بكونهم أنبياء جوز صدور المعصية من النبي قبل النبوة- وقال أكثرهم انهم ما كانوا أنبياء والمراد بالأسباط الوارد فى القران فى عد الأنبياء أنبياء بنى إسرائيل من نسلهم والله اعلم- فلما اجمعوا على التفريق بينه وبين والده عليهما السلام بضرب من الحيل.
قالُوا ليعقوب عليه السلام يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا قرأ ابو جعفر بترك الإشمام والروم والباقون اما بالاشمام اعنى بالاشارة بالشفتين الى الضمة نحو قبلة المحبوب- او بالروم اى بحركة النون الاول بعض الحركة- اى لا تسكن رأسا بل تضعف الصوت بها فيفصل فيه بين المدغم والمدغم فيه- يعنون لم تخافنا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أرادوا به استنزاله عن رأيه فى حفظه منهم لما أحس منهم الحسد- قال مقاتل فى الكلام تقديم وتأخير وذلك انهم قالوا.
أَرْسِلْهُ مَعَنا الاية- فقال أبوهم إِنِّي لَيَحْزُنُنِي الاية فحينئذ قالوا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا- والنصح القيام بالمصلحة وارادة الخير- وقيل البرّ والعطف يعنى نحن قائمون بمصلحته نريد له الخير نحفظه حتّى نرده إليك.
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً الى الصحراء يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ قرا ابو عمرو وابن عامر بالنون فيهما على التكلم وجزم العين فى نرتع من رتع يرتع رتعا- وهو الخصب يعنون نتسع فى أكل الفواكه ونلعب بالسباق والصيد والرمي مما يباح إتيانه- وقرا ابن كثير بالنون فيهما وكسر العين أصله نرتعى وهو نفتعل من الرعي- فروى ابو ربيعة وابن الصباح عن قنبل بإثبات الباء وصلا ووقفا- وروى غيرهما عنه حذفها فى الحالين- والبزي بحذفها فى الحالين- والمعنى نتحارس ونحفظ أنفسنا يعنى يحفظ بعضنا بعضا- وقرا نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابو جعفر بالياء فيهما على الغيبة على اسناد الفعلين الى يوسف- «1» غير ان نافعا وأبا جعفر يكسران العين من يرتع ويحذفان الياء لام الكلمة من ارتعى يرتعى يعنون يرعى يوسف الماشية كما نرعى نحن- والباقون يجزمون العين من يرتع ومعناه يأكل ويلهو وقرا يعقوب «2» نرتع بالنون وجزم العين مثل ابى عمرو ويلعب بالياء مثل الكوفيين وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) ان يناله مكروه.
قالَ لهم يعقوب إِنِّي لَيَحْزُنُنِي فتح الياء نافع وابن كثير وأسكنها الباقون أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ
__________
(1) هذا ليس بشيء لان يعقوب فى كلتا الكلمتين مع الكوفين- ابو محمّد
(2) فى الأصل غير ان نافع وابو جعفر(5/145)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
اى ذهابكم به- والحزن هاهنا الم القلب بفراق المحبوب وعدم الصبر عنه- واللام لام الابتداء وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لان الأرض كانت مذابة- وقال البغوي وذلك ان يعقوب راى فى المنام ان ذئبا شد على يوسف فكان يخاف من ذلك- وهذا عندى ليس بشيء فان رؤيا الأنبياء وحي قطعى الوجود- ولو كان قد راى ذاك لتحقق البتة ولا ينفعه الحذر لكنه لم يتحقق- قرا ورش والكسائي وابو عمرو الذيب بغير همز بالياء إذا وقف «1» والباقون بالهمزة فى الحالين وحمزة على أصله إذا وقف فان الهمزة المتوسطة عنده تبدل حرفا خالصا فى الوقف وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) يعنى لا أخاف كيدكم ولكن أخاف ان يناله مكروه عند غفلتكم لاشتغالكم بالرتع واللعب او لقلة اهتمامكم بحفظه.
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ المراد به الجنس وَنَحْنُ عُصْبَةٌ اى عشرة متعاضدة لا يتصور الغفلة من جميعنا واللام موطئة للقسم وجوابه إِنَّا إِذاً اى إذا أكله الذئب ونحن عصبة لَخاسِرُونَ (14) هو مجزى عن جزاء الشرط- يعنون ان لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وكنا ضعفاء مغبونون- او مستحقون ان تدعى علينا بالخسارة- والواو فى ونحن للحال- اعتذر يعقوب فى عدم الإرسال بامرين الحزن بفراقه والخوف عليه بأكل الذئب- وأجابوا عن عذره الثاني دون الاول- لعدم قدرتهم على دفع الحزن ولان ذلك كان يغيظهم-.
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا اى عزموا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وجواب لما محذوف يعنى فعلوا به ما أرادوا- وقال البغوي جوابه وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ الاية على ان الواو زائدة كما فى قوله تعالى فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ- اى لمّا أسلما ناديناه قال البغوي قال وهب وغيره أخذوا يوسف بغاية الإكرام- وجعلوا يحملونه فلما برزوا الى البرية القوه- وجعلوا يضربونه فاذا ضربه أحد استغاث باخر فضربه الاخر- فجعل لا يرى منهم أحدا رحيما- فضربوه حتّى كادوا يقتلونه- وهو يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك بنوا الإماء- فلما كادوا ان يقتلوه قال لهم يهودا أليس قد أعطيتموني موثقا ان لا تقتلوه فانطلقوا به الى الجب ليطرحوه فيه وكان ابن اثنى عشر سنة وقيل ثمان عشر سنة- فجاءوا به على غير طريق الى بئر واسع الأسفل ضيّق الرأس- قال مقاتل على ثلاث فراسخ من منزل
__________
(1) هكذا فى الأصل لكن لا فائدة لهذا القيد لورش ولمن معه لان مذهبهم فى الوصل والوقف سواء- ابو محمّد(5/146)
يعقوب- وقال كعب بين مدين ومصر- وقال وهب بأرض الأردن- وقال قتادة هى بئر بيت المقدس- فجعلوا يدلونه فى البئر فيتعلق بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه- فقال يا إخوتاه ردوا علىّ القميص اتوارى به فى الجب- فقالوا ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك فقال انى لم أر شيئا فالقوه فيها- وقيل جعلوه فى دلو وأرسلوه فيها حتّى إذا بلغ نصفها القوه ارادة ان يموت فكان فى البئر ماء فسقط فيه- ثم أوى الى صخرة فيها فقام عليها- وقيل انهم لما القوه فيها جعل يبكى فنادوه فظن انها رحمة أدركتهم فاجابهم- فارادوا ان يرضحوا بصخرة فيقتلوه فمنعهم يهودا- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن السدى مطولا ان ال يعقوب كانوا نازلين بالشام- وكان ليس له هم الا يوسف واخوه بنيامين- فحسده اخوته الى ان قال فلما برزوا الى البرية فذكر نحوه- قيل جعلوه فى دلو وأرسلوه فيها حتّى إذا بلغ نصفها القوه ارادة ان يموت- فكان فى البئر ماء فسقط فيه ثم أوى الى صخرة فيها فقام عليها يبكى- فجاءه جبرئيل بالوحى كما قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لاطمينان قلبه والظاهر ان هذا الوحى ليس للاستنباء والإرسال والتبليغ بل هو كما اوحى إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ الاية وما هو للتبليغ فهو بعد ذلك حيث قال الله تعالى وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً- واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن مجاهد فى قوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ قال اوحى الى يوسف يعنى وحي الاستنباء وهو فى الجب لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا يعنى لتخبرن إخوتك بما صنعوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) بذلك الوحى والإيناس واعلام الله إياه ذلك- وقيل معناه وهم لا يشعرون يوم تخبرهم انك يوسف لعلو شأنك وبعده عن اوهامهم وطول العهد المغير للحلى والهيئات- وذلك حين دخلوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ- قال البغوي كان يهودا يأتيه بالطعام وبقي فيها ثلاث ليال واوحى اليه هذه الاية- وبعث اليه جبرئيل ليؤنسه ويبشره بالخروج- ويخبره انه ينبئهم بما فعلوا ويجازيهم عليه وهم لا يشعرون- اخرج ابن ابى شيبة واحمد فى الزهد وابن عبد الحكم فى فتوح مصر وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ والحاكم وابن مردوية عن الحسن ان يوسف عليه السلام كان حينئذ ابن سبع عشره سنة- وقيل كان مراهقا اوحى اليه فى صغره كما اوحى الى يحيى وعيسى عليهما السلام- وفى القصص ان ابراهيم(5/147)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
حين القى فى النار جرد عن ثيابه- فاتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنة فالبسه إياه فدفعه ابراهيم الى إسحاق وإسحاق الى يعقوب فجعله فى تميمة علقها بيوسف فاخرجه جبرئيل والبسه إياه- قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما ثم انهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف.
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قال اهل المعاني جاءوا فى ظلمة العشاء لتكون اجرا على الاعتذار بالكذب- فروى ان يعقوب عليه السلام سمع صياحهم- فخرج فقال ما لكم يا بنى هل أصابكم فى غنمكم شيء- قالوا لا قال فما أصابكم واين يوسف.
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ اى نتسابق فى العدو كذا قال السدى او نترامى وننتصل ويشترك الافتعال والتفاعل كالانتصال والتناصل وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا ثيابنا فمضينا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ اى بمصدق لَنا لسوء ظنك بنا وفرط محبتك بيوسف وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) عندك لاتّهمتنا فى هذه القصة لمحبة يوسف فكيف وأنت سىء الظن بنا- وقيل معناه لست بمصدق لسوء ظنك بنا- او لانه لا دليل لنا على صدقنا وان كنا صادقين عند الله.
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ اى ذى كذب او مكذوب فيه- ويجوز ان يكون وصفا بالمصدر للمبالغة- وعلى قميصه فى موضع النصب على الظرف اى فوق قميصه- او على الحال من الدم ان جوز تقديمها على المجرور- اخرج ابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ عن الحسن انه لما سمع يعقوب بخبر يوسف صاح وسال قميصه- فلما جيء بقميص يوسف جعل يقلّبه فراى اثر الدم ولا يرى فيه شقا ولا خرقا- فقال يا بنى والله ما اعهد الذئب حليما إذا كل ابني وأبقى قميصه فلمّا علم كذبهم بذلك قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً اى سهّلت لكم وهوّنت فى أعينكم أنفسكم امرا عظيما- ماخوذ من السول وهو الاسترخاء- فى القاموس الاسول من فى أسفله استرخاء والسولة استرخاء البطن وغيره- وقيل معناه زيّنت كذا فى القاموس وسوّل له الشيطان اغواه وقيل السول الحاجة الّتي تحرص عليها النفس- والتسويل تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن فَصَبْرٌ جَمِيلٌ اى فامرى صبر جميل- وقيل فصبر جميل(5/148)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
اختاره- قال البغوي الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه اى الى الخلق ولا جزع- اخرج ابن جرير عن حبان ابن حمية مرسلا الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) اى على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف والصبر على تلك المصيبة- قال البغوي وفى القصة انهم جاءوا بذئب وقالوا هذا الّذي أكله- فقال له يعقوب يا ذئب ءانت أكلت ولدي وثمرة فوادى- فانطقه الله عز وجل فقال تالله ما رايت وجه ابنك قط- قال كيف وقعت بأرض كنعان- قال جئت لصلة قرابة فصادنى هؤلاء- فمكث يوسف فى البئر ثلاثة ايام-.
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة يسيرون من مدين الى مصر أخطئوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب- وكان الجب فى قفر بعيد من العمران للرعاة والمارة- وكان ماؤه ملحا فعذب حين القى يوسف فيه فَأَرْسَلُوا حين نزلوا هناك وارِدَهُمْ رجلا من اهل مدين يقال له مالك بن وعر لطلب الماء- والوارد الّذي يتقدم الرفقة الى الماء ليستقى لهم فَأَدْلى دَلْوَهُ يقال أدليت الدلو إذا أرسلتها فيه- ودلوتها أخرجتها- فتعلق يوسف عليه السلام بالحبل- فلما خرج إذا هو بغلام احسن ما يكون- قال النبي صلى الله عليه وسلم اعطى يوسف شطر الحسن رواه ابن ابى شيبة واحمد وابو يعلى والحاكم عن انس- قال البغوي يقال انه ورث ذلك الجمال من جدته سارة- وكانت قد أعطيت سدس الحسن- قال ابن إسحاق ذهب يوسف وامه بثلثي الحسن- فلما راه مالك بن وعر قالَ يا بُشْرى قرا الكوفيون بالألف المقصورة على وزن فعلى وامال حمزة والكسائي- نادى البشرى بشارة لنفسه او لقومه كانه قال يا بشرى تعالى فهذا او انك- وقيل هو اسم لصاحبه ناداه باسمه ليعينه على إخراجه- وقرا الباقون يبشرى بالألف بعد الراء وبعدها ياء المتكلم مفتوحة بالاضافة- قرا ورش الراء بين بين والباقون بإخلاص فتحها هذا غُلامٌ روى مجاهد عن أبيه ان البئر كانت تبكى على يوسف حين اخرج منها وَأَسَرُّوهُ يعنى أخفاه الوارد وأصحابه من سائر الرفقة مخافة ان يطلبوا منهم فيه المشاركة- وقيل اخفوا امره وقالوا دفعه إلينا اهل الماء لنبيعه لهم بمصر- وقيل الضمير لاخوة يوسف- وذلك ان يهودا كان يأتيه كل يوم بالطعام وأتاه يومئذ فلم يجده فيها- فاخبر اخوته فطلبوه فاذاهم(5/149)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
بمالك وأصحابه نزول- فاتوهم فاذاهم بيوسف- فاسروا شأن يوسف وقالوا هو عبد لنا ابق ويقال انهم هددوا يوسف حتّى لم يعرّف حاله فسكت يوسف مخافة ان يقتلوه بِضاعَةً نصب على الحال اى اخفوه متاعا للتجارة- اشتقاقه من البضع فانه «1» هو ما يضع من المال للتجارة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) لم يخف عليه أسرارهم- او صنيع اخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.
وَشَرَوْهُ يعنى باع «2» اخوة يوسف إياه بعد ما قالوا انه عبد لنا ابق- وقيل شروه بمعنى اشتروه يعنى اشترى الوارد وأصحابه يوسف من اخوته بِثَمَنٍ بَخْسٍ قال الضحاك ومقاتل والسدى اى حرام- لان ثمن الحر حرام- وسمى الحرام بخسا لانه مبخوس من البركة اى منقوص- وعن ابن عباس وابن مسعود رضى الله عنهما اى زيوف وقال عكرمة والشعبي قليل دَراهِمَ بدل من الثمن مَعْدُودَةٍ قليلة فانهم كانوا يزنون ما بلغ الاوقية ويعدون ما دونها- قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة رضى الله عنهم كان عشرين درهما فاقتسموا درهمين درهمين- وقال مجاهد اثنين وعشرين درهما وقال عكرمة كان أربعين درهما وَكانُوا اى اخوة يوسف او الذين اشتروه فِيهِ اى فى يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) الراغبين عنه لانهم لم يعلموا منزلته عند الله عز وجل- وقيل كانوا فى الثمن من الزاهدين لانه لم يكن قصدهم تحصيل الثمن انما كان قصدهم تبعيد يوسف عن أبيه- قال البيضاوي ان كان ضمير كانوا للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم لانهم التقطوه- والملتقط للشيء متهاون به خائف عن انتزاعه مستعجل فى بيعه- وان كانوا مبتاعين فلانهم اعتقدوا انه ابق- وفيه متعلق بالزاهدين إذا جعل اللام للتعريف- وان جعل بمعنى الّذي فهو متعلق بمحذوف يبينه الزاهدين- لان متعلق الصلة لا يتقدم على الموصول- ثم انطلق مالك بن وعر وأصحابه بيوسف وتبعهم اخوته يقولون استوثقوا منه لا يأبق- فذهبوا به حتّى قدموا مصر- وعرضه مالك على البيع فاشتراه قطفير قاله ابن عباس- وقيل اطفير صاحب امر الملك- وكان على خزائن مصر يسمى العزيز- وكان الملك يومئذ بمصر ونواحيها ديان بن الوليد بن ثروان من العمالقة- وقيل ان هذا الملك لم يمت حتّى أمن واتبع يوسف على دينه ثم مات ويوسف حى- قال ابن عباس رضى الله
__________
(1) فى الأصل فانه ما يضع
(2) فى الأصل باعوا-(5/150)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
عنهما لما دخل مصر تلقى قطفير مالك بن وعر- فابتاع منه يوسف بعشرين دينارا وزوج نعل وثوبين أبيضين- وقال وهب بن منبه قدمت «1» السيارة بيوسف مصر فدخلوا به السوق يعرضونه للبيع- فترافع الناس فى ثمنه حتّى بلغ ثمنه وزنه ذهبا ووزنه فضة ووزنه مسكا وحريرا- وكان وزنه اربعمائة رطل وهو ابن ثلاث عشر سنة فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن-.
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ يعنى قطفير لِامْرَأَتِهِ اسمها راعيل وقيل زليخا أَكْرِمِي مَثْواهُ المثوى موضع الاقامة- والمراد به منزلته كذا قال قتادة وابن جريج- وقيل معناه أكرميه فى المطعم والملبس والمقام عَسى أَنْ يَنْفَعَنا اى نبيعه بالربح ان أردنا البيع او يكفينا فى ضياعنا وأموالنا ونستظهر به فى مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ان تبنّيناه لما تفرس به من الرشد وكان عقيما وَكَذلِكَ اى كما انجيناه من القتل وأخرجناه من الجب وعطفنا عليه العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ اى فى ارض مصر فجعلناه على خزائنها وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عطف على مضمر تقديره ليحكم بالعدل ولنعلمه- اى كان القصد من انجائه وتمكينه الى ان يقيم العدل ويدبر امور الناس- ويعلّم معانى كتب الله وأحكامه فينفذها- او تعبير المنامات المنبهة عن الحوادث الكائنة ليستعد لها- ويشتغل بتدبيرها قبل ان يحل- وقيل الواو زائدة وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ الضمير راجع الى الله تعالى اى يفعل ما يشاء لا يرد امره شيء- ولا ينازعه فيما يشاء أحد- وقيل الضمير راجع الى يوسف اى أراد به اخوة يوسف شيئا- وأراد الله غيره فلم يكن الا ما أراد الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) لطائف صنعه وخفايا لطفه- او لا يعلمون ما الله يريد ويصنع.
وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ اى منتهى شبابه وقوته قال مجاهد ثلاثا وثلاثين سنة- وقال السدى ثلاثين سنة وهو سن الوقوف- وقال الضحاك عشرين سنة- وقال الكلبي الأشد ما بين ثمانية عشر الى ثلاثين سنة- وسئل مالك عن الأشد قال هو الحلم آتَيْناهُ حُكْماً اى نبوة وقيل إصابة القول وَعِلْماً اى فقها فى الدين او علما بتأويل الرؤيا قيل الفرق بين الحكيم والعالم ان العالم هو الّذي يعلم الأشياء والحكيم هو الّذي يعمل
__________
(1) فى الأصل قدمت السيار(5/151)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
بما يوجب العلم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) قال ابن عباس رضى الله عنهما اى المؤمنين وعنه ايضا المهتدين- وقال الضحاك الصابرين على النوائب- قال البيضاوي فيه تنبيه على انه تعالى انما أتاه ذلك جزاء على إحسانه فى عمله واتقائه فى عنفوان امره-.
وَراوَدَتْهُ المراودة من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيء ومنه الرائد- وقيل طلب الشيء برفق ومنه رويد بمعنى أمهل لمعنى الرفق والمهلة فيه- والمراد هاهنا طلبته منه بالحيل الَّتِي هُوَ يعنى يوسف فِي بَيْتِها يعنى زليخا امراة العزيز عَنْ نَفْسِهِ اى احتالت ليواقعها وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ اى اطقتها وكانت سبعة والتشديد للتكثير او للمبالغة فى الاستيناف وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قرا نافع وابن «1» ذكوان بكسر الهاء من غير همز وفتح التاء- وهشام كذلك الا انه يهمز- وقد روى عنه ضم التاء- وابن كثير بفتح الهاء وضم التاء والباقون بفتحهما- وقرا قتادة والسلمى بكسر الهاء وضم التاء كما روى عن هشام- ومعناه تهيّئت لك نفسى واللام حينئذ للصلة- وأنكره ابو عمرو والكسائي قالا لم يحك هذا عن العرب والاول هو المعروف عند العرب- قال ابن مسعود رضى الله عنه أقرأني النبي صلى الله عليه وسلم هيت لك بفتح الهاء والتاء- قال ابو عبيدة كان الكسائي يقول هى لغة لاهل حوران وقعت الى الحجاز ومعناه تعال- وقال عكرمة ايضا هى بالحورانية هلم- قال مجاهد وغيره هى لغة عربية وهى كلمة حث واقبال على الشيء- فهو اسم فعل مبنى على الفتح كاين- واللام للتبئين كالتى فى سقيا لك- ومن قراءه بضم التاء قراءه تشبيها له بحيث- وهى لا تثنّى ولا تجمع ولا تؤنث كذا قال ابو عبيدة- قال فى القاموس هيت مثلثة الاخر وقد يكسر اوله بمعنى هلم قالَ لها يوسف عند ذلك مَعاذَ اللَّهِ اى أعوذ بالله معاذا واعتصم به ممّا دعوتنى اليه إِنَّهُ رَبِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها أَحْسَنَ مَثْوايَ الضمير للشأن يعنى ان الشان ان سيدى قطفير احسن منزلى وتعهّدى- حيث قال لك أكرمي مثواه فما جزاؤه ان اخونه فى اهله- وجاز ان يكون الضمير راجعا الى قطفير يعنى ان زوجك قطفير سيدى احسن مثواى- وقيل الضمير لله تعالى يعنى انه تعالى خالقى واحسن منزلتى حيث عطف علىّ قلب فطفير فلا أعصيه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) المحازون الحسن بالسيئ- وقيل يعنى الزناة فان الزنى ظلم على نفسه وعلى المزني باهله-
__________
(1) وفى الأصل نافع وابن كثير وهو سياق قلم او تحريف من الناسخ كما يدل عليه سياق البيان- ابو محمّد(5/152)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
قال السدى وابن إسحاق لما أرادت امراة العزيز مراودة يوسف عن نفسه جعلت تذكر له محاسن نفسه وشوّقته «1» الى نفسها- فقالت يا يوسف ما احسن شعرك قال هى أول ما ينتثر من جسدى- قالت ما احسن عينك قال هما أول ما يسيل على وجهى- قالت ما احسن وجهك قال هو للتراب تأكله- وقيل انها قالت ان فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتى- قال إذا يذهب نصيبى من الجنة- فلم تزل تطمعه وتدعوه الى اللذة وهو شابّ يجد شبق الشباب ما يجد الرجل عند مراودة امراة حسناء جميلة فذلك قوله تعالى.
وَلَقَدْ هَمَّتْ زليخا بِهِ اى بيوسف يعنى قصدت ان يواقعها وَهَمَّ يوسف بِها اى مال طبعه إليها واشتهاها مع كفه نفسه عنها كما يدل عليه قوله مَعاذَ اللَّهِ إلخ وليس المراد القصد الاختياري وذلك الميلان الطبعي وشهوة النفس مما لا يدخل تحت التكليف- بل الحقيق بالمدح والاجر الجزيل فان السبب لا فضلية البشر على الملائكة كف النفس عن الفعل عند قيام هذا الهمّ- قال الشيخ ابو منصور الماتريدى همّ يوسف بها همّ خطرة ولا صنع للعبد فيما يخطر بالقلب ولا مؤاخذة عليه- ولو كان همّه كهمنا لما مدحه الله تعالى بانّه مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ- وقال بعض اهل الحقائق الهمّ همان همّ ثابت وهو ما إذا كان معه عزم وعقد ورضى مثل همّ امراة العزيز فالعبد مأخوذ به- وهمّ عارض مثل الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل همّ يوسف عليه السلام والعبد غير ماخوذ به ما لم يتكلم او يعمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إذا تحدث عبدى بان يعمل حسنة فانا اكتبها له حسنة ما لم يعملها- فاذا عملها فانا اكتبها له بعشرة أمثالها- وإذا تحدث بان يعمل سيئة فانا اغفرها ما لم يعملها فاذا عملها فانا اكتبها له بمثلها- رواه البغوي من حديث ابى هريرة وفى الصحيحين وجامع الترمذي عنه بلفظ إذا همّ عبدى بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة- فان عملها كتبتها عشر حسنات الى سبعمائة ضعف- وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم اكتبها عليه فان عملها كتبتها سيئة واحدة- وجاز ان يكون معنى هم بها شارف على الهم- وما قيل فى تفسير قوله تعالى همّ بها انه حل الهميان وجلس منها مقعد الرجل من المرأة وما قيل انه حل سراويله وجعل يعالج ثيابه- وأسند هذا القول الى سعيد بن جبير وغيره
__________
(1) فى الأصل شوّقه(5/153)
من المتقدمين يأبى عنه سياق كلام الله تعالى فانه تعالى قال لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ- لان السوء هو الصغيرة وما ذكر فهو من الصغائر البتة- ولو كان كذلك لذكرت توبته واستغفاره (كما ذكر لام ونوح وذى النون وداود عليهم السلام مع كون كل ما صدر منهم عليهم السلام من غير قصد منهم بالمعصية- كما ذكر كل ذلك فى موضعه) ولم يذكر بل ذكر تبرية نفسه حيث قال هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي- وقال ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وقال إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ- وقال الله تعالى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ- لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ جواب لولا محذوف تقديره لجامعها- وقيل جواب لولا مقدم عليه تقديره لولا ان رّاى برهان ربّه لهمّ بها- لكنه راى البرهان فلم يهم وأنكره النحاة لان لولا فى حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها- وجاز ان يكون همّ بها المذكور قبلها دليلا على جوابها يعنى لهمّ بها- ومعنى الهم المذكور على هذا شارف الهم- فهو كقوله قتلته لو لم أخف الله- تقديره شارفت على قتله لو لم أخف الله لقتلته- واختلفوا فى ذلك البرهان فقال جعفر بن محمّد الصادق رضى الله عنهما البرهان النبوة الّتي أودع الله فى صدره حالت بينه «1» وبين ما يسخط الله عز وجل- وهذا أصوب الأقوال عندى- وقال قتادة واكثر المفسرين انه راى صورة يعقوب وهو يقول له يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب فى الأنبياء- وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك انفرج له سقف البيت فراى يعقوب عليه السلام عاضّا على إصبعه- وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل يعقوب فضرب بيده فى صدره فخرجت شهوته من أنامله- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن محمّد بن سيرين قال مثل له يعقوب عاضّا على إصبعه يقول يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم خليل الرّحمن اسمك فى الأنبياء وتعمل عمل السفهاء- وقال السدى نودى يا يوسف تواقعها انما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير فى جو السماء لا يطاق- ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع فى الأرض لا يستطيع ان يدفع عن نفسه شيئا- ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الّذي لا يطاق- ومثلك ان واقعتها مثل الثور يموت فيدخل النمل فى اصل قرنية لا يستطيع ان يدفع عن نفسه- واخرج ابن جرير عن القاسم بن ابى نزة قال نودى
__________
(1) فى الأصل بينه وما يسخط [.....](5/154)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فاذا زنى فغدا ليس له ريش فلم يعرض للنداء- فرفع رأسه فراى وجه يعقوب عاضّا على إصبعه- فقام مرعوبا استحياء من أبيه- وفى رواية عن مجاهد عن ابن عباس انه انحط جبرئيل عاضّا على إصبعه يقول يا يوسف تعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله فى الأنبياء- وروى انه مسحه بجناحه فخرجت شهوته من أنامله- وقال محمّد بن كعب القرظي رفع يوسف عليه السلام راسه الى سقف البيت حين همّ فراى كتابا فى حائط البيت لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا- وروى عطية عن ابن عباس رضى الله عنهما فى البرهان انه راى مثال الملك- وعن على بن الحسين رضى الله عنهما قال كان فى البيت صنم فقامت المرأة وسترته بثوب- فقال لها يوسف لم فعلت هذا قالت استحييت منه ان يرانى على المعصية فقال أتستحيين ممّن لا يسمع ولا يبصر ولا يفقه فانا أحق ان استحيى من ربى وهرب كَذلِكَ اى الأمر مثل ذلك او فعلنا كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ اى عن يوسف السُّوءَ اى المعصية الصغيرة وَالْفَحْشاءَ اى الكبيرة يعنى الزنى إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) قرا نافع والكوفيون بفتح اللام حيث وقع معرفا باللام يعنى مختارين للنبوة أخلصهم الله تعالى لنفسه والباقون بكسر اللام اى مخلصين لله الطاعة والعبادة-.
وَاسْتَبَقَا الْبابَ اى الى الباب على حذف الجار وإيصال الفعل- او على تضمين استبقا معنى ابتدرا يعنى تسابق يوسف وزليخا الى الباب- لما فرّ يوسف منها ليخرج من عندها أسرعت وراءه لتمنعه عن الخروج- فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته إليها حتّى لا يخرج- ووحّد الباب وان كان جمعه فى قوله وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ لانه أراد الباب الّذي هو المخرج من الدار- ولما هرب يوسف جعل فراش القفل تتناثر وتسقط وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اى شقّته من ورائه- والقد الشق طولا والقط الشنق عرضا وَلمّا خرجا أَلْفَيا صادفا سَيِّدَها اى زوجها قطفير لَدَى الْبابِ قال البغوي وجداه جالسا مع ابن عم لزليخا- وقيل صادفاه مقبلا يريد الدخول فلما راته هابته قالَتْ سابقة بالقول لزوجها تبرية لنفسها عند زوجها- وتعييرا على يوسف وإغراء به انتقاما(5/155)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
منه ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً تعنى الزنى وما نافية او استفهامية بمعنى اىّ شيء جزاؤه ليس جزاؤه إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ اى يحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) اى ضرب بالسياط- فلما سمع يوسف مقالتها.
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي اى طلبت منى الفاحشة انما قال ذلك دفعا لما عرض له من السجن والعذاب ولو لم تكذب عليه لما قاله وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل ابن عم وقيل ابن خال لها- فقال سعيد بن جبير والضحاك كان صبيّا فى المهد أنطقه الله- قال البغوي وهو رواية العوفى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال تكلم اربعة وهم صغار- ابن ماشطة ابنة فرعون- وشاهد يوسف- وصاحب جريح- وعيسى بن مريم- قال محمّد بن محمّد السعاف فى تخريج البيضاوي اخرج ذلك الحديث احمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه والحاكم فى المستدرك وصححه- ورواه الحاكم ايضا من حديث ابى هريرة وقال صحيح على شرط الشيخين- ولم يطلع عليه الطيبي فقال يردّه ما فى حديث الصحيحين عن ابى هريرة حيث قال لم يتكلم فى المهد الا ثلاثة عيسى بن مريم وصاحب جريح- وصبى كان ترضعه امه فمر راكب حسن الهيئة فقالت امه اللهم اجعل ابني مثل فلان فقال الصبى اللهم لا تجعلنى مثله- فصاروا باضافة الصبى المذكور إليهم خمسة- قال السيوطي وهم اكثر من ذلك ففى صحيح مسلم تكلم الطفل فى قصة اصحاب الأخدود- قال وقد جمعت من تكلم فى المهد فبلغوا أحد عشر تضمينا فقلت قطعة تكلم فى المهد النبي محمّد ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبرى جريح ثم شاهد يوسف وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مبرّيا لامه الّتي يقال لها تزنى ولا تتكلم وماشطة فى عهد فرعون طفلها وفى زمن الهادي المبارك يختم فقال الشاهد إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ من قدام فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) لانه يدل على انها قدت من قدامه لما أرادها بالدفع عن نفسها- او انه اسرع عن خلفها فتعثر بذيله فانقد جيبه.
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) لانه يدل على انها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدته من خلفه- والشرطية(5/156)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
محكية على ارادة القول او على ان فعل الشهادة من القول وتسميتها شهادة لانها أدت موداها- وانما جمع بين ان الّذي هو للاستقبال وبين كان لان المعنى ان تعلم انه كان قميصه كذا- نظيره قولك ان أحسنت الىّ فقد أحسنت إليك من قبل فان معناه ان تمنّ علىّ بإحسانك امنّ عليك بإحساني السابق.
فَلَمَّا رَأى قطفير قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ عرف خيانة امرأته وبراءة يوسف عليه السلام قالَ لها إِنَّهُ اى ان السوء او ان هذا الأمر او ان قولك ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ... مِنْ كَيْدِكُنَّ من حيلتكن والخطاب لها ولامثالها او لسائر النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ اى النساء عَظِيمٌ (28) فان ظاهرهن ضعيف يشهد لهن بالصدق وباطنهن خبيث اعوج- فانها خلقت من ضلع آدم وعقولهن قاصرة وديانتهن ناقصة لا تمنعهن عما يمنع العقول السليمة والدين القويم- ومعهن شيطان يواجهن الرجال بالكيد والشيطان يوسوس به مسارقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء حبالة الشيطان وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رايت من ناقصات عقل ودين اذهب للب الرجل الحازم من أحد أكن رواه «1» عن بعض العلماء انه قال انا أخاف من النساء اكثر مما أخاف من الشيطان لان الله تعالى قال إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وقال لهن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ اى يا يوسف أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث فلا تذكره لاحد حتّى لا يشيع وَاسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) اى من القوم المذنبين من خطئ إذا أذنب متعمدا- لم يقل من الخاطئات لانه لم يقصد به الخبر عن النساء- بل قصد الخبر عن من فعل ذلك رجلا كان او امراة- فذكر بصيغة المذكرين تغليبا ونظيره قوله تعالى وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ وانّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ- وكان العزيز رجلا حليما قليل الغيرة فاقتصر على هذا القول-.
وَقالَ نِسْوَةٌ اسم لجمع امراة وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقى ولذلك جرد فعله فِي الْمَدِينَةِ ظرف لقال او صفة لنسوة- اى لما شاع حديث يوسف ومراودة زليخا عن نفسه فى المصر قلن- وقال مقاتل كن خمسا زوجة الحاجب والساقي والخباز والسبحان وصاحب الدواب امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها اى عبدها الكنعانى عَنْ نَفْسِهِ اى تطلب منه الفاحشة قَدْ شَغَفَها حُبًّا يعنى شق يوسف شغاف قلبها فدخل فيه حبّا- وهو
__________
(1) هكذا بياض فى الأصل-(5/157)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
تميز عن النسبة اى دخل حبه قلبها- قال السدى الشغاف جلدة رقيقة على القلب- وقال الكلبي حجب حبه قلبها حتّى لا تعقل سواه إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ عن الرشد وبعد من الصواب مُبِينٍ (30) ظاهر الضلال حيث تركت ما يكون على أمثالها من العفاف والستر.
فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَّ اى باغتيابهن وانما سمى مكرا لانهن اخفين هذا القول كما يخفى الماكر مكره- وقال ابن إسحاق انما قلن لها ذلك مكرا بها لتريهن يوسف وكانت «1» توصف لهن حسنه وجماله وقيل انها أفشت إليهن سرها واستكتمهن فافشين ذلك فلذلك سماه مكرا أَرْسَلَتْ رسولا إِلَيْهِنَّ تدعوهن قال وهب اتخذت مأدبة ودعت أربعين امراة منهن هؤلاء اللاتي عيرنها وَأَعْتَدَتْ اى أعدت لَهُنَّ مُتَّكَأً قال ابن عباس رضى الله عنهما وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومجاهد متكأ اى طعاما- سماه متكأ لان اهل الطعام إذا جلسوا يتكؤن على الوسائد- فسمى الطعام معا على الاستعارة- يقال اتكأنا عند فلان اى طعمنا- ولما كان ذلك عادة المترفين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يأكل الرجل بشماله وان يأكل متكأ- رواه ابن ابى شيبة فى مصنفه عن جابر- وقيل المتكأ الطعام الّذي يجزّ جزّا كانّ القاطع يتكى عليه بالسكين- قال ابن عباس هو الأترج وقد روى عن مجاهد مثله- وقيل هو الأترج بالحبشية- وقال عكرمة وابو زيد الأنصاري كل ما يجزّ بالسكين فهو عند العرب متك- والمتك والبتك القطع بالميم والباء- قال البغوي زينت امراة العزيز بيتا بألوان الفواكه والاطعمة ووضعت الوسائد ودعت النسوة وَآتَتْ اى اعطت كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وهن يأكلن اللحم جزّا بالسكين وَقالَتِ قرا ابو عمرو وعاصم وحمزة بكسر التاء وصلا وغيرهم بضمها وصلا اخْرُجْ يا يوسف عَلَيْهِنَّ وكانت أجلست يوسف فى مجلس اخر فخرج عليهن يوسف- قال عكرمة وكان فضل يوسف على الناس فى الحسن كفضل ليلة البدر على سائر الكواكب- واخرج ابن جرير والحاكم وابن مردوية من حديث ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رايت ليلة اسرى بي الى السماء يوسف كالقمر ليلة البدر- واخرج ابو الشيخ فى تفسيره عن إسحاق بن عبد الله ابى فروة قال كان إذا سار فى ازقة المصر يرى تلألأ وجهه على الجدران كما يرى تلألأ الماء والشمس على
__________
(1) فى الأصل كان-(5/158)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
الجدران فَلَمَّا رَأَيْنَهُ نسوة مصر أَكْبَرْنَهُ عظّمته قال ابو العالية هالهن امره وبهتن- وقيل أكبرنه اى حضن من أكبرت المرأة إذا حاضت- لانها تدخل فى الكبر بالحيض والهاء ضمير المصدر او ليوسف على حذف المضاف اى حضن لاجله من شدة الشبق وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالسكاكين الّتي كانت معهن وهن يحسبن انهن تقطعن الأترج ولم يجدن الألم لشغل قلوبهن بيوسف- قال مجاهد فما احسسن الا بالدم- قال قتادة أبنّ أيديهن حتّى القينها- والأصح انه كان قطعا بلا ابانة وقال وهب»
ماتت جماعة منهن وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له تعالى من صفات العجز وتعجبا على كمال قدرته على الخلق- أصله حاشا لله كذا قرا ابو عمرو فى الموضعين وصلا- وإذا وقف حذف الالف اتباعا للخط- روى ذلك عن اليزيدي منصوصا والباقون يحذفون الالف فى الحالين تخفيفا وهو حرف يفيد معنى التنزيه فى باب الاستثناء فوضع موضع التنزيه واللام للبيان كما فى قولك سقيا لك ما هذا بَشَراً وهو على لغة اهل الحجاز فى اعمال ما عمل ليس لمشاركتهما فى نفى الحال- وقال البغوي منصوب بنزع حرف الصفة اى ليس هذا ببشر إِنْ هذا اى ما هذا إِلَّا مَلَكٌ من الملائكة كَرِيمٌ (31) على الله تعالى لان هذا الجمال لم يعهد فى لبشر وليس فوق البشر الا الملك- او لان الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من خواص الملائكة-.
قالَتْ زليخا فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ تعنى هو ذلك العبد الكنعانى الّذي صورتنّ فى انفسكن ثم لمتننى فيه- تعنى انكن لم تتصورنّه حق تصوره والا لعذرتنّنى فى الافتتان به- او فهذا اهو الّذي لمتننى فيه فوضع ذلك موضع هذا رفعا لمنزلة المشار اليه وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فامتنع طالبا للعصمة- أقرّت لهن حين عرفت انهن يعذرنها كى يعاونّها على إلانة عريكته فقلن له أطع مولاتك وَقالت زليخا لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ به أو أمري إياه تعنى موجب امرى والضمير ليوسف او المعنى ما امر به فحذف الجار والضمير للموصول لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً بنون التأكيد الخفيفة تنقلب الفا وقفا لشبهها بالتنوين نظيره لنسفعا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) اى من الأذلاء من صغر يصغر من باب سمع يسمع صغر او صغارا.
قالَ يوسف رَبِّ اى يا رب السِّجْنُ قرا يعقوب بفتح
__________
(1) فى الأصل مات-(5/159)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
السين والباقون بكسرها أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الزنى اختار السجن على المعصية حين توعّدته المرأة- أسند الدعاء إليهن وكان الدعاء من زليخا خاصة الى نفسها خروجا من التصريح الى التعريض- او لانهن خوفنه عن مخالفتها وزيّنّ له مطاوعتها- وقيل انهن جميعا دعونه الى انفسهن- قيل لو لم يسئل يوسف السجن ولم يقل السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ لم يبتل بالسجن- والاولى ان يسئل المرء العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسئل الصبر- روى الترمذي عن معاذ قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا وهو يقول اللهم انى أسئلك الصبر- قال سالت البلاء فاسئله العافية وروى الطبراني عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله علمنى شيئا ادع الله به فقال عليه السلام سل ربك العافية- فمكثت أياما ثم جئت فقلت يا رسول الله علمنى شيئا اسئله ربى عز وجل فقال يا عم سل الله العافية فى الدنيا والاخرة وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ فى تحسين الفاحشة الىّ بالتثبيت على العصمة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ امل الى اجابتهن او الى انفسهن بطبعي ومقتضى شهوتى- والصبوة الميل الى الهوى وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) من السفهاء بارتكاب الفاحشة فان الحكيم لا يفعل القبيح- او من الذين لا يعلمون بما يعلمون فانهم من الجهال حكما- قال البغوي فيه دليل على ان المؤمن إذا ارتكب ذنبا يرتكب عن جهالة.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فاجابه الله دعاءه الّذي تضمنه قوله وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي الاية فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ فثبته بالعصمة حتّى اثر مشقة السجن على اللذة المتضمنة للمعصية إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين اليه الْعَلِيمُ (34) بأحوالهم وما يصلحهم.
ثُمَّ بَدا لَهُمْ اى ظهر للعزيز وأصحابه فى الرأى مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف من كلام الطفل وفد القميص من دبر وقطع النساء أيديهن واستعصامه عنهن- وفاعل بدا ضمير مبهم يفسره قوله لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) اى مدة يرون فيها رأيهم وذلك باستهزال المرأة لزوجها وكان زوجها مطواعا لها ذلولا ذمامه فى يدها- وقد طمعت ان يذلل السجن يوسف ويسخره لها- او خافت عليه العيون وظنت منه الظنون فالجاها له الخجل من الناس والوجل من اليأس الى ان رضيت بالحجاب مكان خوف الذهاب- لتشتفى بخبره إذا منعت من نظره وقضاء حاجتها(5/160)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
منه- وقالت لزوجها ان هذا العبد العبراني قد فضحنى فى الناس يخبرهم انى راودته عن نفسه فاما ان تأذن لى فى الخروج فاخرج فاعتذر الى الناس- واما ان تحبسه الى ان تنقطع مقالة الناس ويحسب الناس انه المجرم- قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما عثر يوسف ثلاث عثرات حين همّ بها فسجن- وحين قال اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ... فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ- وحين قال للاخوة إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ فقالوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ....
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ وهما غلامان كانا للوليد بن ثروان العمليقى ملك المصر الأكبر أحدهما خبازه صاحب طعامه- والاخر ساقيه صاحب شرابه- غضب الملك عليهما فحبسهما- واتفق دخولهما فى السجن وقت دخول يوسف عليه السلام فيه كما يدل عليه كلمة مع- قال البغوي وكان السبب فى حبس الفتيين ان جماعة أرادوا المكر بالملك واغتياله- فضمنوا لهذين مالا ليسما الملك فى طعامه وشرابه- فاجاباهم ثم ان الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسم الطعام- فلما حضروا الطعام قال الساقي لا تأكل ايها الملك فان الطعام مسموم- وقال الخباز لا تشرب فان الشراب مسموم- فقال الملك للساقى اشرب فشربه فلم يضره- وقال للخباز كل من طعامك فابى- فجرب ذلك الطعام على دابّة فاكلته فهلكت- فامر الملك بحبسهما- وكان يوسف حين دخل السجن جعل ينشر علمه ويقول انى أعبّر الأحلام- فقال أحد الفتيين لصاحبه هلم فلنجرب هذا العبد العبراني نترايا له- فسالاه من غير ان يكونا رايا شيئا- قال ابن مسعود رضى الله عنه ما رايا شيئا انما تحالما ليجربا يوسف- وقال قوم بل كانا رايا حقيقة- فراهما يوسف وهما مهمومان فسالهما عن شأنهما قذكرا انهما صاحبا الملك وقد رأيا رؤيا غمهما ذلك- فقال يوسف قصّا علىّ ما رايتما فقصّا عليه قالَ أَحَدُهُما وهو صاحب الشراب إِنِّي قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَرانِي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْصِرُ خَمْراً يعنى ارى نفسى فى المنام اعصر خمرا اى عنبا سماه خمرا باعتبار ما يؤل اليه- يقال فلان يطبخ الاجر اى يطبخ اللبن للاجر- وقيل الخمر العنب بلغة عمان- وهى حكاية حال ماضية وذلك انه قال- انى رايت كانى فى بستان فاذا انا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجئتها- وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقت الملك فشربه(5/161)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
وَقالَ الْآخَرُ اى الخباز إِنِّي قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَرانِي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ وذلك انه قال انى رايت كان فوق رأسى ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الاطعمة وسباع الطير تنهش منه نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ اى أخبرنا بتفسيره وتعبيره وما يؤل اليه امر هذا الرؤيا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) اى من الذين يحسنون تأويل الرؤيا- او من العالمين والإحسان بمعنى العلم- وانما قالا ذلك لانهما راياه فى السجن يذكّر الناس ويعبر رؤياهم- او من المحسنين الى اهل السجن فاحسن إلينا بتأويل ما راينا ان كنت تعرفه- روى ان الضحاك بن مزاحم سئل عن قوله إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ما كان إحسانه- قال كان إذا مرض انسان فى السجن عاده وقام عليه- وإذا ضاق عليه المجلس وسّع له- وإذا احتاج جمع له شيئا- وكان مع هذا يجتهد فى العبادة ويقوم الليل كله للصلوة- وقيل انه لما دخل السجن وجد فيه قوما اشتد بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم- فجعل يسلّيهم ويقول ابشروا واصبروا تؤجروا- فيقولون بارك الله فيك يا فتى ما احسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت يا فتى- قال انا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن ابراهيم خليل الله- فقال له عامل السجن بافتى والله لو استطعت لخليت سبيلك ولكن ساحسن جوارك تمكّن فى اى بيوت السجن شئت- وروى ان الفتيين «1» لما رايا يوسف قالا له لقد احببناك حين رايناك- فقال لهما يوسف أنشدكما بالله ان لا تحبانى- فو الله ما أحبني أحد قط الا دخل علىّ من حبه بلاء- فقد احبّتنى عمتى فدخل علىّ بلاء- ثم احبّنى ابى فالقيت فى الجب- واحبّتنى امراة العزيز فحبست- فلما قصّا عليه الرؤيا كره يوسف ان يعبر لهما ما سالاه لما علم فى ذلك من المكروه على أحدهما- فاعرض عن سوالهما وأخذ فى غيره من اظهار المعجزة والدعاء الى التوحيد.
قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ «2» قيل أراد به ترزقانه فى النوم يقول لا يأتيكما طعام ترزقانه فى نومكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ فى اليقظة قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما تأويله- وقيل أراد انه لا يأتيكما طعام من منازلكما ترزقانه فى اليقظة اى تطعمانه
__________
(1) فى الأصل ان الفتيان
(2) فى الأصل فقال يكن الفاء ليست من القران بل هى من التفسير 12 ابو محمّد(5/162)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
وتأكلانه- الا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الّذي يصل اليكما قبل ان يصل اليكما- واىّ طعام أكلتم ومتى أكلتم- وهذا معجزة مثل معجزة عيسى عليه السلام حيث قال وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ- فقالا هذا فعل العرافين والكهنة فمن اين لك هذا العلم فقال ما انا بكاهن وانما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها- يعنى علّمنى ربى بالوحى القطعي المنزل من السماء- وقيل معنى الاية لا يأتيكما طعام يعنى من منازلكما الا نبأتكما بتأويل ما قصصتما علىّ من الرؤيا ذلكما اى التأويل مما علمنى ربى بالإلهام والوحى- وليس من قبيل التكهن والتنجم قال البيضاوي أراد يوسف عليه السلام ان يدعوهما الى التوحيد ويرشدهما الطريق القويم قبل ان يجيب ما سالا عنه- كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء فى الهداية والإرشاد- فقدّم ما يكون معجزة له من الاخبار بالغيب ليدلهما على صدقه فى الدعوة والتعبير إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) تعليل لما قبله اى علّمنى ذلك لانى تركت ملة المبطلين وتكرار كلمة هم للدلالة على اختصاصهم وتأكيد كفرهم بالاخرة.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وجاز ان يكون قوله إِنِّي تَرَكْتُ الى آخره كلاما مبتدا- لتمهيد الدعوة واظهار انه من بيت النبوة ليقوى رغبتهما فى الاستماع اليه والوثوق عليه- ومن هاهنا يظهران العالم إذا جهلت منزلته فى العلم فاراد ان ينشر علمه جاز له ان بصف نفسه حتّى يعرف الناس قدره فيقتبسون منه- وليس هذا من باب تزكية النفس انما الأعمال بالنيات والأنبياء كانوا مأمورين بذلك- قال الله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ- فويل للذين يطعنون على اولياء الله تعالى (مثل المجدد للالف الثاني رضى الله عنه حيث ذكروا ترقياتهم ومدارج قربهم من الله تعالى وما أفضل الله تعالى عليهم) حسدا وجهلا ما كانَ لَنا معشر الأنبياء اى ما صح ولا أمكن لنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ اىّ شيء كان فان الله تعالى قد خلقنا على جبلة التوحيد وعصمنا من الشرك ذلِكَ التوحيد والعلم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحى وَعَلَى سائر النَّاسِ ببعثتنا لارشادهم وتثبيتهم عليه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوث إليهم لا يَشْكُرُونَ (38) على هذه النعمة(5/163)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
ويعرضون عنه ولا ينتبهون- او من فضل الله علينا وعليهم بنصب الدلائل وإنزال الآيات ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها ولا يستدلون بها- فيلغونها كمن يكفر النعمة ولا يشكرها- ثم دعاهم الى الإسلام فقال.
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ اى ساكنى السجن او صاحبىّ فيه فاضافتهما اليه مجاز مثل يا سارق الليلة أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ شتى متعددة متساوية الاقدام فى الإمكان والعجز سواء كانت أصناما من ذهب او فضة او حديد او حجر- او غيرها من الملائكة والبشر خَيْرٌ من الله أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتوحد فى جلال ذاته وكمال صفاته لا يماثله شيء فى الذات ولا فى الصفات ولا فى الافعال الْقَهَّارُ (39) الغالب الّذي لا يعاد له ولا يقاومه غيره خير من غيره ثم بين بطلان الأصنام وغيرها فقال.
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ اى من دون الله خاطب الاثنين بلفظ الجمع لانه أراد كل من كان مثلهما فى الشرك إِلَّا أَسْماءً اى مسميات خالية عن معنى الالوهية سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الهة وأربابا- او المعنى ما تعبدون شيئا الا اسماء سميتوها لا تحقق لها فى الواقع تزعمونها حالّة فى الأصنام او مجردة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ اى لم يجعل الله سبحانه دليلا على وجودها- او حجة وبرهانا على استحقاقها للعبادة- كما نصب الله تعالى دلائل على وجود نفسه وبراهين على استحقاقه للعبادة وآيات انزل على رسله وأنبيائه إِنِ الْحُكْمُ فى العبادة إِلَّا لِلَّهِ لانه المستحق لها بالذات من حيث انه الواجب لذاته الموجد لغيره المنعم على الإطلاق المالك القاهر الضار النافع فلو جاز عبادة غيره لجاز بامره وقد أَمَرَ على لسان أنبيائه أَلَّا تَعْبُدُوا شيئا إِلَّا إِيَّاهُ حيث دلت عليه الحجج والبينات ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ اى الثابت الّذي دلت عليه البراهين وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) لا يميّزون الحق من الباطل فيخبطون فى جهالتهم- قال البيضاوي هذا من التدرج فى الدعوة والزام الحجة- بيّن لهم اولا رجحان التوحيد على اتخاذ الالهة على طريق الخطاب- ثم برهن على ان ما يسمونها الهة ويعبدونها لا تستحق العبادة فان استحقاق العبادة اما بالذات واما بالغير وكلا القسمين منتف عنها- ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الّذي لا يقتضى العقل غيره(5/164)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ولا يرتضى العلم دونه- ثم فسر رؤياهما بقوله.
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو صاحب الشراب فَيَسْقِي رَبَّهُ يعنى الملك خَمْراً والعناقيد الثلاثة ثلاثة ايام يبقى فى السجن ثم يدعوه الملك بعد ثلاثة ايام ويرده الى منزلته الّتي كان عليها وَأَمَّا الْآخَرُ يعنى الخباز فَيُصْلَبُ بعد ثلاثة ايام والسلال الثلاث ثلاثة ايام يبقى فى السجن ثم يخرجه فيصلبه فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قلت ولعل ذلك لاجل ما راى وجرب ان الخبّاز جعل الطعام مسموما دون الساقي كما مر فى القصة- قال ابن مسعود رضى الله عنه لما سمعا قول يوسف عليه السلام قالا ما راينا شيئا انما كنا نلعب- فقال يوسف عليه السلام قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) يعنى جرى قضاء الله سبحانه فى الأمر الّذي تستفتيان فيه- يعنى فى ما يؤل اليه امر كما- كما قلت وأخبرتكما به رايتما او لم تريا- وحد الضمير لانهما وان استفتيا فى أمرين لكنهما أرادا ظهور عاقبة ما ينزل بهما-.
وَقالَ يوسف عند ذلك لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا المراد بالظن اليقين ان كان الضمير راجعا الى يوسف عليه السلام- لكونه على اليقين يدل عليه قوله قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ- وجاز ان يكون الضمير راجعا الى الموصول وهو الساقي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعنى عند الملك وقل له ان فى السجن غلاما محبوسا ظلما وصفه كذا كى يخلصنى فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ اى انسى الشيطان الساقىّ ان يذكر حال يوسف لربه اى للملك- أضاف اليه المصدر للملابسة له- او على تقدير ذكر اخبار ربه- وقال ابن عباس واكثر المفسرين معنى الاية انسى الشيطان يوسف ذكر ربه- حتّى ابتغى الفرج من غيره واستعان بمخلوق- وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ما لبث فى السجن طول ما لبث- رواه ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردوية فَلَبِثَ مكث يوسف فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) قال قتادة هو ما بين الثلاث الى التسع من البضع وهو القطع- وقال مجاهد ما بين الثلاث الى السبع- واكثر المفسرين على انه لبث فى السجن سبع سنين- قال وهب أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف فى السجن سبع سنين- قال الكلبي لبث(5/165)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
خمس سنين قبل ذلك وسبعا بعد قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فكل ذلك اثنتا عشرة سنة- قلت قوله تعالى دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ تدل على معية دخولهما دخوله لما ذكرنا- وإذا كان لبث الفتيين فى السجن ثلاثة ايام فلا يتصور لبث يوسف خمس سنة قبل ذلك القول والله اعلم- قال مالك بن دينار لما قال يوسف للساقى اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ- قيل له يا يوسف اتخذت من دونى وكيلا لاطيلن حبسك- فبكى يوسف وقال يا رب انسى قلبى كثرة البلوى فقلت كلمة ولا أعود- وقال الحسن دخل جبرئيل على يوسف فى السجن فلما راه يوسف عرفه فقال له يا أخا المنذرين ما لى أراك بين الخاطئين- فقال له جبرئيل يا طاهر بن الطاهرين يقرا عليك السلام رب العالمين ويقول لك اما استحييت منى ان استشفعت بالآدميين فوعزتى لالبثنّك فى السجن بضع سنين- قال يوسف وهو فى ذلك عنى راض قال نعم قال إذا لا أبالي- وقال كعب قال جبرئيل ليوسف ان الله يقول من خلقك قال الله- قال فمن حببك الى أبيك قال الله- قال فمن انجاك من كرب البئر قال الله- قال فمن علمك تأويل الرؤيا قال الله- قال فمن صرف عنك السوء والفحشاء قال الله- قال فكيف استشفعت بادمى مثلك انتهى- وسيأتى فى حديث ابن عباس عند الطبراني قوله صلى الله عليه وسلم ولولا كلمة يعنى من يوسف لما لبث فى السجن حيث يبتغى الفرج من عند غير الله عز وجل- فلما انقضت سبع سنين ودنا فرج يوسف راى ملك مصر الأكبر وهو ديان بن وليد عجيبة هالته وذلك انه راى سبع بقرات خرجن من البحر ثم خرج عقبهن سبع بقرات عجاف فى غاية الهزال فابتعلت العجاف السّمان- فدخلن فى بطونهن ولم ير منهن شيئا ولم يتبين على العجاف منها شيء- ثم راى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا اخر يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها ولم يبق من خضرتها شيء- فجمع السحرة والكهنة والحازة والمعبرين وقصّ عليهم رؤياه كما قال الله تعالى.
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ استغنى عن بيان حالها بما ذكر من حال البقرات واجرى السمان على التميز دون(5/166)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
المميز لان التميز بها- ووصف السبع الثاني بالعجاف لتعذر التميز بها مجردا عن الموصوف- فانه لبيان الجنس وقياسه عجف لانه جمع عجفاء لكنه حمل على سمان لانه نقيضه يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) اى ان كنتم عالمين بعبارة الرؤيا وهى الانتقال من الصور المثالية الى المعاني النفسانية الّتي هى صورها فى عالم المثال- من العبور وهو المجاوزة- وعبرت الرؤيا عبارة اثبت من عبرتها تعبيرا- واللام للبيان او لتقوية العامل فان الفعل لما اخر عن مفعوله ضعف عمله- فقوى باللام كاسم الفاعل او لتضمين تعبرون معنى فعل تعدى باللام كانه قيل ان كنتم تبذلون لعبارة الرؤيا- او يكون للرؤيا خبر كنتم كقولك فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه وتعبرون خبر اخر او حال- ومفعول تعبرون محذوف لدلالة ما قبله عليه.
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ اى هذه أضغاث أحلام- وهى تخاليطها جمع ضغث وهو فى الأصل الخرمة من انواع حشيش فاستعير للرؤيا الكاذبة- وانما جمعوا للمبالغة فى وصف الحلم بالبطلان كقولهم فلان يركب الخيل- او لتضمنه أشياء مختلفة- والحلم الرؤيا والفعل منه بفتح العين فى الماضي وضمها فى الغابر من باب نصر وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) أراد بالأحلام المنامات الباطلة خاصة اى ليس لها تأويل عندنا وانما التأويل للمنامات الصادقة كانه مقدمة ثانية للعذر فى جهلهم بتأويله-.
وَقالَ الَّذِي نَجا من السجن والقتل مِنْهُما من صاحبى السجن وهو الساقي وَادَّكَرَ أصله ادتكر أبدلت التاء دالا ثم أدغمت- يعنى تذكر الساقي يوسف وقوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ بعد امّة اى بعد جماعة من الزمان اى مدة طويلة وهى سبع سنين والجملة معترضة ومفعول القول أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ قال البغوي ان الساقي جثى بين يدى الملك وقال ان فى السجن رجلا يعبر الرؤيا فَأَرْسِلُونِ (45) اليه فى السجن فارسله الملك الى يوسف- فاتى السجن قال ابن عباس ولم يكن السجن فى المدينة فلما اتى الساقي عند يوسف قال.
يُوسُفُ اى يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ اى المبالغ فى الصدق وصفه به لما جرّب وعرف صدقه فى تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه أَفْتِنا(5/167)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ
اى فى ذلك الرؤيا فان الملك راى هذه الرؤيا وأرسلني إليك لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ اى أعود الى الملك ومن عنده بتأويل رؤيا الملك- وانما أورد كلمة لعل ولم يبتّ الكلام فيها لان الناس لما عجزوا عن تأويل الرؤيا (وكان الملك هائلا من تلك الرؤيا) استعظم شأن تأويله عنده ولم يقطع بحصول مقصوده لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) فضلك ومنزلتك فى العلم- أورد كلمة لعلّ لان الناس قد لا يتنبّهون بفضل اهل الفضل لكمال غفلتهم- كما لم يتنبه العزيز بفضل يوسف بعد ما راى من الآيات-.
قالَ له يوسف اما البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخاصيب والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات فالسنون المجدبة تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً والداب العادة ونصبه على الحال بمعنى دائبين اى على عادتكم- او على المصدرية بإضمار فعله اى تدأبون دأبا- وتكون الجملة حالا وقيل معناه بجد واجتهاد قرا حفص دابا بفتح الهمزة والباقون بإسكانها وهما لغتان- وقيل تزرعون امر أخرجه فى صورة الخبر مبالغة فى النصح لقوله تعالى فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا تأكله السوس وهذه الجملة على الاول نصيحة خارجة عن العبارة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) فى تلك السنين.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ سمى السنين المجدبة شدادا لشدتها على الناس يَأْكُلْنَ اى يأكل أهلهن أسند الاكل إليهن على المجاز تطبيقا للتعبير بالرؤيا ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ اى ما ادخرتم لاجلهن إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) اى تحرزون لبذور الزراعة.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ اى يمطرون من الغيث وهو المطر- او يغاثون من القحط من الغوث وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) قرا حمزة والكسائي بالتاء الفوقانية على الخطاب لان الكلام كله على الخطاب والباقون بالياء التحتانية على ان الضمير راجع الى الناس ومعناه يعصرون العنب والزيتون والسمسم ونحو ذلك أراد به خصب السنة وكثرة نعيمها- قال ابو عبيدة تعصرون اى تنجون من الكرب والجدب- والعصر المنجأ والملجا-(5/168)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
وهذه بشارة بشّرهم بها بعد ان اوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة- وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع فى السنين المخصبة وانما علم ذلك بعدد السبع العجاف- فانه لولا يأتى بعد ذلك سنة مخصبة لزاد عدد السنين المجدبة على السبع- وقال البيضاوي لعله علم ذلك بالوحى- او بان السّنّة الالهية على ان يوسع على عباده بعد ما يضيق عليهم والله اعلم-.
وَقالَ الْمَلِكُ لما رجع اليه الساقي بتأويل رؤياه وأخبره بما أفتاه يوسف- وعلم الملك فضل يوسف وان الّذي قاله كائن ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ يعنى يوسف الرَّسُولُ للملك وقال له أجب الملك ابى يوسف ان يخرج معه حتّى يظهر براءته من تهمة الفسق وقالَ للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ يعنى الى الملك فَسْئَلْهُ ان يسئل ما بالُ يعنى اىّ حال النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ فيه دليل على انه ينبغى ان يجتهد الرجل فى نفى التهمة عن نفسه- لا سيما من كان ممن يقتدى به- ولم يصرح بذكر امراة العزيز أدبا واحتراما لها- اخرج إسحاق بن راهويه فى مسنده والطبراني فى معجمه وابن مردوية من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه والله يغفر له حيث أرسل اليه ليستفتى فى الرؤيا- ولو كنت انا لم افعل حتّى اخرج وعجبت لصبره وكرمه والله يغفر له اتى ليخرج فلم يخرج حتّى أخبرهم بعذره- ولو كنت انا لبادرت الباب- ولولا الكلمة لما لبث فى السجن حيث يبتغى الفرج من عند غير الله عز وجل- ورواه عبد الرزاق وابن جرير فى تفسيرهما من حديث عكرمة مرسلا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره الله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان- ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتّى اشترطت ان يخرجونّى- ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ- ولو كنت مكانه ولبثت فى السجن ما لبث لا سرعت الاجابة وبادرتهم الباب- ولما ابتغيت العذر إن كان لحليما ذا اناءة- واصل الحديث فى الصحيحين مختصرا فائدة تعجبه صلى الله عليه وسلم من حال يوسف وقوله صلى الله عليه وسلم لا سرعت الاجابة- مبنى على كمال نزوله صلى الله عليه وسلم الّذي هو مدار(5/169)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
شيوع دينه وقوة تأثيره فى الناس وتكميله- وقد حقق ذلك المجدد للالف الثاني رضى الله عنه فى مكاتيبه- وهذا امر لا يدركه فهم اكثر اهل الكمال فضلا عن غيرهم إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) حين قلن لى أطع مولاتك او أردن مراودتى عن نفسى لانفسهن- فيه تعظيم لكيدهن واستشهاد بعلم الله تعالى عليه- وعلى انه برئ مما اتهمنه ووعيد لهن فى كيدهن- فرجع الرسول الى الملك من عند يوسف برسالته فدعا الملك النسوة وامراة العزيز.
قالَ لهن ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن والخطب امر يحق ان يخاطب به صاحبه- اما خاطبهن جميعا لانهن راودنه جميعا عن نفسه لهن- او لانهن قلن أطع مولاتك- واما خاطبهن والمراد امراة العزيز فحسب إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل وجدتن منه ميلا الى إحداكن قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مر اختلاف القراء فيه فيما سبق- اى تنزيه له تعالى وتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ اى على يوسف مِنْ سُوءٍ من ذنب وخيانة- قيل ان النسوة اقبلن على امراة العزيز فعزرنها- وقيل خافت امراة العزيز ان يشهدن عليها فاقرت على نفسها وقالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ اى ظهر وتبين من حصحص شعره إذا استأصله بحيث يظهر بشرة رأسه- او ثبت واستقر من حصحص البعير إذا القى مباركه ليناخ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) فى قوله هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي- فلما سمع يوسف ذلك قال.
ذلِكَ الّذي فعلت من رد الرسول الى الملك كان لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فى زوجته بِالْغَيْبِ اى بظهر الغيب وهو حال من الفاعل او المفعول- اى لم اخنه وانا غائب عنه او هو غائب عنى- او ظرف اى بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) اى لا ينفذه ولا يسدده بل يظهر الحق ولو بعد حين- او لا يهدى الخائنين بكيدهم- فاوقع الفعل على الكيد مبالغة- وفى هذا القول تعريض بزليخا فى خيانتها زوجها وتأكيد لامانته- ولذلك عقبه بقوله-.
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي فتح الياء نافع وابو عمرو وابو جعفر- ابو محمّد وأسكنها الباقون- تنبيها على انه لم يرد(5/170)
بذلك تزكية النفس والعجب بحاله- بل اظهار ما أنعم الله عليه من العصمة والتوفيق وترغيب الناس الى الاقتداء به والاقتفاء بآثاره- احرج ابن مردوية من حديث انس مرفوعا انه لما قال يوسف لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرئيل ولا حين هممت- فقال ذلك وذكره البيضاوي عن ابن عباس موقوفا إِنَّ النَّفْسَ يعنى ان النفس الحيواني المنبعث من العناصر الاربعة- الّتي هى مركب للقلب والروح وغيرهما من لطائف عالم الأمر- الّتي مقرها فوق العرش لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ من حيث انها بالطبع مائلة الى الشهوات والرذائل الّتي هى من خصائص العناصر الاربعة- كالغضب والكبر الذين هما مقتضى عنصر النار- والدناءة والخسة مقتضى الأرض- والتلون وقلة الصبر مقتضى الماء- والهزل واللهو مقتضى الهواء إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي فتح الياء نافع وابو عمرو وأسكنها الباقون يعنى الّا من رحم ربّى فما بمعنى من كما فى قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ فعصمه فلا يطيع نفسه ويجاهدها ولاجل ذلك المجاهدة يدرك افضلية على الملائكة- او المعنى الا وقت رحمة ربى- وما مصدرية يعنى إذا أدرك الإنسان رحمة الرّحمن بالاجتباء او بالانابة الى الأنبياء- فحينئذ يتزكى نفسه بتزكية من الله تعالى قال الله تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ... بَلِ «1» اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ- وتطمئن بمرضات الله ويخاطب بقوله تعالى ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي الصالحين- وحينئذ يبدل الله سيئاتها حسنات ويجعلها اماما لسائر اللطائف فى الخيرات وتستعد لتجليات الصفات ما لا يستعد لها لطائف عالم الأمر- وقيل الاستثناء منقطع اى لكن رحمة ربى هى الّتي تصرف الاساءة ويبدلها بالاصابة- وقيل الآيتان «2» حكاية عن قول زليخا والمستثنى نفس يوسف وأمثاله والمعنى ان ذلك الّذي قلت من براءة يوسف ليعلم يوسف أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ اى لم أكذب عليه فى حال الغيبة- وجئت بالصدق فيما سئلت عنه- وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الخيانة فانى قد خنسته حين قذفته وقلت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ وأودعته السجن- تريد الاعتذار مما كان منها بان كل نفس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ الّا من رحم ربّى
__________
(1) وفى القرآن فى النساء أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وفى النجم فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى -.
(2) فى الأصل ايتين-(5/171)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
كنفس يوسف وأمثاله- رحمه الله بالعصمة- قرا قالون والبزي بالسّوّ على قلب الهمزة واوا ثم الإدغام فى حال الوصل وتحقيق همزة الّا- وورش وقنبل على أصلهما فى الهمزتين المكسورتين وابو عمرو ايضا على أصله- والباقون على أصولهم إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) يغفر همّ النفس وخطراتها ويرحم من يشاء بالعصمة- او يغفر المستغفر لذنبه المعترف على نفسه ويرحمه ما استغفره واسترحمه-.
وَقالَ الْمَلِكُ لما تبين له عذر يوسف وعرف منزلته من الامانة والعلم ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي اى اجعله خالصا لنفسى- فجاء الرسول يوسف فقال له أجب الملك الان- اخرج عبد الحكم فى فتوح مصر من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس فاتاه الرسول فقال له الق عنك ثياب السجن والبس ثيابا جددا وقم الى الملك- واخرج ابن ابى شيبة وابن المنذر عن فريد العمى قال لما راى يوسف عزيز مصر قال اللهم انى أسئلك بخيرك من خيره وأعود بعزتك من شره- قال البغوي روى انه قام ودعا لاهل السجن وقال اعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الاخبار- فهم اعلم الناس بالأخبار فى كل بلد- فلما خرج من السجن كتب على باب السجن هذا قبور الاحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء- وتنظّف من درن السجن ولبس ثيابا حسانا وقصد الملك- قال وهب فلما وقف بباب الملك قال حسبى ربى من دنياى وحسبى ربى من خلقه عز جاره وجل ثناؤه ولا اله غيره- ثم دخل الدار فلما دخل على الملك قال اللهم أسئلك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره- فلما نظر اليه الملك سلم عليه يوسف بالعربية فقال الملك ما هذا اللسان قال لسان عمى إسماعيل عليه السلام- ثم دعا له بالعبرانية فقال ما هذا اللسان قال لسان ابائى ولم يعرف الملك هذين اللسانين قال وهب وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا- فكلّما كلم بلسان اجابه يوسف بذلك اللسان وزاد لسان العبرانية والعربية- فاعجب الملك ما راى منه مع حداثة سنه وكان يوسف حينئذ ابن ثلاثين سنة فاجلسه فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ اى ذو مكانة فى ألحاه والمنزلة أَمِينٌ (54) مؤتمن على كل شيء- قال البغوي روى ان الملك قال له انى أحب ان اسمع رؤياى منك شفاها- فقال يوسف نعم ايها الملك- رايت سبع بقرات شهب غر حسان(5/172)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
كشف لك عنهن النيل- فطلعن عليك من شاطئته لشخب اخلافهن لبنا- فخرج من حماته سبع بقرات عجاف شعث غير مقلّصات البطون ليس لهن ضروع ولا اخلاف- ولهن أنياب واضراس واكف كاكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع- فافترسن السمان افتراس السباع فاكلن لحومهن ومزقن جلودهن وحطمن عظامهن وتمششن مخهن- فبينا أنت تنظر وتتعجب إذا سبع سنابل خضر وسبع اخر سود فى منبت واحد وعروقهن فى الثرى والماء- فبينا أنت تقول فى نفسك انّى هذا هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد وأصولهن فى الماء- إذ هبّت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات- فاشتعلت فيهن النار فاحرقتهن فصرن سودا- فهذا ما رايت فانتبهت من نومك مذعورا- فقال الملك والله ما شأن هذه الرؤيا (وان كانت عجيبا) بأعجب مما سمعت منك- فما ترى فى رؤياى ايها الصديق فقال يوسف ارى ان تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا فى هذه السنين المخصبة- وتجعل الطعام فى الخزائن بقصبه وسنبله- ليكون القصب والسنبل علفا للدواب- وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس- فيكفيك من الطعام الّذي جعلته لاهل مصر ومن حولها- ويأتيك الخلق من النواحي للميزة- ويجتمع عندك من الكنوز ما لم «1» يجتمع لاحد قبلك- فقال الملك ومن لى بهذا ومن يجمعه ويبيعه ويكفينى الشغل فيه-.
قالَ يوسف اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اى خزائن طعام ارض مصر وأموالها إِنِّي حَفِيظٌ للخزائن بما لا يستحقها عَلِيمٌ (55) بوجوه مصالحها- وصف يوسف عليه السلام نفسه بالامانة والكفاية وطلب الولاية- ليتوصل بها الى إمضاء احكام الله واقامة الحق وبسط العدل مما يبعث لاجله الأنبياء الى العباد- لعلمه ان أحدا غيره لا يقوم مقامه فى ذلك- فما كان طلبه الولاية الا لابتغاء وجه الله لا لحب الجاه والدنيا- ومن هذا القبيل اشتغال «2» الخلفاء الراشدين بامر الخلافة- ومعارضة علىّ رضى الله عنه معاوية فى هذا الأمر- لكونه أحق وأقوى واقدر على نفسه وأقوم على إنفاذ الشرائع- وقال البيضاوي لعل يوسف عليه السلام لمّا راى ان يستعمله الملك فى امر لا محالة اثر ما يعم فوائده ويجل عوائده- وفيه دليل على جواز طلب الولاية والقضاء- واظهار انه مستعد لها
__________
(1) فى الأصل لا يجتمع-
(2) فى الأصل خلفاء الراشدين(5/173)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
ان كان أمنا على نفسه- وعلى جواز ان يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر او كافر- إذا علم انه لا سبيل الى اقامة الحق وسياسية الخلق الا بتمكين ذلك الكافر او الجائر- وقد كان السلف من هذه الامة يتولون القضاء من جهة الظلمة- وقيل كان الملك يصدر عن رايه ولا يعترض فى كل ما راى فكان فى حكم التابع له- روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ لاستعمله من ساعته- ولكنه اخر ذلك السنة فاقام فى بيته سنة مع الملك- وبإسناده عن ابن عباس قال لما انصرمت السنة من يوم سال الامارة- دعاه الملك فتوجّه وردّاه بسيفه- ووضع له السرير من ذهب مكلّلا بالدر والياقوت- وضرب عليه كلة من إستبرق- وطول السرير ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة اذرع- عليه ثلاثون فراشا وستون مقرمة- ثم امره ان يخرج فخرج متوّجا لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه فى صفاء لون وجهه- فانطلق حتّى جلس على السير ودانت له الملوك- ودخل الملك بيته وفوض اليه امر مصر- وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه قاله ابن إسحاق- وقال ابن زيد وكان لملك مصر ريان خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله اليه- وجعل امره وقضاءه نافذا- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن إسحاق قال ذكروا ان قطفير هلك فى تلك الليالى- فزوج الملك يوسف زليخا امراة قطفير- فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرا مما كنت تريدين- فقالت ايها الصديق لا تلمنى فانى كنت امراة كما ترى حسنا وجمالا- ناعمة كما ترى فى ملك ودنيا- وكان صاحبى لا يأتى النساء- وكنت كما جعلك الله فى حسنك وهيئتك- فغلبتنى نفسى على ما رايت- فزعموا انه وجدها يوسف عذراء- فاصابها فولدت له رجلين افرائيم- وميثا- واستوثق ليوسف ملك مصر واقام فيهم وأحبه الرجال والنساء فذلك قوله عز وجل.
وَكَذلِكَ اى مثل ذلك التمكين فى مجلس الملك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ارض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها اى ينزل من بلادها حَيْثُ يَشاءُ قرا ابن كثير بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة ردّا الى يوسف نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا اى بنعمتنا مَنْ نَشاءُ فى الدنيا(5/174)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
والاخرة وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) بل نوفى أجورهم عاجلا وأجلا- قال ابن عباس رضى الله عنهما ووهب يعنى الصابرين- قال مجاهد وغيره فلم يزل يدعو الملك الى الإسلام ويتلطف له حتّى اسلم الملك وكثير من الناس فهذا فى الدنيا.
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ اى ثوابها خَيْرٌ من نعماء الدنيا لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) ولما اطمان يوسف فى ملكه دبّر فى جمع الطعام واحسن التدبير- وبنى الحصون والبيوت الكثيرة وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة- وأنفق بالمعروف حتّى خلت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة بهول لم يعهد مثله- وروى انه كان قد دبر فى طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار- فلما دخلت سنة القحط كان أول من اخذه الجوع هو الملك فى نصف الليل- فنادى يا يوسف الجوع الجوع- قال يوسف هذا أوان القحط- ففى السنة الاولى من سنى الجدب هلك كل شيء أعدوه فى السنين المخصبة- فجعل اهل مصر يبتاعون من يوسف الطعام- فباعهم أول سنة بالنقود حتّى لم يبق بمصر دينار ولا درهم الا قبضه- وباعهم فى السنة الثانية بالحلى والجواهر حتّى لم يبق فى أيد الناس منها شيء- وباعهم فى السنة الثالثة بالمواشي والدواب حتّى احتوى عليها اجمع- وباعهم فى السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتّى لم يبق بيد أحد عبد ولا امة- وباعهم فى السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتّى احتوى عليها- وباعهم فى السنة السادسة باولادهم حتّى استرقهم- وباعهم فى السنة السابعة برقابهم حتّى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا صار عبدا له- (قلت ان صح هذه الرواية لدلت على ان بيع الرجل نفسه وأولاده كان جائزا فى شريعة يوسف عليه السلام- كما كان استرقاق السارق جائزا- وقد افتى بعض العلماء فى القحط ببيع الحر نفسه وولده- ولا اصل لهذا القول فى شريعتنا والله اعلم) فقال الناس ما راينا كاليوم ملكا أجل وأعظم من هذا- ثم قال يوسف للملك كيف رايت صنع ربى فيما خولنى فما ترى- قال الملك الرأى رأيك ونحن لك تبع- قال فانى اشهد الله وأشهدك انى قد اعتقت اهل مصر عن آخرهم- ورددت عليهم املاكهم- وروى ان يوسف عليه السلام كان لا يشبع من الطعام فى تلك الأيام- فقيل له تجوع وبيدك خزائن الأرض- قال أخاف ان(5/175)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
شبعت ان انسى الجائع- وامر يوسف طباخى الملك ان يجعلوا غداه نصف النهار- وأراد بذلك ان يذوق الملك طعم الجوع ولا ينسى الجائعين- فمن ثم جعل الملوك غداهم نصف النهار- قال وقصد الناس مصر من كل أوب يمتارون- فجعل يوسف لا يمكّن أحدا منهم وان كان عظيما اكثر من حمل بعير- تقسيطا بين الناس وتزاحم الناس عليه- وأصاب ارض كنعان وبلاد الشام ما أصاب سائر البلاد من القحط والشدة- ونزل بيعقوب عليه السلام ما نزل بالناس- وكان منزله بالغرمات من ارض فلسطين ثغور الشام وكانوا اهل بادية وابل وشياه فارسل بنيه الى مصر للميرة وقال بلغني ان بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا واذهبوا لتشتروا منه الطعام وامسك عنده بنيامين أخا يوسف شقيقه.
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ العشرة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ اى على يوسف عليه السلام فَعَرَفَهُمْ يوسف قال ابن عباس ومجاهد عرفهم باول ما نظر إليهم- وقال الحسن لم يعرفهم حتّى تعرفوا اليه وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) اى لم يعرفوه قال ابن عباس وكان بين ان قذفوه فى البئر وبين ان دخلوا عليه أربعون سنة فلذلك أنكروه- وقال عطاء انما لم يعرفوه لانه كان على سرير الملك وعلى رأسه تاج الملك- وقيل لانه كان بزىّ الملوك عليه ثياب حرير وفى عنقه طوق ذهب- قلت وهذا انما يتصور لو كان لبس الحرير والذهب جائزا فى دين يوسف عليه السلام فلما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية قال أخبروني من أنتم وما أمركم فانى أنكرت شأنكم- قالوا قوم من ارض الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار الطعام- فقال لعلكم جئتم تنظرون عورة بلادي- قالوا لا والله ما نحن بجواسيس- انما نحن اخوة بنوا اب واحد وهو شيخ صديق يقال له نبى من أنبياء الله عز وجل- قال وكم أنتم قالوا كنا اثنى عشر فذهب أخ لنا- هو أصغرنا الى البرية فهلك فيها- وكان أحبنا الى أبينا- قال فكم أنتم هاهنا قالوا عشرة- قال فاين الاخر- قالوا عند أبينا لانه أخ الّذي هلك من امه فابونا يتسلّى به- قال فمن يعلم ان الّذي تقولون حق وصدق- قالوا ايها الملك اننا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد- فحمد يوسف لكل رجل منهم بعيرا بعدتهم وجهز بجهازهم- اى أصلحهم بعدتهم والجهاز ما يعد من الامتعة للنقلة.
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ان كنتم صادقين فانا ارضى(5/176)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
بذلك وأزيدكم حمل بعير لاجل أخيكم وأكرّم منزلتكم أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ اى اتمّه ولا ابخس الناس شيئا وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) قال مجاهد اى خير المضيفين وكان قد احسن ضيافتهم.
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي اى ليس لكم عندى طعام أكيله لكم وَلا تَقْرَبُونِ (60) اى لا تقربونى ولا تدخلوا ديارى- وهو اما نهى واما نفى معطوف على الجزاء.
قالُوا ان أبانا يحزن على فراقه سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ اى سنجهد فى طلبه من أبيه ونخادعه عنه وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) ما امرتنا به قال فدعوا بعضكم عندى رهينة حتّى تأتونى بأخيكم فاقترعوا بينهم فاصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا فى يوسف فخلوه عنده.
وَقالَ يوسف لِفِتْيانِهِ كذا قرا حفص وحمزة والكسائي بالألف والنون على جمع الكثرة والباقون فتيته بالتاء من غير الف على وزن جمع القلة وهما لغتان مثل الصبيان والصبية- اى قال لغلمانه الكيّالين اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ يعنى ثمن طعامهم وكانت دراهم- وقال الضحاك عن ابن عباس كانت النعال والادم وقيل كانت ثمانية جرب من سويق المقل- قال البغوي والاول أصح فِي رِحالِهِمْ اى فى أوعيتهم لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها اى يعرفون حق ردها وحق التكرم برد البدلين إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) الى مصر قيل رد بضاعتهم كرامة وتقدما فى البر والإحسان ليكون ادعى لهم الى العود اى لعلهم يعرفونها اى كرامتهم علينا- وقيل لما راى من اللوم فى أخذ الثمن من أبيه واخوته مع حاجتهم اليه رد عليهم من حيث لا يعلمون تكرما- وقال الكلبي بخوف ان لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة اخرى- وقيل جعل ذلك لانه علم ان ديانتهم تحملهم على رد البضاعة نفيا للغلط ولا يستحلون إمساكها-.
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا قدمنا خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامه لو كان رجلا من ال يعقوب ما أكرمنا كرامته- فقال لهم يعقوب عليه السلام إذا أتيتم ملك مصر فاقرءوا منى السلام- وقولوا ان أبانا يصلى عليك ويدعو لك بما أوليتنا- ثم قال اين شمعون قالوا ارتهنه ملك مصر واخبروه بالقصة- فقال لهم ولم اخبرتموه- قالوا انه أخذنا وقال أنتم جواسيس حيث كلمنا بلسان العبرانية- وقصوا عليه القصة وقالوا يا أَبانا مُنِعَ(5/177)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
مِنَّا الْكَيْلُ
اى حكم بمنعه بعد هذا ان لم نذهب ببنيامين كذا قال الحسن- وقيل معناه اعطى باسم كل واحد حملا ومنع منا الكيل لبنيامين- والمراد بالكيل الطعام فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين نَكْتَلْ قرا حمزة والكسائي بالياء على الغيبة اى يكتل بنيامين معنا- وقرا الآخرون بالنون على التكلم اى نكتل نحن وهو الطعام ويذهب المانع- وقيل معناه نكتل له وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) على ان يناله مكروه.
قالَ أبوهم هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ هذا اى كيف امنكم عليه وقد قلتم فى يوسف إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وفعلتم به ما فعلتم فَاللَّهُ خَيْرٌ منكم ومن كل أحد حافِظاً فاتوكل عليه وأفوض امرى اليه وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) فارجو ان يرحمنى بحفظه ولا يجمع علىّ مصيبتين- وانتصاب حفظا على التميز كذا قرا الأكثرون بلفظ المصدر وقرا حفص وحمزة والكسائي حافظا على وزن الفاعل وهو يحتمل الحال والتميز كقولهم لله دره فارسا.
وَلَمَّا فَتَحُوا اى اخوة يوسف مَتاعَهُمْ الّذي حملوه من مصر وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ اى ثمن طعامهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي اى هل من مزيد على ذلك أكرمنا واحسن مثوانا وباع منا ورد علينا متاعنا- او لا نطلب وراء ذلك إحسانا- او اى شيء نطلب بالكلام فى إحسانه او لا نبغى فى القول ولا نزيد فيما حكينا لك فان من الدليل على صدقنا ما ترى فى العيان او ما نطلب منك بضاعة هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا استيناف موضح لقوله ما نبغى وَنَمِيرُ أَهْلَنا معطوف على محذوف ان كانت ما استفهامية- اى ردت إلينا فنستظهر بها ونرجع الى الملك ونمير أهلنا- اى نشترى لهم الطعام فنحمله إليهم- يقال ما راهله يمير ميرا إذا حمل إليهم الطعام من بلد اخر ومثله امتار يمتار امتيارا- ويحتمل ان يكون هذه الجملة مع ما عطف عليه معطوفة على ما نبغى- ان كانت ما نافية اى لا نطلب فيما نقول وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا عن المخاوف فى الذهاب والمجيء وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ اى نزيد حمل بعير على احمالنا يكال لنا من اجله فانه كان يعطى بعدة كل رجل حمل بعير ذلِكَ اى ما حملناه كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قليل لا يكفينا وأهلنا او سهل على الملك لسخائه-.
قالَ لهم يعقوب لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ إذ رايت منكم ما رايت حَتَّى تُؤْتُونِ قرا ابن كثير تؤتونى بإثبات الياء وصلا ووقفا- وابو عمرو أثبتها وصلا فقط(5/178)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
والباقون يحذفونها فى الحالين- اى تعطونى مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ اى عهدا مؤكدا باليمين بالله او باشهاد الله على نفسه اتوثق به لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب القسم إذ المعنى حتّى تحلفوا بالله لتأتنّنى به إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ قال مجاهد يعنى الا ان تهلكوا جميعا- وقال قتادة الا ان تغلبوا حتّى لا تطيقوا ذلك- وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال اى لتأتنّنى به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم- او من أعم العلل على قوله لتأتنّنى به فى تأويل النفي اى لا تمنعون من الإتيان به لشيء الا للاحاطة بكم- كقوله أقسمت بالله الا فعلت اى ما اطلب الا فعلك فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ اى عهدهم قيل حلفوا بالله رب محمّد وجهدوا أشد الجهد حتّى لم يجد يعقوب بدا من إرسال بنيامين معهم قالَ يعقوب اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من طلب المواثيق وإتيانه وَكِيلٌ (66) شاهد وقيل حافظ- قال كعب لما قال يعقوب فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً قال الله عز وجل وعزتى لاردن عليك كليهما «1» بعد ما توكلت علىّ.
وَقالَ يعقوب لما أراد بنوه الخروج من عنده يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لانهم كانوا ذوى جمال وابهة وقوة وامتداد قامة مشتهرين فى المصر بالقربة والكرامة عند الملك- فخاف عليهم العين وقد ورد فى الحديث العين حق وقد ذكرنا ما ورد فى ذلك فى سورة نون فى تفسير قوله تعالى وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ الاية- ولعله لم يوصهم بذلك فى الكرة الاولى لانهم كانوا مجهولين حينئذ وكان الداعي اليه خوفه على بنيامين- وعن ابراهيم النخعي انه قال ذلك لانه كان يرجو ان يروا يوسف فى التفرق والاول أصح وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ مما قضى عليكم فان المقدر كائن عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغنى حذر عن قدر- رواه الحاكم ورواه احمد من حديث معاذ بن جبل ورواه البزار من حديث ابى هريرة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يصيبكم لا محالة ان قضى عليكم سوءا ولا ينفعكم شيء فوض يعقوب امره الى الله تعالى وقال عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اعتمدت وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) جمع بين حرفى العطف فى عطف الجملة على الجملة- لتقدم الصلة للاختصاص- كانّ الواو للعطف والفاء لافادة السببية فان فعل الأنبياء سبب
__________
(1) فى الأصل كلاهما.(5/179)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
لان يقتدى بهم غيرهم-.
وَلَمَّا دَخَلُوا مصر مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ اى من أبواب متفرقة قيل كانت أبواب المدينة اربعة فدخلوا من ابوابها ما كانَ يُغْنِي اى يدفع عَنْهُمْ رأى يعقوب واتّباعهم له مِنَ اللَّهِ اى من قضائه مِنْ شَيْءٍ اى شيئا مما قضى الله عليهم او شيئا من الإغناء حتّى أخذ بنيامين وتضاعفت المصيبة على يعقوب صدّق الله يعقوب فيما قال إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ استثناء منقطع اى ولكن حاجة فى نفسه يعنى شفقته عليهم من ان يعاينوا قَضاها اى أظهرها فوصى بها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ بالوحى او نصب الحجج ولذلك قال وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ- او لتعليمنا إياه- وقيل معناه انه لعامل بما علم- قال سفيان من لا يعمل بما يعلم لا يكون عالما- قيل انه لذو حفظ لما علمناه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) ما يعلم يعقوب اولا يعلمون القدر وانه لا يغنى عن الحذر او لا يعلمون الهام الله لاوليائه-.
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ قالوا أخونا الّذي امرتنا ان نأتيك به قد جئناك به فقال أحسنتم وأصبتم وستجدون جزاء ذلك عندى- ثم أنزلهم فاكرم منزلهم- ثم أضافهم فاجلس كل اثنين منهم على مائدة- فبقى بنيامين وحيدا- فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيّا لاجلسنى معه- فقال يوسف لقد بقي أخوكم هذا وحيدا فاجلسه مع نفسه على مائدته فجعل يواكله- فلما كان الليل امر لهم بمثل وقال ليم كل أخوين منكم على مثال فبقى بنيامين وحده فقال يوسف عليه السلام هذا ينام معى على فراشى- فبات معه فجعل يوسف يضمه اليه ويشم ريحه حتّى أصبح- وجعل روبيل يقول ما راينا مثل هذا- فلما أصبح قال لهم انى ارى هذا الرجل ليس معه ثان فما ضمّه الىّ فيكون منزله معى- ثم أنزلهم منزلا واجرى عليهم الطعام وآوى إِلَيْهِ اى ضم الى نفسه أَخاهُ لامه بنيامين وأنزله معه- فلما خلا به قال ما اسمك قال بنيامين قال ما بنيامين قال ابن المثكل (وذلك انه لما ولد هلكت امه) قال وما اسم أمك قال راحيل بنت لاوى- قال فهل لك من ولد قال نعم عشرة- قال أتحب ان أكون أخاك بدل أخيك الهالك- قال بنيامين ومن يجد أخا(5/180)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
مثلك ايها الملك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل- قال فبكى يوسف وقام اليه وعانقه وقالَ له إِنِّي فتح الياء نافع وابن كثير وابو عمرو وأسكنها الباقون أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ اى لا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) اى بشيء فعلوه بنا فيما مضى فان الله قد احسن إلينا- ولا تعلّمهم شيئا مما أعلمتك- ثم اوفى يوسف لاخوته الكيل وحمل لهم بعيرا بعيرا- ولبنيامين بعيرا باسمه.
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ اى المشربة الّتي كان الملك يشرب منها- يعنى امر غلمانه بجعلها- قال ابن عباس كانت من زبرجد- وقال ابن إسحاق كانت من فضة- وقيل من ذهب- وقال عكرمة من فضة مرصعة بالجواهر- جعلها يوسف مكيا لا لعزة الطعام لئلا يكال بغيرها- وكان يشرب فيها والسقاية والصواع واحد- جعلت فى وعاء طعام بنيامين قال السدى جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ والأخ لا يشعر- وقال كعب لما قال له يوسف إِنِّي أَنَا أَخُوكَ قال انا لا أفارقك- فقال يوسف قد علمت اغتمام والدي بي- وإذا حبستك ازداد غمه ولا يمكننى هذا الا بعد ان أشهرك بامر فظيع وانسبك الى ما لا يحمد- قال لا أبالي فافعل ما بدا لك فانى لا أفارقك- قال فانى أدس صاعى فى رحلك ثم أنادي عليك بالسرقة ليتهيا لى ردك بعد تسريحك- قال فافعل ففعل ما ذكر ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ اى نادى مناد- وكلمة ثم تدل على التراخي وذلك انهم ارتحلوا وامهلهم يوسف حتّى انطلقوا وذهبوا منزلا- وقيل حتّى خرجوا من العمارة- ثم بعث خلفهم فادركهم ثم مال أَيَّتُهَا الْعِيرُ وهى الإبل الّتي عليها الأحمال لانها تعير اى تردد تذهب وتجيء- فقيل لاصحاب العير مجازا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خيل الله اركبي- كذا روى ابو داود من حديث سمرة بن جندب- وقيل هى جمع عيرو أصلها فعل بضم الفاء كسقف ثم فعل به ما فعل ببيض- ثم تجوز به لقافلة الحمير- ثم استعير لكل قافلة قال مجاهد كانت العير حميرا- وقال الفراء كانوا اصحاب ابل إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قيل قالوه من غير امر يوسف- وقيل قالوه بامره هفوة منه- وقيل قالوه على تأويل انهم سرقوا يوسف من أبيه- والصحيح عندى انه قال ذلك بامر الله تعالى والله تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ(5/181)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
يُسْئَلُونَ
- والحكمة فى ذلك ابتلاء يعقوب عليه السلام كما سنذكر فيما بعد-.
قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) اى اىّ شيء ضاع عنكم والفقد غيبة الشيء عن الحسّ بحيث لا يعرف مكانه.
قالُوا اى قال رسول الملك ومن معه نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ولم نتهم عليها غيركم وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلا له وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) كفيل أوميه الى من رده- وفيه دليل على جواز الجعالة وجواز الكفالة- وكفالة الجعل قبل تمام العمل.
قالُوا تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ اى لنسرق فى ارض مصر وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم لما عرفوا فى كرتى مجيئهم ما يدل على فرط أمانتهم- كردّ البضاعة الّتي جعلت فى رحالهم- وكعم أفواه دوابهم لئلا يتناول حروث الناس.
قالُوا اى المنادى ومن معه فَما جَزاؤُهُ اى السارق او السرق او الصواع على حذف المضاف إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) فى ادعاء البراءة.
قالُوا اى اخوة يوسف جَزاؤُهُ اى جزاء سرقته مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ اى اخذه واسترقاقه هكذا كان فى شريعة يعقوب فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم السابق او خبر من والفاء لتضمنها معنى الشرط- او جواب لها على انها شرطية- والجملة خبر جزاؤه على اقامة الظاهر مقام الضمير كانه قيل جزاؤه من وجد فى رحله فهو هو كذلك نجزى الظالمين بالسرقة فى تلك الشريعة- كان فى شرع يعقوب ان يسلّم السارق لسرقته المسروق منه فيسارقه فقال الرسول عند ذلك لا بد من تفتيش أمتعتكم فاخذ فى تفتيضها- وروى انه ردهم الى يوسف قامر بتفتيش أوعيتهم بين يديه-.
فَبَدَأَ المنادى او يوسف بِأَوْعِيَتِهِمْ لازالة التهمة واحدا واحدا قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين- قال قتادة وذكر لنا انه كان لا يفتح متاعا ولا ينظر فى وعاء الا استغفر الله تأثّما فيما قذفهم به- حتّى إذا لم يبق إلا رحل بنيامين قال ما أظن ان هذا اخذه فقالت اخوته والله لا نترك حتّى تنظر فى رحله فانه أطيب لنفسك ولا نفسنا(5/182)
ثُمَّ لما فتح رحل بنيامين اسْتَخْرَجَها اى السقاية او الصواع لانه يذكر ويؤنث مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين- فلما استخرج الصواع من رحله نكس اخوته رءوسهم من الحياء واقبلوا على بنيامين- وقالوا ايش الّذي صنعت فضحتنا وسوّدتّ وجوهنا- يا بنى راحيل ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصواع- قال بنيامين بل بنوا راحيل لا يزال لهم منكم بلاء- ذهبتم بأخي فاهلكتموه فى البرية- ووضع هذا الصواع فى رحلى الّذي وضع البضاعة فى رحالكم- قال وأخذ بنيامين رقيقا وقيل ان ذلك الرجل اخذه برقبته ورده الى يوسف كما يردّ السراق كَذلِكَ محله النصب اى مثل ذلك الكيد كِدْنا لِيُوسُفَ بان علّمناه إياه وأوحينا به اليه- ومن هاهنا يعلم ان قول المنادى إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وما تبعه كان بامر يوسف- وكان بايحاء الله اليه- فلا معصية فى ذلك- قال البغوي الكيد هاهنا جزاء الكيد- يعنى كما فعلوا فى الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهم- وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام فيكيدوا لك كيدا- فكدنا ليوسف فى أمرهم- وقال الكيد من الخلق الحيلة ومن الله التدبير بالحق- يعنى صنعنا ذلك ليوسف حتّى أخذ أخاه وضم الى نفسه وحال بينه وبين اخوته ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ ويضمه الى نفسه فِي دِينِ الْمَلِكِ قال ابن عباس فى سلطانه وقال قتادة فى حكمه حيث كان حكم الملك ودينه ان يضرب السارق ويغرم ضعفى قيمة المسروق إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ان يجعل ذلك الحكم حكم الملك فالاستثناء من أعم الأحوال- ويجوز ان تكون منقطعا اى لكن أخذ بمشية الله واذنه ولطفه حيث وجد السبيل الى ذلك بان رد يوسف الحكم الى اخوته واجرى الله على ألسنتهم ان جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشية الله تعالى نَرْفَعُ دَرَجاتٍ قرا الكوفيون بالتنوين على التميز من النسبة والباقون بالاضافة مَنْ نَشاءُ بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على اخوته- قرا يعقوب يرفع ويشاء بالياء فيهما على الغيبة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عَلِيمٌ (76) وهو الله تعالى إذ معنى العليم لغة الّذي له العلم البالغ- او المعنى فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عليم منهم وان كان التفوّق من وجه دون وجه- كما قال خضر لموسى عليهما السلام يا موسى(5/183)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
انى على علم من علم الله علّمنيه الله لا تعلمه- وأنت على علم من علم الله لا اعلمه- رواه البخاري وغيره فى حديث طويل فى قصة موسى وخضر عن النبي صلى الله عليه وسلم- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اعلم بامور دنياكم- ولا يجوز كون معنى الاية وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من الخلق عليم منهم تفوقا من كل وجه والا يلزم التسلسل- وقال ابن عباس فوق كل عالم عالم الى ان ينتهى العلم الى الله تعالى فالله فوق كل عالم-.
قالُوا اى اخوة يوسف إِنْ يَسْرِقْ بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ من امه يعنون يوسف عليه السلام مِنْ قَبْلُ هذا- قال سعيد بن جبير وقتادة كان لجده ابى امه صنم يعبده- فاخذه سرّا وكسره وألقاه فى الطريق لئلا يعبده- كذا اخرج ابن مردوية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم- واخرج ايضا ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن سعيد بن جبير نحوه- وقال البغوي قال مجاهد ان يوسف جاءه سائل يوما فاخذ بيضة من البيت فناولها السائل- وقال سفيان بن عيينة أخذ دجاجة من الطير الّتي كانت فى بيت يعقوب فاعطاها السائل- وقال وهب كان يخبا الطعام من المائدة للفقراء- قلت ولما كان يوسف من اهل بيت الكرم وكان يعقوب عليه السلام راضيا بإعطاء السائلين فلا بأس فى هذا الاخذ والإعطاء وانما سماه الاخوة سرقة حسدا عليه واخرج محمّد بن إسحاق عن مجاهد ان يوسف كان عند عمته ابنة إسحاق بعد موت امه راحيل- فحضنته عمته وأحبته حبّا شديدا- فلما ترعرع وقعت محبة يعقوب عليه السلام عليه- فاتاها وقال يا أختاه سلّمى الىّ يوسف فو الله ما اقدر على ان يغيب عنى ساعة واحدة- قالت لا قال فو الله ما انا بتاركه- فقالت دعه عندى أياما انظر اليه لعل يسلّينى عنه- ففعل ذلك فعمدت الى منطقة إسحاق كانوا يتوارثونها بالكبر فكانت عندها لانها كانت اكبر ولد إسحاق- فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثم قالت لقد فقدتّ منطقة إسحاق اكشفوا اهل البيت فكشفوا فوجدوها مع يوسف- فقالت والله انه لسلم لى فقال يعقوب ان كان فعل ذلك فهو سلم لك- فامسكته حتّى ماتت فذلك الّذي قال اخوة يوسف إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها اى مقالتهم انه سرق كانه لم يسمعها او نسبتهم(5/184)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
السرقة اليه يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ اى لم يظهرها انه سمع ذلك وقيل انها كناية بشريطة التفسير يفسرها قوله قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً فانه بدل من فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ- والمعنى قال فى نفسه أنتم شر مكانا اى منزلة من يوسف لسرقتكم أخاكم- او فى سوء الصنيع مما نسبتم اليه وتأنيثها باعتبار الكلمة او الجملة قال البيضاوي وفيه نظر إذ المفسر بالجملة لا يكون الا ضمير الشأن وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) يعنى هو اعلم ان الأمر ليس كما تصفونه- فلما أخذ يوسف أخاه غضبوا غضبا شديدا- وكان بنوا يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا- وكان روبيل إذا غضب لم يقم لغضبه شيء وإذا صاح القت كل امراة حامل سمعت صوته ولدا- وكان مع هذا إذا مسّه أحد من ولد يعقوب سكن غضبه- وقيل كان هذه صفة شمعون من ولد يعقوب- وروى انه قال لاخوته كم عدد الأسواق بمصر- قالوا عشرة فقال اكفوني أنتم الأسواق وانا أكفيكم الملك او اكفوني أنتم الملك وانا أكفيكم الأسواق- فدخلوا على يوسف فقال روبيل لتردّنّ علينا أخانا اولا صيحنّ صيحة لا تبقى بمصر امراة حامل الا القت ولدها- وقامت كل شعرة فى جسد روبيل فخرجت من ثيابه- فقال يوسف لابن له صغير قم الى جنب روبيل فمسه- ويروى خذ بيده فأتنى به- فذهب الغلام فمسه فسكن غضبه فقال روبيل ان هاهنا لبذرا من بذر يعقوب فقال يوسف من يعقوب- وروى انه غضب ثانيا فقام اليه يوسف فركضه برجله وأخذ بتلابيبه فوقع على الأرض- وقال أنتم معشر العبرانيين تظنون ان لا أشد منكم ولما صار أمرهم الى هذا وراوا ان لا سبيل لهم الى تخليصه خضعوا وذلّوا و.
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فى السن او القدر يحبّه كثيرا- وهو ثكلان على أخيه الهالك يستأنس به- ذكروا له حال أبيهم استعطافا له عليه فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) فى افعالك فلا تغير فى عادتك- او من المحسنين إلينا فى توفية الكيل وحسن الضيافة ورد البضاعة فاتمم إحسانك.
قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ اى أعوذ بالله معاذا أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ فانّ أخذ غيره ظلم على فتواكم-(5/185)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
ولم يقل الا من سرق تحرزا من الكذب إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) يعنى لو اخذتكم مكانه إذا كنا من الظالمين فى مذهبكم- ومراده ان الله اذن فى أخذ من وجد الصواع فى رحله لمصلحة ولرضائه عليه فلو أخذت غيره لكنت ظالما-.
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ قرا البزي فلمّا استيأسوا- ولا تيأسوا من روح الله- انّه لا يايس- وحتّى إذا استيأس الرّسل وفى الرعد أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا بالألف موضع الفاء وفتح الياء موضع العين من غيرهم فى الخمسة- والباقون بالهمزة واسكان الياء من غير الف فى اللفظ- وإذا وقف حمزة القى حركة الهمزة على الياء على أصله- يعنى لما يئسوا من يوسف ان يجيبهم الى ما سالوا- وزيادة السين والتاء للمبالغة- وقال ابو عبيدة استيئسوا استيقنوا ان الأخ لا يرد إليهم خَلَصُوا اى انفردوا واعتزلوا نَجِيًّا اى متناجين وانما وحده لانه مصدر او برتبته كما يقال هم صديق وجمعه انجية كندى واندية قالَ كَبِيرُهُمْ فى الفضل والعلم لا فى السن وهو يهودا كذا قال ابن عباس والكلبي- وقيل كبيرهم فى السن وهو روبيل وهو الّذي نهى الاخوة عن قتل يوسف- كذا قال قتادة والسّدىّ والضحاك- وقال مجاهد وهو شمعون وكانت له رياسة على الاخوة أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً عهدا وثيقا مِنَ اللَّهِ جعلوا حلفهم بالله موثقا منه لانه بإذن منه وتأكيد من جهته وَمِنْ قَبْلُ هذا ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ اى قصرتم فى شأنه- وما مزيدة ويجوز ان تكون مصدرية فى محل النصب بالعطف على مفعول تعلموا- ولا بأس بالفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف- او على اسم انّ وخبره فِي يُوسُفَ او مِنْ قَبْلُ- او الرفع بالابتداء والخبر من قبل- قال البيضاوي فيه نظر لان قبل إذا كان خبرا او صلة لا تقطع عن الاضافة حتّى لا ينقض وان تكون موصولة اى ما فرطتموه بمعنى ما قدمتموه فى حقه من الخيانة- ومحله الرفع او النصب كما تقدم فى المصدرية فَلَنْ أَبْرَحَ اى لن أفارق الْأَرْضَ اى ارض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي فتح الياء نافع وابو عمرو وأسكنها الباقون أَبِي فتح الياء نافع وابن كثير وابو عمرو وأسكنها الباقون- يعنى يأذن لى أبيّ فى الرجوع(5/186)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي على لسان يعقوب عليه السلام بالخروج منها وترك أخي او بالموت او بخلاص أخي منهم او بالمقاتلة معهم لتخليصه وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) لا يكون حكمه الا بالحق ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ على ما شاهدنا من ظاهر الأمر- وقرا ابن عباس والضحاك سرّق على البناء للمفعول من التفعيل يعنى نسب الى السرقة كما يقال خوّنته اى نسبته الى الخيانة.
وَما شَهِدْنا عليه بالسرقة إِلَّا بِما عَلِمْنا اى بسبب ما تيقنّا وراينا ان الصواع استخرج من وعائه- وقيل معناه ما شهدنا قطّ على شيء الا بما علمنا وليست هذه شهادة منا انما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم- وقيل قال لهم يعقوب ما يدرى هذا الرجل ان السارق يسترقّ بسرقته الا بقولكم فقالوا ما شهدنا عند يوسف ان السارق يسترقّ الا بما علمنا وكان الحكم ذلك عند الأنبياء يعقوب وبنيه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ اى لباطن الحال حافِظِينَ (81) عن ابن عباس يعنى ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين فلعلّها دسّت بالليل فى رحله- وقال مجاهد وقتادة ما كنا نعلم حين أعطيناك الموثق ان ابنك سيسترق- ويصير أمرنا الى هذا وانك تصاب كما أصبت بيوسف وانما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا الى حفظه منه سبيل.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر وقال ابن عباس هى قرية من قرى مصر لحقهم المنادى فيها وارتحلوا منها الى مصر وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها اى القافلة الّتي كنا فيها- وكان صحبهم قوم من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام- قال ابن إسحاق عرف الأخ المحتبس بمصران اخوته كانوا متهمين عند أبيهم لما صنعوا فى امر يوسف فامرهم ان يقولوا هذا لابيهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) فان قيل قال البغوي كيف استجاز يوسف ان يعمل مثل هذا بابيه- ولم يخبره بمكانه- وحبس أخاه مع علمه بشدة وجد أبيه- ففيه معنى العقوق وقطيعة الرحم وقلة الشفقة قلنا اكثر الناس فيه والصحيح انه عمل ذلك بامر الله تعالى امره ليزيد فى بلاء يعقوب فيضاعف له الاجر- ويلحقه فى درجة ابائه الكرام- وقيل انه لم يظهر نفسه له ولاخوته لانه لم يأمن من ان يتدبروا فى امره تدبيرا فيكتموه عن أبيه والاول أصح قلت بل هو الصحيح لا غير-(5/187)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
فرجع اخوة يوسف غير كبيرهم الى أبيهم وذكروا لابيهم ما قال كبيرهم.
قالَ يعقوب ليس الأمر كما قلتم بَلْ سَوَّلَتْ اى زيّنت وسهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه فقدرتموه فما أدرى الملك ان السارق يؤخذ بسرقته انما أردتم فى حمل أخيكم الى مصر طلب نفع عاجل فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فامرى صبر جميل او فصبرى صبر جميل لا شكوى فيه الى الناس عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً يعنى يوسف وبنيامين وأخاهم المقيم بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم الْحَكِيمُ (83) فى تدبير خلقه الّذي لم يبتلينى الا لحكمته- ولما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه وبلغ جهده وهيج حزنه على يوسف اعرض.
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ كراهة لما صادف منهم ذلك وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ اى يا أسفي تعال فهذا او انك- والأسف أشد الحزن والحسرة- والالف بدل من ياء المتكلم- روى عبد الرزاق وابن جرير موقوفا عن سعيد بن جبير انه قال لم يعط امة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة الا امة محمّد صلى الله عليه وسلم- الا ترى الى يعقوب حين أصابه ما أصاب لم يسترجع وقال يا أسفى- وكذا روى البيهقي فى شعب الايمان وقال وقد رفع الضعفاء هذا الحديث الى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم- وأخرجه الثعلبي من طريق سعيد بن جبير مرفوعا الا قوله الا ترى الى يعقوب وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ لكثرة بكائه مِنَ الْحُزْنِ محق سوادهما بكثرة البكاء فعمى بصره- قال مقاتل لم يبصر بهما ست سنين وقيل ضعف بصره فَهُوَ كَظِيمٌ (84) الكظم مخرج النفس يقال أخذ بكظمه والكظوم احتباس النفس ويعبر به عن السكوت فالكظيم محتبس النفس يعنى الساكت فهو بمعنى الفاعل والمعنى كاظم غيظه وحزنه فمسك عليه لا يبث حزنه فى الناس ومنه كظم البعير إذا ترك الاجترار وحبس ما أكل فى بطنه وكظم السقاء شده بعد ملئه وقد يطلق الكظيم على المملو نظرا الى ان المملو يشد فمه ويحبس ما فيه- فهو على هذا جاز ان يكون بمعنى المفعول اى المكظوم المملو من الغيظ- قال قتادة معناه تردد حزنه فى جوفه ولم يقل الا خيرا- قال الحسن كان بين خروج يوسف من حجر أبيه الى يوم التلقي معه ثمانون عاما لا تجف عينا يعقوب وما على وجه الأرض يومئذ أكرم على الله منه- وهاهنا إشكال قوى على قاعدة التصوف- حيث قالوا ان الصوفي بعد فناء قلبه لا يشتغل(5/188)
قلبه بغير الله سبحانه ولا يسع فيه محبة أحد من الخلائق- فما بال يعقوب عليه السلام وهو من الأنبياء الكبار والمصطفين الأخيار اولى الأيدي والابصار- قد شغفه حب يوسف عليه السلام الكريم حتّى ابيضت عيناه من البكاء عليه وهو كظيم- وما قيل ان العالم بأسرها مجال ومرايا لله سبحانه- فاشتغال قلبه بيوسف اشتغال به تعالى على الحقيقة- فذلك قول فى غلبة التوحيد لاهل الابتداء او التوسط ويستنكف عنه اهل الانتهاء فكيف الأنبياء عليهم السلام- ولو كان كذلك فلا وجه حينئذ لتخصيص تعلق الحب بيوسف عليه السلام دون غيره- والجواب عن الاشكال ان هذا مختص بالنشأة الدنيوية يعنى لا يمكن اشتغال قلب الصوفي بعد الفناء بشيء من الأشياء الدنيوية واما الأشياء الاخروية فليس هذا شأنها- فان النبي صلى الله عليه وسلم قال الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما- رواه ابن ماجة عن ابى هريرة والطبراني عن ابن مسعود بسند صحيح والبزار عن ابن مسعود نحوه والطبراني بسند صحيح عن ابى الدرداء- بخلاف الاخرة فانها مرضية لله تعالى وتعلق القلب بها مرضى لله تعالى قال الله تعالى وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ- يعنى اولى القوة فى طاعة الله والبصارة فى معرفة الله تعالى وأحكامه- إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ- اى جعلناهم خالصين بخصلة خالصة لا شوب فيها هى ذكر الدار الاخرة- قال مالك بن دينار نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الاخرة وذكرها- وجعلنا الاخرة مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون- واطلاق الدار على الاخرة للاشعار بانها الدار على الحقيقة والدنيا معبر- هذه الاية صريح فى ان الاخرة مرضية لله تعالى وحبها وما فيها موجب للمدح- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لى يعنى فى المنام سيد بنى دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا- فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد- ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد- قال فالله السيد ومحمّد داعى والدار الإسلام والمأدبة الجنة- رواه الدارمي عن ربيعة الجرشى- وهذا غاية معرفة الأكملين لم يطلع عليها المتوسطون «1» فضلا عن اهل الابتداء والعوام- ولو كانت رابعة البصرية مطلعة على ذلك لما قالت أريد ان احرق الجنة كيلا يعبد الناس الله تعالى لاجلها- الم تسمع قوله تعالى مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ
__________
(1) فى الأصل المتوسطين-(5/189)
يعنى وقت لقائه الاخرة ومحل لقائه الجنة- وقوله صلى الله عليه وسلم الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها هذه يعنى سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر- رواه الترمذي عن ابن مسعود وروى الشيخان فى الصحيحين والحاكم والطبراني بلفظ يغرس لك بكل واحد شجرة فى الجنة- قال سيدى وامامى المجدد للالف الثاني رضى الله عنه المعنى التنزيهي لبس «1» فى دار الدنيا كسوة الحروف والكلمات- وسيلبس فى الجنة كسوة الأشجار والثمرات- فتعلق الحب بها كانه تعلق بالتنزيهات وقس على هذا- وقال رضى الله عنه عندى ان جنة كل واحد عبارة عن ظهور اسم من اسماء الله تعالى الّذي هو مبدأ لتعيّنه- وان ذلك الاسم سيظهر لذلك الشخص بصورة الأشجار والأنهار والحور والقصور والولدان- فتفاوت الجنات للاشخاص على حسب تفاوت الأسماء والصفات من حيث الجامعية وعدمها- وباعتبار قربه من الذات وغير ذلك- وتلك الأشجار ونحوها قد تكون على هيئة الاجرام الزجاجية- فتصير وسيلة لرؤية الذات الغير المتكيفة- ثم تعود كما كانت وهكذا الى ابد الآبدين- فان قيل ان الممكن فى نفسه ليس وعدم ومقتض للشر والنقص- وما فيه من الحسن والجمال والخير والكمال مستعار من الواجب- والمحبة واشتغال القلب انما يتعلق بالحسن والجمال وذلك مستعار فى كل ممكن من الواجب تعالى- فما وجه الفرق بين الأشياء الدنيوية والاخروية وجواز تعلق الحب بإحداهما دون الاخرى- قلنا العالم بأسرها مجال ومظاهر لاسمائه وصفاته وصفاته تعالى ممكنة فى حد ذواتها واجبة بغيرها اى بذات الله تعالى لاحتياجها الى الذات- لكن لا يطلق لفظ الإمكان والوجوب بالغير لئلا يوهم حدوثها وانفكاكها عن الذات- ولما كانت الصفات ممكنة فى حد ذاتها وان كان انعدامها مستحيلا بغيرها- ففيها رائحة الإمكان والعدم- ولاجل ذلك تنكشف الصفات عند الصوفي ذو وجهتين وجهة جانب الوجود المستفاد من مرتبة الذات ووجهة جانب احتمال العدم نظرا الى إمكانها فى ذاتها- فوجهة وجودها حسن وجميل لا محالة- ووجهة عدمها ايضا لا يخلو عن حسن وجمال بمجاورة وجهة الوجود وان كان ذلك الحسن فى مرتبة الوهم فليعلم انه يظهر فى نظر الكشفى ان صفاته تعالى تجلت فى الأشياء الدنيوية بوجهتها الّتي الى الاعدام- فهى من هذه الحيثية مربيات للاشياء الدنيوية- وتجلت فى الأشياء الاخروية
__________
(1) فى الأصل لبست(5/190)
بوجهتها الّتي الى الوجود- وبهذه الحيثية مربيات للاشياء الاخروية- ولذلك صارت الاخرى مرضية لله تعالى مقبولة- وصار تعلق القلب بتلك الأشياء كتعلقه بصاحبها- فالكاملون فى محبة الله تعالى هم الكاملون فى محبة الدار الاخرة- وهذا وجه الفرق بين الأشياء الدنيوية والاخروية وجواز تعلق الحب بإحداهما دون الاخرى- إذا تمهد هذا فنقول ظهر بالنظر الصريح والكشف الصحيح للمجدد للالف الثاني رضى الله عنه ان وجود يوسف عليه السلام وجماله وان كان مخلوقا فى الدار الدنيا لكنه كان على خلاف سائر الأشياء الموجودة فيها- من جنس الموجودات الاخروية وربّتها صفات الله تعالى بوجهتها الّتي الى الوجود كما ربّت الجنة وما فيها من الحور والغلمان- فلا جرم جاز تعلق قلب اهل الكمال وحبهم به عليه السلام كما جاز تعلقها بالجنة وما فيها- كذا ذكر المجدد رضى الله عنه فى المكتوب المائة من المجلد الثالث- بقي هاهنا إشكالان أحدهما ان المجدد رضى الله عنه قال فى مقام اخر ان الممكنات سوى الأنبياء والملائكة مجال ومظاهر لظلال الأسماء والصفات الّتي هى مباد لتعيناتها- دون الأسماء والصفات أنفسها- واما الملائكة والأنبياء فاصول الأسماء والصفات مباد لتعيناتهم- وهم مجال ومظاهر لها- فكيف قال هاهنا ان الممكنات بأسرها مجال لاسمائه وصفاته تعالى- وكيف يتصور حينئذ ان تتجلى الصفات بانفسها فى الأشياء الدنيوية بوجهتها الّتي الى الاعدام- وفى الأشياء الاخروية بوجهتها الّتي الى الوجود- وحله ان كونها مجال لظلال الأسماء لا ينافى كونها ظلالا لاصولها فان ظل ظل الشيء ظل له- فالاسماء والصفات تتجلى فى الأنبياء بلا توسط الظلال وفى غيرهم بتوسطها- ثم هى تتجلى فى الأشياء الدنيوية بتوسط الظلال بوجهتها الى العدم وفى الأشياء الاخروية بوجهتها الّتي الى الذات والوجود الصرف فلا منافاة ثانيهما «1» انه يلزم حينئذ فضل يوسف عليه السلام على سائر الأنبياء بل على أفضلهم عليه وعليهم الصلوات والتسليمات- فان الكلام السابق يشعر ان غير يوسف عليه السلام من الأنبياء فى الدنيا مجال للصفات بوجهتها الّتي الى العدم- وحله ان هذا الاشعار انما هو بمفهوم اللقب ولا عبرة لمفهوم اللقب بل الحق ان الأنبياء كلهم عليهم الصلوات والتسليمات مجال للصفات باعتبار وجهتها الى الوجود الصرف وليس عدم ظهور حسن الاخرة منهم عليهم الصلوات والتسليمات
__________
(1) فى الأصل ثانيها(5/191)
فى الدنيا لكونهم مجال الصفات بوجهتها الّتي الى العدم بل لامر خفى لا يعلمه الا الله تعالى- وقد ذكر المجدد رضى الله عنه فى حسن «1» خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام انه قال ربّ محمّد صلى الله عليه وسلم ومبدا تعيّنه صفة العلم الإجمالي وهو اقرب الصفات الى الذات الا ترى ان العلم الحضوري يتحد مع العالم ومع المعلوم- واما غيره من الصفات من القدرة والارادة والكلام والسمع والبصر ليست بهذه المثابة- والإجمال أعلى درجة واقرب من الذات من تفاصيلها- فللعلم حسن ذاتى ما ليس لغيرها من الصفات- فالعلم أحب الى الله تعالى من غيره- وللعلم حسن وجمال لا كيفية له فلاجل كمال لطافته وعلو درجته تجلى فى محمّد صلى الله عليه وسلم من الحسن والجمال ما لا تدركه الابصار فى هذه النشئة لضعف قوة المبصرة الدنيوية كما لا تدرك الابصار للذات فى هذه النشئة- وسيظهر حسنه وجماله فى الاخرة فيوسف عليه السلام وان سلم له فى الدنيا ثلثى الحسن- لكن فى الاخرة الحسن حسن محمّد صلى الله عليه وسلم والجمال جماله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخي يوسف أصبح وانا أملح والفرق بين الصباحة والملاحة عند المحققين كالفرق بين الشمس والقمر وبين الذهب والفضة شتان ما بينهما- كان حسن يوسف عليه السلام بحيث أحبه يعقوب والخلائق- وكان حسن محمّد صلى الله عليه وسلم بحيث أحبه «2» رب يعقوب والخلائق جل جلاله ما للتراب ورب الأرباب وإذا ثبت هذا علم ان الصوفي بعد فناء قلبه لا يشتغل قلبه بغير الله سبحانه- ولا يسع فى قلبه محبة أحد من الخلائق- لكن لا ينافى ذلك اشتغال قلبه بمحبة الأنبياء فان محبتهم عين محبة الله- عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحب اليه من والده وولده والناس أجمعين- متفق عليه وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان من كان الله ورسوله أحب اليه مما سواهما- متفق عليه فما قالت رابعة البصرية ان قلبى ممتلية من حب الله لا يسع فيه محبة محمّد صلى الله عليه وسلم خطأ ناش من غلبة السكر- واما ما قال المجدد رضى الله عنه فى بدو حاله أحب الله سبحانه لانه خلق محمّدا صلى الله عليه وسلم
__________
(1)
يوسف از شمه جمال او ... خوشه چين شد قسم بحال او
منه رح [.....]
(2)
دل از عشق محمّد ص ريش دارم ... رقابت با خدائى خويش دارم
منه رح(5/192)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
فهو ايضا ناش من السكر لكنه لا يخلو عن نوع من الاصالة والله اعلم- (مسئلة) فى هذه الاية دليل على جواز التأسف والبكاء عند المصيبة ما لم يكن معه نوحة وأمثال ذلك من ضرب الخدود وشق الجيوب وغيرها- فان التأسف والحزن لا يدخلان تحت التكليف فانه قل من يملك نفسه عند الشدائد- فى الصحيحين من حديث انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه ابراهيم- وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذر فان- فقال له عبد الرّحمن بن عوف وأنت يا رسول الله فقال يا ابن عوف انها رحمة ثم اتبعها اخرى- فقال ان العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول الا ما يرضى ربّنا- وانا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون- وفيهما من حديث اسامة بن زيد اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن بنت له ونفسه يتقعقع ففاضت عيناه فقال سعد يا رسول الله ما هذا- فقال هذه رحمة جعلها الله فى قلوب عباده فانما يرحم الله من عباده الرحماء- وفيهما من حديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار الى لسانه او يرحم- وان الميت ليعذب ببكاء اهله عليه- وفيهما من حديث ابن مسعود ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية- وفيهما عن ابى بردة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا بريء ممن حلق وصلق وخرق.
قالُوا يعنى اخوة يوسف تَاللَّهِ تَفْتَؤُا اى لا تفتأ ولا تزال حذف لا لعدم الالتباس إذ لو كان اثباتا لم يكن بد من اللام والنون تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً اى مشرفا على الهلاك بسبب المرض او الهرم- والحرض فى الأصل محركة الفساد فى البدن وفى المذهب وفى العقل من الحزن او العشق او الهرم- والرجل الفاسد المريض والمشرف على الهلاك كذا فى القاموس- فهو مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يجمع- وضع هاهنا موضع الصفة أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) اى الميّتين.
لَ
يعقوب نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي
البث أشد الحزن سمى بذلك لان صاحبه لا يصبر عليه غالبا حتّى يبثه اى ينشره وقال الحسن بثي يعنى حالى لَى اللَّهِ
لا الى أحد منكم ومن غيركم فخلونى وشكايتى- قال البغوي روى انه دخل على يعقوب جار له فقال يا يعقوب مالى أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن(5/193)
ما بلغ أبوك- فقال هشمنى وأفناني ما ابتلاني الله به من هم يوسف- فاوحى الله اليه يا يعقوب أتشكوني الى خلقى- فقال يا رب خطيئة اخطأتها فاغفرها لى فقال قد غفرتها لك- وكان بعد ذلك إذا سئل الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
- وروى انه قيل له يا يعقوب ما الّذي اذهب بصرك وقوّس ظهرك- قال اذهب بصرى بكائي على يوسف وقوّس ظهرى حزنى على أخيه- فاوحى الله اليه أتشكوني وعزتى لا اكشف ما بك حتّى تدعونى- فعند ذلك الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
- فاوحى الله تعالى اليه وعزتى لو كانا ميّتين لاخرجتهما لك- وانما وجدت عليك انكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه منها شيئا- وان أحب خلقى الىّ الأنبياء ثم المساكين- فاصنع طعاما فادع عليه المساكين- فصنع طعاما ثم قال من كان صائما فليفطر الليلة عند ال يعقوب- وروى انه كان بعد ذلك إذا تغدى امر من ينادى من أراد الغداء فليأت يعقوب- وإذا أفطر امر من ينادى من أراد ان يفطر فليأت يعقوب- فكان يتغدى ويتعشى مع المساكين- وعن وهب بن منبه قال اوحى الله تعالى الى يعقوب تدرى لم عاقبتك وحبست عنك يوسف ثمانين سنة- قال لا يا الهى قال لانك شوّيت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه- وروى ان سبب ابتلاء يعقوب انه ذبح عجلا بين يدى امه وهى تخور- وقال وهب والسدى وغيرهما اتى جبرئيل يوسف عليهما السلام فى السجن فقال هل تعرفنى ايها الصديق- قال ارى صورة طاهرة ورائحة طيبة- قال انى رسول رب العالمين وانا الروح الامين قال ما أدخلك مدخل المذنبين وأنت أطيب الطيبين ورأس المقربين وأمين رب العالمين- قال الم تعلم يا يوسف ان الله يطهر البيوت بطهر النبيين وان الأرض الّتي يدخلونها اطهر الأرضين- وان الله قد طهر بك السجن وما حوله يا اطهر الطاهرين وابن الصالحين المخلصين- قال كيف لى باسم الصديقين وتعدنى من المخلصين الطاهرين وقد ادخلت مدخل المذنبين وسميت باسم الفاسقين قال جبرئيل لانه لم تفتتن قلبك ولم تطع سيدتك فى معصية ربك- لذلك سماك الله فى الصديقين وعدّك من المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين- فقال هل لك علم بيعقوب ايها الروح الامين قال نعم وهب الله له من الصبر الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم- قال فما قدر حزنه- قال حزن سبعين ثكلى- قال فماذا له من الاجر يا جبرئيل- قال اجر مائة شهيد- قال أفتراني ملاقيه قال(5/194)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
نعم- فطابت نفسه وقال ما أبالي ما لقيت ان رايته أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
من صنعه ومن رحمته فانه لا يخيّب داعيه ولا يدع الملتجئ اليه او من الله بنوع من الهام الا تَعْلَمُونَ
(86) من حيوة يوسف- روى ان ملك الموت زار يعقوب فقال له ايها الملك الطيب ريحه الحسن صورته هل قبضت روح ولدي فى الأرواح- قال لافسكن يعقوب وطمع فى رؤيته- قيل يعنى اعلم انّ رؤيا يوسف صادقة وانى وأنتم سنسجد له- وقال السدىّ لما أخبره ولده بسير الملك احست نفس يعقوب وطمع وقال لعله يوسف- واخرج ابن ابى حاتم عن النصر بن عربى قال بلغني ان يعقوب عليه السلام مكث اربعة وعشرين عاما لا يدرى أحيّ يوسف أم ميّت- حتّى تمثل له ملك الموت فقال له من أنت قال انا ملك الموت- قال فانشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف قال لا وعند ذلك قال.
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ التحسس تطلّب الاحساس يعنى تفحصوا فتعرفوا- وقال ابن عباس معناه التمسوا وَلا تَيْأَسُوا اى لا تقنطوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ اى من رحمة الله وقيل من فرح الله وتنفيسه إِنَّهُ اى الشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) بالله وصفاته فان العارف لا يقنط من رحمته فى شيء من الأحوال- فخرجوا راجعين الى مصر حتّى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ شدة الجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ قال ابن عباس كانت دراهم زيوفا ردية لا ينفق- روى عنه ابو عبيد وابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ- وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة- واخرج عن عكرمة سعيد بن منصور وابن المنذر وابو الشيخ اى دراهم قليلة- واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن عبد الله بن الحارث قال كان متاع الاعراب الصوف والسمن- وقيل من الصوف والأقط- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن ابى صالح قال كان حبة الخضراء والصنوبر- واخرج ابن النجار عن ابن عباس قال كان «1» سويق المقل- وقيل كانت الادم والنعال- واصل الإزجاء الدفع والسّوق منه قوله تعالى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً اى يسوق- فيقال للدراهم الردية مزجاة لانها تدفع ولا تؤخذ-
__________
(1) فى الأصل قال سويق المقل(5/195)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
وكذا للدراهم القليلة لانها تدفع ولا تؤخذ فى مقابلة المتاع العزيز- وكذا الغير الدراهم من الأشياء الردية لدفعها وعدم قبولها فى الثمن الا بتجوز من البائع فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ اى أعطنا كيلا كاملا كما كنت تعطينا قبل هذا بالثمن الجياد الوافي وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بما بين الثمنين الجيد والردى ولا تنقصنا- كذا قال اكثر المفسرين- وقال ابن جريج والضحاك تصدّق علينا برد أخينا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) احسن الجزاء فى الدنيا والاخرة- والاجزاء والتصدق التفضل مطلقا- ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فى قصر الصلاة فى السفر هذه صدقة تصدق الله عليكم فاقبلوا صدقته- رواه البخاري لكنه اختص عرفا بما يبتغى به وجه الله والثواب- ومبنىّ على هذا العرف ما روى ان الحسن سمع رجلا يقول اللهم تصدّق علىّ- فقال ان الله لا يتصدّق انما يتصدق من يبتغى الثواب قل اللهم أعطني وتفضّل علىّ- قال الضحاك لم يقولوا ان الله يجزيك لانهم لم يعلموا انه مؤمن- قلت بل لانهم لم يعلموا انه يتصدق أم لا (فائدة) سئل سفيان بن عيينة هل حرمت الصدقة على نبى من الأنبياء سوى نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم قال سفيان الم تسمع قوله تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ- كذا اخرج ابن جرير قلت استدل سفيان بهذه الاية على حل الصدقة على الأنبياء- ولا يتم الاستدلال الا إذا ثبت نبوة اخوة يوسف عليه السلام- فلما كلم اخوة يوسف بهذا الكلام أدركته الرّقة فارفض دمعه واظهر ما الّذي كان كتم و.
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من الظلم وَأَخِيهِ من افراده من يوسف واذلاله حتّى كان لا يستطيع ان يتكلم بعجز وذلة- اى هل علمتم قبح ما فعلتم فتتوبوا عنه إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) بقبحه فلذلك اقدمتم عليه- او هل علمتم عاقبة ما فعلتم- وانما قال ذلك تحريضا لهم على التوبة وشفقة عليهم لا معاتبة وتثريبا- يدل عليه قوله لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ
كذا قال ابن إسحاق فى السبب الّذي حمل يوسف على هذا القول- وقال الكلبي انما قال ذلك حين حكى لاخوته ان مالك بن وعر قال انى وجدت غلاما فى بئر من حاله كيت وكيت فابتعته بكذا درهما- فقالوا ايها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه- فغاظ يوسف ذلك وامر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم- فولى يهودا وهو يقول كان يعقوب يحزن ويبكى(5/196)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
لفقد واحد منا حتّى كف بصره فكيف إذا أتاه قتل بنيه كلهم- ثم قالوا له ان فعلت ذلك فابعث بامتعتنا الى أبينا فانه بمكان كذا وكذا- فذلك حين رحمهم وبكى وقال ذلك القول- وروى عن عبد الله بن يزيد ابن ابى فروة ان يعقوب لما سمع حبس بنيامين كتب كتابا الى يوسف على يد اخوته حين أرسلهم ثالثا- من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله الى ملك مصر- اما بعد فانا اهل بيت وكّل بنا البلاء- اما جدى ابراهيم فشدّت يداه ورجلاه والقى فى النار- فجعلها الله عليه بردا وسلاما- واما ابى فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله- واما انا فكان لى ابن وكان أحب أولادي الىّ فذهب به اخوته الى البرية- ثم أتوني بقميصه ملطّخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناى من البكاء عليه- ثم كان لى ابن وكان أخاه من امه وكنت اتسلّى به- وانك حبسته وزعمت انه سرق- وانّا اهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا- فان رددتّه علىّ والا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك- فلمّا قرا يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء- فاظهر نفسه وقال هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ بما يؤل اليه امر يوسف- وقيل مذنبون عاصون وقال الحسن إذ أنتم شبان ومعكم جهل الشباب.
قالُوا اى اخوة يوسف أَإِنَّكَ كذا قرا الجمهور على الاستفهام استفهام تقرير ولذلك حقق بانّ واللام وهم على أصولهم فى الهمزتين المفتوحة والمكسورة وقرا ابن كثير على الخبر انّك لَأَنْتَ يُوسُفُ قال ابن إسحاق كان يوسف يتكلم من وراء الحجاب- فلمّا قال هل علمتم ما فعلتم كشف عنه الغطاء ثم رفع الحجاب فعرفوه- قلت وهذا مستبعد يأتى عنه القصة المذكورة- وقال الضحاك عن ابن عباس لما قال هذا القول تبسم فراوا ثناياه كالدر المنظوم فشبهوه بيوسف- وقال عطاء عن ابن عباس ان اخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التاج عن رأسه وكان له فى قرنه علامة- وكان ليعقوب عليه السلام مثلها- ولاسحاق عليه السلام مثلها- ولسارة مثلها شبه الشامة- فعرفوه وقالوا انك لانت يوسف- وقيل قالوه على التوهم حتّى قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي من ابى وأمي بنيامين- انما ذكر أخاه وهم قد سالوه عن نفسه تعريفا لنفسه به وتفخيما لشأنه وادخالا له فى قوله قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بان جمعنا بالسلامة والكرامة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ قرأ قنبل يتّقى بإثبات الياء وصلا ووقفا- والباقون بحذفها فى الحالين- يعنى من يتقى الله بأداء(5/197)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
الفرائض واجتناب المعاصي وَيَصْبِرْ على البليات والطاعات وعن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) فى الدنيا ولا فى الاخرة- وضع المحسنين موضع الضمير للتنبيه على ان المحسن من جمع بين التقوى والصبر-.
قالُوا معتذرين تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ اختارك الله عَلَيْنا بحسن الصورة وكمال السيرة وسائر الفضائل الدنيوية والاخروية وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) والحال ان شأننا انا كنا مذنبين بها فعلنا بك- يقال خطا خطأ إذا تعمد بالذنب وأخطأ إذا كان غير متعمد.
قالَ يوسف بغاية الحلم لا تَثْرِيبَ تفعيل من الثرب وهو الشحم الّذي يغشى الكرش بمعنى ازالة الثرب فاستعير للتقريع الّذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ متعلق بالتثريب او بالمقدر للجار الواقع خبرا للاتثريب- والمعنى لا اثرب اليوم الّذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام بعد ذلك- او المعنى غفرت لكم بعد ما اعترفتم يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ذنوبكم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) يعنى إذا غفرتكم وانا الفقير القتور- فما ظنكم بالغنى الغفور- فانه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب- قال البيضاوي ومن كرم يوسف انهم لما عرفوه- أرسلوا اليه وقالوا انك تدعونا بالبكرة والعشى الى الطعام ونحن نستحيى منك لما فرّط منافيك- فقال ان اهل مصر كانوا ينظرون الىّ بالعين الاولى ويقولون سبحان من بلّغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلّغ ولقد شرّفت بكم وعظّمت فى عيونهم- حيث علموا انكم إخوتي من حفدة ابراهيم عليه السلام- قال البغوي فلما عرّفهم يوسف نفسه سالهم عن أبيه فقال ما فعل ابى بعدي قالوا ذهبت عيناه فاعطاهم قميصه ودعا أباه وقال.
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً اى يرجع الىّ بصيرا- او المعنى يصير بصيرا- قال الحسن لم يعلم انه يعود بصيرا الا بعد ان اعلمه الله- قال الضحاك كان ذلك القميص من نسيج الجنة وعن مجاهد امره جبرئيل ان يرسل اليه قميصه- وكان ذلك القميص قميص ابراهيم عليه السلام- وذلك انه جرد ثيابه والقى فى النار عريانا- فاتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنة فالبسه إياه فكان ذلك عند ابراهيم عليه السلام- فلما مات ورثه إسحاق فلما مات(5/198)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
ورثه يعقوب فلما شبّ يوسف جعل يعقوب ذلك القميص فى قصبة وشد رأسها وعلقها فى عنقه- لما كان يخاف عليه من العين وكان لا يفارقه- فلما القى فى البئر عريانا جاءه جبرئيل عليه السلام وعلى يوسف عليه السلام ذلك التعويذ- فاخرج القميص منه والبسه إياه- ففى هذا الوقت جاء جبرئيل عليه السلام وقال أرسل ذلك القميص- فان فيه ريح الجنة لا يقع على مبتلىّ ولا سقيم إلا عوفي- فدفع يوسف ذلك القميص الى اخوته وقال فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً- قلت وإذا ثبت بكشف المجدد رضى الله عنه ان حسن يوسف ووجوده كان من جنس الأشياء الموجودة فى الجنة- فحينئذ لا حاجة الى ثبوت كون قميصه من نسيج الجنة ولاجل ذلك كان يعافى به المبتلى بل يكفى فى ذلك كون القميص ملبوسا ليوسف فان وجود يوسف كان من جنس أشياء الجنة والله اعلم- وَأْتُونِي أنتم وابى بِأَهْلِكُمْ بنسائكم وذراريكم ومواليكم أَجْمَعِينَ (93) .
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ الّتي فيها قميص يوسف من مصر وخرجت من عمرانها الى كنعان قالَ أَبُوهُمْ يعقوب عليه السلام لمن حضره إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ فيه دليل على ان ريح الجنة كان من يوسف نفسه لا من قميصه- والا لقال ريح قميص يوسف- قال البغوي روى ان ريح الصبا استأذنت ربها فى ان يأتى يعقوب بريح يوسف قبل ان يأتيه البشير- قال مجاهد أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة ايام- وحكى عن ابن عباس من مسيرة ثمان ليال- وقال الحسن كان بينهما ثمانون فرسخا- وقيل هبت ريح فاحتملت ريح القميص الى يعقوب- فوجد ريح الجنة فعلم ان ليس فى الأرض من ريح الجنة الا ما كان من ذلك القميص- فلذلك قال إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) اى لولا تنسبونى الى الفند وهو نقصان عقل يحدث من هرم- ولذلك لا يقال عجوز مفنّدة لان نقصان عقلها ذاتى- وجواب لولا محذوف تقديره لصدقتمونى او لقلت انه قريب.
قالُوا يعنى من حضره تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) اى فى ذهابك عن الصواب قديما بالإفراط فى محبة يوسف وإكثار ذكره وتوقع لقائه-.
فَلَمَّا ان زائدة جاءَ الْبَشِيرُ من عند يوسف قال ابن مسعود جاء البشير(5/199)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
بين يدى العير- وقال ابن عباس هو يهودا- قال السدىّ قال يهودا انا ذهبت بالقميص ملطّخا بالدم الى يعقوب فاخبرته ان يوسف أكله الذئب- فانا اذهب اليوم بالقميص فاخبره انه حىّ- فافرّحه كما احزنته- قال ابن عباس حمله يهودا وخرج حافيا حاسرا يعدو ومعه سبعة ارغفة لم يستوف أكلها حتّى اتى أباه وكانت المسافة ثمانين فرسخا- وقيل البشير مالك بن وعر أَلْقاهُ القى البشير قميص يوسف عَلى وَجْهِهِ اى وجه يعقوب فَارْتَدَّ بَصِيراً فعاد بصيرا بعد ما كان أعمى وعادت قوته بعد الضعف وشبابه بعد الهرم قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي فتح الياء نافع وابن كثير وابو عمرو وأسكنها الباقون أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ «1» ما لا تَعْلَمُونَ (96) من حيوة يوسف وان الله يجمع بيننا- وقيل إِنِّي أَعْلَمُ كلام مبتدا والقول لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ- وإِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ- قال البغوي روى انه قال للبشير كيف يوسف قال انه ملك مصر فقال يعقوب ما اصنع بالملك على اى دين تركته قال على الإسلام قال الان تمت النعمة.
قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) اى سل الله مغفرة ما ارتكبنا فى حقك وحق ابنك انا تبنا واعترفنا بخطائنا.
قالَ يعقوب سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فتح الياء نافع وابو عمرو وأسكنها الباقون- قال اكثر المفسرين اخّر الدعاء الى السحر- فانه ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر- يقول من يدعونى فاستجيب له من يسئلنى فاعطيه من يستغفرنى فاغفر له متفق عليه من حديث ابى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم- فلما انتهى يعقوب الى الموعد قام الى الصلاة بالسحر فلما فرغ منها رفع يديه الى الله عزّ وجلّ ثم قال اللهم اغفر لى جزعى على يوسف وقلة صبرى عنه واغفر لولدى ما أتوا الى أخيهم يوسف فاوحى الله اليه انى قد غفرت لك ولهم أجمعين- وعن عكرمة عن ابن عباس سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ يعنى ليلة الجمعة- وقال وهب كان يستغفر لهم فى كل ليلة جمعة فى نيف وعشرين سنة- وقال طاءوس اخر الدعاء الى السحر من ليلة الجمعة فوافق ليلة عاشوراء- وقال الشعبي قال سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يعنى اسئل يوسف ان عفا عنكم استغفرت لكم ربى- فانّ عفو المظلوم شرط لمغفرة الله تعالى- وقيل اخر الدعاء الى ان يتعرف حالهم فى صدق التوبة إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
__________
(1) ليس فى الأصل من الله(5/200)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
قال النووي روى ان يوسف بعث مع البشير الى يعقوب مائتى راحلة وجهازا كثيرا ليأتوا بيعقوب واهله وولده- فتهيّا للخروج الى مصر فخرجوا وهم اثنان وسبعون بين رجل وامراة- وقال مسروق كانوا ثلاثة وتسعين- فلما دنا من مصر كلم يوسف الملك الّذي فوقه- فخرج يوسف والملك فى اربعة آلاف من الجند وركب اهل مصر معهما يلقون «1» يعقوب وكان يعقوب يمشى وهو يتوكا على يهودا فنظر الى الخيل والناس فقال يا يهودا هذا فرعون مصر قال لا هذا ابنك.
فَلَمَّا دَخَلُوا اى يعقوب واهله عَلى يُوسُفَ قلت لعل يوسف حين خرج من مصر لاستقبال يعقوب عليه السلام نزل فى مضرب او قصر كان له ثمه فدخلوا عليه هناك- وقال البغوي فلما دنا كل واحد منهما صاحبه ذهب يوسف يبدؤه بالسلام فقال جبرئيل لا حتّى يبدا يعقوب بالسلام- قلت لعل هذا لاجل محبوبية الله الّتي ظهرت فى يوسف- فقال يعقوب عليه السلام السلام عليك يا مذهب الأحزان آوى إِلَيْهِ اى ضم اليه أَبَوَيْهِ قال اكثر المفسرين هو أبوه وخالته ليّا- نزّلها منزلة الام تنزيل العم منزلة الأب فى قوله تعالى آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ- او لان يعقوب تزوجها بعد امه والرابّة تدعى امّا- وكانت أم يوسف قد ماتت فى نفاس بنيامين- وقال الحسن هو أبوه وامه وكانت حية- وفى بعض التفاسير ان الله أحيا امه حتّى جاءت مع يعقوب الى مصر- قال البغوي روى ان يوسف ويعقوب نزلا وتعانقا وقال الثوري عانق كل واحد منهما صاحبه وبكيا- فقال يوسف يا أبت بكيت علىّ حتّى ذهب بصرك الم تعلم ان القيامة يجمعنا- قال بلى يا بنى ولكن خشيت ان تسلب دينك فيحال بينى وبينك وَقالَ يوسف بعد ما لقيهم خارج مصر ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) من الجواز لانهم كانوا لا يدخلون مصر قبله الا بجواز من ملوكهم- ومن القحط واصناف المكاره- والمشية متعلقة بالدخول المكيف بالأمن كما فى قوله تعالى لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ- وقيل ان هاهنا بمعنى إذ اى إذ شاء الله كما فى قوله تعالى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ اى إذ كنتم- وقيل فى الاية تقديم وتأخير والاستثناء يرجع الى الاستغفار وهو قول يعقوب لبنيه سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ان شاء الله-.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ اى أجلسهما على السرير- والرفع هو النقل
__________
(1) فى الأصل ملقون-(5/201)
من السفل الى العلو وَخَرُّوا يعنى أبوي يوسف واخوته لَهُ سُجَّداً لم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض انما هو الانحناء والتواضع يعنى تواضعوا ليوسف- وقيل وضعوا الجباه على الأرض وكان ذلك على طريق التحيّة والتعظيم لا على طريق العبادة- وكانت تحيّة الناس يومئذ السجود- وكان ذلك جائزا فى الأمم السابقة فنسخت فى هذه الشريعة- وروى عن ابن عباس انه قال معناه خروا لله سجدا شكرا بين يدى يوسف والضمير فى له يرجع الى الله- قلت كانّ يوسف جعل قبلة بإذن الله تعالى كالكعبة لنا- وكما جعل آدم قبلة للملائكة حين أمروا بالسجود له- وقيل معناه خَرُّوا لَهُ اى لاجل يوسف ولقائه سجد الله تعالى شكرا والاول أصح والرفع مؤخر عن الخرور وان قدم لفظا للاهتمام بتعظيمه لهما وَقالَ يوسف عند ذلك يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ الّتي رايتها فى ايام الصبا إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ... قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي فتح الياء نافع وابو عمرو وأسكنها الباقون يعنى قد أنعم علىّ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ولم يذكر الجب مع كونه أشد من السجن استعمالا للكرم كيلا يخجل اخوته بعد ما قال لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ- ولان نعمة الله فى إخراجه من السجن أعظم لان بعد خروجه من الجب صار الى العبودية والرق وابتلى بمكر النساء- وبعد خروجه من السجن صار ملكا وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ البدو بسيط من الأرض يسكنه اهل المواشي بما شيتهم وكانوا اهل بادية والمواشي مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي فتح الياء ورش وأسكنها الباقون- اى أفسد بيننا بالحسد وجرش من نزغ الرابض الدابة إذا نحنها وحملها على الجري إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ تدبيره لِما يَشاءُ إذ ما من صعب الا وينفذ مشيته به ويتسهل دونها- وقال البغوي ذو لطف- وحقيقة اللطيف الّذي يوصل الإحسان الى غيره بالرفق إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح والتدابير الْحَكِيمُ (100) الّذي يفعل كل شيء فى وقت وعلى وجه يقتضيهما الحكمة- قال البيضاوي روى ان يوسف طاف بابيه عليهما السلام فى خزائنه- فلما دخل خزينة القرطاس قال يا بنى ما اغفاك عندك هذه القراطيس وما كتبت الىّ على ثمان مراحل(5/202)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قال أمرني جبرئيل عليه السلام قال او ما تسئله قال أنت ابسط منى اليه فساله- فقال جبرئيل عليه السلام الله أمرني بذلك «1» لقولك وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ قال الله فهلا خفتنى- قال البغوي قال اهل التاريخ اقام يعقوب بمصر عند يوسف أربعا وعشرين سنة فى أغبط حال واهنا عيش ثم مات بمصر- فلما حضرته الوفاة اوصى الى يوسف ان يحمل جسده حتّى يدفنه عند أبيه إسحاق- ففعل يوسف ومضى به حتّى دفنه بالشام ثم انصرف الى مصر- اخرج احمد فى الزهد عن مالك ان يعقوب لما ثقل قال لابنه يوسف ادخل يدك تحت صلبى واحلف لى برب يعقوب لتدفننى مع ابائى قد اشتركتهم فى العمل فاشركنى معهم فى قبورهم- فلمّا توفى يعقوب فعل ذلك يوسف حتّى اتى به ارض كنعان فدفنه معهم- قال سعيد بن جبير نقل يعقوب فى تابوت من ساج الى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيص فدفنا فى قبر واحد وكانا ولدا فى بطن واحد وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة- فلما جمع الله ليوسف شمله علم ان نعيم الدنيا لا يدوم سال الله حسن العاقبة فقال.
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ اى بعض الملك وهو ملك مصر والملك اتساع المقدور لمن له السياسة والتدبير وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى والرؤيا ومن هذا ايضا للتبعيض لانه لم يؤت كل التأويل وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ... فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى خالقهما ومبدعهما وانتصابه على انه صفة المنادى او منادى برأسه أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ يعنى ناصرى ومتولى أموري فيهما- او الّذي يتولانى بالنعمة فيهما ويوصل الملك الفاني بالملك الباقي تَوَفَّنِي اى اقبضنى إليك مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) اى بالنبيين فان كمال الصلاح بالعصمة وهى مختصة بالأنبياء- قال قتادة لم يسئل نبى من الأنبياء الموت الا يوسف- وفيه نظر فان النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم الرفيق الأعلى- وعن عائشة قالت كنت اسمع انه لا يموت نبى حتّى يخيّر بين الدنيا والاخرة- قالت أصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحّة شديدة فى مرضه فسمعته يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فظننت انه خيّر- رواه الشيخان فى الصحيحين وابن سعد- وفى القصة
__________
(1) فى الأصل الله أمرني بذلك الله-(5/203)
انه لما جمع الله تعالى ليوسف شمله وأوصل اليه أبويه واهله اشتاق الى ربه فقال هذه المقالة- قال الحسن عاش بعد هذا سنين كثيرة- وقال غيره لما قال هذا لم يمض عليه أسبوع حتّى توفى قال البغوي اختلفوا فى مدة غيبة يوسف عن أبيه قال الكلبي اثنان وعشرون سنة- وقيل أربعون سنة- وقال الحسن القى يوسف فى الجب وهو ابن سبع عشرة- وغاب عن أبيه ثمانين سنة- وعاش بعد لقاء يعقوب ثلاثا وعشرين سنة- ومات وهو ابن عشرين ومائة سنة- وفى التورية مائة وعشر سنين- وولد ليوسف من امراة العزيز ثلاثة أولاد افرائيم وميشار وكان من أولاد افرائيم يوشع بن نون صاحب موسى عليه السلام) ورحمت بنت يوسف امراة أيوب المبتلىّ عليهم السلام- وقيل عاش يوسف بعد أبيه ستين سنة وقيل اكثر- واختلفت الأقاويل فيه وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة- فدفنوه فى النيل فى صندوق من رخام- وذلك انه لما مات تشاح الناس فيه فطلب اهل كل محلة ان يدفن فى محلتهم رجاء بركته- حتّى هموا بالقتال فراوا ان يدفنوه فى النيل حيث يتفرق الماء بمصر ليجرى الماء عليه ويصل بركته الى جميعهم- وقال عكرمة دفن فى الجانب الايمن من النيل فاخصب ذلك الجانب واجدب الجانب الاخر- فنقل الى الجانب الأيسر فاخصب ذلك الجانب واجدب الجانب الاخر فدفنوه فى وسطه- وقدّروا ذلك سلسلة فاخصب الجانبان الى ان أخرجه موسى فدفنوه بقرب ابائه بالشام- اخرج ابن إسحاق وابن ابى حاتم عن عروة بن الزبير قال ان الله حين امر موسى بالسير ببني إسرائيل امره ان يحتمل معه عظام يوسف- وان لا يخلفها بأرض مصر وان يسير بها معه حتّى يضعها بالأرض المقدسة- فسال موسى عمن يعرف قبره فما وجد الا عجوزا من بنى إسرائيل- فقالت يا نبى الله انى اعرف مكانه ان أنت أخرجتني معك ولم تخلفنى بأرض مصر دللتك عليه- قال افعل وقد كان موسى وعد بنى إسرائيل ان يسير بهم إذا طلع القمر- فدعا ربه ان يؤخر طلوعه حتّى يفرغ من امر يوسف- ففعل فخرجت به العجوز حتّى ارته «1» إياه فى ناحية من النيل فى الماء- فاستخرجه موسى صندوقا من مرمر فاحتمله ولقد توارث الفراعنة من العماليق بعد يوسف مصر ولم يزل بنوا إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف حتّى بعث الله موسى عليه السلام وأهلك على يده فرعون-
__________
(1) فى الأصل حتّى آراه-(5/204)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
ذلِكَ الّذي ذكرت من قصة يوسف مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا محمّد وَما كُنْتَ يا محمّد لَدَيْهِمْ عند بنى يعقوب إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ اى عزموا ان يلقوا يوسف فى غيابت الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) بيوسف- هذا كالدليل على كونه يوحى اليه يعنى لا يخفى على مكذبيك انك ما كنت عند أولاد يعقوب وما لقيت أحدا يعلم ذلك حتّى سمعت القصة منه- انما حذف هذا الشق استغناء بذكره فى غير هذه القصة- كقوله تعالى ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا- قال البغوي روى ان يهود وقريشا سالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فلما أخبرهم على موافقة التورية لم يسلموا فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فانزل الله تعالى.
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ يا محمّد على ايمانهم وبالغت فى اظهار الآيات عليهم بِمُؤْمِنِينَ (103) لما قضى الله تعالى عليهم بالكفر والنار.
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ اى على الانباء او القران مِنْ أَجْرٍ جعل إِنْ هُوَ اى القران إِلَّا ذِكْرٌ عظة من الله لِلْعالَمِينَ (104) عامة حجة على من لم يؤمن وبصيرة ورحمة لمن أمن به-.
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ وكثير من اية أصله كاىّ عدد شئت من الدلائل الدالة على وجود الصانع وحكمته وكمال قدرته وتوحيده فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ اى الكفار عَلَيْها اى على تلك الآيات ويشاهدونها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) اى والحال انهم يعرضون عنها- يعنى انهم يرون اثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر ولا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ اى يقرّون بوجوده وخالقيته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) يعنى فى حال من الأحوال الا فى حال اشراكهم فى العبادة غيره تعالى به- فانهم كانوا إذا سئلوا من خلق السموات والأرض قالوا الله- وإذا سئلوا من ينزل من السماء ماء قالوا الله- ومع ذلك كانوا يعبدون الحجارة و «1» يقولون مطرنا بنوء كذا- وعن ابن عباس انه قال انها نزلت فى تلبية المشركين من العرب كانوا يقولون فى تلبيتهم لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك- وقال عطاء هذا فى الدعاء حيث نسوا ربهم فى الرخاء- فاذا أصابهم البلاء أخلصوا الدعاء فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ
__________
(1) فى الأصل ويقول-(5/205)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ- وفى نحو ذلك من الأحوال- وقيل معناه إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ باتخاذ الأحبار أربابا مطاعا فى خلاف ما امر الله به- او مشركون بنسبة التبني اليه تعالى- او القول بالنور والظلمة- ومن جملة الشرك ما يقوله القدرية من اثبات قدرة الخلق للعبد- وانما التوحيد ما يقوله اهل السنة لا خالق الا الله- بل النظر الى الأسباب مع الغفلة عن المسبب ينافى التوحيد- فالموحدون هم الصوفية.
أَفَأَمِنُوا يعنى انسوا ربهم فامنوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ اى عقوبة تغشاهم وتشملهم كائنة مِنْ عَذابِ اللَّهِ قال قتادة وقيعة وقال الضحاك يعنى الصواعق والقوارع أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ المشتملة على عذاب جهنم بَغْتَةً فجاءة من غير سابقة علم وعلامة على تعين وقته وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) بإتيانها غير مستعدين لها استفهام انكار يعنى لا ينبغى لهم ذلك النسيان والا من- قال ابن عباس يهيج الصيحة بالناس وهم فى أسواقهم وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا فلا يتبايعانه ولا يطويانه الحديث- وقد مر الحديث وما فى الباب فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها الى قوله لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً-.
قُلْ يا محمّد هذِهِ الدعوة الى التوحيد والاعداد للمعاد سَبِيلِي سنتى ومنهاجى- والسبيل يذكر ويؤنث كالطريق ثم فسّر السبيل بقوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ اى الى الايمان بوجوده ووحدانيته وتنزيهه عما لا يليق به وابتغاء درجات قربه عَلى بَصِيرَةٍ اى على يقين ومعرفة- اى لست من الخراصين الذين يقولون بأشياء من غير علم- او المعنى على بصيرة اى بيان وحجة واضحة غير عمياء أَنَا تأكيد للمستتر فى ادعوا- او فى على بصيرة لانه حال منه- او مبتدا خبره على بصيرة وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه اى من أمن بي وصدّقنى فهو ايضا يدعوا الى الله- قال الكلبي وابن زيد حق على من تبعه ان يدعو الى ما دعا اليه ويذكر القران- او المعنى انا وكل من تبعني فهو على بصيرة- قال ابن عباس يعنى به اصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا على احسن طريقة واقصه(5/206)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
هداية معدن العلم وكنز الايمان وجند الرّحمن- وقال ابن مسعود من كان مستنّا فليستنّ بمن قد مات أولئك اصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الامة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم كانوا على الهدى المستقيم وَسُبْحانَ اللَّهِ عطف على ادعوا يعنى ادعوا الى الله وانزّهه تنزيها من الشركاء وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) .
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد إِلَّا رِجالًا لا ملائكة رد لقولهم لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ... نُوحِي إِلَيْهِمْ كما نوحى إليك وبذلك امتازوا عن غيرهم- قرأ حفص هنا وفى النحل والاول من الأنبياء بالنون وكسر الحاء على التكلم والبناء للفاعل والباقون بالياء وفتح الحاء على الغيبة والبناء للمفعول مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعنى من اهل الأمصار لكونهم اعقل واعلم واحلم دون اهل البوادي لغلظهم وجفائهم- قال الحسن نظرا الى هذه الاية لم يبعث الله نبيا من بدو ولا من الجن ولا من النساء- قلت لا دليل فى الاية على نفى النبوة من الجن- فانه تعالى قال كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وايضا الكلام فى بعث الرسل الى الانس- وذلك لا يقتضى عدم إرسال الجن الى الجن- وقد قال الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ... أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعنى هؤلاء المشركون المكذّبون فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ امر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذّبين بالرسل والآيات فيعتبروا ويحذروا تكذيبك- او من المستغرقين بالدنيا المتهالكين عليها فينقلعوا عن حبها وَلَدارُ الْآخِرَةِ اى دار الحالة الاخرة او الساعة الاخرة او الحيوة الاخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي يقول الله تعالى- هذا ما فعلنا باهل ولايتنا وطاعتنا ان ننجيهم عند نزول العذاب فى الدنيا- وما فى الدار الاخرة لهم خير- فترك ما ذكر اكتفاء بدلالة الكلام عليه أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) اى «1» تستعملون عقولكم لتعرفوا انها خير- قرا نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة-
__________
(1) فى الأصل اى يستعملون عقولهم ليعرفوا-(5/207)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ عامة لما دل عليه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا اى فتراخى نصرهم حتّى إذا استيئسوا- وقال البيضاوي غاية لمحذوف دل عليه الكلام تقديره لا يغررهم تمادى ايّامهم- فان من قبلهم أمهلوا حتّى إذا استيئس الرسل من ايمان قومهم لانهماكهم فى الكفر مترفين متمادين فيه من غير سوء وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا قرا الكوفيون وابو جعفر بتخفيف الذال- وكانت عائشة تنكر هذه القراءة نظرا الى ظاهر معناه انهم ظنوا أخلفوا ما وعدهم الله لكن القراءة متواترة وان لم تسمعها عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغها متواترا- والمعنى ظنوا اى الرسل انهم قد كذبوا اى كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم انهم ينصرون- او كذبهم القوم بوعد الايمان- او المعنى وظنوا اى المرسل إليهم انهم اى الرسل قد كذبوهم بالدعوة والوعيد- او المعنى ظن المرسل إليهم ان الرسل قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم- وقال البغوي وروى عن ابن عباس ان معناه ضعف قلوب الرسل يعنى وظنت الرسل انهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر وكانوا بشرا وظنوا انهم أخلفوا ثم تلا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ- وهذا المعنى هو الّذي أنكرته عائشة- قال البيضاوي ان صح هذه الرواية يعنى عن ابن عباس فالمراد بالظن ما يهجس فى القلب طريق الوسوسة قال الطيبي الرواية صحيحة فقد رواه البخاري والظاهر ان المراد بالآية المبالغة فى التراخي والامهال على سبيل التمثيل- وقرا غير الكوفيين بالتشديد- والمعنى وظنت يعنى أتقنت الرسل ان القوم قد كذبوهم فيما اوعدوهم تكذيبا لا يرجى ايمانهم بعده- كذا قال قتادة وقال بعضهم معناه حتّى إذا استيئس الرّسل ممن كذبهم من قومهم ان يصدقوهم وظنوا ان من أمن بهم منهم قد كذبوا وارتدوا عن ايمانهم لشدة المحنة والبلاء واستبطاء النصر جاءَهُمْ اى الرسل نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ قرا ابن عامر وعاصم ويعقوب بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء على لفظ الماضي المبنى للمفعول من التفعيل- فيكون محل من مرفوعا- والباقون بنونين وتخفيف الجيم وسكون «1» الياء على لفظ المضارع المتكلم من الافعال ومن حينئذ فى محل النصب والمراد من نشاء النبي والمؤمنون- وانما لم يعينهم ليدل على انهم هم الذين يستأهلون ان نشآء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم ولا يذهب الوهم الى غيرهم وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا
__________
(1) فى الأصل وسكونها-(5/208)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) إذا نزل بهم وفيه بيان المشيتين- قلت ويمكن ان يكون المراد بمن نشاء بعض المؤمنين فان بعضهم قد يهلكون بمجاورة الكافرين قال الله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً-.
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ اى فى قصص الأنبياء وأممهم اوفى قصة يوسف واخوته عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ اى لذوى العقول السليمة المبراة عن شوائب الانف والركون الى الحسّ- حيث نقل من غيابة الجب الى غيابة الحب- ومن الحصير الى السرير فصارت عاقبة الصبر السلامة والكرامة- ونهاية المكر الخزي والندامة ما كانَ القران حَدِيثاً يُفْتَرى اى يختلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التورية والإنجيل والزبور وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ مما يحتاج اليه العباد فى الدين- إذ ما من امر دينى الا وله سند من القران بوسط او بغير وسط- فان ما كان ثابتا بالسنة فقد قال الله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ- وقال أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ- وقال ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
- ونحو ذلك وما كان ثابتا بالإجماع فقد قال الله تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى الاية- وما كان ثابتا بالقياس فقد قال الله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وَهُدىً من الضلال وَرَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) اى يصدقونه خصوا بالذكر لانتفاعهم به دون غيرهم- وما نصب بعد لكن معطوف على خبر كان- قال الشيخ ابو منصور فى ذكر قصة يوسف واخوته تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أذى قريش كانه يقول ان اخوة يوسف مع كونهم موافقا له فى الدين وكانوا أبناء رجل واحد- عملوا بيوسف ما عملوا من الكيد والمكر وهم يعلمون قبح صنيعهم فصبر يوسف على ذلك وعفا عنهم- فانت أحق ان تصبر على أذى قومك فانهم كفار جهال لا يعلمون قبح صنيعهم- وقال وهب ان الله تعالى لم ينزل كتابا الا وفيه سورة يوسف تامة كما هى فى القران والله اعلم تمت سورة يوسف مستهل صفر من السنة 1202 الثانية بعد الف ومائتين ويتلوه سورة الرعد ان شاء الله تعالى.(5/209)
فهرس تفسير سورة الرعد من التفسير المظهرى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفحه مضمون 4 حديث عم الرجل صنوابيه- 8 مسئلة اقل مدة الحمل وأكثرها- 9 مسئلة أعلى عدد الولد فى بطن- حديث يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل 10 وملائكة بالنهار الحديث- 13 حديث الرعد ملك مؤكل بالسحاب 13 ما يقال عند سماع الرعد- حديث قال ربكم لو ان عبادى أطاعوني لاسقيتهم المطر بالليل واطلعت عليهم 14 الشّمس بالنهار ولما اسمعتهم صوت الرعد- 35 21 ما ورد فى صلة الرحم- 36 حديث إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة 22 تمحها ونحو ذلك- 22 حديث إذا عملت سيئة فاحدث عندها توبة- 37 حديث يا رسول الله ان لى قرابة أصلهم 22 ويقطعونى الحديث- ما ورد فى دخول الملائكة على المؤمنين 24 فى الجنة بالتحف والسلام- 25 ما ورد فى البغي وقطع الرحم- حديث لا يجتمعان يعنى الخوف والرجاء فى قلب عبد الا أعطاه الله ما يرجو 27 وامنه مما يخاف- 27 ما ورد فى طوبى شجرة فى الجنة- بحث القضاء المبرم والمعلق وما يمحى وما يثبت منه وما ورد فى الباب 35 من الأحاديث- 36 قصة ملا طاهر اللاهورى المجددى- حديث يؤتى الرجل فيقال اعرضوا عليه صغائر ذنوبه ويخبى عنه كبائرها ثم 37 يعطى بكل سيئة حسنة- ما ورد فى اللوح المحفوظ ولوح المحو 38 والإثبات.(5/210)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
سورة الرّعد
مكيّة وآياتها ثلاث وأربعون ربّ يسّر وتمّم بالخير «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الاضافة بمعنى من وأراد بالكتاب السورة او القران وتلك اشارة الى آياتها- اى تلك الآيات آيات السورة الكاملة او القران وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القران كله ومحله الجر عطفا على الكتاب عطف العام على الخاص ان كان المراد بالكتاب السورة- او عطف احدى الصفتين على الاخرى ان كان المراد به القرآن وقوله الْحَقُّ خبر مبتدا محذوف اى هو الحق لا ريب فيه- او محل الموصول الرفع بالابتداء والحق خبره- والجملة كالحجة على الجملة الاولى- فان قيل تعريف الخبر يدل على اختصاص المنزل بكونه حقّا- مع ان السنة والإجماع والقياس كل منها حق يفيد الحق- قلنا المراد بما انزل أعم من المنزل صريحا او ضمنا مما نطق المنزل بحسن اتباعه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) لاخلالهم النظر والتأمل فيه- قال مقاتل نزلت فى مشركى مكة حين قالوا ان محمّدا صلى الله عليه وسلم تقوّله من تلقاء نفسه- فرد قولهم وبين دلائل توحيده-.
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ مبتدا وخبر- او الموصول صفة والخبر يدبر بِغَيْرِ عَمَدٍ جمع عماد كاهاب وأهب او عمود كاديم وآدم- يعنى أساطين حال من
__________
(1) الخطبة من الناشر-(5/212)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
السموات تَرَوْنَها صفة لعمد او استيناف للاستشهاد برؤيتهم السموات- كذلك وهو دليل على وجود الصانع الحكيم- فان ارتفاعها على سائر الأجسام المتساوية لها فى الحقيقة الجسمية- واختصاصها بما يقتضى ذلك- لا بد ان يكون من مخصّص ليس بجسم ولا جسمانى- رجح بعض الممكنات على بعض بإرادته- وعلى هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وقد مر البحث عنه فى سورة يونس وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ اى ذلّلهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع للحوادث اليومية كُلٌّ منهما يَجْرِي فى السماء الدنيا لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدة معينة يتم فيها أدواره- او لغاية معلومة وهو وقت فناء الدنيا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى يقضى امر ملكوته من الإيجاد والاعدام والاحياء والاماتة وغير ذلك يُفَصِّلُ الْآياتِ ينزلها او يبينها مفصلة- او يحدث الدلائل واحدا بعد واحد لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) لكى تفكروا فيها وتعلموا كمال قدرته- فتعلموا ان من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الاعادة والجزاء.
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها ليثبت عليها الاقدام وينقلب عليها الحيوان وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جمع راسية اى جبالا ثابتة من رسى الشيء إذا ثبت- والتاء للتأنيث على انها صفة اجبل او للمبالغة- قال ابن عباس كان ابو قبيس أول جبل وضع على الأرض وَأَنْهاراً ضمها الى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث ان الجبال اسباب لتولّدها وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق بقوله جَعَلَ فِيها اى جعل فى الأرض جميع انواع الثمرات زَوْجَيْنِ صنفين اثْنَيْنِ الجيد والردى قلت يمكن ان يكون المراد بها تنوعها على اقسام شتّى أدناها اثنان يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا ويصير مضيئا بعد ما كان مظلما- قرا حمزة والكسائي وابو بكر يغشّى بالتشديد إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) فيها فان تكوّنها وتخصيصها بوجه دون وجه دليل على وجود صانع حكيم دبر أمرها وهيّأ أسبابها-.
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ متقاربات بعضها طيبة وبعضها سبخة(5/213)
وبعضها رخوة وبعضها صلبة- وبعضها يصلح للزرع دون الشجر وبعضها بالعكس- وبعضها قليلة الريع وبعضها كثيرة- ولولا تخصيص قادر يفعل ما يشاء على ما أراد لم يختلف لاشتراك تلك القطع فى طبيعة الأرض وما يلزمها ويعرض لها بتوسط الأسباب السماوية من حيث انها متضامة متشاركة فى النسب والأوضاع وَجَنَّاتٌ بساتين مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وحّدها لكونها مصدرا فى الأصل وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ اى نخلات أصولها واحد جمع صنو كقنوان جمع قنو- ولا فرق بين تثنيتهما وجمعهما الا بان النون فى التثنية مكسورة بلا تنوين وفى الجمع منونة- ومنه قوله صلى الله عليه وسلم فى العباس ان عم الرجل صنو أبيه وَغَيْرُ صِنْوانٍ متفرقات مختلفة الأصول- قرا ابن كثير وابو عمرو وحفص زَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ برفع الاربعة عطفا على جنّت والباقون بجرها عطفا على أعناب يُسْقى قرا عاصم وابن عامر ويعقوب بالتاء «1» للتانيث لان الضمير راجعة الى الجمع والباقون بالياء على التذكير على تأويل ما ذكر بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ قرا حمزة والكسائي بالياء على الغيبة مطابقا بقوله يدبّر والباقون بالنون على التكلم بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ فى الثمر قدرا وطعما ورائحة ولونا- اخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدقل والفارسي والحلو والحامض- وذلك ايضا مما يدل على الصانع الحكيم- فان اختلافها مع اتحاد الأصول والأسباب لا يكون الّا بتخصيص قادر مختار- قال مجاهد كمثل بنى آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد- وقال الحسن هذا مثل ضرب الله لقلوب بنى آدم- كانت الأرض طينة واحدة فى يد الرّحمن فسطحها فصارت قطعا متجاورات- فانزل عليها الماء من السماء فاخرج من هذه زهرتها وشجرها وثمرها ومن هذه سبخها وملحها وخبثها- وكل تسقى بماء واحد- كذلك الناس خلقهم من آدم فانزل من السماء ذكره فرق قلوب وخشعت وقسى قلوب ولهت- قال الحسن والله ما جالس القران أحد إلا قام من عنده بزيادة او نقصان قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
__________
(1) هذا من سباق قلم لانه قرا عاصم وابن عامر ويعقوب بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث- ابو محمّد(5/214)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) اى يستعملون عقولهم بالتفكر-.
وَإِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من تكذيب المشركين إياك فى دعوى الرسالة بعد ما راوا الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة مع انهم يعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الحجارة بلا دليل فَعَجَبٌ اى حقيق بان يتعجب منه قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً بعد الموت أَإِنَّا اختلف القراء فى الاستفهامين إذا اجتمعا نحو هذه الاية وقوله تعالى أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً «1» ... أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ... - أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ ... أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وشبهه وجملته أحد «2» عشر موضعا فى القران- فقرا نافع والكسائي ويعقوب الاول استفهاما بهمزتين والثاني خبرا بهمزة واحدة- وابو جعفر وابن عامر بالعكس- والباقون استفهاما فيهما- الا ان نافعا قرا فى النمل والعنكبوت الاول منهما خبرا والثاني استفهاما- وكذا ابن كثير وحفص فى العنكبوت وابو جعفر يوافق نافعا فى أول الصّفات دون الثاني- وابن عامر فى النمل والنّزعت بعكس هذا وفى الواقعة بالاستفهام فيهما- ثم القراء عند اجتماع الهمزتين على أصولهم- فنافع وابن كثير- وابو عمرو يقرءون الاستفهام بهمزة وياء بعدها- فابن كثير لا يمد بعد الهمزة وابو عمرو يمد ويدخل قالون بينهما الفا وهشام يدخل بين الهمزتين المحققتين الفا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (5) والجملة الاستفهامية بدل من قولهم- او مفعول به له يعنى قولهم هذا المشعر بانكار البعث حقيق بالتعجب- فانهم ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزّ وجلّ- وقد تقرر فى القلوب ان الاعادة أهون من الابتداء- والعامل فى إذا محذوف دل عليه أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ تقديره إن عدنا فى خلق جديد كما كنا قبل الموت إذا متنا وكنّا ترابا- او المعنى وان تعجب يا محمّد على انكارهم البعث بعد إقرارهم ببدء الخلق من الله تعالى فقولهم هذا حقيق بان يتعجب منه- فان من قدر على إنشاء ما قصّ عليك كانت الاعادة أيسر شيء عليه- والآيات المعدودة كما هى دالة على وجود المبدا دالة على إمكان الاعادة من حيث انها تدل على كمال قدرته وقبول المواد لانواع تصرفاته أُولئِكَ يعنى الذين ينكرون البعث هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ لانهم كفروا بقدرته تعالى على البعث- والعاجز لا يصلح لكونه ربا وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ
__________
(1) وفى القران تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا- ابو محمّد
(2) رعد- بنى اسراءيل- مؤمنون- الم سجده- نمل- صّفّت- الواقعة- النّزعت- عنكبوت- منه رح(5/215)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
فِي أَعْناقِهِمْ يعنى هم مقيدون بالضلال لا يرجى خلاصهم- او هم يغلون يوم القيامة وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يوم القيامة دل تكرار أولئك على تعظيم الأمر هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) لا ينفكون عنها وتوسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفار كما هو مذهب اهل الحق خلافا للمعتزلة-.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ الاستعجال طلب الشيء عاجلا قبل وقته والمراد بالسيّئة هاهنا العقوبة وبالحسنة النعمة والعافية وذلك ان مشركى مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ... وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها- ولم يجوزوا حلول مثلها عليهم- والمثلة بفتح الثاء وضمها كالصّدقة والصّدقة العقوبة- لانها مثل المعاقب عليه ومنه المثال للقصاص وامثلت الرجل من صاحبه إذا اقتصصته وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ اى مع ظلمهم على أنفسهم ومحله النصب على الحال والعامل فيه المغفرة- قلت الظاهر ان الاية فى منكرى البعث والمراد بالمغفرة الامهال يعنى ان الله حليم يمهل الكفار مع ظلمهم ولذلك لم يعذبهم وهم يستعجلون العقوبة وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) يعنى إذا يحل بهم العقوبة من الله تعالى لا يستطيع أحد دفعه- وقال السدىّ قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ فى حق المؤمنين خاصة- وهى أرجى اية فى كتاب الله حيث وعد المغفرة مع الظلم- ففيه دليل على جواز العفو بلا توبة- إذ التائب ليس على الظلم بل التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه ابن ماجة عن ابن مسعود مرفوعا وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ على الكفار- وقيل هما جميعا فى المؤمنين لكنه معلّق بالمشية فيهما اى يغفر لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ- اخرج ابن ابى حاتم والبيهقي والواحدي عن سعيد بن المسيب مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال لولا عفو الله وتجاوزه ما «1» هاهنا أحد يعيش- ولولا وعيده وعذابه لا تكل كل أحد-
__________
(1) فى الأصل ما هنا أحدا العيش-[.....]
.(5/216)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمّد صلى الله عليه وسلم آيَةٌ اى علامة وحجة على نبوته مِنْ رَبِّهِ لم يعتدوا بالآيات المنزلة على النبي صلى الله عليه وسلم- واقترحوا آيات اخر تعنتا وعنادا فقال الله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ يعنى ليس عليك الا الانذار والتبليغ- وما عليك إتيان الآيات المقترحة ولا حملهم على الهداية كرها وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) قرا ابن كثير هاد ووال وواق وما عند الله باق بالتنوين فى الوصل فاذا وقف وقف بالياء فى هذه الاحرف الاربعة حيث وقعت لا غير- والباقون يصلون بالتنوين ويقفون بغير ياء- والمعنى ان لكل قوم هاد اى قادر على هدايتهم وهو الله عز وجل يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ كذا قال سعيد بن جبير- وقال عكرمة الهادي محمّد صلى الله عليه وسلم والمعنى أنت منذر وهاد اى داع الى سبيل الحق لكل قوم والهداية حينئذ بمعنى اراءة الطريق- وقيل معناه ولكل قوم نبى يهديهم اى يدعوهم الى الله بما يعطيهم من الآيات لا بما اقترحوا- قبح الله الرافضة يقولون كان فى التنزيل ولكل قوم هاد علىّ حذف عثمان رضى الله عنه حسدا لفظ علىّ- لعنهم الله انّى يؤفكون ينكرون قوله تعالى إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ- وعلى هذا يلزم فضل علىّ رضى الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فان معنى الاية على هذا انما أنت منذر ولست بهاد ولكن علىّ هاد لكل قوم ولا يخفى ما فيه- ثم اردف الله تعالى ذلك بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره تنبيها على انه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه- وانما لم ينزل لعلمه ان اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد- وانه قادر على هدايتهم وانما لم يهدهم لسبق قضائه عليهم بالكفر فقال.
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى اى حملها او ما تحملها من ذكر او أنثى سوىّ الخلق او ناقصه وواحدا او اكثر- وانه على اىّ حال هو من الأحوال الحاضرة والمترقبة وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ غاض وازداد جاء كل منهما لازما ومتعديا- فى القاموس غاض الماء غيضا ومغاضا قل ونقص كالغاض غاض الماء وثمن السلعة نقص- وغاض الماء وثمن السلعة نقضهما كاغاض- وازداد القوم على عشرة- ونزداد كيل بعير- فان جعلتهما لازمين فما حينئذ مصدرية والمعنى الله يعلم انتغاض الأرحام وازديادها- والاسناد الى الأرحام(5/217)
مجازى فانهما لما فيهما يعنى ينتقص ما فى الأرحام فى الجثة والمدة والعدد ويزداد- وان جعلتهما متعديين فما يحتمل ان يكون موصولة وان يكون مصدرية والمعنى الله يعلم ما تنقصه الأرحام وما تزداده فى الجثة والمدة والعدد (مسئلة) اقل مدة الحمل ستة أشهر اتفاقا روى ان رجلا تزوج امراة فولدت لستة أشهر- فهمّ عثمان ان يرجمها- فقال ابن عباس لو خاصمتكم بكتاب الله تعالى لخصمتكم- قال الله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً- وقال وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ فلم يبق للحمل الا ستة أشهر- فدرا عثمان عنها الحد- قال ابن همام التمسك بدرء عثمان مع عدم مخالفة أحد فكان اجماعا- وانه قد يولد بستة أشهر ويعيش- واكثر مدة الحمل سنتان عند ابى حنيفة رحمه الله- لما روى الدار قطنى والبيهقي فى سننهما من طريق ابن المبارك ثنا داود بن عبد الرّحمن عن ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت ما تزيد المرأة فى الحمل على سنتين قدر ما يتحول ظل عمود المغزل- وفى لفظ قالت لا يكون الحمل اكثر من سنتين ولو بظل مغزل- وعند الشافعي ومالك اكثر مدة الحمل اربع سنين- وقيل عند مالك خمس سنين- قال حماد بن سلمة انما سمى هرم بن حبان هرما لانه بقي فى بطن امه اربع سنين- وروى البيهقي عن الوليد بن مسلم قال قلت لمالك بن انس انّى حدّثت عن عائشة انها قالت لا تزيد المرأة فى حملها على سنتين قدر ظل مغزل- فقال سبحان الله من يقول هذا- هذه جارتنا امراة محمّد بن عجلان امراة صدوق وزوجها رجل صدوق حملت ثلاثة بطون فى اثنتي عشرة سنة كل بطن فى اربع سنين- قال ابن همام ولا يخفى ان قول عائشة مما لا يعرف الا سماعا فى حكم المرفوع- وهو مقدم على المحكي عن امراة ابن عجلان- لانه بعد صحة النسبة الى الشارع لا يتطرق اليه الخطأ بخلاف الحكاية- فانها بعد صحة نسبتها الى مالك والمرأة يحتمل الخطأ بها- فان يمامة الأمر أن يكون انقطع دمها اربع سنين ثم جاءت بولد وهذا ليس بقاطع فى ان الاربعة سنين بتمامها كانت حاملا فيها- لجواز انها امتدت «1» طهرها سنتين او اكثر ثم حبلت- ووجود الحركة مثلا فى البطن لو وجد ليس قاطعا للحمل لجواز كونه من غير الولد- ولقد أخبرنا عن امراة انها وجدت ذلك مدة تسعة أشهر من الحركة وانقطاع الدم وكبر البطن وادراك الطلق- وحين جلست القابلة تحتها أخذت فى الطلق وكلما طلقت اعتصرت ماء- وهكذا شيئا فشيئا الى ان انضم
__________
(1) فى الأصل امتد(5/218)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
بطنها وقامت عن قابلتها من غير ولادة- وفى الجملة مثل هذه الحكايات لا تعارض الروايات وما روى ان عمر اثبت نسب ولد امراة غاب عنها زوجها سنين ثم قدم فوجدها حاملا فهمّ برجمها- فقال له معاذ ان كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما فى بطنها فتركها- حتّى ولدت ولدا قد نبتت ثنياه يشبه أباه- فلما راه الرجل قال ولدي ورب الكعبة انما هو لقيام الفراش ودعوى الرجل نسبه والله اعلم- (مسئلة) أعلى عدد الولد فى بطن لاحد له- وقيل نهاية ما عرف اربعة واليه ذهب ابو حنيفة رحمه الله- وقال الشافعي رحمه الله أخبرني شيخ باليمن ان امرأته ولدت بطونا فى كل بطن خمسة- قلت واشتهر فى ديار الهند ان امراة القاضي قدوه فى بلاد الشرق ولدت مائة فى مشيمة واحدة وعاشوا جميعا والله اعلم- قال البغوي قال اهل التفسير غيض الأرحام الحيض على الحمل- فاذا حاضت الحامل كان نقصانا فى الولد لان دم الحيض غذاء للولد فى الرحم- فاذا اهراقت الدم ينتقص الغذاء فينتقص الولد- وإذا لم تحض يزداد الولد فيتم- فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم والزيادة تمام خلقته باستمساك الدم- وقيل إذا حاضت تنقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتّى تستكمل تسعة أشهر طاهرا- فان رات خمسة ايام دما وضعت لتسعة أشهر وخمسة ايام فالنقصان فى الغذاء والزيادة فى المدة- وقال الحسن غيضها نقصانها من تسعة أشهر والزيادة زيادتها على تسعة أشهر- وقيل النقصان السقط والزيادة تمام الخلق وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) بتقدير الى حد معين فى علم الله تعالى لا يجاوز ولا ينقص عنه.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ قد شرحنا الغيب والشهادة فى سورة الجن الْكَبِيرُ الّذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ (9) المستعلى على كل شيء بقدرته او الّذي كبر عن نعت المخلوقين وتعالى عنه- قرا ابن كثير بإثبات الياء وصلا ووقفا والباقون يحذفونها فى الحالين.
سَواءٌ مِنْكُمْ فى علم الله مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ فى نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ اى طالب لاخفاء نفسه بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بارز بِالنَّهارِ (10) يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز- وقيل معناه ذاهب فى سربه ظاهرا والسرب الطريق- وقال القتيبي سارِبٌ بِالنَّهارِ(5/219)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
متصرف فى حوائجه- عطف على من او على مستخف على ان من فى معنى الاثنين كانه قال سَواءٌ مِنْكُمْ اثنان مستخف وسارب- وقال ابن عباس فى هذه الاية هو صاحب زنيّة مستخف بالليل وإذا خرج بالنهار ارى الناس انه بريء من الإثم- فعلى هذا عطف على مستخف والمراد بمن واحد متصف بصفتين-.
لَهُ اى لمن اسر ومن جهر ومن هو مستخف وسارب او لله تعالى ملائكة مُعَقِّباتٌ جمع معقبة من عقّب مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه- او من اعتقب فادغمت التاء فى القاف والتاء للمبالغة- وقال البغوي واحده معقّب وجمعه معقّبة ثم جمع المعقبة على المعقّبات كما قيل انثاوات سعد ورجالات بكر- يعنى يتعاقبون فيكم بالليل والنهار إذا صعدت ملائكة الليل جاءت فى عقبها ملائكة النهار وإذا صعدت ملائكة النهار جاءت فى عقبها ملائكة الليل فيكتبون اعمال العباد ويحفظونهم عن الآفات «1» - روى البغوي بسند صحيح عن ابى هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار يجتمعون فى صلوة الفجر وصلوة العصر- ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسئلهم ربهم وهو اعلم بهم كيف «2» تركتم عبادى فيقولون تركناهم وهم يصلّون واتيناهم وهم يصلّون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ صفة معقّبات اى كائنة من قدام المستخفى والسارب وَمِنْ خَلْفِهِ يعنى من جوانبه كلها يَحْفَظُونَهُ الضمير راجع الى من- اى يحفظون العبد من الآفات ما لم يأت القدر- فاذا جاء القدر خلوا عنه- قال مجاهد ما من عبد الا وله ملك مؤكل به يحفظه فى نومه ويقظته من
__________
(1) عن كنانة العدوى قال دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك- قال ملك على يمينك على حسناتك وهو امير على الّذي على الشمال- إذا عملت حسنة كتب عشرا فاذا عملت سيئة قال الّذي على الشمال للذى على اليمين اكتب قال لعله يستغفر الله ويتوب فاذا قال ثلاثا قال نعم اكتبه أراحنا الله منه فبئس القرين- ما اقل مراقبته لله واقل استحياؤه منه- يقول الله ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ- وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ- وملك قابض على ناصيتك فاذا تواضعت لله رفعك وإذا تحبرت قصمك- وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك الا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم- وملك قائم على فيك لا تدع ان تدخل الحيّة فى فيك- وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة املاك على كل بنى آدم- ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار لان ملائكة الليل سوى ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل بنى آدم وإبليس بالنهار وولده بالليل 12 ازالة الخفا- منه رحمه الله تعالى
(2) فى الأصل كيف تركتم عبدى-(5/220)
الجن والانس والهوامّ- فما من شيء يأتيه يريده الا قال وراءك الا شيء يأذن الله فيه فيصيبه وقال كعب الأحبار لولا ان الله تعالى وكل بكم الملائكة يدنون عنكم فى مطعمكم ومشربكم وو عوراتكم لتخطفنّكم الجن- او المعنى يحفظون اعماله ان كان الاية فى الملكين القاعدين عن اليمين والشمال يكتبان الحسنات والسيّئات- كما قال الله تعالى إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ- قال ابن جريج اى يحفظون عليه اعماله مِنْ أَمْرِ اللَّهِ قيل هو صفة ثانية لمعقبات يعنى معقبات كائنة من امر الله- او ظرف لغو متعلق بقوله يحفظونه اى يحفظونه من أجل امر الله تعالى أتاهم بالحفظ- او المعنى يحفظونه من امر الله اى من بأسه متى أذنب بالاستمهال او الاستغفار له- وقيل من هاهنا بمعنى الباء اى يحفظونه بإذن الله- وقيل المعقبات الحرس حول السلطان يحفظونه فى توهمه من قضاء الله تعالى- قال البغوي وقيل الضمير فى قوله لَهُ مُعَقِّباتٌ راجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى لمحمّد صلى الله عليه وسلم معقبات اى حرّاس من الرّحمن مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
من شر الشياطين الجن والانس وطوارق الليل والنهار- وقال عبد الرّحمن بن زيد نزلت هذه الاية فى عامر بن الطفيل واربد بن ربيعة- وقصتهما على ما روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس- انها اقبل عامر بن الطفيل واربد ابن ربيعة وهما عامريّان يريد ان النبي صلى الله عليه وسلم- وهو جالس فى المسجد فى نفر من أصحابه فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان اعور وكان من أجمل الناس- فقال رجل يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد اقبل نحوك- فقال دعه فان يرد الله به خيرا يهده- فاقبل حتّى قام عليه- فقال يا محمّد مالى ان أسلمت- فقال لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين- قال تجعل لى الأمر بعدك- قال ليس ذلك الىّ انما ذلك الى الله عزّ وجلّ يجعله حيث يشاء- قال فتجعلنى على الوبر وأنت على المدر قال لا قال فماذا تجعل لى قال اجعل لك أعنّة الخيل تغزو عليها- قال او ليس ذلك لى الى اليوم- قم معى أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان اوصى الى اربد ابن ربيعة إذا رايتنى أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف- فجعل يخاصم رسول الله(5/221)
صلى الله عليه وسلم ويراجعه فدار اربد خلف النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه- فاخترط من سيفه شبرا ثم حبسه الله عنه ولم يقدر على سلّه- وجعل عامر يومى اليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فراى اربد وما صنع بسيفه فقال اللهم اكفنيهما بما شئت فارسل الله تعالى على اربد صاعقة فى يوم صحو قائظ فاحرقته وولى عامر هاربا وقال يا محمّد دعوت ربك حتّى قتل اربد- والله لاملانها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعك الله من ذلك- وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج فنزل عامر بيت امراة سلوليّة- فلما أصبح ضم عليه سلاحه وقد تغير لونه فجعل يركض فى الصحراء- ويقول ابرز يا ملك الموت- ويقول الشعر- ويقول واللات والعزى لان اضحى الى محمّد وصاحبه يعنى ملك الموت لانفذتهما برمحى- فارسل الله تعالى ملكا فلطمه بجناحه فاداره فى التراب- وخرجت على ركبته فى الوقت غدة عظيمة فعاد الى بيت السلوليّة- وهو يقول غدة كغدة البعير وموت فى بيت السلوليّة- ثم دعا بفرسه فركبه ثم أجراه حتّى مات على ظهره فاجاب الله تعالى دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم- فقتل بالطعن واربد بالصاعقة- وانزل الله تعالى فى هذه القصة قوله عز وجلّ سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ لَهُ يعنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقّبت من بين «1» يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله يعنى تلك المعقبات من امر الله وكذا اخرج الثعلبي- واخرج الطبراني عن ابن عباس ان اربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال عامر يا محمّد ما تجعل لى ان أسلمت- قال لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم- قال أتجعل لى «2» الأمر من
بعدك- قال ليس ذلك لك ولا لقومك- فقال عامر لاربد انى اشغل عنك وجه محمّد بالحديث فاضربه بالسيف- فرجعا فقال عامر يا محمّد قم معى فقام معه ووقف يكلمه وسلّ اربد السيف فلما وضع يده قائم السيف يبست- والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فراه فانصرف عنهما- فخرجا حتّى إذا كانا بالرقم أرسل الله على اربد صاعقة فقتله- فانزل الله تعالى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الى قوله شَدِيدُ الْمِحالِ-
__________
(1) فى الأصل معقبت يحفظونه من بين يديه ومن ... خلفه من امر الله
(2) فى الأصل اتجعل الأمر إلخ-(5/222)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا اى القوم ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ بعد ما يغيروا ما بانفسهم سُوْءاً عذابا وهلاكا فَلا مَرَدَّ لَهُ مصدر بمعنى الفاعل يعنى لا رادّ له- والعامل فى إذا ما دل عليه الجواب وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) يلى أمرهم فيدفع عنهم السوء وفيه دليل على ان خلاف مراد الله محال.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصاعقة ومن ضرر المطر فى السفر وللزرع فى بعض الأحيان وبعض الامكنة وَطَمَعاً من الغيث حين ينفع للزرع او لدفع الحر- وانتصابهما على العلة بتقدير المضاف اى ارادة خوف او طمع- او بتأويل الاخافة والاطماع- او على الحال من البرق- او من المخاطبين بتقدير ذو- او اطلاق المصدر بمعنى المفعول او الفاعل مبالغة وَيُنْشِئُ السَّحابَ جمع سحابة وهو الغيم فانه ينسحب اى ينجر بالهواء فى الجو- وهو جمع سحابة كذا فى القاموس- وقال البيضاوي اسم فيه معنى الجمع ولذا وصف بقوله الثِّقالَ (12) جمع ثقيلة يعنى مملوّة بالمطر قال البغوي قال على رضى الله عنه السحاب غربال الماء-.
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ متلبسا بِحَمْدِهِ يعنى يقول سبحان الله والحمد لله- روى الترمذي وصححه والنسائي عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرعد- فقال ملك مؤكل بالسحاب معه مجاريق من نار يسوق بها السحاب وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ اى من خيفة الله وخشيته- قيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله له «1» أعوانا- فهم خائفون خاضعون طائعون- فالضمير حينئذ جاز ان يعود الى الرعد يعنى يسبح الملائكة من خيفة الرعد- قال ابن عباس من سمع صوت الرعد فقال سبحان الّذي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ... وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فان أصابته صاعقة فعلى دينه- وعن عبد الله بن الزبير انه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث- وقال سبحان من يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ- ويقول ان هذا الوعيد لاهل الأرض لشديد- وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس الرعد موكل بالسحاب يصرّفه الى حيث يؤمر- وانّ بحور الماء
__________
(1) فى الأصل جعل الله أعوانا(5/223)
فى نقرة إبهامه- وانه يسبح الله فاذا سبح لا يبقى ملك فى السماء الا رفع صوته بالتسبيح- فعندها ينزل القطر- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ربكم لو ان عبادى أطاعوني لاسقيتهم المطر بالليل ولاطلعت عليهم الشمس بالنهار ولما اسمعتهم صوت الرعد- رواه احمد بسند صحيح والحاكم وقال البيضاوي فى تفسير الاية وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ اى يسبح سامعوه»
متلبسين به فيصيحون سبحان الله والحمد لله- او يدل الرعد على وحدانيته تعالى وكمال قدرته متلبسا بالدلالة على فضله ونزول رحمته- قلت هذا على تقدير عدم ثبوت كون الرعد ملكا يسبح وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهى العذاب المهلك والمراد هاهنا نار ينزل من السماء ينزل من البرق فيحرق من يصيبه فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه وَهُمْ يُجادِلُونَ اى يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم فِي اللَّهِ اى توحيده والإقرار بكمال علمه وقدرته وإعادة الناس ومجازاتهم- والجدال التشدد فى الخصومة من الجدل وهو القتل- والواو اما لعطف الجملة- على الجملة او للحال يعنى اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ويفعل كذا وكذا ويرسل الصّواعق- وهم ينكرون صفات كماله ولا يستدلون بما ذكر على وجوده تعالى وكمال قدرته ويخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعلى تقدير نزول الاية فى قصة اربد بن ربيعة كما ذكرنا- فالظاهر ان الواو للحال والجملة حال من مفعول يشاء يعنى يصيب بها من يشاء أصابته وهو اربد بن ربيعة وأمثاله فى حال هم يجادلون فى الله فى تلك الحال- قال البغوي قال محمّد بن على الباقر الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب المسلم الذاكر- واخرج النسائي والبزار عن انس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أصحابه الى رجل من عظماء الجاهلية يدعوه الى الله تعالى- فقال ايش ربك الّذي تدعونى اليه أمن حديد هو او من نحاس او من فضة او ذهب- فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره فاعاده الثانية والثالثة فارسل الله عليه صاعقة فاحرقته- ونزلت هذه الاية وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ الى آخرها- وقال البغوي نزلت فى شأن اربد بن ربيعة حيث قال للنبى صلى الله عليه وسلم مم ربك أمن درام من ياقوت أم من ذهب فنزلت صاعقة من السماء
__________
(1) فى الأصل ملتبسين-(5/224)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
فاحرقته- وقال سئل الحسن عن قوله تعالى وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الاية فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث اليه النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه الى الله والى رسوله فقال لهم أخبروني عن رب محمّد هذا الّذي تدعوننى اليه ممّ هو من ذهب او فضة او حديد او نحاس- فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا الى النبي صلى الله عليه وسلم- فقالوا يا رسول ما راينا رجلا اكفر قلبا ولا أعتى على الله منه فقال ارجعوا اليه- فرجعوا اليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الاولى وقال أجيب محمّدا الى رب لا أراه ولا أعرفه- فانصرفوا وقالوا يا رسول الله ما زادنا الا على مقالته وأخبث فقال ارجعوا- فرجعوا اليه فبينماهم عنده ينازعونه وهو يقول هذه المقالة إذا ارتفعت سحابة فكانت فوق رءوسهم- فرعدت «1» وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر وهم جلوس فجاءوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم قوم من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- وقالوا لهم احترق صاحبكم فقالوا من اين علمتم فقالوا اوحى الله الى النبي صلى الله عليه وسلم ويرسل الصّواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) قال البغوي قال الحسن شديد الحقد وقال مجاهد شديد القوة- وقال ابو عبيدة شديد العقوبة- وقيل شديد المكر والمغالبة- قال فى القاموس المحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك وهذه المعاني أكثرها يصح هاهنا فهو فعال من المحل- وقيل هو مفعل من الحول او الحيلة او الحيلولة اعل على غير قياس- فعلى هذا ما قال ابن عباس معناه شديد الحول وقال علىّ شديد الاخذ-.
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ اى الدعوة المجابة مختصة به تعالى دون غيره كما يدل عليه ما بعده- او المعنى له الدعاء الحق فانه الّذي يحق ان يعبد ويدعى الى عبادته ويسئل منه الحوائج دون غيره- او معناه له الدعاء بالإخلاص- والحق على هذه التأويلات ضد الباطل- والاضافة فى الظاهر اضافة والموصوف الى صفته- فيئوّل على طريقة مسجد الجامع- وجانب
__________
(1) اخرج الترمذي وصحه واحمد والنسائي عن ابن عباس فقال أقبلت اليهود الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أخبرنا من الرعد ما هو قال ملك من ملائكة السحاب يسوقه حيث امره الله فقالوا فما هذا الصوت نسمع قال صوته واخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان ملكا مؤكل بالسحاب يلم العاصية ويلم الدامية فى يده محراق فاذا رفع برقت وإذا زحرر عدت وإذا ضرب صعقت منه رحمه الله(5/225)
الغربي ويقال دعوة المدعو الحق فان المدعو بدعوة الله سبحانه بالإخلاص يتحقق- او يقال اضافة الدعوة الى الحق لما بينهما من الملابسة كما يقال رجل صدق- وقيل الحق هو الله سبحانه وكل دعاء الله دعوة الحق- فان قيل هذا الحمل غير مفيد فان دعاء الله تعالى مختص به تعالى لا محالة كما ان دعاء غيره مختص بغيره قلنا فى ذكر الله تعالى بلفظ الحق اشعار بان دعاؤه حق لان دعاء الحق لا يكون الا حقا ودعاء الباطل لا يكون الا باطلا- فالمعنى على هذا التأويل يؤل الى ما سبق فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان- قال البغوي قال على رضى الله عنه دعوة الحقّ التوحيد- وقال ابن عباس رضى الله عنهما شهادة ان لا اله الا الله- قلت التوحيد والشهادة ان كانا تفسيرين للحق فالاضافة حقيقية والمعنى لله الدعوة الى التوحيد والشهادة- والمراد بالجملتين ان كانت الاية فى عامر واربد ان هلاكهما من حيث لم يشعر انه محال من الله- واجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم ودالة على انه على الحق- وان كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محالة وتهديدهم بإجابة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم او بيان ضلالهم وفساد رأيهم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ أشياء كائنة مِنْ دُونِهِ يعنى يعبدون الأصنام ويذكرونهم ويسئلون منها حوائجهم فحذف المفعول لدلالة قوله مِنْ دُونِهِ عليه- او المعنى والذين يدعونهم المشركون كائنة من دون الله فحذف الراجع- والمراد بالموصول حينئذ الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ الضمير راجع الى الموصول على التقدير الثاني او الى محذوف موصوف عن دونه على التقدير الاول والمعنى لا يجيبون لَهُمْ اى للكفار بِشَيْءٍ يريدونه من نفع او دفع ضر إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ يعنى الا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إِلَى الْماءِ وهو عطشان جالس على شفير البئر يمد يده الى البئر فلا يبلغ قعر البئر ويدعو الماء لِيَبْلُغَ فاهُ متعلق بباسط اى يطلب من الماء ان يبلغ فاه وَما هُوَ بِبالِغِهِ لانه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على اجابته والإتيان بغير ما جبل عليه- كذلك الهتهم لا يشعرون بدعائهم ولا يقدرون على اجابتهم فاضافة الاستجابة الى الباسط اضافة المصدر الى المفعول- هذا معنى قول مجاهد ومثله عن على رضى الله عنه وعطاء- وقيل شبهوا فى قلة جدوى دعائهم لها(5/226)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
بمن أراد ان يغرف الماء ليشربه فبسط كفيه ليقبض على الماء- والقابض على الماء لا يكون فى يده شيء ولا يبلغ الى فيه منه شيء- كذلك الّذي يدعو الأصنام وهى لا تضر ولا تنفع لا يكون بيده شيء وهذا التأويل مروى عن ابن عباس قال كالعطشان إذا بسط كفيه فى الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء ولا يبلغ فاه ما دام باسط كفيه- فهذا مثل ضربه لخيبة الكفار وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ أصنامهم اى عبادتهم لها وطلب حاجتهم منها إِلَّا فِي ضَلالٍ (14) فى ضياع وخسار وبطلان- وقال الضحاك عن ابن عباس وما دعاء الكفرين ربهم جلّ وعلى الا فى ضلال لان أصواتهم محجوبة عن الله تعالى بحجب الكفر والمعاصي والله اعلم-.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً يعنى الملائكة والمؤمنين وَكَرْهاً يعنى المنافقين والكافرين الّذين اكرهوا على السجود بالسيف- او انهم يسجدون حالة الشدة والضرورة مع كراهيتهم ذلك- وانتصاب طوعا وكرها بالحال او العلة وَظِلالُهُمْ يسجد معهم بالعرض- ويحتمل ان يراد بالسجود انقيادهم «1» لما اراده منهم شاءوا او كرهوا- وانقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد والتقليص- ويمكن ان يقال المراد بمن فى السّموت والأرض حقائق من فيها وأرواح الملائكة والمؤمنين وبظلالهم أشخاصهم وقوالبهم- كما عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دعائه الظاهر بالسواد والباطن بالخيال- حيث قال فى سجوده سجد لك سوادى وخيالى- وهذا التأويل اولى مما سبق لان الظلال الّتي يرى فى ضح الشمس عبارة عن سواد موضع لم يصل اليه ضوء الشمس لحجاب جثة الشيء- وذلك امر عدمى لا وجود لها فكيف يسند إليها السجود بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) ظرف ليسجد والمراد بهما الدوم- والآصال جمع اصيل وهو ما بين العصر الى المغرب-.
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خالقهما ومدبرهما ومتولى أمرهما استفهام تقرير- فانهم كانوا يقولون بان الله خالقهم وخالق السموات والأرض قُلِ اللَّهُ يعنى ان لم يقولوه فاجب أنت عنهم- إذ لا جواب لهم سواه وهم يقولون بذلك- ولانه هو البين الّذي لا يحتمل الاختلاف او لقنهم الجواب به- قال البغوي روى انه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين من ربّ السّموت والأرض- قالوا أجب أنت فقال الله تعالى قُلِ اللَّهُ- ثم
__________
(1) فى الأصل ما اراده(5/227)
قال فالزمهم بذلك وقُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ عطف على محذوف والاستفهام للانكار تقديرهء أقررتم بربوبيته تعالى للعالمين فاتخذتم أشياء كائنة مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ واتخذتموه ظهريا وهذا امر منكر بعيد عن مقتضى العقل- ثم اجرى على الأولياء وصفا بقوله لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا يعنى لا يقدرون على ان يجلبوا الى أنفسهم نفعا او يدفعوا عنها ضرّا فكيف يتولون أموركم وكيف يستطيعون إيصال الخير إليكم او دفع الضرّ عنكم- وهو دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم فى اتخاذهم اولياء رجاء ان يشفعوا لهم قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى يعنى الّذي لا عقل له ولا بصيرة او لا يستعملها وَالْبَصِيرُ (5) اى ذو بصيرة يدرك بها حقيقة العبادة والموجب لها- ويميّز من يستحق العبادة والولاية ممن لا يستحق ذلك- وقيل المراد بالأعمى المعبود الغافل منكم- وبالبصير المعبود المطلع على أحوالكم أَمْ هَلْ تَسْتَوِي قرا حمزة والكسائي وابو بكر بالياء التحتانية- والباقون بالتاء الفوقانية لتأنيث الفاعل لكنه غير حقيقى الظُّلُماتُ وَالنُّورُ (5) يعنى الكفر والايمان لا أَمْ يعنى بل اجعلوا لله شركاء والاستفهام للانكار «1» وقوله خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة فى حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ خلق الله وخلق الشركاء- والمعنى ما اتخذوا شركاء خالقين مثله حتّى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها- ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يعنى كل ما يشاء من الأجسام والاعراض والأرواح المجردة لا خالق غير الله- ولا يتصور ممن لا يقتضى ذاته وجوده ان يوجد غيره فلا يجوز العبادة لغيره- ومن قال ان الله تعالى لم يخلق افعال العباد بل هم خلقوها فهو ممن تشابه الخلق عليهم وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالربوبية واستحقاق العبادة- بل المتوحد بالوجود المتأصل لا موجود غيره الا بوجود هو ظل وجوده الْقَهَّارُ (16) الغالب
__________
(1) عن ابن جريج فى قوله تعالى أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قال ابن جريج عن ليث عن ابى محمّد عن حذيفة عن ابى بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال الشرك فيكما خفى من دبيب النمل الا أخبرك بقول يذهب صغاره وكباره قال بلى قال يقول كل يوم ثلاث مرات اللهم انى أعوذ بك من ان أشرك بك وانا اعلم واستغفرك لما لا اعلم والشرك ان يقول أعطاني الله وفلان وان يقول لولا فلان لقتلنى فلان- وعن معقل بن يسار نحوه- منه رحمه الله تعالى-(5/228)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
على كل شيء لا يقاومه شيء- إذ لا يتصور من المعدوم فى نفسه الموجود بغيره مقاومة ذلك الغير الّذي هو الموجود المتأصل بوجوده-.
أَنْزَلَ الله الواحد القهار مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ جمع واد وهو الموضع الّذي يسيل فيه الماء بكثرة- فاتسع فيه واستعمل للماء الجاري فيه كقولك سال الميزاب- وتنكيرها لان المطر انما يأتى على طريق المتادبة بين البقاع فيسيل بعض اودية الماء دون بعض بِقَدَرِها اى بقدر الاودية فى الصغر والكبر فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ اى الماء السائل فى الاودية زَبَداً اى خبثا يظهر على وجه الماء رابِياً عاليا مرتفعا فوق الماء الصافي وَمِمَّا يُوقِدُونَ قرا حمزة والكسائي وحفص بالياء على ان الضمير للناس وإضماره للعلم به والباقون بالتاء على الخطاب- والإيقاد جعل النار تحت شيء ليذوب- ومن لابتداء الغاية اى منه ينشأ زبد مثل زبد الماء- او للتبعيض اى وبعض ما توقدون عَلَيْهِ فِي النَّارِ يعم الفلذات كالذهب والفضة والحديد والنحاس والصفر- والظرف حال من الضمير فى عليه ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ منصوب على الحال من فاعل يوقدون او على العلة- يعنى يوقدون مبتغين حلية او لابتغاء حلية اى زينة مثل الذهب- والفضة أَوْ مَتاعٍ اى ما يتمتع وينتفع به كالاوانى من النحاس والصفر وغيرها وآلات الحرب والحرث من الحديد- والمقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ اى مثل زبد الماء وذلك خبثه الّذي ينفيه الكير- وزبد فاعل لقوله مِمَّا يُوقِدُونَ- او مبتدا وهو خبره المقدم عليه كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ مثل الْحَقَّ وَالْباطِلَ (5) فان الحق يعنى العلم المنزل من السماء مثله فى افادته وانتفاع الناس به انواع المنافع الدنيوية والاخروية- واتساع القلوب إياه بقدرها وسعتها- وثباته الى يوم القيامة بل الى ابد الآبدين كمثل الماء الّذي ينزل من السماء فتسيل به الاودية على قدر الحاجة والمصلحة وعلى قدر صغر الوادي وكبرها- وينتفع به الناس انواع المنافع ويمكث فى الأرض بان يثبت بعضه فى منافعه ويسلك بعضه فى عروق الأرض الى العيون والقنى والآبار- وكمثل الفلذ الّذي ينتفع به الناس فى صوغ الحلي واتخاذ الامتعة المختلفة ويدوم ذلك مدة متطاولة- والباطل يعنى خرافات الكفار وهواجس النفس وخطرات الشيطان مثلها فى انتشارها وشهرتها وعدم الانتفاع(5/229)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
بها وعدم استقرارها كمثل الزبد المستعلى على الماء والفلز فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يجفى به اى ما يرمى به السيل او الفلز المذاب- يقال جفا الوادي واجفأ إذا القى غثاءه- وقيل جفاء اى متفرقا يقال جفات الريح القسم اى فرقته وانتصابه على الحال فالباطل يرميه الحق ويفرقه وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من الماء والفلز وكذلك العلم النافع فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ اى يبقى ولا يذهب وينتفع به الناس كَذلِكَ اى كما ضرب الله المثل للحق والباطل يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لايضاح المشتبهات قيل هذه تسلّية للمؤمنين بزوال ظلمة الكفر وان كان فى الصورة عاليا مستعليا وبقاء نور الإسلام واستقراره الى يوم القيامة-.
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا اى أجابوا لِرَبِّهِمُ دعوته الى الإسلام وأطاعوه فيما أمرهم به الْحُسْنى صفة لمصدر يعنى الاستجابة الحسنى او مفعول به يعنى استجابوا لربهم الدعوة الحسنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ يعنى الكفار واللام متعلقة بيضرب على انه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما- وقيل للذين استجابوا خبر الحسنى وهى المثوبة الحسنى او الجنة والذين لم يستجيبوا مبتدا خبره لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ يوم القيامة لفكاك أنفسهم من النّار وعلى التأويل الثاني هذا كلام مبتدا لمال غير المستجيبين أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وهو ان يناقش فيه ولا يغفر من ذنبه شيء كذا قال ابراهيم النخعي وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) مهادهم وهو جهنم قال الله تعالى لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ-.
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هو الْحَقُّ فيؤمن به ويعمل بمقتضاه كَمَنْ هُوَ أَعْمى القلب لا يستبصر ولا يدرك الحق من الباطل- والهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أيشتبه امر الفريقين بعد ما ضرب من المثل فمن يعلم يكون عند المخاطب كمن هو أعمى لا- قيل نزلت الاية فى حمزة او عمار وابى جهل فالاول حمزة او عمار والثاني ابو جهل إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) اى ذووا العقول السليمة المنزهة عن شائبة الانف ومعارضة الوهم.
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ اى ما عوهدوا على أنفسهم يوم الميثاق من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى وما عاهد الله عليهم فى(5/230)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
كتبه من امتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) ما وثقوه من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبينهم وبين العباد فهو تعميم بعد تخصيص.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ هذا لفظ عام مندرج فيه الايمان بجميع الكتب والرسل بحيث لا يفرق بين أحد منهم- وموالاة المؤمنين وصلة الرحم- وقال البغوي الأكثرون على ان المراد به صلة الرحم- عن عبد الرّحمن بن عوف قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله عزّ وجلّ انا الله وانا الرّحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتّته- رواه ابو داود وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله الخلق- فلما فرغ منه قامت الرحم فاخذت بحقوى الرّحمن فقال مه- قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة- قال الا ترضين ان اصل من وصلك واقطع من قطعك- قالت بلى يا رب قال فذاك لك- متفق عليه وعن عبد الرّحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة تحت العرش يوم القيامة القران يحاج العباد (له ظهر وبطن) والامانة والرحم تنادى الا من وصلني وصله الله ومن قطعنى قطعه الله- رواه البغوي والحكيم ومحمّد بن نصر وعن انس بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أحب ان يبسط الله فى رزقه وينسأله فى اثره فليصل رحمه- متفق عليه وعن ابى أيوب الأنصاري قال عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى منزله فقال أخبرني ما يقرّ بنى من الجنة ويباعدنى من النار- فقال عليه السلام تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصل الرحم- رواه البغوي وعن عبد الله بن عمرو قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس الواصل المكافي ولكن الواصل إذا انقطعت رحمه وصلها- رواه البخاري وعن ابى هريرة قال قال رجل يا رسول الله من احقّ بحسن صحابتى- قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك وفى رواية أمك ثم أمك ثم أمك ثم «1» أبوك ثم أدناك وأدناك- متفق عليه وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من ابرّ البرّ صلة الرجل اهل ودّ أبيه بعد ان يولّى- رواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموا من انسابكم ما تصلون به أرحامكم فى صلة الرحم محبة فى الأهل مثراة فى المال منساة فى الأثر- رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب
__________
(1) فى الأصل ثم أباك(5/231)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ اى وعيده عموما وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل ان يحاسبوا-.
وَالَّذِينَ صَبَرُوا قال ابن عباس على ما أمروا به- وقال عطاء على المصائب والنوائب- وقيل عن الشهوات- وقيل عن المعاصي- والاولى ان يقدر على مخالفة الهوى فيعم جميع الأقوال ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ اى طلبا لمرضاته لا لغرض من اغراض الدنيا او رياء او سمعة وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة وما شاءوا من السنن والنوافل وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ اى بعضه فى الزكوة المفروضة والنفقات الواجبة والصدقات النافلة سِرًّا وَعَلانِيَةً السر أفضل فى النافلة والعلانية فى المفروضة نفيا للتهمة- وقدم السر على العلانية لان الغالب من حال المسلم الصدقة النافلة- وقلّ ما يجب على المسلم الزكوة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال ابن عباس اى يدفعون بالصالح من العمل السيّء نظيره قوله تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ- عن ابى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها- رواه احمد بسند صحيح وروى ابن عساكر عن عمر ابن الأسود مرسلا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا عملت عشر سيّئات فاعمل حسنة تحدرهن بها- وعن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان مثل الّذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته- ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة فانفكت اخرى حتّى طرح الى الأرض- رواه الطبراني وقال ابن كيسان معنى الاية يدفعون الذنب بالتوبة- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عملت سيئة فاحدث عندها توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية- رواه احمد فى الزهد عن عطاء مرسلا وقيل معناه لا يكافؤن الشر بالشر ولكن يدفعون الشر بالخير- وقال السدىّ معناه إذا سفه عليهم حلموا- فالسفه السيئة والحلم الحسنة- وقال قتادة ردوا عليه معروفا- نظيره قوله تعالى وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً- قال الحسن إذا حرموا اعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا- عن ابى هريرة ان رجلا قال يا رسول الله ان لى قرابة أصلهم ويقطعونى واحسن إليهم ويسيئون الىّ واحلم عنهم ويجهلون علىّ- قال لئن كنت كما قلت فكانما تسفهم المل ولا يزال(5/232)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
منك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك- رواه مسلم قال عبد الله بن المبارك هذه ثمان خلال مشيرة الى ثمانية أبواب الجنة أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) العقبى جزاء الأمر وأعقبه جازاه كذا فى القاموس- سمى جزاء الفعل عقبى لانه يعقبه لكن العقبة والعقبى والعاقبة مختصة بالثواب وخير الجزاء على الحسنة- كما ان العقوبة والمعاقبة والعقاب مختصة بالعذاب وسوء الجزاء على السيئة- قال الله تعالى فى الثواب خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً وقال أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ- وفَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وقال وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- وقال فى العذاب فَحَقَّ عِقابِ ... شَدِيدُ الْعِقابِ وقال وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وقال وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ- لكن بالاضافة يستعمل العاقبة فى العقوبة ايضا قال الله تعالى ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى وفَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ- فهو اما مستعمل بالاشتراك او يكون استعارة من ضده كقوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ والمراد بالدار النشئة الاخرة فانها المستقر بخلاف الدنيا فانها معبر- واضافة العقبى الى الدار بمعنى فى كمصارع مصر- والمعنى أولئك لهم جزاء حسن فى الدار الاخرة- والجملة خبر للموصولات ان رفعت بالابتداء وان جعلت صفات لاولى الألباب فاستيناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.
جَنَّاتُ «1» عَدْنٍ اى اقامة عطف بيان لعقبى الدار او مبتدا خبره يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على الضمير المرفوع فى يدخلون وساغ عند البصريين للفصل بالضمير المنصوب وقال الزجاج هو مفعول معه- والمراد بالصلاح نفس الايمان فحسب لاكمال الصلاح المراد بقوله أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بدليل العطف- فان العطف يقتضى المغائرة ولو كان المراد بالصلاح كما له لدخل المعطوف فى المعطوف عليه- فهذه الاية تدل على ان الله تعالى يعطى درجات الكاملين من لم يبلغ درجتهم ولم يعمل مثل أعمالهم من ابائهم وأزواجهم وذرياتهم تطييبا لقلوبهم وتعظيما لشأنهم بشرط ايمانهم- فان التقييد بالصلاح يفيد ان مجرد الأنساب لا تنفع بدون الايمان والأمهات تدخل فى حكم الآباء بدلالة النص- ويشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة الا سببى ونسبى- رواه
__________
(1) عن مجاهد قال قرا عمر على المنبر جنّت عدن فقال ايها الناس هل تدرون ما جنت عدن قصر فى الجنة له عشرة آلاف باب على كل باب خمسة وعشرون الفا من الحور العين لا يدخله الا نبى او صديق او شهيد- منه رحمه الله-(5/233)
الطبراني والحاكم والبيهقي عن عمر بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس وعن المسور بن مخرمة وروى ابن عساكر عن ابن عمر بسند صحيح بلفظ كل نسب وصهر ينقطع الا نسبى وصهرى- فان هذا الحديث يدل على ان قرابة غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يفيد يوم القيامة- وحل هذه الاشكال عندى ان المؤمنين كلهم أبناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ- وزاد أبيّ فى قراءته وهو اب لّهم- وقال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ- وقد ذكرنا فى تفسير سورة الكوثر ان العاص بن وائل حين قال فى النبي صلى الله عليه وسلم دعوه فانه رجل ابتر لا عقب له- فانزل الله تعالى فيه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ مع انه كان لعاص بن وائل عقب وهو عمرو هشام- وان تأويله ان عمرو هشاما أسلما فقد انقطعت بينه وبينهما حتّى لا يرثانه فهما من أبناء النبي صلى الله عليه وسلم- فعلى هذا معنى الحديث كل نسب وسبب منقطع الا سببى ونسبى ولو بواسطة يعنى نسبى ونسب ابنائى وان سقلوا وسببى ومن له منى سبب- فكانّ المراد ان قرابات الكفار وموالاتهم تنقطع دون قرابات المؤمنين وموالاتهم نظيره قوله تعالى- الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ...
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) من أبواب الجنة او من أبواب قصورهم او من أبواب الفتوح والتحف- قال مقاتل يدخلون عليهم فى مقدار يوم وليلة من ايام الدنيا ثلاث مرات معهم الهدايا والتحف قائلين.
سَلامٌ عَلَيْكُمْ فى موضع الحال بتقدير القول كما ذكرنا يعنى سلمكم الله من الآفات الّتي كنتم تخافونها ولا زوال لما أنعم الله عليكم بِما صَبَرْتُمْ متعلق بعليكم او بمحذوف اى هذا الثواب بما صبرتم عن المعاصي على الطاعات على خلاف الأهواء وعلى المصائب- وليس متعلقا بسلام فان الخبر فاصل والباء للسببية فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) عقباهم عن ابى امامة قال ان المؤمن ليكون على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سلطان من خدم- وعند طرف السماطين باب مبوّب- فيقبل الملك من ملائكة الله تعالى يستأذن فيقوم ادنى الخدم الى الباب فاذا هو بالملك يستأذن فيقول للذى يليه ملك يستأذن ويقول للذى يليه ايذنوا له كذلك حتّى يبلغ أقصاهم الّذي عند الباب- فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف- رواه البغوي وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء(5/234)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
المهاجرين الذين تسربهم الثغور وتتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله لمن يشاء من ملائكته ايتوهم فحيوهم فيقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء وسلم عليهم قال الله تعالى انهم كانوا عبادا يعبدوننى ولا يشركون بي شيئا وتسربهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك ف يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ يعنى مقابلى الأولين مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ اى بعد ما أوثقوه به من الإقرار والقبول وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ويفرقون بين الله ورسوله ويقطعون الأرحام وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعملون بالمعاصي ويهلكون الحرث والنسل ويقطعون السبيل ويبغون بغير الحق- عن ابى بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من ذنب أحرى ان يعجل الله لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدخر له فى الاخرة من البغي وقطيعة الرحم- رواه احمد والبخاري فى الأدب وابو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان- وعن جبير بن مطعم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قاطع رحم- متفق عليه وعن عبد الله بن ابى اوفى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا ينزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم- رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مد من خمر- رواه النسائي والدارمي- أولئك لهم اللّعنة البعد من رحمة الله عزّ وجلّ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) يعنى الجزاء السوء فى الدار الاخرة وهو نار جهنم-.
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ اى يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وَفَرِحُوا يعنى اهل مكة أشروا وبطروا بِالْحَياةِ الدُّنْيا اى بما بسط لهم من الرزق وغيره فى الدار الدنيا ولم يشكروا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي جنب الحيوة الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ (26) اى متعة لا تدوم كعجالة الراكب وزاد الراعي-(5/235)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
لا يصلح نعيمها لان يقنع عليها ويهمل السعى للاخرة- ويفرح بها ويبطر بل ينبغى ان تصرف فيما يستوجبون به نعيم الاخرة-.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما راوا المعجزات الباهرة والآيات القاطعة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمّد صلى الله عليه وسلم آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يشهد له يعنى اقترحوا الآيات عنادا وتعنتا قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ يعنى لا قصور فى نزول الآيات وقيام الشواهد لكن الآيات لا توجب الهداية- انما الهداية والضلالة بيد الله تعالى يضل من يشاء ممن كان على صفتكم فلا سبيل الى اهتدائهم وان أنزلت كل اية وَيَهْدِي إِلَيْهِ اى الى الايمان به وطاعته والترقي الى مدارج قربه والى جنته مَنْ أَنابَ (27) يعنى من يشاء الله انابته فاناب يعنى اقبل اليه بقلبه ورجع عن العناد- فالله يهديه بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات.
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من قوله من أناب او خبر مبتدا محذوف وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ يعنى يستقر فيها الايمان واليقين ويزول عنه الريب والشك بذكر الله تعالى يعنى القران- فان الايمان طمانية والنفاق شك وريبة- او المعنى يزول وساوس الشيطان عن قلوب المؤمنين بذكر الله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من آدميّ الا ولقلبه بيتان- فى أحدهما الملك وفى الاخر الشيطان فاذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكر الله وضع الشيطان منقاره فى قلبه فوسوس له- رواه ابن ابى شيبة فى المصنف عن عبد الله بن شقيق ورواه البخاري تعليقا عن ابن عباس مرفوعا بلفظ الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فاذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس- او المعنى ان القلوب الصافية للمؤمنين انما قوتهم ذكر الله تعالى فاذا ذكروا الله تطمئن قلوبهم أنسا به تعالى كاطمينان السمك فى الماء- وحيوان البر فى الهواء- والوحش فى الصحراء- وإذا غشيهم غاشية توجب الغفلة او ابتلوا بصحبة اهل الغفلة لحق قلوبهم اضطراب وقلق- كما يلحق الاضطراب للسمك خارج الماء ولحيوان البر فى الماء وللوحش فى القفص- وهذه الحالة بديهية من الوجدانيات لخدام الصوفية العلية- فالمراد بقوله الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ هم الصوفية أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) اى القلوب المزكّية قال البغوي فان قيل أليس قد قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ(5/236)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
فكيف يكون الطمأنينة والوجل فى حالة واحدة- قيل الوجل عند ذكر الوعيد والعقاب والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب- فالقلب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه- وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه- وهذا الكلام يقتضى المنافاة بين الطمأنينة والوجل- وعندى لا منافاة بينهما فان الطمأنينة المبنية على الانس يجتمع مع الوجل- وايضا الخوف والرجاء يجتمعان فى حالة واحدة- عن انس قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شابّ وهو فى الموت- فقال كيف تجدك قال أرجو الله يا رسول الله وانى أخاف ذنوبى- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان فى قلب عبد فى مثل هذا الموطن الا أعطاه الله ما يرجو وامنه مما يخاف- رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث غريب-.
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ فعلى من الطيب مصدر طاب يطيب كبشرى وزلفى قلبت ياؤه واو الضمة ما قبلها- ومحله الرفع او النصب كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما عليك وسلام عليك- واللام فى لهم للبيان نحو سقيا لك- ومعناه على قول ابن عباس فرح لهم وقرة عين- وقال عكرمة نعم مالهم- وقال قتادة حسنى لهم- وقال معمر عن قتادة يقول الرجل طوبى لك إذا أصبت خيرا- وقال ابراهيم خير لهم وكرامة- وقال سعيد بن جبير طوبى اسم الجنة بالحبشية- وقال البغوي روى عن ابى امامة- وابى هريرة وابى الدرداء رضى الله عنهم قالوا طوبى شجرة «1» فى الجنة يظلّ الجنان كلها- وقال عبيد بن عمير هى شجرة فى جنة عدن أصلها فى دار النبي صلى الله عليه وسلم وفى كل دار وغرفة غصن منها- لم يخلق الله لونا ولا زهرة الا وفيها منها الا السواد- ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة الا وفيها منها- ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل وقال مقاتل كل ورقة منها يظل امة- عليها ملك يسبح الله بانواع التسبيح- اخرج احمد وابن حبان والطبراني وابن مردوية والبيهقي عن عتبة ابن عبد الله السلمى قال قال أعرابي يا رسول الله فى الجنة فاكهة- قال نعم فيها شجرة طوبى يطابق الفردوس- قال اىّ شجرة ارضنا يشبه- قال ليس يشبه شيئا من شجر أرضك ولكن
__________
(1) عن ابن عمر قال ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبى فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى قال الله ورسوله اعلم قال شجرة فى الجنة لا يعلم طولها الا الله فيسير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ورقها الحلل يقع عليها كامثال البخت قال ابو بكر ذلك الظّئر باعم قال أنعم منه من أكله وأنت منهم يا أبا بكر إنشاء الله- ازالة الخفا- منه رحمه الله(5/237)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
أتيت الشام قال لا- قال فانها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينشر أعلاها- قال ما عظم أصلها قال لو ارتحلت برمة من ابل أهلك ما أحطت بأصلها حتّى تنكسر ترقوتا هرما- قال فهل فيها عنب- قال نعم قال ما عظم العنقود منها- قال مسيرة شهر للغراب الا يقع قال ما عظم الجثة منها قال هل ذبح أبوك تيسا من غنمه عظيما قط- قال نعم قال فاسلخ إهابه فاعطى أمك فقال ادبغى هذا ثم افرى لنا منه دلوا نروى فيه ما شينا ... قال فان تلك الحبة يشبعنى واهل بيتي قال نعم وعامة عشيرتك- وروى عن ابى سعيد الخدري رضى الله عنه قال ان رجلا سال النبي صلى الله عليه وسلم ما طوبى قال شجرة فى الجنة مسيرة مائة سنة- ثياب اهل الجنة تخرج من أكمامها- رواه ابن حبان وعن معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وان أغصانها ليرى من وراء سور الجنة- وروى البغوي بسنه عن ابى هريرة قال ان فى الجنة شجرة يسير الراكب فى ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرءوا ان شئتم وظلّ مّمدود- متفق عليه وأخرجه احمد وزاد فى آخره وان ورقها ليخمر الجنة- واخرج البغوي وهناد بن سرى فى الزهد وزاد فى آخره فبلغ ذلك كعبا فقال صدق والّذي انزل التورية على موسى والقران على محمّد صلى الله عليه وسلم- لو ان رجلا ركب حقة او جذعة ثم أدار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتّى يسقط هرما- ان الله غرسها بيده ونفخ فيها من روحه وان أفنانها لمن وراء سور الجنة- ما فى الجنة نهر الا وهو يخرج من اصل تلك الشجرة- وعن ابى هريرة قال فى الجنة شجرة يقال لها طوبى يقول لها الله تعالى تفتقى لعبدى عما يشاء فتفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما يشاء- وتفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما يشاء- وعن الثياب- رواه ابن ابى الدنيا والبغوي واخرج ابن المبارك وابن جرير عن شهر بن حوشب قال طوبى شجرة فى الجنة كل شجرة الجنة من أغصانها من وراء سرر الجنة وَحُسْنُ مَآبٍ (29) اى حسن المنقلب-.
كَذلِكَ يعنى مثل ارسالنا الرسل قبلك أَرْسَلْناكَ يا محمّد فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أرسلوا إليهم فليس ارسالك امرا مبدعا لِتَتْلُوَا لتقرا عَلَيْهِمُ القران الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ(5/238)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
بِالرَّحْمنِ
وحالهم انهم يكفرون بالبليغ الرحمة الّذي أحاطت بهم نعمته ووسع كل شيء رحمته- فلم يشكروا نعمته خصوصا لم يشكروا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القران الّذي هو مناطا لمنافع الدينية والدنياوية عليهم- قال البغوي قال قتادة ومقاتل وابن جريح نزلت الاية فى صلح الحديبية- وكذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن قتادة وذلك ان سهل بن عمرو لما جاء واتفقوا على ان يكتبوا كتاب الصلح كما ذكرنا القصة فى سورة الفتح- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلىّ اكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم- قالوا لا نعرف الرّحمن الا صاحب اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب اكتب كما كنت تكتب باسمك اللهم- فهذا معنى قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ- قال البغوي والمعروف ان الاية مكية وسبب نزولها ان أبا جهل سمع محمّدا صلى الله عليه وسلم وهو فى الحجر يدعو يا الله يا رحمان فرجع الى المشركين فقال ان محمّدا يدعو الهين يدعو الله ويدعو الرّحمن ولا نعرف الرّحمن الا رحمان اليمامة- فنزلت هذه الاية ونزلت قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى - وروى الضحاك عن ابن عباس انها نزلت فى كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ ... قُلْ يا محمّد هُوَ رَبِّي اى الرّحمن الّذي انكرتم معرفته هو خالقى ومتولى امرى لا إِلهَ لا يستحق العبادة إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اعتمدت فى نصرتى عليكم وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) توبتى او اليه مرجعى فيثيبنى- قرا يعقوب متابى وعقابى ومابى بالياء فى الحالين والباقون يحذفونها- اخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم ان كان كما تقول فارنا أشياخنا الاول نكلمهم من الموتى وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة فنزلت.
وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الاية واخرج ابن ابى حاتم وابن مردوية عن عطية العوفى قال قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم لو سيّرت جبال مكة حتّى يتسع فنحرث فيها او قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح وأحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه فانزل الله تعالى هذه الاية- وذكر البغوي مبسوطا ان الاية نزلت فى نفر من مشركى مكة منهم ابو جهل بن هشام وعبد الله بن امية جلسوا خلف الكعبة فارسلوا(5/239)
الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عبد الله بن امية ان سرّك ان نتبعك فسيّر جبال مكة بالقران حتّى ينفسح فانها ارض ضيّقة لمزارعنا- واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا لنغرس فيها الأشجار ونزرع ونتخذ البساتين- فلست كما زعمت باهون على ربك من داود سخرت له الجبال تسبح معه- او سخّر لنا الريح فنركبها الى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع فى يومنا- فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت ولست باهون على ربك من سليمان- واحيى لنا جدك قصيّا او من شئت من موتانا لنسئله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل- فان عيسى كان يحى الموتى ولست باهون على الله منه- فانزل الله تعالى هذه الاية- واخرج ابو يعلى فى مسنده من حديث الزبير بن العوام بمعناه يعنى لو ثبت ان قرانا يعنى كتابا من الكتب السماوية سيرت به الْجِبالُ اى أزيلت عن مقارها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ فى السير بان يسخر الله الريح فيركبونها ويقطعون الأرض او شققت الأرض فجعلت أنهارا وعيونا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى اى أحيا به الموتى حتّى تكلموا- تذكير كلّم خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي- بل المراد به قصىّ «1» وأمثاله- وجواب الشرط محذوف يعنى لكان هذا القران لانه الغاية فى الاعجاز لكن الله سبحانه لم يقدّر كذلك- او لما أمنوا نظيره قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ «2» الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا- وقيل الجواب مقدم وهو قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وما بينهما اعتراض- كانّه قال لو سيرت به الجبال لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا- لما كتبناه عليهم من الشقاء ولان مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضلّ فانى لهم الهداية بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إضراب عن كلام مقدر يدل عليه معنى لو من نفى تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى- تقديره ليس ذلك النفي لكون الأمور المذكورة غير مقدورة لله تعالى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً فهو قادر على ما اقترحوا من الآيات وكل شيء سواه الا ان إرادته لم يتعلق بذلك لعلمه بانهم لا يؤمنون ولو يروا كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ- او لان الله تعالى لم يرد هدايتهم «3» - قال البغوي ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا فى ان يفعل الله ما سالوا حتّى يؤمنوا فانزل الله تعالى أَفَلَمْ يَيْأَسِ قرا البزي بفتح الياء من غير همز الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) فى الأصل قصيّا-[.....]
(2) فى الأصل عليهم-
(3) فى الأصل سخر له(5/240)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
عن ايمانهم حتّى طمعوا ذلك مع ما راوا من أحوالهم انهم راوا من الآيات ما هو أعظم من ذلك فلم يؤمنوا الا ترى ان انشقاق القمر باشارة النبي صلى الله عليه وسلم أشد اعجازا من تسيير الجبال وتقطيع الأرض- وتكليم الحصى أشد إعجازا من تكليم الموتى وغير ذلك ما لا يحصى أَنَّ مخففة من الثقيلة اى انه لَوْ يَشاءُ اللَّهُ متعلق بمحذوف تقديره أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا من ايمانهم علما منهم أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً او متعلق بامنوا وان مصدرية يعنى الذين آمنوا بان لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً- وقال اكثر المفسرين معنى افلم يايئس أفلم يعلم- قال الكلبي هى لغة النخع وقيل لغة هو اذن وأنكر الفراء ان يكون بمعنى العلم وزعم انه لم يسمع أحدا من العرب يقول يئست بمعنى علمت ويمكن ان يقال انه استعمل الإياس بمعنى العلم مجازا لانه مسبب عن العلم فان المأيوس عنه لا يكون الا معلوما ولذلك علقه بقوله أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ اى انه لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً والسبب لهذا القول ما اخرج ابن جرير عن علىّ وابو عبيدة وسعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس انهما قرا افلم يتبيّن الّذين آمنوا ان لّو يشاء الله لهدى النّاس جميعا فكانه تفسير لقوله (افلم «1» يياسوا) والله اعلم- وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر والأعمال الخبيثة قارِعَةٌ اى داهية تقرعهم من انواع البلاء أحيانا بالجدب وأحيانا بالسلب وأحيانا بالقتل والاسر- قال ابن عباس أراد بالقارعة السرايا الّتي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعتهم إليهم أَوْ تَحُلُّ يعنى القارعة من السرايا وغير ذلك قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيقرعون منها ويتطاء إليهم شررها- وقيل معناه او تحل أنت يا محمّد بنفسك الكريمة قريبا من دارهم وقد حلّ بالحديبية والاية على هذا وعلى ما قال ابن عباس فى كفار مكة حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ اى الموت او القيامة ان كانت الاية عامة او فتح مكة ان كانت فى كفار مكة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) لامتناع الكذب والخلف فى كلامه ولمّا كان الكفار يسئلون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء انزل الله تعالى تسلّية للنبى صلى الله عليه وسلم.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما يستهزءون بك فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الملوة المدة الطويلة من الدهر ومنه الملوان الليل والنهار
__________
(1) فى الأصل هكذا وفى الاية أَفَلَمْ يَيْأَسِ-(5/241)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
باعتبار امتدادهما- وليست الملوان حقيقة الليل والنهار بدليل قول الشاعر نهار وليل دائم ملوهما «1» على كل حال المرء يختلفان- فلو كانا الليل والنهار لما أضيف الى ضميرهما فمعنى فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا تركتهم فى مدة من الدهر من غير تعذيب وأمهلتهم ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) عقابى إياهم اى هو واقع موقعه فكذلك افعل بمن استهزا بك.
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ رقيب عليه بِما كَسَبَتْ من خير وشر لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ولا يفوت عنده شيء من جزائهم والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك- والاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أتشركون بالله أصناما فتجعلون من هو قائم على كلّ نفس لمن ليس كذلك وهو جماد عاجز عن نفسه يعنى ليس كذلك فلا تشركوا به وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ استيناف او لطف على كسبت ان جعل ما مصدرية- او على مقدر تقديره لم يوحدوه وجعلوا لله شركاء- ويكون الظاهر فيه موضع الضمير للتنبيه على انه المستحق للعبادة قُلْ سَمُّوهُمْ يعنى صفوهم فانظروا هل هم يستحقون العبادة ويستأهلون الشركة أَمْ تُنَبِّئُونَهُ اى بل أتخبرون الله بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ اى بشركاء يستحقون العبادة لا يعلمهم الله- او بصفات للاصنام يستحقون العبادة لاجلها لا يعلمها الله- وهو العالم بكل ما هو كائن أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أم تسمونها شركاء بظاهر من القول مسموع ليس لها مصداق أصلا- كتسمية الزنجي كافورا- وقيل معناه بباطل من القول قال الشاعر
وعيرنى الواشون الى أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عاريها
- اى باطل بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى زين لهم الشيطان مَكْرُهُمْ اى كيدهم وتمويهم فتخيلوا أباطيل او كيدهم للاسلام بشركهم وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ قرا الكوفيون بضم الصاد هاهنا وفى حم المؤمن اى صرفوا عن الدين صرفهم الله تعالى وأضلهم الشيطان- وقرا الباقون بالفتح اى صدوا الناس عن الايمان وطريق الهدى وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بخذ لانه إياه فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) يوفقه للهدى.
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالقتل والاسر وضرب الجزية وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أشد وأدوم منه
__________
(1) فى الأصل ملوها-(5/242)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ
اى من عذابه- او من رحمته مِنْ واقٍ
(34) حافظ-.
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ اى صفتها الّتي هى مثل فى الحسن والغرابة- مبتدا خبره محذوف عند سيبويه- اى فيما يقص عليكم وما بعده حال من العائد المحذوف من الصلة- وقيل خبره تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على طريقة قولك صفة زيد اسمه- او على حذف الموصوف اى مَثَلُ الْجَنَّةِ جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ- او يقال لفظ المثل زائد والمعنى (الجنّة الّتي وعد المتّقون تجرى من تحتها الانهر أكلها) اى ثمرها دائِمٌ لا ينقطع- اخرج البزار والطبراني عن ثوبان انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا ينزع رجل من اهل الجنة ثمرها الا أعيد فى مكانها مثلها- وفى هذه الاية والحديث رد على الجهمية حيث قالوا ان نعيم الجنة يفنى وَظِلُّها اى وظلها كذلك لا ينسخ كما ينسخ فى الدنيا بالشمس- اخرج البيهقي عن شعيب بن الجيحان قال خرجت انا وابو العالية الرياحي قبل طلوع الشمس فقال نبّئت ان الجنة هكذا ثم تلا وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ... تِلْكَ اى الجنة الموصوفة بما ذكرنا عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا اى جزاؤهم او مالهم ومنتهى أمرهم وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) ان كان العقبى بمعنى الجزاء فاستعماله هاهنا على سبيل الاستعارة- كما فى قوله تعالى.
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ «1» - وفَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم- او مؤمنوا اهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه ومن أمن من النصارى من اهل الحبشة وغيرهم يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القران لموافقته ما عندهم وَمِنَ الْأَحْزابِ يعنى الكفار الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- او الذين كفروا من اليهود والنصارى ككعب بن الأشرف وأصحابه- والسيد والعاقب وأمثالهما مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما يخالف أهواءهم- او ما يخالف شرائعهم من شريعتنا ونبوة محمّد صلى الله عليه وسلم- قال البغوي قال جماعة كان ذكر الرّحمن قليلا فى القران فى الابتداء- فلمّا اسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره فى القران مع كثرة ذكره فى التورية
__________
(1) فى الأصل يعملون-(5/243)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
فلما كرر الله ذكره فى القران فرحوا به- فانزل الله تعالى هذه الاية- وقيل المراد بقوله ومن الأحزاب من ينكر بعضه يعنى مشركى مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كتاب الصلح بسم الله الرّحمن الرّحيم- قالوا لا نعرف الرّحمن الا رحمان اليمامة يعنى مسيلمة الكذّاب فانزل الله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ ... - وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ- وانما قال بَعْضَهُ لانهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرّحمن قُلْ يا محمّد إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ اى بان أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ الاية ان كان فى جواب منكرى اهل الكتاب فالمعنى قل لهم انى أمرت فيما انزل الىّ ان اعبد الله واوحّده- وهو العمدة فى الدين ولا سبيل لكم الى إنكاره- واما ما تنكرونه مما يخالف شرائعكم من الاحكام فليس ببدع- فان الشرائع والكتب السماوية ينسخ بعضها بعضا فى جزئيات الاحكام- وان كان فى عامة الكفار فالمعنى انى أمرت ان اعبد الله وحده- وذكره بأسماء كثيرة من الله والرّحمن والرّحيم لا ينافى التوحيد فانكاركم على اسم الرّحمن لا معنى له- ولعل انكارهم ذكر الرّحمن مبنى على ان استعدادهم يأبى عن رحمة الله تعالى إِلَيْهِ أَدْعُوا الناس لا الى غيره وَإِلَيْهِ لا الى غيره مَآبِ (36) مرجعى ولا سبيل الى انكار ذلك.
وَكَذلِكَ اى مثل انزالنا الكتب السابقة بلغات من أرسل إليهم أَنْزَلْناهُ اى القران عليك حُكْماً فى القضايا والوقائع والحلّ والحرمة وغيرها على ما يقتضيه الحكمة عَرَبِيًّا مترجما بلسان قومك العرب ليسهل لك ولقومك فهمه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فيما أنكروا عليك فرضا بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) يعنى ناصر وحافظ يقيك ويمنع العقاب عنك روى ان اليهود قالوا ان هذا الرجل ليس له همة الا فى النساء فانزل الله تعالى.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ بشرا مثلك لا ملائكة وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً اى نساء وأولادا كما هى لك وَما كانَ لِرَسُولٍ اى ما صح له ولم يكن فى وسع أحد منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ يقترح عليه وحكم يلتمس منه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لانهم عبيد مربوبون لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) اى لكل أمد- ولوقت كل شيء كتاب كتب الله(5/244)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
فى الأزل بدايته ونهايته- يعنى كتب الله فى الأزل انّ زيدا يولد فى وقت كذا ويبقى منذ كذا كافرا ويسلم فى وقت كذا ونحو ذلك- وكذا لنزول اية من القران او معجزة قضى وجوده وقت مكتوب عند الله لا يتقدمه ولا يتاخر وان استعجل الناس- وجاز ان يكون هذا متعلقا بقوله تعالى وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ على ان يكون تلك الاية فى انكار اهل الكتاب على احكام يخالف احكام التورية يقول الله لكل أمد ووقت حكم يكتب على العباد على ما يقتضى استصلاحهم-.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قرا ابن كثير وابو عمرو ويعقوب وعاصم يثبت بالتخفيف من الافعال- والباقون بالتشديد من التفعيل- واختلفوا فى معنى الاية قال سعيد بن جبير وقتادة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ من الفرائض والشرائع فينسخه ويبدّله ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه- وهذا يناسب التأويل الثاني للاية المتقدمة عليها- وقال ابن عباس يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ يعنى مما كان فى اللوح- فما كان مكتوبا قابلا للمحو يسمى بالقضاء المعلق- يمحوه الله تعالى بايجاد ما علق محوه به- سواء كان ذلك التعليق مكتوبا فى اللوح او مضمرا فى علم الله تعالى- وما ليس قابلا للمحو يسمى بالقضاء المبرم- وذلك القضاء لا يرد قال ابن عباس يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الا الرزق والاجل والسعادة والشقاوة يعنى انها «1» لا تمحى- قال البغوي روينا عن حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال يدخل الملك على النطفة بعد ما يستقر فى الرحم بأربعين او خمسة وأربعين ليلة- فيقول يا رب أشقى أم سعيد فيكتبان- فيقول اى رب اذكر أم أنثى فيكتبان- ويكتب عمله واثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص- وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة- ثم تكون علقة مثل ذلك- لم تكون مضغة مثل ذلك- ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأحله ورزقه وشقى او سعيد- ثم
__________
(1) واخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الا الشقاوة والسعادة والحياة والموت- واخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله عن رباب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يمحوا من الرزق ويزيد فيه ويمحوا من الاجل ويزيد فيه- واخرج ابن مردوية عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قال ذلك كل ليلة القدر يرفع ويجير ويرزق غير الحيوة والموت والشقاوة والسعادة فان ذلك لا يبدل- منه رحمه الله(5/245)
ينفخ فيه الروح الحديث- وقال البغوي وعن عمرو ابن مسعود انهما قالا يمحو السعادة والشقاوة ايضا ويمحو الرزق والاجل ويثبت ما يشاء- وروى عن عمر انه كان يطوف بالبيت وهو يبكى ويقول اللهم ان كنت كتبتنى فى اهل السعادة فاثبتنى فيها- وان كنت كتبت علىّ الشقاوة فامحنى وأثبتني فى اهل السعادة والمغفرة فانك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب- ومثله عن ابن مسعود وفى بعض الآثار ان الرجل قد يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فيرد الى ثلاثة ايام- والرجل قد يكون قد بقي له من عمره ثلاثة ايام فيصل رحمه فيمد الى ثلاثين سنة- ثم روى البغوي بسنده الى ابى الدرداء رضى الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل الله فى اخر ثلاث ساعات يبقين من الليل- فينظر فى الساعة الاولى منهن فى الكتاب الّذي لا ينظر فيه أحد غيره- فيمحو ما يشاء ويثبت- اخرج ابن مردوية عن علىّ انه سال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية فقال لا قرن عينك بتفسيرها ولا قرن عين أمتي من بعدي بتفسيرها- الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ويزيد فى العمر- قلت ويوافق مذهب عمر وابن مسعود رضى الله عنهما ما ذكر فى المقامات المجددية ان المجدد رضى الله عنه نظر ببصيرة الكشف مكتوبا فى ناصية ملا طاهر اللاهورى شقى- وكان ملا طاهر معلما لابنيه الكريمين محمّد سعيد ومحمّد معصوم رضى الله عنهما- فذكر المجدد رضى الله عنه ما ابصر لولديه الشريفين- فالتمسا منه رضى الله عنهم ان يدعو الله سبحانه ان يمحو عنه الشقاوة ويثبت مكانه السعادة- فقال المجدد رضى الله عنه نظرت فى اللوح المحفوظ فاذا فيه انه قضاء مبرم لا يمكن رده- فالجا ولداه الكريمان فى الدعاء لما التمسا منه- فقال المجدد رضى الله عنه تذكرت ما قال غوث الثقلين السيد السند محى الدين عبد القادر الجيلي رضى الله عنه ان القضاء المبرم ايضا يرد يدعونى- فدعوت الله سبحانه وقلت اللهم رحمتك واسعة وفضلك غير مقتصر على أحد- ارجوك وأسئلك من فضلك العميم ان تجيب دعوتى فى محو كتاب الشقاء من ناصية ملا طاهر- واثبات السعادة مكانه- كما أجبت دعوة سيد السند رضى الله عنه- قال فكانى انظر الى ناصية ملا طاهر انه محيى منها كلمة شقى وكتب مكانه سعيد(5/246)
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ- ثم أشكل علىّ هذا الأمر وقلت ما معنى رد القضاء المبرم بدعاء أحد فانه لا مرد لقضائه تعالى المبرم بوجه من الوجوه- والا لا يكون المبرم مبرما- وهذا خلف او يلزم المحال- فالهمنى الله تعالى حل ذلك الاشكال ان القضاء المعلق نوعان- أحدهما ما كتب فى اللوح المحفوظ تعليقه وكتب ان رد هذا القضاء معلق بامر كذا- وثانيهما ما لم يكتب تعليقه فى اللوح- فهو فى اللوح على صورة المبرم ومعلق محوه وإثباته فى علم الله تعالى- فما قال السيد السند رضى الله عنه ان القضاء المبرم يرد بدعوتي- فذلك القضاء هو الّذي فى اللوح فى صورة المبرم وليس مبرما فى علم الله تعالى- وكان شقاوة ملا طاهر من هذا القبيل مبرما فى اللوح معلقا محوه بدعاء المجدد رضى الله عنه فى علم الله تعالى والله اعلم وقال الضحاك والكلبي معنى الاية ان الحفظة يكتبون جميع اعمال ابن آدم وأقواله فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب- مثل قوله أكلت وشربت دخلت وخرجت ونحوها من كلام هو صادق فيه- ويثبت ما فيه ثواب او عقاب- قال الكلبي يكتب القول كله حتّى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيها ثواب ولا عقاب- وقال عطية عن ابن عباس رضى الله عنهما هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود يعصيه فيموت على ضلاله فهو الّذي يمحو- ورجل يعمل بطاعة الله فيموت وهو فى طاعته فهو الّذي يثبت- روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلب واحد يصرّفه كيف يشاء- ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك- وقال الحسن يمحو ما يشاء اى من جاء اجله يذهب به ويثبت من لم
يجئ اجله الى اجله- وعن سعيد بن جبير قال يمحو ما يشاء من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها- وقال عكرمة يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ويثبت بدل الذنوب حسنات- كما قال فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ- روى مسلم عن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغائر ذنوبه فيعرض عليه صغائرها وتخبأ عنه كبائرها- فيقال عملت يوم كذا كذا وكذا وهو يقرّ وليس ينكر وهو مشفق من الكبائر ان تخيى- فقال أعطوه مكان كل سيئة حسنة فيقول ان لى ذنوبا(5/247)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
لا أراها هاهنا- فلقد رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتّى بدت نواجذه- قلت ولعل هذا فى من انغمس فى بحار المحبوبية الصرفة من الصوفية العلية- وقال السدى يمحو الله ما يشاء يعنى القمر ويثبت يعنى الشمس بيانه قوله تعالى فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً- وقال الربيع هذا فى الأرواح يقبضها الله تعالى عند النوم- فمن أراد موته محاه فامسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده الى صاحبه- بيانه قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الاية- وقيل معناه يمحو من كتاب الحفظة من اعمال العباد ما عمل رياء وسمعة ويثبت ما عمل لوجه الله خالصا- وقيل يحو قوما ويثبت قوما وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) اى اصل الكتاب وهو علم الله- كذا قال كعب حين ساله ابن عباس عن أم الكتاب- وقال عكرمة عن ابن عباس هنا كتابان كتاب سوى أم الكتاب يمحو منه ما يشاء ويثبت وأم الكتاب الّذي لا يغير منه شيء- قال البغوي اللوح المحفوظ الّذي لا يبدل ولا يغير- وعن عطاء عن ابن عباس قال ان لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت- لله فيه كل يوم ثلاثمائة وثلاثون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت-.
وَإِنْ ما فيه ادغام نون ان الشرطية فى ما الزائدة نُرِيَنَّكَ قبل موتك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من تعذيبهم ومغلوبيّتهم فى الدنيا واستيلاء اهل الإسلام كما أراه «1» صلى الله عليه وسلم هزيمتهم وقتلهم واسرهم يوم بدر- الموعود بقوله تعالى سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ- وجواب الشرط محذوف اى فذك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل حلول ما نعدهم ثم نعذبهم فلا تغتم باعراضهم ولا تستعجل بعذابهم فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ لا غير وقد أتيت به وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) والجزاء يوم القيامة فنجازيهم إذا صاروا إلينا ليس ذلك عليك.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعنى كفار مكة أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قال البغوي اكثر المفسرين على ان المراد منه فتح ديار الشرك- فان ما زاد فى ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك- وتقدير الكلام على هذا ينكرون ما نعدهم بانهم سينفقون أموالهم ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ- ... أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ اى نقصد ارض الكفرة نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بما نفتحه على المسلمين منها أرضا بعد ارض حوالى ارضهم فلا يعتبرون- هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة وفيه تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم حتّى لا يهتم ويعلم ان الله يتم ما وعده من الظفر- وقال قوم هو خراب الأرض ومعناه الا يخافون ان نهلكهم ونخرب ديارهم وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ فنخريها ونهلك أهلها ومثل
__________
(1) فى الأصل راه-(5/248)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
ذلك قال مجاهد والشعبي وَاللَّهُ يَحْكُمُ فى خلقه ما يشاء لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يعنى لا راد لقضائه ولا ناقض لحكمه- والمعقّب الّذي يعقّب الشيء ويكر عليه بالابطال- والمعنى انه تعالى حكم للاسلام بالإقبال وعلى الكفر بالادبار وذلك كائن لا مرد له- ومحل لا مع المنفي «1» النصب على الحال اى يحكم نافذا حكمه وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) فيحاسبهم فى الاخرة بعد ما يعذبهم بالقتل والاسر والاجلاء فى الدنيا.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل مشركى مكة مكر كفار الأمم السابقة بانبيائهم والمؤمنين منهم كما مكر هؤلاء لك- والمكر إيصال المكروه الى أحد من حيث لا يشعر فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً اى عند الله جزاء مكرهم وقيل معناه ان الله خالق مكرهم جميعا بيده الخير والشر ومن عنده النفع والضرّ فلا يضر مكر أحد أحدا الا باذنه فمكرهم كلا مكر يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فيجازيه على حسب عمله فهذا هو المكر كله لانه يأتيهم من حيث لا يشعرون وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ قرا ابن عامر والكوفيون بصيغة الجمع واهل الحجاز وابو عمرو الكفر على التوحيد بارادة الجنس لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) اى لمن جزاء الحسنات فى الدار الاخرة من الفئتين- حين يأتيهم العذاب المعهود وهم فى غفلة منه والمؤمنون يدخلون الجنة- وهذا كالتفسير لمكر الله بهم.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كفار مكة وقيل رءوساء اليهود لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ يا محمّد كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الباء زائدة دخلت على الفاعل وشهيدا تميز من النسبة والمعنى كفى شهادة الله تعالى بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقى فانه اظهر من الادلة على رسالتى ما يغنى عن شاهد يشهد عليها- وانه تعالى هو الحاكم يوم الجزاء فلا يكون لهم عند الله عذر يومئذ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) عطف على الله والمراد مؤمنوا اهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله- يعنى ويشهد ايضا المؤمنون من أحبار اليهود ولا يضر انكار الكافرين منهم- لان اقرار من أقر منهم لا تهمة فيه أصلا- واما انكار الكفار منهم فمبنى على الحسد والعناد لاجل المال والجاه- ولاجل هذا التأويل قيل هذه الاية من هذه السورة مدنية وان كانت سائرها مكية وأنكر الشعبي وابو بشر هذا التأويل- قالا السورة مكية وعبد الله بن سلام اسلم بالمدينة- قلت لو سلمنا كون الاية مكية فلا مانع ان يكون المراد بالموصول اهل الكتاب- كانّه ارشاد لكفار مكة بانه ان لم يستيقنوا برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فاسئلوا اهل الكتاب سيشهد لكم ثقات منهم- وقال الحسن ومجاهد وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ هو الله تعالى والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ والمعنى كفى شهيدا الّذي يستحق العبادة- ومن لا يعلم ما فى اللوح الا هو فتجزى الكاذب منّا- ويؤيده قراءة الحسن وسعيد بن جبير من عنده بكسر الميم والدال على ان من جارة وعلم الكتب على صيغة الفعل الماضي المجهول والله اعلم تمت تفسير سورة الرعد عاشر ربيع الثاني سنة الف ومائتين واثنين سنة 1202 وسيتلوها سورة ابراهيم عليه السلام ان شاء الله تعالى-
__________
(1) فى الأصل مع النفي-(5/249)
فهرس سورة ابراهيم عليه السلام من التفسير المظهرى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مضمون صفحة حديث الناس تبع لقريش فى الخير والشر 3 حديث من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة 4 حديث الناس تبع لكم يا اهل المدينة فى العلم 4 حديث الشيخ فى اهله كالنبى فى أمته 4 حديث العلماء ورثة الأنبياء 4 حديث ان الناس لكم تبع 4 صبار شكور عنوان المؤمن 5 ما ورد من الأحاديث فى الصبر والشكر 5 ما ورد فى فضل التسبيح والتحميد والتهليل 17 فى تفسير الكلمة الطيبة 17 حديث الشجرة الطيبة النخلة 17 حديث ان من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وانها مثل المسلم 17 حديث من قال سبحان الله العظيم غرست له نخلة فى الجنة 17 ما ورد فى سوال المنكر والنكير والثواب والعذاب فى القبر- 18 ما ورد فى الايمان بالقدر 20 ما ورد فى مذمة بنى مغيرة وبنى امية وكفر يزيد- 21 حديث ان هذا البلد يعنى مكة حرمه الله يوم خلق السموات والأرض- 25 قصة هاجر أم إسماعيل عليه السلام 25 وإسكانهما بمكة وصيرورتها بلدا 25 حديث الدعاء هو العبادة الدعاء مخ العبادة- 29 قصة نمرود وطيرانه الى السماء فى تابوت على النسور- 32 ما ورد فى تبدل الأرض والسموات 34 حديث ما بين بيتي ومنبرى روضة من رياض الجنة- 37 يحاسب جميع الخلائق فى قدر نصف النهار- 38 تمّت(5/250)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
سورة ابراهيم عليه السّلام
مكيّة وآياتها اثنان وخمسون ربّ يسّر وتمّم بالخير «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر هذا كِتابٌ اى هذه السورة او القران كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفة لكتاب لِتُخْرِجَ النَّاسَ متعلق بانزلنا يعنى أنزلناه لتخرجهم بدعائك إياهم الى ما تضمنه وتعليمك إياهم ما لهم وما عليهم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (5) اى من انواع الضلال الى الهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ اى بتوفيقه وتسهيله- مستعار من الاذن الّذي هو تسهيل الحجاب- هو صلة لتخرج او حال من فاعله او مفعوله إِلى صِراطِ بدل من قوله الى النور بتكرير العامل- او استيناف على انه جواب لمن يسئل عنه الْعَزِيزِ الغالب الْحَمِيدِ (1) المحمود الّذي لا يستحق الحمد الا هو- واضافة الصراط الى الله اما لانه مقصده او لانه مظهر له- وتخصيص الوصفين للتنبيه على انه لا يزلّ سالكه ولا يخيب سابله.
اللَّهِ قرا اكثر القراء بالجر على انه عطف بيان للعزيز وقال ابو عمرو فيه تقديم وتأخير مجازه الى (صراط الله العزيز الحميد) - وقرا ابو جعفر ونافع وابن عامر بالرفع على انه مبتدا خبره ما بعده- او خبر مبتدا محذوف وما بعده صفته الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وحلقا وَوَيْلٌ اى حلول شرّ وقال البيضاوي هو نقيض الواو وهو النجاة وأصله النصب لانه مصدر كالهلاك الا انه لم يشتق منه لكنه رفع لافادة الثبات
__________
(1) الخطبة من الناشر-(5/252)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
فهو وعيد لِلْكافِرِينَ بالكتاب الّذين لم يخرجوا من الظلمات الى النور مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ صفة للكافرين او منصوب على الذم او مرفوع عليه- تقديره اعنى الّذين او هم الذين او مرفوع على انه مبتدا خبره ما بعد الصلة يَسْتَحِبُّونَ اى يختارون فان المختار للشيء يطلب من نفسه ان يكون أحب إليها من غيره الْحَياةَ الدُّنْيا اى لذّاتها عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ اى يمنعون الناس عَنْ سلوك سَبِيلِ اللَّهِ باتباع رسوله وَيَبْغُونَها اى يطلبون سبيل الله عِوَجاً اى يطلبون لها اعوجاجا عن الحق ليقدحوا فيه- فحذف الجار وأوصل الفعل اليه- او المعنى يطلبون سبيل الله مائلين عن الحق مع كون ذلك محالا- وقيل الضمير المنصوب فى يبغونها راجعة الى الدنيا يعنى يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق اى بجهة الحرص الحرام أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) عن الحق والبعد فى الحقيقة للصّالّ فوصف به الضلال للمبالغة- او للامر الّذي به الضلال فوصف به للملابسة-.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ اى بلغة قَوْمِهِ الّذي هو منهم وبعث فيهم- اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال بلسان قومه اى بلغتهم ان كان عربيا فعربيا- وان كان أعجميا فاعجميا- وان كان سريانيا فسريانيا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما أمروا به فيفقهوه عنه بيسر وسرعة- ويتخذ الرسول بذلك حجة عليهم وقد كان الرسل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثين كل واحد منهم الى قومه فبينوا لهم- وبعث النبي صلى الله عليه وسلم الى الناس كافة- لكنه امر اولا بدعوة قومه حيث قال الله تعالى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ- قال الله تعالى لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها- وقال لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ- فارسل بلسان عربى مبين لاهل الحجاز والناس كافة تبع لهم حيث تعلّموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نقلوه وترجموه ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش فى الخير والشر- رواه احمد ومسلم فى الصحيح عن جابر يعنى سائر الكفار تبع لكفار قريش فى الكفر حيث كفروا اولا ثم كفر غيرهم فعليهم اثمهم أجمعين والمؤمنون كلهم تبع لمؤمنى قريش حيث أمنوا اولا فلهم اجر كلهم- عن جرير قال قال(5/253)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من سنّ فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها- من غير ان ينقص من أجورهم شيء- ومن سنّ فى الإسلام سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها- من غير ان ينقص من أوزارهم شيء- رواه مسلم وروى ابن عساكر عن ابى سعيد بسند ضعيف الناس تبع لكم يا اهل المدينة فى العلم- والمراد باهل المدينة المهاجرون والأنصار فان غيرهم تبع لهم لكن الأنصار تبع للمهاجرين فلا منافاة بين الحديثين- وعن ابى رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشيخ فى اهله كالنبى فى أمته- رواه الجليلى فى مشيخته وابن النجار وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم الشيخ فى بيته كالنبى فى قومه- رواه ابن حبان فى الضعفاء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء الحديث رواه احمد والترمذي وابو داود وابن ماجة والدارمي عن كثير بن قيس وسماه الترمذي قيس بن كثير- وعن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الناس لكم تبع- وان رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فى الدين فاذا أتوكم فاستوب ثوابهم خيرا- رواه الترمذي وقيل الضمير فى قومه لمحمّد صلى الله عليه وسلم يعنى انزل الكتب كلها بالعربية ثم ترجمها جبرئيل- أخرجه ابن مردوية من طريق الكلبي عن ابن عباس قال كان جبرئيل يوحى اليه بالعربية وينزل هو الى كل نبى بلسان قومه واخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم عن سفيان الثوري قال لم ينزل وحي الا بالعربية ثم ترجمه كل نبى لقومه بلسانهم- وقال لسان يوم القيامة سريانية ومن دخل الجنة تكلم بالعربية- قلت وإرجاع ضمير قومه الى محمّد صلى الله عليه وسلم بعيد ويأبى عنه قوله تعالى لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ فيخزله عن الايمان وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق وخلق إذعان الحق فيه وَهُوَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغلب على مشيته أحد من يهد الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادى له الْحَكِيمُ (4) الّذي لا يضلّ ولا يهدى الا لحكمة-.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا التسع أَنْ أَخْرِجْ ان مفسرة لان فى الإرسال معنى القول- او مصدرية بتقدير حرف الجر فان صيغ الافعال فى الدلالة على المصدر سواء فيجوز إدخال ان المصدرية على كلها اى بان اخرج قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ (5) وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قال ابن عباس وأبيّ بن كعب ومجاهد(5/254)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
وقتادة بنعم الله- وقال مقاتل بوقائع الله فى الأمم السابقة قوم نوح وعاد وثمود- يقال فلان عالم بايام العرب اى بوقائعهم- والتقدير فذكرهم بما كان فى ايام الله الماضية من النعمة او البلاء إِنَّ فِي ذلِكَ الوقائع لَآياتٍ على وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته ووحدته لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر كثيرا على البلاء والطاعة عن المعصية شَكُورٍ (5) يشكر كثيرا على نعمائه والمراد به لكل مؤمن- جعل الله سبحانه الصبار والشكور عنوان المؤمنين تنبيها على انه لا بد لكل مؤمن ان يتصف بهذين الوصفين- اخرج ابن ابى حاتم والبيهقي فى شعب الايمان من طريق ابى ظبيان عن علقمة عن ابن مسعود قال الصبر نصف الايمان واليقين الايمان كله- فذكر هذا الحديث للعلاء بن بدر فقال او ليس فى القران إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ- انّ فى ذلك لآيات لّلمؤمنين- وروى البيهقي عن انس عنه صلى الله عليه وسلم الايمان نصفان نصف فى الصبر ونصف فى الشكر- وروى ابو يعلى والطبراني فى مكارم الأخلاق الايمان صبر وسماحة- وروى مسلم واحمد عن صهيب مرفوعا عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر وكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر وكان خيرا له وروى البيهقي عن سعد بن ابى وقاص بلفظ عجب للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر وإذا أصابته خير حمد الله وشكر- ان المسلم يؤجر فى كل شيء حتّى اللقمة يرفعها الى فيه- وعن ابى الدرداء وقال سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول ان الله تبارك وتعالى قال يا عيسى انى باعث بعدك امة إذا أصابهم ما يحبون حمدوا الله وان أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا- ولا حلم ولا عقل فقال يا رب وكيف هذا لهم ولا حلم ولا عقل قال أعطيهم من حلمى وعلمى- رواه البيهقي فى شعب الايمان-.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الظرف اعنى قوله إِذْ أَنْجاكُمْ متعلق بنعمة الله اى بنعمة الله وقت انجائه إياكم- او بعليكم ان جعلت مستقرة صفة للنعمة غير صلة له واريدت بالنعمة العطية دون الانعام- ويجوز ان يكون بدل اشتمال من نعمة الله يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ احوال من ال فرعون او من(5/255)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
ضمير المخاطبين او منهما جميعا- والمراد بالعذاب هاهنا غير التذبيح وما عطف عليه من استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة- بدليل العطف عليه- بخلاف سورة البقرة والأعراف فان هناك التذبيح مع ما عطف عليه تفسير للعذاب وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ هذا ايضا من كلام موسى عليه السلام ومعنى تأذّن اعلم مثل اذن لكنه ابلغ لما فى التفعّل معنى التكلف والمبالغة لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بنى إسرائيل نعمتى فامنتم وأطعتم نبيكم لَأَزِيدَنَّكُمْ فى النعمة فان الشكر قيد للموجود وصيد للمفقود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اعطى الشكر لم يحرم الزيادة رواه ابن مردوية عن ابن عباس- وقيل معناه لان شكرتم بالطاعة لازيدنكم فى الثواب وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ نعمتى إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) تقديره أعذبكم عذابا شديدا بسلب النعمة فى الدنيا والعذاب فى الاخرة لان عذابى لشديد- فحذف الجزاء وأقيم العلة مقامه تعريضا للوعيد فان التصريح فى الوعد والتعريض فى الوعيد من عادات الأكرمين وتنبيها على ان المزيد لازم للشكر لا يتخلف عنه- والعذاب بعد الكفر ان فى مشية الله تعالى ان شاء عذب وان شاء عفا عنه- والجملة الشرطية مفعول قول مقدر- او مفعول تاذّن على انه جار مجرى قال لانه نوع منه.
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ يا بنى إسرائيل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين ولا تشكروا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم حَمِيدٌ (8) مستحق للحمد فى ذاته- محمود بحمد صدر من ذاته لذاته ازلا وابدا- وبحمد صادر عن الملائكة ومن كل ذرة من ذرات المخلوقات- والتقدير ولان كفرتم أضررتم أنفسكم بتعريضها للعذاب الشديد وتحريمها عن مزيد الانعام دون الله تعالى فانه غنى حميد-.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ استفهام تقرير من كلام موسى لبنى إسرائيل- او كلام مبتدا من الله تعالى خطا بالامة محمّد صلى الله عليه وسلم نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ (5) ... وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مثل قوم ابراهيم نمرود وغيره وقوم لوط واصحاب الرس واصحاب مدين واصحاب الايكة وقوم(5/256)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
تبع لا يَعْلَمُهُمْ اى لا يعلم عددهم لكثرتهم إِلَّا اللَّهُ جملة معترضة روى عن ابن مسعود انه قرا هذه الاية ثم قال كذب النسابون- وعن ابن عباس قال بين ابراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم الا الله- وكان مالك بن انس يكره ان ينسب الإنسان نفسه أبا أبا الى آدم عليه السلام وكذلك فى حق النبي صلى الله عليه وسلم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ من الله تعالى بِالْبَيِّناتِ اى المعجزات الواضحة الدلالة فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ اى أفواه أنفسهم- قال ابن مسعود عضوا على أيديهم غيظا كما قال الله تعالى عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ- وقال ابن عباس لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بايديهم الى أفواههم يعنى وضعوا عليها تعجبا واستهزاء عليه كمن غلبه الضحك- وقال الكلبي ردوا أيديهم فى أفواههم اى وضعوا الأيدي على الأفواه اشارة للرسل ان اسكتوا وأمروا لهم باطباق الأفواه- او المعنى ردوا أيديهم فى أفواه الرسل فقال مقاتل ردوا أيديهم فى أفواه الرسل يسكتونهم بذلك وقيل الأيدي بمعنى الأيادي اى النعم يعنى ردوا أيادي الأنبياء الّتي هى موعظتهم وما اوحى إليهم من الحكم والشرائع فى أفواههم- لانهم إذا كذّبوها ولم يقبلوها فكانهم ردوها الى حيث جاءت منه- وهو معنى قول مجاهد وقتادة قالا يعنى كذبوا الرسل وردّوا ما جاءوا به- يقال رددت قول فلان فى فيه اى كذّبته- وقيل معنى فى أفواههم بأفواههم يعنى ردوا أيادي الأنبياء ونعمهم من الحكم والمواعظ بأفواه أنفسهم اى بألسنتهم وَقالُوا اى الأمم للرسل إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ فى زعمكم وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الايمان بالله وتوحيده مُرِيبٍ (9) اى موقع للريبة أوذي ريبة-.
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ الاستفهام للانكار- وشكّ مرفوع بالظرف وادخلت الهمزة على الظرف لان الكلام فى المشكوك فيه دون الشك- يعنى انما ندعوكم الى الله وحده وهو امر لا يحتمل الشك لدلالة كل شيء من المحسوسات والمعقولات على وجوده ووحدته واشاروا الى ذلك بقولهم فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صفة او بدل يَدْعُوكُمْ الى نفسه والى الايمان به ببعثة إيانا إليكم لِيَغْفِرَ لَكُمْ او المعنى يدعوكم الى المغفرة كقولك دعوته لينصرنى مِنْ ذُنُوبِكُمْ قيل من زائدة لقوله صلى الله عليه وسلم(5/257)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم فى حديث عمرو بن العاص وقيل من للتبعيض فان الإسلام يهدم من الذنوب ما كان بينه وبين الله دون المظالم- قال بعض العلماء جيء بمن فى خطاب الكفرة دون المؤمنين حيث وقع فى القران تفرقة بين الخطابين- ولعل وجه ذلك ان المغفرة حيث جاءت فى خطاب الكفار جاءت مرتبة على الايمان- وحيث جاءت فى خطاب المؤمنين جاءت مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروج عن المظالم وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى الى وقت سماه الله وجعله اخر اعماركم فلا يعاجلكم بالعذاب- وهذا يدل على ان الإصرار على الكفر فى حق المعذبين من الأمم كان معلّقا به لاهلاكهم- وكان فى القضاء المعلق انهم لو أمنوا لطال أعمارهم قالُوا للرسل إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فى الماهية والصورة لا فضل لكم علينا فلم تخصون من دوننا ولو شاء الله ان يبعث الى البشر رسولا لبعث من جنس أفضل كقولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ... تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا بهذه الدعوة فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) اى حجة واضحة على فضلكم او استحقاقكم هذه الكرامة او على صحة دعواكم النبوة- ما قنعوا بالمعجزات البينات الّتي جاءت بهم رسلهم- واقترحوا عليهم بايات اخر تعنتا وعنادا-.
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة وغير ذلك- بينوا وجه اختصاصهم بالنبوة انه فضل الله تعالى وإحسانه بعد تسليمهم مشاركتهم فى الجنس وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ اى لا يمكن لنا إتيان الآيات باختيارنا واستطاعتنا حتّى نأتى بما اقترحتموه- انما هو امر متعلق بمشية الله تعالى- فيعطى كل نبى نوعا من المعجزات ما فيه كفاية للاستدلال على صحة دعوى النبوة وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) كانّه ارشاد لمن أمنوا بهم واتّبعوهم بالصبر والتوكل على الله فى معاندة الكفار- وقصدوا به أنفسهم قصدا اوليّا كانهم قالوا من حقنا التوكل على الله- وفيه(5/258)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
اشعار بان الايمان بالله يقتضى التوكل عليه- لان المرء إذا اعتقد ان الخالق للخير والشر والمعطى والمانع انما هو الله الواحد القهار لا غير لزمه ان يفوض امره اليه لا غير- ثم بيّنوا ما أشعروا به بقولهم.
وَما لَنا اى للمؤمنين أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ يعنى اىّ عذر لنا فى عدم التوكل وَقَدْ هَدانا الله سُبُلَنا الّتي بها نعرف ونعلم ان الأمور كلها بيد الله لا غير فامنا به وَلَنَصْبِرَنَّ نحن وجميع اتباعنا عَلى ما آذَيْتُمُونا ايها الكفار جواب قسم محذوف اى والله لنصبرن- أكدوا بالقسم توكلهم وعدم مبالاتهم بما يفعل بهم الكفار وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) يعنى فليثبت على توكلهم الّذي اقتضاه ايمانهم-.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا جمع الكفار بانكارهم دعوى الرسالة وعيدهم بالإخراج- وحلفوا ان يكون أحد الامرين اما إخراجهم الرسل أو عودهم- يعنى صيرورة الرسل الى ملتهم- فان الرسل ما كانوا على ملة الكفار قط- ويجوز ان يكون الخطاب لكل رسول ولمن أمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد او كان الترديد للتوزيغ يعنى لنخرجن من لم يعد ولنبقين من عاد منكم الى ملتنا- وجاز ان يكون او بمعنى الّا ان- او الى ان يعنون والله لنخرجنكم الا ان ترجعوا او الى ان ترجعوا الى ملتنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ اى الى الرسل رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) على إضمار القول او اجراء الإيحاء مجراه لكونه نوعا منه.
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ ايها الرسل ومن أمن معكم الْأَرْضَ اى ارض الكفار وديارهم مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد إهلاكهم ذلِكَ اشارة الى الموحى وهو إهلاك الأعداء وتسليطهم على الأرض لِمَنْ خافَ مَقامِي اى قيامه بين يدىّ يوم القيامة- نظيره قوله تعالى لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ- فاضاف قيام العبد الى نفسه- او المعنى لمن خاف موقفى وهو الموقف الّذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة- او قيامى عليه وحفظى اعماله- وقيل المقام مقحم والمعنى لمن خافنى وَخافَ وَعِيدِ (14) اثبت الياء ورش فى الوصل فقط والباقون يحذفونها فى الحالين اى خاف وعيدي بالعذاب او عذابى الموعود للكفار-.(5/259)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
وَاسْتَفْتَحُوا سالوا من الله الفتح على أعدائهم او القضاء بينهم وبين أعدائهم من الفتاحة- كقوله رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وهو معطوف على فاوحى والضمير للانبياء كذا قال مجاهد- اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن مجاهد وكذا قال قتادة يعنى لما يئسوا من ايمان قومهم دعوا الله بالفتح والعذاب على قومهم- كما قال نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- وقال موسى رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ او للكفرة كذا قال ابن عباس ومقاتل كما قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ- وقيل للفريقين فان كلهم سالوا ان ينصر المحق ويهلك المبطل- كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) معطوف على محذوف تقديره ففتح لهم فافلح المؤمنون- وخاب يعنى خسرو هلك كلّ جبّار يعنى عات متكبر على الله فى القاموس تجبّر تكبّر يقال الجبار لله تعالى لتكبره بالحق- ولكل عات لتكبره بالباطل- او صاحب قلب لا تدخله الرحمة وقتّال فى غير حق- او متكبر لا يرى لاحه عليه حقّا- قال البغوي الجبار الّذي لا يرى فوقه أحدا «1» - والجبرية طلب العلو بما لا غاية وراءه وهذا الوصف لا يستحقه الا الله تعالى- فمن ادعى غيره يستحق اللعن والطرد والخيبة- وقيل الجبار الّذي يجبر الخلق على مراده- والعنيد المعاند للحق ومجانبه- فى القاموس عند خالف الحق عارفا به فهو عنيد وعاند- وقال ابن عباس هو المعرض عن الحق- وقال مقاتل المتكبر- وقال قتادة العنيد الّذي ابى ان يقول لا اله الا الله.
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ اى امامه بين يديه كانه مرصد بها واقف على شفيرها فى الدنيا- مبعوث إليها فى الاخرة وقيل مِنْ وَرائِهِ اى وراء حيوته يعنى بعده- قال مقاتل مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ اى بعده- قال ابو عبيدة هو من الاضداد اى يكون بمعنى الامام والخلف وحقيقته ما يوارى عنك وَيُسْقى عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنّم يلقى فيها ويسقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) وهو ما يسيل من جلود اهل النار وأجوافهم مختلطا بالقيح والدم عطف بيان لماء- قال محمّد بن كعب ما يسيل من فروج الزناة يسقاه الكافر- واخرج البيهقي عن مجاهد فى قوله تعالى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ قال القيح والدم- روى احمد والترمذي والنسائي
__________
(1) فى الأصل أحد-(5/260)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
والحاكم وصححه وابن جرير وابن ابى حاتم وابن المنذر وابن ابى الدنيا فى صفة النار والبيهقي والبغوي عن ابى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الاية قال يقرّب اليه فيستكرهه فاذا ادنى منه شوى وجهه ووقع فروة رأسه فاذا شربه قطّع امعاءه حتّى يخرج من دبره- فيقول الله تعالى وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ- ... وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ....
يَتَجَرَّعُهُ اى يتكلف فى شربه يشربه جرعة جرعة وهو صفة لماء او حال من ضمير فى يسقى وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ اى لا يقارب ان يسيغه فكيف يسيغه بل يغصّ به فيطول عذابه- والسوغ جواز الشرب عن الحلق بسهولة وقبول النفس- فى القاموس ساغ الشراب سوغا اى سهل مدخله وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ اى أسبابه من الشدائد وانواع العذاب مِنْ كُلِّ مَكانٍ اى من جميع جوانبه فيحيط به او يأتيه شدائد الموت والامه من كل موضع من جسده- اخرج ابن الى شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابراهيم التيمي حتّى يأتيه من موضع كل شعرة من جسده وَما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح- قال ابن جريج تعلق نفسه أعلى حنجرته فلا يخرج من فيه ولا يرجع الى مكانها من جسده- واخرج ابن المنذر عن فضيل بن عياض رضى الله عنه انه حبس الأنفاس وَمِنْ وَرائِهِ اى بعد ذلك العذاب وبين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ (17) أشدّ مما سبق وقيل هو الخلود فى النار- قيل الاية منقطعة عن قصة الرسل نازلة فى اهل مكة- طلبوا الفتح الّذي هو المطر فى سنينهم الّتي أرسل الله عليهم بدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم- فخيب رجاؤهم ووعد لهم انهم يسقون فى جهنم صديد اهل النار بدل سقياهم-.
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ اى صفتهم الّتي هى فى الغرابة مثل مبتدا خبره محذوف اى فيما يتلى عليكم وقوله أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة لبيان مثلهم او هذه الجملة خبر لمثل- وقيل أعمالهم بدل من المثل والخبر كرماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ اى حملته وأسرعت الذهاب به قرأ نافع الرّياح على الجمع والباقون على الافراد فِي يَوْمٍ عاصِفٍ العصوف اشتداد الرياح وصف به زمانه(5/261)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
للمبالغة- كقولهم نهاره صائم وليله قائم- والمراد بأعمالهم ما يزعمونها حسنات ويرجون حسن جزائها كالصدقة وصلة الرحم واعانة الملهوف وعتق الرقاب ونحو ذلك شبه الله سبحانه أعمالهم فى حبوطها يرماد طيرته الرياح العاصفة لبنائها على غير أساس من معرفة الله وابتغاء وجه الله- او لكونها للاصنام الّتي لا يشعرن «1» بعبادتهن ولا يستطعن على شيء لا يَقْدِرُونَ اى الكفار يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا فى الدنيا من الأعمال عَلى شَيْءٍ اى لا يجدون لها ثوابا أصلا- ولا يرون لها اثرا لحبوطها- وهذا ملخص التمثيل ذلِكَ اشارة الى ضلالهم مع حسبانهم انهم محسنون هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) غاية البعد عن طريق الحق حتّى كان حسناتهم ضلالا لكونها شركا بالله مقصودا فيه غيره فكيف السيئات.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ قرا حمزة والكسائي خالق السّموت وفى سورة النور خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ على وزن فاعل مضافا- والباقون خلق على الماضي وَالْأَرْضَ قرأ حمزة والكسائي بالجر والباقون بالنصب بِالْحَقِّ اى بالحكمة البالغة والوجه الّذي يحق ان يخلق له- وذلك ان يكون دليلا على وجود الصانع مرشدا للناس الى الحق والايمان إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ اى يعدمكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) اى يخلق خلقا اخر أطوع منكم- رتب ذلك على كونه خالقا للسموات والأرض مستدلّا به عليه- فان من خلق ذلك يقدر على «2» ان يبدّلهم بخلق اخر- ولم يمتنع ذلك كما قال.
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) متعذر ومتعسر فانه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور- ومن هذا شأنه كان حقيقا لان يعبد ويطاع ولا يعصى رجاء لثوابه وخوفا من عقابه-.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً اى يبرزون من قبورهم يوم القيامة لامر الله ومحاسبته- وانما ذكر لفظ الماضي لتحقق وقوعه فَقالَ الضُّعَفاءُ اى الاتباع- جمع ضعيف يريد به ضعاف الحال فى الدنيا لقلة متاع الدنيا- او ضعاف الرأى لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى تكبروا على الناس وهم القادة والرؤساء الذين منعوهم عن اتباع الرسل إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً جمع تابع كحارس وحرس يعنى اتبعناكم فى تكذيب
__________
(1) فى الأصل يشعرون
(2) فى الأصل يقدر ان يبدلهم(5/262)
الرسل والاعراض عن نصائحهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ دافعون عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ من للبيان واقعة موقع الحال مِنْ شَيْءٍ من للتبعيض واقعة موقع المفعول به- يعنى هل أنتم دافعون بعض شيء كائن من عذاب الله- ويحتمل ان تكون من فى الموضعين للتبعيض ويكون الاولى مفعولا والثانية مصدرا- يعنى فهل أنتم مغنون عنا بعض العذاب بعض الإغناء قالُوا اى المستكبرون جوابا عن معاتبة الاتباع واعتذارا عمّا فعلوا بهم لَوْ هَدانَا اللَّهُ للايمان لَهَدَيْناكُمْ لدعوناكم الى الهدى- ولكن ضللنا فاضللناكم اى اخترنا لكم ما اخترنا لانفسنا- او المعنى لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم واغنيناه عنكم كما عرضناكم له ولكن سدد بنا طريق الخلاص سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا الجملة فى موضع الحال اى مستويا علينا الجزع والصبر ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) اى من منجا ومهرب- من الحيص وهو العدول على جهة الفرار- وهو اما مصدر كغيب او ظرف مكان كمبيت- والجملة اما من كلام القادة او من كلام الفريقين- قال مقاتل يقولون فى النار تعالوا نجزع فيجزعون خمس مائة عام فلا ينفعهم الجزع- فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمس مائة عام فلا ينفعهم الصبر- فحينئذ يقولون سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ- اخرج ابن ابى حاتم والطبراني وابن مردوية عن كعب بن مالك رفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم فيما احسب فى هذه الاية قال يقول اهل النار هلموا فلنصبر فيصبرون خمس مائة عام- فلما راوا ذلك قالوا سوآء الاية- قال محمّد بن كعب القرظي بلغني ان اهل النار استغاثوا بالخزنة قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ- فردت الخزنة الم يأتكم رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى - فردت الخزنة عليهم فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ- فلمّا يئسوا مما عند الخزنة نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ سألوا الموت فلا يجيبهم ثمانين سنة- والسنة ستون وثلاثمائة يوما- واليوم كالف سنة ثم يحطّ إليهم بعد الثمانين إِنَّكُمْ ماكِثُونَ- فلما يئسوا مما قبله قال بعضهم(5/263)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
لبعض انه نزل بكم من البلاء ما نزل- فهلم فلنصبر فلعل الصبر ينفعنا- كما صبر اهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم- فاجمعوا على الصبر فطال صبرهم- ثم جزعوا فطال جزعهم- فنادوا سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ اى من منجا- قال فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال.
إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ فلمّا سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم- فنودوا لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ- فنادوا الثانية رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ- فرد عليهم وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها الآيات- فنادوا الثالثة رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ- فرد عليهم أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ الآيات- ثم نادوا الرابعة رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ- فرد عليهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ- فمكث عنهم ما شاء الله ثم ناداهم أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ- فلما سمعوا ذلك قالوا الا يرحمنا ربنا ثم نادوا عند ذلك رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ- فقال عند ذلك اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ- فانقطع الرجاء والدعاء منهم فاقبل بعضهم على بعض ينيح «1» بعضهم فى وجوه بعض وأطبقت عليهم النار قوله عزّ وجلّ- وَقالَ الشَّيْطانُ إبليس لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ اى احكم وفرغ عنه ودخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار- قال مقاتل يوضع له منبر فى النار فيجتمع الكفار بالائمة فيقول خطيبا فى الأشقياء من الثقلين- اخرج الطبراني فى الكبير وابن المبارك وابن جرير وابن مردوية وابن ابى حاتم والبغوي الثلاثة فى تفاسيرهم عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله بين الأولين والآخرين وقضى بينهم وفرغ من القضاء- يقول المؤمنون قد قضى بيننا ربنا وفرغ فمن يشفع لنا الى ربنا- فيقولون آدم خلقه بيده وكلّمه- فيأتونه فيقولون قضى بيننا ربنا وفرغ من القضاء
__________
(1) هكذا فى النسخة الهندية من البغوي وفى النسخة المصرية منه ينفخ بدل ينيح- عبد الرّحمن غفر له خادم دار الافتا امينيه دهلى(5/264)
قم أنت فاشفع لنا- فيقول ايتوا نوحا فياتون نوحا فيدلهم على ابراهيم- فيأتون ابراهيم فيدلهم على موسى- فيأتون موسى فيدلهم على عيسى- فيقول أدلكم على النبي الأمي العربي الأفخر فيأتوننى فيأذن الله لى ان أقوم اليه- فيثوّر مجلسى من أطيب ريح ما شمها أحد قط حتّى اتى ربى عز وجل فيشفّعنى ويجعل لى نورا من شعر رأسى الى ظفر قدمى- ثم يقول الكفار قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا فيقولون ما هو غير إبليس الّذي أضلنا- فيأتونه فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فانك أنت اضللتنا فيقوم فيثوّر مجلسه من أنتن ريح ما شمها أحد قط ثم يعظم لجهنم ويقول عند ذلك إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ اى وعدا انجزه او كان من حقه ان ينجز وهو الوعد بالبعث والجزاء وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل ان لا بعث ولا حساب- وان كان فالاصنام تشفع لكم فَأَخْلَفْتُكُمْ جعل تبيين خلف وعده كالاخلاف منه وَما كانَ لِي فتح الياء حفص والباقون اسكنوها عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من تسلط فالجيكم الى الكفر والمعاصي وقيل معناه لم اتكم بحجة فيما دعوتكم اليه إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ اى الا دعائى إياكم إليها بتسويل وهو ليس من جنس السلطان ولكنه على طريقة قولهم تحية بينهم ضرب وجيع- ويجوز ان يكون الاستثناء منقطعا فَاسْتَجَبْتُمْ لِي اى أسرعتم الى إجابتي وأبيتم من اجابة صاحب الحجة البالغة فَلا تَلُومُونِي بوسوستي فان من طرح العداوة لايلام بمثل ذلك وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتموني من غير سلطان ولا برهان ولم تطيعوا ربكم- احتجت المعتزلة بامثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله وليس فيها ما يدل عليه إذ يكفى لصحتها ان يكون لقدرة العبد مدخل ما فى فعله وهو الكسب الّذي يقوله أصحابنا ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم من العذاب وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ بمغيثىّ قرأ حمزة بكسر الياء على الأصل فى التقاء الساكنين- والباقون بفتح الياء لان الأصل مرفوض فى مثله لما فيه من اجتماع ثلاث كسرات- معه ان حركة ياء الاضافة الفتح فاذا لم تكسر وقبلها الف فبالحرى ان لا تكسر وقبلها ياء- وجاز ان يكون قراءة حمزة(5/265)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
مبنية على لغة بنى يربوع يزيدون ياء على ياء الاضافة اجراء لها مجرى الهاء والكاف فى ضربتموه وأعطينكاه- وحذفت الياء اكتفاء بالكسرة إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ قرأ ابو عمرو بإثبات الياء وصلا والباقون يحذفونها فى الحالين مِنْ قَبْلُ ما اما مصدرية ومن متعلقة باشركتمون يعنى كفرت اليوم اى تبرأت واستنكرت باشراككم ايّاى فى عبادة الله وطاعته من قبل هذا اليوم- اى فى الدنيا نظيره قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ- او موصولة بمعنى من نحو ما فى قوله سبحان ما يسخركن لنا- وقوله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها- ومن متعلقة بكفرت اى كفرت بمن أشركتمونيه فى الطاعة وهو الله تعالى- حيث أطعتموني فيما دعوتكم اليه من عبادة الأصنام وغيرها كفرت من قبل اشراككم حين ردت امره بالسجود لادم عليه السلام- وأشرك فيقول من شركت زيدا للتعدية الى مفعول ثان وإِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) تتمة كلامه او ابتداء كلام من الله تعالى- وفى حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتّى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم-.
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ والمدخلون هم الملائكة تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) يسلّم بعضهم على بعض ويسلّم الملائكة عليهم- وقيل المحىّ بالسلام هو الله عزّ وجلّ-.
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كيف وضع الله مثلا والمثل قول سائر لتشبيه شيء بشيء كَلِمَةً طَيِّبَةً هى قول لا اله الا الله بالإخلاص كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ اى جعل كلمة طيبة كشجرة قوية مرتفعة فى السماء باقية طيبة الثمر وهو تفسير لقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا- ويجوز ان «1» يكون كلمة بدلا من مثلا- وكشجرة صفتها او خبر مبتدا محذوف- اى هى كشجرة طيّبة وان يكون كلمة اولى مفعولى ضرب اجراء له مجرى جعل أَصْلُها ثابِتٌ فى الأرض مستحكم ضارب بعروقه فيها وَفَرْعُها أعلاها فِي السَّماءِ (24) ويجوز ان يريد فروعها اى اقناؤها على الاكتفاء بلفظ
__________
(1) فى الأصل حذف الياء [.....](5/266)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
الجنس لاكتساب الاستغراق من الاضافة.
تُؤْتِي أُكُلَها تعطى ثمرها كُلَّ حِينٍ وقّته الله لاثمارها بِإِذْنِ رَبِّها اى بارادة خالقها وتكوينه- كذلك اصل هذه الكلمة راسخ فى قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق فاذا تكلمت بها عرجت فلا تحجب حتّى تنتهى الى الله عزّ وجلّ- قال الله تعالى إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ- عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التسبيح نصف الميزان والحمد لله يملؤه ولا اله الا الله ليس لها حجاب دون الله- رواه الترمذي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال عبد لا اله الا الله مخلصا قط الا فتحت له أبواب السماء حتّى يفضى الى العرش ما اجتنب الكبائر- رواه الترمذي بسند حسن واخرج الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه من حديث انس انه صلى الله عليه وسلم قال الشجرة الطيبة النخلة والشجرة الخبيثة الحنظلة- والحين فى اللغة الوقت فقال مجاهد وعكرمة الحين هاهنا سنة كاملة لان النخلة يثمر كل سنة- وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن ستة الشهر من وقت اطلاعها الى صرامها- وروى ذلك عن ابن عباس وقيل اربعة أشهر من حين ظهورها الى إدراكها- وقال سعيد بن المسيب شهر ان من حين يؤكل الى الصرام وقال الربيع بن انس كل حين اى كل غدوة وعشية- لان ثمر النخل يؤكل ابدا ليلا ونهارا صيفا وشتاء اما تمرا او رطبا او بسرا- كذلك عمل المؤمن يصعد أول النهار وأوسطه وآخره وكذلك أول الليل وأوسطه وآخره- وبركة الايمان لا ينقطع ابدا بل يصل اليه فى كل وقت- عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وانها مثل المسلم فحدثونى ما هى- قال عبد الله فوقع الناس فى شجر البوادي ووقع فى نفسى انها النخلة فاستحييت- ثم قالوا حدثنا ما هى يا رسول الله قال هى النخلة- قال البغوي لا يكون شجرة الا بثلاثة أشياء عرق راسخ واصل قائم وفرع عال- كذلك الايمان لايتم الا بثلاثة أشياء تصديق وقول باللسان وعمل بالأركان- وقال ابو ظبيان عن ابن عباس انه قال الشجرة الطيبة هى شجرة فى الجنة وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال سبحان الله العظيم وبحمده(5/267)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
غرست له نخلة فى الجنة- رواه الترمذي وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) فان فى ضربها زيادة إفهام وتذكير فانه تصوير للمعانى وادناء لها من الحس-.
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ قلت الظاهر ان المراد بها ما قيل بالنفاق ولم يرد به وجه الله بدليل قوله تعالى كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ يعنى غير نافعة ولا مستقرة فى الأرض اجْتُثَّتْ اى انتزعت واقتلعت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لان عروقها قريبة منه ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) استقرار كذلك الكلمة الّتي لم يرد بها وجه الله ليس لها منفعة ابدا- اخرج ابن مردوية من طريق حبان بن شعبة عن انس بن مالك فى هذه الاية قال هى الشربانة- قيل لانس ما الشربانة قال الحنظلة- قلت الظاهر ان الشجرة الطيبة تعم النخلة وغيرها وكذا الخبيثة تعم الحنظلة وغيرها وما ورد فى الحديث انما هو ذكر بعض افراده على سبيل التمثيل-.
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ يعنى بكلمة التوحيد المقرونة بالإخلاص فان لها ثبات وتمكن فى القلوب ولثوابها ثبات عند الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزالون عن دينهم إذا فتنوا فى دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمعون واصحاب الأخدود وخبيب وأصحابه واصحاب بئر معونة وَفِي الْآخِرَةِ يعنى إذا سئلوا فى القبور وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ اى المنافقين والكافرين فلا يثبتهم على القول الثابت فى مواقف الفتن- وتزل أقدامهم أول كل شيء وهم فى الاخرة أضل وازل- اخرج الائمة الستة عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المسلم إذا سئل فى القبر يشهد ان لا اله الا الله وان محمّدا رسول الله- فذلك قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ- وفى رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ نزلت فى عذاب القبر- يقال له من ربك فيقول ربى الله ونبىّ محمّد صلى الله عليه وسلم- متفق عليه ورواه احمد وابو داود وغيرهما بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول ربى الله- فيقولان له ما دينك فيقول دينى(5/268)
الإسلام- فيقولان ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم فيقول هو رسول الله- فيقولان له وما يدريك فيقول قرأت كتاب الله فامنت به وصدقت- فذلك قوله تعالى يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الاية- قال فينادى مناد من السماء ان صدق عبدى فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا الى الجنة- قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له فيها مد بصره- واما الكافر فذكر موته قال ويعاد روحه فى جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان من ربك فيقول هاه هاه لا أدرى- فيقولان له ما دينك فيقول هاه هاه لا أدرى- فيقولان ما هذا الرجل الّذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدرى- فينادى مناد من السماء ان كذب فافرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابا الى النار- قال فيأتيه من حرها وسمومها قال ويضيق عليه قبره حتّى يختلف فيه أضلاعه- ثم يقيض له أعمى أصم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها على جبل لصار ترابا- فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب الا الثقلين- فيصير ترابا ثم يعاد فيه الروح- وعن عثمان قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لاخيكم ثم سلوا له التثبت فانه الان يسئل- رواه ابو داود وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه أصحابه انه ليسمع قرع نعالهم- أتاه ملكان فيقعد انه فيقولان ما كنت تقول فى هذا الرجل لمحمّد فاما المؤمن فيقول اشهد انه عبد الله ورسوله- فيقال له انظر الى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا- واما المنافق والكافر فيقال له ما كنت تقول فى هذا الرجل فيقول لا أدرى كنت أقول ما يقول الناس فيقال لادريت ولا تليت- ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين- متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبر «1» الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لاحدهما المنكر وللاخر النكير فيقولان ما كنت تقول فى هذا الرجل فيقول هو عبد الله ورسوله اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمّدا عبده ورسوله- فيقولان قد كنا نعلم انك تقول هذا ثم يفسح
__________
(1) فى الأصل إذا قبر-(5/269)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
فى قبره سبعون ذراعا فى سبعين ثم ينوّر له فيه ثم يقال له نم فيقول ارجع الى أهلي فاخبرهم- فيقولان نم كنومة العروس الّذي لا يوقظه الا أحب اهله اليه حتّى يبعثه الله من مضجعه ذلك- وان كان منافقا قال سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله لا أدرى فيقولان قد كنا نعلم انك تقول ذلك- فيقال للارض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتّى يبعثه الله من مضجعه ذلك- رواه الترمذي وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) من التوفيق والخذلان والتثبيت وتركه من غير اعتراض عليه- عن ابى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فاخرج ذرية بيضاء كانهم الذر- وضرب كتفه اليسرى فاخرج ذرية سوداء كانهم الحمم- فقال للذى فى يمينه الى الجنة ولا أبالي- وقال للذى فى كتفه اليسرى الى النار ولا أبالي- وعن أبيّ بن كعب قال لو ان الله عذب اهل سمواته واهل ارضه عذبهم وهو غير ظالم لهم- ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم- ولو أنفقت مثل أحد ذهبا فى سبيل الله ما قبله الله منك حتّى تؤمن بالقدر وتعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطيك وما أخطأك لم يكن ليصيبك- ولو متّ على غير هذا لدخلت النار- وقال ابن مسعود مثل ذلك وحذيفة بن اليمان مثل ذلك وزيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك رواه احمد وابو داود وابن ماجة-.
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً اى شكر نعمته كفرا بان وضعوا مكانه او بدلوا نفس النعمة كفرا- فانهم لما كفروا سلبت النعمة منهم فصاروا تاركين لها مختارين الكفر بدلها- روى البخاري فى الصحيح عن ابن عباس انه قال هم والله كفار قريش قال عمرو هم قريش ومحمّد صلى الله عليه وسلم نعمة الله- واخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت هذه الاية فى الذين قتلوا يوم بدر يعنى اهل مكة خلقهم الله وأسكنهم حرما يجبى اليه ثمرات كل شيء- ودفع عنهم اصحاب الفيل وجعلهم قوام بيته ووسع عليهم أبواب رزقه بالفهم رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ- وبعث محمّدا صلى الله عليه وسلم رسولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ(5/270)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ- وجعل سائر الناس تبعا لهم فكفروا تلك النعمة وعادوا محمّدا صلى الله عليه وسلم واستحبوا العمى على الهدى- فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر وصاروا اذلّاء فبقوا مسلوبى النعمة موصوفين بالكفر حتّى ماتوا او قتلوا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ الذين تبعوهم فى الكفر دارَ الْبَوارِ (28) اى دار الهلاك بحملهم على الكفر.
جَهَنَّمَ عطف بيان لها يَصْلَوْنَها حال منها او من القوم اى داخلين فيها مقاسين لحرها وجاز ان يكون جهنم منصوبا بفعل مضمر يفسرها ما بعدها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) اى بئس المقر جهنم- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس انه قال لعمر يا أمير المؤمنين هذه الاية الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قال هم الا فجران من قريش بنوا المغيرة وبنوا امية- اما بنوا مغيرة فكفيتموه يوم بدر واما بنوا امية فمتعوا حتّى حين- وكذا ذكر البغوي قول عمر رضى الله عنه- واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني فى الأوسط والحاكم وصححه وابن مردوية من طرق عن على بن ابى طالب رضى الله عنه فذكر مثله- قلت اما بنوا امية فمتعوا بالكفر حتّى اسلم ابو سفيان ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم- ثم كفر يزيد ومن معه بما أنعم الله عليهم وانتصبوا العداوة ال النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوا حسينا رضى الله عنه ظلما وكفر يزيد بدين محمّد صلى الله عليه وسلم حتّى انشد أبياتا حين قتل حسينا رضى الله عنه- مضمونها اين أشياخي ينظرون انتقامي بال محمّد وبنى هاشم واخر الأبيات
ولست من جندب ان لم انتقم ... من بنى احمد ما كان فعل
وايضا أحل الخمر وقال
مدام كنز فى اناء كفضة ... وساق كبد مع مدام كانجم
وشمسه كرم برجها قعرها ... ومشرقها الساقي ومغربها فهى
فان حرمت يوما على دين احمد ... فخذها على دين المسيح بن مريم
وسبّوا ال محمّد صلى الله عليه وسلم على المنابر- فمتعوا بهذه الضلالة الف شهر فانتقم الله منهم حتّى لم يبق منهم أحد.
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً اى أمثالا فى العبادة او التسمية مع انه ليس له ند لِيُضِلُّوا اللام لام العاقبة إذ ليس غرضهم من اتخاذ الانداد(5/271)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
الضلال او الإضلال لكن لمّا كان نتيجته جعل كالغرض- قرأ ابن كثير وابو عمرو بفتح الياء وكذلك فى الحج ولقمان وزمر من المجرد والباقون بضم الياء من التفعيل اى ليضلوا الناس عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا بشهواتكم او بعبادة الأوثان وضلالاتكم فى الدين الّتي هى ايضا من قبيل الشهوات الّتي يتمتع بها ما قدر لكم- قال ذو النون التمتع ان يقضى العبد ما استطاع من شهوته- وفى التهديد بصيغة امر إيذان بان المهدد عليه كالمطلوب لافضائه الى المهددية- وان الامرين كائنان لا محالة ولذلك علله بقوله فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) وان المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من امر مطاع.
قُلْ يا محمّد لِعِبادِيَ قرا ابن عامر وحمزة والكسائي بإسكان الياء والباقون بفتحها الَّذِينَ آمَنُوا خصهم للامر بالخطاب ووصفهم بالعبودية وأضافهم الى نفسه تشريفا- وتنبيها على انهم هم المقيمون لحقوق العبودية أهلا للخطاب الممتثلون بما يقال لهم- ومفعول قل محذوف يدل عليه جوابه تقديره قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا اقيموا الصلاة وأنفقوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ مجزوم على جواب الأمر يعنى قل- جزاء الشرط مقدر يعنى ان تقل لهم اقيموا يقيموا- وفيه إيذان بانهم لفرط مطاوعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفك فعلهم عن امره وانه كالسبب الموجب له- ويجوز ان يقدر بلام الأمر فيكون مفعولا للقول سِرًّا وَعَلانِيَةً منصوبان على المصدر اى انفاق سر وعلانية مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره او يفدى به نفسه وَلا خِلالٌ (31) اى مجالة وصداقة ليشفع له خليله- فان قيل الخلة يوم القيامة ثابتة للمتقين بقوله تعالى الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ وشفاعة بعض المؤمنين لبعض ايضا ثابتة فما وجه نفى الجنس- قلت الأمر باقامة الصلاة وإيتاء الزكوة امر بالتقوى فالمراد بالآية نفى جنس الخلة عند عدم التقوى والمعنى ان لم يتقوا باقامة الصلاة وإيتاء الزكوة لا يكون لهم يومئذ خليل- قرأ ابن كثير وابو عمرو ويعقوب بالفتح فيهما على اعمال لا الّتي لنفى الجنس- والباقون(5/272)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
بالرفع على ابطال عمل لا لاجل التكرار-.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مبتدا وخبر وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به وهو يشتمل المطعوم والملبوس رزقا مفعول لأخرج ومن الثّمرات بيان له حال منه- ويحتمل عكس ذلك- ويجوز ان يكون رزقا منصوبا على المصدرية لانّ اخرج بمعنى رزق- او على العلية وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بالركوب والحمل بِأَمْرِهِ اى بمشيته تعالى الى حيث توجهتم وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) ذللها لكم تخرجونها حيث شئتم وتنتفعون بمياهها وتتخذون عليها جسرا وقناطير.
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جاريين فيما يعود الى مصالح العباد لا يفتران دائِبَيْنِ فى القاموس داب فى عمله كمنع دأبا ويحرك ودءوبا بالضم جدّ وتعب- والدائبان الجديد ان- والسّوق الشديد يعنى مسرعين فى السير قال ابن عباس دونهما فى طاعة الله وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) يتعاقبان فجعل لكم الليل لتسكنوا فيه من تعب العمل والنهار مبصرا للاشياء فتكسبوا فيه معاشكم-.
وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ اى بعض جميع ما سالتموه يعنى أتاكم شيئا كائنا من كل شيء سالتموه- فحذف شيئا اكتفاء بدلالة الكلام على التبعيض- قال البيضاوي ولعل المراد بما سالتموه ما كان حقيقا لان يسئل لاحتياج الناس اليه سال اولم يسئل- وما يحتمل ان يكون موصولة او موصوفة او مصدرية ويكون المصدر بمعنى المفعول- وجاز ان يكون للبيان او زائدة- ولفظة كل للتكثير نحو قولك فلان يعلم كل شيء وأتاه كل انسان وقوله تعالى فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ- وقرا الحسن من كلّ بالتنوين والمعنى من كل شيء ما احتجتم له وسالتموه بلسان الحال- ويجوز ان يكون ما نافية فى موضع الحال يعنى أتاكم من كل شيء والحال انكم ما سالتموه يعنى اعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سالتموها وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ اى نعم الله تعالى فيه دليل على ان المفرد يفيد الاستغراق بالاضافة لا تُحْصُوها اى لا تحصروا ولا تطيقوا عد أنواعها فضلا من افرادها فانها غير متناهية فكيف تطيقون إذا شكرها- لكن الله تعالى بفضله جعل الاعتراف بالعجز عن الشكر(5/273)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
شكرا- وسمى المؤمنين شكورا لاجل اعترافهم بذلك ومن لم يعترف بذلك قال فى حقه إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ يشكو ربه فى الشدة والبلاء ويجزع- ولا يصبر ولا يعلم ان ما أصابه أصابه من جواد كريم رحيم حكيم لا يكون الّا «1» لحكمة وان لم تدرك حكمته كَفَّارٌ (34) شديد الكفر ان فى النعمة والرخاء فهذا نقيض ما قال فى المؤمنين صبّار شكور فان الكفّار ضد الشّكور صراحة- والظلوم ضد للصبار دلالة- فان الظلم وضع الشيء فى غير موضعه- والبلاء موضع للصبر وضع الشكاية والجزع مقامه ظلم- وقيل ظلوم على نفسه بالمعصية فيعرضها للعذاب فى الاخرة والدنيا- او يظلم نفسه بترك الشكر فيعرضها للحرمان- او يظلم النعمة باغفال شكرها- او يظلم يعنى يضع الشكر فى غير موضعه فيشكر غير من أنعم عليه- قال الله تعالى انى والجن والانس فى نبا عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى- رواه الحاكم والبيهقي عن ابى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعنى مكة آمِناً اى ذا أمن لمن فيها فالمسئول من هذا القول ازالة الخوف وجعل مكة أمنا- واما فى قوله تعالى اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً جعل تلك الوادي بلدا من البلاد الامنة وَاجْنُبْنِي بعّدنى وَبَنِيَّ من أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) اى اجعلنا منها فى جانب- وفيه دليل على ان عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم ولفظ بنىّ لا يشتمل الأحفاد وإطلاقها على ما يعم الأحفاد فى قوله تعالى يا بَنِي آدَمَ ... - يا بَنِي إِسْرائِيلَ من قبيل عموم المجاز فلا يشكل بانه قد عبد كثير من أولاد إسماعيل عليه السلام الأصنام- واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عيينة ان أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم محتجا بهذه الاية- وقال انما كانت لهم حجارة يدورون بها ويسمون الدوار- ويقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته- وزاد فى الدر المنثور قيل وكيف لم يدخل ولد إسحاق وسائر ولد ابراهيم عليه السلام- قال لانه دعا لاهل هذه البلدان لا يعبدوا إذ أسكنهم وقال اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً- ولم يدع لجميع البلدان بذلك- قال وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ فيه وقد خص اهله- وقال رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي- وقول ابن عيينة هذا مردود بالكتاب
__________
(1) فى الأصل حكمة(5/274)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
والسنة والإجماع والخبر المتواتر عن حال اهل مكة- فان المشركين فى كتاب الله تعالى عبارة عن اهل مكة غالبا وقد قال الله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا من دونه مِنْ شَيْءٍ وغير ذلك والله اعلم.
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ نسب الإضلال إليهن بالمجاز باعتبار السببية يعنى ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حين عبدوهن فَمَنْ تَبِعَنِي فى الدين فَإِنَّهُ مِنِّي اى بعضى لا ينفك عنى فى الدنيا والاخرة حتّى يدخل معى الجنة وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) تقديره فاغفر له ذا رحمه فانك غفور رحيم- قال السدّى معناه من عصانى ثم تاب- وقال مقاتل بن حبان من عصانى فيما دون الشرك- والظاهر انه قال ذلك قبل ان يعلمه الله انه تعالى لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ- فلما علم ذلك قال وارزقهم مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ- زعما منه ان الله تعالى ينتقم من المشرك فى الدنيا ايضا- فقال الله تعالى وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وبِئْسَ الْمَصِيرُ....
رَبَّنا إِنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي تقديره أسكنت ولدا من ذريتى فحذف المفعول- او المعنى أسكنت بعض ذريتى وهم إسماعيل ومن ولد منه- فان إسكانه متضمن لاسكانهم بِوادٍ هو فى الأصل موضع يسيل فيه الماء فسمى بالوادي مفرج بين جبال او تلال او اكام- وكان الموضع الّذي هناك مكة واديا بين الجبال غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لانها حجرية لا تنبت عِنْدَ بَيْتِكَ الّذي كان قبل الطوفان الْمُحَرَّمِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض- فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة- وانه لن يحل القتال فيه لاحد- ولا يحل لى الا ساعة من نهار- فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة- لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته الا من عرفها ولا يختلى خلاها- قال العباس يا رسول الله الا الاذخر فانه لقينهم ولبيوتهم- فقال الا الأفخر- متفق عليه من حديث ابن عباس اخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامرين سعيد عن أبيه بلفظ كانت(5/275)
سارة تحت ابراهيم عليه السلام فمكثت معه دهرا لا ترزق ولدا- فلمّا رات ذلك وهبت له هاجر امة قبطية- فولدت له إسماعيل فغارت من ذلك سارة- ووجدت فى نفسها وعقّبت على هاجر فحلفت ان تقطع منها ثلاثة اشراف- فقال لها ابراهيم هل لك ان تبرئ يمينك قالت كيف اصنع- قال اثقبي اذنها واخفضيها- والخفض هو الختان- ففعلت ذلك فوضعت هاجر فى اذنها قرطين- فازدادت بهما حسنا- فقالت أراني انما ازددتها جمالا- فلم ترض على كونه معها- ووجد بها ابراهيم وجدا شديدا فنقلها الى مكة- فكان يزورها فى كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها- وروى البخاري فى الصحيح والبغوي بسنده حديث ابن عباس قال أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل عليه السلام اتخذت منطقا لتعفى اثرها على سارة- ثم جاء بها ابراهيم وبابنها إسماعيل عليهما السلام وهى ترضعه- حتّى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم فى أعلى المسجد- وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنا لك- ووضع عند هما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء- ثم قفل ابراهيم فتبعته أم إسماعيل فقالت يا ابراهيم اين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الّذي ليس فيها انس ولا شيء- فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها- فقالت له ءالله أمرك بهذا قال نعم قالت «1» إذا لا يضيعنا ثم رجعت- فانطلق ابراهيم حيث لا يرونه فاستقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال رب إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتّى بلغ يشكرون- وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء- حتّى إذا نفد ما فى السقاء عطشت وعطش ابنها- وجعلت تنظر اليه يتلوّى او قال يتلمظ- فانطلقت كراهية ان تنظر اليه- فوجدت الصفا اقرب جبل من الأرض يليها فقامت عليه- ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا- فهبطت من الصفا حتّى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعى الإنسان المجهود- حتّى جاوزت الوادي- ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا- ففعلت ذلك سبع مرات- قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سعى الناس بينهما- فلما أشرفت على مروة سمعت صوتا فقالت صه تريد نفسها ثم تسمّعت
__________
(1) فى الأصل قال-(5/276)
فسمعت ايضا- فقالت قد استمعت ان كان عندك غواث فاذا هى بالملك- عند موضع زمزم فبحث بعقبه او بجناحه حتّى ظهر الماء- فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا- وجعلت تغرف من الماء فى سقائها وهو تفور بعد ما تغرف- قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم او قال لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا- قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا تخافوا الضيعة فان هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه ان الله لا يضيع اهله- وكانت البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتاخذ عن يمينه وشماله- فكانت كذلك حتّى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كذا- فنزلوا فى أسفل مكة فراوا طائرا عائفا على الماء- فقالوا ان هذا الطائر تدور على ماء- ولقد عهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء- فارسلوا جربا او جربين فاذاهم بالماء- فرجعوا فاخبروهم بالماء- فاقبلوا وأم إسماعيل عند الماء- فقالوا أتأذنين لنا ان ننزل عتدك قالت نعم ولا حق لكم فى الماء قالوا نعم- قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم فالفى ذلك أم إسماعيل وهى تحب الانس- فنزلوا وأرسلوا الى أهليهم فنزلوا معهم- حتّى إذا كان بها اهل أبيات وشبّ الغلام وتعلم العربية منهم وكان أنفسهم حين شبّ- فلما أدرك زوجوه امراة منهم وماتت أم إسماعيل- فجاء ابراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع بركته- وقد ذكرنا بقية تلك القصة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى- قوله تعالى رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام لام كى متعلقة باسكنت- اى ما اسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق ومرتزق الا لاقامة الصلاة عند بيتك المحرم- وتكرير النداء وتوسيطه للاشعار بانها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمه- والمقصود من الدعاء توفيقهم لها- وقيل لام الأمر والمراد هو الدعاء لهم باقامة الصلاة كانّه طلب منهم الاقامة وسال من الله ان يوفقهم لها فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً روى عن طرق من جميع هشام افئيدة بياء بعد الهمزة والجمهور بغير ياء جمع فواد وهو القلب مِنَ النَّاسِ اى افئدة من افئد الناس ومن للتبعيض- قال مجاهد لو قال افئدة الناس لزاحمتكم(5/277)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
فارس والروم والترك والهند- وقال سعيد بن جبير لحجت اليهود والنصارى والمجوس ولكنه قال أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ فهم المسلمون- او للابتداء كقولك القلب منى سقيم اى افئدة ناس تَهْوِي اى تسرع شوقا وودادا قال السدّى معناه تميل إِلَيْهِمْ تعديته بالى لتضمين معنى النزوع وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع سكناهم واديا غير ذى زرع مثل ما رزقت سكان القرى ذوات الماء لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) تلك النعمة فاجاب الله دعوته فجعله حرما أمنا يّجبى اليه ثمرت كلّ شيء حتّى يوجد هناك الفواكه الربيعية والخريفية والصيفية والشتائية فى يوم واحد.
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من أمورنا وأحوالنا ومصالحنا- وارحم بنا منا لانفسنا فلا حاجة لنا الى الطلب لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك وافتقارا الى رحمتك واستعجالا لنيل ما عندك- قال ابن عباس ومقاتل ما نخفى وما نعلن من الوجد بإسماعيل وامه حيث اسكنتهما بواد غير ذى زرع- وقيل ما نخفى من وجد الفرقة وما نعلن من التضرع وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) لانه عالم بعلم ذاتى يستوى نسبته الى كل معلوم ومن للاستغراق- قيل هذا من قول ابراهيم عليه السلام والأكثرون على انه من الله عز وجل-.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ اى وهب لى وانا كبير ايس عن الولد قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة وإظهارا لما فيها من الاية إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ قال ابن عباس رضى الله عنهما ولد إسماعيل لابراهيم عليهما السلام وهو ابن تسع وتسعين سنة- وولد إسحاق عليه السلام وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة- وقال سعيد بن جبير بشر ابراهيم بإسحاق عليهما السلام وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة كذا اخرج ابن جرير إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) يعنى مجيب الدعاء من قولك سمع الملك الكلام إذا اعتد به- قال سيبويه هو من ابنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف الى مفعوله او الى فاعله على اسناد السماع الى دعاء الله على المجاز- وفيه اشعار بانه دعا ربه تعالى وسال منه الولد فاجابه ووهب له سواله حين الإياس منه(5/278)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
ليكون من أجل النعم وأجلاها.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ معدّلا لها بأركانها وآدابها محافظا ومواظبا عليها وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على المنصوب فى اجعلنى يعنى واجعل بعض ذريتى من يقيمون الصلاة أورد من التبعيضية لعلمه باعلام الله تعالى انه يكون فى ذريته كفار حيث قال الله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ... رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) قرا البزي دعائى بإثبات الياء فى الحالين وورش وابو عمرو اثبتاها «1» فى الوصل فقط- والباقون يحذفونها فى الحالين- والمعنى استجب دعائى او تقبل عبادتى- روى الترمذي عن انس واحمد والبخاري فى الأدب واصحاب السنن الاربعة وابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير وابو يعلى عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدعاء هو العبادة- وروى الترمذي عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء مخ العبادة.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ هذه الاية تدل على ان والديه عليه السلام كانا مسلمين- وانما كان آزر عمّا له وكان اسم ابى ابراهيم تارخ كما ذكرنا فى سورة البقرة- ولاجل دفع توهم آذر قال والدي يعنى من ولداني حقيقة ولم يقل أبوي- فان الأب يطلق على العم مجازا وعلى تقدير كون آذر أبا له كما قيل- فقد ذكر الله عذره فى سورة التوبة وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ- يعنى قبل ان يتبين له امره فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ... وَاغفر لِلْمُؤْمِنِينَ كلهم أجمعين يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) اى يثبت او يبدوا ويظهر مستعار من القيام على الرحل- كقولهم قامت الحرب على ساق- او المعنى يوم يقوم اهل الحساب فحذف المضاف وأسند الفعل الى المضاف اليه مجازا- كما فى قوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ- وقيل أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوما-.
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ (5) الغفلة عدم الاطلاع على حقيقة الأمور والاية خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به تثبيته على ما هو عليه من انه مطلع على أحوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه خافية معاقب على الكثير والقليل لا محالة- او لكل من يتوهم غفلته جهلا بصفاته واغترارا
__________
(1) فى الأصل أثبتها-(5/279)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
بامهاله- وقيل انه تسلّية للمظلوم وتهديد للظالم إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ اى يؤخر عذابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) اى تشخص أبصارهم لا يغمض من هول ما يرى فى ذلك اليوم وقيل يرتفع ويزول عن أماكنها.
مُهْطِعِينَ اى مسرعين لا يلتفتون يمينا وشمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم- قال قتادة مسرعين الى الداعي- وقال مجاهد مديمى النظر وفى القاموس هطع هطوعا اسرع مقبلا خائفا او اقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه ومهطع كمحسن من ينظر فى ذل وخضوع لا يقلع بصره او الساكت المنطلق الى مرهتف به مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ قال القتيبي المقنع الّذي يرفع راسه ويقبل ببصره ما بين يديه وقال الحسن وجوه الناس يوم القيامة الى السماء لا ينظر أحد الى أحد لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ اى لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا الى أنفسهم بل يبقى عيونهم شاخصة لا تطرف وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) خلاء اى خالية عن العقل والفهم لفرط الحيزة والدهشة ومنه يقال للاحمق قلبه هواء لا رأى فيه ولا قوة- قال قتادة خرجت قلوبهم من صدورهم فصارت فى حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود الى أماكنها- فالافئدة هواء اى لا شيء فيها ومنه سمى ما بين السماء والأرض هواء لخلوه- وقال سعيد بن جبير اى قلوبهم مترددة تمور فى أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه- قال البغوي حقيقة المعنى ان القلوب زائلة عن أماكنها والابصار شاخصة من هول ذلك اليوم-.
وَأَنْذِرِ اى خوف يا محمّد عليه السلام النَّاسَ يَوْمَ بيوم يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يعنى يوم القيامة او يوم الموت فانه أول ايام عذابهم او يوم يأتيهم العذاب العاجل للاستيصال فى الدنيا فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالشرك والتكذيب رَبَّنا أَخِّرْنا اى أمهلنا فى الدنيا او المعنى اخر العذاب عنا وردّنا الى الدنيا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ اى الى حد من الزمان قريب وابقنا مقدار ما نؤمن بك ونجب دعوتك نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ جواب للامر نظيره لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ- فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ حلفتم مِنْ قَبْلُ فى دار الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) جواب للقسم جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية- والمعنى(5/280)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
انكم باقون فى الدنيا لا تزالون بالموت ولعلهم قسموا بطرا وغرورا- او حكاية عن دلالة حالهم حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا- وقيل معناه اقسموا انهم لا ينقلون الى دار اخرى- او انهم إذا ماتوا لا يزالون عن تلك الحالة يعنى لا يبعثون بعد الموت نظيره قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ....
وَسَكَنْتُمْ فى الدنيا فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي ممن كان قبلكم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم وَتَبَيَّنَ لَكُمْ من مشاهدة اثار منازلهم وسماع اخبار ما نزل بهم- وفاعل تبيّن مضمر دل عليه الكلام اى تبين لكم حالهم- وكيف فى قوله كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ منصوب بقوله فعلنا فلم ينزجروا وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) من أحوالهم اى بيّنّا لكم على السنة المرسلين المؤيدين بالمعجزات انكم فى الكفر واستحقاق العذاب او المعنى بيّنّا صفات ما فعلوا وما فعل بهم الّتي هى فى الغرابة كالامثال المضروبة- او بيّنّا لكم الأمثال فى القران-.
وَقَدْ مَكَرُوا يعنى كفار مكة بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث أرادوا حبسه او إخراجه او قتله مَكْرَهُمْ قال المفسرون الضمير المجرور فى مكرهم راجع الى ما يرجع اليه الضمير المرفوع فى مكروا- والمعنى انهم مكروا مكرهم البليغ المستفرغ فيه جهدهم لابطال الحق وتقرير الباطل- وحينئذ لا تعلق لهذا الكلام بما سبق- وعندى ان الجملة معطوفة على قوله وسكنتم- والضمير المجرور راجع الى الموصول- والمراد الكفار السابقون «1» - والمرفوع الى الناس اى كفار هذه الامة- وفى الكلام التفات من الخطاب الى الغيبة- والمعنى سكنتم فى مساكن من قبلكم وتبين لكم ما فعلنا بهم وقد مكرتم مثل مكر السابقين وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ اى مكتوب عنده فعلهم فهو مجازيهم عليه- او عنده ما يمكرهم به جزاء لمكرهم وابطالا له وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ قرا علىّ وابن مسعود رضى الله عنهما وان كاد مكرهم بالدال وقراءة العامة بالنون لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) قرا الكسائي وابن جريج بفتح اللام للتأكيد فى لتزول والرفع- على انّ ان مخففة من الثقيلة واللام هى الفاصلة والمعنى انه كان مكرهم يعنى شركهم عظيما شديدا بحيث تزول منه الجبال بمعنى قوله تعالى تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً- قال البغوي حكى عن علىّ بن ابى طالب رضى الله عنه
__________
(1) فى الأصل سابقين-(5/281)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
فى معنى الاية انها نزلت فى نمرود الجبار الّذي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ- وذلك انه قال ان كان ما يقوله ابراهيم حقّا فلا انتهى حتّى اصعد السماء فاعلم ما فيها- فعمد الى اربعة افرخ من النسور ربّاها حتّى شب- واتخذنا بوتا وجعل له بابا من أعلى وبابا من أسفل- وقعد نمرود مع رجل فى التابوت ونصب خشبات فى أطراف التابوت- وجعل على رأسها اللحم وربط التابوت بأرجل النسور وخلّاها- فطرن وصعدن طمعا فى اللحم حتّى مضى يوم وابعدن فى الهواء فقال نمرود لصاحبه افتح الباب الأعلى وانظر الى السماء هل قريبا منها- ففتح ونظر فقال ان السماء كهيئتها- ثم قال افتح الباب الأسفل وانظر الى الأرض كيف تراها- ففعل فقال ارى الأرض مثل اللجة والجبال مثل الدخان- فطارت النسور يوما اخر وارتفعت- حتّى حالت الريح بينها وبين الطيران- فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فاذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فاذا الأرض سوداء مظلمة- ونودى ايها الطاغية اين تريد- قال عكرمة كان معه فى التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب- فرمى بسهم فعاد اليه السهم متلطّخا بدم سمكة تذفت نفسها من بحر فى الهواء- وقيل طائر أصابه السهم فقال كفيت بشغل اله السماء- قال ثم امر نمرود صاحبه ان يصرف الخشبات وينكس اللحم ففعل- فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال خفيف التابوت والنسور- ففزعت وظنّت ان قد حدث حدث من السماء وان الساعة قد قامت وكادت تزول عن أماكنها- فذلك قوله تعالى وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- وهذه القصة يأبى عنه العقل ولم يثبت بنقل يعتمد عليه- وقرا الجمهور بلام مكسورة والنصب فان حينئذ اما نافية واللام لام جحود لتأكيد النفي كقوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ- او مخففة من الثقيلة واللام لام كى وكان تامة- والجبال مثل لامر النبي صلى الله عليه وسلم وآيات الله والشرائع- والمعنى على الاول وما كان مكرهم مزيلا للجبال وعلى الثاني انهم مكروا وثبت مكرهم ليزيلوا ما هو كالجبال الراسيات ثباتا وتمكنا من امر النبي صلى الله عليه وسلم وآيات الله وشرائعه وذلك محال- وقال الحسن ان كان مكرهم لا ضعف من ان تزول الجبال-.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر لاوليائه وهلاك(5/282)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
أعدائه كقوله تعالى إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وقوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وقوله لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ- ومخلف مفعول ثان لتحسبن وأصله مخلف رسله وعده فقدم المفعول الثاني إيذانا بانه لا يخلف الوعد أصلا كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ وإذا لم يخلف وعده أحدا كيف يخلف رسله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يماكر قادر لا يدافع ذُو انتِقامٍ (47) لاوليائه من أعدائه-.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ بدل من يوم يأتيهم او ظرف للانتقام او مقدر با ذكر او بقوله لا يخلف وعده- ولا يجوز ان ينتصب بمخلف لان ما قبل انّ لا يعمل فيما بعده وَالسَّماواتُ عطف على الأرض وتقديره والسموات غير السموات فحذف لدلالة ما قبله عليه- والتبديل يكون فى الذات كقولك بدلت الدراهم بالدنانير وعليه قوله تعالى بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها- وفى الصفة كقولك بدلت الحلقة خاتما إذا اذبتها وغيرت شكلها- وفى تبديل الأرض والسموات أحاديث بعضها تدل على التبديل فى الذات وبعضها على التبديل فى الصفات- اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن ابى حاتم فى تفاسيرهم والبيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود فى هذه الاية انه قال تبدل الأرض أرضا كانها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم تعمل عليها خطيئة واخرج البيهقي عن ابن مسعود مرفوعا وقال الموقوف أصح- قلت والموقوف فى الباب له حكم المرفوع- واخرج ابن جرير والحاكم من وجه اخر عنه قال أرضا بيضا كانها سبيكة فضة- واخرج احمد وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابى أيوب وابن جرير عن انس بن مالك فى هذه الاية قال يبدلها الله تعالى يوم القيامة بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطاء- واخرج من طريق ابى حمزة عن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم فى الاية قال انها تكون بيضاء مثل الفضة- واخرج ابن ابى الدنيا فى صفة الجنة عن على بن ابى طالب فى هذه الاية قال الأرض من فضة والسماء من ذهب- واخرج ابن جرير عن مجاهد قال الأرض كانها فضة والسماء كذلك- واخرج عبد ابن حميد عن عكرمة قال بلغنا ان الأرض تطوى والى جنبها اخرى يحشر الناس منها إليها- وفى الصحيحين عن سهل بن سعد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يحشر الناس(5/283)
يوم القيامة على ارض بيضاء غفراء كقرصة نقى ليس فيها معلم لاحد- واخرج البيهقي من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس فى هذه الاية قال يزاد فيها وينقص ويذهب اكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها وتمدّ مدّ الأديم العكاظي ارض بيضاء مثل الفضة لم يسفك عليها دم ولم تعمل عليها خطيئة- والسموات تذهب شمسها وقمرها ونجومها- واخرج الحاكم عن ابن عمرو قال إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق واخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها الا موضع قدميه ثم ادعى أول الناس فاخرّ ساجدا- ثم يؤذن لى فاقوم فاقول يا رب أخبرني هذا جبرئيل (وهو عن يمين الرحمان والله ماراه جبرئيل قبلها قط) انك أرسلته الىّ قال وجبرئيل ساكت لا يتكلم حتّى يقول الله صدق ثم يأذن لى فى الشفاعة فاقول يا رب عبادك أطراف الأرض فذلك المقام المحمود- وفى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفاها الجبار بيده كما يتكفا أحدكم خبزته فى السفر نزلا لاهل الجنة- قال الدراوردي النزل ما يعجل للضيف قبل الطعام والمراد به يأكل منها فى الموقف من سيصير الى الجنة- وكذا قال ابن مرجان فى الإرشاد تبدل الأرض خبزة فيأكل المؤمن من بين رجليه ويشرب من الحوض- قال ابن حجر يستفاد منه ان المؤمنين لا يعاقبون بالجوع فى طول زمان الموقف بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض حتّى يأكلون منها من تحت أقدامهم ما شاء الله من غير علاج ولا كلفة- ويؤيده ما اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال وتكون الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه- واخرج نحوه عن محمّد بن كعب- واخرج البيهقي عن عكرمة قال تبدل الأرض بيضاء مثل الخبزة يأكل منها اهل الإسلام حتّى يفرغوا من الحساب- وعن ابى جعفر محمّد الباقر نحوه- واخرج الخطيب عن ابن مسعود قال يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط واظمأ ما كانوا قط واعرى ما كانوا قط وانصب ما كانوا قط فمن اطعم لله أطعمه ومن سقى لله سقاه ومن كسى لله كساه ومن عمل كفاه- واخرج ابن جرير عن ابن كعب
فى الاية قال تصير السموات جنانا وتصير مكان(5/284)
البحر نارا وتبدل الأرض غيرها- واخرج عن ابن مسعود قال الأرض كلها نار يوم القيامة- واخرج عن كعب الأحبار قال يصير مكان البحر نارا- واخرج مسلم عن ثوبان قال جاء حبر من اليهود الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اين يكون الناس يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ قال هم فى ظلمة دون الجسر- واخرج مسلم عن عائشة قالت قلت يا رسول الله ارايت قوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ اين الناس يومئذ قال على الصراط- قال البيهقي قوله على الصراط مجاز لكونهم يجاوزونه فوافق قوله فى حديث ثوبان دون الجسر لانها زيادة يتعين المصير إليها لثبوتها ولان ذلك عند الزجرة الّتي تقع بها نقلتهم من ارض الدنيا الى ارض الموقف- واخرج البيهقي عن أبيّ بن كعب فى قوله تعالى وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً قال يصير ان غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين وذلك قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ- قال السيوطي رحمه الله قد وقع الخلاف قديما للسلف فى ان التبديل تغير ذاتها او صفاتها فقط- فرجح الاول ابن ابى حمزة وأشار الى ان ارض الدنيا تضمحل وتعدم وتجدد ارض الموقف- وقال الشيخ ابن حجر رحمه الله لا تنافى بين تبديل الأرض وأحاديث مدها والزيادة فيها والنقص منها- لان كل ذلك يقع لارض الدنيا لكن ارض الموقف غيرها- فانهم يزجرون من ارض الدنيا بعد تغيرها بما ذكرنا الى ارض الموقف- قال ولا تنافى ايضا بين أحاديث مصيرها خبزة وغبرة ونارا بل تجمع بان بعضها تصير خبزة وبعضها غبرة وبعضها نارا وهو ارض البحر خاصة بدليل اثر أبيّ بن كعب- قلت لعل موضع أقدام المؤمنين يصير خبزة وموضع أقدام الكفار غبرة ونارا- وقال القرطبي جمع صاحب الإفصاح بين هذه الاخبار بان تبديل الأرض والسموات يقع مرتين أحدهما تبديل صفاتها فقط وذلك قبل نفخة الصعق فتنتشر الكواكب وتخسف الشمس والقمر وتصير السماء كالمهل وتكشط عن الرءوس وتسير الجبال وتصير البحار نارا وعوّج الأرض وتنشق الى ان تصير الهيئة غير الهيئة- ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض وتبدل السماء سماء اخرى وهو قوله تعالى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وتبدل الأرض فتمدّ مدّ الأديم وتعاد كما كانت فيها القبور والبشر على ظهرها وفى بطنها- وتبدل ايضا تبديلا ثانيا وذلك إذا وقفوا فى المحشر فتبدل لهم الأرض الّتي يقال لها الساهرة(5/285)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
ويحاسبون عليها وهى ارض غفراء بيضاء من فضة لم يسفك فيها دم ولم تعمل عليها معصية وحينئذ يقوم الناس على الصراط وهو يسع جميع الخلق فيقوم من فضّل على جسر جهنم وهى كاهالة جامدة وهى الّتي قال عبد الله انها ارض من نار فاذا جاوزوا الصراط وجعل اهل النار واهل الجنان من وراء الصراط قاموا على حياض الأنبياء يشربون بدّلت الأرض كقرصة النقي فاكلوا من تحت أرجلهم وعند دخولهم الجنة كانت خبزة واحدة اى قرصا واحدا يأكل منه جميع الخلائق ممن دخل الجنة- وادامهم زيادة كبد ثور الجنة وزيادة كبد النون انتهى كلامه- واخرج الطبراني فى الأوسط وابن عدى بسند ضعيف الأرض تذهب كلها يوم القيامة الا المساجد فانها ينضم بعضها الى بعض- قلت لو صح هذه الرواية فلعل ارض المساجد تصيرا رضا للجنة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين بيتي ومنبرى روضة من رياض الجنة- رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد والنسائي عن عبد الله ابن زيد المازنى وعن ابى هريرة فى الصحيحين وعند الترمذي وَبَرَزُوا اى ظهروا وخرجوا من قبورهم لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) اى لمحاسبته ومجازاته- وتوصيفه بالوصفين للدلالة على ان الأمر فى غاية الصعوبة فان الأمر إذا كان لواحد غالب لا يغالب عليه فلا مستغاث ولا مستجار غيره-.
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ اى الكافرين يَوْمَئِذٍ اى يوم إذ برزوا مُقَرَّنِينَ مشددين قرينا بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم فى العقائد والأعمال- اخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال يقرّن الرجل الصالح مع الصالح فى الجنة ويقرّن بين الرجل السوء مع السوء فى النار- او قرينا مع شياطينهم- او مع ما اكتسبوا من العقائد الزائغة والملكات الباطلة- او قرينا أيديهم وأرجلهم الى رقابهم بالاغلال فِي الْأَصْفادِ (49) اى فى القيود والاغلال واحدها صفد- وكل من شدتّه شدا وثيقا فقد صفدتّه.
سَرابِيلُهُمْ جمع سربال وهو القميص مِنْ قَطِرانٍ وهو عصارة الأبهل تطبخ فتهنا به الإبل الجربى فيحرق الجرب لحدته وهو اسود منتن يشتعل فيه النار بسرعة يطلى به جلود اهل النار حتّى يكون طلاوة لهم كالقميص ليجتمع عليهم لدغ القطران ووحشة لونه ونتن ريحه مع اسراع النار(5/286)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
فى جلودهم- وقرا عكرمة ويعقوب من قطران على كلمتين منونتين والقطر النحاس والصفر المذاب والان الّذي انتهى حره والجملة حال ثان او حال من الضمير فى مقرنين وَتَغْشى اى تعلو وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) وخص الوجه فى الذكر لانه أعزّ موضع فى ظاهر البدن كالقلب فى باطنه ولذا قال تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ- او لانهم لم يتوجهوا بها الى الحق ولم يستعملوا فى تدبره مشاعرهم وحواسّهم الّتي خلقت فيها لاجله كما تطّلع على الافئدة لانها فارغة عن المعرفة مملوّة بالجهالات.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مجرمة ما كَسَبَتْ اللام اما متعلق بقوله مُقَرَّنِينَ- او بالظرف المستقر اعنى من قطران او بقوله تغشى- او بفعل مقدر يعم ذلك تقديره يفعل ذلك ليجزى- وجاز ان يكون المعنى ليجزى كل نفس مطيعة وعاصية بما كسبت- لانه إذا بين ان المجرمين يعاقبون باجرامهم علم ان المطيعين يثابون بطاعتهم واللام حينئذ متعلق ببرزوا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) لا يشغله حساب عن حساب- قال السيوطي فى الجلالين يحاسب جميع الخلائق فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا لحديث بذلك- واخرج ابن المبارك وابو نعيم عن النخعي قال كانوا يرون انه ليفرغ من حساب الناس يوم القيامة فى مقدار نصف يوم يقيل هؤلاء فى الجنة وهؤلاء فى النار- واخرج ابن المبارك وابن ابى حاتم عن ابن مسعود قال لا ينتصف النهار من ذلك اليوم حتّى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرا أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا ... - ثمّ انّ مقيلهم «1» لالى الجحيم- واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال انما هى ضخوة فيقيل اولياء الله على الاسرة مع الحور العين ويقيل اعداء الله مع الشياطين مقرنين- قلت لكن هذه الآثار تدل على ان المراد نصف نهار الاخرة والله اعلم-.
هذا القران او السورة او ما فيها من الوعظ والتذكير من قوله وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ ... بَلاغٌ لِلنَّاسِ كفاية لهم فى الموعظة وَلِيُنْذَرُوا بِهِ اى ليخوفوا عطف على محذوف اى لينصحوا ولينذروا بهذا البلاغ واللام متعلق بالبلاغ- ويجوز ان يتعلق بمحذوف تقديره ولينذروا به انزل او تلى- وقيل معنى الاية هذا القران انزل لتبليغ الناس احكام الله تعالى ولينذروا به وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لانهم
__________
(1) وفى القران ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ-(5/287)
إذا خافوا ما اندروا به دعتهم المخافة الى النظر والتأمل فيتوصلوا الى التوحيد بالنظر والتأمل فيما فيه من الآيات الدالة عليه او المنبّهة على ما يدل عليه وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (51) فيرتدعوا عما يرد بهم- ذكر الله تعالى لهذا البلاغ ثلاث فوائد وهى الغاية والحكمة فى إنزال الكتب أحدها تكميل الرسل للناس بقوله لينذروا ثانيها استكمالهم القوة النظرية الّتي منتهى كما لها التوحيد بقوله ليعلموا انّما هو اله وّاحد ثالثها استصلاح القوة العملية الّتي هو التدرّع بلباس التقوى جعلنا الله من الفائزين بها والله اعلم- تمت تفسير سورة ابراهيم عليه السلام من التفسير المظهرى تاسع عشر ربيع الثاني من السنة الثانية بعد الف ومائتين ويتلوه تفسير سورة الحجر ان شاء الله تعالى وصلى الله تعالى على خير خلقه محمّد واله وأصحابه أجمعين سنه 1202 هجرى.
فهرس تفسير سورة الحجر من التفسير المظهرى
مضمون صفحه مضمون صفحه ما ورد فى ان الكفار يعيّرون العصاة من المؤمنين عند دخولهم النار معهم فيغضب الله تعالى ويخرج من النار من قال لا اله الا الله- 3 ما ورد فى استراق الشياطين السمع والقائها على الكهنة- 7 ماخذ القول بالأعيان الثابتة وعالم المثال 8 حديث ما هبت ريح قط إلا جثى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم اجعلها رحمة الحديث- 9 حديث من مات على شيء بعثه عليه- 10 تحقيق الروح العلوي وهى خمسة والروح السفلى وكيفية سريانها ونفخها- 12 ما ورد فى أبواب جهنم 16 باب لمن سلّ السيف على المسلمين- 16 باب لا يدخله اى جهنم الا من شفى غيظه بسخط الله وأشدها غما للزناة- 16 حديث كان لا ينام حتّى يقرا تبارك وحم السجدة 17 أحاديث الخوف والرجاء 18 حديث ان الله خلق مائة- رحمة الحديث 19 ما ورد فى السبع المثاني قيل هى الفاتحة وقيل سبع سور- 24 حديث ان الله أعطاني السبع الطوال مكان التورية والرّاءات الى الطواسين مكان الإنجيل وما بينهما الى الحواميم مكان الزبور وفضلنى بالحواميم والمفصل 25 حديث ليس منا من لم يتغنّ بالقران- 26 حديث لا تغبطن فاجرا بنعمة- 26 حديث انظروا الى من هو أسفل منكم لا الى من هو فوقكم- 26 الأحاديث الواردة فيما يسئل عنه يوم القيامة 28 حديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خزبه امر فزع الى الصلاة- 33 حديث ما اوحى الىّ ان اجمع المال وأكون من التاجرين ولكن اوحى الىّ ان سبح بحمد ربّك وكن من الساجدين- 33 حديث فى منقبة مصعب بن عمير- 33 تمّت.(5/288)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
سورة الحجر
«1» مكّيّة وآياتها تسع وتسعون ربّ يسّر وتمّم بالخير «2» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ اشارة الى آيات السورة آياتُ الْكِتابِ الاضافة بمعنى من وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) الكتاب هو السورة او القران وتنكيره للتفخيم اى آيات ما هو جامع لكونه كتابا كاملا وقرانا يبين الرشد من الغى والحلال من الحرام بيانا عربيّا-.
رُبَما قرا نافع وعاصم وابو جعفر بتخفيف الباء والباقون بتشديدها- وربّ حرف جر للتقليل واستعمل هاهنا للتكثير مجازا لمناسبة المقابلة وإيذانا بانهم لو كانوا يودون الإسلام قليلا ولو مرة واحدة فبالحرىّ ان يسارعوا اليه فكيف وهم يودون كثيرا بل كل ساعة- او إيذانا بان ودادهم بلغت من الكثرة بحد لا يمكن التعبير عنه فاكتفى بما يدل على التقليل- وقيل استعمل هاهنا على الحقيقة للتقليل ووجه التقليل انه يدهشهم اهوال القيامة فان حانت منهم افاقة فى بعض الأوقات تمنوا ذلك- وما كافة تكف ربّ عن العمل فجاز دخولها على الفعل وحقها ان تدخل على الماضي لكن لمّا كان المترقب فى اخبار الله تعالى كالماضى فى تحققه دخلت على المضارع حيث قال الله تعالى يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) الغيبة فى حكاية ودادهم كالغيبة فى قولك حلف بالله ليفعلن مكان قولك لافعلن- اخرج ابن المبارك وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس وانس رضى الله عنهم انهما تذاكرا فى هذه الاية فقالا
__________
(1) ليس عنوان السودة فى الأصل
(2) الخطبة من الناشر-(5/290)
هذا حيث يجمع الله تعالى بين اهل الخطايا من المسلمين وبين المشركين فى النار فيقول المشركون ما اغنى عنكم ما كنتم تعملون فيغضب الله فيخرجهم بفضل رحمته- واخرج هناد وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس رضى الله عنهما قال ما يزال الله تعالى يشفّع ويدخل الجنة ويشفّع ويرحم حتّى يقول من كان مسلما فليدخل الجنة وذلك قوله تعالى رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ- واخرج الطبراني فى الأوسط بسند صحيح عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون فى النار ما شاء الله ان يكونوا ثم يعيّرهم اهل الشرك فيقولون ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد الا أخرجه الله ثم قرا رسول الله صلى الله عليه وسلم رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ- واخرج الطبراني وابن عاصم والبيهقي عن ابى موسى رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمع اهل النار فى النار ومعهم من شاء الله تعالى من اهل القبلة قال الكفار للمسلمين الم تكونوا مسلمين قالوا بلى قالوا فما اغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا فى النار قالوا كانت لنا ذنوب فاخذنا بها فيسمع الله ما قالوا فامر من كان فى النار من اهل القبلة فاخرجوا فلما راى ذلك من بقي من الكفار فى النار قالوا يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا ثم قرا رسول الله صلى الله عليه وسلم رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ- وذكر البغوي هذا الحديث نحو ما ذكر وفى آخره فيأمر لكل من كان من اهل القبلة فيخرجون منها فحينئذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ- واخرج الطبراني عن ابى سعيد الخدري رضى الله عنه انه سئل هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول شيئا فى هذه الاية رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ قال نعم سمعته يقول يخرج الله من شاء من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته منهم- فلما أدخلهم الله النار مع المشركين قال المشركون تدّعون انكم اولياء الله فى الدنيا فما بالكم معنا فى النار فاذا سمع الله تعالى ذلك منهم اذن فى الشفاعة فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون حتّى يخرجون بإذن الله فاذا راى المشركون ذلك قالوا يا ليتنا كنا مثلكم فتدركنا الشفاعة فيسمّون الجهنميون من أجل سواد وجوههم فيقولون يا ربنا اذهب عنا الاسم(5/291)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
فيامرهم فيغسلون فى نهر الحيوة فيذهب الاسم عنهم- واخرج ابن جرير عن ابن مسعود فى هذه الاية قال هذا إذا راوهم يخرجون من النار- واخرج هناد عن مجاهد فى هذه الاية قال إذا خرج من النار من قال لا اله الا الله-.
ذَرْهُمْ يعنى دعهم يا محمّد يعنى الذين كفروا يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم وَيُلْهِهِمُ اى يشغلهم عن الاستعداد للمعاد الْأَمَلُ اى توقعهم طول الأعمار فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) سوء صنيعهم إذا عاينوا العذاب والغرض من هذا الكلام اقناط الرسول صلى الله عليه وسلم عن انقيادهم واعلامه بانهم اهل الشقاوة فى علم الله تعالى وان نصحهم بعد ذلك مما لا فائدة فيه- وفيه الزام للحجة وتحذير عن إيثار التنعم وما يؤدى اليه طول الأمل.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ اى اهل قرية ومن زائدة إِلَّا وَلَها كِتابٌ اى وقت لهلاكها مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ مَعْلُومٌ (4) عند الله تعالى والجملة صفة لقرية مستثناة من عموم الصفات والأصل ان لا تدخله الواو كما فى قوله تعالى إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ لكن لمّا شابهت صورتها صورة الحال ادخلت عليها تأكيدا للصوقها بالموصوف وجاز ان يقال الجملة حال من القرية لكونها فى حكم الموصوفة كانه قيل وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى. إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من زائدة أَجَلَها اى لا تسبق امة الى الهلاك أجلها يعنى لا يهلك قبل ذلك وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) اى لا يستأخرون الهلاك عند بلوغ الاجل وتذكير ضمير امة حملا على المعنى.
وَقالُوا اى الكفار للنبى صلى الله عليه وسلم تهكما واستهزاء يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) يعنون انك لتقول قول المجانين حيث تقول انزل علىّ الذكر اى.
القران لَوْ ما هل لا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ ليشهدوا لك بالصدق على ما تقول ويعضدون على الدعوة كقوله تعالى لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً- او للعقاب على تكذيبنا كما أتت الأمم السابقة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) فى دعوى النبوة.
ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قرا حفص وحمزة والكسائي ننزّل بنونين على صيغة المضارع المتكلم المعروف من التفعيل مسندا الى الله تعالى والملئكة بالنصب على المفعولية وابو بكر بالتاء الفوقانية(5/292)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
والنون على صيغة الواحد المؤنث المجهول من التفعيل والملائكة بالرفع مسندا اليه والباقون كذلك لكن على صيغة الواحد المؤنث المعروف من التفعل بحذف احدى التاءين والملئكة مرفوع على الفاعلية إِلَّا بِالْحَقِّ اى بالعذاب المتحقق عند الله لقوم وَما كانُوا يعنى الكفار إِذاً يعنى إذا نزّلت الملائكة بالعذاب مُنْظَرِينَ (8) اى مؤخرين يعنى لو نزلت الملائكة بالعذاب زال عن الكفار الامهال وعذبوا فى الحال.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ رد لانكارهم واستهزائهم ولذلك أكده بوجوه وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) من التحريف والزيادة والنقصان ولا يتطرق اليه الخلل ابدا- وهذا دليل على كونه منزّلا من الله دون غيره إذ لو كان من عند غير الله لتطرق اليه الزيادة والنقصان وقدر الأعداء على الطعن فيه- ويل للرافضة حيث قالوا قد تطرق الخلل الى القران وقالوا ان عثمان وغيره حرّقوه والقوا منه عشرة اجزاء- وقيل الضمير فى له للنبى صلى الله عليه وسلم يعنى انا لمحمّد حافظون ممن اراده بسوء نظيره قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ-.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) شيع جمع شيعة وهو القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم من شاعه إذا تبعه وأصله الشياع وهو الحطب الصغار توقد به الكبار.
وَما يَأْتِيهِمْ يعنى الشيع حكاية حال ماضية يعنى ما أتاهم مِنْ رَسُولٍ من زائدة لتعميم النفي إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كما يفعل هؤلاء بك تسلّية للنبى صلى الله عليه وسلم.
كَذلِكَ اى كما سلكنا الاستهزاء والكفر فى قلوب الشيع الأولين نَسْلُكُهُ اى ندخل الاستهزاء فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) يعنى مشركى مكة- والسلك إدخال الشيء فى الشيء كالخيط فى المخيط والرمح فى المطعون- وفيه رد للقدرية ودليل على انه تعالى يوجد الباطل فى قلوب الكفار.
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حال من المجرمين وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) اى سنة الله فيهم بان خذلهم وسلك الكفر فى قلوبهم او باهلاك من كذب الرسل منهم.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ اى على هؤلاء المقترحين القائلين لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ بابا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) اى فظلت الملائكة يصعدون الى السماء وهم يرونها عيانا وقال الحسن فظل هؤلاء الكفار يعرجون الى السماء ويرون عجائبها طول نهارهم مستوضحين لما يرون.
لَقالُوا إِنَّما(5/293)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا
اى سددت منا الابصار بالسحر اى حبست ومنعت النظر من السكر وهو سد النهر كذا فى القاموس- يدل عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف كذا قال ابن عباس وقال الحسن معنى سكّرت بالتشديد سحرت وقال قتادة أخرت وقال الكلبي عميت قال فى القاموس سكرت أبصارنا اى حبست عن النظر وحيرت او غطيت وغشيت بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) قد سحرنا محمّد صلى الله عليه وسلم بذلك كما قالوه عند روية غير ذلك من المعجزات- وفى كلمة انّما وبل دلالة من الكفار على القطع بان ما يرونهم لا حقيقة له بل هو باطل خيّل إليهم بنوع من السحر-.
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً البرج هو النجم الكبير ماخوذ من التبرج اى الظهور يقال تبرجت المرأة إذا ظهرت- وقال عطية هى قصور فى السماء- وليس المراد بالآية مصطلح اهل الهيئة والنجوم فانها مبنية على كون السموات منطبقة بعضها على بعض بحيث يتحركن كلهن قسرا بحركة الفلك التاسع فلك الافلاك وكون حركة فلك الافلاك على منطقة وقطبين وحركة الفلك الثامن فلك الثوابت على منطقة وقطبين أخريين ولزوم الشمس منطقة الفلك الثامن وحصول التقاطع بين المنطقين ورسم خط يحصل به التقاطع بين الاقطاب الاربعة فيحصل اربعة أقواس كل قوس مشتملة على ثلاثة بروج- وذلك مما يأبى عنه الشرع فانه يثبت بالشرع حركة الكواكب دون السموات وبعد ما بين كل سمائين خمسمائة عام وعدد السموات لا يزيد على سبع وَزَيَّنَّاها اى البروج بالضياء او السماء بالشمس والقمر والكواكب لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها يعنى السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) فلا يقدر ان يصعد إليها ويوسوس أهلها او يتصرف فى أمرها او يطلع على أحوالها- قال البغوي قال ابن عباس كانت الشياطين لا يحجبون عن السموات وكانوا يدخلونها ويأتون باخبارها فيلقون على الكهنة فلمّا ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات فلمّا ولد محمّد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها فما منهم يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب- فلمّا منعوا تلك المقاعد ذكروا ذلك لابليس فقال لقد حدث فى الأرض حدث- قال فبعثهم فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم(5/294)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
يتلو القران فقالوا هذا والله الّذي حدث.
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ اى لكن من استرق السمع فَأَتْبَعَهُ اى تبعه ولحقه شِهابٌ مُبِينٌ (18) ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار تخرج من الكواكب قال البغوي وذلك ان الشياطين يركب بعضهم بعضا الى السماء الدنيا فيسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالشهب فلا يخطى ابدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه او جنبه او يده او حيث يشاء الله ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس فى البوادي عن ابى هريرة قال ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قضى الله الأمر فى السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كانّه سلسلة على صفوان فاذا فزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم قالوا للذى قال الحقّ وهو العلىّ الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض فيسمع الكلمة فيلقيها الى من تحته ثم يلقيها الاخر الى من تحته حتّى يلقيها على لسان الساحر او الكاهن وربما أدركه الشهاب قبل ان يلقيها وربما القاها قبل ان يدركه فيكذب معه مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة الّتي سمعت من السماء رواه البخاري ومن طريقه البغوي- وعن عائشة انها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ان الملائكة تنزل فى العنان وهى السحاب فيذكر الأمر قضى فى السماء فيسترق الشياطين السمع فيسمعه فيوحيه الى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم رواه البخاري ومن طريقه البغوي-.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها اى بسطناها على الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت وقد كانت الأرض تميد الى ان أرساها بالجبال وَأَنْبَتْنا فِيها اى فى الأرض او فى الجبال بل فى كليهما مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) اى مقدر بمقدار معين يقتضيه الحكمة- او مستحسن متناسب من قولهم كلام موزون- اوله وزن فى أبواب النعم او ما يوزن من الفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها حتّى الزرنيخ والكحل- وفى الجبال كالياقوت والزبرجد والفيروزج وغيرها.
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها اى فى الأرض والجبال مَعايِشَ جمع معيشة يعنى ما تعيشون بها فى الدنيا من المطاعم والمشارب والملابس والادوية وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) عطف على معايش اى جعلنا لكم من لستم(5/295)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
له برازقين من الدواب والانعام فمن هاهنا بمعنى ما كما فى قوله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ- وقيل يريد الله تعالى به العيال والخدم والمماليك والانعام والدواب الّتي يظنون انهم يرزقونها ظنا باطلا والله يرزقكم وإياهم وأورد كلمة من تغليبا للعقلاء على غيرهم- وقيل من فى محل الجر عطفا على الضمير المجرور فى لكم وفذلكة الاية الاستدلال بتلك الأشياء على وجود الصانع وكمال قدرته وتناهى حكمته وتفرده بالالوهية ووجوب الوجود والامتنان على العباد بما أنعم عليهم فى ذلك ليوحدوه ويعبدوه ويشكروه ولا يكفروه.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ اى ما من شيء خلقناه الا نحن قادرون على إيجاد أضعاف ما وجد منه من جنسه وتكوينها فضرب الخزائن مثلا لاقتداره- او شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة الّتي لا يحتاج فى إخراجها الى كلفة واجتهاد- وشبّه إيجاده فى الخارج بانزاله من الخزائن وإخراجه منه فقال وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) مقدر فى الأزل إيجاده معلوم عند الله مقداره- قلت ولعل المراد بالخزائن الأعيان الثابتة فى علم الله تعالى وبانزاله إيجاده فى الخارج الظلي بوجود ظلى- قال البغوي وعن الامام جعفر بن محمّد الصادق رضى الله عنهما وعن ابائهما انه قال فى العرش تمثال جميع ما خلق الله فى البر والبحر وهو تأويل قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ- قلت لعل مراد الامام عليه السلام عالم المثال فانها بمنزلة الخيال للعالم الكبير ومحل الخيال للانسان الدماغ ومحل الخيال للعالم الكبير العرش- وقيل أراد بالخزائن المطر وهو خزينة لكل شيء حيث قال الله تعالى وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ- ويقال لا ينزل من السماء قطرة الا ومعها ملك يسوقها حيث يريد الله كذا قال البغوي-.
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ اى حوامل تحمل السحاب الماطرة جمع لاقحة يقال ناقة لاقحة إذا حملت الولد ومنه ما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقح يعنى بيع ما فى بطن الناقة من الولد- جمع ملقوح وجاز ان يكون لواقح جمع لقوح وهى ناقة ذات لبن- قال البيضاوي شبه الريح الّتي جاءت يخبر من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه ما لا يكون كذلك بالعقيم- وقال ابن مسعود يرسل الله الريح فيحمل(5/296)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
الماء فيجرى به السحاب فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثم تمطر- وقال ابو عبيد أراد باللواقح ملاقح جمع ملقحة لانها تلقح الأشجار اى تجعلها حاملة للثمار- وقال عبيد بن عمير يبعث الريح المبشرة فيقمّ الأرض قمّا ثم المثيرة فتثير سحابا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه الى بعض فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فيلقح الشجر- وقال ابو بكر بن عياش لا يقطر قطرة من السماء الا بعد ان تعمل الرياح الأربع فيه فالصبا تهجه والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وفى الخبر ان اللقح الرياح الجنوب- وفى بعض الآثار ماهبت ريح الجنوب الا وانبعث عنبا عذقة- واما الريح العقيم فانها تأتى بالعذاب ولا تلقح- وروى البغوي من طريق الشافعي والطبراني عن ابن عباس قال ماهبت ريح قط إلا جثى النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا- قال ابن عباس فى كتاب الله أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً ... أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وقال أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ ويُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ... فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ اى جعلنا المطر لكم سقيا يقال أسقي فلان فلانا إذا جعل له سقيا وسقاه اى أعطاه ماء يشرب ويقول العرب سقيت الرجل ماء او لبنا إذا كان يسقيه فاذا جعلوا له ماء لشرب ارضه او ماشيته يقول أسقيته وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) يعنى ليس المطر فى خزائنكم بل هو فى خزائننا نفى عنهم ما اثبت لنفسه- او المعنى ما أنتم له بحافظين فى العيون والآبار ونحو ذلك- وذلك ايضا يدل على تدبير الحكيم كما يدل عليه حركة الريح فى بعض الأوقات من بعض الجهات وفى بعضها من بعض اخر من الجهات على وجه ينتفع به الناس فان طبيعة الماء يقتضى الغور فوقوفه دون حدّ لا بد له من سبب مقتضى لذلك-.
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي القلوب بالمعرفة والأجسام بتعليق النفوس الحيوانية او النباتية او نحو ذلك وَنُمِيتُ بإزالتها وتكرير الضمير فى انّا لنحن للدلالة على الحصر وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) لا يبقى حىّ سوانا- استعير الوارث للباقى بعد فناء غيره استعارة من وارث الميت لانه يبقى بعد فنائه.
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ(5/297)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ
(24) اى لا يخفى علينا شيء من أحوالكم بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته فان ما يدل على قدرته دليل على علمه- قال البغوي قال ابن عباس أراد بالمستقدمين الأموات وبالمستأخرين الاحياء- وقال الشعبي الأولين والآخرين وقال عكرمة المستقدمون من خلقه الله وحرج من أصلاب الآباء والمستأخرون من لم يخلق ولم يخرج بعد- وقال مجاهد المستقدمون الأمم السابقة والمستأخرون امة محمّد صلى الله عليه وسلم- وقال الحسن المستقدمون فى الطاعة والخير والمستأخرون المبطئون عنها- وقيل المستقدمون فى الصفوف فى الصلاة والمستأخرون فيها- اخرج ابن مردوية عن داود بن صالح انه سال سهل بن حنيف الأنصاري عن هذه الاية أنزلت فى سبيل الله قال لا ولكنها فى صفوف الصلاة- واخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه عن ابن عباس ان امراة حسناء كانت تصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعض القوم لئلا ينظروا إليها وتأخر بعض حتّى يكون فى الصف المؤخر فاذا ركع نظر من تحت ابطيه فنزلت هذه الاية- وقال الأوزاعي أراد المصلين فى أول الوقت والمؤخرين الى آخره- وقال مقاتل أراد المستقدمين فى صف القتال والمستأخرين فيه- وقال ابن عيينة أراد من اسلم ومن لم يسلم.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لا محالة للجزاء على ما عملوا من عمل عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات على شيء بعثه الله تعالى عليه رواه احمد والحاكم والبغوي- وتوسيط الضمير للدلالة على انه هو القادر والمتولى لحشرهم لا غير وتصدير الجملة بان لتحقيق الوعد وو التنبيه على ان ما سبق من الدلالة على كمال قدرته وعلمه بتفاصيل الأشياء يدل على صحة الحكمة كما صرح به قوله إِنَّهُ حَكِيمٌ ظاهر الحكمة متقن فى أفعاله عَلِيمٌ (25) وسع علمه كل شيء-.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يعنى جنس البشر بان خلق أباهم آدم عليه السلام وسمى إنسانا لظهوره- وادراك البصر إياه- ولموانسة بعضهم ببعض- وقيل من النسيان لانه عهد اليه فنسى مِنْ صَلْصالٍ اى طين يابس غير مطبوخ يصلصل اى يصوت إذا نقر- قال ابن عباس رضى الله عنهما هو الطين الحر الطيب الّذي إذا نضب(5/298)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
عنه الماء تشقق فاذا حرك تقعقع- وقال مجاهد هو الطين المنتن وقال هو من صلّ اللّحم وأصلّ إذا أنتن مِنْ حَمَإٍ طين تغير واسود من طول مجاورة الماء وهو صفة لصلصال اى كائن من حما مَسْنُونٍ (26) مصور من سنة الوجه كان فى الاول ترابا فعجن بالماء فصار طينا فمكث فصار حما فخلص فصار سلالة فصور فصار مسنونا فيبس فصار صلصالا- وقال مجاهد وقتادة المنتن المتغير من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فان ما يسيل بينهما كان منتنا ويسمى سنينا- وقال ابو عبيدة هو المصبوب فهو كالجواهر المذابة نصب فى القوالب من السن وهو الصب يقول العرب سننت الماء اى صببته كانه افرغ من الحمأ فصوّر منها تمثال انسان أجوف فيبس حتّى إذا نقر صلصل ثم غير ذلك طورا بعد طور حتّى سواه ونفخ فيه من روحه.
وَالْجَانَّ أريد به الجنس كما فى الإنسان لان تشعب الجنس إذا كان من شخص واحد خلق من مادة واحدة كان الجنس باسره مخلوقا منها- وقال ابن عباس الجانّ ابو الجن كما ان آدم ابو البشر- وقال قتادة هو إبليس ويقال الجان ابو الجن وإبليس ابو الشياطين وفى الجن مسلمون وقاسطون ويحيون ويموتون وليس من الشياطين مسلم ويموتون إذا مات إبليس- وذكر وهب من الجن من يولد لهم ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين ومن الجن من هم بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون منصوب بفعل مضمر يفسره خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ اى قبل خلق آدم عليه السلام مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) اى من نار الحر الشديد النافذ فى المسام- قال البغوي السموم ريح حارة تدخل مسام الإنسان وتقتله- ويقال السموم بالنهار والحرور بالليل وعن الكلبي عن ابى صالح السموم نار لا دخان لها والصواعق تكون منها وهى نار بين السماء وبين الحجاب فاذا أحدث الله امرا خرّقت الحجاب فهوت الى ما أمرت فالهدة الّتي يسمعون خرق ذلك الحجاب- وقيل نار السموم لهب النار- وقيل من نار السموم اى من نار جهنم- وعن الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان إبليس من حى من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم وخلقت الجن الذين ذكروا فى القران من مارج من نار فاما الملائكة خلقوا من النور.(5/299)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ فى المستقبل من الزمان بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت صورته وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي اصل النفخ اجراء الريح فى تجويف جسم اخر- والروح نوعان نوع منها علوى وهو خلق من خلق الله تعالى مجرد من المادّة يرى بنظر الكشف مقامه فوق العرش لكونه الطف منه وذلك هو الروح العلوي وذلك يرى بنظر الكشف خمسة بعضها فوق بعض القلب والروح والسر والخفي والأخفى وهى كلها من لطائف عالم الأمر- ونوع منها سفلى وهو بخار لطيف ينبعث من العناصر الاربعة الّتي يتركب منها الجسم الإنساني ويسمى ذلك بالنفس وقد جعل الله تعالى الروح السفلى المسمى بالنفس مرءة للارواح العلوية فكما ان الشمس مع كونها على السماء تمتلى فى المرأة عند المحاذات اى يحصل فى المرأة نورها وحرارتها حتّى يظهر اثارها فى المرأة من الاضاءة والإحراق كذلك الأرواح العلوية مع كونها على اوج تجردها تمتلى فى النفس حتّى يظهر فيها اثارها وذلك البرزات الحاصلة فى النفوس هى الأرواح الجزئية لكل فرد من الافراد- ثم الروح السفلى مع ما تحملها من العلويات تتعلق اولا بالمضغة القلبية وتفيض عليه القوة الحيوانية والمعارف الانسانية المكتسبة من الأرواح العلوية ثم تسرى حاملا لها فى تجاويف الشرائين الى اعماق البدن وسميت ذلك بالنفخ لمشابهته بنفخ الريح فى الشيء المجوف- وأضاف الله تعالى الروح الى نفسه تشريفا لكونه مخلوقا بامره من غير مادة- او لاستعداده قبول التجليات الرحمانية ما لا يستعد له روح غير الإنسان والإنسان وان كان الغالب منه عنصر الطين ولاجل ذلك أضيف خلقته الى الطين لكنه جامع للاسطقسّات العشر خمسة من عالم الخلق العناصر الاربعة والبخار المنبعث منها المسمى بالنفس والروح السفلى وخمسة من عالم الأمر المذكورة فهو لاجل ذلك الجامعية صار مستحقّا للخلافة أهلا لنور المعرفة ونار العشق والمحبة المقتضية للمعيّة الغير المتكيفة المحكية بقوله صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب ومهبطا للتجليات الذاتية والصفاتية والظلالية ولاجل ذلك المعيّة وقبول التجليات اقتضت الحكمة الالهية لقوله تعالى(5/300)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) امر من وقع يقع واللام هاهنا بمعنى الى يعنى قعوا الى آدم ساجدين لله تعالى جعل الله تعالى آدم قبلة للملائكة كما جعل الكعبة قبلة للناس فكما ان الكعبة انما صارت مسجودة إليها لاجل تجل لله تعالى فيها مختصة بها كذلك آدم عليه السلام-.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ اما تحقيقا بإدراك المعيّة المذكورة او تقليدا او امتثالا لامر العليم الحكيم كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) أكد الله سبحانه بتأكيدين للمبالغة فى التعميم ومنع التخصيص- وذكر عن المبرد انه قال أكد بالكل للاحاطة وبأجمعين للدلالة على انهم سجدوا مجتمعين دفعة واحدة وهذا ليس بشيء فانه لو كان كذلك لكان الثاني حالا منصوبا لا تأكيدا مرفوعا.
إِلَّا إِبْلِيسَ فانه لاجل عدم البصيرة لم يدرك المعيّة المذكورة ولم يستدل بان قول الحكيم لا يخلو من الحكمة- قيل الاستثناء منقطع لان إبليس لم يكن من الملائكة كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فعلى هذا يتصل به قوله تعالى أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) اى ولكن إبليس ابى- وقيل الاستثناء متصل وهو كان من الملائكة من صنف منها يسمون بالجن فعلى هذا ابى كلام مستأنف كانه جواب سائل قال هلا سجد.
قالَ الله سبحانه يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) يعنى اى شيء عرض لك فى ان لا تكون مع الساجدين الى آدم مع وجوبه عليك بحكم الحاكم على الإطلاق وظهور فضل آدم واستحقاقه بأخبار العليم الصادق الخلاق.
قالَ إبليس لكمال غباوته لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي اى لا يصلح لى وينافي حال ان اسجد لِبَشَرٍ جسمانى كثيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) وهى اخس العناصر وخلقتنى من نار وهى ألطفها وأشرفها- وقد ذكرنا ما يناسب هذا المقام فى تفسير سورة الأعراف-.
قالَ الله تعالى فَاخْرُجْ يعنى ان عصيتنى فاخرج مِنْها اى من السماء او الجنة او من زمرة الملائكة فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) مردود طريد من الخير والكرامة فان من يطرد يرجم بالحجارة- او انّك ترجم بالشهب ان تقربت السماء وهو وعيد متضمن للجواب عن شبهته وتعريضه على الله تعالى بانه لا ينبغى ان يؤمر الفاضل(5/301)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
بالسجود للمفضول- والجواب ان الفضل والخير كله بيد الله وفى امتثال امره فاذا عصى حرم من الخير واستحق الطرد.
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) فانه منتهى أمد الطرد واللعنة وبعد ذلك وقت الجزاء المترتب على تلك اللعنة والابعاد- او لانه بعد ذلك يعذب بما ينسى اللعن معه فيصير كالزائد- وقيل انما حد اللعنة به لانه ابعد غاية يضربها الناس- قال البغوي قيل ان اهل السماء يلعنون إبليس كما يلعنه اهل الأرض فهو ملعون فى السماء والأرض- قلت بل يلعنه خالق السموات والأرض حيث قال وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ إبليس.
رَبِّ فَأَنْظِرْنِي اى ان أخرجتني ولعنتنى فانظرنى اى أمهلني ولا تمتنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) أراد ان يجد فرصة الإغواء والنجات عن الموت إذ لا موت بعد البعث فاجابه الله فى الاول زيادة فى بلائه وشقائه لا إكراما له ولم يجبه فى الثاني و.
قالَ فَإِنَّكَ «1» مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) عند الله تعالى اى الوقت الّذي يموت فيه الخلائق وهو النفخة الاولى- يقال ان مدة موت إبليس أربعين سنة وهو ما بين النفختين-.
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم وما مصدرية اى باغوائك واضلالك ايّاى قسمى لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ اى فى الدنيا الّتي هى دار الغرور ازيّن لهم المعاصي- وقيل الباء للسببية اى لازيّننّ لهم بسبب اغوائك ايّاى وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) اى لاحملنهم على الغواية.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قرا ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بكسر اللام على صيغة الفاعل فى جميع القران يعنى أخلصوا دينهم بالتوحيد والطاعة لك ونفوسهم لاتباع مرضاتك والباقون بفتح اللام يعنى الذين أخلصتهم لنفسك عن طاعة غيرك وطهرتهم من الشوائب فهديتهم واصطفيتهم فلا يعمل فيهم كيدى-.
قالَ الله تعالى هذا اى الإخلاص صِراطٌ عَلَيَّ اى طريق للوصول الىّ من غير ضلال مُسْتَقِيمٌ (41) لا اعوجاج فيه أصلا قال الحسن صراط الحق مستقيم وقال مجاهد الحق يرجع على الله وعليه طريقه ولا يعرج على شيء- وقال الأخفش يعنى علىّ
__________
(1) وفى الأصل انّك(5/302)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
الدلالة على الصراط المستقيم- وجاز ان يكون هذا اشارة الى ما تضمنه الاستثناء وهو تخليص المخلص من اغوائه- والمعنى ان تخليص المخلصين طريق علىّ اى حق علىّ ان اراعيه مستقيم فلا انحراف عنه- وقال الكسائي هذا الكلام على التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه طريقك علىّ اى لا تفلت منى كما قال الله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فعلى هذا هذا اشارة الى ما اتخذ إبليس طريقا لنفسه اى طريق الإغواء- وقرا ابن سيرين ويعقوب وقتادة علىّ بالرفع والتنوين من العلوّ والمعنى ان هذا يعنى الإخلاص طريق رفيع من ان ينال مستقيم لايمال.
إِنَّ عِبادِي الظاهر ان الاضافة للاستغراق بدليل الاستثناء فيشتمل المؤمن والكافر لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) يعنى سلطانك بتسليط الله تعالى ليس الا على الغاوين واما المؤمنون فلا سلطان لك عليهم فهو تصديق لابليس فيما استثناه فهذه الاية نظير قوله تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ والمقصود بيان عصمة المخلصين وانقطاع مخالب الشيطان عنهم ومن هاهنا يندفع قول من شرط ان يكون المستثنى اقل من الباقي لافضائه الى تناقض الاستثناءين- وجاز ان يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن من اتبعك من الغاوين ليدخلنهم جهنم حذف الخبر لدلالة ما بعده عليه ويكون الكلام لتكذيب الشيطان فيما او هم ان له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده فان منتهى ما يقدر عليه الشيطان التحريض كما قال وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي- وجاز ان يكون الاضافة فى عبادى للعهد والمعنى انّ عبادى المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ والاستثناء حينئذ منقطع البتة-.
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ اى موعد الغاوين او المتبعين أَجْمَعِينَ (43) تأكيد للضمير او حال والعامل فيها الموعد ان جعلته مصدرا على تقدير المضاف ومعنى الاضافة ان جعلته اسم مكان فانه لا يعمل لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ اخرج هناد وابن المبارك واحمد الثلاثة فى الزهد وابن جرير وابن ابى الدنيا فى صفة(5/303)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
النار والبيهقي عن على بن ابى طالب رضى الله عنه قال أبواب جهنم هكذا ووضع احدى يديه على الاخرى وفرج بين أصابعه يعنى باب فوق باب سبعة أبواب فيملا الاول ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس ثم السادس ثم السابع- وذكر البغوي اثر على رضى الله عنه نحوه وقال فيه ان الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض- واخرج ابن جرير وابن ابى الدنيا فى صفة النار عن ابن جريج فى هذه الاية قال أولها يعنى الأبواب جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم السقر ثم الجحيم ثم الهاوية.
لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ اى من الغاوين جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) اى لكل دركة قوم يسكنونها- ومنهم حال من جزء او من المستكن فى لكل باب لا فى مقسوم لان الصفة لا تعمل فيما تقدم على موصوفه- قرا ابو بكر جزّ «1» بالتشديد بلا همز- قال البغوي قال الضحاك فى الدركة الاولى اهل التوحيد الذين ادخلوا النار يعذبون بقدر ذنوبهم ثم يخرجون وفى الثانية النصارى وفى الثالثة اليهود وفى الرابعة الصابئون وفى الخامسة المجوس وفى السادسة اهل الشرك وفى السابعة المنافقون قال الله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ- وقال البغوي روى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي او قال على امة محمّد صلى الله عليه وسلم- قال القرطبي الباب الاول جهنم»
وهو أهون عذابا من غيره وهو مختص بعصاة هذه الامة وسمى بذلك الاسم لانه يتجهّم فى وجوه الرجال والنساء فيأكل لحومهم والهاوية وهى أبعدها قعرا- واخرج البزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنار باب لا يدخله الا من شفى غيظه بسخط الله- واخرج الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجهنم سبعة أبواب أشدها غمّا وكربا وحزنا وانتنها للزناة الذين ركبوا الزنى بعد العلم- واخرج البيهقي عن الخليل بن مرة مرسلا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الصحيح قرا ابو بكر جزؤ بضم الزاء وبهمزة وابو جعفر جزّ بتشديد الزاء بلا همز والباقون بالإسكان وهمز- ابو محمّد
(2) اخرج ابن مردوية عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جزء أشركوا وجزء شكوا فى الله وجزء غفلوا- منه رحمه الله(5/304)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
كان لا ينام حتّى يقرا تبارك وحم السجدة وقال الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع- جهنم وحطمة ولظى وسقر والسعير والهاوية والجحيم قال يجيء حم السجدة منها يوم القيامة يقف على باب من هذه الأبواب فيقول اللهم لا يدخل هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرءونى واخرج الثعلبي ان سلمان الفارسي لما سمع قوله تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ فى ثلاثة ايام هاربا من الخوف لا يعقل فجيء به الى النبي صلى الله عليه وسلم فساله فقال يا رسول الله نزلت لهذه الاية وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الاية فو الّذي بعثك بالحق لقد قطعت قلبى فانزل الله تعالى.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ الذين لم يتبعوا الشيطان فى الشرك فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) لكل واحد منهم جنة وعين او لكل واحد عدة منها- قرا نافع وابو عمرو وهشام وحفص عيون بضم العين حيث وقع والباقون بكسرها.
ادْخُلُوها على ارادة القول يعنى يقال لهم ادخلوا الجنات والعيون بِسَلامٍ اى سالمين او مسلّما عليكم آمِنِينَ (47) من الموت والآفات والخروج.
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اى حقد كان فى الدنيا والماضي هاهنا بمعنى المستقبل عبر به تنبيها على تحقق وقوعها- اخرج سعيد بن منصور وابو نعيم فى الفتن وابن ابى شيبة والطبراني وابن مردوية عن على رضى الله عنه قال أرجو ان أكون انا وعثمان وطلحة والزبير منهم- قلت وذلك حين وقع الشر والفتنة بينهم حتّى قتل عثمان فى حرب الدار وطلحة والزبير يوم الجمل- واخرج عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد عن عبد الكريم بن رشيد قال ينتهى اهل الجنة الى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ النيران فاذا دخلوها نزع الله تعالى ما فى صدورهم من غل فصاروا إخوانا- او المراد بالآية نزع التحاسد من صدور اهل الجنة على درجات الجنة ومراتب القرب إِخْواناً حال من ضمير فى جنت او من فاعل ادخلوها او من الضمير فى امنين او من الضمير المضاف اليه والعامل هاهنا معنى الاضافة وكذا قوله عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) ويجوز ان يكونا صفتين لاخوان او حالين من ضميره لانه بمعنى متصافين وان يكون متقابلين حالا من المستقر فى على سرر اخرج هناد عن مجاهد فى هذه الاية قال لا يرى بعضهم قفا بعض- قال البغوي وفى بعض الاخبار ان المؤمن(5/305)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
فى الجنة إذا ودّ ان يلقى أخاه المؤمن سار سرير كل واحد منهما الى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان- واخرج ابن ابى حاتم عن على بن الحسين نزلت فى ابى بكر وعمر وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قيل واىّ غلّ قال غلّ الجاهلية ان بنى تميم وبنى عدى وبنى هاشم كان بينهم فى الجاهلية فلما اسلم هؤلاء القوم تحابوا فاخذت أبا بكر الخاصرة فجعل على يسخن يده فيكمد بها خاصرة ابى بكر فنزلت هذه الاية قلت على هذه الرواية قوله ونزعنا حال من الضمير المستكن فى جنات بتقدير قد تقديره إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وقد نزعنا فى الدنيا بالإسلام ما كان فى صدورهم فى الجاهلية من غلّ.
لا يَمَسُّهُمْ فِيها اى فى الجنة نَصَبٌ اى تعب استيناف او حال بعد حال من الضمير فى متقابلين وَما هُمْ مِنْها «1» اى من الجنة بِمُخْرَجِينَ (48) فان تمام النعمة بالخلود- اخرج الطبراني عن عبد الله بن الزبير قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفر من أصحابه يضحكون قال أتضحكون وبين ايديكم النار فنزل جبرئيل وقال يا محمّد يقول لك ربك لم تقنط عبادى من رحمتى.
نَبِّئْ عِبادِي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) واخرج ابن مردوية من وجه اخر عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الّذي يدخل منه بنوا شيبة قال الا أراكم تضحكون ثم أدبر ثم رجع القهقرى فقال انى خرجت حتّى إذا كنت عند الحجر جاء جبرئيل فقال يا محمّد ان الله يقول لم تقنط عبادى نبّئ عبادى الاية وفى نسق الكلام من هذه الاية فذلكة لما سبق من الوعد والوعيد وتقرير له وفى ذكر المغفرة دليل على ان المراد بالمتقين من يتقى الشرك لا من يتقى الذنوب كلها صغيرها وكبيرها- قال البغوي قال قتادة بلغنا ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال لو يعلم العبد قدر عفو الله لما نورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لتخرج نفسه- وروى الترمذي بسند حسن عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة
__________
(1) فى الأصل عنها اى عن الجنة(5/306)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
ما طمع فى الجنة أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من الجنة- وفى الصحيحين عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة وامسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل فى خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الّذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار- وفى توصيف ذاته بالمغفرة والرحمة دون التعذيب ترجيح بجانب الوعد على الوعيد وتأكيد له- روى احمد ومسلم عن سلمان واحمد وابن ماجة عن ابى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ان الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل منها فى الأرض رحمة منها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض واخّر تسعا وتسعين فاذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة-.
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) فى عطف هذه الجملة على نبّئ عبادى الاية تحقيق للوعد والوعيد فى الدنيا ايضا كما حققهما فى الاخرة فيما سبق- والضيف اسم يطلق على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث والمراد هاهنا الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى لبشارة ابراهيم بالولد وإهلاك قوم لوط.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً اى نسلم او سلمنا سلاما قالَ ابراهيم إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) خائفون لانهم دخلوا بغير اذن او بغير وقت او لانهم لم يأكلوا طعامه- والوجل اضطراب النفس بتوقع المكروه.
قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا رسل ربك نُبَشِّرُكَ استيناف فى مقام التعليل للنهى عن الوجل فان المبشر لا يخاف منه قرأ حمزة بالتخفيف وفتح النون من المجرد والباقون من التفعيل بِغُلامٍ يعنى إسحاق عليه السلام لقوله تعالى فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ... عَلِيمٍ (53) ذى علم بالغ إذا كبر فتعجب ابراهيم لاجل كبره وكبر امرأته و.
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ اى مع مس الكبر إياي والاستفهام للانكار ان يبشر فى مثل هذه الحالة وكذلك قوله فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) اى فباىّ اعجوبة تبشروني فان البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة(5/307)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
بشارة بغير شيء قرا ابن كثير بكسر النون مشددة فى كل القران على ادغام نون الجمع فى نون الوقاية ونافع بكسرها مخففة على حذف نون «1» الجمع استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة لابقاء نون الوقاية المكسورة على الياء والباقون بفتح النون وتخفيفها.
قالُوا اى الملائكة بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ اى بالصدق او باليقين او بطريقة هى حق وهو قول الله عزّ وجلّ وامره الّذي لا راد لقضائه فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) اى من الآيسين وذلك لانه تعالى قادر على ان يخلق بشرا من غير أبوين فكيف من شيخ فان وعجوز عاقر- وكان استعجاب ابراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة ولذلك.
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ قرا ابو عمرو والكسائي ويعقوب هاهنا وفى الروم يقنطون وفى الزمر لا تقنطوا بكسر النون فى الثلاثة والباقون بفتحها مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) اى المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة الله وكمال علمه وقدرته فان القنوط من رحمة الله كبيرة كالامن من مكره-.
قالَ ابراهيم فَما خَطْبُكُمْ اى شأنكم الّذي أرسلتم لاجله سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) لعله علم ان كمال المقصود ليس البشارة لانهم كانوا عددا والبشارة لا يحتاج الى العدد ولذلك اكتفى بالواحد فى بشارة زكريا ومريم عليهما السلام- او لانهم بشروه فى تضاعف الحال لازالة الوجل ولو كان تمام المقصود لابتدؤا بها.
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) اى مشركين يعنى قوم لوط.
إِلَّا آلَ لُوطٍ اى اتباعه واهل دينه ان كان استثناء من قوم كان منقطعا إذ القوم مقيد بالاجرام وان كان استثناء من الضمير فى مجرمين كان متصلا والقوم والإرسال شاملين للمجرمين- والمعنى انا أرسلنا الى قوم أجرموا كلهم الا ال لوط منهم لنهلك المجرمين وننجى ال لوط ويدل عليه قوله. إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ مما يعذب به غيرهم من القوم خفف حمزة والكسائي وشدده الباقون أَجْمَعِينَ (59) حملة مستأنفة على تقدير اتصال الاستثناء وجار مجرى خبر لكن على تقدير الانفصال وعلى هذا جاز ان يكون قوله.
إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من ال لوط او من الضمير المنصوب فى
__________
(1) هذا عند سيبويه واما عند جمهور القراء فالمحذوفة نون الوقاية- ابو محمّد عفا الله عنه(5/308)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
منجوهم وعلى تقدير اتصال الاستثناء لا يكون الاستثناء الا من الضمير لاختلاف الحكمين قَدَّرْنا اى قضينا قرا ابو بكر هنا وفى سورة النمل بتخفيف الدال والباقون بتشديدها إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) الباقين فى العذاب مع الكفار- علق قدّر مع ان التعليق من خواص افعال القلوب لتضمنه معنى العلم ويجوز ان يكون قدّر جار مجرى قلنا لان التقدير بمعنى القضاء قول وهو فى الأصل جعل الشيء على مقدار غيره واسناد الملائكة التقدير الى أنفسهم مع انه فعل الله تعالى لما لهم من القرب والاختصاص به تعالى او لانهم كانوا رسلا فكلامهم على وجه السفارة مستند اليه تعالى-.
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ لهم لوط إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) اى ينكركم نفسى إذ ليس عليكم زى السفر ولستم من اهل القرية فاخاف ان يصل الىّ منكم مكروه.
قالُوا اى الملائكة بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) يعنى ما جئنا بما تنكرنا لاجله بل جئناك بما يسرّك ويشفى لك فى أعدائك وهو العذاب الّذي تعد بها قومك فيمترون بها.
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ باليقين من عذابهم او بالعذاب المحقق فى علم الله تعالى وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فيما أخبرناك.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ اذهب بهم فى الليل قرا نافع وابن كثير فاسر بهمزة الوصل من السرى ومعناهما واحد بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ اى طائفة منها وقيل فى آخرها وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ يعنى كن على اثرهم حتّى تسرع بهم وتطلع على أحوالهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ اى لا ينظر وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه- او لئلا يروا ما نزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم فيصيبهم ما أصابهم- او لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه العذاب- وقيل نهوا عن الالتفات ليوطّنوا نفوسهم على المهاجرة او جعل النهى عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لان من يلتفت لا بد له فى ذلك من ادنى وقفة وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) يعنى الى حيث امر الله تعالى قال ابن عباس رضى الله عنهما يعنى الشام وقال مقاتل يعنى زغر.
وقيل أردن وَقَضَيْنا إِلَيْهِ اى أوحينا الى لوط مقضيّا ولذلك عدى بالى ذلِكَ(5/309)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
الْأَمْرَ
مبهم يفسره أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ يعنى أصلهم مَقْطُوعٌ ومحل انّ النصب على البدل منه وفيه تفخيم لذلك الأمر- والمعنى انهم يستأصلون عن آخرهم لا يبقى منهم أحد مُصْبِحِينَ (66) اى داخلين فى الصبح وهو حال من هؤلاء او من الضمير فى مقطوع- وجمعه حملا على المعنى فان دابر هؤلاء فى معنى مدبرى هؤلاء-.
وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ سدوم يَسْتَبْشِرُونَ (67) باضياف لوط يبشر بعضهم بعضا طمعا فى الفاحشة بهم فانهم كانوا فى صورة غلمان حسان الوجوه.
قالَ لهم لوط إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) فان تفضيح الضيف تفضيح للمضيف.
وَاتَّقُوا اللَّهَ فى ارتكاب الفاحشة وَلا تُخْزُونِ (69) قرا يعقوب لا تفضحونى ولا تخزونى بالياء والباقون بحذفها اى لا تذلّونى بسببهم من الخزي وهو الهوان او لا تخجلوني فيهم من الخزاية وهى الحياء.
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ معطوف على محذوف تقديره أنترك هؤلاء ولم ننهك والاستفهام للانكار وهو من الإثبات نفى وبالعكس يعنى لا نتركهم وقد نهيناك عَنِ الْعالَمِينَ (70) اى عن ان تجير منهم أحدا وتحول بيننا وبينهم فانهم كانوا يقطعون السبيل ويتعرضون كل واحد وكان لوط عليه السلام يمنعهم عنه بقدر وسعه- او عن ضيافة الناس وإنزالهم عندك فانا نركب منهم الفاحشة.
قالَ لهم لوط عليه السلام هؤُلاءِ بَناتِي قرا نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها وقد مر وجوه تأويله فى سورة هود عليه السلام إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) قضاء الشهوة او فاعلين ما أقول لكم فانكحوهن- قال الله تعالى.
لَعَمْرُكَ يا محمّد وحياتك قسمى وهو لغة فى العمر يختص به القسم لا يثار الأخف فيه لانه كثير الدور على الالسنة- قال البغوي روى عن ابى الجوزاء عن ابن عباس قال ما خلق الله نفسا أكرم عليه من محمّد صلى الله عليه وسلم وما اقسم بحياة أحد الا بحياته إِنَّهُمْ يعنى كفار قريش لَفِي سَكْرَتِهِمْ اى غوايتهم وشدة انهماكهم فى قضاء الشهوات وعدم تميزهم بين الخطاء والصواب الّذي يشاربه إليهم يَعْمَهُونَ (72) يتحبرون فكيف يسمعون نصحك والجملة معترضة فى قصة لوط- وقيل هذا من كلام الملائكة أضياف(5/310)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
لوط خاطبوا لوطا بقولهم لعمرك يا لوط انّهم يعنى قومك لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ-.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعنى الصيحة الهائلة المهلكة قيل صيحة جبرئيل مُشْرِقِينَ (73) اى داخلين فى وقت شرق الشمس وإضائتها فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين اشرقوا.
فَجَعَلْنا عالِيَها اى عالى المرتبة او عالى قرارهم سافِلَها رفعها جبرئيل الى السماء ثم قلبها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) اى من طين متحجرا وطين عليه كتاب من السجل وقد سبق مزيد بيان هذه القصة فى سورة هود- والفاء فى قوله فجعلنا تدل على تقدم الصيحة على قلب الأرض وامطار الحجارة والله اعلم.
إِنَّ فِي ذلِكَ الحديث لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) قال ابن عباس للناظرين وقال مجاهد للمتفرسين وقال قتادة للمعتبرين وقال مقاتل للمتفكرين قلت الوسم التأثير والسمة الأثر يعنى الناظرين فى ظواهر الأشياء وسماتها حتّى يتفرسوا بواطنها بسمات ظواهرها.
وَإِنَّها اى مدينة لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) اى بطريق ثابت واضح يسلكه الناس ويرون اثارها فالمقيم ما لم يندرس اثارها.
إِنَّ فِي ذلِكَ البيان لآية لّلمؤمنين (77) بالله ورسوله المعتقدين بان هذا البيان من الله تعالى.
وَإِنْ اى انه كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ اى الأشجار المتكاثفة وهم قوم شعيب كانوا يسكنون غيظة وكانت عامة شجرهم الدوم وهو المقل لَظالِمِينَ (78) اللام للتأكيد ظلموا أنفسهم وعرضوها للنار حيث كفروا بالله وكذبوا شعيبا.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وذلك ان الله سلط عليهم الحر سبعة ايام ثم بعث الله سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الروح فامطر الله عليهم منها نارا فاحرقتهم وذلك عذاب يوم الظلة وَإِنَّهُما يعنى سدوم قرية قوم لوط والايكة- وقيل الايكة ومدين فانه كان مبعوثا إليهما وكان ذكر إحداهما منبها على الاخرى لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) اى بطريق واضح أفلا يعتبر «1» بهما اهل مكة والامام اسم لما يؤتم به فسمى به اللوح ومطمر البناء والطريق لانها مما يؤتم بها-.
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ يعنى ثمود- والحجر واد بين المدينة والشام
__________
(1) فى الأصل افلا يعتدون [.....](5/311)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
الْمُرْسَلِينَ (80) يعنى صالحا عليه السلام وجميع المرسلين الذين شهد برسالتهم صالح.
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا يعنى آيات الكتاب المنزل على نبيهم او معجزاته كالناقة وولدها وسقياها ودرها فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها- او امنين من عذاب الله لفرط غفلتهم وحسبانهم ان الجبال يحميهم منه.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ صيحة العذاب مُصْبِحِينَ (83) اى حال كونهم داخلين فى الصباح.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ اى لم يدفع عنهم العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) من بناء البيوت الوثيقة واستكثار الأموال والعدد- وقد ذكرنا فى تفسير سورة التوبة فى قصة غزوة تبوك انه صلى الله عليه وسلم مر بالحجر فقال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم الا ان تكونوا باكين ان يصيبكم مثل ما أصابهم وتقنّع بردائه وهو على الرحل واسرع حتّى أجاز الوادي-.
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ اى خلقا متلبسا بالحق كى يكون دليلا على وجود الصانع وصفاته وحجة على المنكرين مزيلا لعذرهم- او المعنى «1» متلبسا بالحق لا يلايم استمرار الفساد ودوام الشر فاقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء وازالة فسادهم من الأرض وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فينتقم الله ممن أشرك بالله وكذّب رسله فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) اى اعرض عنهم ولا تعجل للانتقام منهم.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الّذي خلقك وخلق أعداءك وبيده الأمر كله الْعَلِيمُ (86) بالمحسن والمسيء فيجازى كلا منهما على حسب عمله- او هو العليم بحالك وحالهم فهو حقيق بان تكل اليه أمرك- او هو الّذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم والأصلح اليوم الصفح-.
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي جمع مثناة اسم الظرف او مثنية اسم الفاعل صفة للايات او السور- قال البغوي قال عمر وعلىّ وابن مسعود رضى الله عنهم هى فاتحة الكتاب سبع آيات وهو قول قتادة وعطاء والحسن وسعيد بن جبير
__________
(1) فى الأصل ملتبسا(5/312)
وروى البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أم القران هى السبع المثاني والقران العظيم- وفى وجه التسمية بالمثاني اقوال قال ابن عباس رضى الله عنهما والحسن وقتادة لانها تثنّى فى الصلاة فيقرا فى كل ركعة- وقيل لانها مقسومة بين الله وبين العبد بنصفين نصفها ثناء ونصفها دعاء- عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عزّ وجلّ قسّمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين الحديث وقد مر فى تفسير سورة الفاتحة- وقال الحسين بن الفضل سميت مثانى لانها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة كل مرة معها سبعون الفا من الملائكة- وقال مجاهد سميت مثانى لان الله تعالى استثناها وادّخرها لهذه الامة فما أعطاها غيرهم- وقال ابو زيد البلخي سميت مثانى لانها تثنى اى تصرف اهل الشر عن الفسق من قولهم ثنيت عنانى- وقيل لانها تثنى على الله عزّ وجلّ بصفاته العظام «1» - وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال سبعا يعنى سبع سور من المثاني للبيان فالمثانى اما من التثنية باعتبار تكرر قراءته او ألفاظه او قصصه ومواعظه قال وهى السبع «2» الطوال أولها البقرة وآخرها الأنفال مع التوبة فانهما فى حكم سورة واحدة ولذلك لم يكتب بينهما سطر بسم الله- وقيل سابعها التوبة وحدها وقيل يونس- قال ابن عباس انما سميت السبع الطوال مثانى لان الفرائض والحدود والأمثال والخير والشر والعبر ثنيت فيها يعنى تكررت- وقيل انها من الثناء باعتبار انه مثنّى عليه بالبلاغة والاعجاز ومثنّى على الله بما هو اهله من أسمائه وصفاته- روى محمّد بن نصر عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله أعطاني السبع الطوال مكان التورية وأعطاني الراءات الى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين الى الحواميم مكان الزبور وفضلنى بالحواميم والمفصل ما قزاهن نبى قبلى- وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال اوتى النبي صلى الله عليه وسلم السبع الطوال واعطى موسى عليه السلام ستّا فلما القى الألواح رفغت ثنتان وبقيت اربع- وقيل المراد بالسبع الحواميم السبع روى البغوي بسنده
__________
(1) وعن عمر بن الخطاب قال فى قوله تعالى لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال السبع الطوال- وروى ذلك ايضا عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد وسفيان وغيرهم- قلت والمثاني القران يذكر الله القصة الواحدة مرارا 12 منه رحمه الله
(2) فى الأصل بصفاته العظيم(5/313)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
عن ثوبان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الله أعطاني السبع الطوال مكان التورية وأعطاني المائين مكان الإنجيل وأعطاني مكان الزبور المثاني وفضلنى ربى بالمفصل- وقال طاءوس المراد بالمثاني القران كله بدليل قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ سمى القران مثانى لان الانباء والقصص ثنيت فيه فعلى هذا من للتبعيض والمراد بالسبع السور السبع- وقيل المراد بالسبع سبعة اسباع القران ومن المثاني القران كله فعلى هذا قوله تعالى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) من قبيل عطف أحد الوصفين على الاخر وعلى التأويلات السابقة من قبيل عطف الكل على البعض او العام على الخاص-.
لا تَمُدَّنَّ يا محمّد عَيْنَيْكَ اى لا ترفع بصرك طمعا إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من امتعة الدنيا أَزْواجاً أصنافا مِنْهُمْ اى من الكفار فانها مستحقرة بالاضافة الى ما أوتيته من القران روى إسحاق بن راهويه فى مسنده من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص انه قال من اوتى القران فراى أحدا اوتى من الدنيا أفضل مما اوتى فقد صغّر عظيما وعظّم صغيرا- وقال البغوي روى ان سفيان بن عيينة تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يتغنّ بالقران اى لم يستغن به روى الحديث البخاري عن ابى هريرة واحمد وابو داود وابن حبان والحاكم عن سعد وابو داود عن ابى لبابة عن عبد المنذر والحاكم عن ابن عباس وعائشة وروى البيهقي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغبطن فاجرا بنعمة ان له عند الله قاتلا لا يموت ورواه البغوي بلفظ لا تغبطن فاجرا بنعمة فانك لا تدرى ما هو لاق بعد موته ان له عند الله قاتلا لا يموت- فبلغ ذلك وهب بن منبه فارسل اليه أبا داود الأعور فقال يا أبا فلان ما قاتلا لا يموت قال عبد الله بن مريم النار- وروى احمد ومسلم والترمذي وابن ماجة والبغوي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظروا الى من هو أسفل منكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فهو أجدر ان لا تزدروا نعمة الله عليكم وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ اى على الكفار بانهم(5/314)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
لم يؤمنوا او المعنى لا تغتم على ما فانك من مشاركتهم فى الدنيا وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) اى ليّن جانبك لهم وارفق بهم وارحمهم.
وَقُلْ إِنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) أنذركم ببيان وبرهان ان عذاب الله نازل بكم ان لم تؤمنوا-.
كَما أَنْزَلْنا اى مثل الّذي أنزلنا من العذاب فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) قال البغوي حكى عن ابن عباس انه قال هم اليهود والنصارى.
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) اخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عباس قال سال رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ارايت قول الله تعالى كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قال اليهود والنصارى قال ما عضين قال أمنوا ببعض وكفروا ببعض جمع عضة كعدة الفرقة والقطعة كذا فى القاموس أصلها عضوة فعلة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء فاليهود والنصارى اقتسموا القران الى حق وباطل وجعلوه اجزاء صدقوا بعضه وقالوا هذا حق موافق للتورية والإنجيل وكذبوا بعضه وقالوا هذا باطل مخالف لهما- وقيل كانوا يستهزءون به فيقول بعضهم سورة البقرة لى ويقول الاخر سورة ال عمران لى- وقال مجاهدهم اليهود والنصارى وأريد بالقران ما يقرءون من كتبهم قسمت اليهود والنصارى كتابهم فعرفوه وتركوه- وقيل المقتسمون قوم اقتسموا القران فقال بعضهم سحر وقال بعضهم شعر وقال بعضهم كهانة وقال بعضهم أساطير الأولين- وقيل الاقتسام هو انهم فرقوا القول فى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا شاعر ساحر كاهن- وقال مقاتل كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة ايام الموسم فاقتسموا عقاب مكة وطرقها وقعدوا على أنقابها يقولون لمن جاء من الحاجّ لا تغتروا بهذا الخارج (الّذي يدعى النبوة) منّا يقول طائفة منهم انه مجنون وطائفة انه كاهن وطائفة انه شاعر والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكما فاذا سئل عنه قال صدق أولئك يعنى المقتسمين- والعذاب النازل بالمقتسمين ان كان المراد بهم اليهود فقتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير وغيرهم وان كان(5/315)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
المراد بهم قريش فما نزل بهم يوم بدر حيث قتلوا أجمعون- وقيل المراد بالمقتسمين الذين تقاسموا على ان يبيتوا صالحا عليه السلام- وقيل عضين جمع عضة أصلها عضهة ذهبت هاؤها كما نقصوا من الشفة وأصلها شفهة بدليل التصغير على شفيهة والمراد بالعضهة الكذب والبهتان فى القاموس العضة الكذب ومنه فى حديث البيعة ولا يعضه بعضنا بعضا اى لا يرميه بالعضهة وهى البهتان والكذب- وفى حديث اخر إياكم والعضة قال الزمخشري أصلها فعلة من العضهة وهو البهت فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة كذا فى النهاية للجزرى- وقيل العضة السحر فى القاموس العضون السحر جمع عضهة بالهاء وانما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله العاضهة والمستعضهة اى الساحرة والمستسحرة كذا فى النهاية- وجاز ان يكون كما أنزلنا متعلقا بقوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ فانه بمعنى أنزلنا إليك والمعنى أنزلنا إليك سبعا من المثاني انزالا كما أنزلنا التورية والإنجيل على المقتسمين يعنى اليهود والنصارى فهو صفة لمصدر محذوف وعلى هذا يكون قوله تعالى لا تَمُدَّنَّ الى آخره اعتراضا وعلى ما ذكرنا الموصول اعنى قوله الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ صفة للمقتسمين- وان كان المراد بالمقتسمين المقتسمين على تبييت صالح عليه السلام فالموصول مبتدا خبره-.
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) من الكفر والمعاصي والتقسيم ونسبة القران الى الكذب او السحر ومجازيهم عليه- قال البغوي قال محمّد بن إسماعيل البخاري قال عدة من اهل العلم يعنى عن قول لا اله الا الله اخرج الترمذي وابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردوية عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الاية قال عن قول لا اله الا الله- واخرج مسلم عن ابى برزة الأسلمي رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال قد ما عبد عن الصراط حتّى يسئل عن اربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن علمه ما عمل فيه وعن ماله من اين اكتسبه وفيم أنفقه- واخرج الترمذي وابن مردوية مثله عن ابن مسعود واخرج(5/316)
الطبراني والاصبهانى فى الترغيب عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تناصحوا فى العلم ولا يكتم بعضكم بعضا فان خيانة الرجل فى علمه أشد من خيانته فى ماله وان الله سائلكم عنه- واخرج ابو نعيم عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يخطو خطوة الا يسئل الله عنها ما أراد بها- واخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من امّ قوما فليتق الله وليعلم انه ضامن مسئول لما ضمن فان احسن كان له من الاجر مثل اجر من خلفه وما كان من نقص فهو عليه- واخرج ابن ابى حاتم وابو نعيم فى الحلية عن معاذ بن جبل قال قال النبي صلى الله عليه وسلم يا معاذ ان المؤمن سئل يوم القيامة عن جميع سعيه حتّى كحل عينيه- واخرج البيهقي وابن ابى الدنيا عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يخطب الا الله سائله منها ماذا أراد بها مرسل جيد الاسناد- واخرج ابن ابى حاتم عن الانفع بن عبد الله الكلاعى قال ان لجهنم سبع قناطير والصراط عليهن فيحبس الخلائق على القنطرة الاولى فيقول قفوهم انهم مسئولون فيحاسبون على الصلاة ويسئلون منها فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا فاذا بلغوا الثانية حوسبوا على الامانة كيف أدوها وكيف خانوها فيهلك من هلك وينجو من نجا فاذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها فيهلك من هلك وينجو من نجا قال والرحم يومئذ متدلية الى الهوى تقول اللهم من وصلني فصله ومن قطعنى فاقطعه- واخرج ابن ماجة عن ابى سعيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله تبارك وتعالى ليسئل العبد يوم القيامة حتّى يقول ما منعك إذا رايت المنكر ان تنكره فاذا لقن الله حجته قال يا رب رجوتك وفرقت من الناس وفى الصحيحين عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته قال الامام الّذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع على اهل بيته وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية على اهل بيت زوجها وولده وهى مسئولة عنهم وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته- وفى الباب عن انس عند ابن حبان وابى نعيم وعنه عند الطبراني واخرج(5/317)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
الطبراني فى الكبير عن المقدام سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يكون رجل على قوم الا جاء يقدمهم يوم القيامة بين يديه رأية يحملها وهم يتبعونه فيسئل عنهم ويسئلون عنه- واخرج ايضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من امير يأمر على عشرة الا سئل عنهم يوم القيامة وفى باب السؤال أحاديث كثيرة جدّا- فان قيل كيف الجمع بين هذه الاية وما فى معناها من الأحاديث وبين قوله تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قال ابن عباس وجه الجمع انه لا يسئل هل عملتم به لانه اعلم به منهم ولكن يقول لم عملتم كذا «1» وكذا اخرج البيهقي من طريق ابى طلحة عنه واعتمد عليه قطرب وقال السؤال ضربان سوال استعلام وسوال توبيخ فقوله تعالى لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ يعنى استعلاما
وقوله لَنَسْئَلَنَّهُمْ أجمعين يعنى توبيخا وتقريعا وقال عكرمة عن ابن عباس فى جمع الآيتين ان يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف فيسئلون فى بعض المواقف ولا يسئلون فى بعضها نظيره قوله تعالى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وفى موضع اخر ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ كذا اخرج الحاكم.
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال ابن عباس اى اظهر امر للنبى صلى الله عليه وسلم بإظهار الدعوة- روى عن عبد الله بن عبيدة قال كان مستخفيا حتّى نزلت هذه الاية فخرج هو وأصحابه- ويروى عن ابن عباس امضه قال الضحاك اعلم وقال الأخفش افرق بالقران بين الحق والباطل وقال سيبويه اقض بما تؤمر واصل الصدع الإبانة والفصل والتميز وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) لا تلتفت إليهم قيل نسخه اية القتال-.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) بقمعهم وإهلاكهم قال البغوي يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم فاصدع بامر الله ولا تخف أحدا غير الله فان الله تعالى كافيك ممن عاداك كما كفاك المستهزئين وهم خمسة نفر من رؤساء قريش الوليد بن المغيرة المخزومي وكان رأسهم والعاص بن وائل السهمي والأسود ابن المطلب بن الحارث بن اسد بن عبد العزى ابو زمعة (وكان رسول الله صلى الله
__________
(1) فى الأصل كذا كذا(5/318)
عليه وسلم قد دعا عليه فقال اللهم أعمه بصره واثكله بولده) والأسود بن عبد يغوث ابن وهب بن عبد مناف بن زهرة والحارث بن قيس بن الطلالة- فاتى جبرئيل محمّدا صلى الله عليه وسلم والمستهزءون يطوفون بالبيت فقام جبرئيل وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الى جنبه فمر به الوليد بن المغيرة فقال جبرئيل يا محمّد كيف تجد هذا قال بئس عبد الله قال قد كفيت وأومأ الى ساق الوليد فمر برجل من خزاعة ينال بريش نباله وعليه برديمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظية من نبل بإزاره فمنعه الكبر ان يبطامن فينزعها وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض فمات- ومر به العاص بن وائل فقال جبرئيل كيف تجد هذا يا محمّد قال بئس عبد الله فاشار جبرئيل الى اخمص رجليه وقال قد كفيت فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطى على شبرقة فدخلت منها شوكة فى اخمص رجله فقال لدغت لدغت فطلبوا فلم يجدوا شيئا وانتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه- ومر به الأسود بن المطلب فقال جبرئيل عليه السلام كيف تجد هذا قال عبد سوء فاشار بيده الى عينيه وقال قد كفيت فعمى قال ابن عباس رضى الله عنهما رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عيناه فضرب برأسه الجدار حتّى هلك- وفى رواية الكلبي أتاه جبرئيل وهو فى اصل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك فاستغاث بغلامه فقال غلامه لا ارى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك حتّى مات وهو يقول قتلنى رب محمّد- ومر به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل كيف تجد هذا قال بئس عبد الله على انه ابن خالى فقال قد كفيت وأشار الى بطنه فاستسقى بطنه فمات جنبا وفى رواية الكلبي انه خرج من اهله فاصابه السموم فاسود حتّى صار حبشيا فاتى اهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب حتّى مات وهو يقول قتلنى رب محمّد- ومر به الحارث ابن قيس فقال جبرئيل كيف تجد هذا قال عبد سوء فاوما الى رأسه وقال قد كفيت فامتخط قبحا فقتله وقال ابن عباس انه أكل حوتا مالحا فاصابه العطش(5/319)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
فلم يزل يشرب عليه من الماء حتّى انفذ بطنه فمات فذلك قوله عز وجل إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك وبالقرآن- واخرج الطبراني وابو نعيم والبيهقي فى الدلائل من حديث ابن عباس رضى الله عنهما انهم كانوا خمسة من اشراف قريش الوليد ابن المغيرة والعاص بن الوائل وعدى بن قيس والأسود بن عبد يغوث والأسود ابن المطلب يبالغون فى إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فقال جبرئيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت ان أكفيكهم فاوما الى ساق الوليد فمر بنبّال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لاخذه فاصاب عرقا فقطعه فمات وأومأ الى اخمص العاص فدخلت فيه شوكة فانتفخت رجله حتّى صارت كالرحى ومات وأشار الى انف عدى بن قيس فامتخط قيحا فمات والى رأس الأسود بن عبه يغوث وهو قاعد فى اصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتّى مات والى عينى الأسود بن عبد المطلب فعمى- واخرج البزار والطبراني عن انس ابن مالك قال مر النبي صلى الله عليه وسلم على أناس فجعلوا يغمزون فى قفاه هذا الّذي يزعم انه نبى ومعه جبرئيل فغمر جبرئيل فوقع مثل الطفر فى أجسادهم فصارت قروحا حتّى نتنوا فلم يستطع أحد ان يدنو منهم فانزل الله تعالى إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) عاقبة أمرهم-.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ اى يمتلى صدرك من الغيظ ولا تستطيع إنفاذه بِما يَقُولُونَ (97) من الشرك والطعن فى القران والاستهزاء.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافرغ الى الله بالتسبيح والتحميد يشغلك التسبيح والتحميد عن الغيظ ويكفيك الله ويكشف عنك الغم ويذهب عنك الغيظ ويشف صدرك- او فنزهه عما يقولون حامدا لله على ما هداك الى الحق قال ابن عباس فصل بامر ربك وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) من المتواضعين وقال الضحاك يعنى قل سبحان الله وبحمده وكن من المصلين- اخرج احمد وابو داود وابن جرير(5/320)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان رضى الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرّبه امر فزع الى الصلاة.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) اى الموت الموقن به فانه متيقن لحوقه كل مخلوق حىّ- والمعنى ما دمت حيّا ولا تخل بالعبادة كما فى قول عيسى أوصني بالصّلوة «1» ما دمت حيّا- روى البغوي بسنده وغيره عن جبير بن نفير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اوحى الىّ ان اجمع المال وأكون من التاجرين ولكن اوحى الىّ ان سبح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ- وعن عمر رضى الله عنه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مصعب بن عمير مقيلا عليه إهاب كبش قد تنطق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظروا الى هذا الّذي قد نور الله قلبه لقد رايته بين أبويه يغذو انه بأطيب الطعام والشراب ولقد رايت عليه حلة شراها وشريت بمائتي درهم فدعاه حب الله وحب رسوله الى ما ترونه تمت تفسير سورة الحجر فى السادس والعشرين من الربيع الثاني من السنة الثانية بعد المائتين والف ويتلوه تفسير سورة النحل ان شاء الله تعالى- تمت سنة 1202 هـ.
فهرس تفسير سورة النّحل من التّفسير المظهرى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مضمون صفحه حديث إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح- 8 حديث ان الله خلق خلقه فى ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى إلخ 11 حديث لا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار مثقال ذرة من ايمان- 12 وجه المقابلة بين الكبر والايمان- 12 وذكر الفناء المصطلح الصوفية- 12 حديث من دعا الى هدى كان له من الاجر مثل أجور من تبعه الحديث 13 حديث قال الله كذبنى عبدى ولم يكن له ذلك وشتمنى الحديث- 19 حديث انى ارى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون أطت السماء أطا الحديث- 23 حديث لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق- 24
__________
(1) وفى القران بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا-(5/321)
مضمون صفحه مضمون صفحه ما ورد فى نزول العذاب عند ترك الأمر بالمعروف 37 ما ورد فى العسل وكونه شفاء- 32 قال الله تعالى انى والجن والانس فى نبا عظيم اخلق ويعبد غيرى الحديث- 35 حديث من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه- 45 حيوة المؤمن فى الدنيا حيوة طيبة وبيان كونها طيبة- 46 حديث ان الله يقول لاهل الجنة هل رضيتم الحديث وفيه ان رضوان الله أفضل نعيم الجنة- 47 حديث ان أعلمكم وأتقاكم بالله انا- 47 حديث عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير- 47 مسائل الاستعاذة قبل القراءة وقيل بعد 48 واختلاف العلماء فى التعوذ فى الصلاة 48 وكيفية التعوذ وحقيقته- 49 فيما ورد ان المؤمن لا يكون كاذبا- 53 قصة بلاء عمار وأبيه وامه حين اكرهوا على الكفر- 54 مسائل الإكراه وتعريفه واقسامه وأحكامه وما ورد فيه- 55 قصة قتل خبيب حين اكره على الكفر فلم يكفر 56 قصة رجلين مسلمين سالهما مسيلمة الكذاب عن نبوته فاعطاه أحدهما ما أراد تقية وقتل الثاني شهيدا- 56 اختلاف العلماء فى تصرفات المكره- 57 اعطى ابراهيم عليه السلام فى الدنيا حسنة وهى الخلة وطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستجيب دعاؤه بعد الف سنة- 65 ما ورد فى ان الله تعالى امر بالجمعة لليهود والنصارى فابوا واختاروا السبت والأحد واعطى الجمعة لهذه الامة فقبلوا- 67 قصة قتل حمزة رضى الله عنه وما مثل به وما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وأراد الانتقام ومثلة الكفار فامر بالصبر- 68 وما ورد من النهى عن المثلة- 79 تمّت.(5/322)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
سورة النحل
مائة «1» وثمانية وعشرون اية مكية الّا ثلاث آيات من آخرها روى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت النحل كلها بمكة الا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فانزل الله وَإِنْ عاقَبْتُمْ الى اخر السورة- ربّ يسّر وتمّم بالخير «2» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ اى دنا وقرب قال ابن عرفة يقول العرب أتاك الأمر وهو متوقع بعد- فالاتيان مجاز من الدنو او من وجوب الوقوع فان الأمر الواجب الوقوع فى المستقبل بمنزلة الماضي فى كونه متيقنا وجوده- والمعنى ان امر الله الموعود وهو قيام الساعة على ما قاله الكلبي وغيره واجب وقوعه استيقنوا به ولا ترتابوا فيه واعدّوا له كانه قد اتى فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اى لا تستعجلوا وقوعه إذ لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم عنه- قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما لما نزل قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قال الكفار بعضهم لبعض ان هذا الرجل يزعم ان القيامة قد قربت فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتّى ننظر ما هو كائن فلما لم ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فنزل قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فاشفقوا فلما امتددن الأيام قالوا يا محمّد ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فانزل الله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم وظنوا انها قد أتت حقيقة فنزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمانوا- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال
__________
(1) وفى الأصل مائة وعشرون
(2) الخطبة من الناشر-(5/324)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى نزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ- والاستعجال طلب الشيء قبل أوانه- قال البغوي ولمّا نزلت هذه الاية قال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت انا والساعة كهاتين فاشار بإصبعيه كادت لتسبقنى- قلت وفى الصحيحين عن انس بعثت انا والساعة كهاتين- وروى الترمذي عن المستور بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعثت فى نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى- وقال البغوي قال ابن عباس كان بعث النبي صلى الله عليه وسلم من اشراط الساعة ولما مر جبرئيل عليه السلام باهل السموات مبعوثا الى محمّد صلى الله عليه وسلم قالوا الله اكبر قامت الساعة- وقال قوم المراد بالأمر هاهنا عقوبة المكذبين والعذاب بالسيف وذلك ان النضر بن الحارث قال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ فاستعجلوا العذاب فنزلت هذه الاية وقتل النضر يوم بدر صبرا سُبْحانَهُ اى اسبح الله سبحانا وانزهه تنزيها وَتَعالى يعنى تعاظم وترافع بالأوصاف الجليلة عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) عن ان يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم او عما يصفه به المشركون- قرا حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب فى الموضعين مطابقا لقوله تعالى فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ والباقون بالياء على الالتفات او على ان الخطاب للمؤمنين او لهم ولغيرهم لما مر فى الحديث انه وثب النبي صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رءوسهم فنزلت فلا تستعجلوه-.
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قرا العامة بضم الياء وكسر الزاء من الافعال ونصب الملائكة على المفعولية ويعقوب بالتاء الفوقانية وفتح الزاء على صيغة المضارع من التفعيل بحذف احدى التاءين ورفع الملائكة على الفاعلية بِالرُّوحِ اى بالوحى او القران فانه يحيى به القلوب الميتة بالجهل مِنْ أَمْرِهِ اى بامره ومن اجله عَلى مَنْ يَشاءُ ان يتخذه رسولا مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا اى اعلموا من نذرت هكذا إذا علمته وان مفسرة لان الروح بمعنى الوحى الدال على القول او مصدرية فى موضع الجر على البدل من الروح او النصب بنزع الخافض- او مخففة من الثقيلة أَنَّهُ اى الشأن لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)(5/325)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
رجوع الى مخاطبتهم بما هو المقصود او يقال انذروا بمعنى خوّفوا اهل الشرك والمعاصي بالعذاب واعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ اى خافون- وفى الاية تنبيه على ان الوحى حاصله التنبيه على التوحيد وهو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى الّذي هو أقصى كمالات العملية والآيات الآتية دالة «1» على الواحدية من حيث انها تدل على انه تعالى هو الموجد لاصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة ولو كان له شريك لقدر على ذلك وأمكن التمانع- وفى تعقيب هذه الاية لقوله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ اشارة الى الطريق الّذي علم الرسول بذلك إتيان الساعة وازاحة لاستبعادهم باختصاصه بالعلم-.
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ متلبسا بِالْحَقِّ أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة بحيث يدل على صانع قديم واحد قدير حكيم تَعالى تعاظم وارتفع عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) منهما او يفتقر فى وجوده او بقائه عليهما وهما لا يقدران على خلقها وفيه دليل على انه تعالى ليس من قبيل الاجرام.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ جماد لا حس لها ولا حركة سيالة لا يحفظ الوضع والشكل حتّى صار قويّا شديدا فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ منطيق مجادل مُبِينٌ (4) للحجة على نفى البعث بقوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ- او ظاهر الجدال بخالقه قال البغوي نزلت فى أبيّ بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم فقال أتقولون ان الله يحيى هذا بعد مارم ونزلت فيه ايضا وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ- واخرج ابن ابى حاتم عن السدىّ هذه القصة فى قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ الاية- والمعنى ان هذا المنكر لم يتفرس بان الله تعالى خلقه وقد كان نطفة فاىّ استبعاد فى خلقه مرة اخرى بعد مارم ولفظ الاية عام وان كان المورد خاصّا والله اعلم-.
وَالْأَنْعامَ يعنى الإبل والبقر والغنم منصوب بمضمر يفسره قوله خَلَقَها لَكُمْ او بالعطف على الإنسان وجملة خَلَقَها لَكُمْ بيان لما خلق لاجله وما بعده تفصيله فِيها دِفْءٌ فى القاموس انه نقيض حدة البرد يعنى تستدفئون من اوبارها واشعارها وأصوافها ويجعل منها ملابس ولحفا وَمَنافِعُ من النسل والدر والركوب والحمل
__________
(1) فى الأصل ادلة-(5/326)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
وسقى الزرع والبيع وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) ما يؤكل منها كاللحوم والشحوم والألبان- وتقديم الظرف للمحافظة على رؤس الاى او لان الاكل منها هو المعتاد المعتمد عليه فى المعاش بخلاف الاكل من سائر الحيوانات المأكولة فانها اما على سبيل التفكه او التداوى.
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ زينة حِينَ تُرِيحُونَ تردونها من مراعيها الى مراحيها بالعشي وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) اى تخرجونها بالغداة الى المراعى فان الافنية تتزين بها فى الوقتين ويجلّ أهلها فى أعين الناظرين إليها وتقديم الاراحة لان الحال فيها اظهر فانها تروح ملا البطون حاقلة الضروع.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ فضلا من ان تحملوها على ظهوركم اليه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بالمشقة والجهد- قرا ابو جعفر بفتح الشين والجمهور بكسرها- وهما لغتان نحو رطل ورطل إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) حيث خلقها لانتفاعكم بها.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عطف على الانعام لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً اى لتركبوها ولتتزيّنوا بها زينة- وقيل هى معطوفة على محل لتركبوها وتغير النظم لان الزينة بفعل الخالق والركوب فعل اختياري للمخلوق ولان المقصود من خلقها الركوب كما ان المقصود من خلق البقر الحرث وانما يحصل التزيين بالدواب بالعرض- احتج بهذه الاية ابو حنيفة على حرمة لحوم الخيل او كراهتها قال صاحب الهداية هذه الاية خرج مخرج الامتنان والاكل من أعلى منافعها والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها- قلت أكل لحوم الشاة والدجاجة ونحوها أطيب جدّا من لحوم الخيل ويتيسر ذلك بأدنى مؤنة بخلاف لحوم الخيل فلذلك لم يعتبر أكل لحوم الخيل من منافعها فالقول بان الاكل أعلى منافعها ممنوع بل أعلى منافعها ما لا يحصل الا به كالركوب والزينة ولاجل ذلك ذكر الله سبحانه المنفعتين المذكورتين فى الامتنان والله اعلم- وكيف يدل الاية على حرمة الخيل والحمر والبغال مع ان الاية مكية وكلها كانت حلالا حينئذ وانما حرمت لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر سنة ست من الهجرة وقد مر المسألة فى تفسير سورة المائدة فى قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ... وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) يعنى ما أعد للمؤمنين فى الجنة وللكافرين فى النار مما لم يره(5/327)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
عين ولم يسمعه اذن ولم يخطر على قلب بشر.
وَعَلَى اللَّهِ بيان قَصْدُ السَّبِيلِ اى الطريق المستقيم الموصل الى الحق رحمة وتفضلا- او عليه قصد السبيل يعنى يصل الى الله تعالى من يسلكه لا محالة يفال سبيل قصد وقاصد اى مستقيم كانه يقصد الوجه الّذي يقصده السالك لا يميل عنه والمراد بالسبيل الجنس ولذلك أضاف إليها والاضافة بمعنى من وَمِنْها اى من السبيل جائِرٌ مائل عن القصد او عن الله وتغير الأسلوب لان المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل الى القصد والجائر انما جاء بالعرض فالقصد من السبيل السنة والجائر منها الأهواء والبدع وملل الكفر كلها وَلَوْ شاءَ الله هدايتكم أجمعين لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) الى قصد السبيل والمراد بالهداية هاهنا الإيصال الى المطلوب ومن قوله عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ اراءة الطريق-.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ اى ماء تشربونه ولكم صلة انزل او خبر شراب ومن تبعيضية متعلقة به وتقديمها يوهم الحصر ووجه الحصر ان مياه الآبار والعيون منه لقوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ وقوله فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ... وَمِنْهُ اى من ذلك الماء شَجَرٌ اى شرب أشجاركم وحيات نباتكم فِيهِ اى فى الشجر تُسِيمُونَ (10) اى ترعون مواشيكم من سامت الماشية وأسامها صاحبها وأصلها السومة وهى العلامة لانها تؤثر بالرعي علامة.
يُنْبِتُ قرا ابو بكر عن عاصم بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة اى ينبت الله لَكُمْ بِهِ اى بالماء الّذي انزل الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اى بعض كل ما يمكن من الثمار وانما ذكر لفظ التبعيض لان كل الثمرات لا يكون الا فى الجنة وخلق فى الدنيا بعضها ليكون تذكرة لها ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لانه سيصير غذاء حيوانيا وهو اشرف الاغذية ومن هذا القبيل تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً اى دلالة واضحة على وجود الصانع وعلمه وحكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) فان من تأمل ان الحبة تقع فى الأرض ويتصل إليها ندوة ينفذ فيها فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجر وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ثم ينمو(5/328)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
ويخرج منه الأوراق والازهار والاكمام والثمار فى بعض الازمنة دون بعض ويشتمل كل منها الأجسام المختلفة الاشكال والطبائع مع اتحاد المواد واتحاد نسبة الطبائع السفلية والعلوية الى الكل علم ان ذلك ليس الا بفعل فاعل مختار تقدس عن منازعة الاضداد والانداد.
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ اى هيّا هما لمنافعكم وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ قرا ابن عامر الاربعة بالرفع على انها مبتدا وخبر وقرا اهل الحجاز والشام «1» والكوفة غير حفص بنصب الاربعة الثلاثة عطفا على النهار ومسخّرت على انه حال من الجميع اى جعلها بحيث ينفعكم حال كونها مسخرات لله تعالى خلقها ودبّرها كيف شاء او مسخرات لما خلقن وقرا حفص الشّمس والقمر بالنصب على العطف وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بالرفع على الابتداء بِأَمْرِهِ اى بايجاده وتقديره او بحكمه وفى الاية إيذان بالجواب لمن يقول ان المؤثر فى تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فان ذلك ان سلم فلا شك انها حادثة ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد لها من مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور والتسلسل والتحقيق ان تأثيرات الأشياء الفلكية او العنصرية كلها امور عادية جرى عادة الله تعالى على خلق بعض الأشياء عقيب بعض منها ولا يتصور نسبة الإيجاد على الحقيقة الى ما هو معدوم فى حد ذاته لا يقتضى ذاته وجوده فانه كيف يقتضى وجود غيره إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) جمع الاية وذكر العقل لانها تدل أنواعا من الدلالات الظاهرة لذوى العقول السليمة غير محوجة الى استيفاء فكر كاحوال النبات.
وَما ذَرَأَ اى خلق لَكُمْ عطف على الليل اى سخر لاجلكم ما خلق فِي الْأَرْضِ من الحيوانات والنباتات والمعادن مُخْتَلِفاً نصب على الحال أَلْوانُهُ اى اصنافه فان الأصناف يتخالف باللون غالبا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) يعتبرون ان اختلافها فى الطباع والهيئات والمناظر ليس الا بصنع صانع حكيم-.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ اى جعله بحيث يتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا اى غضّا جديدا يعنى السمك وصفه بالطراوة لانه أرطب اللحوم فيسرع اليه الفساد فيسارع الى أكله ووجه كثرة
__________
(1) الصحيح وقرا اهل الحجاز والبصرة والكوفة غير حفص إلخ- ابو محمّد(5/329)
العطش بعد أكل السمك انها بالطبع ملتزق بالأمعاء فالطبيعة لدفعه من الأمعاء تطلب الماء لا لكونها حارا او يابسا- وفى وصفه بالطراوة اظهار لقدرته تعالى فى خلقه عذبا طريا فى ماء زعاق مرّ مالح- وتمسك مالك والثوري بهذه الاية على انه من حلف لا يأكل لحما حنث بأكل السمك وأجيب عنه بان مبنى الايمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق الا ترى ان الله تعالى قال شَرَّ الدَّوَابِّ فى الكفار ولا يحنث الحالف بان لا يركب دابة بركوبه على الكافر وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها كاللؤلؤ والمرجان اى تلبس نساؤكم فاسند إليهم لانهن من جملتهم ولانهن تتزين بها لاجلهم وَتَرَى الْفُلْكَ اى السفن عطف على قوله لتأكلوا لانه فى قوة لتركبوا الفلك وجاز ان يكون استينافا مَواخِرَ فِيهِ اى جوارى وقال قتادة مقبلة ومدبرة احداها تقبل واخرى تدبر تجريان بريح واحدة وقال الحسن اى مملوة وقال الفراء والأخفش شقاق تشق الماء بجناحيها والمخر شق الماء وقيل المخر صوت جرى الفلك وقال ابو عبيدة المخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال مجاهد تمخر السفن الرياح اى تستقبل وفى القاموس مخزت السفينة كمنع مخرا ومخورا جرت واستقبلت الريح فى جريها ومخر السّابح شق الماء بيديه والفلك المواخر الّتي يسمع صوت جريها او تشق الماء بجآجئها «1» او المقبلة والمدبرة بريح واحدة- وفى الحديث إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح وفى لفظ استمخروا الريح اى اجعلوا ظهوركم الى الريح كانه إذا ولّاها شقها بظهره وأخذت عن يمينه ويساره وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ اى من سعة رزقه بركوبها للتجارة ان كان قوله تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ معطوفا على لتأكلوا فهذا معطوف عليه وان كان مستأنفا فهذا معطوف على محذوف تقديره لتعتبروا ولتبتغوا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) الله إذا رايتم صنعه فيما سخر لكم ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لانه أقوى فى باب الانعام من حيث انه جعل المهالك سببا لتحصيل المعاش قلت وجعل الأشياء المذكورة بحيث يفضى الى الشكر من أعظم الإنعامات حيث يفيد مزيد النعمة فى الدنيا والثواب الجزيل فى دار القرار فهو من تتمة الإحسانات-
__________
(1) جؤجؤ كهدهد بمعنى الصدر وجمعه جاجئى.... كذا فى القاموس- منه رح(5/330)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ اى جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ اى لئلا تميد بكم او كراهة ان تميد بكم والميد الاضطراب وذلك لان الأرض قبل ان يخلق فيها الجبال كانت كروية تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها توجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالاوتاد الّتي تمنعها عن الحركة- قال البغوي قال وهب لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ان هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فاصبحت وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مما خلقت الجبال- واخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم من طريق قتادة عن الحسين عن قيس ابن عباد قال ان الله تعالى لمّا خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هذه مقرة على ظهرها أحدا فاصبحت صبحا وفيها رواسى فلم يدروا من اين خلقت فقالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من هذا قال نعم الحديد فقالوا هل من خلقك شيء هو أشد من الحديد قال نعم النار قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من النار قال نعم الماء قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الماء قال نعم الريح قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الريح قال نعم الرجل قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الرجل قال نعم المرأة انتهى- فان قيل هل ينتهى هذا السؤال الى حد قلت لا وذلك لان الله هو القوى المتين ذو مرة والممكنات بأسرها عاجزة بل عديمة فى حد ذواتها فحيثما يتجلى قوته يشتد امره على غيره فالفيل قوى من النملة لكن إذا شاء الله تعالى ان يظهر عجز الفيل جعل النملة مظهرا ومجلّا لتجلى قوته فيشتد امره على الفيل- والشدة والقوة قد يكون لاحد الأشياء زائدا على غيره بجميع الوجوه وقد يكون بوجه من الوجوه وهذا هو المتحقق فى الأشياء المذكورة والله اعلم وَأَنْهاراً اى جعل فيها أنهارا لانّ القى فيه معنى الجعل وَسُبُلًا اى طرقا لنيل مقاصدكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) الى مقاصدكم او الى معرفة الله بالاستدلال بها.
وَعَلاماتٍ على السبل من الأشجار والجبال والابنية والنجوم وغير ذلك يستدل بها السابلة ومنها الأسباب والعلل الشرعية كالاوقات لوجوب الصلاة والصوم والزكوة والإسكار للحرمة- ومنها الادلة الطبيعية والعقلية كسرعة النبض(5/331)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
على الحمى والعالم على الصانع والمعجزة على وفق الدعوى للنبوة وغير ذلك وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) ليلا فى الصحارى والبحار والمراد بالنجم الجنس- وقال محمّد بن كعب أراد بالعلامات الجبار فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل- وقال الكلبي أراد بالكل النجوم منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون بها- وقال السدّى أراد بالنجوم الثريا وبنات النعش والفرقدين والجدى يهتدى بها الى الطرق والقبلة- قلت وذلك لكونها قريبة من القطب الشمالي فقلما تتحرك عن أماكنها لصغر دوائرها والضمير لقريش لانهم كثيرا ما كانوا يسافرون بالليل للتجارة وكانوا مشهورين بالاهتداء فى أسفارهم بالنجوم فلذلك قدم النجم واقحم الضمير واخرج عن سنن الخطاب للتخصيص كانه قيل وبالنجم خصوصا هؤلاء يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه الزم عليهم-.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ وهو الله سبحانه كَمَنْ لا يَخْلُقُ اى ما يعبدون من دون الله مغلّبا فيه أولوا العلم- او المراد بها الأصنام وأجريت مجرى اولى العلم لانهم سموها الهة ومن حق الا له ان يعلم او للمشاكلة بينه وبين من يخلق او للمبالغة كانه قيل ان من يخلق ليس كمن لا يخلق من اولى العلم فكيف بما لا يعلم ولا يشعر- والهمزة للانكار والفاء للتعقيب يعنى بعد هذه الادلة الواضحة المتكاثرة على كمال علم الله وقدرته وتناهى حكمته وتفرده بالخلق لا معنى لاشراك من ليس مثله فى خلق الأشياء بل لا يقدر على خلق شيء من الأشياء الجواهر والاعراض حتّى لا يقدر على تحريك الذباب ولا على منعه وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق لكنه عكس تنبيها على انهم بالاشراك بالله جعله من جنس المخلوقات العجزة شبيها بها أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) انكار على عدم التذكر والاعتبار بعد مشاهدة ما يوجب التذكرة.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها اى لا تضبطوا عددها فضلا ان تطيقوا القيام بشكرها يعنى ليس نعماء الله تعالى منحصرة فيما ذكر بل هى غير محصورة فحق عبادته تعالى غير مقدور لاحد وانما المطلوب منكم التوجه بشراشركم اليه وحده والاعتراف بالتقصير إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لتقصيركم فى أداء شكرها رَحِيمٌ (18) بكم حيث وسع عليكم النعم قبل استحقاقكم(5/332)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
ولا يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ من العقائد والنيات والشكر ومعرفة قصور أنفسكم عن أداء حقوق العبودية او الغفلة والاستكبار وَما تُعْلِنُونَ (19) من الأعمال الصالحة او الفاسدة فيجازيكم عليه.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ اى تدعونها الهة كائنة مِنْ دُونِ اللَّهِ قرا عاصم ويعقوب يدعون بالياء التحتانية والباقون بالتاء لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أصلا وان كان محقرا من الجواهر والاعراض فضلا ان يشاركونه فى خلق السموات والأرضين وأمثال ذلك فكيف يدعونها الهة وشركاء لله تعالى وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) يعنى وجوداتهم مستعارة من غيرها لا يقتضى ذواتها وجوداتها فكيف يتصور منها خلق شيء من الأشياء واقتضاء وجود غيرها.
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ خبر مبتدا محذوف يعنى هم أموات فان كان المراد بالموصول الأصنام فالمعنى هم أموات لم يعترهم الحيوة أصلا وان كان المراد به كلما عبد غير الله فالمعنى هم أموات فى أنفسها غير احياء بالذات بل حياتهم مستعارة من الحي القيوم وكلما هذا شأنه لا يكون الها وَما يَشْعُرُونَ لكونهم أمواتا مخلوقين أَيَّانَ اى متى يُبْعَثُونَ (21) يعنى ليس بعثهم ولا بعث عبدتهم باختيارهم ولا فى حيز علمهم فكيف يقدرون على جزاء من عبدهم فاىّ فائدة فى عبادتهم فلا يستحقون العبادة وفيه تنبيه على ان البعث من لوازم التكليف-.
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تكرير للمدعى بعد اقامة الحجة يعنى ثبت بالحجة ان إلهكم واحد فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لما أنعم الله عليهم مما لا يحصى عدها مع ظهورها بالبداهة والبرهان وانما انكار قلوبهم ذلك لان الله تعالى ما القى فيها نور المعرفة فهم عمهون عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله خلق خلقه فى ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله رواه احمد والترمذي وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) عن عبادة الله تعالى لا يرون عليهم له تعالى استحقاق العبادة حيث ينكرون نعماءه ويستكبرون عن اتباع الرّسول صلى الله(5/333)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
عليه وسلم ولو انهم كانوا يعرفون نعماء الله تعالى واستحقاق العبادة له تعالى عليهم لامنوا بالاخرة الّتي فيها جزاء العبادة والانتقام على تركها ولم يستكبروا عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بل اجتهدوا فى طلب سبيل الرشاد.
لا جَرَمَ اى حق حقّا او لا بد او لا محالة- او المعنى ليس على ما ينبغى ما هم عليه من الإنكار والاستكبار كسب الكاسب الحكم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من انكار النعم واستحقاق العبادة وَما يُعْلِنُونَ من الاستكبار عن العبادة واتباع الرسول فانّ مع جملته على التأويلات السابقة فى موضع الرفع بلا جرم وعلى التأويل الأخير فى محل النصب على المفعولية وفاعل جرم مضمر إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار مثقال ذرة من ايمان فقال رجل يا رسول الله ان الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا قال ان الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمص الناس رواه مسلم عن ابن مسعود قال فى النهاية معنى بطر الحق هو ان يجعل ما جعله الله حقّا من توحيده وعبادته باطلا- وقيل هو ان يتجبر عند الحق فلا يراه حقّا- وقيل هو ان يتكبر عن الحق فلا يقبله قلت حاصل الأقوال ان لا يرى عبادة الله عليه واجبا حيث ينكر العامة عليه بل يرى ما أنعم الله عليه حقّا له على الله تعالى ومعنى غمص الناس اى احتقرهم قلت وجه مقابلة الكبر بالايمان فى الحديث ان المؤمن يرى وجوده وما استتبعه من الكمالات مستعارة من الله تعالى حتّى يرى نفسه عارية عنها فلا يستكبر والكافر يرى وجوده وتوابعه من نفسه فيرى نفسه كبيرا وينسى الكبير المتعال- والفناء المصطلح فى التصوف عبارة عن رؤية نفسه فانيا عاريا عن الوجود وتوابعه برؤيتها مستعارة من الله تعالى والله اعلم-.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ اى لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالاخرة- وذلك ان احياء العرب كانوا يبعثون ايام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغهم دعواه النبوة فكان إذا جاء الوافد سال عن مشركى مكة الذين اقتسموا عقابها ايام الموسم ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ماذا منصوب بانزل يعنى اىّ شيء انزل او مرفوع بالابتداء يعنى اىّ شيء أنزله ربكم قالُوا يعنى مشركى مكة هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) السطر الصف من(5/334)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
الشيء من الكتاب او الشجر المغروس او القوم الوقوف- جمعه اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع أساطير واسطرة والمعنى ان ذلك المسئول عنه ليس بمنزل بل شيء كتبه الأولون كذبا لا تحقيق لها نحو قوله اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.
لِيَحْمِلُوا متعلق بقوله قالوا يعنى قالوا ذلك ليضلوا الناس فيحملوا أَوْزارَهُمْ اى ذنوب ضلال أنفسهم كامِلَةً فان اضلالهم نتيجة رسوخهم فى الضلال يَوْمَ «1» الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ يعنى بعض أوزار الذين ضلوا باضلالهم فان من ذنوبهم ما يخصهم ليس لهؤلاء المضلين فيها تسبيب ومنها ما حصل باضلالهم فهم يحملون هذا القسم الأخير مثل ذنوب من تبعهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعا الى هدى كان له من الاجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا الى ضلالة كان عليه من الإثم مثل اثام من تبعه لا ينقص ذلك من اثامهم شيئا رواه احمد ومسلم فى الصحيح واصحاب السنن الاربعة عن ابى هريرة بِغَيْرِ عِلْمٍ اى بغير حجة فهو حال من فاعل يضلونهم- او المعنى يضلون من لا يعلم انهم ضلال فهو حال من المفعول وفيه تنبيه على انّ جهلهم لا يصلح لهم عذرا إذ كان عليهم ان يبحثوا او يميزوا بين الحق والباطل أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) اى بئس شيئا يزرونه اى يحملونه فعلهم او بئس الّذي يزرونه فعلهم فمحل ما رفع على الفاعلية او نصب على التميز من الضمير المبهم والمخصوص محذوف-.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى سوّوا حيلا ليمكروا بها رسل الله فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يعنى اتى امر الله لابطال حيلهم من الأصول وَأَتاهُمُ الْعَذابُ المهلك مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) اى لا يحتسبون ولا يتوقعون فصارت تلك الحيل أسبابا لهلاكهم كمثل قوم بنوا بنيانا ليحرزوا أنفسهم ويأخذوا فيها عدوهم بالحيل فاتى البنيان من الأساطين بان ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا فالكلام وارد على التمثيل- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس وذكر
__________
(1) ليس فى الأصل يوم القيمة(5/335)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
البغوي عنه وعن وهب ان المراد بالذين من قبلهم نمرود بن كنعان الّذي حاج ابراهيم فى ربه بنى الصرح ببابل ليصعد الى السماء وكان طول الصرح فى السماء خمسة آلاف ذراع- وقال كعب ومقاتل كان طوله فرسخان فهبت الريح والقت رأسها فى البحر وخر عليهم الباقي فهلكوا.
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ اى يذلّهم ويعذبهم عذاب الخزي سوى ما عذبوا فى الدنيا قال الله تعالى رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ويقول لهم الله على لسان الملائكة توبيخا أَيْنَ شُرَكائِيَ أضاف الى نفسه استهزاء او حكاية لاضافتهم زيادة فى توبيخهم- قرا البزي بخلاف عنه شركاى بغير همزة والباقون بالهمزة الَّذِينَ كُنْتُمْ ايها الكفار تُشَاقُّونَ فِيهِمْ الرسول والمؤمنين- قرا الجمهور تشاقّون بفتح النون اى يخالفون فيهم وقرا نافع بكسر النون الدال على حذف ياء المتكلم يعنى تشاقّونى فان مشاقة المؤمنين مشاقة الله سبحانه قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اى الأنبياء والملائكة والمؤمنون إظهارا للشماتة وزيادة للاهانة وشكرا على ما أنعم الله عليهم من الهداية وفى هذه الحكاية لطف من الله سبحانه بمن سمعه إِنَّ الْخِزْيَ اى الذلّ والهوان الْيَوْمَ يوم القيامة وَالسُّوءَ اى العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعنى ملك الموت وأعوانه- قرا حمزة يتوفّيهم فى الموضعين بالياء على التذكير والباقون بالتاء لتانيث الفاعل لفظيا غير حقيقى ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر حيث عرضوها للعذاب المخلد منصوب على الحال فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فسالموا وانقادوا قائلين ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ من كفران ولا عدوان ويجوز ان يكون تفسيرا للسّلم على ان المراد به القول الدال على الاستسلام فيجيبهم ملائكة الموت بَلى كنتم تعملون السيئات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) من السيئات فهو يجازيكم عليه ولا ينفعكم انكاركم- قال عكرمة عنى بذلك من قتل من الكفار ببدر- وقيل قوله فَأَلْقَوُا السَّلَمَ الى اخر الآيات استيناف ورجوع الى شرح حالهم يوم القيامة ويحتمل ان يكون الرّادّ عليهم هو الله سبحانه وأولوا العلم.
فَادْخُلُوا أَبْوابَ(5/336)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
جَهَنَّمَ
كل صنف بابا اعدّ له وقيل أبواب جهنم اصناف عذابها خالِدِينَ فِيها اى مقدرين الخلود فيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) اى الكافرين جهنم.
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عن الضلال والإضلال قال لهم الوافد من احياء العرب ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا اى المؤمنون خَيْراً اى انزل ربنا خير الكلام ما فيه صلاح الدين والدنيا والاخرة ونصبه دليل على انهم لم يتوقفوا فى الجواب وأطبقوا على السؤال معترفين بالانزال بخلاف الكفرة فانهم قطعوا الكلام عن الجواب وأتوا بالرفع على الابتداء ولم يعترفوا بالانزال حيث قالوا هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى ليس بمنزل لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا العقائد والأعمال فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بأحسنوا حَسَنَةٌ قال ابن عباس هى تضعيف الاجر الى العشر- وقال الضحاك هى النصر والفتح- وقال مجاهد هى الرزق الحسن- قلت هى الحيوة الطيبة فى الدنيا بحيث يرتضيه الخالق وكل من له عقل سليم وطبع مستقيم من الخلق وذلك ان لا يعبد ممكنا عاجزا مثل نفسه بل الله الواحد القهار ويكتسب معرفة الله ودرجات قربه ويستحل الطيبات ويستحرم الخبائث ولا يؤذى أحدا بغير حق ويعمل أعمالا يثمر له الى الابد وَلَدارُ الحيوة الْآخِرَةِ خَيْرٌ من دار الحيوة الدنيا للمتقين حيث يرى هناك ثمرات ما اكتسبه فى الحيوة الدنيا ويبقى فى كرامة الله ابد الآبدين وهو عدة لِلَّذِينَ اتَّقَوْا على قولهم ويجوز ان يكون بما بعده حكاية بقولهم بدلا وتفسيرا لخير على انه منتصب بقالوا يعنى قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيرا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) قال الحسن هى الدنيا لان اهل التقوى يتزودون فيها الى الاخرة- وقال اكثر المفسرين هى دار الاخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكرها- قلت وجاز ان يكون الاضافة للجنس يعنى نعم دار المتقين اىّ دار كانت الدنيا او الاخرة.
جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدا خبره محذوف اى لهم جنات عدن- او خبر مبتدا محذوف اى هى او دارهم جنات عدن ويجوز ان يكون هذا مخصوصا بالمدح يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من انواع المشتهيات وفى تقديم الظرف تنبيه على ان الإنسان لا يجد جميع ما يشتهيه الا فى الجنة كَذلِكَ(5/337)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
اى مثل لهذا الجزاء المذكور يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) من الشرك وسوء الأعمال.
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ اى طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لانه فى مقابلة ظالمى أنفسهم وهؤلاء هم الذين حيوا حيوة طيبة- وقال مجاهد زاكية أفعالهم وأقوالهم- وقيل معناه فرحين ببشارة إياهم بالجنة او طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية الى حضرة القدس يَقُولُونَ اى الملائكة لهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ وقيل تبلغهم سلام الله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) حين تبعثون فانها معدة لكم على أعمالكم او المعنى يقول لهم الملائكة عند التوفى سلام عليكم ويقال لهم فى الاخرة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينتظر الكفار الذين مر ذكرهم شيئالَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم قرا حمزة والكسائي بالياء والباقون بالتاءوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
القيامة او العذاب المستأصل ذلِكَ
اى مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فاصابهم ما أصابهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بتعذيبه إياهم عذاب الاستيصال لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(33) بكفرهم ومعاصيهم المؤدية اليه.
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا اى جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف وتسمية الجزاء باسمها- او المعنى عقوبات ما عملوا من الكفر والمعاصي وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) اى نزل وأحاط بهم جزاء استهزائهم او المعنى نزل بهم العذاب الّذي كانوا به يستهزءون ويقولون على سبيل الاستهزاء لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ....
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ انما قالوا ذلك استهزاء ومنعا لبعثة الرسل والتكليف متمسكين بان ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون فما الفائدة فيهما او إنكارا لقبح ما هم عليه من الشرك وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك متمسكين بانه لولا ان الله رضيها لنا لما شاء الله صدورها عنا- ومبنى(5/338)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
الشبهتين ان الرضاء يلازم المشية وليس كذلك كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاشركوا بالله وحرموا حله وردوا له وقالوا مثل قول هؤلاء فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) يعنى ليس عليهم الهداية فانها بيد الله تعالى وعلى مشيته انما عليهم التبليغ الموضح لمرضات الله تعالى- ثم بيّن ان البعثة امر جرت السنة الالهية فى الأمم كلها «1» بكونها سببا لهدى من شاء هدايته وزيادة الضلال لمن شاء ضلاله وكالغذاء الصالح ينفع المزاج الصالح ويقويه ويضر المنحرف ويعينه فى الانحراف بقوله.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعنى أرسله الله إليهم بان اعبدوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ اى لا تطيعوا الشيطان الطاغي فى معصية الله فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ اى شاء هدايتهم ووفقهم للايمان بإرشادهم وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ اى وجبت بالقضاء السابق عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يوفقهم ولم يرد هداهم فاهلكهم الله على كفرهم واخلى ديارهم فتركوا بئرا معطلة وقصرا مشيدا فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يا معشر قريش فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) للرسل من عاد وثمود وقوم لوط واصحاب الايكة- وفيه حل لاشكالهم المبنى على كون المشية والرضاء متلازمين إذ لو كان كذلك لما عذبهم الله بكفرهم المبنى على مشية الله ثم بين الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم ان هؤلاء الكفار من قريش ممن حقت عليهم الضلالة حتّى لا يتعب نفسه ولا يحرص على هداهم فقال.
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرا الكوفيون لا يهدى بفتح الياء وكسر الدال على البناء للفاعل يعنى لا يهدى الله من يرد ضلاله وهو المعنى ل مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول فقوله مَنْ يُضِلُّ مبتدا خبره لا يهدى يعنى من يضلّه الله لا يهدى اى لا هادى له أحد والجملة خبر ان والله اسمه وَما لَهُمْ اى لمن أضلهم الله مِنْ ناصِرِينَ (37) يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ويدفعون عنهم عذابه الّذي أعد لهم وتقدير الكلام
__________
(1) فى الأصل كلها سببا-(5/339)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
ان تحرص وتتعب نفسك يا محمّد على هداهم وقد أضلهم الله فلا ينفعك حرصك واتعابك نفسك ولا تقدر عليه لان الله تعالى قوى قاهر لا هادى لمن شاء ان يضله ولا ناصر لمن شاء ان يعذبه فحذف الجزاء وأقيم السبب مقامه والله اعلم- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابى العالية قال كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فاتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به والّذي أرجوه بعد الموت لكذا وكذا فقال له المشرك انك لتزعم انك تبعث بعد الموت فاقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فانزل الله تعالى.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ معطوف على وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إيذانا بانهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة فى القطع على فساده فقال الله تعالى ردا عليهم بأبلغ الوجوه بَلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه بلى اعنى يبعثهم وعد من الله عَلَيْهِ إنجازه لامتناع الخلف فى وعده ولاقتضاء الحكمة البعث حَقًّا صفة اخرى للوعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) ان وعد الله حق او لا يعلمون البعث لعدم علمهم بانه مقتضى الحكمة الّتي جرت العادة بمراعاتها ولقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه.
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه بلى اى يبعثهم ليبيّن لهم والضمير لمن يموت وهو يشتمل المؤمنين والكافرين الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ اى الحق وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) فى قولهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وفيه اشارة الى السبب الداعي الى البعث المقتضى له من حيث الحكمة وهو التميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب وجاز ان يكون ليبين وليعلم متعلقا بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يعنى بعثنا رسولا ليبين لهم الرسول ما اختلفوا فيه قبله وانهم كانوا على الضلالة مفترين على الله الكذب.
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ اى أردنا وجوده فى المبدا او المعاد قولنا مبتدا خبره أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) اى فهو يكون قرا ابن عامر والكسائي هنا وفى يس فيكون بالنصب عطفا على نقول او جوابا لقوله كن وقد ذكرنا كلاما على تقدير الجواب(5/340)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
فى سورة البقرة- وفى هذه الاية بيان لامكان البعث وتقريره ان تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيته لا توقف له على شيء اخر والا لزم التسلسل ولا على تعب وتجشم والا لزم العجز المنافى للالوهية- ولمّا أمكن تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده- عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عزّ وجلّ كذّبنى عبدى ولم يكن له ذلك وشتمنى عبدى ولم يكن له ذلك فاما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون علىّ من إعادته واما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وانا الأحد الصمد الّذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد- وفى رواية ابن عباس واما شتمه إياي فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة او ولدا رواه البخاري.
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ اى فى سبيله وحقه ولوجهه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا اى عذبوا وأوذوا اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس وداود ابن هند قال نزلت هذه الاية فى ابى جندل بن سهيل- وقال البغوي نزلت فى بلال وصهيب وخبّاب وعمّار وعائش وجبير وابى جندل بن سهيل أخذهم المشركون بمكة وعذبوهم واخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم وعبد بن حميد عن قتادة هم اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ظلمهم اهل مكة فاخرجوهم من ديارهم حتّى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم بوّاهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً اى مباءة حسنة وهى المدينة او تبوية حسنة وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما يعجل لهم فى الدنيا قال البغوي روى ان عمر بن الخطاب كان إذا اعطى رجلا من المهاجرين عطاء يقول خذ بارك الله فيه هذا ما وعدك الله فى الدنيا وما ذخر لك فى الاخرة أفضل ثم تلا هذه الاية- وقيل معناه لنحسنن إليهم الدنيا حسنة- وقيل الحسنة فى الدنيا التوفيق والهداية لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الضمير للكفار اى لو علموا ان الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لمّا ظلموهم ولوافقوهم- او للمهاجرين اى لو علموا ذلك لزادوا فى اجتهادهم وصبرهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد كاذى الكفار ومفارقة الأوطان ومحله النصب او الرفع على المدح وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)(5/341)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
ينقطعون الى الله يفوّضون أمورهم اليه- ولما أنكر كفار قريش نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم وقالوا الله أعظم من ان يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا فانزل الله سبحانه.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الى الناس إِلَّا رِجالًا دون ملائكة نُوحِي إِلَيْهِمْ على السنة الملائكة- قرا حفص نوحى بالنون للمتكلم على البناء للفاعل والباقون بالياء على الغيبة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعنى ان شككتم فى إرسال الله الرجال فاسئلوا اهل العلم بالكتب السابقة من اليهود والنصارى هل أرسل الى بنى إسرائيل موسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بنى إسرائيل ومن قبلهم ابراهيم ونوحا وآدم وغيرهم فانهم يشهدون بذلك إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) وفى الاية دليل على وجوب المراجعة الى العلماء للجهال فيما لا يعلمون وان الاخبار مفيدة للعلم ان كان المخبر ثقة يعتمد عليه.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ متعلق بقوله أرسلنا اى ما أرسلنا بالبينات اى المعجزات الواضحات والزبر اى الكتب الا رجالا- ويجوز ان يتعلق بأرسلنا داخلا فى الاستثناء اى ما أرسلنا الا رجالا بالبينات- او متعلق بمحذوف صفة لرجالا يعنى ما أرسلنا الا رجالا متلبّسين «1» بالبينات والزبر- او منصوب على المفعولية او على الحال من قائم مقام الفاعل ليوحى على قراءة المبنى للمفعول وعلى التقادير كلها فاسئلوا اعتراض او هو متعلق بلا تعلمون على ان الشرط للتبكيت والإلزام وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ اى القران سمى ذكرا لانه موعظة لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فى الذكر بتوسط انزاله إليك من الوعد والوعيد والاحكام والشرائع المجملة او مما تشابه عليهم- والبيان قد يكون صريحا بالقول او الفعل او التقرير وقد يكون غير صريح كالامر بالقياس وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) اشارة الى البحث فى نظم الكلام «2» ووجوه دلالاته حتّى يظهر لهم المراد من غير حاجة الى بيان من الشارع كما ان لفظ الحرث يشعر ان المراد فى قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ الإتيان فى القبل دون الدبر لانه ليس بمحل للحرث وفى لفظ ثلاثة فى قوله تعالى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يشعر ان المراد بها الحيض دون الطهر لان الطلاق المسنون يكون فى الطهر اجماعا فاطهار العدة لا يكون الا اكثر من الثلاثة او اقل منها والله اعلم-
__________
(1) فى الأصل ملتبسين
(2) فى الأصل فى نظم كلام-[.....](5/342)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ اى المكرات السيئات هم الذين قصدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقتلوه او يثبتوه او يخرجوه وأرادوا صد الناس عن الايمان.
أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط واصحاب الايكة وغيرهم.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ بالعذاب فِي تَقَلُّبِهِمْ اى تصرفهم فى الاسفار قال ابن عباس فى اختلافهم وقال ابن جريج فى إقبالهم وادبارهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) اى سابقين الله.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ حال من الفاعل او المفعول اى على تنقص من تخوفته إذا تنقصته وذلك بان يهلك بعضهم ثم بعضهم حتّى يهلك جميعهم- ويقال تخوفه الدهر اى تنقصه فى ماله وجسمه- قال البغوي يقال هذه لغة هذيل- وقال الضحاك والكلبي هو الخوف- قلت بان يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا فيأتيهم وهم متخوّفون او بان يظهر امارات الهلاك قبل هلاكهم فيهلكوا كما فعل بثمود فى ثلاثة ايام اصفرت وجوههم فى الاول واحمرت فى الثاني واسودت فى الثالث ثم اهلكوا وعلى هذا التأويل حال من المفعول فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) ومن ثم لا يعجل فى العقوبة وذلك هو الباعث على كونهم امنين ولا ينبغى ذلك فانه تعالى مع ذلك قهار منتقم ذو البطش الشديد لا يطاق انتقامه ولاجل ذلك أنكر الله على امنهم وقال أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ الاية- والفاء للتعقيب عطف على قوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا- يعنى إذا علموا ان المرسلين لم يكونوا الا رجالا فمكرهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم وامنهم على ذلك المكر مع كونه مثل من سبق من الرسل ليس على ما ينبغى-.
أَوَلَمْ يَرَوْا بالياء على الغيبة على قراءة الجمهور والضمير الى الذين مكروا السيئات وقرا حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب إليهم على سبيل الالتفات من الغيبة وكذلك فى سورة العنكبوت والاستفهام للانكار يعنى انهم قد رأوا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فما بالهم لا يدركون كمال قدرته تعالى وقهرمانه ولا يخافون من عذابه(5/343)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
وما موصولة مبهمة بيانها من شيء يفيد عموم خلقه جميع الأشياء يَتَفَيَّؤُا اقرأ ابو عمرو ويعقوب بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية ظِلالُهُ يعنى أولم ينظروا الى المخلوقات الّتي لها ظلال متفيئة يرجع ظلالها بارتفاع الشمس وانحدارها او باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ يعنى عن إيمانها وشمائلها يعنى عن جانبى كل واحد منها استعارة عن يمين الإنسان وشماله- وتوحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار لفظة ما ومعناه كتوحيد الضمير فى ظلاله وجمعه فى قوله سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) اى اذلة «1» وهما حالان من الضمير فى ظلاله والمراد بالسجود الاستسلام طبعا او اختيارا- يقال سجدت النخلة إذا مالت بكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب- او سجّدا حال من الظلال وهم دخرون حال من الضمير يعنى يرجع ظلها منقادة لما قدر لها من التفيؤ- او واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة السجود والاجرام فى أنفسها ايضا صاغرة ذليلة منقادة لافعال الله تعالى- وجمع داخرون بالواو لان من جملتها من يعقل او لان الدخور من أوصاف العقلاء-.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وقيل من دابة بيان لهما لان الدبيب هى الحركة الجسمانية سواء كانت فى ارض او سماء وَالْمَلائِكَةُ عطف على ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فان المراد بها ما فى السموات من جنسها من الشمس ونحوها وما فى الأرض من جنسها من الدواب واما الملائكة فليست من جنس شيء منهما ومنهم من ليسوا فى السماء ولا فى الأرض كحملة العرش وغيرهم- وقيل خص الملائكة بالذكر تشريفا كعطف جبرئيل على الملائكة- وما يستعمل للعقلاء وغير العقلاء فكان استعمالها حيث اجتمع القبيلتان اولى من استعمال من تغليبا- والمراد بالسجود الانقياد أعم من الانقياد لارادته وتأثيره طبعا والانقياد لتكليفه وامره طوعا ليصح اسناده الى عامة الخلائق حتّى الكفار الذين هم شر الدواب-
__________
(1) عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن من صلوة السحر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من شيء الا وهو يسبح الله تلك الساعة ثم قرا يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ الاية كلها 12 ازالة الخفا- منه رحمه الله(5/344)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
وقيل المراد بسجود الأشياء كلها ظهور اثر الصنع فيها بحيث يدعوا الغافلين الى السجود- والاولى ان يقال المراد بالسجود الطاعة والأشياء كلها مطيعة لله عز وجل من حيوان وجماد فانها وان كانت لا تعقل طواعا «1» عندنا لكنها عند الله تعالى مطيعة عاقلة غير خالية عن نوع من الحيوة- قال الله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ- وقال الله تعالى وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ- وقال الله يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أطت السماء وحق لها ان تأطّ- لكن على هذا التأويل الاية مخصوصة بما عد الكفار من الجن والانس فانها غير مطيعة قال الله تعالى فى اية السجدة فى سورة الحج وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ويدل على هذا التخصيص قوله تعالى وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) عن عبادته.
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ اى يخافونه ان يرسل عليهم عذابا من فوقهم او يخافونه وهو فوقهم اى غالب عليهم بالقهر كقوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ- والجملة حال من الضمير المستكن فى لا يستكبرون او بيان له لان من خاف الله لا يستكبر عن عبادته وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) به من الطاعة ما يليق بهم فان هذه الصفات هو عدم الاستكبار والخوف وإتيان الأوامر لا توجد فى الكفار- اللهم الا ان يقال ان كان المراد بالسجود الانقياد العام او ظهور اثر الصنع بحيث يدعوا الى السجود- كان قوله وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ الى آخره بيانا لحال الملائكة خاصة والله اعلم- عن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى ارى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون أطت السماء أطا وحق لها ان تأطّ والّذي نفسى بيده ما فيها موضع اربعة أصابع الا وملك واضع جبهته ساجدا لله ولو الله لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم الى الصعدات تجئرون الى الله- قال ابو ذر يا ليتنى كنت شجرة تعضد- رواه احمد والترمذي وابن ماجة والبغوي-.
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر العدد مع ان المعدود يدل عليه دلالة على ان مساق النهى اليه او ايماء بان الاثنينية ينافى الالوهية كما ذكر الواحد فى قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ للدلالة على ان المقصود اثبات الوحدانية دون الالهية والتنبيه على ان الوحدة من لوازم الالهية فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) فيه التفات
__________
(1) وفى الأصل ظواها-(5/345)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
من الغيبة الى الخطاب مبالغة فى الترهيب وتصريحا بالمقصود كانه قيل فانا ذلك الإله الواحد فاياى ارهبوا فارهبونى لا غير قرا يعقوب فارهبونى بإثبات الياء والباقون بحذفها.
وَلَهُ اى لله المتوحد فى الالهية ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا فلا يمكن خلق شيء من الأشياء من غيره خلافا للمعتزلة فى افعال العباد- وملكا فلا يتصور الظلم منه لانه هو التصرف فى ملك غيره بغير اذنه- ولا يجوز لاحد تصرف فى شيء من الأشياء الا بإباحته واذنه وَلَهُ الدِّينُ اى الطاعة والإخلاص واصِباً اى دائما ثابتا لا يحتمل سقوطه لانه هو الإله وحده والحقيق بان يرهب منه فحق العباد ان يطيعوه دائما فى جميع الأحوال كما وصف به الملائكة حيث قال لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق رواه احمد والحاكم بسند صحيح عن عمران والحكيم بن عمرو الغفاري وفى الصحيحين وسنن ابى داود والنسائي عن علىّ بلفظ لا طاعة لاحد فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف وفى معناه وله الدين ذا كلفة يعنى لا يجوز لاحد تكليف أحد الا باذنه لانه هو المالك لا غير والمالك يتصرف فى ملكه كيف يشاء وليس ذلك لغير المالك الا باذنه- وقيل الدين الجزاء على اعمال العباد دائما لا ينقطع ثوابه لمن أمن ولا ينقطع عقابه لمن كفر- وقيل المراد بالدين العذاب على الكفر ومعنى الواصب المرض والسقم اللازم يقال وصب فلان يوصب إذا توجع- قال الله تعالى وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ وفى حديث عائشة انا وصّبت رسول الله صلى الله عليه وسلم اى مرّضته- قال فى النهاية الوصب دوام الوجع ولزومه ومعنى وصّبته اى دبّرته فى مرضه كمرضته- وفى القاموس الوصب المرض واوصبه الله أمرضه ووصب يصب وصوبا دام وثبت كاوصب ووصب على الأمر واظب واحسن القيام عليه فالمراد بالآية الوعيد لمن اتخذ الهين اثنين يعنى من فعل ذلك فلله العذاب الشديد الدائم أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) استفهام انكار يعنى لا تخاطوا غيره إذ لا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال-.
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ما اما شرطية او موصولة متضمنة معنى الشرط يعنى اىّ شيء اتصل بكم او الّذي اتصل بكم من عافية او غنى او خصب او غيرها فَمِنَ اللَّهِ(5/346)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
اى فهو من الله ومعنى الشرط انما هو باعتبار الاخبار دون الحصول فان استقرار النعمة بهم يكون سببا للاخبار بانها من الله لا حصولها منه فانه مقدم على الاستقرار ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ من مرض او فقر او جدب او غيرها فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ اى لا تتضرعون الا اليه والجواد رفع الصوت فى الدعاء والاستغاثة.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) فى العبادة غيره وكلمة من للتبعيض ان كان الخطاب عاما وان كان خاصّا بالكفار فمن للبيان كانه قال فاذا فريق وهم أنتم- ويجوز ان يكون من على هذا ايضا للتبعيض على ان بعضهم يعتبرون قال الله تعالى فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ....
- لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعماء خصوصا نعمة الكشف واللام للعاقبة يعنى صار عاقبة أمرهم الكفر بنعماء الله لانهم لما عبدوا غيره فكانّهم اثبتوا الانعام منه فَتَمَتَّعُوا امر تهديد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) اغلظ وعيد.
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ اى للاصنام الّتي هى جماد لا علم لها فيكون الضمير لما- او المعنى يجعلون لما لا يعلمونها مستحقة للعبادة لا نافعة ولا ضارة بل يسمونها الهة ويقولون جهلا منهم انها الهة تضر وتنفع وتشفع- او لا يعلمون لها حقّا فالضمير الى الكفار والعائد الى ما محذوف وما على التأويلين موصولة- او المعنى يجعلون لجهلهم على ان ما مصدرية والمجعول له محذوف للعلم به يعنى يجعلون لجهلهم للاصنام نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحرث والانعام فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا ... تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ التفات من الغيبة الى الخطاب يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) من انها الهة وهو وعيد لهم عليه-.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ اى يحكمون بثبوت البنات لله تعالى وهم خزاعة وكنانة قالوا الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيها لذاته اى أسبحه سبحانا من نسبة الولد او تعجب من قولهم وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) يعنى البنين ويجوز فى ما الرفع على الابتداء ولهم خبره والنصب عطفا على البنات على ان الجعل بمعنى الاختيار وعلى هذا ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكن لا يبعد تجويزه فى المعطوف وسبحانه(5/347)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
حينئذ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى اى بولادة الأنثى له ظَلَّ وَجْهُهُ اى صار دوام النهار كله فان النهار زمان الاغتمام والسرور لاجل المذاكرة واختلاط الناس واما الليل فزمان النوم والغفلة مُسْوَدًّا من الكآبة والحياء من الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام وَهُوَ كَظِيمٌ (58) ممتلى حزنا وغيظا فهو يكظمه اى يمسكه ولا يظهره.
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ اى يستخفى من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ اى من أجل سوء المبشر به مترددا فيما يفعل به أَيُمْسِكُهُ اى يبقيه حيّا عَلى هُونٍ ذل أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أم يخفيه فيه ويدفنه وتذكير الضمير نظرا الى لفظة ما- قال البغوي ان مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات احياء خوفا من الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن- وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت وأراد ان يستحييها ألبسها جبة من صوف او شعر ترعى له الإبل والغنم فى البادية- وإذا أراد ان يقتلها تركها حتّى إذا صارت سداسية قال لامها زيّنها حتّى اذهب بها الى اجمائها وقد حفر لها بئرا فى الصحراء فاذا بلغ بها البئر قال لها انظري الى هذا البئر فيدفعها من خلفها فى البئر ثم يهيل على راسها التراب حتّى يستوى البئر بالأرض- وكان صعصعة جد الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجّه الى والد البنت ابلا يحييها بذلك فقال الفرزدق مفتخرا
شعر
وجدي الّذي منع الوائدات ... فاحيا الوئيد فلم يؤد
أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) حيث يجعلون لمن هو متعال عن الولد أسوأ الفريقين ولا يختارون ذلك لانفسهم ويختارون لانفسهم الذكور نظيره قوله تعالى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى....
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ اى الذين يصفون لله البنات مَثَلُ السَّوْءِ اى صفة السوء وهى الحاجة الى الولد لبقاء النسل بعد موته واستبقاء الذكور استظهارا بهم وكراهية الإناث ووأدهن خشية إملاق وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق وانه لا اله الا هو والاتصاف بجميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء وغيرها والتنزه عن صفات المخلوقين- قال ابن عباس مثل السوء النار ومثل الأعلى شهادة ان لا اله الا الله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)(5/348)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
المتفرد بكمال القدرة والحكمة-.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ اى يعاجل بالعقوبة النَّاسَ اللام للعهد والمراد بهم الكفار بقرينة المؤاخذة واضافة الظلم إليهم فى قوله بِظُلْمِهِمْ اى بكفرهم وعصيانهم وعبارة البيضاوي تشعر بان المراد بالناس كلهم حيث قال ولا يلزم من عموم الناس واضافة الظلم إليهم ان يكون كلهم ظالمين حتّى الأنبياء عليهم السلام لجواز ان يضاف إليهم لما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم- قلت ويلزم على هذا ان يؤاخذ الناس كلهم بظلم أكثرهم وهذا مردود بقوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ... ما تَرَكَ عَلَيْها اى على الأرض كناية عما دلّ عليه لفظ الناس والدابة مِنْ دَابَّةٍ اما ان يكون المراد به من دابه ظالمة كما ذكر صاحب المدارك عن ابن عباس- او يكون المراد من دابة من دواب الأرض غير المؤمنين الصالحين- فانه لا يجوز ان يهلك المؤمنون بظلم الظالمين وذنبهم- الا إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فحينئذ يعذبون معهم لرضائهم بذنبهم او لتركهم ما وجب عليهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الناس إذا راوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله بعقابه- رواه ابن ماجة والترمذي وصححه من حديث ابى بكر الصديق وروى ابو داود وجرير بن عبد الله بمعناه- واما غير المؤمنين الصالحين من دواب الأرض فجاز ان يهلك بذنب ابن آدم تبعا لهم لان خلقتها تبع لخلقة الإنسان ونفع وجودها يعود إليهم- حيث قال الله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً- قال قتادة فى هذه الاية ان الله تعالى قد فعل ذلك فى زمن نوح فاهلك من على الأرض الا من كان فى سفينة نوح عليه السلام- وروى البيهقي عن ابى هريرة انه سمع رجلا يقول ان الظالم لا يضر الا نفسه قال ابو هريرة بلى والله حتّى الحبارى لتموت فى وكرها هزلا بظلم الظالم- واخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي فى شعب الايمان عن ابن مسعود قال ان الجعل تعذب فى جحرها بذنب ابن آدم- وقيل معنى الاية لواخذ الله اباء الظالمين بظلمهم انقطع النسل ولم يوجد الأبناء فلم يبق فى الأرض أحد ومن أجل ذلك لم يدع نوح على قومه حتّى علم بالوحى ان الله تعالى ان يذرهم لا يَلِدُوا(5/349)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً
... وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ اى يمهل الظّالمين بحلمه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه لاعمارهم او لعذابهم كى يتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً بعد بلوغ الاجل وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) الآجال عطف على إذا جاء.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لانفسهم من البنات والشركاء فى الرياسة والاستخفاف بالرسل واراذل الأموال وَتَصِفُ اى تقول أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى منصوب على انه بدل من الكذب قال يمان يعنى بالحسنى الجنة فى المعاد- وذلك انهم كانوا يقولون نحن فى الجنة ان كان محمّد صادقا فى البعث لا جَرَمَ حقّا ولا محالة وقال البغوي قال ابن عباس بلى قلت هذا على ما قيل ان لا فى لا جرم رد لما سبق وكان فيما سبق زعمهم ان لهم الحسنى ومقتضى ذلك انهم لا يدخلون النار فرد الله قولهم أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) قرا نافع بكسر الراء مخففا من الافراط فى المعاصي فى القاموس مفرطون اى مجاوزون لما حدّ لهم وقال البغوي المسرفون- وقرا ابو جعفر بكسر الراء والتشديد من التفريط بمعنى التقصير والتضييع اى المقصرون فى الطاعات والمضيعون لامر الله والباقون بفتح الراء مخففا- قال فى القاموس اى منسيون متروكون فى النار او مقدمون معجلون إليها- قال البغوي قال ابن عباس منسيون فى النار- وقال مقاتل متروكون فى النار- وقال قتادة معجلون الى النار- وقال الفراء مقدمون الى النار ومنه قوله صلى الله عليه وسلم انا فرطكم على الحوض اى مقدمكم- وقال سعيد بن جبير مبعدون-.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا من الناس إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كما أرسلناك الى هذه الامة فَزَيَّنَ لَهُمُ اى للامم اى لاكثرهم الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الخبيثة من الإشراك بالله وتكذيب الرسل فاصروا عليها فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الضمير لكفار قريش لان سوق الكلام فيهم والولي الناصر والقرين يعنى الشيطان قرين لهؤلاء يزيّن لهم أعمالهم الخبيثة الْيَوْمَ كما كان يزيّن لمن كان قبلهم ناصرا لهم فى معاداة المؤمنين وجاز ان يكون الضمير للامم السابقة على انه حكاية حال ماضية يعنى فالشيطان(5/350)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
كان وليهم فى الدنيا حين كان يزيّن لهم- وجاز ان يكون المراد باليوم يوم القيامة والكلام حكاية حال اتية والمعنى فالشيطان قرين لهم يوم القيامة فى الأصفاد- او المعنى فالشيطان ناصر لهم يوم القيامة يعنى لا ناصر لهم غيره وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم- فهو نفى الناصر لهم على ابلغ الوجوه- وجاز ان يقال بحذف المضاف تقديره فهو ولى أمثالهم من الكفار اليوم يعنى كفار قريش وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) يوم القيامة.
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اى للناس الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد والصفات والقدر واحوال المعاد وافعال العباد واحكام الله تعالى وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) معطوفان على محل لتبيّن منصوبان على العلية لكونهما فعلان لفاعل أنزلنا بخلاف لتبيّن لانه فعل المخاطب.
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى نباتها يعنى جعلها خضرا ناميا بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها وانخلاعها عن الروح النباتي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً على جواز البعث لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) سماع تدبر وانصاف-.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً دلالة يعتبر بها من الجهل الى العلم نُسْقِيكُمْ قرا نافع وابن عامر وابو بكر ويعقوب هاهنا وفى المؤمنين بفتح النون من المجرد والباقون «1» بضمها من الافعال وهما لغتان مِمَّا فِي بُطُونِهِ استيناف لبيان العبرة ذكّر الضمير ووحده هاهنا نظرا الى اللفظ وانثه فى المؤمنين نظرا الى المعنى لان الانعام اسم جمع لفظه مفرد عدّه سيبويه فى المفردات المبنية على افعال كاخلاق وأكباش كذا قال الفراء وابو عبيدة والأخفش- ان النعم والانعام واحد يذكر ويؤنث فمن انث فلمعنى الجمع ومن ذكر فلحكم اللفظ- وقال الكسائي رده الى ما يعنى فى بطون ما ذكرنا وقال المؤرخ الكناية راجعة الى البعض فان اللبن لبعضها دون جميعها وقيل المراد به الجنس مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما فى الكرش من السفل فاذا خرج منه لا يسمى فرثا وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً من الدم والفرث ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث مع كونه متولدا منهما سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) اى سهل المروي فى الحلق قال
__________
(1) غير ابى جعفر فانه قرا بالتاء المفتوحة- ابو محمّد(5/351)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما إذا أكلت الدابة العلف فاستقر فى كرشها وطحنته فكان أسفله الفرث وأوسطه اللبن وأعلاه الدم- والكبد مسلطة عليها يقسمها بتدبير الله فيجرى الدم فى العروق واللبن فى الضروع ويبقى الفرث كما هو- قال البيضاوي لعل المراد ان أوسطه تكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الّذي يغذى البدن- وقال الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم فى الكرش ويبقى ثفله ثم يمسكها ثم يهضمها هضما ثانيا فيحدث اخلاط اربعة معها مائية- فيميز القوة المميزة المائية بما زاد على قدر الحاجة فيدفعها الى الكلية والمرارة والطحال- ثم يوزع الباقي على الأعضاء فيجرى الى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم- ثم ان كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرودة والرطوبة على المزاج فيندفع الزائد اولا الى الرحم لاجل الجنين- فاذا انفصل انصبت ذلك الزائد او بعضه الى الضروع فيبيض بمجاورة لحومها العذبة البيض فيصير لبنا- ومن تدبر صنع الله تعالى فى احداث الاخلاط والألبان واعداد مقارّها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق اضطر الى الإقرار بكمال حكمته وتناهى رحمته- ومن الاولى تبعيضية لان اللبن بعض ما فى بطونها- والثانية ابتدائية كقولك سقيت من الحوض لان بين الفرث والدم المحل الّذي يبتدا منه الاسقاء وهى متعلقة بنسقيكم او حال من لبنا قدمت عليه لتنكيره والتنبيه على انه موضع العبرة-.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ اى عصيرهما متعلق بمحذوف اى ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً استيناف لبيان الاسقاء او هو متعلق بتتخذون ومنه تكرير الظرف تأكيدا- او من ثمرات النخيل خبر لمحذوف صفته تتخذون تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثم تتخذون منه- وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لانه للمضاف المحذوف الّذي هو العصير او لان الثمرات بمعنى الثمر- والسّكر اسم لما يكون منه السّكر او هو مصدر سمى به الخمر- قال فى القاموس سكر كفرح سكرا وسكرا وسكرا وسكرا وسكرانا نقيض صحا والسّكر محركة الخمر ونبيذ يتخذ من التمر(5/352)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
والكشوث وكل ما يسكرو ما حرم من ثمره والخل والطعام- قال صاحب الهداية السّكر هو الّتي من ماء التمر اى الرطب- قال شريك بن عبد الله انه مباح بهذه الاية فان الله تعالى امتن علينا به وهو بالمحرم لا يتحقق ولنا اجماع الصحابة رضى الله عنهم على تحريمه والاية محمولة على الابتداء وكانت الاشربة مباحة كلها يعنى فى ابتداء الإسلام انتهى كلامه- وقال البغوي قال قوم السّكر الخمر والرزق الحسن الخل والربّ والتمر والزبيب قالوا وهذا قبل تحريم الخمر والى هذا ذهب ابن مسعود وابن عمرو سعيد بن جبير والحسن ومجاهد- وقال روى عن ابن عباس قال السكر ما حرّم من ثمرها والرزق الحسن ما احلّ- وقال ابو عبيدة السكر الطعم يقال هذا سكر لك اى طعم لك- وقال الشعبي السكر ما شربت والرزق الحسن ما أكلت- وروى العوفى عن ابن عباس ان السّكر هو الخل بلغة الحبشة- وقال بعضهم السّكر هو بلغة الحبشة النبيذ المسكر هو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدوا لمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي- ومن يبيح شرب النبيذ ومن حرّمه يقول المراد الاخمار لا الاحلال واولى الأقاويل ان قوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً منسوخ انتهى كلام البغوي- وقال البغوي فى موضع اخر وجملة القول ان الله انزل فى الخمر اربع آيات نزلت بمكة وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها وهى حلال لهم يومئذ ثم نزلت فى المدينة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ثم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى واخر الآيات نزولا ما فى المائدة وقد ذكرنا قصة نزول الآيات الاربعة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) اى يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل فى الآيات-.
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ اى ألهمها وقذف فى قلوبها أَنِ اتَّخِذِي ان مفسرة لان فى الوحى معنى القول مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) قرا ابن عامر وأبو بكر بضم الراء والباقون بكسرها اى مما يجعلونه سقفا للبيت يستظل به او يجعل للكرم واصل العرش السقف وذكر بحرف التبعيض لانه لا يبنى فى كل جبل وكل شجرة وكل سقف او كرم ولا فى مكان منها- وانما سمى ما تبنيه(5/353)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
للعسل بيتا تشبيها ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذاق المهندسين ولعل ذكره للتنبيه على ذلك.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اللام للجنس اى من كل ثمرة تشتهيها وتتيسر لها مرها وحلوها وليس معنى الكل الاستغراق فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ يعنى كونى سالكة فى الطرق الّتي ألهمك ربك وأفهمك فى عمل العسل او إذا أكلت الثمار فى المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكى راجعة الى بيوتك سبل ربك لا تضلينى او فاسلكى يعنى ادخلى ما أكلت فى مسالك الّتي يستحيل فيها بقدرته النّور عسلا من اجوافك ذُلُلًا جمع ذلول حال من السبل اى مذلّلة ذلّلها الله وسهلها لك او حال من الضمير فى اسلكى يعنى فاسلكى أنت منقادة لامر ربك- ويقال ان أربابها ينقلونها من مكان الى مكان ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها فيه التفات من الخطاب الى الغيبة كانه عدل به عن خطاب النحل الى خطاب الناس لانه محل الانعام عليهم والمقصود من خلق النحل والهامة انتفاعهم شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ابيض واحمر واصفر واخضر فِيهِ اى فى ذلك الشراب شِفاءٌ لِلنَّاسِ وقال مجاهد فيه اى فى القران شفاء والظاهر هو الاول ولفظ الاية يشعر ان فى العسل شفاء ولو فى الجملة ولو فى بعض الأمراض لكونها نكرة وسياق الكلام يقتضى نوعا من التعميم والا فما من شيء من الأشياء الا وفيه شفاء لبعض الأمراض حتّى السموم فانها تستعمل فى الادوية فيقال التنوين للتعظيم والمعنى فيه شفاء عظيم للناس يعنى فى اكثر الأمراض واكثر الأوقات ويؤيده حديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالشفاءين العسل والقران رواه ابن ماجة والحاكم بسند صحيح فان هذا الحديث يدل على كونه شفاء غالبا- وذكر البغوي قول ابن مسعود ان العسل شفاء من كل داء والقران شفاء لما فى الصدور فكانّه فهم ابن مسعود من الحديث المرفوع التعميم فقال البيضاوي ان العسل شفاء اما بنفسه كما فى الأمراض البلغمية او مع غيره كما فى سائر الأمراض إذ قل ما يكون معجون الا والعسل جزء منه- وما فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري انه جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان(5/354)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال انى سقيته فلم يزده الا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقا فبرئ يدل على كونه شفاء منفردا فيقال انه من شربه منفردا بحسن النية لاىّ مرض كان شفاه الله تعالى ان شاء الله تعالى كذا قال السيوطي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) فان من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والافعال العجيبة حق تدبر علم قطعا انه لا بد له من قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه-.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ صبيانا او شبانا او كهولا او شيوخا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ اى اخسّه وهو الهرم قال قتادة أرذل العمر تسعون سنة- وروى عن على عليه السلام انه قال أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقيل ثمانون وقد كان فى دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم انى أعوذ بك من سوء العمر وفى رواية من ان اردّ الى أرذل العمر ونحو ذلك روى فى الصحيحين وغيرهما لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اى ينسى معلوماته كلها فيصير له حالة مشابهة بحال الأطفال فى عدم العلم وسوء الفهم قال عكرمة من قرا القران لم يصر بهذه الحالة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعمارهم قَدِيرٌ (70) على كل شيء يميت الشاب القوى ويبقى الهرم الفاني وفيه تنبيه على ان تفاوت احوال الناس ليس الا بتقدير قادر حكيم عليم ولو كان ذلك مقتضى الطباع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ-.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فمنكم غنى ومالك وملك ينفق ألوف آلاف ومنكم مملوك او عسكرى او فقير لا يقدر على شيء فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا يعنى الأغنياء والملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ اى معطى فضل رزقهم الّذي أعطاهم الله عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اى مماليكهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ يعنى حتّى يستوواهم وعبيدهم فى ذلك فهذه جملة اسمية وقعت فى موضع الجواب للنفى كانه قيل فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فيستووا فى الرزق فهو رد وانكار على المشركين حيث يشركون بالله بعض مخلوقاته(5/355)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
فى الالوهية مع عدم صلاحيتهم لان يشاركوه فى شيء من الأشياء بوجه من الوجوه ولا يرضون ان يشاركهم عبيدهم فيما أنعم الله عليهم فيساويهم فيه مع ان مماليكهم من جنسهم مرزوقين الله تعالى- وجاز ان يكون المعنى ما هم برادّى رزقهم يعنى رزق أنفسهم على ما ملكت ايمانهم بل كل ما يردّون على المماليك من الرزق فهو رزق لمماليكهم جعله الله تعالى فى أيديهم فهم فيه سواء- يعنى ان الموالي والمماليك سواء فى ان الله رزقهم جميعا فالجزاء لازمة للجملة المتقدمة او مقرر لها أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) حيث يتخذون له شركاء فانه يقتضى ان يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم وجحود كونها من عند الله او حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم الله عليهم بايضاحها والباء لتضمن الجحود معنى الكفر- قرا ابو بكر بالتاء الفوقانية للخطاب لقوله وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ والباقون بالتحتانية لقوله فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ-.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم أَزْواجاً لتستأنسوا بها وليكون أولادكم مثلكم- وقيل معناه خلق حواء من آدم وسائر النساء من نطف الرجال والنساء وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وهم أولاد الأولاد او المسرع فى الخدمة يعمهم قال فى القاموس حفد يحفد حفد او حفدا ناخف فى العمل واسرع كاحتفد وخدم والحفدة محركة الخدم والأعوان جمع حافد- وحفدة الرجل أولاد أولاده كالحفيد والاصهار والبنات- قال البغوي قال ابن مسعود والنخعي الحفدة يعنى فى الاية الأختان على بناته وعن ابن مسعود ايضا انهم الاصهار فيكون معنى الاية على هذا القول وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وبنات تزوجوهن فيحصل بسببهن الأختان والاصهار- وقال عكرمة والحسن والضحاك هم الخدم- وقال مجاهدهم الأعوان- وقال عطاءهم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه- قلت فالمراد فى الاية بالحفدة على هذه الأقوال هم البنون أنفسهم والعطف لتغائر الوصفين كذا قال البيضاوي احدى التأويلات- وقال مقاتل والكلبي البنين الصغار والحفدة كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله-(5/356)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
وقال قتادة مهنة يمتهنونكم ويخدمونكم من أولادكم وروى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس انهم ولد الولد وروى العوفى عنه انهم بنوا امرأة الرجل ليسوا منه يعنى الربائب قلت لعل ذلك التسمية لاجل ان الرجل ان ربى أولاد غيره يستخدمهم مالا يستخدم من أولاده وقال البيضاوي احدى التأويلات ان المراد بالحفدة فى الاية البنات إذ البنات يخد من فى البيوت أتم خدمة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ او من الحلالات ومن للتبعيض فان المرزوق فى الدنيا أنموذج منها أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ حيث يقولون الأصنام ينفعهم وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) حيث أضافوا نعمته الى الأصنام- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى انّى والجن والانس فى نبا عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى- وتقديم الصلة على الفعل لايهام التخصيص مبالغة ولمحافظة الفواصل وقيل الباطل ما أمرهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة يؤمنون به وبنعمة الله اى بالطيبات من الرزق الّتي أحل الله لهم يكفرون ويجحدون تحليله وقيل الباطل الشيطان ونعمة الله محمّد صلى الله عليه وسلم.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى من مطر ونبات شَيْئاً قال الأخفش هو بدل من الرزق والمراد به المرزوق والمعنى لا يملكون من المرزوقات شيئا قليلا ولا كثيرا وقال الفراء رزقا مصدر وشيئا منصوب به على المفعولية وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) ان يتملكوه او لا استطاعة لهم أصلا وجمع الضمير فيه وتوحيده فى لا يملك نظرا الى لفظة ما ومعناه ويجوز ان يعود الضمير الى الكفار يعنى لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم احياء فكيف بالجمادات-.
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فان ضرب المثل تشبيه حال بحال وأنتم لا تعرفون الله تعالى ولا تعلمون صفاته ولا ما يجوز وصفه به وما لا يجوز فكيف يصح منكم ضرب المثل وقياسكم عليه فى هذا المقام باطل لكونه قياسا للغائب على الشاهد ومن غير جامع إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ضرب الأمثال وكنه الأشياء وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)(5/357)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
كنه الأشياء او المعنى انه تعالى يعلم خطاء ما تضربون من الأمثال وفساد ما تقولون عليه بالقياس كقولهم عبادة عبيد الملك ادخل فى التعظيم من عبادته ويعلم عظم جرمكم فيما تفعلون وأنتم لا تعلمون ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فهو تعليل للنهى.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لنفسه ولمن عبد دونه عَبْداً بدل من مثلا مَمْلُوكاً احتراز عن الحر فانه ايضا عبد الله لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ احتراز عن المكاتب والمأذون وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً من موصولة لكونه معطوفا على عبد قسيم له فالمعنى وحرّا غنيّا كثير المال فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً مثّل ما يشرك به بالملوك العاجز عن التصرف رأسا ومثّل نفسه بالحر الغنى السخي ينفق ما يشاء كيف يشاء واحتج بهذا على امتناع الإشراك والتسوية بين الأصنام الّتي هى أعجز المخلوقات وبين الله الغنى القادر هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير ولم يقل يستويان لانه للجنسين فان المعنى هل يستوى الأحرار والعبيد الْحَمْدُ لِلَّهِ يعنى الحمد كله لله تعالى لا يستحقه غيره فضلا عن استحقاق العبادة لانه مولى النعم كلها دون غيره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) فيضيفون نعمة الله الى غيره فيعبدونه لاجلها- وقيل قوله عبدا مّملوكا لا يقدر مثل للكافر حيث لم يقدّر الله تعالى له ان يقدم خيرا او ينفق شيئا فى سبيل الله فهو العاجز ومن رزقنه الى آخره مثل للمؤمن المنفق- روى ابن جريج عن عطاء عبدا مّملوكا اى ابو جهل ومن رزقنه رزقا حسنا ابو بكر رضى الله عنه الحمد لله الّذي ميّز المحق من المبطل بل أكثرهم لا يعلمون-.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ولد اخرس لا يفهم ولا يتكلم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الصنائع والتدابير لنقصان عقله وَهُوَ كَلٌّ ثقيل ووبال عَلى مَوْلاهُ اى على من يلى امره أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله مولاه فى امر لا يَأْتِ بِخَيْرٍ اى لا ينجح لعامة مهمّه فهو مثل للصنم لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل وهو كل على عابده يحتاج الى ان يحمله ويضعه وهو لا ينفعه أصلا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ اى هو سليم فهيم منطيق ذو كفاية ورشد ينفع الناس يحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل(5/358)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وهو فى نفسه على طريق مستقيم لا يتوجه الى مطلب الّا يبلغه بأقرب ما ينبغى- هذا مثل ضربه تعالى لنفسه- وقيل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقيل كلا المثلين للمؤمن والكافر يرويه عطاء عن ابن عباس- وقال عطاء فى هذه الاية الأبكم أبيّ بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وقال مقاتل نزلت فى هاشم بن عمرو بن الحارث من ربيعة القرشي كان قليل الخير يعادى رسول الله صلى الله عليه وسلم- واخرج ابن جرير عن ابن عباس فى قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً قال نزلت فى رجل من قريش وعبده وفى قوله رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قال نزلت فى عثمان ومولى له كافر وهو أسيد بن ابى العيص كان يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف-.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى لا يعلم الغيب أحد غيره تعالى الا بتعليمه وقد ذكرنا شرح الغيب والشهادة فى تفسير سورة الجن وَما أَمْرُ السَّاعَةِ اى امر قيام الساعة فى سرعته وسهولته إذا أراد الله تعالى إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ فى القاموس لمنح كمنع اختلاس النظر قلت فمعناه كاختلاس البرق البصر وقال البيضاوي الا كرجع الطرف من أعلى الحديقة الى أسفلها ضرب الله تعالى به المثل لانه لا يعرف زمان اقل منه فى العرف ثم قال أَوْ هُوَ أَقْرَبُ يعنى بل هو اقرب فانه تعالى محى الخلائق دفعة إذا قال له كن فيكون وما يوجد دفعة كان فى ان غير ممتد إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) يقدر ان يحى الخلائق دفعة كما قدر ان أحياهم فى الدنيا متدرجا- قال البغوي نزلت الاية فى الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء ثم دل على قدرته فقال.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرا الكسائي بكسر الهمزة على لغة او اتباعا لما قبلها وحمزة بكسرها وكسر الميم والباقون بضم الهمزة وفتح الميم- والهاء زائدة كما فى اهراق لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً جهّالا مستصحبين جهل الجمادية وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ اى الاسماع وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ اداة(5/359)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
تتعلّمون بها فتحسّون بمشاعركم جزئيات الأشياء فتدركونها ثم تنبهون بقلوبكم لمشاركات ومبائنات منها بتكرير الاحساس حتّى يتحصل لكم بعض العلوم البديهية وتتمكنوا من تحصيل العلوم الكسبية بالنظر فيها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) كى تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور فتشكرونه.
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ قرا ابن عامر ويعقوب وحمزة بالتاء الفوقانية لتغليب الخطاب على الغيبة والباقون بالتحتانية لقوله تعالى يعبدون مُسَخَّراتٍ مذلّلات للطيران بما خلق لها من الاجنحة والأسباب المواتية فِي جَوِّ السَّماءِ وهو الهواء بين السماء والأرض قال البغوي روى عن كعب الأحبار ان الطير يرتفع فى الهواء اثنا عشر ميلا ولا يرتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ فى الهواء إِلَّا اللَّهُ بقدرته فان ثقل جسدها يقتضى سقوطها ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها إِنَّ فِي ذلِكَ اى فى تسخير الطير بان خلقها خلقة يمكن معه الطيران فى الجو وأمسكها فى الهواء على خلاف طبعها لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) لانهم هم المنتفعون بها-.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الّتي بنى من الحجر والمدر سَكَناً اى موضعا تسكنون فيه وقت اقامتكم فعل بمعنى مفعول وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعنى خياما واخبية والقنات من الادم ويجوز ان يتناول المتخذ من الوبر والصوف والشعر فانها من حيث انها ثابتة على جلودها منها تَسْتَخِفُّونَها اى تجدونها خفيفة فى الحمل والثقل يَوْمَ ظَعْنِكُمْ اى رحلتكم فى سفركم قرا ابن عامر والكوفيون بسكون العين والباقون بفتحها وهما لغتان وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ اى وقت الحضر او النزول وَمِنْ أَصْوافِها اى أصواف الانعام من الضأن وَأَوْبارِها من الإبل وَأَشْعارِها من المعز واضافتها الى الانعام لانها من جملتها أَثاثاً وهو متاع البيت من الفرش والاكسية واللباس لا واحد له او المال اجمع كذا فى القاموس وَمَتاعاً ما يتجربه إِلى حِينٍ (80) الى مدة أراد الله تعالى بقاءها.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر والجبل والابنية وغيرها ظِلالًا تتقون بها حر الشمس وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً اى مواضع تستترون بها وتسكنون فيها من الكهوف(5/360)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
والبيوت المنحوتة فيها جمع كن وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ اى قمصا من القطن والصوف والكتان والقز تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى والبرد خص أحد الضدين بالذكر والمراد كلاهما لدلالة الكلام على الاخر وَسَرابِيلَ من حديد او قز او غير ذلك تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ من السلاح ان يصيبكم فى الحرب كَذلِكَ يعنى كما أتم عليكم النعماء المذكورة يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ حيث أرسل إليكم رسوله وأيده بالمعجزات وانزل عليكم كتابه وأوضح لكم الحجة وأعز الإسلام لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) لكى يسلم اكثر الناس ويخلصون لله الطاعة قال عطاء الخراسانى انما نزل القران على قدر معرفتهم فقال وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وما جعل لهم من السهول أعظم واكثر لكنهم كانوا اصحاب جبال كما قال وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها لانهم كانوا اصحاب وبر وشعر وصوف كما قال وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وما انزل من الثلج اكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثلج وقال تَقِيكُمُ الْحَرَّ وما تقى من البرد اكثر ولكنهم كانوا اصحاب حر.
فَإِنْ تَوَلَّوْا اى اعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يعنى ان تولوا فلا تهتم ولا تك فى ضيق لانه ما عليك ان يؤمنوا انما عليك البلاغ وقد بلّغت كمال الإبلاغ أقيم السبب مقام المسبب- اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد ان اعرابيّا اتى النبي صلى الله عليه وسلم فساله فقرا عليه وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال الاعرابى نعم قال وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ قال نعم ثم قرا كل ذلك يقول نعم حتّى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولى الاعرابى فانزل الله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ الّتي عدها عليهم وغيرها حيث يعترفون بها وبانها من عند الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها حيث اعرضوا عن عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء غير مشركين- وقال السدىّ يعرفون نعمة الله يعنى نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عنادا ومعنى ثم استبعاد الإنكار بعد المعرفة- قال البغوي قال مجاهد وقتادة يعرفون ما عدّ عليهم من النعم فى هذه السورة ثم إذا قيل لهم تصدقوا وامتثلوا امر الله فيها ينكرونها(5/361)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
ويقولون ورثناها من ابائنا وقال الكلبي هو انه إذا ذكر لهم هذه النعم قالوا نعم هذه كلها من الله ولكنها بشفاعة الهتنا- وقال عون بن عبد الله هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا لولا فلان لما كان كذا وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) بعد الاعتراف بالنعماء عنادا- وذكر الأكثر اما لان بعضهم لم يعرف الحق لنقصان العقل او التفريط فى النظر اولم يقم عليه الحجة لانه لم يبلغ حد التكليف واما لانه قال الأكثر وأراد به الكل-.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ تقديره اذكر او خوّفهم او يحيق بهم ما يحيق يوم نبعث مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو رسولها يشهد عليهم ولهم بالكفر والايمان ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فى الاعتذار إذ لا عذر لهم وقيل فى الكلام مطلقا وقيل فى الرجوع الى الدنيا وثم لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الاقناط الكلى بعد شهادة الرسل عليهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) اى ولا هم يسترضون يعنى لا يطلب منهم رضاء ربهم إذ لا يمكن ذلك حينئذ فان الاخرة ليست بدار التكليف ولا يرجعون الى الدنيا حتّى يتوبوا ويعملوا موجبات مرضاته تعالى.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ عذاب جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ اى العذاب بعد الدخول وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) اى لا يمهلون قبل الدخول.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أوثانهم قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أربابا نعبدهم او نطيعونهم وهو اعتراف بانهم كانوا مخطئين فى ذلك- او التماس بان ينصّف عذابهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ اى قالوا لهم يعنى أوثانهم ينطقهم الله إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) فى انهم شركاء الله- او فى انهم عبدوهم حقيقة بل انما عبدوا أهواءهم وحاصل قولهم انا ما دعوناكم الى عبادتنا نظيره قوله تعالى سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ او فى انهم حملوهم على الكفر والزموهم إياه كقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي....
وَأَلْقَوْا يعنى الذين ظلموا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار فى الدنيا وَضَلَّ اى ضاع وبطل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) من انها يشفع لهم.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا(5/362)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً بصدهم فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم قال عبد الله بن مسعود عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال- اخرج ابن مردوية عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه- وقال سعيد بن جبير حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا- وقال ابن عباس ومقاتل يعنى خمسة انهار من صفر مذاب كالنار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار- وقيل انهم يخرجون من حر النار الى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير الى الدار مستغيثين بها بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) فى الدنيا بالكفر والصدّ.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى نبيهم فان نبى كل امة بعث منهم وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ استيناف او حال بإضمار قد تِبْياناً بيانا بليغا لِكُلِّ شَيْءٍ مفصلا او مجملا كما فى قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ... وَمَنْ ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ... وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً للجميع وانما حرم من حرم من تقصيره وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) خاصة.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ لفظ العدل يقتضى المساوات ومنه يقال للفدية والجزاء عدلا باعتبار معنى المساوات ومنه قوله تعالى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً وأَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يعنى تسووا بينهن فى كل شيء فمعنى الاية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ اى بالمساوات فى المكافاة ان خيرا فخيرا وان شرّا فشرّا- والإحسان ان يقابل الخير بأكثر وأفضل منه والشر باقل وأسهل منه وبالمساوات بين المدعى والمدعى عليه إذا حكم بينهما يعنى لا يميل الى أحدهما بل يسوى بينهما ويحكم بما قضى الله تعالى- قلت او المراد بالعدل الاستقامة على الحق ضد الجور وهو الميلان عن الحق فى القاموس العدل ضد الجور وما قام فى النفوس انه مستقيم- وقيل المراد بالعدل التوسط بين الأمور كالتوحيد المتوسط بين التعطيل(5/363)
والتشريك- والقول بالكسب المتوسط بين الجبر والقدر- والتعبد بالواجبات والنوافل بحيث لا يفوّت حقّا من حقوق الله- والعبادة «1» المتوسطتة بين البطالة والترهب- والجود المتوسط بين البخل والتبذير- والشجاعة المتوسط بين الجبن والتهور- والعفة المتوسطة بين الفجور والحصر- قال البغوي وروى عن ابن عباس العدل التوحيد والإحسان أداء الفرائض وعنه الإحسان الإخلاص فى التوحيد- وذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك- رواه الشيخان فى الصحيحين فى حديث سوال جبرئيل عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه- وقال مقاتل العدل التوحيد والإحسان العفو عن الناس- وقيل العدل الفريضة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا يعنى نافلة ولا فريضة والإحسان النافلة لان الفرض ان يقع فيه تفريط تجبره النافلة وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى اى إعطاء ذى قرابته ما يحتاج اليه يعنى صلة الرحم وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ اى ما اشتد قبحه قولا او فعلا وقال ابن عباس الزنى وَالْمُنْكَرِ اى ما أنكره الشرع والعقل السليم وَالْبَغْيِ اى الكبر والظلم قال البيضاوي الفحشاء الافراط فى متابعة القوة الشهوية كالزنى فانه أقبح احوال الإنسان واشنعها- والمنكر ما ينكر عن تعاطيه فى اثارة القوة الغضبية- والبغي هو الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم فانها الشيطنة الّتي هى مقتضى القوة الوهمية- ولا يوجد من الإنسان شر الا وهو مندرج فى هذه الاقسام صادر بتوسط احدى هذه القوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود اجمع اية فى القران هذه- قلت أخرجه سعيد بن منصور والبخاري فى الأدب ومحمّد بن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي فى شعب الايمان واخرج احمد والبخاري فى الأدب وابن ابى حاتم والطبراني وابن مردوية عن ابن عباس ان تلك الاية صارت سببا لاسلام عثمان بن مظعون- وقال البغوي قال ابن عيينة العدل استواء السر والعلانية والإحسان ان يكون سريرته احسن من العلانية والفحشاء والمنكر ان يكون علانيته احسن من سريرته يَعِظُكُمْ بالأمر والنهى والتميز «2» بين الخير والشر لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) تتعظون قال البيضاوي
__________
(1) فى الأصل او العباد
(2) فى الأصل والميز-(5/364)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
لو لم يكن فى القران غير هذه الاية لصدق عليه انه تبيان لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ- قال البغوي قال أيوب عن عكرمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قرا هذه الاية على الوليد فقال له يا ابن أخي أعد فاعاد عليه فقال ان له والله لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمعذق وما هو قول البشر-.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ اى بميثاقه إِذا عاهَدْتُمْ اخرج ابن جرير عن بريدة قال نزلت الاية فى بيعة النبي صلى الله عليه وسلم وقال البغوي العهد هاهنا اليمين قال الشعبي العهد يمين وكفارته كفارة يمين وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ اى ايمان البيعة او مطلق الايمان بَعْدَ تَوْكِيدِها اى توثيقها بذكر الله وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدا على تلك البيعة فان الكفيل مراع بحال المكفول به رقيب عليه والجملة حال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) من الوفاء بالعهود او نقضها وقال مجاهد نزلت الاية فى حلف الجاهلية ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال.
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت اى نقضت غزلها من بعد ابرامه وأحكامه فجعلته أَنْكاثاً جمع نكث وهو ما ينكث قتله اخرج ابن ابى حاتم عن ابى بكر ابن ابى حفص قال كانت سعيدة الاسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الاية- وقال البغوي قال الكلبي ومقاتل هى امراة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها ربطة بنت عمر بن سعد بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم وتلقب بجعر وكانت بها وسوسة فكانت تخذت مغزلا بقدر ذراع واوصارة مثل الإصبع وفلكة عظيم على قدرها وكانت تغزل الغزل من الصوف والوبر والشعر وتأمر جواريها بذلك فكن يغزلن من الغداة الى نصف النهار فاذا انتصف النهار تنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها ومعنى الاية لا تكونوا كما كانت انها لم تكف عن العمل وبعد ما عملت لم تكف عن النقض فانتم اما ان لا تعهدوا واما ان توفوا إذا عاهدتم ولا تكونوا ان تعاهدوا كل مرة فتنقضوا العهود كلّما عاهدتم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير(5/365)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
فى لا تكونوا او فى الجار والمجرور الواقع موقع الخبر اى لا تكونوا مشبهين بامراة هذا شأنها متخذى ايمانكم مفسدة ودغلا وخديعة وخيانة بينكم- واصل الدخل ما يدخل فى الشيء ولم يكن منه لاجل الفساد وقيل الدخل والدغل ان يظهر الوفاء ويبطن النقض أَنْ تَكُونَ اى لا تكون أُمَّةٌ اى جماعة هِيَ أَرْبى يعنى اكثر عددا وأوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ اخرى قال مجاهد وذلك انهم كانوا يحالفون الحلفاء وإذا راوا قوما اكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا أعداءهم الأكثرين «1» - فمعناه طلبتم العز بنقض العهد من الضعفاء والعهد من الأقوياء ولا ينبغى ذلك- او المعنى تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ لكون امة أنتم فيه أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ عاهدتم منهم فما باليتم بنقض العهد كما ان قريشا عاهدوا المؤمنين عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين ثم نقضوا العهد بعد سنتين لما راوا جماعة قريش أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة المؤمنين- هى اربى مبتدا وخبر فى موضع الرفع صفة لامة وامة فاعل تكون وهى تامة وهى ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير لان تكون امّة يعنى يختبركم الله بكون امة اربى من امة فينظر هل تمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله أم تنقضون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم- وقيل الضمير للربو والمعنى قريب مما ذكر- وقيل للامر بالوفاء يعنى يختبركم الله بامره بالوفاء بالعهد وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) فى الدنيا إذا جازاكم على أعمالكم فيظهر الذين وفوا عهودهم بالثواب والذين نقضوا ايمانهم بالعذاب-.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام موفون العهود غير مختلفين وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بالخذلان وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) سوال تبكيت ومجازاة.
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا خديعة وفسادا
__________
(1) فى الأصل أكثرون-(5/366)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
بَيْنَكُمْ فتغرون به الناس حيث يعتمدوا على ايمانكم ويأمنون ثم تنقضونها- تصريح بالنهى عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة فى قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها يعنى فتهلكوا بعد ما كنتم امنين- والعرب يقول لكل مبتلى بعد عافية او ساقط فى ورطة بعد سلامة زلّت قدمه- او المعنى فتزل قدم عن الصراط المستقيم ومحجّة الإسلام بعد ثبوتها وذلك ان بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كان محجّة الإسلام والوفاء به الاستقامة عليه ونقضه زلّة القدم- والمراد فتزلّ أقدامكم بعد ثبوتها لكن وحد ونكر للدلالة على استعظام مزلّة قدم واحد عن طريق الحق بعد الثبوت عليها فكيف باقدام كثيرة وَتَذُوقُوا السُّوءَ فى الدنيا بِما صَدَدْتُمْ اى بصدودكم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وخروجكم عن الدين او بصدكم غيركم لانهم لو نقضوا ايمان البيعة وارتدوا لجعلوا نقضها سنّة لغيرهم يستنّون بها- او المعنى بما سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد فلا يعتمد أحد على عهدكم قط ويغركم غيركم بالعهود فيصيبكم مصيبة فى الدنيا وَلَكُمْ فى الاخرة عَذابٌ عَظِيمٌ (94) بنقض العهود ونكث الايمان.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ اى لا تستبدلوا بعهد «1» الله وبيعة رسوله ثَمَناً قَلِيلًا تطلبون بنقض العهود والبيعة والايمان نيلا من الدنيا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ على الوفاء بالعهود من النصر والنعيم فى الدنيا والثواب فى الاخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما تطلبون إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) فضل ما بين العوضين- او المعنى ان كنتم من اهل العلم والتميز ما اخترتم الأدنى على الأعلى-.
ما عِنْدَكُمْ من الدنيا يَنْفَدُ اى ينقضى ويفنى وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ لا ينفد وهو تعليل للحكم السابق- عن ابى موسى الأشعري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فاثروا ما يبقى على ما يفنى- رواه احمد بسند صحيح والحاكم وَلَنَجْزِيَنَّ قرا ابن كثير وابو جعفر وعاصم بالنون على التكلم والباقون بالياء
__________
(1) وفى الأصل عهد الله(5/367)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
التحتانية على الغيبة والضمير راجع الى الله تعالى الَّذِينَ صَبَرُوا على مصائب الدنيا من المرض والفقر وأذى الكفار ومشاق التكليف والاستقامة فى الجهاد أَجْرَهُمْ اى يعطيهم ثواب صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (92) اى بأحسن أجور أعمالهم يضاعف الحسنات الى عشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله- وقيل المراد بأحسن ما كانوا يعملون الواجبات والمندوبات فانها احسن من المباحات والممنوعات.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيّنه بالنوعين لدفع توهم التخصيص وَهُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد باعمال الكفار فى استحقاق الثواب وانما المتوقع عليها تخفيف العذاب لان مبنى الثواب عند الله الإخلاص وحسن النية وذا مفقود لهم فَلَنُحْيِيَنَّهُ فى الدنيا حَياةً طَيِّبَةً قال سعيد بن جبير وعطاء هى الرزق الحلال- وقال الحسن هى القناعة- وقال مقاتل ابن حبان هى العيش فى الطاعة- وقال ابو بكر الوراق هى حلاوة الطاعة- وقال البيضاوي يعيش عيشا طيبا فانه ان كان موسرا فظاهر وان كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة والرضاء بالقسمة وتوقع الاجر العظيم فى الاخرة بخلاف الكافر فانه ان كان معسرا فظاهر وان كان موسرا لم يدع الحرص وخوف الفوات ان يتهيّأ بعيشه قلت وذلك هو المعنى من قوله تعالى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً- قلت والاولى ان يقال ان العبد إذا أحب الله تعالى فكل ما وصل اليه من المحبوب من حلاوة او مرارة يلتذّ به- قال المجدد رضى الله عنه إيلام المحبوب ألذّ للمحب من انعامه فان المراد فى الانعام كائن على مراده وفى الإيلام كائن على مراد المحبوب ومراد المحبوب أحب عنده من مراد نفسه- قال الفاضل الرومي قدس سره
عاشقم بر لطف وبر قهرت بجد ... اى عجب من عاشقم بر هر دو ضد
ناخوش از وى خوش بود در جان من ... جان فدائى يار دل رنجان من
قلت او يقال قد قال الله تعالى فى أوليائه هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وقد مر تفسيره فى سورة يونس عليه السلام- فالمؤمن إذا بشر برضاء الله تعالى وعلو مقامه عنده ورفع درجاته لديه حصل له فى الدنيا أفضل ما يرجوه فى الجنة- حيث قال(5/368)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى يقول لاهل الجنة هل رضيتم فيقولون ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق فقال اما أعطينّكم أفضل من ذلك فيقول احلّ عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم ابدا- متفق عليه من حديث ابى سعيد وعند الطبراني فى الأوسط بسند صحيح عن جابر نحوه ومن هاهنا قال بعض الكبراء
امروز چون جمال تو بى پرده ظاهر است ... در حيرتم كه وعده فردا براى چيست
- كان شيخى وسندى الشيخ محمّد عابد المجددى رضى الله عنه يقول لو علم الملوك والأمراء من اهل الدنيا ما للفقراء من اللذّة والراحة لحسدوهم واغبطوهم- لا يقال هذه الحالة ينافى الخوف والخوف والرجاء فى الدنيا من لوازم الايمان- لانا نقول هذه الحالة المترتبة على الانس والمحبة لا ينافى الخوف- فان الخوف مبنى على رؤية عظمة الله وكبريائه وهو لا ينفك عن المؤمن فى شيء من الأحوال- بل الأنبياء الذين هم قاطعون بحسن الخاتمة ورضوان الله تعالى يرون عظمة الله وكبريائه فوق ما يراه غيرهم ويخافونه فوق ما يخافونه غيرهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انّ أعلمكم وأتقاكم بالله انا- والصحابة الذين كانوا مبشرين بالجنة بالوحى القاطع حيث قال الله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ونحو ذلك كانوا يخافون الله تعالى كمال الخوف فما بال قوم بشروا برضوان الله بالكشف الظنى والله اعلم قلت وجاز ان يكون المراد بالحياة الطيبة حيوة يثمر البركات- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له- رواه احمد ومسلم فى الصحيح عن صهيب واحمد وابن حبان فى الصحيح نحوه عن انس والبيهقي بسند صحيح نحوه عن سعد- وقال مجاهد وقتادة المراد بالحياة الطيبة الحيوة فى الجنة ورواه عوف عن الحسن وقال لا يطيب الحيوة لاحد الا فى الجنة والظاهر هو المعنى الاول وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ فى الاخرة أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) .(5/369)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يعنى إذا أردت قراءة القران فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) كيلا يوسوس فى القراءة ولا يلقى فى الامنية- فان شأنه انه ما أرسل الله مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ- عبر عن ارادة الفعل بالفعل المسبب عنها للايجاز والتنبيه على ان من أراد العبادة فليبادر إليها بحيث لا ينفك الارادة عن الفعل- وحكى عن النخعي وابن سيرين ان يتعوذ بعد القراءة نظرا الى ظاهر هذه الاية ولان الدعاء بعدا العبادة اقرب الى الاجابة والتعوذ من الشيطان مطلوب دائما- وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يصلى قبل القراءة وعليه انعقد الإجماع من السلف والخلف- لكنه سنة عند جمهور العلماء- وذهب عطاء على كونه واجبا قبل القراءة احتجاجا بهذه الاية فان حقيقة الأمر للوجوب- وكونه لدفع الوسوسة فى القراءة لا يصلح صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه فلا بد من جمله «1» على الوجوب- قال ابن الهمام والله اعلم بالصارف عن الوجوب على قول الجمهور قلت والصارف عنه انهم راو والنبي صلى الله عليه وسلم ترك التعوذ قبل القراءة فى بعض الأحيان ولولا ذلك لما اجمعوا على جواز ترك ما لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم قط- وقد روى فى كثير من الأحاديث قراءته صلى الله عليه وسلم من غير ذكر التعوذ فى الصحيحين عن ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم قعد الثلث الأخير من الليل فنظر الى السماء فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ العشر الأواخر من ال عمران حتّى ختمها ثم قام فتوضا الحديث- وروى مسلم عن انس قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى اغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما اضحكك يا رسول الله قال أنزلت علىّ آنفا سورة فقرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ الحديث- (مسئلة) اختلفوا فى التعوذ قبل القراءة فى الصلاة فقال ابو حنيفة واحمد يتعوذ فى أول ركعة- وقال الشافعي فى كل ركعة قال الشيخ ابن حجر استحب التعوذ فى كل
__________
(1) وفى الأصل فلا بد حمله-(5/370)
ركعة الحسن وعطاء وابن سيرين- وقال مالك لا يتعوذ فى المكتوبة- قال البيضاوي حجة للشافعى ان الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا فالاية دليل على ان المصلى يستعيذ فى كل ركعة- واحتج مالك بحديث انس قال كنا نصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وابى بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بام القران فيما يجهر به وفى لفظ اخرج فى الصحيحين كانوا يفتتحون الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- قلنا هذا الحديث لا ينافى التعوذ سرّا- ولنا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بعد الثناء فى الركعة الاولى ولم يرو عنه صلى الله عليه وسلم التعوذ فى ركعة غير الاولى- روى ابن ماجة وابن السنى عن جبير بن مطعم رضى الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل فى الصلاة قال الله اكبر كبيرا ثلاثا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- وروى احمد وابن حبان وابو داود عنه من نفخه ونفثه وهمزه- وروى الحاكم نحوه وروى احمد واهل السنن والحاكم عن ابى سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للصلوة بالليل كبر ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا اله غيرك ثم يقول لا اله الا الله ثلاثا ثم يقول الله اكبر ثلاثا ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه- وروى احمد من حديث ابى امامة نحوه وفيه أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم وفى اسناده من لم يسم- وروى ابن ماجة وابن خزيمة من حديث ابن مسعود ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم انى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه- ورواه الحاكم البيهقي بلفظ كان إذا دخل فى الصلاة وعن انس نحوه رواه الدار قطنى وفيه الحسين بن علىّ بن الأسود وفيه مقال- وفى مراسيل ابى داؤد عن الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- (فائدة) قال صاحب الهداية الاولى ان يقول استعيد بالله ليوافق القران ويقرب منه أعوذ بالله- قلت لكن المستعمل عند الحذاق من اهل الأداء والفقهاء فى لفظها أعوذ بالله من الشيطان(5/371)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
الرجيم دون غيره لما ذكرنا من الأحاديث- واخرج الثعلبي والواحدي عن ابن مسعود قال قرات على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم قال قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللوح المحفوظ- قال ابو عمرو الداني فى التيسير بهذا اللفظ بعينه قرات وبه أخذ ولا اعلم خلافا بين اهل الأداء فى الجهر بها عند افتتاح القران (يعنى خارج الصلاة) وعند الابتداء برءوس الاجزاء وغيرها فى مذهب الجماعة اتباعا بالنص واقتداء بالسنة وكذلك الرواية عن ابى عمرو (يعنى ابن العلاء) وروى عن حمزة انه كان يجهر بها فى أم القران خاصة ويخفيها بعد ذلك فى سائر القران كذا قال خلف عنه وقال خلاد عنه انه كان يخيّر الجهر والإخفاء جميعا والباقون لم يأت عنهم فى ذلك شيء منصوص-.
إِنَّهُ اى الشأن لَيْسَ لَهُ اى للشيطان سُلْطانٌ اى تسلط واستيلاء عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) فانهم لا يطيعون أوامره بحفظ الله تعالى ولا يقبلون وساوسه الا فيما يحتقرون على ندور وغفلة- ولذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه ان له سلطانا كذا قال البيضاوي- قلت وجاز ان يكون هذه الاية فى مقام التعليل للامر بالاستعاذة- لان معنى قوله عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ انهم يلتجئون الى الله تعالى ويحرزون أنفسهم بعزة الله تعالى من تسلط الشيطان إذ لا حول ولا قوة الا به تعالى وذلك معنى الاستعاذة- فالاستعاذة وهو الالتجاء الى الله تعالى والاعتماد عليه من صفات قلوب المؤمنين المخلصين لا ينفك عنهم لكنهم أمروا بالاستعاذة باللسان ايضا حتّى يتادى سنة الدعاء ويطابق الباطن الظاهر فى التضرع والابتهال فيحصل الامان من الشيطان على وجه الكمال.
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ اى يحبونه ويطيعونه فيجعلونه مسلطا على أنفسهم باختيارهم من غير ان يكون له عليهم سلطان يضطرهم الى اتباعه فلا منافاة بين هذا وبين قوله ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ والله اعلم وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ اى بالله تعالى او بسبب(5/372)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
الشيطان مُشْرِكُونَ (100) .
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ يعنى نسخنا تلاوة اية وأنزلنا مكانها اخرى او نسخنا حكم اية بحكم اية أخرى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ انه كان مصلحة ثم صار مفسدة او كان مفسدة ثم صار مصلحة- والجملة حال من فاعل بدلنا واسم الله على هذا ظاهر موضع المضمر او استيناف لفظا لكنه فى مقام التعليل سببا للتبديل يعنى بدلنا لانى اعلم بما هو أصلح للخلق فى وقت دون وقت- قرا ابو عمرو وابن كثير ينزل بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل قالُوا يعنى الكفار إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ اى متقوّل على الله قال البغوي قالت المشركون ان محمّدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بامر وينهاهم عنه غدا ما هو الا مفتر يتقوّله من تلقاء نفسه- وجملة قالوا جواب إذا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) حكمة الاحكام ولا يميزون الخطاء والصواب- او المعنى أكثرهم ليسوا من اهل العلم والتميز ولو كانوا اهل التميز لعرفوا ان القران ليس مما يمكن ان يقوّله بشر ومحمّد صلى الله عليه وسلم أمين لا يصح ان يتهم بالافتراء شعر
تبارك الله ما وحي بمكتسب ... ولا نبى على غيب بمتهم.
قُلْ يا محمّد ردّا لما قالوا نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبرئيل عليه السلام واضافة الروح الى القدس وهو الطهر بمعنى الطاهر كقولهم حاتم الجود- قرا ابن كثير القدس بسكون الدال والباقون بضمها- وفى ينزّل ونزّله تنبيه على ان انزاله مدرجا على حسب المصالح مما يقتضى التبديل مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ اى متلبسا «1» بالحكمة البالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الايمان بانه كلام الله فانهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم- او المعنى ليبلوهم بالنسخ حتّى إذا قالوا هو الحق من ربنا وهو الحكمة لان الحكيم لا يفعل الا ما هو الحكمة حكم لهم بثبات القدم وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) المنقادين لحكمه وهما معطوفان على محل ليثبت اى تثبيتا وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول الاضداد لغيرهم-
__________
(1) فى الأصل ملتبسا-(5/373)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ آدمي وما هو من عند الله قال البغوي اختلفوا فى هذا البشر قال ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيّا أعجمي اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج فكانوا يقولون انما يعلمه بلعام- كذا اخرج ابن جرير فى مسنده بسند ضعيف عنه- وقال عكرمة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرئ غلاما لبنى المغيرة يقال له يعيش وكان يقرا الكتب فقالت قريش انما يعلمه يعيش- وقال الفراء قال المشركون انما يتعلم من عايش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد اسلم وحسن إسلامه وكان أعجمي اللسان- وقال ابن إسحاق كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة الى غلام رومى نصرانى عبد لبعض بنى الحضرمي يقال له جبر وكان يقرا الكتب- وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبد ان من اهل عين باليمن يقال لاحدهما يسار ويكنى أبا فكيهة وجبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقران التورية والإنجيل فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقران فيقف ويسمع- كذا اخرج ابن ابى حاتم من طريق حصين بن عبد الله ابن مسلم- قال الضحاك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أذاه الكفار يقعد إليهما فيستروح بكلامهما فقال المشركون انما يتعلم محمّد منهما فنزلت هذه الاية وقال الله تعالى تكذيبا لهم لِسانُ اى لغة الرجل الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ قرا حمزة والكسائي بفتح الياء والحاء من المجرد والباقون بضم الياء وكسر الحاء من الافعال قال فى القاموس لحد اليه مال اليه كالتحد والحد مال وعدل يعنى يميلون اليه اى يشيرون اليه- او المعنى يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة اليه أَعْجَمِيٌّ غير فصيح بالعربية قال فى القاموس رجل وقوم أعجم والأعجم من لا يفصح كالاعجمى والأخرس والعجمي من جنسه العجم وان افصح والعجم خلاف العرب وقال بعض المحققين العجمة خلاف الإبانة والإعجام الإبهام يقال استعجمت الدار إذا مات أهلها ولم يبق فيها عريب اى من يبين جوابا وَهذا اى القران لِسانُ لغة عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) فصيح ذو بيان واضح والجملتان مستانفتان لابطال طعنهم(5/374)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
لا محل لهما من الاعراب تقريره من وجهين أحدهما ان ما يسمع محمّد صلى الله عليه وسلم منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقران عربى يفهمونه فكيف يكون هذا ذك- وثانيهما ان معنى القران كما هو معجز فلفظه ايضا معجز فالقران وان كان مطابقا لما كان الرجل الأعجمي يقراه من التورية والإنجيل فى المعنى لكن تعبير تلك المعاني المنزلة فى الكتب بعبارة مثل عبارة القران ليس فى وسع البشر لما ظهر عجزهم بالتحدي بقوله فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ على ان تعلم العلوم الكثيرة المطوية فى الكتب السماوية لا يتصور الا بملازمة معلم فائق فى تلك العلوم مدة متطاولة فكيف يتصور تعلم جميع ذلك من رجل سمع منه فى بعض اوقات مروره عليه بلسان أعجمي لا يفهم معناه-.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يصدّقون انها من عند الله لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يرشدهم الى الحق او الى سبيل النجاة او الى الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) فى الاخرة ثم رد امر الافتراء على الكفار بعد مارد طعنهم وشبهتهم بأحسن الوجوه فقال.
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لانهم لا يخافون عقابا حتّى يردعهم عنه بخلاف المؤمنين وَأُولئِكَ اشارة الى الكفار او الى قريش هُمُ الْكاذِبُونَ (105) اى الكاذبون على الحقيقة لا غيرهم فان المؤمنين حينئذ كلهم كانوا صدوقا عادلين خير القرون- او الكاملون فى الكذب لان تكذيب آيات الله ورسوله المعصوم والطعن فيهما بهذه الخرافات بعد ما ظهر امره بالمعجزات أعظم الكذب- او الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروة- او الكاذبون فى قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ ... إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ- الجملة الفعلية تدل على انحصار صدور الافتراء عليهم والاسمية على كونها وصفا لازما لهم- روى البغوي بسنده عن عبد الله بن حراد قال قلت يا رسول الله المؤمن يزنى قال قد يكون ذلك قلت المؤمن يسرق قال قد يكون ذلك قلت المؤمن يكذب قال لا قال الله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ- وروى احمد عن ابى امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبع المؤمن على الخلال كلها الا الخيانة والكذب- ورواه البيهقي فى شعب الايمان عن سعد بن ابى وقاص- وروى مالك(5/375)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
والبيهقي فى شعب الايمان مرسلا انه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيكون المؤمن جبانا قال نعم فقيل له أيكون المؤمن بخيلا قال نعم فقيل له أيكون المؤمن كذابا قال لا- قلت الظاهر ان المراد بالمؤمن المذكور فى الأحاديث الموجودون «1» فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولاجل ذلك انعقد الإجماع على كون الصحابة كلهم صدوقا عدولا لا يطعن فى حديث أحد منهم او المراد به المؤمن الكامل وهو الصوفي الفاني الباقي-.
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مبتدا تضمن معنى الشرط وخبره المتضمن للجواب محذوف وهو فعليهم غضب من الله ولهم عذاب اليم دل عليه جواب من شرح- وجاز ان يكون بدلا من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويكون وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراضا بين البدل والمبدل منه يعنى انما يفترى من كفر الا من اكره- وجاز ان يكون بدلا من المبتدا الّذي هو أولئك او من الخبر وهو الكاذبون يعنى من كفر بالله هم الكاذبون او أولئك هم من كفر بالله وجاز ان يكون منصوبا على الذم إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ قال البغوي قال ابن عباس نزلت هذه الاية فى عمار بن ياسر وذلك ان المشركين أخذوه وأباه وامه سميّة وصهيبا وبلالا وخبيبا وسالما وعذبوهم فاما سميّة فانها ربطت بين بعيرين ووجئت قبلها بحربة فقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين فى الإسلام رضى الله عنهما واما عمار فانه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها على ذلك- وقال قتادة أخذ بنوا للمغيرة عمارا رضى الله عنه وغطوه فى بئر ميمون وقالوا له كفّر «2» بمحمّد فتابعهم على ذلك وقلبه كاره- فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بان عمارا كفر فقال كلا ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه- فاتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وراءك قال شر يا رسول الله نلت منك وذكرت قال كيف وجدت قلبك قال مطمئنّا بالايمان فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال ان عادوا لك فعدلهم بما قلت فنزلت هذه الاية- وكذا اخرج الثعلبي والواحدي واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أراد النبي صلى الله عليه وسلم ان يهاجر الى المدينة أخذ المشركون بلالا وخبيبا وعمار بن ياسر فاما عمار فقال لهم كلمة
__________
(1) فى الأصل الموجودين-
(2) فى الأصل اكفر-(5/376)
أعجبتهم تقية فلما رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه فقال كيف كان قلبك حين قلت أكان منشرحا بالذي قلت قال لا فانزل الله هذه الاية- وذكر البغوي وكذا اخرج ابن ابى حاتم انه قال مجاهد نزلت فى ناس من اهل مكة أمنوا فكتب إليهم بعض اصحاب رسول الله ان هاجروا فانا لا نراكم منا حتّى تهاجروا إلينا فخرجوا يريدون المدينة فادركتهم قريش فى الطريق ففتنوهم فكفروا كارهين- وقال البغوي قال مقاتل نزلت فى جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ اى ساكن به لم يتغير عقيدته وفيه دليل على ان الركن اللازم للايمان هو التصديق بالقلب- قال البغوي ثم اسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر جبر مع سيده وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً اى شرح وفتح صدره للكفر بالقبول وطاب نفسه واختاره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) اعلم ان الإكراه عبارة عن حمل الغير على فعل يكرهه وذلك على نوعين أحدهما ما ينتفى به رضاه ولا يفسد اختياره كالاكراه بالضرب او الحبس ثانيهما ما يكون ملجيا يفسد اختياره كالاكراه بالقتل او قطع العضو ويشترط فى كلا القسمين من الإكراه قدرة المكره على ما يهدد به وان يغلب على ظن المكره انه يفعله به فالقسم الاول من الإكراه غير مراد بالآية وغير مؤثر أصلا الا فى البيع والشراء والاجارة والاستيجار والإقرار ونحو ذلك فمن اكره على بيع ماله او على شراء سلعة او على ان يقرّ لرجل بألف او يؤاجر داره او يستأجر فالمكره بالخيار ان شاء امضى العقد بعد زوال الإكراه وان شاء فسخه لان هذه العقود تحتمل الفسخ واشترط لصحتها التراضي بقوله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وقد فات الرضاء بالإكراه فان شاء أجاز وان شاء فسخ فان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع- والمراد بالآية هو القسم الثاني فقد اجمع العلماء على انه من اكره على الكفر اكراها ملجيا يجوز له ان يتلفظ بما اكره عليه مطمئنّا قلبه بالايمان بهذه الاية وقصة عمار فلا يكفر بالتلفظ من غير اعتقاد ولم تبن منه امرأته- وان ابى ان يقوله كان أفضل لقصة أبوي عمار وقد مر- وقصة خبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق(5/377)
انهم اختاروا القتل على الارتداد- ذكر اصحاب السير فى سرية الرجيع ان خبيبا حين قتل صلى ركعتين وروى البخاري عن ابى هريرة انه أول من سنّ الركعتين عند القتل انتهى- فلما صلى الركعتين جعلوه على الخشبة ثم وجهوه الى المدينة وأوثقوه رباطا ثم قالوا ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك قال والله ما أحب انى رجعت عن الإسلام وانّ لى ما فى الأرض جميعا قالوا افتحب ان محمّدا مكانك وانك جالس فى بيتك قال لا والله ما أحب ان يشاك محمّد صلى الله عليه وسلم شوكة وانا جالس فى بيتي فجعلوا يقولون ارجع خبيب فقال لا ارجع ابدا قالوا لئن لم ترجع لقتلناك قال ان قتلى فى الله لقليل روى البخاري عن ابى هريرة ان خبيبا ... حين قتل قال «1» أبياتا منها قوله شعر
فلست أبالي حين اقتل مسلما ... على اىّ شق كان فى الله مصرعى
وذلك فى ذات الإله وان يشاء ... يبارك فى أوصال شلو ممزع
ذكر ابن عقبة ان زيدا وخبيبا قتلا فى يوم واحد وان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع يوما قتلا وهو يقول وعليكما السلام واخرج ابن ابى شيبة عن الحسن مرسلا وعبد الرزاق فى تفسيره عن معمر مفصلا ان مسيلمة أخذ رجلين فقال «2» لواحد ما تقول فى محمّد فقال رسول الله فقال ما تقول فىّ فقال أنت ايضا وقال للاخر ما تقول فى محمّد فقال رسول الله فقال ما تقول فىّ قال انا اصمّ فاعاد عليه ثلاثا فاعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اما الاول فقد أخذ برخصة الله واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له- (مسئلة) ومن اكره على إتلاف مال مسلم وسعه ان يفعل ذلك لان مال الغير يستباح للضرورة كما فى حالة المخمصة وقد تحققت- ولصاحب المال ان يضمن المكره (بالكسر) لان المكره (بالفتح) فمعز الدولة له فيما يصلح فمعز الدولة له والاتلاف من هذا القبيل- (مسئلة) وان اكره على قتل غيره لم يسعه ان يقدّم عليه ويجب ان يصبر حتّى يقتل فان قتله كان اثما لان قتل المسلم لا يستباح لضرورة ما فكذا لهذا الضرورة واختلف العلماء فى القصاص هل هو على المكره او المكره ولا يسع المقام للكلام فيه- (مسئلة) وان اكره على ان يأكل الميتة او يشرب الخمر جاز له ان يقدم على ما اكره عليه اجماعا- واختلفوا فى انه ان صبر ولم يأكل حتّى قتل هل يجوز له ذلك أم لا
__________
(1) وفى الأصل قال حين قتل قال
(2) فى الأصل فقال ما تقول فى محمّد ص(5/378)
فقال ابو حنيفة يجب عليه أكله ولا يسعه ان يصبر كما لو اكره على أكل شيء مباح يجب عليه أكله فان صبر وقتل اثم لانه صار معاونا للمكره فى إتلاف نفسه بلا ضرورة وعن ابى يوسف انه لا يأثم وهو أصح قولى الشافعي لانه رخصة لا اباحة لان الحرمة قائمة فيكون أخذا بالعزيمة وقال ابو حنيفة حالة الاضطرار مستثناة بقوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وهو تكلم بالباقي بعد الثّنيا فلا محرم فكان اباحة لا رخصة فصار الميتة حينئذ مباحا كالزكية بخلاف أكل مال الغير فانه لو صبر ولم يأكل حتّى قتل كان ماجورا اجماعا لان الحرمة هناك قائمة فمن هاهنا ظهران الإكراه لا يزيل الخطاب حتّى يباح مرة ويفترض ويحرم اخرى فلاجل ذلك قال ابو حنيفة رحمه الله كل تصرف ينسحب حكمه على التلفظ ولا يتوقف على الرضاء يترتب عليه حكمه ان فعل مكرها وهى عشرة تصرفات النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء والفيء والظهار والعتاق والعفو عن القصاص واليمين والنذر وبه قال الشعبي والنخعي والثوري- وقال مالك والشافعي واحمد لا يترتب الحكم على شيء من تصرفات المكره محتجين بحديث عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاطلاق ولاعتاق فى إغلاق- رواه احمد وابو داود وابن ماجة والحاكم وابن الجوزي وابو يعلى والبيهقي من طريق صفية بنت عثمان عن شيبة عنها صححه الحاكم وفى اسناده محمّد بن عبيد المكي ضعفه ابو حاتم الرازي- وجه الاحتجاج انه قال ابن الجوزي قال قتيبة الاغلاق الإكراه على الطلاق والعتاق وهو من أغلقت الباب كانّ المكره اغلق حتّى يفعل قال الحافظ وهو قول الخطابي وابن السيد- ويرد عليه ان فى تفسير الاغلاق اختلافا فقد قيل كما ذكر ابن الجوزي وقيل الاغلاق الجنون فان المجنون مستور عليه كانه اغلق عليه- وقيل الغضب وقع ذلك فى سنن ابى داود وكذا فسره احمد لكن تفسيره بالغضب غير مرضى رده ابن السيد وقال لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق لان أحدا لا يطلق حتّى يغضب- وبحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الله عزّ وجلّ غفر لكم عن الخطاء والنسيان وما استكرهتم عليه- رواه ابن الجوزي ولا يجوز الاحتجاج بهذا الحديث فى هذه المسألة لانه لا يدل الا على مغفرة ما فعله مكرها من المعاصي ولا يدل على عدم ترتب الاحكام الدنيوية على ما فعله مكرها- وقد يحتج فى المسألة(5/379)
بما رواه الطبراني عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه- وكذا روى من حديث ابى الدرداء قال الحافظ فى اسنادهما ضعف وروى ابن ماجة وابن حبان والدار قطنى والطبراني والبيهقي والحاكم فى المستدرك من حديث الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس- وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ولم يذكر عبيد بن عمير- وللوليد اسنادان آخران روى عن محمّد بن المصفى عنه عن مالك عن نافع عن ابن عمرو عن ابن لهيعة عن موسى بن داؤد عن عقبة بن عامر قال ابن ابى حاتم سالت ابى عنها فقال هذه الأحاديث منكرة كانها موضوعة وقال عبد الله بن احمد سالت ابى عنه فانكره جدّا- ورواه ابن ماجة من حديث ابى ذر وفيه شهر بن حوشب وفى الاسناد انقطاع ايضا- فلو صح هذا الحديث- فالجواب عنه ان الحديث ليس على ظاهره إذ لا معنى لرفع الخطاء والنسيان فان ما وجد من الافعال خطأ او نسيانا فهى واقعة لا محالة فالمعنى رفع عن أمتي اثم الخطاء والنسيان ولا يجوز تقدير الحكم الّذي يعم احكام الدنيا والاخرة إذ لا عموم للمقتضى- فالمراد اما احكام الدنيا واما حكم الاخرة والإجماع على ان حكم الاخرة وهو رفع المؤاخذة مراد فلا يراد الاخر معه وإلا عمم كذا قال ابن همام- واحتج ابن الجوزي ايضا بما روى ان رجلا على عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بدلى يسار علا فاقبلت امرأته فجلست على الجبل فقالت ليطلقها ثلاثا والا قطعت الجبل عليه فذكرها الله والإسلام فابت فطلقها ثلاثا ثم خرج الى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال ارجع الى أهلك فليس هذا بطلاق-
واحتج ابو حنيفة رحمه الله بأحاديث منها حديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة- رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة واحمد والحاكم والدار قطنى قال الترمذي حسن وقال الحاكم صحيح- قال ابن الجوزي فيه عطاء بن عجلان متروك الحديث قال الحافظ ابن حجر وهم ابن الجوزي حيث قال هو عطاء بن عجلان وهو متروك بل هو عطاء بن ابى رباح صرّح له فى رواية ابى داؤد والحاكم لكنه من رواية عبد الرّحمن بن جبير وهو مختلف فيه قال النسائي منكر الحديث ووثقه غيره فهو على هذا حسن فان قيل الإكراه لا يجامع الاختيار الّذي يعتبر به التصرف الشرعي(5/380)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
بخلاف الهازل لانه مختار فى التكلم بالطلاق غير راض بحكمه فيقع طلاقه فلا وجه للاستدلال بهذا الحديث على طلاق المكره قلنا كذلك المكره مختار فى التكلم اختيارا كاملا الا انه غير راض بالحكم لانه عرف الشرّين فاختارا هونهما عليه غير انه محمول على اختياره ذلك قال ابن همام لا تأثير لكونه محمولا على اختياره فى نفى الحكم يدل عليه حديث حذيفة وأبيه حين حلّفهما المشركون فقال لهما «1» النبي صلى الله عليه وسلم نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم فبيّن ان اليمين طوعا وكرها سواء فعلم ان لا تأثير للاكراه فى نفى الحكم المتعلق بمجرد اللفظ عن اختيار بخلاف البيع لان حكمه يتعلق باللفظ وما يقوم مقامه مع الرضاء وهو منتف بالإكراه- ومنها حديث ابى هريرة كل طلاق جائز الإطلاق المعتوه المغلوب على عقله رواه الترمذي وقال الترمذي لا نعرفه الا من حديث عكرمة بن خالد عن ابى هريرة والا من رواية عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد وعطاء ضعيف ذاهب الحديث ومنها حديث صفوان بن الأصم عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا كان نائما مع امرأته فقامت فاخذت سكينا وجلست على صدره ووضعت السكين على حلقه وقالت»
له طلقنى او لاذبحنك فناشدها الله فابت فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا قيلولة فى الطلاق- قال ابن الجوزي قال البخاري صفوان بن الأصم عن بعض اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فى المكره حديث منكر لا يتابع عليه وذكر ابن همام عن عمر انه قال اربع مبهمات معضلات ليس فيهن رديد النكاح والطلاق والعتاق والصدقة- قلت الظاهر ان حجة ابى حنيفة راجحة ولو سلمنا التعارض فالمصير الى القياس والقياس يقتضى وقوعها كما ذكرنا والله اعلم-.
ذلِكَ الكفر بعد الايمان او الوعيد بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا اى بسبب انهم اثروا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الحيوة الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ وبسبب ان الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) فى علمه الى ما يوجب الثبات على الايمان ولا يعصمهم عن الزيغ ذكر الله سبحانه لاجل كفرهم وعذابهم سببين سبب ظاهرى وهو اختيارهم الكفر وعدم التدبر فى الآيات وسبب حقيقى
__________
(1) وفى الأصل فقال لهما صلى الله عليه وسلم [.....]
(2) وفى الأصل وقال له(5/381)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
وهو عدم ارادة الله تعالى فيهم الهداية فالاية دليل على ان افعال العباد بين الجبر والقدر.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يدركون الحق حقّا وَسَمْعِهِمْ فلا يسمعون الحق سماع قبول وَأَبْصارِهِمْ فلا يبصرون الآيات نظر الاعتبار وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) الكاملون فى الغفلة حيث غفلوا عن صانعهم ولم يغفل عنه البهائم والجمادات.
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) حيث ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما افضى بهم الى العذاب المخلد ولم يكتسبوا شيئا ينجيهم من العذاب ويفضى بهم الى الفلاح بخلاف عصاة المؤمنين فانهم وان ضيعوا اكثر أعمارهم فى الشهوات والمعاصي لكنهم تشبثوا بالتوحيد حتّى ينجيهم من عذاب الله الى الجنة-.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا قرا العامة بضم الفاء وكسر التاء على البناء للمفعول اى منعوا من الإسلام وعذبوا- وثم لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك- اخرج ابن سعد فى الطبقات عن عمر بن الحاكم قال كان عمار بن ياسر يعذب حتّى لا يدرى ما يقول وكان صهيب يعذب حتّى لا يدرى ما يقول وكان ابو فكيهة يعذب حتّى لا يدرى ما يقول وبلال وعمار بن فهيرة وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الاية- وقال البغوي نزلت فى عياش بن ابى ربيعة أخي ابى جهل من الرضاعة وفى ابى جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبيد الله بن أسيد الثقفي فتنهم المشركون فاعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم وهاجروا الى المدينة ثُمَّ جاهَدُوا مع النبي صلى الله عليه وسلم الكفار وَصَبَرُوا على الايمان والطاعات والجهاد والمشاق وعن المعاصي وقال الحسن وعكرمة نزلت الاية فى عبد الله بن سعد بن ابى سرح وكان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم فاستزله الشيطان فلحق بالكفار فامر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم فتح مكة فاستجار له عثمان وكان أخاه لامه فاجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انه اسلم وحسن إسلامه فانزل الله هذه الاية- وقرا ابى عامر الّذين هاجروا(5/382)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
من بعد ما فتنوا بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل يعنى هاجروا بعد ما كفروا وعذبوا المؤمنين نزلت فى عامر الحضرمي اكره مولاه جبرا وعذبه حتّى ارتد ثم اسلم عامر وحسن إسلامه واسلم جبر حيث كان ارتداده مكرها وهاجروا جميعا ثم جاهدوا الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم وصبروا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد الهجرة والجهاد والصبر لَغَفُورٌ لما فعلوا قبل ذلك رَحِيمٌ (110) ينعم عليهم فى الدنيا والاخرة على ما صنعوا بعد ذلك خبر انّ الاولى محذوف دل عليه خبر انّ الثانية او يقال إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها تأكيد لفظى لما سبق.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ منصوب برحيم او با ذكر تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها يعنى تسعى كل نفس فى خلاصها لا يهمها شأن غيرها فالكافر يقول رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا ... رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا ... وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ... فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً والمؤمن يقول رب أسئلك نفسى نفسى لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- اخرج ابن جرير فى تفسيره عن معاذ قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من اين يجاء بجهنم يوم القيامة قال يجاء بها من الأرض السابعة لها الف زمام لكل زمام سبعون الف ملك تسبح فاذا كانت من العباد مسيرة الف سنة زفرت زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل الا جثى على ركبتيه يقول رب نفسى نفسى- وقال البغوي وروى ان عمر بن الخطاب قال لكعب الاخبار خوّفنا قال يا أمير المؤمنين والّذي نفسى بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لاتت عليك تارات وأنت لا يهمك الا نفسك وان لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبى منتخب الا وقع جاثيا على ركبتيه حتّى ابراهيم خليل الرّحمن يقول يا رب لا أسئلك الا نفسى وتصديق ذلك فى الّذي انزل الله عليكم يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها- وروى عكرمة عن ابن عباس فى هذه الاية قال ما نزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتّى يخاصم الروح الجسد فيقول الروح يا رب لم يكن لى يد ابطش بها ولا رجل امشى بها ولا عين ابصر بها ويقول الجسد خلقتنى كالخشب ليس لى يد ابطش بها ولا رجل امشى بها ولا عين ابصر بها فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لسانى وأبصرت عينى ومشت رجلى قال فضرب الله لهما مثل أعمى ومقعد دخلا حائطا فيه ثمار فالاعمى(5/383)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فاصابا من الثمر فعليهما العذاب- أضيف النفس الى النفس فى قوله تعالى فى نفسها لانه يقال لعين الشيء وذاته نفسه ولنقيضه غيره كانه قال يوم تجادل كل أحد عن ذاته وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ اى كل أحد جزاء ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) اى لا ينقصون أجورهم-.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً اى جعل الله قرية كما وصف مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فابطرتهم النعمة فكفروا فانزل به نقمته- فيجوز انه تعالى أراد بها قرية مقدرة على هذه الصفة او قرية من قرى الأولين قد كان بهذه الصفة فضربها مثلا لمكة انذارا من مثل عاقبتها- وقال البغوي أراد بالقرية «1» مكة فعلى هذا معنى الاية جعل الله تعالى مكة بحال يضرب بها مثلا لغيرها فانها كانَتْ آمِنَةً لا يهاج أهلها ولا يغار عليها مُطْمَئِنَّةً قارة باهلها لا يحتاجون الى الانتقال لضيق او خوف كما يحتاج اليه سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها من البحر والبر فَكَفَرَتْ أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ اى بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وادرع او جمع نعم كبؤس وابؤس فَأَذاقَهَا اى أذاق أهلها اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ استعار الذوق لادراك اثر الضرر واللباس لما اشتمله من اثر الجوع والخوف وهو الهزال وتغير اللون وأوقع الا ذاقة عليه بالنظر الى المستعار له بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) من الكفر والكفران- قال البغوي ابتلى الله اهل مكة بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بامر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى جهدوا فاكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعلهز «2» وهو الوبر يعالج بالدم حتّى كان أحدهم ينظر الى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم ان رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا هذا عاديت الرجال فما بال النساء
__________
(1) عن سليم بن عمر قال صحبت حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهى خارجة من مكة الى المدينة فاخبرت ان عثمان قد قتل فرجعت وقالت ارجعوا بي فو الّذي نفسى بيده انها للبقرية الّتي قال الله قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً الاية 12 ازالة الخفا- منه رح
(2) وهو شيء يتخذونه فى سنى المجاعة يخلطون الدم باوبار الإبل ثم يشوّونه بالنار ويأكلون وقيل يخلطون فيه القردان ويقال للقرار الضخم علهز وقيل العلهز شيء ينبت فى ديار سليم نهايه- منه رح(5/384)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
والصبيان فاذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون- قلت السورة مكية وانما أذاق الله اهل مكة الجوع إذا قحطوا سبع سنين والخوف من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة فاما ان يقال بنزول هذه الآيات بعد الهجرة واما ان يقال بالتوجيه الاول يعنى ان المراد قرية غير مكة ضربها الله مثلا لاهل مكة انذارا لاهلها من مثل عاقبتها فلما لم يعتبروا به ولم يسمعوا ما ضرب الله لهم من المثل عوقبوا بمثل ما عوقب به أولئك.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يعنى محمّدا صلى الله عليه وسلم والضمير لاهل مكة عاد الى ذكرهم يعد ما ذكر مثلهم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) اى حال التيامهم بالظلم والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد او وقعة بدر وهذه الاية ايضا تدل على كون نزولها بعد الهجرة- ويمكن ان يقال ان قوله وَلَقَدْ «1» جاءَهُمْ فى محل النصب على الحال من فاعل كفرت او مستأنفة لبيان حال تلك القرية الّتي ضرب بها المثل والمراد بالرسول الرسول المبعوث الى تلك القرية-.
فَكُلُوا ايها المؤمنون الذين أنجاهم الله من الكفر وهداهم للايمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ يعنى نبوة محمّد صلى الله عليه وسلم وما أنعم عليهم فى الدنيا إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) دون غيره- امر الله سبحانه بأكل ما أحل الله سبحانه وشكر ما أنعم الله عليهم بعد ما زجر وهدّد على الكفر وذكر من التمثيل والعذاب الّذي حلّ بكفار قومهم صدّا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة وقيل المخاطبون بهذا الكلام هم المخاطبون بما سبق أمرهم يأكل ما أحل لهم وشكر ما أنعم عليهم بعد ما زجرهم عن الكفر وهدّدهم عليه والمعنى ان كنتم إياه تعبدون فى زعمكم كانوا يزعمون انا نعبد الله وحده والأصنام شفعاؤنا عند الله.
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اى السنة قومكم من الكفار
__________
(1) وفى الأصل ولقد جاءت-(5/385)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ كما قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا الاية وقالوا بتحريم البحائر والسوائب ونحوها والحصر المستفاد من سياق الكلام وتصدير الجملة بانما حصر إضافي بالنسبة الى ما قالت الكفار بتحريمها فلا مرد لتحريم ما ثبت حرمتها بالأحاديث الصحيحة وقد بسطنا الكلام فيها فى سورة المائدة والله اعلم- الكذب منصوب بلا تقولوا اى لا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم من البهائم بالحل او الحرمة على خلاف ما هى عليه من غير استناد ذلك الوصف الى علة موجبة للحل او الحرمة من الله تعالى- وقوله هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل من الكذب او متعلق بتصف وما مصدرية اى لا تقولوا هذا حلل وهذا حرام لوصف السنتكم الكذب اى لا تحلوا ولا تحرموا بمجرد قول ينطق به السنتكم من غير دليل ووصف الالسنة بالكذب مبالغة فى وصف كلامهم بالكذب كانّ حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتهم تصفها وتعرفها بكلامهم ولذلك عد من فصيح الكلام كقولهم وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ان الله حرم لهذا واللام لتعليل لا يتضمن الغرض إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ «1» لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدا محذوف اى ما هم فيه متاع اى منفعة قليلة تنقطع عن قريب يفترون لاجله او مبتدا خبره محذوف يعنى لهم متاع قليل فى الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) فى الاخرة لاجل افترائهم-.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ هذا فى سورة الانعام بقولنا وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وقوله من قبل متعلق بقصصنا او بحرمنا وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم بعض الطيبات وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ببغيهم فعوقبوا بتحريمها فيه تنبيه على ان التحريم قد يكون للمضرة فى الفعل والمصلحة فى الترك وقد يكون للعقوبة.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
__________
(1) عن ابى النضرة قال قرأت هذه الاية فى سورة النحل وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ فلم ازل أخاف الفتيا الى يومى هذا- وعن ابن مسعود قال عسى رجل ان يقول ان الله امر بكذا ونهى عن كذا فيقول الله كذبت او يقول ان الله حرم كذا وأحل كذا فيقول الله له كذبت 12 ازالة الخفا- منه رح-(5/386)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ اى بسببها او متلبسين «1» بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر فى العواقب لغلبة الشهوة والسوء يعم الكفر والمعاصي ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا العمل إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ (119) يثيب على الانابة-.
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال فى القاموس الامة بالضم الرجل الجامع للخير والامام ومن هو على الحق ومخالف لسائر الأديان والنشاط والطاعة والعالم وغير ذلك من المعاني ذكرت منها ما يناسب المقام- وكان ابراهيم عليه السلام رجلا جامعا لفضائل لا تكاد توجد فى اشخاص كثيرة- وجعله الله اماما للناس وكان هو على الحق مؤمنا وحده مخالفا لسائر الأديان إذ كان حينئذ سائر الناس كفارا- وكان متصفا بالنشاط والطاعة فكان نشاطا وطاعة على طريقة زيد عدل وكان عالما بالله وأحكامه- قال ابن مسعود كان معلما للخير يأتم به اهل الدنيا- فهو فعلة بمعنى المفعول كالرحبة من امّه إذا قصده- وقال مجاهد كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار قانِتاً لِلَّهِ اى مطيعا لله قائما باوامره حَنِيفاً مائلا من الباطل وقيل مستقيما على دين الإسلام وقيل مخلصا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) رد لما زعمت قريش انهم على دين ابراهيم.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ذكر بلفظ القلة للتنبيه على انه لم يترك الشكر على القليل من النعم فكيف على الكثير اجْتَباهُ الله وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) الى دين الإسلام ودعوة الخلق الى الله.
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعنى الرسالة والخلة قال المجدد رضى الله عنه المراد بها الخلة فان كل أحد يظهر على خليله كل سر له بمحبه او محبوبه- ولاجل ذلك طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوة مثل الصلاة عليه فقال اللهم صل على محمّد وال محمّد كما صليت على ابراهيم وال ابراهيم- ولمّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتقيا الى أعلى درجات المحبوبية الصرفة لم يتركه المحبوبية ان يستقر فى مقام الخلة وان كانت فى الطريق لكونها أسفل وأحط مرتبة من المحبوبية الصرفة
__________
(1) وفى الأصل ملتبسين-(5/387)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
ولكن أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يعطيه الله تعالى استقرار ذلك المقام علاوة على مقامه- ولمّا لم يتصور ذلك لما ذكرنا من المحبوبية أعطاه الله ذلك المقام بان اعطى لفرد من افراد أمته بطفيل اتباعه وهو المجدد للالف الثاني الشيخ احمد السرهندى قدسنا الله تعالى بسره- وذلك ان كل كمال للتابع فهو كمال لمتبوعه لانه كالجزء من كماله وحاصل بمتابعته فالله سبحانه أجاب دعوته صلى الله عليه وسلم بعد الف سنة من هجرته حتّى تم دولته وسلطانه كما يتم دولة السلاطين بفتح بعض امرائه القلاع المغلقة بسطوته وقهرمانه صلى الله تعالى عليه واله واتباعه كما صلى على ابراهيم واله واتباعه- وقيل هى اللسان الصدق والثناء الحسن فان جميع اهل الأديان يثنون عليه- وقال مقاتل بن حبان يعنى الصلاة عليه فى قول هذه الامة اللهم صل على محمّد وال محمّد كما صليت على ابراهيم وقيل أولادا أبرارا على الكبر وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) اى من الأنبياء المعصومين فان كمال الصلاح بالعصمة ومقتضى العصمة فى الاخرة بقاء ثواب كل حسنة بلا احتمال حبط شيء منها وذلك مختص بالمعصومين فان من عمل سيئة صغيرة او كبيرة يحتمل ذهاب بعض حسناته فى مقابلة تلك السيئة فى الميزان ان لم يتداركه رحمة الله ومغفرته كانّ هذه الاية بيان لاستجابة دعوته حيث قال أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ-.
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فى التوحيد والدعوة الى الله بالرفق وإيراد الدلائل مرة بعد اخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه وفى التوجه الى قبلته فى الصلاة والتشرع بشرائع دينه وهذه الجملة من تتمة ما أنعم الله على ابراهيم على قنوته وشكره على ما أنعم الله عليه- وفى كلمة ثم تعظيم لمنزلة نبينا صلى الله عليه وسلم وإجلال محله والإيذان بان اشرف ما اوتى خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته صلى الله عليهما وسلم (فائدة) امر الله تعالى رسولنا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام لان نبينا صلى الله عليه وسلم كان شائقا لمرتبة الخلة وكان كثير المحبة به عليه السلام يدل عليه قوله تعالى قَدْ نَرى(5/388)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها
قال البغوي كان النبي صلى الله عليه وسلم مامورا بشريعة ابراهيم عليه السلام الا ما نسخ فى شريعته وما لم ينسخ صار شرعا له وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) كرر هذا ردّا على زعم اليهود والنصارى واهل مكة انهم على دينه-.
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ يعنى انما جعل تعظيم السبت وتحريمه والتخلي فيه للعبادة مفروضة عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعنى خالفوا فيه نبيهم- قال الكلبي أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة وقال تفرغوا لله فى كل سبعة ايام يوما فاعبدوه يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصنعتكم وستة ايام لصناعتكم- قالوا لا نريد الا اليوم الّذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت- فجعل الله ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم- ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا لا نريد ان يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد- فاعطى الله الجمعة هذه الامة فقبلوها وبورك لهم فيها- روى الشيخان فى الصحيحين من حديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد انهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم- ثم هذا يومهم الله فرض عليهم يعنى الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا له والناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد- وروى البغوي هذا الحديث وزاد فى آخره قال الله تعالى إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ- وفى رواية لمسلم عنه وعن حذيفة نحوه وقالا فى اخر الحديث نحن الآخرون من اهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق- وقيل معنى الاية ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه الأعلى الذين اختلفوا فيه يعنى اليهود فقال قوم هو أعظم الأيام لان الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت- وقال قوم بل أعظم الأيام يوم الأحد لان الله ابتدا فيه خلق الأشياء فاختاروا تعظيم غير ما فرض عليهم- وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة وقيل معنى الاية انما جعل السبت لعنة ومسخا على الذين اختلفوا فيه قال قتادة هم اليهود استحله بعضهم يعنى اصطادوا فيه السمك وحرّمه(5/389)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
بعضهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) بالمجازاة على الاختلاف فيجازى كل فريق بما يستحقه-.
ادْعُ الناس يا محمّد إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ اى الى الإسلام بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعنى بالقران الّذي هو محكم المقالات لا يتطرق اليه الطعن والمعارضة وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهات وهو الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب وقيل الموعظة الحسنة هى القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعسف وَجادِلْهُمْ اى خاصم الناس وناظرهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اى بالخصومة الّتي هى احسن الخصومات وهى المناظرة على وجه لا يتطرق اليه طغيان النفس ولا وسواس الشيطان بل يكون خالصا لوجه الله وإعلاء كلمته إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) يعنى انما عليك البلاغ والدعوة واما حصول الهداية والمجازاة عليها وعلى الضلالة فلا إليك بل الله اعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازى لهم والله اعلم- روى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال يوم أحد فقال رجل رايته عند تلك الصخرة وهو يقول انا اسد الله واسد رسوله اللهم ابرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعنى أبا سفيان وأصحابه واعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم- فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه فلما راى جثته بكى فلما راى ما مثل به شهق ثم قال الا كفن فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه ثم قام اخوه فرمى بثوبه عليه فقال يا جابر هذا الثوب لابيك وهذا العمى- وقال صلى الله عليه وسلم رحمة الله عليك فانك كنت كما علّمتك فعولا للخيرات وصولا للرحم- لولا ان تحزن صفية وفى لفظ نساؤنا وفى لفظا ولا حزن ما بعدك عليك وتكون سنة من بعدك لتركتك حتّى تحشر فى بطون السباع وحواصل الطير- ثم قال ابشروا جاءنى جبرئيل فاخبرنى ان حمزة مكتوب فى اهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب اسد الله واسد رسوله- وقال لان ظفرنى الله تعالى على قريش فى موطن(5/390)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
من المواطن لامثلن بسبعين منهم مكانك- فلمّا راى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا والله لان ظفرنا الله تعالى يوما بهم من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب- قال ابو هريرة كما رواه ابن سعد والبزار وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل والحاكم فنزل جبرئيل (والنبي صلى الله عليه وسلم واقف) بخواتيم سورة النحل.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ العقوبة والعقاب هو جزاء السيئة وانما سمى الفعل الاول عقوبة وانما هى الثانية لازدواج الكلام كما فى قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها مع ان الثانية ليست بسيئة والمعنى لا تجاوزوا فى جزاء السيئة عن المماثلة وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عن الانتقام والمعاقبة لَهُوَ اى الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) من الانتقام وضع المظهر موضع المضمر والتقدير فهو خير لكم ثناء من الله عليهم بانهم صابرون على الشدائد- حث الله سبحانه على العفو تعريضا بقوله وَإِنْ عاقَبْتُمْ وتصريحا على الوجه الاكد بقوله وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ الاية- ثم صرح بالعفو لرسوله صلى الله عليه وسلم لانه اولى الناس به لوفور علمه ووثوقه عليه فقال.
وَاصْبِرْ على أذى الكفار وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ اى بتوفيقه واعانته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ اى على الكافرين او على المؤمنين وما فعل بهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ اى ضيق صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) اى الكفار بالمؤمنين يعنى لا تهتم بمكرهم فانا ناصرك عليهم وعلينا جزاؤهم- قرا ابن كثير هاهنا وفى النمل ضيق بكسر الضاد والباقون بالفتح فى الموضعين وهما لغتان كالقول والقيل- وقال ابو عمرو الضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة وقال ابو عبيدة الضيق بالكسر قلة فى المعاش والمساكن فاما ما كان فى القلب والصدر فانه بالفتح وهذان القولان يأبى عنهما كتاب الله فان القرائتين متواترتان والمراد انما هو الغم فالصحيح ما قالوا انهما لغتان بمعنى- وقال ابو قتيبة الضيق بالفتح تخفيف ضيّق مثل هين وهيّن ولين وليّن فعلى هذا هو صفة كانه قال فلا تكن فى امر ضيّق من مكرهم.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا المعاصي وَالَّذِينَ هُمْ(5/391)
مُحْسِنُونَ (128) فى أعمالهم او مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الله بتعظيم امره وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بالشفقة على خلقه- او مع الّذين اتّقوا العدوان فى المعاقبة وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الى الناس بالعفو فالله معهم بالولاية والفضل والعون والنصر «1» معية ذاتية لا كيف لها- قال ابو هريرة فى الحديث المذكور الّذي رواه ابن سعد وغيره فكفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وامسك عن الّذي أراد وصبر يعنى لما نزلت لهذه الآيات- وروى ابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس نحو ما روى عن ابى هريرة رضى الله عنهم فى شأن نزول الاية- وقد ذكرنا فى صدر السورة رواية ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء فى نزول الاية نحوه- وروى الترمذي وحسنه وعبد الله بن الامام احمد فى زوائد المسند والنسائي وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والضياء فى صحيحيهما عن أبيّ بن كعب رضى الله عنه قال لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار اربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم- فقالت الأنصار لان أصبنا منهم يوما مثل هذا لنرثينّ عليهم- فلما كان فتح مكة انزل الله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ «2» خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصبر ولا نعاقب كفوا عن القوم الا اربعة- وقال البغوي نزلت الاية فى شهداء أحد وذلك ان المسلمين لما راوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين الأمثل به- غير حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة فان أباه أبا عامر الراهب (قلت الّذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق) كان مع ابى سفيان فتركوا حنظلة لذلك- فقال المسلمون حين راوا ذلك لان أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد- فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة وقد جدعوا انفه واذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه- وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم اشترطتها لتأكلها فلم تلبث فى بطنها حتّى رمت بها- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال اما انها لو اكلتها لم تدخل النار ابدا- حمزة أكرم على الله من ان يدخل شيئا من جسده النار- فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى عمه حمزة نظر الى شيء لم ينظر الى شيء
__________
(1) وفى الأصل ومعية ذاتية
(2) وفى الأصل فهو-(5/392)
قط كان أوجع لقلبه منه فقال صلى الله عليه وسلم رحمة الله عليك أبا السائب فانك ما علمت ما كنت الا فعالا للخيرات وصولا للرحم ولولا حزن من بعدك عليك لسرّنى ان أدعك حتّى تحشر من أفواج شتى- اما والله لان ظفرنى الله بهم لامثلن منهم بسبعين مكانك فانزل الله تعالى هذه الآيات فقال صلى الله عليه وسلم بل نصبر وامسك عما أراد وكفّر عن يمينه- (فائدة) حديث أبيّ بن كعب يدل على تأخر نزول الآيات الى الفتح وفى حديث ابى هريرة وابن عباس وعطاء بن يسار رضى الله عنهم نزولها بأحد- وجمع ابن الحصار بانها نزلت اولا بمكة ثم ثانيا بأحد ثم ثالثا بعد الفتح تذكيرا من الله لعباده- قال البغوي قال ابن عباس والضحاك رضى الله عنهم كان حكم هذه الاية قبل نزول براءة حين امر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال فلما أعز الله الإسلام واهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد نسخت هذه الاية- وقال النخعي والثوري والسدى ومجاهد وابن سيرين رحمهم الله الاية محكمة نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له ان ينال من ظالمه اكثر مما نال الظالم منه امر بالجزاء او العفو ومنع من الاعتداء مسئلة المثلة لا يجوز اجماعا روى ابن إسحاق عن سمرة بن جندب رضى الله عنه قال ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مقام قط ففارقه حتّى امر بالصدقة ونهى عن المثلة- وقد روى فى النهى عن المثلة أحاديث كثيرة والله اعلم- تم تفسير سورة النحل من التفسير المظهرى (ويتلوه ان شاء الله تعالى تفسير سورة بنى إسرائيل) ثانى رجب من السنة الثانية بعد المائتين والف (سنة 1202) من الهجرة والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله واله وأصحابه أجمعين- تمت.(5/393)
فهرس سورة بنى إسرائيل من التّفسير المظهرى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مضمون صفحه ما ورد فى الاسراء من المسجد الحرام او من بيت أم هانى- 298 ما ورد فى الاسراء فى المنام- 400 قصة انكار قريش ونعته صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى- 402 قصة إفساد بنى إسرائيل فى الأرض بالمعاصي 404 وقتل شعيا وزكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام 404 وانتقامه تعالى منهم بان سلط عليهم بخت نصر وغيره- 411 ما ورد فى إعطاء صحف الأعمال من تحت العرش بالايمان والشمائل- 421 مسئلة هل يثبت وجوب الشرائع قبل بعثة الأنبياء بالعقل قيل لا وجوب أصلا وقيل يجب التوحيد دون الأعمال- 421 حديث بعث النار من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين- 422 ما ورد فى ان اهل الفترة ومن لم يبلغه دعوة الرسل يمتحنون فى الاخرة وتحقيق ذلك- 422 فصل فى اقوال العلماء فى أطفال المشركين وما ورد من الأحاديث فيهم والإجماع على ان ذرارى المؤمنين فى الجنة والتحقيق فى هذا المقام- 424 ما ورد فى حقوق الوالدين- 430 فى إيتاء ذوى القربى- 433 ما ورد فى التبذير والإمساك والافراط فى الانفاق- 434 فى النهى عن قتل الأولاد- 436 فى النهى عن الزنى- 436 فصل فيما ورد فى القتل بغير حق- 437 فى النهى عن اتباع ما لا علم له به وفى العمل بالادلة الظّنّيّة- 439 ما ورد فى التواضع والنهى عن التفاخر والبغي والتكبر- 441 البحث فى تسبيح الجمادات وغيرها- 443(5/394)
مضمون صفحه ما ورد فى بعث المؤمنين من القبور حامدين وبعث الكفار قائلين يا حسرتى ونحو ذلك- 447 حديث أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب الحديث- 451 بحث افضلية البشر على الملائكة- 459 حديث تفضل صلوة الجمع على صلوة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا- 466 ويجتمع ملائكة الليل والنهار فى صلوة الفجر- الأحاديث الواردة فى قيام الليل فى رمضان وغيره قبل ان ينام- 466 مسئلة التهجد اخر الليل أفضل واكثر ثوابا منها أول الليل- 467 مسئلة هل كانت التهجد فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم او نافلة 467 والمختار انها كانت له نافلة وما يدل على ذلك- 468 مسئلة التهجد من السنن المؤكدة- 468 فصل كيف كان قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتهجد من الليل- 468 ما ورد فى المقام المحمود والصحيح انه مقام للشفاعة 471 الأحاديث الواردة فى الشفاعة الكبرى- 471 شفاعة الاراحة من كرب الموقف 471 يكون للنبى صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات- 475 مسئلة قالت الخوارج والمعتزلة لا شفاعة لاهل الكبائر وانهم مخلدون فى النار وقد بلغت الأحاديث فى ثبوت الشفاعة لهم الى حد التواتر- من أنكر الشفاعة فلا نصيب له فيها- 477 فصل فى شفاعة غير نبينا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء وغيرهم- 480 قال المجدد رضى الله عنه لصلوة التهجد مدخلا عظيما فى مقام الشفاعة- 481 ما ورد فى اقتضاء الاستعدادات وتحقيق معنى الاستعداد- 484 ما ورد فى رفع القران من المصاحف والصدور قبل يوم القيامة وما ورد فى قبض العلم بقبض العلماء او بذهاب توفيق العمل بالعلم- 488 يحشر الكفار يوم القيامة يمشون على وجوههم او يسحبون عليها- 494(5/395)
مضمون صفحه ما ورد فى حشر الكفار عميا وبكما وصمّا- 494 وما ورد بخلاف ذلك ووجه التطبيق بينهما- 494 بيان تسع بينات اوتى موسى 496 استحباب البكاء من خشية الله 500 ما ورد فى عين بكت من خشية الله وعين سهرت فى سبيل الله- 500 قوله صلى الله عليه وسلم لابى بكر ارفع صوتك قليلا فى القراءة فى صلوة الليل ولعمر اخفض قليلا- 503 كيف كان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى فى الصلاة بالليل- 503 حديث اية العز الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الاية- 504 ما ورد فى فضل التحميد والتهليل والتسبيح والتكبير- 504 حديث كان إذا افصح الولد من بنى عبد المطلب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الاية- 504 تمت 24 رمضان سنة 1202 هـ.(5/396)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سورة بنى إسرائيل
مائة واحدى عشرة اية مكية الا وان كادوا ليفتنونك الى اخر ثمان آيات ربّ يسّر وتمّم بالخير «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ اسم بمعنى التسبيح الّذي هو التنزيه وقد يستعمل علما له فيقطع عن الاضافة وبمنع الصرف وانتصابه بفعل متروك إظهاره تقديره سبحوا الله سبحان او اسبح الله سبحانه- ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده ودل على التنزيه البليغ وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد ويكون بمعنى التعجب الَّذِي أَسْرى يعنى سيّر ليلا بِعَبْدِهِ محمّد صلى الله عليه وسلم لَيْلًا منصوب على الظرف وفائدة ذكره مع ان الاسراء لا يكون الا بالليل الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الاسراء مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كما فى الصحيحين عن انس عن مالك بن صعصعة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا انا فى المسجد الحرام بين النائم واليقظان إذا تأنى جبرئيل بالبراق- وفى لفظ بينما انا فى الحطيم مضطجعا إذا تأنى ات الحديث- وقد ذكرناه فى تفسير سورة النجم- وقيل كان الاسراء من دار أم هانى فالمراد بالمسجد الحرام حينئذ الحرم سماه المسجد الحرام لان كله مسجد- او لانه محيط به ليطابق المبدا المنتهى- ويدل على كون النبي صلى الله عليه وسلم فى البيت دون المسجد ما فى الصحيحين عن انس عن ابى ذر
__________
(1) الخطبة من الناشر-(5/398)
يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال ففرج عنى سقف بيتي وانا بمكة الحديث وذكرناه ايضا فى سورة النجم- وما رواه ابو يعلى فى مسنده والطبراني فى الكبير من حديث أم هانى انه كان فى بيت أم هانى فاسرى به فرجع من ليلته وقص القصة عليها- وقال مثل لى النبيون فصليت بهم- ثم خرج الى المسجد واخبر به قريشا فتعجبوا منه استحالة- وارتد ناس ممن أمن به- وسعى رجال الى ابى بكر فقال ان كان قال ذلك فقد صدق قالوا أتصدقه على ذلك قال انى لاصدقه على ابعد من ذلك وسمى بذلك الصديق- واستنعته طائفة سافروا الى بيت المقدس فحلى له فطفق ينظر اليه وينعته لهم فقالوا اما النعت فقد أصاب فقالوا أخبرنا عن عيرنا فاخبرهم بعدد جمالها وأموالها وقال يقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جملا أورق- فخرجوا يشتدون الى الثنية فصادفوا العير كما أخبرهم ثم لم يؤمنوا او قالوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ- وقلت ويمكن الجمع بين الحديثين بتعدد المعراج مرة من الحطيم ومرة من بيت أم هانى- قال البغوي قال مقاتل كانت ليلة الاسراء قبل الهجرة بسنة يقال كان فى رجب وقيل فى شهر رمضان- إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعنى البيت المقدس سمى أقصى لبعده من المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد- وتعجب قريش لبعده واستحالوه قال البيضاوي والاستحالة مدفوعة بما ثبت فى الهندسة ان ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة- ثم ان طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الا على فى الأقل من ثانية- وقد برهن فى الكلام ان الأجسام متساوية فى قبول الاعراض وان الله تعالى قادر على كل شيء من الممكنات فيقدر ان يخلق مثل هذه الحركة السريعة او اسرع منها فى بدن النبي صلى الله عليه وسلم او فيما يحمله- والتعجب من لوازم المعجزات الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالأنهار والأشجار والثمار وقال مجاهد سماه مباركا لانه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحى ومنه يحشر الناس يوم القيامة لِنُرِيَهُ يعنى عبده محمّدا صلى الله عليه وسلم مِنْ آياتِنا اى بعض عجائب قدرتنا كذهابه فى برهة من الليل الى مسيرة أربعين ليلة ومن هناك الى السموات وتمثيل الأنبياء له وما راى فى تلك الليلة من آيات(5/399)
ربه الكبرى- وصرف الكلام من الغيبة الى التكلم لتعظيم تلك الآيات إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاقوال النبي صلى الله عليه وسلم والمجيب لدعائه الْبَصِيرُ (1) لافعاله وأحواله الحفيظ له فى ظلمة الليل- قال البغوي وروى عن عائشة انها كانت تقول ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن الله اسرى بروحه- يعنى فى المنام ويدل عليه ما رواه البخاري من حديث انس بن مالك يقول ليلة اسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة انه جاء ثلاثة نفر قبل ان يوحى اليه وهو نائم فى المسجد الحرام فقال أولهم ايّهم هو فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم- فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتّى أتوه ليلة اخرى فيما يرى قلبه وينام عينه ولا ينام قلبه- وكذلك الأنبياء ينام أعينهم ولا ينام قلوبهم- فلم يكلموه حتّى احتملوه فوضعوه عند زمزم فشق جبرئيل ما بين نحره الى لبته حتّى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده- وساق حديث المعراج بقصته- فاذا هو فى السماء الدنيا بنهرين يطردان قال هذا النيل والفرات عنصرهما- ثم مضى به فى السماء فاذا هو بنهر اخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فاذا هو مسك أذفر- قال ما هذا يا جبرئيل قال هذا الكوثر الّذي خبأ لك ربك وساق الحديث وقال ثم عرج بي الى السماء السابعة وقال قال موسى رب لم أظن ان يرفع علىّ أحد- ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه الا الله- حتّى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى- حتّى كان منه قاب قوسين او ادنى فاوحى اليه ما اوحى خمسين صلوة كل يوم وليلة فلم يزل يردده موسى الى ربه حتّى صارت الى خمس صلوات- ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال يا محمّد والله لقد راودت بنى إسرائيل قومى على ادنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه- وأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وابصارا واسماعا
- فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم الى جبرئيل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبرئيل- فرفعه عند الخامسة فقال يا رب ان أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم واستماعهم وأبدانهم فخفف عنا- فقال الجبار يا محمّد فقال لبيك وسعديك- قال انه(5/400)
لا يبدل القول لدىّ كما فرضت عليك فى أم الكتاب فكل حسنة بعشر أمثالها فهى خمسون فى أم الكتاب وهى خمس عليك- فقال موسى ارجع الى ربك فسئله فليخفف عنك ايضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله «1» قد استحييت من ربى فيما اختلفت عليه- قال فاهبط بسم الله فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام- وروى مسلم هذا الحديث مختصرا فان قوله فاستيقظ وهو فى المسجد الحرام يدل على كونه رؤيا فى المنام- والأكثرون على ان الله تعالى اسرى بعبده محمّد «2» صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بجسده فى اليقظة وتواترت الاخبار الصحيحة بذلك وعليه انعقد الإجماع- ولو كان المعراج فى المنام لما أنكر عليه قريش إذ لا استبعاد فى الرؤيا- قال البغوي قال شيخنا الامام رضى الله عنه قد قال بعض اهل الحديث ما وجدنا لمحمّد بن اسمعيل ولمسلم فى كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا الا هذا الحديث المذكور الّذي يدل على كون الاسراء فى المنام بروحه وأحال الآفة فيه الى شريك بن عبد الله وأنكر ايضا على ان ذلك قبل ان يوحى اليه- وقد اتفق اهل العلم على ان المعراج كان بعد الوحى بنحو من اثنى عشر سنة قبل الهجرة بسنة- ثم قال البغوي قال شيخنا الامام هذا الاعتراض عندى لا يصح لان هذا كان رؤيا فى المنام أراه الله تعالى قبل الوحى- ثم عرج به فى اليقظة بعد الوحى قبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه من قبل- كما انه راى فتح مكة فى المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة ثم كان تحقّقه سنة ثمان والله اعلم- قال البغوي روى انه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة اسرى به فكان بذي طوى قال يا جبرئيل ان قومى لا يصدقونى قال يصدقك ابو بكر وهو الصديق- قال البغوي قال ابن عباس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان ليلة اسرى بي فاصبحت بمكة قطعت بامرى وعرفت ان الناس مكذبى- فروى انه صلى الله عليه وسلم قعد معتزلا محزونا- فمر به ابو جهل فجلس اليه فقال له كالمستهزئ هل استفدت من شيء- قال نعم قال انى اسرى بي الليلة قال الى اين قال الى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهر أنينا قال نعم- فلم ير ابو جهل ان ينكر ذلك مخافة ان يجحده الحديث ثم قال أتحدث قومك بما حدثتنى قال نعم- فقال ابو جهل يا معشر بنى كعب بن لوى هلم- قال فانتقضت المجالس
__________
(1) وفى الأصل قد والله استحييت
(2) وفى الأصل محمّدا(5/401)
فجاءوا حتّى جلسوا إليهما- قال فحدث قومك ما حدثتنى قال نعم انى اسرى بي الليلة قالوا الى اين قال الى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين ظهرانينا قال نعم- قال فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا- وارتد ناس ممن كان أمن به وصدقه- وسعى رجل من المشركين الى ابى بكر فقال هل لك فى صاحبك يزعم انه اسرى به الليلة الى بيت المقدس- قال أوقد قال ذلك قالوا نعم قال ان كان قال ذلك لصدق- قالوا وتصدقه انه ذهب الى بيت المقدس فى ليلة وجاء قبل ان يصبح قال نعم انى لاصدقه بما هو ابعد من ذلك أصدقه بخبر السماء فى غدرة وروحة- فلذلك سمى ابو بكر الصديق قال وفى القوم من قد اتى المسجد الأقصى فقالوا هل تستطيع ان تنعت لنا المسجد قال نعم- قال فذهبت انعت وانعت فما زلت انعت حتّى التبس علىّ بعض النعت- قال فجيء بالمسجد وانا انظر اليه حتّى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وانا انظر اليه- فقالوا اما النعت فو الله لقد أصاب ثم قالوا يا محمّد أخبرنا عن عيرنا فهى أهم إلينا فهل لقيت منها شيئا- قال نعم مررت على عير بنى فلان وهى بالروحاء قد أضلوا بعيرا لهم وهم فى طلبه- وفى رحالهم قدح من ماء فعطشت فاخذته فشربته ثم وضعته كما كان فسلوهم هل وجدوا الماء فى القدح حين رجعوا اليه قالوا هذه اية- قال ومررت بعير بنى فلان وفلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي مر فنفر بعيرهما منى «1» فاسئلوهما عن ذلك قالوا وهذه اية- قالوا وأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها واحمالها وهيئتها قال كنت فى شغل عن ذلك ثم مثلت له مكانه بالحرورة بعدتها وهيئتها ومن فيها- قال نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس- قالوا وهذه اية فخرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمّد شيئا وبيّنه حتّى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذّبونه إذ قال قائل منهم والله هذه الشمس قد طلعت وقال الاخر والله وهذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم فلم يؤمنوا وقالوا ان هذا السحر مبين- وروى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رايتنى فى الحجر وقريش تسئلنى عن مسراى- فسالنى عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها
__________
(1) فرمى لفلان فانكسرت يده- كذا فى البغوي عبد الرّحمن غفر له مدرس ومفتى مدرسه امينيه دهلى(5/402)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
فكربت كربا ما كربت مثله قط- فرفعه الله لى انظر اليه ما يسئلونى عن شيء الا انبأتهم به- وقد رايتنى فى جماعة من الأنبياء وإذا موسى قائم يصلى فاذا رجل ضرب جعد كانّه من رجال شنوة أشبه الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي- وإذا ابراهيم قائم يصلى أشبه الناس به صاحبكم (يعنى نفسه) فحانت الصلاة فاممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لى قائل يا محمّد هذا مالك صاحب النار فسلم عليه فالتفت اليه فبدانى بالسلام- وروى البخاري فى الصحيح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة اسرى به لقيت موسى (قال فنعته) فاذا هو رجل (حسبته قال) مضطرب رجل الرأس كانه من رجال شنؤة قال ولقيت عيسى (فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال) ربعة احمر كانّما خرج من ديماس يعنى الحمام ورايت ابراهيم وانا أشبه ولده به قال وأوتيت بانائين أحدهما فيه لبن والاخر فيه خمر فقيل لى خذ أيهما شئت فاخذت اللبن فشربته فقال لى هديت الفطرة او أصبت الفطرة اما لو أخذت الخمر غوت أمتك- وفى الصحيحين عن جابر انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لمّا كذّبنى قريش فى الحجر فجلى الله بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وانا انظر اليه وقد ذكرنا أحاديث اخر فيها قصة المعراج الى السموات السبع وسدرة المنتهى فى سورة النجم.
قوله تعالى وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية وَجَعَلْناهُ اى موسى او الكتاب هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا ان مفسرة لفعل دل عليه الكتاب يعنى كتبنا وفيه معنى القول تقديره كتبنا إليهم أَلَّا تَتَّخِذُوا او مقدر بحرف الجر يعنى لان لا تتّخذوا وقيل ان زائدة والقول مضمر- قرا ابو عمرو لا يتّخذوا بالياء التحتانية على الغيبة والباقون بالتاء الفوقانية على الخطاب مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ربّا تتوكلون عليه وتكلون اليه أموركم غيرى يا.
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فى السفينة فانجيناهم- فيه تذكير لانعام الله عليهم فى إنجاء ابائهم من الغرق بحملهم مع نوح فى السفينة ذرية منصوب على الاختصاص او النداءان قرئ لا تتخذوا بالتاء الفوقانية للخطاب او على انه أحد مفعولى لا تتخذوا ومن دونى حال من وكيلا فيكون(5/403)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
كقوله تعالى وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً ... إِنَّهُ يعنى نوحا عليه السلام كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) اى كثير الشكر اخرج ابن مردوية عن ابى فاطمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال كان نوح لا يعمل شيئا صغيرا ولا كبيرا الا قال بسم الله والحمد لله فسماه الله عبدا شكورا واخرج ابن جرير والطبراني عن سعد بن مسعود الثقفي الصحابي رضى الله عنه قال انما سمى نوح عبدا شكورا لانه كان إذا أكل او شرب او لبس ثوبا حمد الله وفيه حث على الشكر يعنى أنتم ذرية من أمن به وحمل معه فكونوا مثله-.
قوله تعالى وَقَضَيْنا اى أوحينا وحيا مقضيّا مبتوتا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ التورية بانكم لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ ارض الشام وقال ابن عباس وقتادة كلمة الى بمعنى على ومعنى الاية وقضينا على بنى إسرائيل فى الكتاب اى اللوح المحفوظ لتفسدن جواب قسم محذوف او جواب لقضينا اجراء للقضاء المبتوت مجرى القسم مَرَّتَيْنِ إفسادتين اولا هما ان خالفوا احكام التورية وركبوا المحارم وقتلوا شعيا بن امضيا عليه السلام- وثانيتهما ان قتلوا زكريا ويحيى وقصدوا قتل عيسى عليهم السلام- وقيل اولاهما قتل زكريا وثانيتهما قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) يعنى لتستكبرون عن طاعة الله وتظلمون الناس.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما اى وعد عقاب اولاهما بَعَثْنا اى سلطنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعنى سخاريب من اهل نينوى كذا قال سعيد بن جبير وقال قتادة يعنى جالوت وجنوده الّذي قتله داؤد عليه السلام وقال ابن إسحاق بخت نصر البابلي قال البغوي وهو الأظهر أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ اى ذوى قوة وبطش فى الحرب فَجاسُوا اى تردّدوا خِلالَ الدِّيارِ اى وسط دياركم يطلبونكم ويقتلونكم قال الزجاج الجوس طلب الشيء بالاستقصاء وقال الفراء جاسوا اى قتلوكم بين بيوتكم وَكانَ وعد عقابكم وَعْداً مَفْعُولًا (5) اى لا بد ان يفعل.
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ اى الدولة والغلبة عَلَيْهِمْ اى على الذين بعثوا قال البيضاوي وذلك بان الله القى فى قلب بهمن بن إسفنديار لما ورث الملك من جده كستاسف بن لهراسف شفقة عليهم- فرد اسراهم الى الشام وملّك(5/404)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
دانيال عليهم واستولوا على من كان فيها من اتباع بخت نصر او بان سلط داؤد على جالوت فقتله وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) ممّا كنتم والنفير من ينفر مع الرجل من قومه- وقيل هو جمع نفر على وزن عبيد والنفر قوم مجتمعون للذهاب الى العدو- فلما رد الله لهم الكرة عاد البلد احسن مما كان- قال الله تعالى.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ بالطاعة أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لان ثوابه لها والله تعالى غنى عن طاعتكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد فَلَها ذكر اللام موضع عليها ازدواجا يعنى وبالها عليها فَإِذا جاءَ وَعْدُ اى وقت وعد عقوبة المرة الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ اى بعثناهم ليسوءوا وجوهكم اى يجعلوها بادية اثار المساءة فيها- حذف بعثنا هاهنا لدلالة ذكره اولا عليه- قرا الكسائي ويعقوب «1» لنسوءا بالنون وفتح الهمزة على التكلم والتعظيم على وفق قضينا وبعثنا وقرا ابن عامر وحمزة وابو بكر بالياء التحتانية وفتح الهمزة على صيغة الغائب الواحد اى ليسوءا الله وجوهكم او ليسوءا الوعد او البعث والباقون بالياء التحتانية وضم الهمزة على صيغة الجمع المذكر للغائب اى ليسوءوا العباد أولوا البأس الشديد وجوهكم- قال البغوي سلط الله عليهم الفرس والروم وخردوش وططيوس حتّى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعنى بيت المقدس ونواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا اى ليهلكوا ما عَلَوْا اى ما غلبوا واستولوا عليه او مدة علوهم تَتْبِيراً (7) قال البغوي قال محمّد بن إسحاق كانت بنوا إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله فى ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما اخبر الله على لسان موسى عليه السلام ان ملكا منهم كان يدعى صديقه وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيّا يسدّده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب انما يؤمرون باتباع التورية والاحكام الّتي فيها فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا بن امضيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام- وشعيا
__________
(1) ويعقوب مع ابى عمرو- ابو محمّد(5/405)
هو الّذي بشر بعيسى ومحمّد عليهما الصلاة والسلام فقال أبشري أورشليم الان يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير- فملك ذلك الملك بنى إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه بعث الله سخاريب ملك بابل معه ستمائة الف رأية فاقبل سائرا حتّى نزل حول بيت المقدس- والملك مريض فى ساقه قرحة- فجاء النبي شعيا فقال له يا ملك بنى إسرائيل ان سخاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة الف رأية وقدها بهم الناس وفرقوا- فكبر ذلك على الملك فقال يا نبى الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسخاريب وجنوده- فقال لم يأتينى وحي فبينماهم على ذلك اوحى الله الى شعيا النبي عليه السلام ان ايت ملك بنى إسرائيل فمره ان يوصى وصية ويستخلف على ملكه من يشاء من اهل بيته- فاتى شعيا ملك بنى إسرائيل صديقة فقال ان ربك قد اوحى الىّ ان أمرك ان توصى وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من اهل بيتك فانك ميّت- فلما قال ذلك شعيا لصديقة اقبل على قبلته فصلّى ودعا وبكى فقال وهو يتضرع ويبكى ويتضرع الى الله بقلب مخلص- اللهم رب الأرباب واله الالهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رءوف الّذي لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلى وحسن قضائى على بنى إسرائيل وذلك كله منك وأنت اعلم به منى سرى وعلانيتى لك- وان الرحمان استجاب دعاءه وكان عبدا صالحا- فاوحى الله الى شعيا ان تخبر صديقة ان ربه قد استجاب له ورحمه واخّر اجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سخاريب- فاتاه شعيا فاخبره بذلك- فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع وانقطع عنه الحزن وخرّ ساجدا وقال يا الهى واله ابائى لك سجدت وسبحت وكرّمت وعظّمت أنت الّذي تعطى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الاول والاخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الّذي أجبت دعوتى ورحمت تضرعى فلما رفع رأسه اوحى الله الى شعيا ان قل للملك صديقة فيامر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح وقد برئ ففعل فشفى-(5/406)
وقال الملك لشعيا سل ربك ان يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال الله لشعيا قل انى قد كفيتك عدوك وانجيتك منهم وانهم سيصبحون كلهم موتى الا سخاريب وخمسة نفر من كتّابه- فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بنى إسرائيل ان الله قد كفاك عدوك- فاخرج فان سخاريب ومن معه قد هلكوا- فلمّا خرج الملك التمس سخاريب فلم يوجد فى الموتى فارسل الملك فى طلبه فادركه الطلب فى مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر- فجعلوهم فى الجوامع ثم أتوا بهم ملك بنى إسرائيل فلما راهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس الى العصر- ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم الم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون- فقال سخاريب قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته الّتي يرحمكم بها قبل ان اخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقنى فى الشقوة إلا قلة عقلى ولو سمعت او عقلت ما غزوتكم- فقال صديقة الحمد لله رب العزة الّذي كفاناكم بما شاء ان ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه انما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة فى الدنيا وعذابا فى الاخرة- ولتخبروا من ورائكم بما رايتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم- ولولا ذلك لقتلتكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت ثم ان ملك بنى إسرائيل امر امير حرسه فقذف فى رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وايليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم- فقال سخاريب لملك بنى إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فامر بهم الملك الى سجن القتل- فاوحى الى شعيا النبي عليه السلام ان قل لملك بنى إسرائيل يرسل سخاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم وليحملهم حتّى يبلغوا بلادهم فبلّغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما امر به- فخرج سخاريب
ومن معه حتّى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فاخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله الى نبيهم فلم تطعنا وهى امة لا يستطيعها أحد مع ربهم- وكان امر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان(5/407)
عليه جده يعمل عمله فلبث سبع عشرة سنة- ثم قبض الله ملك بنى إسرائيل صديقة فمرج امر بنى إسرائيل وتنافسوا الملك بعده حتّى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعيا عليه السلام معهم ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال الله لشعيا تم فى قومك فاوحى على لسانك فلما قام النبي انطق الله على لسانه بالوحى فقال يا سماء اسمعي ويا ارض انصتى فان الله يريد ان يقص شأن بنى إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطنعهم لنفسه وخصّهم بكرامته وفضلهم على عباده- وهم كالغنم الضائعة الّتي لا راعى لها فاوى شاذتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها واسمن مهزولها وحفظ سمينها- فلمّا فعل ذلك بطرت فتنا طحت فقتل بعضها بعضا حتّى لم يبق منها عظم صحيح يجبر اليه اخر كسير- فويل لهذه الامة الخاطئة الذين لا يدرون انّى جاءهم الحين- ان البعير مما يذكر وطنه فيستابه وان الحمار مما يذكر الارى الّذي يشبع عليه فيراجعه وان الثور مما يذكر الارى الّذي يشبع عليه فيراجعه وان الثور مما يذكر المرح الّذي سمن منه فينتابه- وان هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا ببقر ولاحمز انى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون فى ارض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمران فيها- وكان لها ربّ حكيم قوى فاقبل عليها بالعمارة وكره ان يخرب ارضه وهو قوى او ان يقال ضيع وهو حكيم فاحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصرا وانط نهرا وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها- وولّى ذلك واستحفظه ذا رأى وهمة حفيظا قويا أمينا فلمّا اطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض هذه- نرى ان يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض فمها ويحرق غرسها حتّى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها- قال الله قل لهم فان الجدار دينى وان القصر شريعتى وان النهر كتابى وان القيم نبيى وان الغراس هم- وان الخروب الّذي اطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وانى قد قضيت عليهم قضاء هم على أنفسهم وانه مثل ضربته لهم- يتقرّبون الىّ بذبح البقر والغنم وليس ينالنى اللحم(5/408)
ولا أكله- ويدعون ان يتقرّبوا الىّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس الّتي حرمتها فايديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها- ويشيدون لى البيوت مساجد ويطهرون أجوافها ويتنجسون قلوبهم وأجسادها ويدنسوها- ويروقون لى المساجد ويزيّنونها ويخربون عقولهم واخلاقهم ويفسدونها- فاىّ حاجة لى الى تشييد البيوت ولست أسكنها واىّ حاجة لى الى ترويق المساجد ولست أدخلها انما أمرت برفعها لا ذكر واسبح فيها- يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ودعونا بمثل حنين الحمار وبكينا بمثل عواء الذئاب فى كل ذلك لا يستجاب لنا- قال الله فاسألهم ما الّذي يمنعنى ان استجيب لهم الست اسمع السامعين وابصر الباصرين واقرب المجيبين وارحم الراحمين- فكيف ارفع صيامهم وهم يلبّسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام- وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية الى من يحاربنى ويحادّنى وينتهك محارمى- أم كيف يزكوا عندى صدقاتهم وهم يتصدقون باموال غيرهم انما اجر عليها أهلها المعصومين- أم كيف استجيب دعاءهم وانما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد انما استجيب للوادع اللين وانما اسمع قول المستعف المسكين- وان من علامة رضائى رضاء المساكين- يقولون لما سمعوا كلامى وبلّغتهم رسالتى انها أقاويل متقوّلة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة- وزعموا انهم لو شاءوا ان يأتوا بحديث مثله فعلوا- ولو شاءوا ان يطلعوا على علم الغيب بما يوحى إليهم الشياطين اطلعوا- وانى قد قضيت يوم خلقت السماء
والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسى وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد انه واقع فان صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى انفذه او فى اىّ زمان يكون- وان كانوا ان يقدرون على ان يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة الّتي بها أمضيه فانى مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وان كانوا يقدرون على ان يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة الّتي بها ادبّر امر ذلك القضاء ان كانوا صادقين- وانى قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض ان اجعل النبوة فى الاجراء وان اجعل(5/409)
الملك فى الرعاء والعز فى الأذلاء والقوة فى الضعفاء والغنى فى الفقراء والعلم فى الجهلة والحكم فى الأميين- فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره ان كانوا يعلمون- فانى باعث لذلك نبيّا اميّا ليس بفظّ ولا غليظ ولاصحاب فى الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للحياء- اسدده لكل خميل واهب له كل خلق كريم ثم اجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى امامه والإسلام ملته واحمد اسمه- اهدى به بعد الضلالة واعلم به من الجهالة وارفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة واكثر به بعد القلة واغنى به بعد العيلة واجمع به بعد الفرقة واؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتة وامم متفرقة- واجعل أمته خير امة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا لى وايمانا بي وإخلاصا لى- يصلّون لى قياما وقعودا وركعا وسجودا- ويقاتلون فى سبيلى صفوفا وزحوفا- ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوانى- الهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد لى فى مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم- يكبرون ويهللون ويقدسون على رءوس الاشراف ويطهرون لى الوجوه والأطراف ويعقدون الثياب على الانصاف- قربانهم دماؤهم وأناجيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار- وذلك فضلى أوتيه من أشاء وانا ذو الفضل العظيم- فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فادركه الشيطان وأخذ بهدبة من ثوبه فاراهم إياها فوضعوا المنشار فى وسطها فنشروها حتّى قطعوها وقطعوه فى وسطها- واستخلف الله على بنى إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشية بن اموص وبعث لهم ارميا بن حلقيا نبيّا من سبط هارون بن عمران- وذكر ابن إسحاق انه الخضر عليه السلام واسمه ارميا سمى الخضر لانه جلس على فروة «1» بيضاء فقام عنها
__________
(1) الفروة الأرض اليابسة وقيل الهشيم اليابس من النيان 12 نهايه منه رحمه الله [.....](5/410)
وهى تهتز خضراء فبعث الله ارميا الى ذلك الملك يسدده ويرشده ثم عظمت الأحداث فى بنى إسرائيل وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فاوحى الله الى ارميا ان ايت قومك من بنى إسرائيل فاقصص عليهم ما أمرك به وذكّرهم نعمى وعرفهم باحداثهم- فقال ارميا يا رب انى ضعيف ان لم تقولى عاجز ان لم تبلغنى مخذول ان لم تنصرنى- قال الله تعالى الم تعلم ان الأمور كلها تصدر عن مشيّتى وان القلوب والالسنة بيدي أقلبها كيف شئت انى معك ولم يصل إليك شيء معى- فقام ارميا فيهم ولم يدر ما يقول فالهمه الله فى الوقت خطبة بليغة بيّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية وقال فى آخرها عن الله عز وجل وانى حلفت بعزتي لأقيّضنّ لهم فتنة يتحير فيها الحليم ولا سلطنّ عليهم جبارا قاسيا البسه الهيبة وانزع من صدره الرحمة يتبعه عسكر مثل سواد الليل المظلم- ثم اوحى الله الى ارميا انى مهلك بنى إسرائيل بيافث ويافث اهل بابل فسلط الله عليهم بخت نصر فخرج عليهم فى ستمائة الف رأية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطى الشام وقتل بنى إسرائيل حتّى أفناهم وخرّب بيت المقدس وامر جنوده ان يملا كل واحد منهم ترسه ترابا ثم يقذفه فى بيت المقدس ففعلوا ذلك حتّى ملاوه ثم أمرهم ان يجمعوا من فى بلاد بيت المقدس كلهم فاجتمع عندهم كل صغير وكبير من بنى إسرائيل فاختار منهم سبعين الف صبى- فلمّا خرجت غنائم جنده وأراد ان يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه ايها الملك لك الغنائم كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بنى إسرائيل- فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فاصاب كل رجل منهم اربعة غلمة- وفرق من بقي من بنى إسرائيل ثلاث فرق فثلثا أقرّ بالشام وثلثا سبى وثلثا قتل- وذهب بناشية بيت المقدس وبالصبيان السبعين الالف حتّى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الاولى الّتي انزل ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله تعالى فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعنى بخت نصر وأصحابه- ثم ان بخت نصر اقام فى سلطانه ما شاء الله- ثم راى رؤيا أعجبته إذ راى(5/411)
شيئا أصابه فانساه الّذي راى- فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وكانوا من ذرارى الأنبياء وسالهم عنها قالوا أخبرنا عنها نخبرك بتأويلها قال ما أذكرها ولان لم تخبرونى بها وبتأويلها لا نزعن أكتافكم- فخرجوا من عنده فدعوا الله وتضرعوا اليه فاعلمهم الّذي سالهم عنه فجاءوه فقالوا رايت تمثالا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد (قال صدقتم) فبينا أنت تنظر اليه قد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقّته فهى الّتي أنسيتها- قال صدقتم فما تأويلها قالوا تأويلها انك اريت ملك الملوك بعضهم كان ألين ملكا وبعضهم كان احسن ملكا وبعضهم كان أشد ملكا- الفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة احسن من ذلك وأفضل والذهب أفضل واحسن من الفضة ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما كان قبله والصخرة الّتي رايت أرسل الله من السماء فدقّته هى يبعثه الله من السماء فيدق ذلك اجمع ويصير الأمر اليه- ثم ان اهل بابل قالوا لبخت نصر ارايت هؤلاء الغلمان الّذي كنا سالناك ان تعطينا ففعلت فانا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا لقد راينا نساءنا انصرفت عنا وجوههن إليهم فاخرجهم من بين أظهرنا او اقتلهم قال شأنكم بهم فمن أحب منكم ان يقتل من كان فى يده فليفعل- فلما قربوهم الى القتل بكوا الى الله وقالوا يا رب أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله ان يحييهم فقتلوا الا من استبقى بخت نصر منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل- ثم لما أراد الله هلاك بخت نصر انبعث فقال لمن فى يده من بنى إسرائيل ارايتم هذا البيت الّذي أخربت والناس الذين قتلت منهم فما هذا البيت- قالوا هذا بيت الله وهؤلاء اهله كانوا من ذرارى الأنبياء فظلموا وتعدّوا فسلطتّ عليهم بذنوبهم- وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلق كلهم يكرّمهم ويعزّهم فلمّا فعلوا ما فعلوا اهلكهم وسلط عليهم غيرهم- فاستكبر وظن انه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل قال فاخبرونى كيف لى ان اطلع الى السماء العليا فاقتل من فيها
واتخذها ملكا فانى قد فرغت من ملك الأرض- قالوا ما يقدر عليها أحد من(5/412)
الخلائق قال لتفعلن اولا قتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا الى الله فبعث الله عليه بقدرته بعوضة فدخلت منخره حتّى عضت بام دماغه فما كان يقر ولا يسكن حتّى يؤجاله رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه ليرى الله العباد قدرته- ونجّى الله من بقي من بنى إسرائيل فى يده فردّهم الى الشام فبنوا فيه وكثروا حتّى كانوا على احسن ما كانوا عليه ويزعمون ان الله تعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم- ثم انهم لما دخلوا الشام دخلوها وليس معهم عهد من الله عز وجل وكانت التورية قد أحرقت- وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل فرجع الى الشام يبكى عليها ليله ونهاره وقد خرج من الناس وهو كذلك- إذ اقبل اليه رجل وقال يا عزير ما يبكيك قال ابكى على كتاب الله وعهده الّذي كان بين أظهرنا لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره قال أفتحبّ ان ترد إليك ارجع فصم وتطهّر وطهّر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا- فرجع عزير فصام وتطهّر وطهّر ثيابه ثم عهد الى المكان الّذي وعده فجلس فيه فاتاه ذلك الرجل باناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله اليه فسقاه من ذلك الإناء فتمثلت التورية فى صدره- فرجع الى بنى إسرائيل فوضع لهم التورية فاحبوه حبّا لم يحبوا حبه شيئا قط ثم قبضه الله- وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث ويعود الله عليهم ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذّبون وفريقا يقتلون حتّى كان اخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وكانوا من بيت ال داود فمات زكريا وقيل قتل زكريا- فلما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش فسار إليهم باهل بابل حتّى دخل عليهم الشام فلما ظهر عليهم امر رأسا من رءوس جنوده يدعى يبورز أذان صاحب الفيل فقال انى قد كنت حلفت بإلهي لان اظفرت على اهل بيت المقدس لاقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم فى وسط عسكرى الا ان لا أجد أحدا اقتله- فامره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم وان يبورز أذان دخل بيت المقدس فقام فى البقعة الّتي كانوا يقربون فيها قربانهم- فوجد فيها دما يغلى(5/413)
فسالهم فقال يا بنى إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلى أخبروني خبره- قالوا هذا دم قربان لنا قربناه فلم يقبل منا فكذلك يغلى ولقد قرّبنا منذ ثمان مائة سنة القربان فيقبل منا الا هذا- فقال ما صدقتمونى قالوا لو كان كاول زماننا ليقبل منا ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحى فلذلك لم يقبل منا- فذبح منهم يبورز أذان على ذلك الدم سبعمائة وسبعين زوجا من رءوسهم فلم يهدأ- فأمر فاتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحهم على الدم فلم يبرد- فلما راى يبورز أذان ان الدم لا يهدا قال لهم يا بنى إسرائيل ويلكم اصدقونى (واصبروا على امر ربكم فقد طال ما ملكتم فى الأرض تفعلون فيها ما شئتم) قبل ان لا اترك منكم نافخ نار ذكر ولا أنثى الا قتلته- فلمّا راوا الجهد وشدة القتل صدقوا الخبر فقالوا ان هذا دم نبىّ كان ينهانا عن امور كثيرة من سخط الله فلو اطعناه فيها لكان ارشد لنا وكان يخبرنا يأمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه- قال يبورز أذان ما كان اسمه قالوا يحيى بن زكريا قال الان صدقتمونى لمثل هذا ينتقم ربكم منكم- فلما راى يبورز أذان انهم صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله أغلقوا أبواب المدينة واخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش وخلافى بنى إسرائيل- وقال يا يحيى بن زكريا قد علم ربى وربك ما أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم فاهدا بإذن ربك قبل ان لا أبقى من قومك أحدا فهدا الدم بإذن الله- ورفع يبورز أذان عنهم القتل وقال امنت بما امنت به بنو إسرائيل وأيقنت انه لا رب غيره- وقال لبنى إسرائيل ان خردوش أمرني ان اقتل منكم حتّى تسيل دماؤكم وسط عسكره وانى لست أستطيع ان أعصيه- قالوا له افعل ما أمرت به فامرهم فحفروا خندقا وامر باموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتّى سال الدم فى العسكر وامر بالقتلى الذين قتلوا
قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم- فلم يظن خردوش الا ان ما فى الخندق من بنى إسرائيل فلمّا بلغ الدم عسكره أرسل الى يبورز أذان ان ارفع عنهم القتل ثم انصرف الى بابل وقد أفنى بنى إسرائيل او كاد يفنيهم وهى الوقعة الاخيرة الّتي انزل الله لبنى إسرائيل فقوله تعالى لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فكانت الوقعة الاولى بخت نصر وجنوده والاخرى خردوش وجنوده(5/414)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
وكانت أعظم الوقعتين- فلم تقم بعد ذلك لهم رأية وانتقل الملك بالشام ونواحيها الى الروم واليونانية- الا ان بقايا بنى إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك- وكانوا فى نعمة الى ان بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططيوس بن اسيانوس الرومي فاخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضرب عليهم الذلة فليسوا فى امة الا وعليهم الصغار والجزية وبقي بيت المقدس خرابا الى ايام عمر بن الخطاب رضى الله عنه فعمّره المسلمون بامره- وقال قتادة بعث الله عليهم فى الاولى جالوت فسبّى وخرّب ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم فى زمان داؤد- فاذا جاء وعد الاخرة بعث الله عليهم بخت نصر فسبّى وخرّب ثم قال.
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فعاد الله عليهم بالرحمة ثم عاد القوم بشر ما بحضرتهم فبعث الله عليهم ما شاء نقمته وعقوبته- ثم بعث عليهم العرب كما قال وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ- فهم منهم فى عذاب الى يوم القيامة وذكر السدىّ بإسناده ان رجلا من بنى إسرائيل راى فى النوم ان خراب بيت المقدس على يدى غلام يتيم ابن ارملة بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فتصدق رؤياهم- فاقبل يسئل عنه حتّى نزل على امه وهو يحتطب فجاء وعلى رأسه حزمة حطب فالقاها ثم قعدو كلمه ثم أعطاه ثلاثة دراهم فقال اشتر بهذا طعاما وشرابا فاشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا فاكلوا وشربوا- وفعل فى اليوم الثاني كذلك وفى الثالث كذلك- ثم قال انى أحب ان تكتب لى أمانا ان أنت ملكت يوما من الدهر قال أتستخر منى- فقال انى لا أسخر منك ولكن ما عليك ان تتخذ بها عندى يدا- فكتب له أمانا فقال ان جئت والناس حولك قد حالوا بينى وبينك- قال ترفع صحيفتك على قصبة فاعرفك فكتب له وأعطاه- ثم ان ملك بنى إسرائيل كان يكرّم يحيى بن زكريا عليه السلام ويدنى مجلسه وانه هوى بنت امرأته وقال ابن عباس ابنة أخته فسال يحيى فنهاه عن نكاحها- فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فالبستها ثيابا رقاقا حمرا وطيبتها وألبستها الحلي وأرسلتها الى الملك وأمرتها ان تسقيه- فان راودها على نفسه أبت عليه(5/415)
حتّى يعطيها ما سالته- فاذا أعطاها سالته رأس يحيى بن زكريا ان يؤتى به فى طست- ففعلت فلما أرادها فقالت لا افعل حتّى تعطينى ما أسئلك قال ما تسئلنى قالت رأس يحيى بن زكريا فى هذا الطست فقال ويحك سلينى غير هذا- فقالت ما أريد الا هذا فلما أبت عليه بعث فاتى برأسه فوضع بين يديه والرأس يتكلم يقول لا تحل لك- فلمّا أصبح إذا دمه يغلى فامر بتراب فالقى عليه فاذا الدم يغلى والقى عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة وهو فى ذلك يغلى- فبعث صخابين ملك بابل جيشا إليهم وامّر عليهم بخت نصر فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان تحصنوا منه فى مداينهم فلما اشتد عليه المقام أراد الرجوع- فخرجت اليه عجوز من عجائز بنى إسرائيل فقالت تريد ان ترجع قبل فتح المدينة قال نعم قد طال مقامى وجاع أصحابي- قالت ارايت ان فتحت لك المدينة تعطينى ما أسئلك فتقتل من أمرك بقتله وتكف إذا امرتك ان تكف قال نعم- قالت إذا أصبحت فاقسم جندك اربعة أرباع ثم أقم على كل زاوية ربعا ثم ارفعوا ايديكم الى السماء فنادوا انّا نستفتحك بالله بدم يحيى بن زكريا فانها سوف تساقط- ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت كف يدك وانطلقت به الى دم يحيى بن زكريا عليهما السلام- وقالت اقتل على هذا الدم حتّى تسكن فقتل عليه سبعين الفا حتّى سكن- فلما سكن قالت كف يدك فان الله لم يرض إذا قتل نبى حتّى يقتل من قتله ومن رضى بقتله- وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفته فكف عنه وعن اهل بيته فخرب بيت المقدس وطرح فيه الجيف وأعانه على خرابه الروم من أجل ان بنى إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام وذهب معه وجوه بنى إسرائيل وذهب بدانيال وقوم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت- فلما قدم بابل وجد صخابين قد مات فملك مكانه- وكان أكرم الناس عنده دانيال وأصحابه فحسدهم المجوس ووشوا بهم اليه وقالوا ان دانيال وأصحابه يكذّبون إلهك ولا يأكلون ذبيحتك فسالهم- فقالوا أجل ان لنا ربّا نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فامر بخدّ فخدّ لهم والقوا فيه وهم ستة والقى معهم سبع صار ليأكلهم فذهبوا ثم راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع مفترش ذراعيه معهم لم يخدش(5/416)
منهم أحدا- ووجدوا معهم رجلا سابعا فقال ما هذا السابع انما كانوا ستة فخرج السابع وكان ملكا فلطمه لطمة فصار فى الوحش ومسخه الله سبع سنين- وذكر وهب ان الله تعالى مسخ بخت نصر نسرا فى الطير ثم مسخه ثورا فى الدواب ثم مسخه أسدا فى الوحش فكان مسخه سبع سنين وقلبه فى ذلك قلب انسان ثم رد الله اليه ملكه فامن- فسئل وهب أكان مؤمنا فقال وجدت
اهل الكتاب اختلفوا فيه فمنهم من قال مات مؤمنا ومنهم من قال احرق بيت الله وكتبه وقتل الأنبياء فغضب الله عليه فلم يقبل توبته- قال السدىّ ثم ان بخت نصر لما رجع الى صورته بعد المسخ ورد الله اليه ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدهم المجوس وقالوا لبخت نصر ان دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه ان يبول وكان ذلك فيهم عارّا فحمل لهم طعاما وشرابا فاكلوا وشربوا وقال للبواب انظروا أول من يخرج ليبول فاضربه بالطبرزين وان قال انا بخت نصر فقل كذبت بخت نصر أمرني- فكان أول من قام ليبول بخت نصر فلما راه شدّ عليه فقال ويحك انا بخت نصر فقال كذبت بخت نصر أمرني فضربه فقتل- قال البغوي هذا ما ذكره فى المبتدأ الا ان رواية من روى ان بخت نصر غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام غلط عند اهل السير- بل هم مجمعون على ان بخت نصر انما غزا بنى إسرائيل عند قتلهم شعيا فى عهد ارميا ومن وقت ارميا وتخريب بيت المقدس الى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام اربعمائة واحدى وستون سنة وذلك انهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس الى حين عمرانه فى عهد كيرش بن اخشورش ابن اصبهبد بابل من قبل بهمن بن إسفنديار سبعين سنة ومن بعد عمرانه الى ظهور الإسكندر على بيت المقدس ثمانية وثمانين سنة ثم من بعد مملكته الى مولد يحيى بن زكريا ثلاثمائة وثلاثا وستين سنة والصحيح من ذلك ما ذكره محمّد بن إسحاق- عَسى رَبُّكُمْ يا بنى إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد ذلك ان أمنتم بمحمّد صلى الله عليه وسلم واصلحتم أعمالكم باتباع القران وَإِنْ عُدْتُمْ الى المعصية ومخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم عُدْنا الى العقوبة والانتقام فرحم الله من أمن منهم بمحمّد صلى الله عليه وسلم(5/417)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
مثل عبد الله بن سلام ومن معه والنجاشي وكعب الأحبار وغيرهم وأثني عليهم بقوله مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ إلخ وبقوله وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ إلخ وعاد بنوا قريظة وبنوا النضير وأشباههم فارادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم وسحروه وجعلوا السم فى طعامه وحاربوه فعاد الله عليهم بالانتقام فقتل بنى قريظة واجلى بنى النضير وضرب عليهم الجزية يؤدونها عن يدوهم صاغرون وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) محبسا فى الاخرة لا يقدرون على الخروج منها ابدا- وقيل بساطا كما يبسط الحصير.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي للحالة او للطريقة الّتي هِيَ أَقْوَمُ الحالات او الطرق وأعدلها او الكلمة الّتي هى اعدل وهى شهادة ان لا اله الا الله وَيُبَشِّرُ قرا حمزة والكسائي بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل يعنى يبشر القران الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم أَجْراً كَبِيراً (9) اى الجنة.
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) اى النار عطف على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً يعنى يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعذاب أعدائهم او على يبشّر بإضمار يخبر-.
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ سقط الواو من يدعو من اللفظ لاجتماع الساكنين ومن الخط توقيفا على خلاف القياس- يعنى يدعو الله عند غضبه على نفسه واهله وماله بِالشَّرِّ او يدعوه بما يحسبه خيرا وهو شر كمن يدعو ان يعطى الله حظه فى الدنيا دُعاءَهُ اى مثل دعائه بِالْخَيْرِ وذلك ان يعطيه ربه فى الدنيا حسنة وفى الاخرة حسنة ويقيه من النار ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ولكن الله تعالى قد لا يستجيب بفضله عليه وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا (11) يسارع الى كل ما يخطر بباله لا ينظر عاقبته فيدعو على نفسه ما يكره ان يستجاب له وقال ابن عباس يدعو ضجر الا صبر له على سراء ولا على ضراء- قيل المراد بالإنسان آدم فانه لما انتهى الروح الى سرته ذهب لينهض فسقط- أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما وروى الواقدي فى المغازي من(5/418)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
طريق مولى عائشة عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بأسير فقال احتفى به قالت فلهرت مع امراة فخرج ولم أشعر- فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فسال عنه فقالت لا أدرى وغفلت عنه فخرج فقال قطع الله يدك ثم خرج عليه السلام فصاح به فخرجوا فى طلبه حتّى وجدوه- ثم دخل على فراشى وانا أقلّب يدى فقال مالك قلت أنتظر دعوتك- فرفع يديه وقال اللهم انما انا بشر أسف واغضب كما يغضب البشر فايما مؤمن او مؤمنة دعوت عليه بدعوة فاجعلها له زكوة وطهرا- والله اعلم والظاهر ان المراد بالإنسان الكافر وبالدعاء الدعاء بالعذاب استعجالا «1» واستهزاء كقول النضر بن الحارث اللهم انصر خير الحزبين اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ فضرب عنقه يوم بدر صبرا-.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ علامتين دالتين على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد مع إمكان غيره فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ اى الاية الّتي هى الليل والاضافة بيانية كاضافة العدد الى المعدود يعنى جعلناها مظلمة وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً يعنى جعلنا النهار مضيئا مبصرا للناس وقيل المراد بالآيتين الشمس والقمر وتقدير الكلام وجعلنا بين الليل والنهار ايتين او جعلنا الليل والنهار ذوى ايتين فمحونا اية الليل يعنى القمر يعنى انقصنا نوره شيئا فشيئا الى المحاق وجعلنا اية النهار يعنى الشمس مبصرة ذات شعاع دائم يبصر الأشياء بضوئها قال الكسائي يقول العرب ابصر النهار إذا صار بحيث يبصر بها قال ابن عباس جعل الله ضوء الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعلها مع نور الشمس حتّى ان الله تعالى امر جبرئيل فامرّ جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور- وسال ابن الكواء عليّا عليه السلام عن السواد الّذي فى القمر فقال هو اثر المحو «2» لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ اى الراحة والفراغ للطاعة بالليل واسباب المعاش بالنهار وَلِتَعْلَمُوا باختلافهما او بحركاتهما عَدَدَ السِّنِينَ وَجنس الْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ تحتاجون اليه فى امور الدين والدنيا فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (12) اى
__________
(1) اخرج البيهقي فى الدلائل عن سعيد المقبري ان عبد الله بن سلام سال النبي صلى الله عليه وسلم عن السواد الّذي فى القمر فقال كانا شمسين فقال الله فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قال فالسواد الّذي رايت هو المحو- 12 منه رحمه الله
(2) فى الأصل استعجالا استهزاء-(5/419)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
بيّناه بيانا شافيا غير ملتبسين فازحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا-.
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان- وقال الكلبي ومقاتل خيره وشره معه لا يفارقه حتّى يحاسب به وقال الحسن يمنه وشومه- قال اهل المعاني أراد بالطائر ما قضى عليه انه عامله وما هو صائر اليه من سعادة او شقاء- سمى طائرا على عادة العرب فيما كانت تتفال وتتشام به من سوانح «1» الطير وبوارحها- وقال ابو عبيدة والقتيبي أرد بالطائر حظه من الخير والشر من قولهم طارسهم فلان بكذا- وخص العنق من سائر الأعضاء لانه موضع القلائد والاطواق وغيرها مما يزين او يشين- فجرى كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة الى الأعناق- وعن مجاهد قال ما من مولود الانى عنقه ورقة مكتوب فيها شقى او سعيد وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً هى صحيفة عمله قرا الجمهور نخرج بالنون على التكلم والتعظيم من الافعال- وكتابا منصوبا على المفعولية او على انه حال من مفعول محذوف وهو الطائر ويؤيده قراءة يعقوب وابى جعفر- وقرا يعقوب والحسن ومجاهد بفتح الياء المثناة التحتانية وضم الراء اى يخرج له الطائر يوم القيامة كتابا- وقرا ابو جعفر بضم الياء وفتح الراء على البناء للمجهول اى يخرج له الطائر كتابا يلقه قرا ابن عامر وابو جعفر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف يعنى يلقى الإنسان ذلك الكتاب اى يؤتاه- والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف اى براه مَنْشُوراً (13) وهما صفتان لكتاب او يلقاه صفة ومنشورا حال من مفعوله- قال البغوي جاء فى الآثار ان الله تعالى يأمر الملك بطىّ الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر الى يوم القيامة.
اقْرَأْ كِتابَكَ اى يقال له- او خط فيها اقرأ كتابك كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) اى كفى نفسك والباء زائدة وحسيبا تميز وعلى صلته- لانه اما بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسب عليه كذا- او بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد
__________
(1) السانح مامر من الطير والوحش بين يديك من جهة يسارك الى يمينك والعرب يتيمن به لانه أمكن للرمى والصيد- والبارح ما مر من يمينك الى يسارك والعرب يتطير به لانه لا يمكنك ان ترميه حتّى ينحرف 12 نهايه منه رحمه الله(5/420)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
لانه يكفى المدعى ما أهمه وتذكيره على ان الحساب والشهادة مما يتولاه الرجال- كانه قيل كفى بنفسك اليوم رجلا حسيبا- او على تأويل النفس بالشخص اخرج البيهقي عن انس رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكتب كلها تحت العرش فاذا كان الموقف بعث الله تعالى ريحا فتطير بالايمان والشمائل- واخرج ابن جرير عن قتادة قال سيقرأ يومئذ من لم يكن قاريا فى الدنيا- وقال البغوي قال الحسن لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك واخرج ابن المبارك عن الحسن قال كل اوتى فى عنقه قلادة فيها نسخة عملها فاذا طويت قلدها وإذا بعث نشرت له- وقيل له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً- واخرج أصبهاني عن ابى امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الرجل ليؤتى كتابه منشورا فيقول يا رب فاين حسنات كذا وكذا عملتها ليست فى صحيفتى فيقول محوت باغتيابك للناس-.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لها ثوابها لا ينجى اهتداؤه غيره وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها عليها عقابه لا يردى ضلاله سواه والله اعلم اخرج ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت سالت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال هم من ابائهم- ثم سالته بعد ذلك فقال الله اعلم بما كانوا عاملين- ثم سالته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى اى لا تحمل حاملة حمل نفس اخرى اى ثقلها من الآثام بل انما تحمل وزر نفسها وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) يبيّن الحجج ويمهد الشرائع فيلزمهم الحجة- قال الشافعي فى هذه الاية دليل على انه لا وجوب قبل البعثة بالعقل- فلا يعذب من لم يبلغه الدعوة على الشرك ولا على شيء من المعاصي وقال ابو حنيفة رحمه الله الحاكم هو الله تعالى لكن العقل قد يدرك بعض ما وجب عليه- وهو التوحيد والتنزيهات والإقرار بالنبوة بعد مشاهدة المعجزات- فهذه الأمور غير متوقفة على الشرع وإلا لزم الدور لان الشرع يتوقف عليها- فيجب على الإنسان إتيان هذه الأمور قبل بعثت الرسل ويعذب المشرك وان لم يبلغه الدعوة- ويؤيد هذا القول(5/421)
ما فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير فى يديك- قال اخرج بعث النار- قال وما بعث النار- قال من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين فعنده يشيّب الصغير وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
- قالوا يا رسول الله ايّنا ذلك الواحد قال ابشروا فان منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج الف الحديث- وجه الاستدلال ان يأجوج ومأجوج رجال وراء السد لم يبعث فيهم رسول- فلولا التعذيب على الشرك قبل بعثة ...
الرسل لما عذبت يأجوج ومأجوج- وقد ورد فى اهل الفترة ومن لم يبلغه الدعوة من الأمم أحاديث تدل على انهم يمتحنون يوم القيامة- منها ما اخرج البزار عن ثوبان ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم القيامة جاءت اهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم- فيسئلهم ربهم- فيقولون «1» ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا امر لك- ولو أرسلت إلينا رسولا لكنّا أطوع عبادك- فيقول لهم ربهم ارايتم ان أمرتكم بامر تطيعونى فيأخذ على ذلك مواثيقهم- فقال اعمدوا لها فادخلوها اى النار فينطلقون حتّى إذا راوها فرقوا فرجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها فلا نستطيع ان ندخلها- فيقول ادخلوها داخرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما- وما اخرج احمد وابن راهويه فى مسنديهما والبيهقي فى كتاب الاعتقاد وصححه عن الأسود بن سريغ رضى الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال اربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا- ورجل أحمق- ورجل هرم- ورجل مات فى فترة فاما الأصم فيقول رب جاء الإسلام وما اسمع شيئا- واما الأحمق فيقول يا رب جاء الإسلام والصبيان يخذفوننى بالبعر- واما الهرم فيقول لقد جاء الإسلام وما اعقل شيئا- واما الّذي مات فى فترة فيقول يا رب ما أتاني لك رسول- فاخذ مواثيقهم ليطيعنّه فيرسل إليهم ان ادخلوا النار فو الّذي نفس محمّد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وما اخرج الثلاثة ايضا من حديث ابى هريرة مرفوعا مثله غير انه كان فى آخره فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما- ومن لم يدخلها يسحب إليها- واخرج ابن المبارك عن مسلم بن يسار قال لى انه يبعث
__________
(1) وفى الأصل فيقول-(5/422)
يوم القيامة عبد كان فى الدنيا أعمى أصم ابكم كذلك لم يسمع شيئا قط ولم يبصر شيئا قط ولم يتكلم شيئا- فيقول الله تعالى ما عملت فيما وليت وفيما أمرت به فيقول اى رب والله ما جعلت لى بصرا ابصر به الناس فاقتدى بهم- وما جعلت لى سمعا فاسمع به ما أمرت به ونهيت عنه- وما جعلت لى لسانا فاتكلم بخير او بشر- وما كنت الا كالخشبة فيقول الله عز وجل تطيعنى الان فيما أمرك به قال نعم فيقول قع فى النار فيأبى فيدفع فيها- قلت على ما قالت الحنفية ان المشرك يعذب ان كان عاقلا قبل ان تبلغه الدعوة كما يدل عليه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فانه يعم اصحاب الفترة- تحمل هذه الأحاديث على ان بعض المشركين من اهل الفترة لعلّهم يجادلون الله تعالى ويعتذرون بالجهل فيلزمهم الله تعالى الحجة بالامتحان- كما ان المشركين لما ينكرون شركهم ويقولون وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ويطلبون على أنفسهم شهودا- فحينئذ يشهد عليهم جوارحهم فيلزمهم الحجة ولله الحجة البالغة- لا ينصب نفسا شاء ان يعذبها الا عذبها- وهو عادل فيه هذا فى التوحيد- واما سائر الشرائع فالعقل غير كاف فى إدراكها- فلا تجب على الإنسان إتيانها قبل البعثة- لقوله تعالى ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ- وبناء على مذهب الحنفية قال صاحب المدارك فى تفسير هذه الاية ما صح منا ان نعذب قوما عذاب استيصال فى الدنيا الا بعد ان نبعث إليهم رسولا فنلزمهم الحجة- قلت وهذا التأويل بعيد جدّا- لان قوله تعالى ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ يدل على عموم نفى التعذيب لوقوع النكرة فى سياق النفي- ولا وجه للتخصيص بالتعذيب فى الدنيا ولا بتعذيب الاستيصال- كيف وعدم التعذيب فى الدنيا من غير إتمام الحجة يقتضى عدم التعذيب فى الاخرة بالطريق الاولى- فالاولى ان يقال ان عدم التعذيب قبل البعثة مخصوص بالمعاصي دون الشرك حيث قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ فالتقدير ما كنّا معذّبين على المعاصي حتّى نبعث رسولا يبين لهم ما يتقون- وقيل المراد بالرسول أعم من البشر والعقل فان العقل ايضا رسول من الله يدرك به الخير والشر- فما يدركه العقل ويكفى فى إدراكه من الواجبات يعذب الله العاقل عليها على عدم إتيانها-(5/423)
(فصل) هذه الاية تدل على عدم تعذيب الصغار والمجانين وان كانوا من ذرارى المشركين حيث لم يبلغهم دعوة رسول بشرا كان او عقلا- كما يدل عليه سياق الاية حيث قال الله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى - ومن الأحاديث ما رواه احمد بسند حسن عن خنساء بن معاوية بن مريم قال حدثنى عمى قال قلت يا رسول الله من فى الجنة قال النبي فى الجنة والشهيد فى الجنة والمولود فى الجنة والوئيد فى الجنة- وما رواه البخاري عن سمرة ابن جندب فى حديث المنام الطويل انه صلى الله عليه وسلم مر على شيخ تحت شجرة وحوله ولدان فقال له جبرئيل هذا ابراهيم وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال نعم وأولاد المشركين- فقيل أولاد المشركين خدم اهل الجنة لما روى الطيالسي عن انس انه سئل عن أطفال المشركين فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم سيئات فيكونوا «1» من اهل النار ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من مملوك «2» اهل الجنة هم خدم اهل الجنة- وما اخرج ابن جرير عن سمرة قال سالنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال هم خدم اهل الجنة- واخرج مثله عن ابن مسعود موقوفا- فان قيل فى الصحيح ما يدل على عدم الجزم بذلك- اخرج الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل عن أطفال المشركين- فقال الله اعلم بما كانوا عاملين- واخرج مثله من حديث ابن عباس قلنا هذا الحكم اعنى عدم الجزم بكونهم فى الجنة الّذي دل عليه هذان «3» الحديثان منسوخ كان قبل نزول اية الفتح الناسخة لقوله تعالى وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ- فانه صلى الله عليه وسلم كان قبل ذلك يردّ بها على من شهد لاحد بعينه بالجنة- ورد بها على من شهدت لعثمان بن مظعون كما فى الصحيح فلما نزلت اية الفتح سرّ بها
كثيرا وشهد بعدها لجماعة بأعيانهم بالجنة- وهذا هو الجواب لحديث رواه مسلم عن عائشة قالت دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى جنازة صبى من الأنصار فقالت يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدرك فقال او غير ذلك يا عائشة ان الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب ابائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب ابائهم فان هذا الحديث يدل على التوقف فى أطفال المسلمين
__________
(1) وفى الأصل فيكونون
(2) وفى الأصل ملوك-
(3) وفى الأصل هذين الحديثين-(5/424)
ايضا وقد انعقد الإجماع على كونهم فى الجنة- نقله الامام احمد وابن ابى زيد وابو يعلى من الفراء وغيرهم ونصوص الكتاب والأحاديث صريحة فى ذلك كذا قال النووي والسيوطي- وهو الجواب عما رواه ابن حبان فى صحيحه والبزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال امر هذه الامة متقاربا ما لم يتكلموا فى القدر والولدان- قال ابن حبان يعنى أطفال المشركين فانا نحمل هذا الحديث ايضا على كونه قبل اية الفتح وقبل ان يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كونهم فى الجنة- فان قيل بعض الأحاديث يدل على كون أطفال المشركين فى النار- منها ما اخرج ابو يعلى عن البراء رضى الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين فقال هم مع ابائهم وسئل عن أطفال المشركين فقال هم مع ابائهم- وما روى ابو داؤد عن عائشة قالت قلت يا رسول الله ذرارى المؤمنين قال من ابائهم فقلت يا رسول الله بلا عمل قال الله اعلم بما كانوا عاملين- قلت فذرارى المشركين قال من ابائهم قلت بلا عمل قال الله اعلم بما كانوا يعملون- واخرج احمد عن عائشة بسند ضعيف جدا انها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين فقال ان شئت أسمعتك تصاعدهم فى النار- واخرج عبد الله بن احمد فى زوائد المسند بسند فيه مجهول وانقطاع وابن ابى حاتم فى السنة عن علىّ قال سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا فى الجاهلية فقال هما فى النار فلما راى الكراهية فى وجهها قال لها ولو رايت مكانهما لابغضتهما قالت فولدى منك قال ان المؤمنين وأولادهم فى الجنة وان المشركين وأولادهم فى النار- ثم تلا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- واخرج ابو داؤد عن ابن مسعود بسند حسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوائدة والموءودة فى النار- واخرج ايضا بسند حسن عن سلمة بن قيس الأشجعي قال أتيت انا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا ان امّنا ماتت فى الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتصل الرحم وانها وادت اختالها فى الجاهلية لم تبلغ فقال الوائدة والموءودة فى النار الا ان تدرك الوائدة(5/425)
الإسلام فتسلم- قلنا اما الموءودة الواردة فى الحديث فالمراد بها الموءودة لها يعنى الام- والوائدة هى القابلة دفعا للتعارض- واما الأحاديث المذكورة فى كون أطفال المشركين فى النار فليس شيء منها يقوى قوة الأحاديث المتقدمة فسقطت بالأحاديث الصحيحة فضلا عن مصادمة القران- والقول يكون تلك الأحاديث منسوخة لا يجوز لان الاخبار لا يحتمل النسخ- اللهم الا ان يقال ان الله رفع عنهم العذاب بعد ما كتب عليهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم- يدل عليه حديث ابن ابى شيبة عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سالت ربى اللاهين من ذرية البشر ان لا يعذبهم فاعطانيهم- قال ابن عبد البر هم الأطفال لان أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقل ولا عزم- قال السيوطي اختلف الناس قديما وحديثا فى أطفال المشركين على اقوال أحدها انهم فى النار للاحاديث المذكورة الّتي دلت على ذلك لكنها ضعيفة لا تقوم بها حجة- والثاني انهم فى الجنة والثالث انهم خدم اهل الجنة- (قلت لا تعارض بين هذين القولين فان خدم اهل الجنة فى الجنة) والرابع انهم فى مشية الله لا يحكم عليهم وهذا ما نقل عن الحمادين وابن المبارك وابن راهويه والشافعي ونقله النسفي عن ابى حنيفة (قلت ومبنى هذا القول على الاحتياط والصحيح ان هذا الحكم منسوخ كما ذكرنا) والخامس انهم يمتحنون فى الاخرة كما يمتحن اصحاب الفترة- لما اخرج البزار وابو يعلى عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى باربعة يوم القيامة بالمولود والمعتوه ومن مات فى الفترة والشيخ الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار أبرز ويقول انى كنت ابعث الى عبادى رسلا من أنفسهم وانى رسول نفسى إليكم ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب اندخلها ومنها كنا نفر ومن كتب عليه السعادة يمضى فيقتحم فيها مسرعا فيقول الله تعالى أنتم كنتم لرسلى أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الى الجنة وهؤلاء الى
النار- واخرج البزار ومحمّد بن يحيى الذهبي عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتج الهالك فى الفترة والمعتوه(5/426)
والمولود يقول الهالك فى الفترة رب لم يأتينى كتاب ويقول المعتوه رب لم تجعل لى عقلا اعقل به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العقل فترتفع لهم نار فيقول ردوها فيردها من كان فى علم الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان فى علم الله شقيّا لو أدرك العمل فيقول إياي عصيتم فكيف لو رسلى أتتكم- واخرج الطبراني وابو نعيم عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يؤتى يوم القيامة بالممسوح عقلا وبالهالك فترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوح عقلا رب لو أتيتني عقلا ما كان من أتيته عقلا بأسعد منى وذكر فى الهالك فى الفترة والصغير نحو ذلك فيقول الرب تبارك وتعالى انى أمركم بامرى فتطيعونى فيقولون نعم فيقول اذهبوا فادخلوا النار- قال لو دخلوها ما ضرتهم فيخرج عليهم فرائض فيظنون انها قد أهلك ما خلق الله من شيء فيرجعون سراعا ثم يأمر الثانية فيرجعون ذلك فيقول الرب تعالى قبل ان خلقتكم علمت ما أنتم عاملون- قلت وهذا القول الخامس لا يلائم ضروريات الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يبرا- وعن النائم حتّى يستيقظ- وعن الصبى حتّى يكبر رواه احمد وابو داود والحاكم عن عائشة بسند صحيح وعن على وعمر بسند صحيح- وفى لفظ اخر رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتّى يستيقظ وعن المبتلى حتّى يبرا وعن الصبى حتّى يكبر رواه احمد وابو داؤد والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عائشة بسند صحيح- وقد ثبت بالحديث انه من همّ بسيئة لا يؤاخذ بها ما لم يعملها- فكيف بمن لم يهمّ بها ولم يعقلها- وقال الله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
وقال الله تعالى لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ- ... وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى - واجمع الامة على ان مناط التكليف العقل والبلوغ- فلعل لفظ المولود والمجنون فى هذه الأحاديث من وهم الرواة او المولود والمجنون يمتثلون امر الله ويدخلون النار عند الامتحان فينجون بخلاف المشركين من اهل الفترة- قال السيوطي وقيل فى أطفال المشركين انهم يكونون فى برزخ بين الجنة والنار- وقيل يصيرون ترابا- ولا دليل على ذلك واما أولاد المسلمين فلم يجر فيهم خلاف بل الإجماع انهم فى الجنة والله اعلم.(5/427)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
قوله تعالى وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
اى متنعميها وجبائرتها- قرا مجاهد امّرنا بالتشديد اى سلّطنا وجعلناهم أمراء- وقرا الحسن وقتادة ويعقوب أمرنا بالمد اى أكثرنا- وقرا الجمهور مقصورا مخففا اى أمرنا مترفيها بالطاعة على لسان رسول بعث إليهم- ويدل على هذا التقدير قوله تعالى فيما قبل وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا وفيما بعد فَفَسَقُوا فِيها
فان الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد فى العصيان- فيدل على الطاعة- وقيل معنى الاية أَمَرْنا مُتْرَفِيها
بالفسق ففسقوا- كقولك أمرته فجلس فانه لا يفهم منه الا الأمر بالجلوس- والأمر حينئذ ليس بمعناه الحقيقي ف إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ- لكنه مجاز من الحمل عليه والتسبيب له- بان صبّ عليهم من النعم ما ابطرهم وامضى بهم الى الفسوق- وقيل معناه معنى كثّرنا يقال أمرت الشيء وأمرته فامر اى كثرته فكثر- وفى الحديث خير المال سكة مأبورة ومهرة مامورة اى طريقة مصطفة من النخل مصلحة- وولد الفرس أنثى اى كثير النسل والنتاج ومنه قول ابى سفيان فى حديث هرقل لقد امر امر ابن ابى كبشة اى كثر وارتفع شأنه- يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ومنه الحديث ان رجلا قال له مالى ارى أمرك يأمر- قال والله ليامرن اى يزيد على ما ترى- ومنه حديث ابن مسعود قال كنا نقول فى الجاهلية قد امر بنوا فلان اى كثروا- وفى القاموس امره وامره كنصره لغيّة كثر نسله وماشيته- ويحتمل ان يكون منقولا من امر بالضم امارة اى جعلناهم أمراء- وتخصيص المترفين لان غيرهم يتبعهم- ولانهم اسرع الى الحماقة واقدر على الفجور فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
اى وجب عليها الكلمة السابقة بالعذاب بحلوله او الكلمة السابقة بظهور معاصيهم او انهماكهم فيها فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
(16) اى أهلكناها بهلاك أهلها وتخريب ديارها- روى البخاري عن أم حبيبة بنت ابى سفيان عن زينب بنت جحش ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا وهو يقول لا اله الا الله ويل للعرب من شرّ قد اقترب فتح اليوم من ددم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والّتي يليها- قالت زينب فقلت يا رسول الله أيهلك وفيها الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث.(5/428)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
وَكَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ بيان لكم وتميز له- والقرن القوم المقترنون فى زمان واحد- يعنى يكون ولادتهم فى وقت واحد- فى القاموس يقال هو على قرنى اى على سنى وعمرى- وانقضاء القرن ان لا يبقى منهم أحد- فى القاموس هو كل امة هلكت فلم يبق منها أحد- قلت واما قرن الصحابة وقرن التابعين فيقال باعتبار مقارنتهم فى مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم او مصاحبة أحد ممن صاحبه صلى الله عليه وسلم- وقيل القرن مدة من الزمان عشرة سنين او عشرون او ثلاثون او أربعون او خمسون او ستون او سبعون او ثمانون او مائة سنة او مائة وعشرون كذا فى القاموس من الأقوال- واعتبرت الحنفية فى مدة المفقود تسعين «1» سنة والأصح انه مائة سنة- لما روى محمّد بن القاسم عن عبد الله ابن تستر المازني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال يعيش هذا الغلام قرنا- قال محمّد بن القاسم مازلنا نعدله حتّى تمّت مائة سنة ثم مات مِنْ بَعْدِ نُوحٍ كعاد وثمود وغيرهم تخويف لكفار مكة وَكَفى بِرَبِّكَ فى محل الرفع والباء زائدة بِذُنُوبِ عِبادِهِ متعلق بما بعده على سبيل التنازع خَبِيراً وان اخفوها فى الصدور بَصِيراً (17) وان ارخوا عليها الستور-.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعنى الدار العاجلة اى الدنيا مقصورا عليها همته عَجَّلْنا لَهُ فِيها «2» أعطيناه فى العاجلة ما نَشاءُ كل ما يريده او بعضه قيد به لانه لا يجد كل أحد جميع ما يتمناه غالبا لِمَنْ نُرِيدُ ان نفعل به ذلك بدل من له بدل البعض قيد به لانه لا يجد كل متمنّ متمنّاه ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ فى الاخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها يدخل نارها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) مطرودا مبعدا من رحمة الله.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها اى للاخرة حق سَعْيَها وهو الايتمار بالأوامر والانتهاء عن المناهي- لا بمجرد التمني او التقرب بما يخترعون بآرائهم فهو منصوب على المصدرية- وجاز كونه منصوبا على المفعولية- وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص وَهُوَ مُؤْمِنٌ ايمانا
__________
(1) وفى الأصل تسعون-
(2) وليس فى الأصل فيها-(5/429)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
صحيحا لا شرك معه ولا تكذيب فانه العمدة فَأُولئِكَ اى الجامعون للشرائط الثلاثة كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) من الله اى مقبولا عنده مثابا عليه فان شكر الله الثواب على الطاعة.
كُلًّا التنوين بدل من المضاف اليه اى كل واحد من الفريقين نُمِدُّ بالعطاء مرة بعد اخرى- ونجعل آخره مدد السابقة هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كلّا مِنْ عَطاءِ اى من معطاة رَبِّكَ متعلق بنمدّ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) ممنوعا لا يمنعه فى الدنيا من مؤمن ولا من كافر تفضلا.
انْظُرْ يا محمّد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فى الرزق والجمال فى الدنيا وانتصاب كيف بفضّلنا على الحال وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) اى التفاوت فى الاخرة اكثر من التفاوت فى الدنيا لان التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها والله اعلم.
لا تَجْعَلْ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته- او لكل واحد اى لاقعل ايها الإنسان مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ اى فتصير من قولهم شخذ الشفرة حتّى قعدت كانها حربة- او فتعجز من قولك قعد عن الشيء إذا عجل عنه مَذْمُوماً من الملائكة والمؤمنين مَخْذُولًا (22) غير منصور-.
وَقَضى رَبُّكَ اى امر امرا مقطوعا به كذا قال ابن عباس وقتادة والحسن والربيع بن انس «1» أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ اى بان لا تعبدوا الّا ايّاه- لان العبادة الّتي هى غاية التعظيم لا يحق الا لمن له غاية العظمة ونهاية الانعام- وهو كالتفصيل لسعى الاخرة- ويجوز ان يكون ان مفسرة لانّ فى قضى معنى القول ولا يجوز كونها ناصبة وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً اى وان تحسنوا او أحسنوا بالوالدين إحسانا لانهما السبب الظاهري للوجود والتعيش إِمَّا ان شرطية زيدت عليها ما للتأكيد فادغمت النون فى الميم- ولذلك صح لحوق النون المؤكدة فى الفعل وان أفردت ان لم يصح دخولها- إذ لا يقال ان تكر من زيدا يَبْلُغَنَّ قرا حمزة والكسائي يبلغانّ بالألف على التثنية- والضمير راجع الى الوالدين عِنْدَكَ اى فى كتفك وكفالتك
__________
(1) وفى الأصل والربيع بن الحسن-(5/430)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
الْكِبَرَ أَحَدُهُما بدل من ضمير التثنية فى يبلّغان أَوْ كِلاهُما عطف على أحدهما وقرا الجمهور بغير الف وفاعل الفعل أحدهما مع ما عطف عليه اى ان يبلغ الكبر أحدهما او كلاهما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ قرا نافع وحفص وابو جعفر هنا وفى الأنبياء والأحقاف بالتنوين للتنكير كتنوين صه وكسر الفاء- وابن كثير وابن عامر ويعقوب بفتح الفاء من غير تنوين- والباقون بكسرها من غير تنوين- وهى كلمة كراهية صوت يدل على التضجّر- وقيل اسم للفعل الّذي هو التضجر- قال ابو عبيدة اصل الأف والتف الوسخ على الأصابع- وفى القاموس الافّ قلامة الظفر ووسخه- او وسخ الاذن وما رفعته من الأرض من عود او قصبة- او الأف معناه القلة يعنى لا تقل لهما كلمة تدل على ادنى كراهة فيحرم بذلك سائر انواع الإيذاء بدلالة النص بالطريق الاولى- يقال فلان لا يملك النقير ولا القطمير وَلا تَنْهَرْهُما اى لا تزجرهما عما لا يعجبك وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (23) حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب كقول العبد المذنب للسيد الفظّ قال مجاهد إذا بلغا عندك من الكبر فلا تقذرهما ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطان عنك صغيرا-.
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ اى تذال لهما وتواضع فيهما جعل للذل جناحا وامره بخفضهما مبالغة- او أراد جناحه كقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وإضافته الى الذل للبيان والمبالغة- كما أضيف حاتم الى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل واخضع- وقال عروة بن الزبير لن لهما حتّى لا يمتنعا من شيء احباه مِنَ الرَّحْمَةِ اى من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما الى من كان أفقر خلق الله إليهما وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما يعنى ادع الله لهما ان يرحمهما برحمته الباقية ولا تكتف برحمتك الفانية- قال البغوي أراد ان كانا مسلمين- قال ابن عباس هذا منسوخ بقوله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ- وقال البيضاوي وان كانا كافرين لان من الرحمة ان يهديهما للاسلام كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) اى رحمة مثل رحمتهما علىّ وتربيتهما علىّ وإرشادهما لى فى صغرى وفاء بوعدك للراحمين- عن ابى الدرداء(5/431)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الوالد اوسط أبواب الجنة فحافظ ان شئت أو ضيع- رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح وعن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رضاء الله فى رضاء الوالد وسخط الله فى سخط الوالد- رواه الترمذي والحاكم وصححه وروى البزار عن ابن عمرو عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مد من خمر ورواه النسائي والدارمي عن ابن عمر وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم انف رجل ذكرت عنده فلم يصل علىّ ورغم انف رجل اتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ورغم انف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة- رواه البغوي والترمذي والحاكم وصححه ورواه مسلم واحمد بلفظ رغم انفه ثم رغم انفه ثم رغم انفه قيل من يا رسول الله قال من أدرك عنده الكبر أحدهما او كلاهما ثم لم يدخل الجنة- وعن ابى امامة ان رجلا قال يا رسول الله ما حق الوالدين على ولدهما قال هما جنتك ونارك رواه ابن ماجة وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبح لله مطيعا فى والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة وان كان واحدا فواحدا- ومن امسى عاصيا لله فى والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار وان كان واحدا فواحدا- قال رجل وان ظلماه قال وان ظلماه وان ظلماه وان ظلماه- وعنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من ولد بار ينظر والديه نظر رحمة الا كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة- قالوا وان نظر كل يوم مائة مرة- قال نعم الله اكبر وأطيب- وعن ابى بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الذنوب يغفر الله منها ما يشاء الا عقوق الوالدين فانه يعجل لصاحبه فى الحيوة قبل الممات- روى الأحاديث الثلاثة- البيهقي فى شعب الايمان والاول منها ابن عساكر- وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الذنوب يؤخر الله ما شاء منها الى يوم القيامة الا عقوق الوالدين فانه يعجل لصاحبه فى الحيوة الدنيا قبل الممات- رواه الطبراني بسند ضعيف والحاكم-.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من البر إليهما والاعتقاد بما يجب لهما من التوقير فكانه تهديد على ان يضمر لهما كراهية واستثقالا- وجاز ان(5/432)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
يقال معناه ربكم اعلم بنياتكم فى بر الوالدين ان كان ذلك احتسابا وامتثالا لامر الله تعالى فاجره على الله وان كان لغرض من اغراض الدنيا فهو على ما نوى إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ اى قاصدين الاجر عند الله والصلاح وقال البغوي ان تكونوا أبرارا مطيعين بعد تقصير كان منكم فى القيام بما لزمكم من حق الوالدين فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ اى التوابين بعد المعصية فى حقهما غَفُوراً (25) لما فرط منهم- قال سعيد بن جبير فى هذه الاية هو الرجل يكون منه البادرة الى أبويه لا يريد بذلك الا الخير فانه لا يؤاخذ به- وجاز ان يكون الاية عامة لكل تائب ويندرج فيه الجاني على أبويه لوروده على اثره- قال سعيد بن المسيب الأواب الّذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب وقال سعيد بن جبير الرجاع الى الخير- وعن ابن عباس قال هو الرجاع الى الله فيما يجزيه وينوبه- وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال هم المسبحون دليله قوله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ- وقال قتادة المصلون- وقال عوف العقيلي هم الذين يصلّون صلوة الضحى- روى البغوي عن زيد بن أرقم قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على اهل قبا وهم يصلّون الضحى فقال صلوة الاوّابين إذا رمضت الفصال من الضحى ورواه احمد ومسلم ورواه عبد بن حميد وسيبويه عن عبد الله بن ابى اوفى- قال البغوي وروى عن ابن عباس انه قال ان الملائكة لتحفّ بالذين يصلّون بين المغرب والعشاء وهى صلوة الأوابين-.
وَآتِ ذَا الْقُرْبى اى ذوى قرابتك حَقَّهُ من صلة الرحم وحسن المعاشرة والبر عليهم وعليه اكثر المفسرين- وقال ابو حنيفة يجب النفقة على الغنى لكل ذى رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا او امراة بالغة فقيرة او ذكرا زمنا او أعمى فقيرا- لان فيه ابقاء النفس وهو اصل البر والصلة- وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ- وذكر البغوي عن على بن الحسين عليهما السلام انه تعالى أراد به قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم- وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن السدىّ واخرج الطبراني وغيره عن ابى سعيد الخدري قال لما نزلت وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فاعطاها فدك- وروى ابن مردوية عن ابن(5/433)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
عباس مثله- قال ابن كثير هذا مشكل فانه يشعر بان الاية مدنية والمشهور خلافه- قلت وايضا المشهور المعتمد عليه ان فاطمة سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك فلم يعطها- كذا روى عن عمر بن عبد العزيز- ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها فاطمة لما منعها عنها الخلفاء الراشدون لا سيما على رضى الله عنه فى خلافته والله اعلم وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قد مر فى سورة البقرة وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) اى لا تنفق مالك فى المعصية- قال مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله فى الحق ما كان تبذيرا- ولو أنفق مدا فى الباطل كان تبذيرا- وسئل عن ابن مسعود عن التبذير فقال انفاق مال فى غير حقه- قال شعبة كنت امشى مع ابى إسحاق فى طريق الكوفة فاتى على جدار بنى بجص واجر فقال هذا التبذير فى قول عبد الله انفاق المال فى غير حقه.
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ اى أمثالهم فى الشرارة قال البغوي يقول العرب لكل ملازم سنة قوم هو أخوهم وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) جحودا للنعمة مبالغا فى الكفر والكفران- فليس ينبغى ان يطاع- اعلم ان الشكر على ما قاله اهل التحقيق صرف النعمة فى رضاء المنعم- والتبذير صرف المال فى المعصية فهو ضد الشكر- فمن اتى به كان كفورا والله اعلم- اخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراسانى قال جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ- ف تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً- ظنوا ذلك من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ ان شرطية وما زائدة والمعنى وان تعرض يا محمّد عَنْهُمُ يعنى عن ذوى القربى والمساكين وابن السبيل- أراد بالاعراض عدم الانفاق عليهم على سبيل الكناية- وقال البغوي نزلت فى مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسئلون النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاجون اليه- ولا يجد فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول- فنزل وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ يعنى حياء من الرد- ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ اى لاجل انتظار رزق مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ان يأتيك(5/434)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
فتعطيه او منتظرا له- وقيل معناه لفقد رزق من ربك ترجوه ان يفتح لك- فوضع الابتغاء موضع الفقدان لانه مسبب عنه- وجاز ان يكون الابتغاء متعلقا بقوله فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً (28) اى قل لهم قولا ليناكى يرحمك الله برحمتك عليهم باجمال القول- والميسور من يسر الأمر مثل سعد الرجل ونحس- قال البغوي هو العدة اى عدهم وعدا جميلا- وقيل الدعاء لهم بالميسور وهو اليسر مثل أغناكم الله ورزقنا الله وإياكم والله اعلم- اخرج سعيد بن منصور عن سيار ابى الحكم قال اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببزّ- وكان معطيا كريما فقسّمه بين الناس- فاتاه قوم فوجدوه قد فرغ منه- فانزل الله تعالى.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ واخرج ابن مردوية وغيره عن ابن مسعود قال جاء غلام الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان امّى تسئلك كذا وكذا فقال ما عندنا اليوم شيء- قال فتقول اكسنى قميصك فدفعه اليه فجلس فى البيت حاسرا- فانزل الله تعالى هذه الاية- واخرج ابن ابى حاتم عن المنهال بن عمرو بمعناه- واخرج ايضا عن ابى امامة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة انفقى ما ظهر كفى قالت اذن لا يبقى شيء فانزل الله تعالى هذه الاية- وقال البغوي قال جابر اتى صبى فقال يا رسول الله ان امّى تستكسيك درعا- ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الا قميصه- فقال للصبى من ساعة الى ساعة يظهر فعد وقتا اخر- فعاد الى امه فقالت له قل ان امّى تستكسيك الدرع الّذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه فاعطاه- وقعد عريانا فاذّن بلال بالصلوة فانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فراه عريانا فانزل الله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ يعنى لا تمسك يدك عن النفقة فى الحق كالمغلول يده لا يقدر على ردها- ولا تبسطها بالعطاء كلّ البسط فتعطى جميع ما عندك بحيث لا تقدر على أداء حقوق نفسك وأهلك ومن له الحق عليك- قال البيضاوي هذان تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذّر نهى عنهما وامر بالاقتصاد بينهما الّذي هو الكرم فَتَقْعُدَ مَلُوماً اى تصير ملوما(5/435)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
عند الله وعند الناس بالإمساك مع السعة او بالإسراف وسوء التدبير مَحْسُوراً (29) قال قتادة نادما على ما فرط منك فى الفصلين- او المعنى تصير ملوما يلومك السائلون بالإمساك إذا لم تعطهم مع السعة محسورا منقطعا بك لا شيء عندك- من حسره السفر إذا بلغ فيه- وحسرته بالمسألة إذا الحفت عليه- فيكون النشر على ترتيب اللف.
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اى يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده وليس البسط إليك وَيَقْدِرُ اى يضيق الرزق على من يشاء على ما يقتضيه حكمته- فلا لوم عليك ان أمسكت بعض ما تحتاج اليه إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) يعلم سرهم وعلانيتهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويرزقهم على حسب مصالحهم ويجوز ان يراد ان البسط والقبض من امر الله الّذي يعلم سرائرهم وظواهرهم- واما العباد فعليهم ان يقتصدوا- او يراد انه تعالى يبسط تارة ويقبض اخرى فاستنوا بسنته ولا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط- ويجوز ان يكون هذا تمهيدا لقوله.
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ يعنى البنات كما كانوا يفعلون خَشْيَةَ إِمْلاقٍ مخافة الفقر نهاهم عن القتل وضمن لهم أرزاقهم فقال نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً قرا ابن عامر برواية ابن ذكوان وابو جعفر بفتح الخاء والطاء مقصورا- وابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ممدودا- والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء- قال البغوي معنى الكل واحد اى اثما كَبِيراً (31) وقال البيضاوي على قراءة الجمهور مصدر من خطأ خطأ كاثم اثما- وعلى قراءة ابن عامر اسم من أخطأ يضاد الصواب وقيل لغة فيه كمثل ومثل وحذر وحذر- وعلى قراءة ابن كثير اما لغة او مصدر خاطا خطاء كقاتل قتالا- عن ابن مسعود قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم اىّ الذنب أعظم قال ان تجعل لله ندّا وهو خلقك- قلت ان ذلك لعظيم ثم اىّ قال ان تقتل ولدك مخافة ان تطعم معك- قلت ثم اىّ قال ان تزنى حليلة جارك- متفق عليه.
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى اى لا تأتوا بدواعيها من العزم عليه- او على بعض مقدماتها فضلا ان تباشروه إِنَّهُ اى الزنى كانَ فاحِشَةً فعلة ظاهرة القبح زائدته وَساءَ سَبِيلًا (32)(5/436)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
بئس طريقا طريقه- وهو الغصب على الابضاع المودي الى قطع الأنساب وهيجان الفتن عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان السموات السبع والأرضين السبع ليلعنّ الشيخ الزاني وان فروج الزناة لتؤذى اهل النار بنتن ريحها- رواه البزار وعن انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المقيم على الزنى كعابد وثن- رواه الخرابطى وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زنى الرجل خرج منه الايمان فكان عليه كالظلة فاذا قلع رجع اليه الايمان- رواه ابو داؤد واللفظ له والترمذي والبيهقي والحاكم وفى الصحيحين عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن-.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها من مسلم او ذمى إِلَّا بِالْحَقِّ يعنى بحد او قصاص او بغى او سب الصحابة رضى الله عنهم ونحو ذلك واما المرتد فنفسه ليست مما حرم الله قال الله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... «1» أَنْ يُقَتَّلُوا الاية- وقال الله تعالى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي- وقال الله تعالى النَّفْسَ «2» بِالنَّفْسِ- وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله الا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة- رواه الشيخان وابو داؤد والترمذي والنسائي وليس المراد بتارك دينه المولد لانه ليس بامرئ مسلم يشهد ان لا اله الا الله بل المراد به الفاني فى الهوى المفارق للجماعة من الروافض والخوارج وأمثال ذلك والله اعلم (فصل) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يقضى يوم القيامة فى الدماء- متفق عليه وعن البراء بن عازب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق- رواه ابن ماجة بسند حسن والبيهقي وزاد لو اهل سمواته واهل ارضه اشتركوا فى دم مؤمن لادخلهم الله النار- وروى النسائي من حديث بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل المؤمن
__________
(1) وفى القرآن ورسوله ويَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ ... فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا-
(2) وفى القران أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ(5/437)
أعظم عند الله من زوال الدنيا- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقى الله مكتوب بين عينيه آئس من رحمة الله- رواه ابن ماجة والاصبهانى وزاد قال ابن عيينة هو ان يقول اق لا يتم كلمة اقتل- واخرج البيهقي من حديث ابن عمر نحوه وعن معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذنب عسى الله ان يغفره الا الرجل يموت كافرا او يقتل مؤمنا متعمدا- رواه النسائي وصححه الحاكم واخرج ابو داؤد وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابى الدرداء نحوه- وعن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح إبليس بث جنوده من أضل اليوم مسلما البسه التاج قال فيجيء هذا فيقول لم ازل به حتّى طلق امرأته- فيقول او شك ان يتزوج- قال ويجيء هذا فيقول لم ازل «1» به حتّى عق والديه- فيقول أوشك ان يبرهما- ويجيء هذا فيقول لم ازل به حتّى أشرك فيقول أنت أنت ويجيء هذا فيقول لم ازل به حتّى قتل فيقول أنت أنت ويلبسه التاج رواه ابن حبان فى صحيحه وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً غير مستوجب للقتل عمدا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ اى لمن يلى امره بعد وفاته وهو الوارث سُلْطاناً اى قوة وتسلطا بالمؤاخذة بالقصاص فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قرا حمزة والكسائي لا تسرف بالتاء الفوقانية على الخطاب- والباقون بالياء التحتانية على الغيبة- قيل الخطاب للقاتل والضمير راجع اليه- يعنى لا يسرف القاتل فى القتل بان يقتل من لا يحق قتله فان العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك فى الدنيا والاخرة- وقال ابن عباس واكثر المفسرين الخطاب والضمير لولى المقتول والمعنى لا يقتل الولي غير القاتل- وذلك انهم كانوا فى الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتّى يقتلوا اشرف منه- وقال سعيد بن جبير إذا كان القاتل واحدا فلا يقتل جماعة بدل واحد وكان اهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا يرضون بقتل القاتل وحده حتّى يقتلوا معه جماعة من أقربائه- وقال قتادة معناه لا يمثّل بالقاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) قال مجاهد الضمير راجع الى من قتل ظلما يعنى ان المقتول ظلما منصور فى الدنيا بايجاب القواد على قاتله- وفى الاخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله- وقال قتادة الضمير
__________
(1) وفى الأصل لم ازل حتّى قتل-(5/438)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
راجع الى وليه يعنى انه منصور على القاتل باستيفاء القصاص منه- يجب على الائمة نصره وقيل الضمير راجع الى الّذي يقتله الولي إسرافا بايجاب القصاص والوزر على المسرف-.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلا ان تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي اى بالطريقة الّتي هِيَ أَحْسَنُ الطرق من محافظة مال اليتيم والتجارة فيه لاجله حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرف الصالح الّذي دل عليه الاستثناء وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ اى بما عاهدكم الله من تكاليفه وما عاهدتم الناس عهدا مشروعا إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا (34) اى مطلوبا يطلب من العاهد ان لا يضيعه ويفىء به او مسئولا عنه فيسئل عن الناكث ويعاتب عليه او يسئل العهد تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة باىّ ذنب قتلت ويجوز ان يراد صاحب العهد بحذف المضاف.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ولا تبخسوا فيه وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ قرا حمزة والكسائي وحفص هنا وفى الشعراء بكسر القاف والباقون بضمها وهو الميزان- قال مجاهد هو لفظ رومى عرّب- ولا يقدح ذلك فى كون القران عربيا لان اللفظ العجمي إذا استعمل فى الكلام العربي واجرى عليه ما يجرى على العربي من الاعراب والتعريف والتنكير صار عربيّا- وقال الأكثر هو عربى ماخوذ من القسط بمعنى العدل الْمُسْتَقِيمِ السوي ذلِكَ خَيْرٌ فى الدنيا وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) اى عاقبة تفعيل من ال إذا رجع.
وَلا تَقْفُ اى لا تتبع من قفا يقفوا إذا تبع اثره- ومنه القافة لتتبّعهم الآثار ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اى ما لم يتعلق به علمك بالحس او الخبر الصادق او البرهان- احتج بهذه الاية من قال انه لا يجوز العمل بالادلة الظنّية- وجوابه ان المراد بالعلم هاهنا الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعيّا او ظنيّا واستعماله بهذا المعنى شائع- وقيل انه مخصوص بالعقائد- وقيل برمى المحصنات وشهادة الزور قال مجاهد معناه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم- وقال قتادة معناه لا تقل رايت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمته ولم تعلمه- قلت وجوب العمل بأحاديث الآحاد(5/439)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
الجامعة للشرائط فى الرواة والقياس الصحيح والحكم بشهادة رجلين او رجل وامرأتين ثبت بالادلة القطعية من النصوص والإجماع- كقوله تعالى فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا- وقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ- وقوله تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ الاية- وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يرسل احاد الصحابة لتبليغ الاحكام فاتباعها اتباع للعلم لاستناد الظن بالعلم والله اعلم إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (36) ضمير عنه راجع الى مصدر لا تقف يعنى كل واحد من هذه الأعضاء كان عن ذلك القفوة والاتباع مسئولا- او الضمير راجع الى كلّ يعنى كل من هذه الأعضاء كان مسئولا عن نفسه يعنى عما فعل به صاحبه- او الضمير راجع الى صاحب السمع والبصر يعنى كل هذه الأعضاء يسئل عن صاحبها فيسئل السمع انه هل سمع صاحبه ما قال سمعته- ويسئل البصر هل ابصر صاحبه ما قال رايت- ويسئل القلب هل علم صاحبه ما قال علمت- عن شكل بن حميد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا نبى الله علمنى تعويذا أتعوذ به فاخذ بيدي فقال قل أعوذ بك من شر سمعى ومن شر بصرى وشر لسانى وشر قلبى وشر منيّى- قال حفظتها رواه الترمذي وابو داؤد والنسائي والحاكم وصححه والبغوي قال سعيد يعنى راوى الحديث المنى ماؤه يعنى يضع ماءه فى ما لا يحل- والأعضاء لما كانت مسئولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها أجريت مجرى العقلاء واطلق عليها لفظ أولئك- او يقال ان أولاء وان غلبت فى العقلاء لكنه من حيث انه اسم جمع لذا وهو يعم القبيلتين جاء لغيرهم- وخص الأعضاء الثلاثة بالذكر لانها آلات لتحصيل العلوم الّتي يجب الحصر على اتباعها فان اكثر المحسوسات يدرك بالسمع والبصر- والمعقولات بأسرها تدرك بالقلب-.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً اى ذا مرح وهو الكبر والاختيال إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بشدة وطأتك وتكبرك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (37) بتطاولك واستعلائك وهو تهكم بالمختال وتعليل للنهى بان الاختيال حماقة محضة لا تفيد أصلا ولا يقدر المختال على شيء أصلا الا بمشية الله- عن عياض بن حمار(5/440)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
المجاشعي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الله اوحى الىّ ان تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد- رواه مسلم وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر- الحديث رواه مسلم وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته النار- رواه مسلم وعن سلمة بن الأكوع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتّى يكتب فى الجبارين فيصيبه ما أصابهم- رواه الترمذي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة فى صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون الى سجن فى جهنم يسمى بونس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة اهل النار طينة الخبال- رواه الترمذي وعن اسماء بنت عميس قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس العبد عبد تخيل واختال ونسى الكبير المتعال الحديث- رواه الترمذي والبيهقي فى شعب للايمان وعن عمر قال وهو على المنبر يا ايها الناس فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من تواضع لله رفعه الله فهو فى نفسه صغير وفى أعين الناس كبير ومن تكبر وضعه الله فهو فى أعين الناس صغير وفى نفسه كبير حتّى لهو أهون عليهم من كلب او خنزير والله اعلم- اخرج ابن جرير عن ابن عباس رضى الله عنهما انه قال ان التورية كلها فى خمس عشرة اية من بنى إسرائيل ثم قرا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآيات.
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ قرا الكوفيون وابن عامر بضم الهمزة والهاء على التذكير مرفوعا على انه اسم كان وما بعده خبره- فذلك اشارة الى الخصال المذكورة من قوله تعالى.
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وضمير سيّئه راجع الى الكل- أضاف السىّء الى الكل يعنى ان المنهي عن الأشياء المذكورة فان من الأشياء المذكورة مأمورات ومنهيات- وقرا اهل الحجاز والبصرة سيّئة بفتح التاء للتانيث مع التنوين منصوبا على انه خبر كان- والاسم ضمير كل وذلك اشارة الى ما نهى عنه خاصة من قوله وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ(5/441)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
الى هنا فانها سيئات لا حسنة فيها وعلى هذا قوله عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) بدل من سيئة او صفة لها محمولة على المعنى فانه بمعنى سيئا- ويجوز ان يكون مكروها منصوبا على الحال من المستكن فى كان او فى الظرف على انه صفة سيئة والمراد بالمكروه المبغوض المقابل للمرضى ذلِكَ اى الاحكام المتقدّمة مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ فى القاموس الحكمة بالكسر العدل والعلم والحلم بمعنى الاناءة والعقل والنبوة والقران والإنجيل- قلت والمراد هاهنا العلم النافع وَلا تَجْعَلْ ايها الإنسان مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرره للتنبيه على ان التوحيد مبدا الأمر وشرط لصحة الأعمال كلها ومنتهاه فانه من قصد بفعله او تركه غير وجه الله ضاع سعيه وانه رأس الحكمة وملاكها- فالتوحيد علم مقصود بذاته والعلوم غيره مقصودة للعمل ورتب عليه اولا ما هو عائدة الشرك فى الدنيا وثانيا ما هو نتيجته فى العقبى فقال فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً تلوم نفسك ويلومك الله والخلائق كلها مَدْحُوراً (39) مبعدا عن رحمة الله.
أَفَأَصْفاكُمْ خطاب لمن قال الملائكة بنات الله- والاستفهام للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره اجعل لكم البنين فاصفاكم اختاركم رَبُّكُمْ بما هو الصفوة من الأولاد اى بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ لنفسه بناتا مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً وهذا خلاف ما عليه عقولكم وعادتكم إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً (40) فى القباحة حيث تنسبون الأولاد اليه تعالى وهى من خواص بعض الأجسام الّتي يتطرق إليها سرعة الزوال ثم تجعلون له تعالى من الأولاد أدون الصنفين ثم تجعلون الملائكة الذين هم الطف خلق الله أدونها-.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا اى كررنا هذا المعنى بوجوه من التقرير فِي مواضع عديدة من هذَا الْقُرْآنِ او المعنى ولقد كررنا بوجوه من التقرير ما ذكرنا فى هذا القران من العبر والحكم والأمثال والاحكام والحجج والتذكير- ويجوز ان يراد بهذا القران ابطال نسبة الولد لا سيما البنات اليه تعالى- والتقدير ولقد صرفنا القول فى هذا المعنى والتشديد فى صرفنا للتكثير لِيَذَّكَّرُوا قرا الجمهور بتشديد الذال من التذكر اى ليتعظوا فلا ينسبوا(5/442)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
الى الله تعالى ما لا يليق به- ويأتوا بما أمروا وينتهوا عما نهوا عنه- وقرا حمزة والكسائي بسكون الذال وضم الكاف وكذلك فى الفرقان من الذكر وهو ايضا بمعنى التذكر وَما يَزِيدُهُمْ تصريفنا وتذكيرنا شيئا إِلَّا نُفُوراً (41) اى ذهابا عن الحق وتباعدا.
قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ قرا ابن كثير وحفص بالياء على الغيبة على ان الكلام مع الرسول والباقون بالتاء على الخطاب للمشركين إِذاً اى إذا كان كذلك ظرف لما بعده لَابْتَغَوْا لطلبوا إِلى ذِي الْعَرْشِ الّذي هو مالك الملك سَبِيلًا (42) بالمغالبة والقهر كما هو عادة الملوك وإمكان التمانع ثابت بالبداهة والتمانع يستلزم عجز أحدهما او كليهما وهو مناف للالوهية- والجملة جواب لقولهم وجزاء للو.
سُبْحانَهُ تنزه الله تنزيها عن التمانع والعجز المنافى للالوهية وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ اى المشركون عُلُوًّا اى تعاليا كَبِيراً (43) اى تباعدا غاية البعد فانه تعالى فى أعلى مراتب الوجود والبقاء كذاته- واتخاذ الولد من ادنى مراتبه فانه من خواص ما يتسارع اليه الفناء- والمشاركة من ادنى مراتب المالكية- قرا حمزة والكسائي تقولون بالتاء خطابا للمشركين والباقون بالياء للغيبة على انه تعالى تنزه به نفسه عن مقالتهم-.
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قرا ابو عمرو وحفص وحمزة والكسائي ويعقوب تسبح بالتاء لتأنيث الفاعل والباقون بالياء التحتانية للحائل وكون التأنيث غير حقيقى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ له اى ينزهه عما هو من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث ومناف للالوهية «1» متلبسا بِحَمْدِهِ على جمال ذاته وكمال صفاته وتواتر انعاماته بلسان المقال الّتي أعطاها الله إياه ويسمعها من اعطى الله سبحانه سماعا لقلبه- عن عبد الله بن مسعود قال كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا- كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر فقلّ الماء فقال اطلبوا فضلة من ماء فجاءوا باناء فيه ماء قليل- فادخل يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فى الإناء ثم قال حى على الطهور المبارك والبركة من الله- فلقد رايت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل- رواه البخاري وقال
__________
(1) وفى الأصل ملتبسا [.....](5/443)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
مجاهد كل الأشياء تسبح لله حيّا كان او جمادا وتسبيحها سبحان الله وبحمده- وقال ابراهيم النخعي وان من شيء جماد اوحى الا يسبح بحمده حتّى صرير الباب ونقيض السقف- وحصر بعضهم التسبيح على الحي من الأشياء- وقال قتادة تسبح «1» الحيوانات والناميات- وقال عكرمة الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح- ولا وجه للقول بالتخصيص وقد صح حنين الاسطوانة بمفارقة النبي صلى الله عليه وسلم- وقال الله تعالى يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الجبال ينادى الجبل هل مربك أحد ذكر الله فاذا قال نعم استبشر- رواه الطبراني عن ابن مسعود وايضا يسبح كل شيء بلسان الحال حيث يدل بامكانها وحدوثها على الصانع القديم الواجب الوجود لذاته المنزه عما لا يليق به من النقص والزوال المتصف بصفات الكمال- والاقتصار على القول بأحد النوعين من التسبيح تقصير وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ ايها الناس يعنى أكثرهم تَسْبِيحَهُمْ المقالى والمشركون لكمال غباوتهم والعمه غافلون عن التسبيح الحالي ايضا إِنَّهُ كانَ حَلِيماً لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم غَفُوراً (44) لمن تاب منكم اخرج ابن المنذر عن ابن شهاب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا القران على مشركى قريش ودعاهم الى الله- قالوا (يهزءون به) قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ «2» بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ- فانزل الله تعالى فى ذلك من قولهم.
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً يحجب القلوب عن فهمه والانتفاع به قال قتادة هو الاكنة مَسْتُوراً (45) ذلك الحجاب عن الحس او مستورا بحجاب اخر حيث لا يفهمون ولا يفهون انهم لا يفهمون- وقيل المستور هاهنا بمعنى الساتر كما فى قوله تعالى كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا يعنى آتيا- وفسر بعضهم بالحجاب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الناس يحجبه صلى الله عليه وسلم عن الأعين الظاهرة كما
__________
(1) عن عمر بن الخطاب قال لا تلطموا وجوه الدواب فان كل شيء يسبح بحمده- وعن ميمون بن مهران قال اتى ابو بكر الصديق بغراب وافر الجناحين فجعل ينشر جناحيه ويقول ما صيد من صيد ولا عضدت من شجرة الا بما ضيّعت من التسبيح- وروى نحوه الزهري وقال اتى ابو بكر بغراب الحديث 12 ازالة الخفا منه رحمه الله-
(2) وفى الأصل وبيننا بينك حجاب-(5/444)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
قال البغوي انه روى عن سعيد بن جبير انه لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ جاءت امراة ابى لهب ومعها حجر والنبي صلى الله عليه وسلم مع ابى بكر فلم تره- فقالت لابى بكر اين صاحبك بلغني انه هجانى فقال والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله- فرجعت وهى تقول قد كنت أتيت بهذا الحجر لارضخ به رأسه- فقال ابو بكر ما راتك يا رسول الله قال لا لم يزل ملك بينى وبينها يسترنى- قلت فحينئذ الاية واقعة حال إذ لم يكن انه صلى الله عليه وسلم كلما قرا القران لا يراه الكفار.
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً اغطية تكنها وتحول دونها عن ادراك الحق وقبوله أَنْ يَفْقَهُوهُ اى كراهة ان يفقهوه او لئلا يفقهوه- ويجوز ان يكون مفعولا لما دل عليه قوله وجعلنا على قلوبهم اكنة اى منعناهم ان يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنعهم عن السماعة سماع قبول ولما كان القران معجزا من حيث اللفظ والمعنى اثبت لمنكريه مانعا عن فهم المعنى وعن ادراك حسن النظم وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ غير مشفوع به الهتهم مصدر وقع موقع الحال وأصله واحدا وحده وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) عنه هربا من استماع التوحيد ونفرة فهو منصوب على العلية او نفورا يعنى تولية فهو منصوب على المصدرية- او نفورا يعنى نافرين جمع نافر كعاقد وعقود منصوب على الحال.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ اى نحن اعلم بالحال او بالطريقة الّتي يستمعون القران بسببه ولاجله او متلبسا به من الاستهزاء بك وبالقران فمفعول يستمعون محذوف وبه صلة او حال وبيان لما اى يستمعون القران للاستهزاء او هازئين والواجب ان يستمعوه جادين إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وأنت تقرا القران ظرف لا علم وكذا وَإِذْ هُمْ نَجْوى مصدر بمعنى الفاعل او محمول بتقدير ذو- او جمع نجى يعنى نحن اعلم بغرضهم من الاستماع حين هم يستمعون إليك مضمرون له- او حين هم يتناجون بينهم اى يتحدثون او ذووا نجوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ يعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه- او بدل من(5/445)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
إذ قبله وضع المظهر اى لفظ الظالمين موضع المضمر للدلالة على ان قولهم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (47) ظلم والمسحور الّذي سحر به فزال عقله- وقال مجاهد مخدوعا وقيل مصروفا عن الحق يقال ما سحرك عن كذا يعنى ما صرفك وقال ابو عبيد يعنى ذا سحر والسحر الرية يعنى بشرا ذا رية مثلكم يأكل ويشرب ويتنفس.
انْظُرْ يا محمّد كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فقال بعضهم ساعر وقال بعضهم ساحر او مسحور وقال بعضهم كاهن وقال بعضهم مجنون فَضَلُّوا عن الحق حيث ضربوا أمثالا لا مصداق لها أصلا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) الى الحق والرشاد حيث جعل الله على قلوبهم اكنة- او المعنى لا يستطيعون سبيلا الى ما يريدون من الطعن الموجه بل يأتون طعنا غير موجه- فيتها فتون ويخبطون فى امره كالمتحير فى امره لا يدرى ما يصنع-.
وَقالُوا يعنى مشركى مكة أَإِذا كُنَّا عِظاماً بعد الموت وَرُفاتاً وهو ما تكسر وبلى من كل شيء كالفتات والحطام فى القاموس رفته يرفته كسره ودقّه وانكسروا ندق لازم ومتعدو كغراب الحطّام- وقال مجاهد يعنى ترابا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) مجدّدا انكار واستبعاد لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم من المنافاة- وخلقا منصوب على المصدرية من مبعوثين- او حال من النائب مناب فاعله والعامل فى إذا ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لان ما بعد انّ لا يعمل فيما قبلها.
قُلْ يا محمّد جوابا لهم كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً اى مخلوقا اخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ اى من جنس ما يبعد عندكم من قبول الحيوة حتّى يكون ابعد فى الصدور لقبول الحيوة من العظام الرميمة كالسموات والأرضين والجبال- فان الله قادر على احيائكم على ذلك التقدير ايضا لاشتراك الأجسام فى قبول الاعراض فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل ذلك والشيء اقرب للقبول بما عهد فيه مما لم يعهد وليس هذا امر تكليف والزام بل امر تقدير اى افرضوا أنفسكم حجارة او حديدا(5/446)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
فى الشدة وقوة الجمادية بحيث لا يقبل الحيوة فى زعمكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا حيّا بعد الموت قُلِ يعيدكم حيّا بعد الموت الَّذِي فَطَرَكُمْ خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ وقد كنتم ترابا وهو ابعد من الحيوة- وليس أول الخلق باهون من الاعادة فَسَيُنْغِضُونَ اى يحركون إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ تعجبا واستهزاء وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ هو اى بعثكم واعادتكم حيّا قَرِيباً (51) فان كل ما هو ات قريب- او المعنى يكون اقرب زمانا من بدء خلق العالم- وقريبا منصوب على الخبر وجاز ان يكون اسم عسى مضمرا وان يكون خبره وقريبا منصوب على الظرف اى فى زمان قريب-.
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ اى فتجيبون من القبور بدل من قوله قريبا على تقدير كونه خبرا او ظرفا- او هو منصوب باذكر اى يوم يدعوكم الله من القبور الى موقف القيامة للمحاسبة على لسان اسرافيل عليه السلام فتجيبونه وقيل معناه يبعثكم فتبعثون استعار لهما الدعاء والاستجابة للتنبيه على سرعتهما والمقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء بِحَمْدِهِ حال من فاعل تستجيبون اى حامدين على كمال قدرته مقرين بانه «1» خالقهم وباعثهم يحمدون حين لا ينفعهم الحمد- او المعنى منقادين لبعته انقياد الحامدين عليه- وقيل هذا خطاب مع المؤمنين فانهم يبعثون حامدين بخلاف الكفار- فانهم يبعثون قائلين يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ... يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ- روى الختلي فى الديباج عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أخبرني جبرئيل انّ لا اله الا الله انس للمسلم عند موته وفى قبره وحين يخرج من قبره يا محمّد لو تراهم حين يقومون من قبورهم ينفضون رءوسهم- هذا يقول لا اله الا الله والحمد لله فيبيض وجهه- وهذا ينادى يحسرتى على ما فرّطتّ فى جنب الله مسودة وجوههم- وروى الطبراني وابن ابى حاتم وابن مردوية عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على اهل لا اله الا الله وحشة فى الموت ولا فى القبور ولا فى
__________
(1) وفى الأصل بانهم خالقهم-(5/447)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
النشور- كانى انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ- واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير نحوه وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ فى الدنيا او فى القبور إِلَّا قَلِيلًا (52) لما يرون من الهول قال قتادة يستحقرون مدة الدنيا فى جنب القيامة- قال الكلبي كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله عز وجل.
وَقُلْ يا محمّد لِعِبادِي المؤمنين يَقُولُوا الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الكلمات يعنى الدعوة الى الإسلام وقول لا اله الا الله بالرفق واللين واقامة البراهين واظهار النصح بلا خشونة مع المشركين ولا ان تكافؤهم بسفههم- وقال الحسن يقول له يهديك الله وكان هذا قبل الاذن فى القتال- وقيل نزلت فى عمر بن الخطاب رضى الله عنه شتمه بعض الكفار فامره بالعفو- وقيل امر الله المؤمنين بان يقولوا ويفعلوا الكلمة والخلة الّتي هى احسن الكلمات والخلل- وقيل الأحسن كلمة الإخلاص لا اله الا الله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ النزغ إيقاع الشر وإفساد ذات البين- يعنى لا يقولوا ما يتطرق اليه الشيطان بالفساد فيفسد ويلقى العداوة بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) ظاهر العداوة فيفضى الكفار الى جهنم ويفضى المؤمنين الى الشر العاجل.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ اى يوفقكم للايمان فيرحمكم أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ اى يميتكم على الشرك فيعذبكم كذا قال ابن جريج- قيل هذا تفسير للّتى هى احسن وما بينهما اعتراض- اى قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها يعنى لا تسافهوهم ولا تشاتموهم ولا تصرحوا بانكم من اهل النار- فانه يهجّهم على الشر مع ان اختتام أمرهم غيب لا يعلمه الا الله- وقال الكلبي هذا خطاب من الله للمؤمنين والمعنى إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فينجيكم من اهل مكة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيسلطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ يا محمّد عَلَيْهِمْ يعنى على الكفار وَكِيلًا (54) موكولا إليك أمرهم حتّى تكرههم على الايمان وتهتم بكفرهم انما أرسلناك مبشرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك(5/448)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
باحتمال الأذى منهم-.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غيره يعلم من هو اهل لنبوته وولايته ومخلوق ومجبول للسعادة ومن هو على نقيض ذلك- فهو رد لاستبعاد قريش ان يكون يتيم ابى طالب نبيّا ويكون فقراء الناس كبلال وصهيب أولياءه ومن اهل الجنة ويكون شرفاء قريش من اهل النار وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية والتبرّى عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والأولاد ونحو ذلك- قال قتادة فى هذه الاية اتخذ الله ابراهيم خليلا وكلم موسى تكليما وقال لعيسى كن فكان (قلت كلمه فى المهد صبيّا وأتاه الكتاب والحكمة وعلمه التورية والإنجيل وأيده بروح القدس) قال واتى سليمان ملكا لا ينبغى لاحد من بعده يعنى سخر له الجن والانس والشياطين مقرنين فى الأصفاد واتى داؤد زبورا كما قال وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) يعنى فضله بما اوحى اليه من الكتاب لا بما اوتى من الملك- ففى هذه الاية رد على ما أنكر كفار مكة فضل النبي صلى الله عليه وسلم بان فضل الأنبياء انما كان بالفضائل النفسانية والتبرّى عن العلائق الجسمانية والعلوم الموحى إليهم ومراتب القرب من الله تعالى وشيوع الهداية لا بكثرة الأموال والأولاد ونحو ذلك- فالله سبحانه فضله على سائر النبيين بجعله خاتم النبيين وأمته خير الأمم المذلول عليه ما كتب فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ- وأعطاه القران اقل حجما واكثر علما واظهر معجزة- ورفعه درجات دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى - قال البغوي الزبور كتاب علمه الله داود يشتمل على مائة وخمسين سورة كلها دعاء وتحميد وثناء على الله عز وجل ليس فيها حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود انتهى- وتنكيره هاهنا وتعريفه فى قوله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ لانه فى الأصل فعول للمفعول كالودود بمعنى المودود- او للمصدر كالقبول ويؤيده قراءة حمزة بالضم فهو كالعباس والفضل- او لان المراد بعض الزبور او بعضا من الزبور فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم اخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال كان ناس من الانس يعبدون(5/449)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
ناسا من الجن فاسلم الجنيون واستمسك الآخرون بعبادتهم فانزل الله تعالى.
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انها الهة مِنْ دُونِهِ من الجن فَلا يَمْلِكُونَ اى لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ كالمرض والفقر والقحط وَلا تَحْوِيلًا (56) اى تحويل ذلك منكم الى غيركم.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ اى يدعوهم المشركون الهة ويعبدونهم من الجن يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ حيث أمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون الى الله القربة بالطاعة- وقيل الوسيلة التوصل الى شيء برغبة وهى أخص من الوصيلة لتضمنها معنى الرغبة- فالوسيلة الى الله مراعاة سبيله بالعلم والعمل وتحرى مكارم الشريعة فهى القربة- وفى القاموس الوسيلة والواسلة المنزلة عند الملك الدرجة والقربة ووسّل الى الله تعالى توسّلا عمل عملا تقرب به اليه أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بدل من واو يبتغون اى يبتغى من هو اقرب منهم الى الله الوسيلة فكيف بغير الأقرب كذا قال الزجاج- وقيل معناه يطلبون أيهم اقرب الى الله فيتوسلون به او ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكانه قال يحرصون أيهم يكون اقرب الى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ فكيف يزعمون انها الهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) حقيقا بان يحذره كل أحد حتّى الرسل والملائكة- وقال البيضاوي المراد ان الذين زعمتم انها الهة من دونه كالملائكة والمسيح وعزير لا يملكون كشف الضر ويبتغى أقربهم الى الله الوسيلة قال ابن عباس ومجاهد عيسى وامه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم يطلبون إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ... وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ وقال البغوي أصاب المشركين قحط شديد حتّى أكلوا الميتة والجيف فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم فانزل الله تعالى قُلِ للمشركين ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انها الهة من دون الله فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ-.
وَإِنْ اى ما مِنْ قَرْيَةٍ من القرى إِلَّا قرية نَحْنُ مُهْلِكُوها اى مخربوها ومهلكوا أهلها بالموت قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها(5/450)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
عَذاباً شَدِيداً
إذا كفروا وعصوا قال مقاتل وغيره يعنى مهلكوها فى حق المؤمنين بالاماتة او معذبوها فى حق الكفار بانواع العذاب قال ابن مسعود إذا ظهر الزنى والربوا فى قرية اذن الله فى هلاكها كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ اى فى اللوح المحفوظ مَسْطُوراً (58) مكتوبا عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال ما اكتب قال اكتب القدر فكتب ما كان وما هو كائن الى الابد رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب اسنادا والله اعلم- اخرج الطبراني والحاكم عن ابن عباس والطبراني وابن مردوية عن ابن الزبير نحوه ابسط منه انه سال اهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم ان يجعل لهم الصفا ذهبا وان ينحى عنهم الجبال فيزرعوا فاوحى الله الى رسوله ان شئت ان أستأني بهم فعلت وان شئت ان أوتيهم ما سالوا فعلت فان لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل تستانّ بهم فانزل الله عز وجل.
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ الّتي سالها الكفار استعير المنع لترك إرسال الآيات وان مع صلتها فى موضع النصب على انه مفعول ثان لمنعنا إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا اى بالآيات المقترحة المستثنى فى محل الرفع بمنعنا الْأَوَّلُونَ اى كفار الأمم السابقة الذين كفار مكة أمثالهم فى الطبع والعادة فاهلكوا- وانه لو أرسلنا بالآيات لكذّب هؤلاء كما كذّب أولئك فيهلك هؤلاء كما أهلك أولئك- لان من سنتنا فى الأمم انهم إذ سالوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إرسال الآيات ان نهلكهم ولا نمهلهم- وقد حكمنا بامهال هذه الامة قال الله تعالى بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بسبب تكذيب الآيات المقترحة فقال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ بسوالهم مُبْصِرَةً اى اية بينة ذات أبصار فَظَلَمُوا اى كفروا بِهَا او ظلموا أنفسهم بعقرها فاهلكوا وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة الباء زائدة إِلَّا تَخْوِيفاً (59) من نزول العذاب المستأصل فى الدنيا- فان لم يخافوا نزل بهم العذاب فى الدنيا- او المعنى ما نرسل بالآيات الّتي نرسلها يعنى غير المقترحة من المعجزات او آيات القران إِلَّا تَخْوِيفاً بعذاب الاخرة(5/451)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
منصوب على العلية وجاز ان يكون بالآيات فى موضع الحال ويكون المفعول محذوفا- اى ما نرسل الرسل متلبسين بالآيات الا لاجل التخويف من عذاب الاخرة.
وَإِذْ قُلْنا لَكَ اى اذكر إذا وحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ذاتا وعلما وقدرة فلا تبال أحدا منهم وبلّغ ما أرسلت به- او المعنى أحاط بقريش بمعنى اهلكهم من أحاط بهم العدو- فهو بشارة بوقعة بدر والتعبير بلفظ الماضي لتحقق وقوعه والله اعلم- اخرج ابو يعلى عن أم هانى وابن المنذر عن الحسن نحوه انه صلى الله عليه وسلم لما اسرى به يعنى ليلة المعراج أصبح يحدث نفرا من قريش وهم يستهزءون به- فطلبوا منه اية فوصف لهم بيت المقدس وذكر لهم قصة العير- فقال الوليد بن المغيرة هذا ساحر- فانزل الله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ليلة المعراج من الآيات إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ حيث أنكرها كفار مكة وارتد ناس ممن أمن به- ومن هذه الاية قال من قال ان المعراج كان بالمنام اسرى بروحه دون بدنه كما ذكرنا قول عائشة ويدل عليه حديث رواه البخاري وقال ابن عباس المراد بالرؤيا هاهنا رؤيا عين وهو قول سعيد ابن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريح والأكثرين «1» - والعرب يقول رايت بعيني رؤية ورؤيا- وقال بعضهم كان له صلى الله عليه وسلم معراجان معراج رؤية بالعين ومعراج رؤية بالقلب- واخرج ابن مردوية عن الحسين بن على عليهما السلام ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوما مهموما فقيل مالك يا رسول الله قال انى رايت فى المنام كانّ بنى امية يتعاورون منبرى هذا- فقيل يا رسول الله لا تهتم فانها دنيا تنالهم فانزل الله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ والمراد بالفتنة على هذا ما حدث فى ايامهم من البدعة والفسوق- وأخرجه ابن جرير من حديث سهل بن سعد بلفظ راى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى فلان ينزون على منبره نزوة القردة فساءه ذلك فانزل الله ذلك وأخرجه ابن ابى حاتم من حديث عمرو بن العاص ومن حديث يعلى بن مرة واخرج ابن ابى حاتم وابن مردوية والبيهقي فى الدلائل عن سعيد بن المسيب مرسلا قال راى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى امية على المنابر فساءه»
__________
(1) فى الأصل والأكثرون-
(2) عن ابن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال رايت ولد الحكم بن ابى العاص على المنابر كانهم القردة وانزل الله فى ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ يعنى الحكم وولده وروى تريب من ذلك عن سهل بن سعد ومعلى بن مرة والحسين بن على وسعيد بن المسيب وعائشة- منه رحمه الله(5/452)
ذلك فاوحى الله اليه انما أعطوها فقرت عينه- وأسانيد هذه الأحاديث ضعيفة- وقال قوم أراد بهذا الرؤيا ما راى النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية انه دخل مكة هو وأصحابه فعجّل السير الى مكة قبل للاجل فصده المشركون فرجع فكان رجوعه فى ذلك العام بعد ما اخبر انه يدخلها فتنة وموجبا للشك لبعض الناس حتّى دخلها فى العام المقبل فانزل الله تعالى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ- قال البيضاوي وفيه نظر إذ الاية مكية الا ان يقال راها بمكة وحكاها حينئذ قلت وهو ايضا غير سديد وقال لعله رؤيا راها ما كان فى وقعة بدر كقوله إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا فقد روى انه لما ورد ماءه قال لكانّى انظر الى مصارع القوم هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت به قريش واستسحروا منه- وَالشَّجَرَةَ يعنى شجرة الزقوم عطف على الرؤيا يعنى وما جعلنا الشجرة الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الا فتنة للناس قال البغوي وذلك الفتنة من وجهين أحدهما ان أبا جهل قال ان ابن كبشة يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم انها تنبت فيها شجرة وتعلمون ان النار تحرق الشجرة- ولم يشعر السفيه ان من قدر على ان يحفظ دبر السمندل من ان يحرقه النار وأحشاء النعامة من أذى الحمر وقطع الحديد المحماة الّتي تبلعها قادر على ان يخلق فى النار شجرة لا يحرقها- قال فى المدارك السمندل دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا توسخت طرحت فى النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالما لا يعمل فيه النار- وفى القاموس هو طائر ببلاد الهند لا يحترق بالنار- ثانيهما ان ابن الزبعرى قال ان محمّدا يخوّفنا بالزقوم؟؟؟
عرف الزقوم الا الزبد والتمر- فقال ابو جهل يا جارية تعالى زقّمينا فاتت بالزبد والتمر فقال يا قوم تزقموا فان هذا ما يخوّفكم به محمّد فوصفه الله فى الصافات- واخرج ابن ابى حاتم والبيهقي فى البعث عن ابن عباس قال لما ذكر الله الزقوم وخوّف به هذا الحي من قريش قال ابو جهل هل تدرون ما هذا الزقوم الّذي يخوّفكم به محمّد قالوا لا قال عجوة يثرب بالزبد اما لان أمكننا منها لنتزقّمنّها تزقما فانزل الله تعالى وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ الاية وانزل إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ- ولعنها فى القران بمعنى لعن طاعمها وصفه به على المجاز للمبالغة او وصّفها به لانها فى اصل الجحيم وهو ابعد مكان من الرحمة- او لانها مكروهة(5/453)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
مؤذية يقول العرب لكل طعام كريه ضار ملعون وقد اولت بالشيطان وابى جهل والحكم بن ابى العاص وَنُخَوِّفُهُمْ بانواع التخويف فَما يَزِيدُهُمْ تخويفنا شيئا إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (60) اى تمردا وعتوا عظيما-.
وَاذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) اى لمن خلقته من طين فنصبه بنزع الخافض او على التميز- ويجوز ان يكون حالا من الراجع المحذوف الى الموصول اى خلقته وهو طين وحمله باعتبار ما كان او وهو من طين- وفيه على الوجوه ايماء لعلة الإنكار- قال البغوي وذلك ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس ان الله بعث إبليس حتّى أخذ كفّا من تراب الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فمن خلقه من العذب فهو سعيد وان كان ابن كافرين ومن خلقه من الملح فهو شقى وان كان ابن نبيين- وروى احمد والترمذي وابو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن ابى موسى الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوا آدم من قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب.
قالَ إبليس أَرَأَيْتَكَ الكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الاعراب هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ هذا مفعول أول لا رايت والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة صلته عليه- والمعنى أخبرني عن هذا الّذي كرمته علىّ وتأمرونى بالسجود له لم كرّمته علىّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ اثبت الياء فى الحالين ابن كثير وأثبتها فى الوصل فقط نافع وابو عمرو وحذفها الباقون فى الحالين والمعنى لان أمهلتني ولا تميتنى إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ولهذا كلام مبتدا واللام موطية للقسم وجوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ اى لاستأصلنّهم بالإغواء من احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله- او المعنى لاقودنّهم كيف شئت واستولينّ عليهم من قول العرب حنك الدابة يحنكها إذا شد فى حنكها الأسفل حبلا يقودها- فى القاموس احتنكه استولى عليه والجراد الأرض أكلت ما عليها إِلَّا قَلِيلًا (62) يعنى المعصومين الذين استثناهم الله تعالى وقال إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قال البيضاوي انما علم ان ذلك يتسهل له اما استنباطا(5/454)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
من قول الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها مع التقرير او تفرسا من خلقته ذا وهم وغضب وشهوة-.
قالَ الله تعالى اذْهَبْ امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه ثم عقبه بما افضى اليه سوء اختياره فقال فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ اى جزاؤك وجزاء اتباعك فغلّب المخاطب على الغائب جَزاءً مَوْفُوراً (63) اى وافرا مكملا من قولهم وفر لصاحبك عرضه- وانتصاب جزاء على المصدر بإضمار فعله او حال موطية لقوله. مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ اى استخف واستزل واستجهل فى القاموس استفزه استخفه وأخرجه من داره.
مَنِ اسْتَطَعْتَ ان تستفزه مِنْهُمْ اى من ذرية آدم بِصَوْتِكَ قال ابن عباس اى بدعائك إياهم الى المعصية- وكل داع الى معصية الله فهو من جند إبليس- وقال الأزهري اى ادعهم دعاء تستفزهم به الى جانبك وقال مجاهد اى بالغناء والمزامير وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ جلبه يجلبه اجتلبه ساقه من موضع الى اخر كذا فى القاموس- ومنه فى الحديث لاجلب- قال فى النهاية الجلب فى شيئين أحدهما ان يقدم المصدق على الزكوة فينزل موضعا ثم يرسل من يجلب اليه فنهى عن ذلك وأمران تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم- ثانيهما فى السباق وهو ان يتبع الرجل فرسه فيزجره ويجلب عليه ويصيح حثّا له على الجري فنهى عن ذلك وفى القاموس اجلب على الفرس زجره وايضا الجلبة الصوت- فى القاموس رعد فجلب اى فصوّت واجلب عليه إذا صاح به واستحثه فى حديث الزبير يقود الجيش ذا الجلب قال القتيبي هو جمع جلبة وهو الأصوات- وايضا الجلب الاجتماع قال فى النهاية يقال اجلبوا عليه إذا تجمعوا واجلبه اى أعانه فى حديث العقبة انكم تبايعون محمّدا صلى الله عليه وسلم على ان تحاربوا العرب والعجم مجلبة اى مجتمعة على الحرب- فمعنى الاية اجمع مكائدك وخيلك ورجلك او المعنى صح عليهم وحثهم على المعاصي او المعنى سقهم الى المعاصي او المعنى أعنهم على المعاصي وقال معناه استعن عليهم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ اى بركبانك ومشاتك قال اهل التفسير كل راكب وماش فى المعاصي فهو من جند إبليس- وقال مجاهد قتادة(5/455)
ان له خيلا ورجلا من الجن والانس وهو كل من يقاتل فى المعصية- وقال البيضاوي معناه صح عليهم باغوائك من راكب وراجل- ويجوز ان يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمن عدا على قوم فاستفزهم من أماكنهم واجلب عليهم بجنده حتّى استأصلهم- قرا حفص رجلك بكسر الجيم والباقون بسكونها وهما لغتان وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام وصرفها فيها كذا قال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير- وقال عطاء هو الربوا وقال هو ما كان المشركون يحرمونه من الانعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام- وقال الضحاك وما كانوا يذبحونه لالهتهم وَالْأَوْلادِ روى عن ابن عباس انها الموءودة- وقال مجاهد والضحاك هم أولاد الزنى- وقال الحسن وقتادة هو انهم هوّدوا أولادهم ونصّروهم ومجسّوهم- وعن ابن عباس رواية اخرى هو تسمية الأولاد عبد الحارث وعبد الشمس وعبد العزى وعبد الدار ونحوها- وروى عن جعفر بن محمّد عليهما السلام ان الشيطان يقعد على ذكر الرجل فلم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وانزل فى فرجها كما ينزل الرجل- قال البغوي وفى بعض الاخبار ان فيكم مغربين قيل ومن المغربين قال الذين شارك فيهم الجن وَعِدْهُمْ المواعيد الباطلة كشفاعة الأصنام والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة وان لا جنة ولا نار ولا بعث- فان قيل هذا امر بالمعصية والله لا يأمر بالفحشاء قلنا هذا امر بمعنى التهديد كقوله تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ- او للاهانة يعنى لا يخلّ ذلك بملكي وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (64) اعتراض لبيان مواعيده والغرور تزيين الباطل بما يظن انه حق- قال البغوي فى الآثار ان إبليس لما اخرج الى الأرض- قال يا رب أخرجتني من الجنة لاجل آدم فسلطنى عليه وعلى ذريته- قال أنت مسلط فقال لا استطيعه الا بك فزدنى قال اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ الاية- وقال آدم يا رب سلطت ا؟؟؟
علىّ وعلى ذريتى وانى لا استطيعه الا بك- قال لا يولد لك ولد الا وكلت به؟؟؟
قال زدنى قال الحسنة بعشر أمثالها- قال زدنى قال التوبة معروضة ما دام الروح؟؟؟
قال زدنى قال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا الاية- وفى الخبر ان(5/456)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
إبليس قال يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبا- فما قراءتى قال الشعر قال فما كتابى قال الوشم قال ومن رسلى قال الكهنة قال وابن مسكنى قال الحمّامات قال واين مجلسى قال الأسواق قال اى شيء مطعمى قال ما لم يذكر عليه اسمى قال ما شرابى قال كل مسكر قال وما حبالتى قال النساء قال وما اداتى قال المزامير.
إِنَّ عِبادِي اى المخلصين والاضافة للتعظيم لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ اى على اغوائهم سُلْطانٌ قدرة وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) اى من يتوكلون به فى الاستعاذة منك ويوكلون اليه أمورهم فهو يحفظهم منك.
رَبُّكُمُ الَّذِي اى هو الّذي يُزْجِي اى يسوق ويجرى لَكُمُ الْفُلْكَ اى السفن فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الربح وانواع الرزق ما ليس عندكم إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) حيث هيّا لكم ما تحتاجون اليه وسهّل لكم ما تعسّر.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ شدة الخوف من الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ اى ذهب عن خواطركم مَنْ تَدْعُونَ اى من تدعونه الهة إِلَّا إِيَّاهُ اى الا الله تعالى فانكم لا تذكرون حينئذ سواه- او ضل من تدعونه الهة عن اغاثتكم ولكن الله يذهب عنكم الضر فالاستثناء حينئذ منقطع فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) للنعم هذا كالتعليل للاعراض.
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للانكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فامنتم فحملكم ذلك على الاعراض ولا ينبغى ذلك فانه من قدر ان يهلككم فى البحر بالغرق قدر أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ
اى يقلب الله ناحية البر وأنتم عليه او يقلبه بسببكم فيهلككم فقوله بكم اما حال أو صلة أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً اى ريحا يحصب به اى يرمى بالحصباء اى الحصى وهى الحجارة الصغار ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) مانعا يحفظكم من ذلك إذ لا راد لفعله.
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ اى فى البحر تارَةً مرة أُخْرى يخلق دواعى يلجيكم الى ان ترجعوا فتركبوا البحر فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قال ابن عباس اى عاصفا وهى الريح الشديدة وقال ابو عبيدة الّتي تقصف اى تدق وتحطم(5/457)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
كل شيء وقال القتيبي هى الّتي تقصف الشجر اى تكسره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ اى بسبب اشراككم او بكفرانكم نعمة الانجاء أول مرة- قرا ابن كثير وابو عمرو ان نّخسف ونرسل ونعيد ونغرقكم بالنون فيهن على التكلم والتعظيم والباقون بالياء على الغيبة غير ان أبا جعفر ويعقوب قرا فتغرقكم بالتاء الفوقانية على التأنيث والضمير راجع الى الريح ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) اى ناصرا وثائرا يتبعنا مطالبا بالثار وقيل من يتبعها بالإنكار-.
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بحسن الصورة والمزاج إلا عدل واعتدال القامة والتميز بالعقل والافهام بالنطق والاشارة والخط والتهدى الى اسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما فى الأرض بان سخر لهم سائر الأشياء والتمكن من الصناعات واتساق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية الى ما يعود عليهم بالمنافع وان يتناول الطعام بيده الى فيه بخلاف سائر الحيوانات والعشق والمعرفة والوحى ومراتب القرب من الله تعالى- اخرج الحاكم فى التاريخ والديلمي عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرامة الاكل بالأصابع وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على الدواب وَالْبَحْرِ على السفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه او حملناهم فيهما حتّى لا يخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى المستلذّات من المطاعم والمشارب وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (70) الفضل فى اللغة الزيادة والمراد هاهنا الزيادة فى الثواب ومراتب القرب الى الله تعالى فالضمير المنصوب فى فضلناهم راجع الى بنى آدم باعتبار بعض افراده يعنى المؤمنين كما فى قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ الى قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ اى الرجعيات منهن أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وذلك لان الكفار منهم هم أدون خلق الله وابغضهم اليه وأخبثهم وأُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ- وظاهر الاية تدل على ان فضلهم على كثير من الخلائق لا على كلهم فقال قوم فضلوا على جميع الخلق الا الملائكة- وقال الكلبي فضلوا على الخلائق كلهم الأعلى طائفة من الملائكة منهم جبرئيل وميكائيل واسرافيل وملك الموت- وقال(5/458)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
قوم فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال الله تعالى هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ الى قوله وَأَكْثَرُهُمْ «1» كاذِبُونَ اى كلهم ويؤيده حديث جابر يرفعه قال لما خلق الله آدم وذرّيّته قالت «2» الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الاخرة فقال الله تعالى لا اجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحى كمن قلت له كن فكان- رواه البيهقي فى شعب الايمان- والتحقيق ان عوام المؤمنين اى الصالحين منهم وهم اولياء الله أفضل من عوام الملائكة واما غير الأولياء من المؤمنين فبعد ما يمحصون من الخطايا اما بالمغفرة واما بالعقاب بقدر ذنوبهم ويدخلون الجنة يلتحقون بالأولياء- وخواص المؤمنين وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة قال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ- وروى عن ابى هريرة انه قال المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده كذا ذكر البغوي- ورواه ابن ماجة بلفظ المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته يعنى جنس المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته قلت قيد الأكثر فى هذه الاية وكذا قيد البعض فى حديث ابى هريرة عند ابن ماجة لا ينفى افضلية بعض المؤمنين يعنى الأنبياء على جميع الملائكة الا بالمفهوم ولا عبرة بالمفهوم لا سيما فى مقابلة عموم منطوق قوله تعالى أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ- الا ترى ان معنى الاية فضلنا جميع المؤمنين يعنى كل واحد منهم على كثير من الخلائق- وذالا ينافى ما قال اهل السنة فى كتب العقائد ان الخواص منهم فضلوا على كل ملك حتّى خواصهم ووجه فضلهم على الملائكة انهم مجبولون على الطاعة فيهم عقل بلا شهوة وفى البهائم شهوة بلا عقل وفى الإنسان عقل وشهوة فمن عمل على مقتضى عقله وترك شهوته جاهد فى الله حق جهاده فاجتباه الله وقال الله تعالى الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ- ومن عمل بشهوته وأهمل عقله وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فالجحيم له المأوى وهم كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ-.
يَوْمَ نَدْعُوا منصوب بإضمار اذكر او ظرف لما دل عليه وَلا يُظْلَمُونَ ... كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال مجاهد وقتادة اى بنبيهم وقال ابو صالح والضحاك
__________
(1) وفى الأصل وأكثرهم الكاذبون-
(2) وفى الأصل ... قالت يا رب-(5/459)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
بكتابهم الّذي انزل إليهم اخرج ابن مردوية عن على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعى قوم بامام لهم وكتاب ربهم- وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس بامام زمانهم الّذي دعاهم فى الدنيا الى ضلالة او هدى قال الله تعالى وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا- وقال وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وقيل بمعبودهم- وعن سعيد بن المسيب قال كل قوم يجتمعون الى رئيسهم فى الخير والشر- وقال الحسن وابو العالية أعمالهم الّتي قدموها- وقال قتادة ايضا بكتابهم الّذي فيه أعمالهم بدليل سياق الاية ويسمى الكتاب اماما- قال الله تعالى وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ- وقيل بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم- وقال محمّد بن كعب بامهاتهم جمع أم كخف وخفاف والحكمة فى ذلك إجلال عيسى عليه السلام واظهار شرف الحسن والحسين رضى الله عنهما- وان لا يفتضح أولاد الزنى- قوله بامامهم حال اى مختلطين بمن ايتمّوا به من نبىّ او كتاب او رئيس فى الخير او الشر او حاملين أعمالهم او صحائفها- او صلة لندعوا يعنى ندعوهم باسم امامهم يقال يا امة فلان يا اتباع فلان يا اهل دين وكتاب كذا يا اصحاب اعمال كذا يا ابن مريم يا ابن فاطمة ونحو ذلك فَمَنْ أُوتِيَ من المدعوين كِتابَهُ اى كتاب عمله بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) منصوب على المصدرية اى لا يظلمون ظلما قدر فتيل- او على المفعولية بتضمين ينقصون اى لا تنقص من أجورهم ادنى شيء قدر فتيل- والفتيل ما يكون فى شق النواة او ما فتلته بين أصابعك من الوسخ- وجمع اسم الاشارة والضمير لان من اوتى فى معنى الجمع وتعليق القراءة بايتاء الكتاب باليمين يدل على من اوتى كتابه بشماله او وراء ظهره إذا اطلع ما فيه غشيهم من الحجل والحيرة ما يحبس ألسنتهم من القراءة فلا يقرءون بل يقولون يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ- ولم يذكر الكفار وإيتاء كتبهم اكتفاء بقوله.
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى قيل هذه اشارة الى النعم الّتي عدها الله من قوله رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ الى قوله تفضيلا- يعنى من كان فى هذه النعم الّتي قد عاين أعمى فهو فى الاخرة الّتي لم يره أشد عمى وأضل سبيلا- يروى هذا عن ابن عباس- وقيل(5/460)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
اشارة الى الدنيا يعنى من كان فى هذه الدنيا أعمى القلب عن روية ادلة التوحيد وطريق الحق فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى قيل معناه التفضيل يعنى أشد عمى منه فى الدنيا لا يرى طريق النجاة أصلا- فان قيل افعل التفضيل شرطه ان لا يكون من لون او عيب فكيف اعتبر فيه معنى التفضيل- قلنا المراد بالعمى هاهنا عمى القلب والمانع من بناء افعل التفضيل العيب الظاهري- فالاعمى هاهنا كالاحمق والأجهل والأبله ولذلك امال ابو عمرو ويعقوب فى الاول فقط- ولم يميلا فى الثانية لان افعل التفضيل إذا استعمل بمن كانت الفه فى حكم المتوسط فلا يمال بخلاف افعل الصفة واما ابو بكر وحمزة والكسائي فقرءوا بالامالة فى الحرفين وورش بين بين فيهما والباقون بالفتح فيهما على أصولهم فهم لا يعتبرون معنى التفضيل وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) منه فى الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة وكان فى الدنيا تقبل توبته ان تاب وفى الاخرة لا تقبل توبته او المعنى أضل سبيلا من الأعمى- اخرج ابن مردوية وابن ابى حاتم من طريق ابن إسحاق عن محمّد بن ابى محمّد عن عكرمة عن ابن عباس قال خرج امية بن خلف وابو جهل بن هشام ورجال من قريش فاتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمّد تعال فتمسّح بآلهتنا وندخل معك فى دينك وكان يحب اسلام قومه فرق لهم فانزل الله تعالى.
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الاية قال صاحب لباب النقول فى اسباب النزول هذا أصح ما ورد فى سبب نزولها وهو اسناد جيد وله شواهد- اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر فقالوا لا ندعك لتستلم حتى تلمّ بآلهتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علىّ لو فعلت والله يعلم منى خلافه- وذكر البغوي نحوه وفيه والله يعلم انى لكاره بعد ان يدعونى حتّى استلم الحجر- واخرج ابن ابى حاتم عن ابن شهاب نحوه والله اعلم- واخرج ابن ابى حاتم عن جبير بن نفير ان قريشا آتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ان كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فنكون نحن أصحابك فركن(5/461)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فنزلت- واخرج ابن ابى حاتم عن محمّد بن كعب القرظي انه صلى الله عليه وسلم قرا النجم أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى فالقى عليه الشيطان تلك الغرانيق العلى ان شفاعتهن لترتجى فنزلت هذه الاية فما زال مهموما حتّى انزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الاية- وفى هذه الأحاديث دليل على ان هذه الاية مكية- وقيل انها مدنية وذكر سبب نزوله ما اخرج ابن مردوية من طريق العوفى عن ابن عباس ان ثقيفا قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم اجّلنا سنة حتّى تهدى لالهتنا فاذا قبضنا الّذي تهدى للالهة احرزنا بم اسلمنا- فهمّ ان يؤجلهم فنزلت واسناده ضعيف وذكر البغوي هذه القصة بانه قال ابن عباس وقد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا نبايعك على ان تعطينا ثلاث خصال قال وما هن قالوا لا نحنى فى الصلاة اى لا ننحنى- ولا نكسر أصنامنا بايدينا- وان تمتعنا باللات سنة من غير ان نعبدها- فقال صلى الله عليه وسلم لا خير فى دين لا ركوع فيه ولا سجود واما ان لا تكسروا أصنامكم بايديكم فذلك لكم واما الطاغية يعنى اللات والعزى فانى غير متمتعكم بها قالوا يا رسول الله انا نحب ان يسمع العرب انك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فان خشيت ان يقول العرب اعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله امر بذلك فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فطمع القوم فى سكوته ان يعطيهم ذلك فانزل الله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الاية- ان هى المخففة واللام هى الفارقة والمعنى ان الشأن انهم قاربوا بمبالغتهم ان يوقعوك فى الفتنة بالاستنزال عن الّذي أوحينا إليك من الاحكام لِتَفْتَرِيَ اى لتختلق عَلَيْنا غَيْرَهُ اى غير ما أوحينا إليك وَإِذاً اى إذا فعلت ذلك الافتراء لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وليّا لهم-.
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ يعنى لولا ثبّت تثبيتا إياك على الحق لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ اى لقاربت ان تميل الى اتباع مرادهم شَيْئاً من الركون ولليل قَلِيلًا (74) منصوب على المصدرية يعنى كنت على قرب من الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم وحرصك على إسلامهم قليلا من الركون لا كثيرا منه لولا عصمتنا(5/462)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
إياك ولكن أدركتك عصمتنا فمنعت ان تقرب من ادنى الركون إليهم فضلا من القرب الى شدة الركون ومن نفس الركون بالطريق الاولى- فالاية دلت على كمال الاستقامة والصلاح فى استعداد النبي صلى الله عليه وسلم- بحيث لو لم يتداركه العصمة والتثبيت من الله فرضا لا تقرب من الميلان الى المعصية الا قليلا وقليل الاقتراب الى المعصية لا يقتضى الوقوع فى المعصية فكيف إذا أدركته العصمة ومنعته من قليل الاقتراب من الركون فضلا من كثير الاقتراب وشتّان بينه وبين نفس الركون فالاية صريح فى انه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي والله اعلم.
إِذاً اى إذا قاربت الى الركون شيئا قليلا لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ اى عذاب الدنيا وعذاب الاخرة ضعف ما يعذب به فى الدارين غيرك لان خطاء الخطير اخطر- وكان اصل الكلام عذابا ضعفا فى الحيوة وعذابا ضعفا فى الممات يعنى مضاعفا ثم حذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه ثم أضيفت لما تضاف موصوفها- وقيل الضعف من اسماء العذاب سمى العذاب ضعفا لتضاعف الألم فيه والمعنى عذاب الحيوة عذاب الدنيا ومن عذاب الممات ما يكون بعد الموت- وقيل المراد بضعف الحيوة عذاب الاخرة وبضعف الممات عذاب القبر ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) يدفع العذاب عنك والله اعلم اخرج ابن ابى حاتم والبيهقي فى الدلائل من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن ابن غنم ان اليهود آتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ان كنت نبيّا فالحق بالشام فان الشام ارض المحشر وارض الأنبياء فصدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا وغزا غزوة تبوك لا يريد الا الشام فلما بلغ تبوك انزل الله تعالى آيات من سورة بنى إسرائيل.
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ اى ليزعجونك والاستفزاز الا زعجاج بسرعة مِنَ الْأَرْضِ اى المدينة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها فامره بالرجوع الى المدينة فقال له جبرئيل سل ربك فان لكل نبى مسئلة فقال ما تأمرنى ان اسئل قال قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً- فهؤلاء نزان فى رجعته من تبوك هذا مرسل ضعيف وله شواهد من مرسل سعيد بن جبير عند(5/463)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
ابى حاتم ولفظه قالت المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام فما لك والمدينة فهمّ ان يشخص فنزلت- وله طريق اخرى مرسلة عند ابن جرير ان بعض اليهود قال له- وذكر البغوي قول الكلبي انه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كره اليهود مقامه فى المدينة حسدا فاتوه وقالوا يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء وان ارض الأنبياء الشام وهى الأرض المقدسة وكان بها ابراهيم والأنبياء عليهم السلام فان كنت نبيّا مثلهم فأت الشام- وانما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم وان الله سيمنعك منهم ان كنت رسوله فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفى رواية الى ذى الحليفة حتّى يجتمع اليه أصحابه ويخرج فانزل الله هذه الاية- وقال مجاهد وقتادة الأرض ارض مكة والاية مكية همّ المشركون ان يخرجوه منها فكفهم الله عنها حتّى امره الله بالهجرة فخرج بنفسه- قال البغوي وهذا أليق بالآية لان ما قبلها خبر عن اهل مكة والسورة مكية- وقيل هم الكفار كلهم أرادوا ان يستفزوه من ارض العرب باجتماعهم وتظاهروا عليه فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوا والله اعلم وَإِذاً اى إذا استفزوك لا يلبثون خلفك قرا ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب خلافك بكسر الخاء والالف بعد اللام والباقون بفتح الخاء واسكان اللام والمعنى واحد يعنى بعد خروجك او بعد استفزازك إِلَّا قَلِيلًا (76) اى الا زمانا قليلا قيل وكان كذلك فان يهود المدينة قتل منهم بنوا قريظة واجلى بنوا النضير واجلى يهود خيبر فى خلافة عمر وقتل مشركوا مكة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر واخرج الكفار كلهم من جزيرة العرب- وقيل لم يتحقق الاستفزاز ولو استفزوا لاستوصلوا.
سُنَّةَ نصب على المصدر اى سن الله ذلك سنة وهو ان يهلك كل امة اخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فهذه سنة الله تعالى وانما أضاف الى الرسل حيث قال مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا لان ذلك السنة كان لاجل الرسل وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (77) اى تغيرا.(5/464)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اللام للتاقيت كما فى قولك لثلاث خلون- يعنى صل وقت دلوك الشمس- ومعناه الزوال على قول ابن عباس وابن عمرو جابر وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن واكثر التابعين كذا روى ابن مردوية عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا روى البزار وابن مردوية بسند ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه ما رواه إسحاق بن راهويه فى مسنده وابن مردوية فى تفسيره والبيهقي فى المعرفة من حديث ابى مسعود الأنصاري قوله صلى الله عليه وسلم أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر الحديث وهو من الدلك لان الناظر إليها يدلك عينه ليدفع شعاعها- وقيل معناه الغروب قال البغوي روى عن ابن مسعود انه قال الدلوك الغروب وهو قول ابراهيم النخعي ومقاتل بن حبان والضحاك والسدىّ ومعنى اللفظ يجمعهما لان اصل الدلوك الميل والشمس يميل إذا زالت او غربت- وفى القاموس دلكت الشمس دلوكا غربت او اصفرت او زالت عن كبد السماء- قال البيضاوي اصل التركيب للانتقال ومنه الدلك فان الدالك لا يستقر يده وكذا ما يتركب من الدال واللام كدلج ودلح ودلع ودلف ودله- قال البغوي والحمل على الزوال اولى القولين لكثرة القائلين به ولانا إذا حملنا عليه كانت الاية جامعة لمواقيت الصلاة كلها حيث قال الله تعالى إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ اى الى غيبوبة شفق الليل وامتلائه ظلمة ومعنى الغسق الامتلاء كما ذكرنا فى سورة الفلق وفى القاموس الغسق ظلمة أول الليل والغاسق القمر او الليل إذا غاب الشفق فذكر فيه مواقيت اربع من الصلوات الخمس الظهر والعصر والمغرب والعشاء وذكر وقت الفجر بقوله وَقُرْآنَ الْفَجْرِ اى صلوة الفجر سميت الصلاة قرانا لان القران ركن فيها- كما سميت ركوعا وسجودا- وانتصاب القران اما على انه عطف على الصلاة اى وأقم قران الفجر قاله الفراء وقال اهل البصرة هو على الإغراء اى وعليك قران الفجر- وجاز ان يكون التقدير واقرأ قران الفجر يعنى اقرأ القران فى صلوة الفجر- فيكون امرا بالقراءة فى صلوة الفجر عبارة وفى غيرها دلالة- وقد(5/465)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
ذكرنا مواقيت الصلاة فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ... إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفضل صلوة الجميع على صلوة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلوة الفجر- ثم يقول ابو هريرة اقرءوا ان شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً- رواه البخاري وغيره قال البيضاوي او يشهده شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء والنوم الّذي هو أخو الموت بالانتباه- او كثير من المصلين او من حقه ان يشهده الجم الغفير- وقيل المراد بالصلوة فى قوله تعالى أَقِمِ الصَّلاةَ صلاة المغرب لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اى وقت غروبها إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ اى الى غيبوبة الشفق ففيه بيان لمبدا وقت المغرب ومنتهاه ودلّت الاية على هذا على كون وقت المغرب ممتدا الى غيبوبة الشفق فحينئذ امر الله بالصلوتين لكمال اهتمامهما-.
وَمِنَ اللَّيْلِ اى بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ اى فاترك الهجود يعنى النوم للصلوة والضمير فى به للقران- فى القاموس الهجود بضم الهاء النوم كالتهجد وتهجّد استيقظ كهجد ضدوا هجدنام وأنام كهجّد وهجده تهجيدا أيقظه ونوّمه ضد- والحاصل ان التشديد ان كان للازالة فمعناه ترك النوم وهو المراد هاهنا وان كان للتعدية فمعناه نومه- قال البغوي التهجد لا يكون الا بعد النوم يقال تهجد إذا قام بعد ما ينام- قلت لما كان معناه ترك النوم للصلوة فهو يشتمل من ترك النوم الليل كله او بعضه بعد النوم او قبله فلا وجه لاشتراط النوم قبل الصلاة لقيام الليل عن ابى ذر قال ضمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتّى بقي سبع فقام بنا حتّى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتّى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال ان الرجل إذا صلى مع الامام حتّى ينصرف حسب له قيام ليله فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتّى بقي ثلث الليل فلما كانت الثالثة جمع اهله ونساءه والناس فقام بنا حتّى خشينا ان يفوتنا(5/466)
الفلاح- قلت ما الفلاح قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر- رواه اصحاب السنن الا ان الترمذي لم يذكر ثم لم يقم بقية الشهر- وعن السائب بن يزيد قال امر عمر أبيّ بن كعب وتميما الداري ان يقوما للناس بإحدى عشر ركعة فكان القاري يقرا بالمئين حتّى كنا نعتمد على العصا من طول القيام- فما كنا ننصرف الا فى فروع الفجر رواه مالك وعن أبيّ ابن كعب كان يقول كنا ننصرف فى رمضان من القيام فيستعجل الخدم بالطعام مخافة السحور وفى رواية مخافة الفجر رواه مالك- وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر الى قريب من الصبح وفى حديث ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فى السفر على راحلته حيث توجهت به يومى ايماء صلوة الليل الا الفرائض ويؤتر على راحلته- متفق عليه وقال ابن عباس كان صلاتهم أول الليل هى أشد وطأ- بمعنى أجدر ان يحصوا ما فرض الله عليكم من القيام لان الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ- لكن التهجد اخر الليل أفضل واكثر ثوابا منها أول الليل لما فى الصحيحين من حديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر الحديث- وعن عبد الرّحمن بن عبد القاري قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة الى المسجد يعنى فى رمضان فاذا الناس اوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه ويصلى الرجل ويصلى بصلاته الرهط فقال عمر لو جمعت هؤلاء على قارى واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب قال ثم خرجت معه ليلة اخرى والناس يصلون بصلوة قارئهم قال عمر نعمت البدعة هذه والّتي تنامون عنها أفضل من الّتي تقومون يريد اخر الليل وكان الناس يقومون اوله- رواه البخاري والله اعلم (مسئلة) كانت صلوة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم فى الابتداء وعلى الامة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا فى حق الامة بالصلوات الخمس وبقي الاستحباب قال الله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ واختلفوا فى انه هل بقي وجوب قيام الليل فى حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة أم صار منسوخا فى حقه ايضا فقال بعض الناس ببقاء وجوب قيام الليل فى حق النبي صلى الله عليه وسلم لما روى عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث هن علىّ(5/467)
فريضة وهى سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل فالامر على هذا فى هذه الاية للوجوب ومعنى قوله تعالى نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة على سائر الفرائض فرضها الله تعالى عليك والمختار عندى ان افتراض قيام الليل نسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم ايضا وكان له تطوعا كما هو مدلول هذه الاية صريحا ولو كان المعنى فريضة زائدة لقال نافلة عليك فان صلة الوجوب يكون على دون اللام فان قيل فما وجه تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو نافلة للعباد كلهم قلنا وجه التخصيص ان نوافل العباد كفارة لذنوبهم والنبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما
لم يكن عليه ذنب وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يعنى زلّاته- وما هو من قبيل ترك الاولى فيبقى له التهجد نافلة اى زائدة فى رفع الدرجات- كذا روى مجاهد والحسن وابو امامة ويدل على كون التهجد تطوعا فى حق النبي صلى الله عليه وسلم حديث المغيرة قال قام النبي صلى الله عليه وسلم حتّى تورمت قدماه فقيل له لم تصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر- قال أفلا أكون عبدا شكورا- ولم يقل انه فريضة علىّ خاصة- وحديث ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فى السفر على راحلته حيث توجهت به يومى ايماء صلوة الليل الا الفرائض ويوتر على راحلته متفق عليه مسئلة اختلفوا فى ان التهجد فى حق الامة من المؤكدات او من المستحبات والمختار عندى انه من المؤكدات لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولحديث ابن مسعود قال ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل له ما زال نائما حتّى أصبح ما قام الى الصلاة قال ذك رجل بال الشيطان فى اذنه متفق عليه ولا شك ان تارك المندوبات لا يستحق اللوم والعتاب- وقوله تعالى نافِلَةً لَكَ منصوب على انه حال من الضمير المجرور فى به او على المصدرية وضع نافلة موضع تهجدا نافلة اى عبادة زائدة مفروضة او تطوعا وقد ذكرنا فضائل صلوة الليل وبعض مسائلها ومقدار ما ينبغى القراءة فيها فى تفسير سورة المزّمل- (فصل) كيف كان قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتجهد من الليل عن زيد بن خالد الجهني انه قال لارمقن صلوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة(5/468)
فتوسدتّ عتبته او فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة- رواه مسلم ذكر البغوي قوله ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثلاث مرات وذكره فى المشكوة اربع مرات وقال هكذا فى صحيح مسلم وافراده من كتاب الحميدي ومؤطا مالك وسنن ابى داود وجامع الأصول فمعنى قوله أوتر على هذا أوتر بواحدة وعلى ما ذكره البغوي معناه أوتر بثلاث- وعن عائشة قالت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد فى رمضان ولا فى غيره على احدى عشر ركعة يصلى أربعا فلا تسئل عن حسنهن وطولهن ثم يصلى أربعا فلا تسئل عن حسنهن وطولهن ثم يصلى ثلاثا- قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل ان توتر فقال يا عائشة ان عينى تنامان ولا ينام قلبى متفق عليه وعنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فيما بين ان يفرغ من صلوة العشاء الى الفجر احدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة ويسجد سجدتين قدر ما يقرا أحدكم خمسين اية قبل ان يرفع رأسه وإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الايمن حتّى يأتيه المؤذن للاقامة فيخرج- متفق عليه وعن انس بن مالك قال ما كنا نشاء ان نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل مصليا الا رايناه وما نشاء ان نراه نائما الا رايناه- وقال كان يصوم من الشهر حتّى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتّى نقول لا يصوم منه شيئا- رواه النسائي وعنها قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر رواه مسلم وعن مسروق قال سالت عائشة عن صلوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل قال سبع وتسع واحدى عشرة ركة سوى ركعتى الفجر- رواه البخاري وعن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلى افتتح صلاته بركعتين خفيفتين- رواه مسلم وروى ايضا عن ابى هريرة مرفوعا إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين(5/469)
وعن ابن عباس رضى الله عنهما انه رقد عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ فتسوك وهو يقول إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حتّى ختم السورة يعنى ال عمران ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع
والسجود ثم انصرف فنام حتّى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرا هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث- رواه مسلم وعن عائشة قالت لمّا بدّن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اكثر صلاته جالسا- متفق عليه وعن حذيفة انه راى النبي صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل فكان يقول الله اكبر ثلاثا ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم استفتح فقرا البقرة ثم ركع ركوعه نحوا من قيامه فكان يقول سبحان ربى العظيم ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه يقول لربى الحمد ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه فكان يقول فى سجوده سبحان ربى الأعلى ثم رفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده وكان يقول رب اغفر لى رب اغفر لى فصلى اربع ركعات قرا فيهن البقرة وال عمران والنساء والمائدة او الانعام شك شعبة رواه ابو داود وعن ابى ذر قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى أصبح باية والاية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- وعن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال لمّا صلى الله عليه وسلم صلوة العشاء اضطجع هويا من الليل ثم استيقظ فنظر فى الأفق فقال رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا حتّى بلغ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ ثم أهوى الى فراشه فاستل منه سواكا ثم افرغ فى قدح من اداوة عندنا فاستن ثم قام فصلى حتّى قلت قد صلى قدر ما نام ثم اضطجع حتّى قلت قد نام قدر ما صلى ثم استيقظ ففعل كما فعل أول مرة وقال مثل ما قال ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الفجر- رواه النسائي وعن أم سلمة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام قدر ما صلى ثم يصلى قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتّى يصبح ثم نعتت قراءته فاذا هى تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه ابو داود والترمذي والنسائي-(5/470)
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ يوم القيامة مَقاماً مَحْمُوداً (79) منصوب على الظرف بإضمار فعله اى فيقيمك مقاما محمودا- او بتضمين يبعثك معنى يقيمك أو على الحال بمعنى يبعثك ذا مقام محمود يحمده الأولون والآخرون- قال البغوي عن ابى وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الله اتخذ ابراهيم خليلا وان صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثم قرا عسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال يجلسه على العرش- وعن عبد الله بن سلام قال يقعده على الكرسي- والصحيح ان المقام المحمود مقام الشفاعة اخرج احمد وابن ابى حاتم والترمذي عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الاية قال هو المقام الّذي اشفع فيه لامتى- وفى الصحيحين عن انس رضى الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يحبس المؤمنون يوم القيامة حتّى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا الى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم ابو الناس خلقك الله بيده وأسكنك فى جنته واسجد لك ملائكته وعلمك اسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتّى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته الّتي أصاب أكله من الشجرة وقد نهى عنها ولكن ايتوا نوحا أول نبى بعثه الله الى اهل الأرض- فيأتون نوحا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته الّتي أصاب سواله ربه بغير علم ولكن ايتوا ابراهيم خليل الرّحمن قال فيأتون ابراهيم فيقول انى لست هناكم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن ولكن ايتوا موسى عبدا أتاه الله التورية وكلمه وقربه نجيّا- قال فيأتون موسى فيقول انى لست هناكم ويذكر خطيئته الّتي أصاب قتله النفس ولكن ايتوا عيسى عبد الله ورسوله وروح الله وكلمته- قال فيأتون عيسى فيقول لست هناكم ولكن ايتوا محمّدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال فيأتونى فاستأذن على ربى فى داره فيؤذن لى عليه فإذا رايته وقعت ساجدا فيدعنى ما شاء الله ان يدعنى فيقول ارفع محمّد وقل تسمع واشفع تشفّع رسل تعطه قال فارفع رأسى فاثنى على ربى بثناء وتحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحدلى حدا فاخرج فاخرجهم من النار وأدخلهم الجنة(5/471)
ثم أعود الثانية فاستأذن على ربى فى داره فيؤذن
لى عليه فاذا رايته وقعت ساجدا فيدعنى ما شاء الله ان يدعنى ثم يقول ارفع محمّد قل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال فارفع رأسى فاثنى على ربى بثناء وتحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحدلى حدا فاخرج فاخرجهم من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فاستأذن على ربى فى داره فيؤذن لى عليه فاذا رايته وقعت ساجدا فيدعنى ما شاء الله ان يدعنى ثم يقول ارفع محمّد قل تسمع واشفع تشفع وسل تعطه قال فارفع رأسى فاثنى على ربى بثناء وتحميد يعلمنيه ثم اشفع فيحدلى حدا فاخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة حتّى ما يبقى فى النار الا من قد حبسه القران اى وجب عليه الخلود ثم تلا هذه الاية عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال وهذا المقام المحمود الّذي وعده نبيكم- وفى رواية فى الصحيحين حديث انس فى الشفاعة بمعناه وفيه فاستأذن على ربى فيؤذن لى ويلهمنى محامد أحمده بها لا يحضرنى الان فاحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدا فقال يا محمّد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأقول رب أمتي أمتي فيقال انطلق فأخرج منها من كان فى قلبه مثقال شعيرة من ايمان فانطلق فافعل ثم أعود فاحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فذكر مثله ثم يقال انطلق فاخرج من كان فى قلبه ادنى ادنى مثقال حبة من خردل من ايمان فانطلق فافعل ثم أعود الرابعة فذكر مثله وقال يا رب ايذن لى فيمن قال لا اله الا الله فيقول وعزتى وجلالى وكبريائى وعظمتى لأخرجن منها من قال لا اله الا الله- قال السيوطي فى هذا الحديث إشكال قوى نبه عليه العلماء وذلك ان أول الحديث فى الاراحة من كرب الموقف وآخره فى الشفاعة فى الإخراج من النار وذلك انما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط فى تلك الحالة فى النار ثم تشفع الشفاعة فى الإخراج بعد ذلك- قال الدراوردي راوى الحديث كبر سكّا على غير أصله وقد وقع فى حديث حذيفة على الصواب وهو ذكر الصراط عقيب هذه الشفاعة وفى حديث ابى هريرة وأبى سعيد فى الأمر باتباع كل امة ما كانت تعبد ثم تميز المنافقين من المؤمنين(5/472)
ثم وضع الصراط والمرور عليه ثم الشفاعة فى الإخراج فكانّ الأمر باتباع كل امة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء والاراحة من كرب الموقف والإخراج من النار اخر الشفاعة كذا قال القاضي عياض والنووي وغيرهما- قلت وهذا لا يضر فكانّ فى الحديث حذف واختصار ذكر أول الشفاعة للاراحة من كرب الموقف ثم اتبعه اخر الشفاعة شفاعة الإخراج من النار وقد ثبت كل من الشفاعتين فى أحاديث اخر- قلت والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم استأذن على ربى فى داره يعنى فى الجنة والاضافة اليه للتشريف ولان رؤيته تعالى يختص بالجنة- واخرج البخاري عن ابن عمر قال ان الناس يصيرون جثيّا كل امة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع لنا حتّى ينتهى الشفاعة الى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا- وفى لفظ له ان الشمس لتدنو حتّى يبلغ العرق نصف الاذان فبينماهم كذلك فاستغاثوا الى آدم فيقول لست بصاحب ذلك ثم بمحمّد صلى الله عليه وسلم فيشفع فيقضى الله تعالى بين الخلق فيمشى حتّى يأخذ باب الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده اهل الجمع كلهم- واخرج البزار والبيهقي عن حذيفة قال يجمع الله الناس فى صعيد واحد لا يتكلم نفس فيكون أول من يدعى محمّد صلى الله عليه وسلم فيقول لبيك وسعديك والخير فى يديك والشر ليس إليك والمهدى من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا منجا منك الا إليك تباركت وتعاليت رب البيت فعنده يشفع فذلك قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً- واخرج الترمذي وحسنه وابن خزيمة وابن مردوية عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا سيد ولد آدم ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبى يومئذ آدم فمن سواه الا تحت لوائى وانا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا فيقول إذ نبت ذنبا أهبطت الى الأرض ولكن ايتوا نوحا فيقول
انى دعوت على اهل الأرض دعوة فاهلكوا ولكن اذهبوا الى ابراهيم فيأتون ابراهيم فيقول انى كذبت ثلاث كذبات (ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منها كذبة الا وهو بما «1» حل بها عن دين الله) ولكن ايتوا موسى فيقول انى قتلت نفسا
__________
(1) بما حل اى يدافع ويجادل من المحال بالكسر وهو الكيد وقيل المكر والقوة والشدة- 12 منه رحمه الله(5/473)
ولكن ايتوا عيسى فيقول انى عبدت من دون الله ولكن ايتوا محمّدا فيأتون فانطلق معهم فاخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا فأقول محمّد فيفتح لى ويقولون مرحبا فاخرّ ساجدا فيلهمنى الله من الثناء والحمد والمجد فيقال ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع وقل تسمع فذلك هو المقام المحمود- قال القرطبي رحمه الله قوله صلى الله عليه وسلم فيفزع الناس ثلاث فزعات انما ذلك والله اعلم حين يؤتى بالنار تجربا زمّتها فاذا رات الخلائق تمحلت وسبقت- واخرج ابن خزيمة والطبراني بسند صحيح عن سلمان قال تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين ثم تدنى من جماجم الناس- قال فذكر الحديث قال فيلقون النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون اشفع لنا فيقول انا صاحبكم فيخرج حتّى ينتهى الى باب الجنة فيأخذ بحلقة فى الباب فيقرع الباب فيقال من هذا فيقول محمّد فيفتح له حتّى يقوم بين يدى الله فيسجد فنادى ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فذلك المقام المحمود- أورده غير تام وأخرجه ابن ابى حاتم فى السنّة وابن ابى شيبة بتمامه فذكر الحديث بطوله وفى آخره فيشفع فى كل من كان فى قلبه مثقال حبة من حنطة من ايمان او مثقال شعيرة من ايمان او مثقال حبة من خردلة من ايمان فذاك المقام المحمود- واخرج الطبراني عن كعب بن مالك رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الناس يوم القيامة فاكون وأمتي على تل يوم القيامة فيكسونى ربى حلة خضراء ثم يؤذن لى فاثنى عليه بما هو اهله فذلك المقام المحمود-
فائدة
ورد فى الشفاعة العظمى فى فصل القضاء والاراحة فى طول الموقف مطولا من حديث ابى بكر الصديق رواه البزار وابو يعلى وابو عوانة وابن حبان فى صحيحهما وحديث ابى هريرة رواه الشيخان وغيرهما وحديث ابن عباس رواه احمد وأبو يعلى وحديث حذيفة وابى هريرة رواه مسلم والحاكم وحديث عقبة ابن عامر رواه الطبراني وابن المبارك وابن جرير وغيرهم وقد مر ذلك فى سورة ابراهيم فى تفسير قوله تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ قال القرطبي هذه الشفاعة(5/474)
العامة الّتي خص بها نبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء عليهم السلام هى المرادة بقوله صلى الله عليه وسلم لكل نبىّ دعوة مستجابة فتعجل كل نبى دعوته وانا اختبأت دعوتى شفاعة لامتى وهذه الشفاعة لاهل الموقف وقال وانما هى ليعجل حسابهم ويراحوا من هول الموقف قلت عندى ان المراد بقوله صلى الله عليه وسلم اختبأت دعوتى شفاعة لامتى الشفاعة الثالثة لاجل إخراج المذنبين من النار ويكون للنبى صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات كما يدل عليه ما اخرج ابن جرير فى تفسيره والطبراني فى المطولات وابو يعلى فى مسنده والبيهقي فى البعث وابو موسى المديني فى المطولات وعلى بن معبد فى كتاب الطاعة والعصيان وعبد بن حميد وابو الشيخ فى كتاب العظمة عن ابى هريرة حديثا طويلا فى خلق الصور ونفخه نفخة الفزع والصعق والبعث الى ان يدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار وان يخرج المؤمنون من النار مكتوبا فى رقابهم الجهنّميون عتقاء الله وانا اذكره منتخبا قد ذكر فى ذلك الحديث ان الناس يقفون موقفا واحد الا يقضى بينهم فيصيحون ويقولون من يشفع لنا فيأتون آدم ويقول ما انا بصاحب ذلك فيأتون الأنبياء نبيا نبيا فلما جاءوا نبيا يأبى عليهم حتّى يأتونى فأنطلق معهم حتّى اتى الفحص اى قدام العرش فاخرّ ساجدا فيقول الله ما شأنك وهو اعلم فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعنى فى خلقك فاقض بينهم فيقول شفعتك اتيكم فاقضى بينكم فذكر الحديث بطوله فذكر القضاء فى البهائم والوحش ثم يقضى فى العباد فى الدماء والمظالم ثم يقول ليلحق كل قوم بآلهتهم فيلحقون ويبقى المؤمنون وفيهم المنافقون فيكشف لهم عن ساق فيخر المؤمنون ساجدين ويخر كل منافق على قفاه يجعل أصلابهم كصياصى البقر ثم يضرب الصراط فيمرون عليه الى قوله فناج سالم وناج مخدوش- ومكدوش على وجهه فى جهنم- فاذا مضى اهل الجنة الى الجنة قالوا من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة- فيقول من أحق من أبيكم آدم فيأتونه فيذكر ذنبا فيقول ما انا بصاحب ذلك ولكن عليكم بنوح فيأتونه فيقول نحو ذلك فيأتون ابراهيم وموسى وعيسى كل يقول(5/475)
نحو ذلك فيأتونى ولى عند ربى ثلاث شفاعات وعدنيهن فانطلق الى الجنة فاخذ بحلقة الباب ثم استفتح فيفتح لى فاذا نظرت الى ربى خررت ساجدا فيأذن لى فى حمده وتمجيده مالم يؤذن لاحد من خلقه ثم يقول ارفع رأسك يا محمّد اشفع تشفع سل تعطه فاقول رب وعدتني الشفاعة فشفعنى فى اهل الجنة ان يدخلوا الجنة فيشفعنى فذكر الحديث بطوله الى ان قال فاذا وقع اهل النار فى النار وقع فيها خلق كثير ممن خلق ربك قد أوثقهم أعمالهم فمنهم من تأخذه الى قدميه ولا تجاوز ذلك ومنهم من تأخذه الى نصف ساقيه ومنهم من تأخذه الى ركبتيه ومنهم من تأخذه الى حقويه ومنهم من تأخذ جسده كله الا وجهه حرم الله صورتهم عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقول يا رب من وقع فى النار من أمتي فيقول اخرجوا من النار من عرفتم فيخرج أولئك حتّى لا يبقى منهم أحد ثم يأذن الله فى الشفاعة فلا يبقى نبى ولا شهيد الا شفع فيقول اخرجوا من وجدتم فى قلبه زنة الدينار ايمانا ثم يقول اخرجوا من وجدتم فى قلبه ايمانا ثلثى دينار نصف دينار ثلث دينار ربع دينار قيراط حبة من خردل حتّى لا يبقى فى النار من عمل لله خيرا قط- ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع ثم يقول الله بقيت انا وانا ارحم الراحمين فيدخل الله يده فى جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه كثرة كانهم الحمم الحديث- قال الحافظ مدار هذا الحديث على إسماعيل بن رافع قاضى اهل المدينة قد تكلم فيه بسبب هذا الحديث
وفى بعض سياقه نكارة- وقد قيل انه جمع من طرق وأماكن متفرقة فسأقه سياقا واحدا- قال الحافظ ابو موسى المديني هذا الحديث وان كان فى اسناده من تكلم فيه فالذى فيه يروى مفرقا بأسانيد ثابتة وقد اختلف الناس فى تصحيح هذا الحديث وتضعيفه فصححه ابن العربي والقرطبي وصوبه الحافظ ابن حجر- وضعفه البيهقي وقال السيوطي ذكر يحيى بن سلام البصري فى تفسيره عن الكلبي انه إذا دخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار بقي زمرة من اخر زمر الجنة فيقول لهم اهل النار (وقد بلغت النار منهم كل مبلغ) اما نحن فقد أخذنا بالشك والتكذيب فما نفعكم توحيدكم فيصرخون عند ذلك فيسمعهم اهل الجنة ويأتون آدم فذكر الحديث الى ان قال فيأتون محمّدا(5/476)
صلى الله عليه وسلم فينطلق فيأتى رب العزة فيسجد له ثم يقول أناس من عبادك اصحاب ذنوب لم يشكّوا بك فعيرهم اهل الشرك بعبادتهم إياك فيقول وعزتى لاخرجنهم قال ابن حجر هذا لو ثبت لدفع الاشكال السابق عن الدراوردي من ذكر الإخراج فى اخر حديث الشفاعة فى الاراحة من كرب الموقف ولكنه ضعيف ومخالف لصريح الأحاديث الصحيحة ان السؤال انما يقع فى الموقف قبل دخول المؤمنين الجنة- قال السيوطي يحتمل الجمع بالتعدد مرتين مرة فى الموقف للاراحة ومرة فى الجنة للاخراج من النار من بقي من المؤمنين- قلت بل يقال بوقوع ذلك السؤال ثلاث مرات مرة فى الموقف للاراحة ومرة للاذن فى الدخول لاهل الجنة ومرة للاخراج من النار لمن بقي فيها من المؤمنين وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم ولى عند ربى ثلاث شفاعات وعدنيهن والمقام المحمود مقام الشفاعة وهى يعم كل شفاعة من الشفاعات الثلاث (مسئلة) وأنكر الخوارج والمعتزلة الشفاعة وقالوا ان اهل الكبائر إذا ماتوا من غير توبة لا شفاعة لهم ولا يخرجون من النار ابدا- وقد ورد فى الشفاعة أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر بالمعنى منها ما أخرج مسلم عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قول ابراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وقول عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فرفع يديه وقال أمتي أمتي ثم بكى فقال الله تعالى يا جبرئيل اذهب الى محمّد فقل له انّا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك- وما اخرج البزار فى الأوسط وابو نعيم بسند حسن عن علىّ رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اشفع لامتى حتّى ينادى ربى تبارك وتعالى أرضيت يا محمّد فاقول اى رب رضيت ومنها حديث ان ربى خيّرنى بين ان يدخل نصف أمتي الجنة بغير حساب وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهى لكل مسلم وفى لفظ لمن مات لا يشرك بالله شيئا رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي والطّبرانى عن عوف بن مالك الأشجعي- واحمد والطبراني والبزار بسند حسن عن معاذ بن جبل وابى موسى- وأحمد والطبراني(5/477)
والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمرو فى آخره أترونها للمتقين ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين- ومنها حديث شفاعتى لاهل الكبائر من أمتي رواه ابو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وصححاه عن انس- والطبراني وابو نعيم عن عبد بن بشير بمعناه- والطبراني فى الأوسط عن ابن عمر نحوه- وفى الكبير عن أم سلمة بمعناه- والترمذي والحاكم عن جابر نحوه- واخرج عن كعب بن عجرة- وعن طاءوس قال البيهقي هذا مرسل حسن يشهد لكون هذا اللفظ يعنى شفاعتى لاهل الكبائر شائعة بين التابعين- واخرج ابن ابى حاتم فى السنة عن انس يرفعه قال ما زلت اشفع الى ربى ويشفعنى حتّى أقول اى رب شفعنى فيمن قال لا اله الا الله فيقول هذا ليس لك يا محمّد ولا لاحد هذه لى وعزتى وجلالى ورحمتى لا ادع أحدا فى النار يقول لا اله الا الله- ومنها حديث نعم الرجل انا لشرار أمتي وقال اما شرار أمتي فيدخلهم الله الجنة بشفاعتى واما خيارهم فيدخلهم الله الجنة بأعمالهم- واخرج الطبراني عن عبادة بن الصامت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والّذي نفسى بيده انا لسيد الناس يوم القيامة بغير
فخر وما من الناس الا تحت لوائى يوم القيامة ينتظر الفرج وان معى لواء الحمد امشى ويمشى الناس معى الى باب الجنة فاستفتح فيقال من هذا فاقول محمّد فيقال مرحبا بمحمّد فاذا رايت ربى خررت ساجدا له شكرا فيقال ارفع رأسك قل تعطه اشفع تشفع فيخرج من أجرم برحمة الله وشفاعتى وفى الأوسط عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتى جهنم فاضرب بابها فيفتح لى فادخلها فاحمد الله بمحامد ما حمده أحد قبلى ولا يحمده أحد بعدي ثم اخرج منها من قال لا اله الا الله مخلصا فيقوم الىّ ناس من قريش فينتسبون لى فاتركهم فى النار واخرج البخاري عن عمران بن حصين مرفوعا يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد ويدخلون الجنة ويسمّون الجهنميون- وفى الصحيحين عن جابر مرفوعا ان الله يخرج قوما من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة- والطبراني بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا قال يدخل من اهل هذه القبلة النار من لا يحصى عددهم الا الله بما عصوا واجترءوا على معصية الله فيؤذن لى بالشفاعة فاثنى الله ساجدا كما اثنى قائما فيقال لى ارفع رأسك وسل تعطه(5/478)
واشفع تشفع- واخرج احمد والطبراني بسند لا بأس به عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الله تبارك وتعالى قال يا محمّد انى لم ابعث نبيّا ولا رسولا الا وقد سألنى مسئلة أعطيتها إياه فسل يا محمّد تعطه فقلت مسئلتى شفاعتى لامتى يوم القيامة فقال ابو بكر يا رسول الله وما الشفاعة قال فاقول يا رب شفاعتى الّتي اختبأت عندك فيقول الرب تعالى نعم فيدخل ربى بقية أمتي فيدخلهم الجنة- ومنها حديث لكل نبى دعوة مستجابة فتعجل كل نبى دعوته وانا اختبأت دعوتى شفاعة لامتى رواه الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة- ومسلم عن انس وجابر- واحمد عن عبد الله بن عمرو ابى سعيد الخدري- والبزار والبيهقي عن عبد الرّحمن بن عقيل- قال السيوطي هذا حديث متواتر- قلت فتعس من أنكر الشفاعة روى الشيخان فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب انه خطب فقال انه سيكون فى هذه الامة قوم يكذّبون بالرجم وبالدجّال ويكذّبون بطلوع الشمس من مغربها ويكذبون بعذاب القبر ويكذبون بالشفاعة ويكذّبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا- واخرج سعيد بن منصور والبيهقي وهناد عن انس قال من كذّب بالشفاعة فلا نصيب له ومن كذّب بالحوض فليس له فيه نصيب- واخرج ابو نعيم عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صنفان من أمتي لا ينالهما شفاعتى يوم القيامة المرجئة والقدرية- واخرج البيهقي عن شبيب ابن ابى فضلة المكي قال ذكروا عند عمران بن حصين الشفاعة فقال رجل يا أبا نجيد انكم لتحدثون أحاديث لا نجد لها أصلا فى القران فغضب عمران بن حصين وقال للرجل قرأت القران قال نعم قال فهل وجدت صلوة العشاء أربعا وصلوة المغرب ثلاثا وصلوة الفجر ركعتين والظهر أربعا والعصر أربعا قال لا قال فعمّن أخذتم هذا ألستم عنّا أخذتموه وأخذنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ووجدتم فى كل أربعين درهما درهم- وفى كل كذا شاة- وكل بعير كذا- اوجدتم فى القران هكذا قال لا قال ووجدتم فى القران وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ووجدتم طوفوا سبعا واركعوا ركعتين خلف المقام اوجدتم هذا فى القران او عمّن أخذتموه ألستم أخذتموه عنا وأخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا بلى(5/479)
قال اوجدتم فى القران لا جلب ولا جنب ولا شغار فى الإسلام قالوا لا قال فان الله قال فى كتابه ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وقد أخذنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم- وذكر البغوي انه روى عن يزيد بن صهيب الفقير قال كنت قد شغبنى رأى من رأى الخوارج وكنت رجلا شابّا فخرجنا فى عصابة نريد ان نحج فمررنا على المدينة فاذا جابر بن عبد الله يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الجهنميين فقلت له يا صاحب رسول الله ما هذا الّذي تحدثون والله عز وجل يقول إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ- وكُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها فقال اى فتى تقرا القران قلت نعم قال
سمعت مقام محمّد المحمود الّذي يبعثه الله فيه قلت نعم قال فانه مقام محمد المحمود الّذي يخرج الله به من يخرج من النار ثم نعت الصراط وعمر الناس عليه وقال ان قوما يخرجون من النار بعد ما يكونون فيها- (فصل) فى شفاعة الأنبياء وغيرهم روى ابن ماجة والبيهقي عن عثمان مرفوعا قال يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء وأخرجه البزار وزاد فى آخره ثم المؤذنون- واخرج الديلمي عن ابن عمر موقوفا يقال للعالم اشفع فى تلامذتك ولو بلغت عدد نجوم السماء- واخرج ابو داود وابن حبان عن ابى الدرداء مرفوعا الشهيد يشفع فى سبعين من اهل بيته واحمد والطبراني مثله عن عبادة بن الصامت مرفوعا وابن ماجة مثله عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا- واخرج البيهقي عن الحسن والحاكم وصححه والبيهقي وهنّاد عن الحارث بن قيس واحمد مثله عن ابى بردة وهناد مثله عن ابى هريرة واحمد والطبراني والبيهقي بسند صحيح عن ابى امامة قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر وفى الباب أحاديث كثيرة لا يسعها المقام تدل على شفاعة غير نبينا صلى الله عليه وسلم- فان قيل لما لم يبق أحد فى النار بشفاعة محمّد صلى الله عليه وسلم فاين يكون شفاعة غيره قلت لعل شفاعة الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم يختص بأمته ولا يشتمل جميعهم وشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم ينال غير أمته ايضا ولا يترك أحدا من أمته فى النار وأما غير الأنبياء فلعلهم اما يشفعون(5/480)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
الى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم عند ربه واما ان يحصل لغير النبي صلى الله عليه وسلم الاذن فى الشفاعة بشفاعة محمّد صلى الله عليه وسلم فائدة قال البيهقي قوله صلى الله عليه وسلم شفاعتى لاهل الكبائر من أمتي تدل على ان الشفاعة لاهل الكبائر يختص برسول الله صلى الله عليه وسلم دون الملائكة- والملائكة انما يشفعون فى الصغائر واستزادة الدرجات فائدة قال المجدد للالف الثاني رضى الله عنه تعقيب قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً بعد قوله وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ يشعر بان لصلوة التهجد- مدخلا تامّا فى قيام الرجل مقام الشفاعة والله اعلم- اخرج الترمذي عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم امر بالهجرة فنزلت عليه.
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ يعنى المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ يعنى مكة كذا قال الحسن وقتادة والمدخل والمخرج اسم ظرف منصوب على الظرفية او مصدر يعنى أدخلني المدينة ادخالا مرضيا لا ارى فيه ما اكره وأخرجني من مكة إخراجا مرضيّا لا التفت بقلبي إليها- وقال الضحاك معناه أخرجني من مكة مخرج صدق أمنا من المشركين وأدخلني مكة مدخل صدق ظاهرا عليها بالفتح- وقال مجاهد أدخلني فى أمرك الّذي أرسلتنى به من النبوة مدخل صدق وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب علىّ من حقها مخرج صدق- وعن الحسن قال أدخلني مدخل صدق الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة- قلت الاولى ان يقال فى مقابلة أدخلني الجنة مدخل صدق أخرجني من الدنيا مخرج صدق- وقال البيضاوي أدخلني فى القبر ادخالا مرضيّا وأخرجني منه عند البعث إخراجا تلقى بالكرامة- وقيل معناه أدخلني فى طاعتك وأخرجني من المناهي- وقيل المراد إدخاله فى كل ما يلابس من مكان أو أمر وإخراجه منه اى لا تجعلنى ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه فان ذا الوجهين لا يكون أمينا عند الله وحيها- وقيل المراد إدخاله الغار وإخراجه منه سالما- ووصف الإدخال والإخراج بالصدق لما يؤل اليه الخروج والدخول من مرضاة الله تعالى والنصر والعز والكرامة ودولة الدين كما وصف القدم بالصدق فقال أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ- والتحقيق فى ذلك ان(5/481)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
الصدق والكذب فى الأصل هما صفتا القول بل الخبر منه دون الإنشاء وهو مطابقة الخبر الواقع وقد يطلق على الإنشاء لتضمنه معنى الاخبار كقول القائل أزيد فى الدار يتضمن انه جاهل بحاله- وقد يستعملان فى افعال الجوارح فيقال صدق فى القتال إذا وقى حقه وفعل على ما ينبغى ومنه رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ اى حققوا العهد- وقوله تعالى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا اى حقق ايضا- ويعبر بالصدق عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا فيضاف اليه ذلك الفعل الّذي يوصف به ومنه قوله تعالى فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ- ولَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ- ورَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ- واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فان ذلك سوال بان يجعل الله ذلك صالحا بحيث إذا اثنى عليه أحد كان صادقا والله اعلم وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) قال مجاهد حجة بينة وقال الحسن ملكا قويا تنصربه على من ناوانى وعزّا ظاهرا أقيم به دينك- فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما فيجعله له- قال قتادة علم نبى الله صلى الله عليه وسلم ان لا طاقة له بهذا الأمر الا بسلطان نصير من الله تعالى فسال سلطانا نصيرا لكتاب الله وحدوده واقامة دينه- قلت بل علّمه الله ذلك وامره بان يسئل منه تعالى سلطانا نصيرا- قيل سال رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة وملكا ينصر الإسلام على الكفر فاستجاب الله له بقوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ- ... لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ... - لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَقُلْ يا محمّد عند دخولك مكة حين فتحت جاءَ الْحَقُّ اى الإسلام وعبادة الله وحده او القران وَزَهَقَ الْباطِلُ اى ذهب وهلك الشرك وعبادة الأصنام من زهق روحه إذا خرج إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) اى حقيقا للزهوق وعدم الثبات لبنائه على ما لا اصل له- عن ابن مسعود رضى الله عنه قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود فى يده ويقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ ... وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي واخرج الطبراني فى الصغير وابن(5/482)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
مردوية والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس نحوه-.
وَنُنَزِّلُ قرا البصريان بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل مِنَ الْقُرْآنِ من للبيان ما هُوَ شِفاءٌ من امراض الكفر والجهالات جلاء لظلمات القلوب والأنفس- ماح لكدورات القلبية والقالبية والنفسانية- دافعة لرذائلها- وقيل من للتبعيض والشفاء الشفاء من الأمراض الظاهرة والمراد من بعض القران ما هو يشفى السقيم كالفاتحة ونحوها- وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بالشفاءين العسل والقران وقد مر فى سورة النحل وَرَحْمَةٌ من الله تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ اى للذين أمنوا وانتفعوا به خاصة يفيد لهم الفوائد الدينية والدنيوية والاخروية وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ اى المنكرين بالقران إِلَّا خَساراً (82) لتكذيبهم وكفرهم به قال قتادة لن يجالس هذا القران أحد إلا قام عنه بزيادة او نقصان قضى الله تعالى الّذي قضى شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والسعة او بنزول القران أَعْرَضَ عن ذكر الله يعنى لم يشكره وَنَأى قرا الجمهور على وزن رمى بمعنى تباعد وقرا ابن ذكوان هاهنا وفى فصلت على وزن جاء ومعناه نهض وقيل معناه بعد كذا فى القاموس وابو جعفر وابو محمّد والمال واحد أمال الكسائي وخلف فتحة النون والهمزة هاهنا وفى فصلت وامال خلاد فتحة الهمزة فيهما فقط وقد روى عن ابى شعيب مثل ذلك وامال أبو بكر فتحة الهمزة هاهنا وأخلص هناك والباقون بفتحهما وورش على أصله فى ذوات الياء بِجانِبِهِ اى لوى عنقه وبعد بنفسه كانه مستغن عنه وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض او فقر كانَ يَؤُساً (83) شديد اليأس والقنوط من روح الله-.
قُلْ كُلٌّ اى كل واحد من الناس الشكور والكفور يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قال ابن عباس على ناحيته اى جانبه الّذي يميل اليه من الهدى او الضلال- وقال الحسن وقتادة على نيته يعنى من كان يميل الى الدنيا ينوى بعمله صلاح الدنيا ومن كان يميل الى الآخرة ينوى بعمله وجه الله وصلاح الاخرة- وقال مقاتل على جبلته وقال الفراء على طريقته الّتي جبل عليها- وقال القتيبى(5/483)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
على طبيعته وخليقته ومال الأحوال الثلاثة واحد يعنى على حسب استعداده الّذي أودع الله فيه فهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم كل ميسر لما خلق له في حديث متفق عليه عن على رضى الله عنه مرفوعا وعن ابى الدرداء قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ما يكون إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا فانه يصير الى ما جبل عليه رواه احمد- والاستعداد عبارة عن الكيفية الحاصلة لكل أحد باعتبار علته الفاعلية والمادية اما باعتبار علته الفاعلية فكونه ظلا من ظلال الاسم الهادي او الاسم المضل واما باعتبار علته المادية فهو الكيفية المزاجية الحاصلة من تركيب العناصر الاربعة وانما اختلاف شهوات النفوس على حسب اختلاف ثوران بعض العناصر دون بعض واختلاف طبائع الاجزاء الارضية كما مر قوله صلى الله عليه وسلم فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب- وقيل على شاكلته اى سبيله الّذي اختاره لنفسه قال البيضاوي اى على طريقته الّتي تشاكل حاله فى الهدى او الضلالة او جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه وفى القاموس الشكل الشبه والمثل وما يوافقك ويصلحك وصورة الشيء المحسوسة والمتوهمة والشاكلة الشكل والناحية والنية والطريقة والمذهب فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (84) اى اسدّ طريقا وأبين منهجا يعنى من هو على طريقة موصلة الحق من العقائد والأعمال ومن فى طريقته اعوجاج قليل او كثير والله أعلم- اخرج البخاري عن ابن مسعود قال كنت امشى مع النبي صلى الله عليه وسلم فى حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه فمر على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم لا تسئلوه لا يجيء الا بشيء تكرهونه فقال بعضهم لنسئلنه فقام رجل منهم فقال يا أبا القاسم ما الروح فسكت فقلت انه يوحى اليه فقمت فلما انجلى عنه الوحى قال.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ اى الّذي يحيى به بدن الإنسان ويدبره قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي اى من الإبداعيات الكائنة بقوله كن من غير مادة ولولد عن(5/484)
اصل كاعضاء الجسد ولما كان هذا غاية البيان باللسان على قياس فهم السائلين بحيث يحصل به امتياز الروح عن سائر الماديات ولم يكن مفيدا للعلم بحقيقته المسئولة بقولهم وما الروح اعتذر عنه وقال وَما أُوتِيتُمْ ايها السائلون مِنَ الْعِلْمِ بالأشياء الكائنة إِلَّا قَلِيلًا (85) اى ما تستفيدونه بتوسط حواسكم فان اكتساب العقل للمعارف النظرية انما هو من الضروريات المستفادة من احساس الجزئيات ولذلك قيل من فقد حسّا فقد فقد علما ولعل اكثر الأشياء لا يدركها الحس فلا يحصل عنده ذاتياتها فلا يدرك بعضها الا بعوارض تميّزه عما يلتبس به والألفاظ انما وضعت بإزاء أشياء محسوسة او معقولة منتهية اكتسابها الى أشياء محسوسة ولذلك اقتصر موسى عليه السلام فى جواب قول فرعون وما ربّ العلمين بذكر بعض صفاته- وهذه الاية لا يقتضى نفى العلم بالروح للنبى صلى الله عليه وسلم ولاصحاب البصائر من اتباعه- فان طور علمهم وراء طور علم العالمين بتوسط الحواس والاكتساب فانهم يلهمون من الله تعالى حقائق الأشياء بلا توسط الحواس والاكتساب- فان لقلوبهم اسماع يسمعون بها ما لا يسمعه الاذان وأبصار يبصرون بها ما لا يبصره العيون- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى لا يزال عبدى يتقرّب الىّ بالنوافل حتّى أحببته فاذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به الحديث- وقد أدرك اصحاب البصائر حقيقة الروح وظهر لهم ان لكل انسان خمسة من الأرواح العلوية- والروح السفلى المسمى بالنفس سادسها- والخمسة القلب والروح والسر والخفي والأخفى- يمتاز عندهم كل منها عن الاخر ذاتا وصفاتا- ويعرفونها كما يعرفون أبناءهم- وقد يشتبه عند بعضهم بعضها ببعض- بل قد تشتبه هى لاجل لطافتها بمراتب الوجوب- حتّى قال بعضهم عبدت الروح ثلاثين سنة ثم اظهر الله تعالى حقيقته وإمكانه وحدوثه عليه- فقال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ- فان قيل اخرج ابن مردوية عن عكرمة انه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب قال بل نحن وأنتم فقالوا ما اعجب شأنك ساعة تقول وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً- وساعة تقول هذا- فنزلت وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الاية وهذه الرواية تدل على ان النبي(5/485)
صلى الله عليه وسلم ايضا لم يكن عارفا بحقيقة الروح- قلنا لو صح هذه الرواية فالمعنى ان الخطاب بقوله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا يعم كلا الفريقين فلا شك ان علوم الأنبياء والملائكة وسائر الخلائق «1» قليلة فى جنب علم الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ الاية- ولا منافاة بين كون الحكمة الموهوبة للانبياء وكمل اتباعهم (ومنها العلم بحقيقة الروح وغير ذلك) خيرا كثيرا فى نفسه متكفلا لكمالات الإنسان ظاهرا وباطنا وبين كونها قليلا بالنسبة الى علم الله الغير المتناهي-
فائدة
ما ذكرنا من القصة يدل على كون الاية مدنية- وقال البغوي روى عن ابن عباس انها نزلت بمكة- حيث قال ان قريشا اجتمعوا- وقالوا ان محمّدا نشا فينا بالامانة والصدق وما اتهمناه بكذب وقد ادعى ما ادعى- فابعثوا نفرا الى اليهود بالمدينة واسئلوهم عنه فانهم اهل كتاب- فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فان أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبىّ- وان أجاب عن الاثنين ولم يجب عن الواحد فهو نبى- فسلوه عن فتية قد اووا فى الزمن الاول ما كان من أمرهم فانه كان لهم حديث عجيب- وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها ما خيره- وعن الروح فسألوه فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبركم بما سألتم غدا ولم يقل ان شاء الله فلبث الوحى قال مجاهد اثنتا عشرة ليلة- وقيل خمس عشرة- وقال عكرمة أربعين يوما واهل مكة يقولون وعدنا محمّد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء- حتّى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكث الوحى وشقّ عليه ما يقول اهل مكة- إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ- ونزل فى الفتية أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً- ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ- ونزل فى الروح قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي- وروى الترمذي هذه القصة مختصرا عنه قال ابن كثير يجمع بين الحديثين بتعدد النزول- وكذا قال الحافظ ابن حجر وزاد او يحمل سكوته حين سوال اليهود على توقع مزيد بيان فى ذلك- والا فما فى الصحيح أصح وو ايضا يرجح ما فى الصحيح بانه رواية حاضر القصة بخلاف ابن عباس وقال البغوي وروى
__________
(1) وفى الأصل قليل-(5/486)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
عن ابن عباس ان الروح الّذي وقع السؤال عنه هو جبرئيل وهو قول الحسن وقتادة قلت وكذا اخرج عبد بن حميد وابو الشيخ عن الضحاك وقال البغوي وروى عن علىّ عليه السلام ان الروح هو ملك له سبعون الف وجه لكل وجه سبعون الف لسان يسبح الله تعالى بكلها- وقال مجاهد هو خلق على صورة ابن آدم لهم أيد وارجل ورءوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام- وقال سعيد بن جبير لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش- لو شاء ان يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل- صورة خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين- يقوم يوم القيامة على يمين العرش وهو اقرب الخلق الى الله عزّ وجلّ عند الحجب السبعين- واقرب الى الله يوم القيامة وهو يشفع لاهل التوحيد لولا ان بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق اهل السموات من نوره- واخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال الروح أعظم خلقا من الملائكة- ولا ينزل ملك الا ومعه روح- وقيل الروح القران ومعنى قوله تعالى مِنْ أَمْرِ رَبِّي انه من وحي الله وقيل المراد عيسى فانه روح الله وكلمته- ومعنى الاية انه ليس كما يقول اليهود حيث بهتوا امه- ولا كما يقوله النصارى انه ابن الله- بل هو مخلوق من امر الله بكلمة كن من غير اب- ولما ذكر الله سبحانه ان علم العالمين قليل بالنسبة الى علمه تعالى- نبّه على نعمة الوحى وانه أوتى من العلوم ما لم يؤت غيره حثّا بالصبر على أذى الكفار بقوله.
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اللام الاولى موطية للقسم وقوله لَنَذْهَبَنَّ جوابه النائب مناب جزاء الشرط- والمعنى ان شئنا ذهبنا بالقران ومحوناه عن المصاحف والصدور ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا (86) يتوكل علينا استرداده محفوظا ومسطورا.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعنى الا ان ينالك رحمة من ربك فهى لسترده- ويجوز ان يكون الاستثناء منقطعا ومعناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به- فيكون امتنانا(5/487)
بإبقائه بعد المنة فى تنزيله إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) حيث بعثك نبيّا وانزل عليك الكتاب والتزم عليه جمعه فى المصاحف والصدور وقرانه وبيانه واعطاك المقام المحمود والحوض المورود وغير ذلك- قال البغوي قال ابن مسعود اقرءوا القران قبل ان يرفع فانه لا تقوم الساعة حتّى يرفع- قيل هذه المصاحف يرفع فكيف بما فى الصدور- قال ليسرى عليه ليلا فيرفع ما فى صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون فى المصاحف شيئا- ثم يفيضون فى الشعر- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال لا تقوم الساعة حتّى يرجع القران من حيث نزل له دوى حول العرش كدوى النحل فيقول الرب مالك فيقول يا رب اتلى ولا يعمل بي- قلت هكذا ذكر البغوي وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتّى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فسالوا فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا- وروى احمد وابن ماجة عن زياد بن لبيد قال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال ذلك عند أوان ذهاب العلم- قلت يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرا القران ونقرؤه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم الى يوم القيامة- قال فقال ثكلتك أمك زياد ان كنت لاراك من افقه رجل بالمدينة- او ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التورية والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما- وروى الترمذي عنه نحوه وروى الدارمي عن ابى امامة نحوه قلت ولعل ابن مسعود زعم رفع القران عن المصاحف والصدور بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تعلموا العلم وعلموه الناس تعلموا الفرائض وعلموها الناس تعلموا القران وعلموه الناس فانى امرؤ مقبوض والعلم سيقبض ويظهر الفتن حتّى يختلف اثنان فى فريضة لا يجدان أحدا يفصل بينهما- رواه الدار قطنى والدارمي عن ابن مسعود ومقتضى حديث الصحيحين ان يحمل قبض العلم فى هذا الحديث على قبضه بقبض العلماء لا بالانتزاع- ومقتضى حديث زياد ان معنى ذهاب العلم ذهاب توفيق العمل به- قلت والجمع(5/488)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
بينهما انه يذهب توفيق العمل بالعلم اولا كما تراه فى زماننا- ثم يذهب العلم مطلقا بقبض العلماء كما ترى قلة العلم فى ذلك الزمان الى هذا الغاية بقلة العلماء وبعد ما كان كثيرا بكثرة العلماء وقلة توفيق التعليم والتعلم والله اعلم- اخرج ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد او عكرمة عن ابن عباس قال اتى النبي صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم فى «1» جماعة يهود سماهم فقالوا كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا وان هذا الّذي جئت به لا نراه متناسقا كما تناسق التورية فانزل علينا كتابا نقرؤه نعرفه وإلا جئناك بمثل ما تأتى به فانزل الله تعالى.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ فى البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ اى لا يقدرون على ذلك وفيهم العرب العرباء وارباب البيان والشعراء واهل التحقيق والبلغاء- وهو جواب قسم دل عليه اللام الموطئة ولولا هى لكان جواب الشرط بلا جزم لكون الشرط ماضيا وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اى لبعضهم ظَهِيراً (88) عونا ومظاهرا على الإتيان به وقال البغوي نزلت الاية حين قال الكفار لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا فكذّبهم الله- وفيه معجزة حيث كان كما اخبر الله تعالى به- ولم يقدروا على إتيان اقصر سورة منه مع كمال حرصهم على المعارضة- قال البيضاوي لعله لم يذكر الله تعالى الملائكة لان إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزة ولانهم كانوا وسائط فى إتيانه- قلت المراد بالإتيان الإتيان من عند أنفسهم على سبيل المعارضة والمجادلة من غير وحي من الله تعالى ولا شك ان الملائكة ايضا لا يقدرون على إتيان كلام مثل كلام غير مخلوق- لكنهم لم يذكروا لان الإتيان المذكور كفر انما يتصور من المنكر- والملائكة معصومون يؤمنون به ولا يتصور منهم الإنكار والله اعلم وجاز ان يكون الاية تقريرا لقوله لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا....
وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا بوجوه مختلفة فى التقرير والبيان لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى
__________
(1) وفى الأصل فى عامة يهود-(5/489)
من العبر والاحكام والوعد والوعيد وغيرها هو كالمثل فى غرابته وحسنه ووقوعه موقعا فى الأنفس فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً (89) جاز هاهنا وقوع المستثنى مفرغا فى الإثبات لكونه فى قوة النفي ومعناه فلم يرض ولم يأت أكثرهم الا كفورا اى جحودا وإنكارا- ذكر البغوي عن عكرمة عن ابن عباس ان عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان ابن حرب ورجلا من بنى عبد الدار (سماه البغوي النضر بن الحارث) وأبا البختري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله ابن ابى امية وامية بن خلف والعاص بن وائل ومنيبا ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا ومن اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة- فقال بعضهم لبعض ابعثوا الى محمّد فكلموه وخاصموه حتّى تعذّروا فيه- فبعثوا اليه ان اشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا- وهو يظن انه بدا لهم فى امره بدءا وكان عليهم حريصا يحب رشدهم حتّى جلس إليهم فقالوا يا محمّد انّا بعثنا إليك لنعذّر فيك وانّا والله لا نعلم رجلا من العرب ادخل على قومه ما ادخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الالهة وفرقت الجماعة فما بقي امر قبيح الا وقد جئته فيما بيننا وبينك- فان كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون اكثر مالا- وإن كنت انما تطلب الشرف فينا «1» سودناك علينا- وان كنت تريد ملكا ملّكناك علينا- وان كان هذا الّذي يأتيك بما يأتيك ربّيّا تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا فى طلب الطب (وكانوا يسمون التابع من الجن الربّى) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مابى ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وانزل علىّ كتابا وأمرني ان أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلّغنكم رسالته ونصحتكم فان تقبلوا منى فهو حظكم فى الدنيا والاخرة وان تردوه علىّ اصبر لامر الله
__________
(1) وفى الأصل سودنا علينا-(5/490)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
حتّى يحكم بيننا وبينكم- قالوا يا محمّد فان كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت انه ليس أحد من الناس أضيق بلاد اولا اقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسئل لنا ربك الّذي بعثك فليسيّر عنا هذه الجبال الّتي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كانهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من ابائنا وليكن منهم قصىّ بن كلاب فانه كان شيخا صدوقا فنسئلهم عما تقول أحق هو أم باطل فان صدّقوك صدّقناك- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به فان تقبلوا فهو حظكم فى الدنيا والاخرة وان تردوه اصبر لامر الله- قالوا فان لم تفعل هذا فسل ربك ان يبعث لنا ملكا يصدّقك وسله ان يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فانك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه- قال ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا- قالوا فأسقط السماء كما زعمت ان ربك لو شاء فعل- فقال ذلك الى الله ان شاء فعل ذلك بكم فعله- وقال قائل منهم لن نؤمن لك حتّى تأتينا بالله وللملائكة قبيلا- فلمّا قالوا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن ابى امية وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب- فقال يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سالوك لانفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سالوك ان تعجل ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل فو الله لا أؤمن لك ابدا حتّى تتخذ الى السماء سلّما ثم ترتى فيه وانا انظر حتّى تأتيها وتأتى معك نسخة منشورة ومعك اربعة من الملائكة يشهدون لك بما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت ان لا أصدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اهله حزينا لما راى من مباعدتهم فانزل الله تعالى.
وَقالُوا عطف على ابى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ الاية الى قوله بَشَراً رَسُولًا- واخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن شيخ من اهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس- واخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير فى هذه الاية قال نزلت(5/491)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
فى أخي أم سلمة عبد الله بن امية قال فى لباب النقول هذا مرسل صحيح شاهد لما قبله يجبر المبهم فى اسناده- يعنى قال كفار مكة تعنتا واقتراحا بعد ما لزمتهم بيان اعجاز القران وانضمام غيره من المعجزات لن نؤمن لك حَتَّى تَفْجُرَ قرا الكوفيون بفتح التاء وضم الجيم مخففا من المجرد- والباقون بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم مشددا من التفعيل لَنا مِنَ الْأَرْضِ ارض مكة يَنْبُوعاً (90) اى عينا لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ بستان مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ من التفعيل باتفاق القراء الْأَنْهارَ خِلالَها وسطها تَفْجِيراً (91) تشقيقا.
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً يعنون قوله تعالى أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ قرا نافع وابن عامر وعاصم بفتح السين كقطع لفظا ومعنى جمع كسفة وهى القطعة والباقون بسكون السين على التوحيد وجمعه كسياف وكسوف اى يسقطها طبقا واحدا وقيل معناه ايضا القطع وهى جمع مثل سدرة وسدر- وقرا فى الشعراء كسفا بالفتح حفص- وفى الروم ساكنة ابو جعفر وابن عامر أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (92) قال ابن عباس والضحاك اى كفيلا لما تدّعيه اى شاهدا على صحته ضامنا لدركه- وقال قتادة اى مقابلا نراهم عيانا كالعشير بمعنى المعاشر وقال الفراء هو من قول العرب لقيت فلانا قبيلا وقبلا اى معائنة- وهو حال من الله والحال من الملائكة محذوف لدلالتها عليه- وقال مجاهد هو جمع القبيلة اى بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة صنفا صنفا فيكون حالا من الملائكة.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ اى ذهب واصله الزينة أَوْ تَرْقى اى تصعد فِي السَّماءِ فى معارجها هذا قول عبد الله بن امية وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ اى لصعودك وحده حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ وكان فيه تصديقك ونؤمر فيه باتباعك قُلْ قرا ابن كثير وابن عامر على صيغة الماضي اى قال محمّد والباقون على صيغة الأمر أي قل يا محمّد تعجبا من اقتراحاتهم او تنزيها لله تعالى من ان يأتى او يتحكم عليه او(5/492)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
يشاركه أحد فى القدرة سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ اى ما كنت إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (93) يعنى ليس ما سالتم فى طوق البشر بل لو أراد الله ان ينزل ما طلبوا لفعل ولكنه لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر غالبا وقد اعطى الله تعالى لرسوله من الآيات والمعجزات ما يغنى عن هذا كله مثل القران وانشقاق القمر ونبع الماء من بين الأصابع وما أشبهها وهذا هو الجواب المجمل وأما التفصيل فقد ذكر فى آيات اخر وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الاية وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ ... وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى يعنى لم يؤمنوا بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً-.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا محل ان النصب على انه مفعول ثان لمنع إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى النبي والقران إِلَّا أَنْ قالُوا محله الرفع على انه فاعل منع أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (94) يعنى ما منعهم عن الايمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم والقران بعد نزول الوحى وظهور الحق شيء الا قولهم على سبيل الإنكار يعنى الا انكارهم ان يرسل الله بشرا- وهذا الإنكار واقع غير موقعه فان النقل والعقل حاكم بأن الرسول لا بد ان يكون من جنس المرسل إليهم حتّى يبلّغهم رسالات ربهم فيستفيدون منه لاجل المناسبة نبّه الله سبحانه على هذا المعنى بقوله.
قُلْ يا محمّد جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشى بنوا آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها غير ذاهبين الى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب عليهم لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (95) يعنى لا نرسل الى قوم رسولا الا من جنسهم ليمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه- وملكا يحتمل ان يكون حالا من الرسول او موصوفا به وكذلك بشرا والاول أوفق.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على انى رسوله إليكم فانه تعالى اظهر المعجزات على يدى على وفق دعواى او على انى بلغت ما أرسلت به إليكم وانكم عاندتم بعد ظهور الحق فهو(5/493)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
يحكم بيننا وبينكم بإثابة المحق وتعذيب المبطل- وشهيدا نصب على الحال او التميز إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ المنذرين والمنذرين خَبِيراً بَصِيراً (96) يعلم بظواهر أحوالهم وبواطنها فيجازيهم عليه- فيه تسلّية للنبى صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار-.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ اثبت الياء فى الوصل نافع وحذفها الباقون فى الحالين وَمَنْ يُضْلِلْ اى من يخذله ولم يعصم حتّى قبل وساوس الشيطان فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يهدونه مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يمشون عَلى وُجُوهِهِمْ او يسحبون عليها عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال أليس الّذي أمشاه على رجليه قادر على ان يمشيه على وجهه- متفق عليه واخرج ابو داود والبيهقي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة اصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم- فقال رجل يا رسول الله او يمشون على وجوههم قال الّذي أمشاهم على أقدامهم قادر على ان يمشيهم على وجوههم وكذا اخرج الترمذي وحسنه وروى الترمذي وحسنه عن معاوية بن جيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول انكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم واخرج النسائي والحاكم والبيهقي عن ابى ذر قال حدثنى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ان الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج يسحبهم الملائكة على وجوههم عُمْياً لا يرون ما تقربه أعينهم وَبُكْماً لا ينطقون بحجة او اعتذار يقبل منهم وَصُمًّا لا يسمعون شيئا يسرّهم لانهم فى الدنيا لم يستبصروا بالآيات والعبر وتصاموا عن استماع الحق وأبوا ان ينطقوا بالصدق كذا ذكر البغوي قول ابن عباس فلا منافاة بين هذه الاية وبين قوله تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وقوله تعالى دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وقوله تعالى سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وقوله تعالى رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً وغيرها من الآيات الّتي تثبت لهم الرؤية(5/494)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
والكلام والسمع- وقيل يحشرون كما وصفهم الله تعالى ثم يعطى لهم السمع والبصر والنطق إذا عرضوا على النار وعند الحساب- وقيل يحشرون بعد الحساب من الموقف الى النار مؤفى القوى والحواس- واخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن محمّد بن كعب قال لاهل النار خمس دعوات يجيبهم الله فى اربع فاذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها ابدا يقولون رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ فيجيبهم ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ الاية ثم يقولون رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ فيجيبهم فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ الاية ثم يقولون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجيبهم أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ الاية ثم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيجيبهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ الاية ثم يقولون رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فلا يتكلمون بعدها ابدا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ اى سكن لهبها بان أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) وقودا فيتوقد النار بان يبدل جلودهم ولحومهم كانّهم لمّا كذبوا بالاعادة بعد الافناء جزاهم الله بانهم لا يزالون على الافناء والاعادة واليه أشار بقوله-.
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) فان الاشارة بذلك الى ما تقدم من عذابهم.
أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهام للانكار والعطف على محذوف تقديره أنكروا البعث ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مع عظمها وشدتها من غير سبق مثال قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ مع صغرهم وضعفهم فانهم ليسوا أشد خلقا منهن ولا الاعادة أصعب عليه من الإبداء(5/495)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
وَجَعَلَ لَهُمْ عطف على خبر انّ يعنى الم يعلموا ان الله جعل لهم أَجَلًا اى وقتا لعذابهم لا رَيْبَ فِيهِ اى فى ان يأتيهم قيل هو الموت وقيل يوم القيامة فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحق إِلَّا كُفُوراً (99) اى جحودا وإنكارا عطف على لم يروا يعنى الم يروا قدرة الله على خلقه وجعله لهم أجلا فابوا كل شيء الا جحودا وفيه وضع الظاهر اى الظالمون موضع الضمير للتصريح بكونهم ظالمين فى الإنكار والكفر.
قُلْ يا محمّد لَوْ أَنْتُمْ ايها الناس مرفوع بفعل يفسره تَمْلِكُونَ وفائدة الحذف والتفسير المبالغة والدلالة على الاختصاص مع الإيجاز خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي اى رزقه وسائر نعمائه قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها إِذاً اى إذا ملكتم ظرف لما بعده لَأَمْسَكْتُمْ وبخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ اى لاجل الخوف من الفقر بالإنفاق وقيل خشية النفاد يقال نفق الشيء إذا ذهب وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) بخيلا ممسكا لان بناء امره على الحاجة والبخل بما يحتاج اليه وملاحظته العوض فيما يبذل بخلاف الله سبحانه فانه جواد غير محتاج الى شيء قادر على إيجاد أضعاف غير متناهية مما وجد فلا ينفد خزائنه-.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ اى معجزات واضحات قال ابن عباس والضحاك هى العصا- واليد البيضاء- والعقدة الّتي كانت بلسانه فحلّها- وفلق البحر- والطوفان- والجراد- والقمّل- والضفادع- والدم- وقال عكرمة ومجاهد وعطاء هى الطوفان- والجراد- والقمل- والضفادع- والدم والعصا- واليد- والسنون- ونقص الثمرات- قال وكان رجل منهم مع اهله فى فراشه وقد صارا حجرين والمرأة منهم قائمة تختبز فصارت حجرا- وذكر محمّد ابن كعب القرظي الطمس وانفلاق البحر ونتق الطور على بنى إسرائيل- وقيل الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الثلاثة الاخيرة- وعن صفوان بن عسال قال قال يهودى لصاحبه اذهب بنا الى هذا النبي فقال له صاحبه لا تقل(5/496)
له نبى انه لو سمعك لكان له اربع أعين فاتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسالاه عن تسع آيات بينات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشركوا بالله شيئا- ولا تسرقوا- ولا تزنوا- ولا تقتلوا النفس الّتي حرم الله الا بالحق- ولا تمشوا ببرىّ الى ذى سلطان ليقتله ولا تسحروا- ولا تأكلوا الربوا- ولا تقذفوا محصنة- ولا تولوا الفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود ان لا تعتدوا فى السبت- قال فقبّلا يديه ورجليه وقالا نشهد انك نبى- قال فما يمنعكم ان تتبعونى- قالا ان داود عليه السلام دعا ربه ان لا يزال من ذريته نبى وانا نخاف ان تبعناك ان يقتلنا اليهود رواه ابو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح لا نعرف له علة- وروى البغوي بلفظ ان يهوديا قال لصاحبه تعال حتّى نسئل هذا النبي فقال الاخر لا تقل له انه نبى انه لو سمع صارت له اربع أعين فاتياه فسالاه عن هذه الاية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ الحديث فعلى هذا المراد بالآيات الاحكام العامة للملل الثابتة فى كل الشرائع سمى بذلك لانها تدل على حال من يتعاطى متعلقها فى الاخرة من السعادة والشقاوة وقوله وعليكم خاصة اليهود ان لا تعتدوا حكم مستانف زائد على الجواب ولذلك غير فيه سياق الكلام فَسْئَلْ اى فقلنا لموسى فاسئل بَنِي إِسْرائِيلَ من فرعون ليرسلهم معك- أو سل يا موسى بنى إسرائيل عن دينهم ويؤيد كون الخطاب لموسى قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل على لفظ الماضي بغير همزة الوصل أخرجه سعيد بن منصور فى سننه واحمد فى الزهد عن ابن عباس إِذْ جاءَهُمْ متعلق بقلنا مقدر- او المعنى فاسئل يا محمّد بنى إسرائيل عمّا جرى بين موسى وفرعون إذ جاءهم وعن الآيات ليظهر للمشركين صدقك او لتسلّى نفسك وتعلم انه تعالى لو اتى بما اقترحوا لاصروا على العناد والمكابرة كمن قبلهم او ليزداد يقينك لان تظاهر الادلّة توجب قوة اليقين وطمانية القلب- وعلى هذا كان إذ منصوبا باتينا او بإضمار يخبروك على انه جواب الأمر او بإضمار اذكر على الاستيناف فَقالَ لَهُ اى لموسى فِرْعَوْنُ(5/497)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً
(101) سحرت فاختل عقلك حيث تدعى امرا مستحيلا يعنى الرسالة من الله تعالى كذا قال الكلبي- وقيل مصروفا عن الحق- وقال الفراء وابو عبيدة ساحرا وضع المفعول موضع الفاعل- وقال محمّد بن جرير معطى علم السحر فهذه العجائب الّتي تفعلها من سحرا-.
قالَ موسى فى جوابه لَقَدْ عَلِمْتَ قرا الكسائي بضم التاء على اخباره عن نفسه اى علمت انا ويروى ذلك عن علىّ- وقال لم يعلم الخبيث ان موسى على الحق ولو علم لا من ولكن موسى هو الّذي علم- وقرا الباقون بفتح التاء اى لقد علمت أنت يا فرعون- قال ابن عباس علمه فرعون ولكن عاند قال الله تعالى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ... ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ جمع بصيرة اى بينات يبصرك صدقى ولكنك تعاند وانتصابه على الحال وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) قال ابن عباس ملعونا وقال مجاهد هالكا- وقال قتادة مهلكا- وقال الفراء مصروفا ممنوعا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم ما ثبرك عن هذا اى ما صرفك- نازع ظنه بظنه وشتّان ما بين الظنين فان ظن فرعون باطل معارض للادلّة الموجبة لليقين- وظن موسى يحوم حول اليقين من تظاهر اماراته.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ اى يستخف ويخرج موسى وقومه مِنَ الْأَرْضِ ارض مصر او الأرض مطلقا بالقتل والاستيصال فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) على عكس ما أراد بموسى وقومه يعنى فاستفززناه وقومه بالاغراق.
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد فرعون وإغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ الّتي أراد فرعون ان يستفزكم منها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ اى الكرة او الحيوة او الساعة او الدار الاخرة يعنى قيام القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) اى جميعا مختلطين إياكم وإياهم ثم يحكم ويميز سعداءكم من اشقيائكم- واللفيف الجماعات من قبائل شتى إذا اختلطوا وجمع(5/498)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
القيامة كذلك فيهم المؤمن والكافر والبرّ والفاجر وقال الكلبي فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعنى مجيء عيسى من السماء جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً اى كل قوم من هاهنا وهاهنا لقوا جميعا-.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ تقديم الظرف يفيد الحصر يعنى ما أنزلنا القران الا متلبسا بالحق اى بالحكمة المقتضية لانزالها وما نزل الا متلبسا بالحق اى الحكمة والصدق الّذي اشتمل عليه- وقيل معناه ما أنزلناه من السماء الا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول الا محفوظا بهم من تخليط الشياطين- أراد نفى اعتراء البطلان اوله وآخره وَما أَرْسَلْناكَ يا محمّد إِلَّا مُبَشِّراً للمطيعين بالجنة وَنَذِيراً (105) للعاصين من النار- فليس عليك الا التبشير والتنذير دون جبرهم على الهداية.
وَقُرْآناً منصوب بفعل يفسره فَرَقْناهُ يعنى نزلناه نجوما متفرقا ولم ننزله جملة- بدليل قراءة ابن عباس بالتشديد لكثرة نجومه فانه نزل فى عشرين سنة- او معناه فصلناه وبيناه وقال الحسن معناه فرقنا فيه الحق من الباطل فحذف كما حذف فى قوله ويوما شهدناه لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ اى مهلة فانه أيسر للحفظ وأعون للفهم وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) على حسب الحوادث-.
قُلْ يا محمّد آمِنُوا بِهِ اى بالقران أَوْ لا تُؤْمِنُوا هذا على طريق التهديد والوعيد يعنى ايمانكم وانكاركم لا يعود على القران منفعة- فان ايمانكم لا يزيده كمالا بل لانفسكم- وامتناعكم عنه لا يورثه نقصانا بل يضركم وقوله إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ تعليل له يعنى فان لم تؤمنوا فقد أمن غيركم الذين هم خير منكم- وهم علماء اهل الكتاب الذين قرءوا الكتب السابقة- وعرفوا حقيقة الوحى وامارات النبوة- وتمكنوا من التميز بين المحق والمبطل- حيث قرءوا نعتك وصفة ما انزل إليك فى تلك الكتب- وقيل المراد بالموصول الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم اسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر وغيرهم- ويجوز ان يكون تعليلا على سبيل التسلّية(5/499)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
كانه قيل تسلّ بايمان العلماء عن ايمان الجهلة ولا تكترث بايمانهم واعراضهم إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القران يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ قال ابن عباس أراد به الوجوه اى يسقطون على وجوههم سُجَّداً (107) تعظيما لامر الله وشكرا لانجازه وعده فى تلك الكتب ببعثة محمّد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل- وإنزال القران عليه.
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا عن خلف الموعد إِنْ كانَ يعنى انه كان وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) كائنا لا محالة يعنى ما وعد الله تعالى فى الكتب المنزلة وبشر به من بعثة محمّد صلى الله عليه وسلم وإنزال القران عليه كان منجزا كائنا البتة.
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرر لاختلاف الحال او السبب فان الاول للشكر عند انجاز الوعد- والثاني لما اثر فيهم من مواعظ القران- وجملة يبكون فى محل النصب على الحال يعنى يخرون حال كونهم باكين من خشية الله- وذكر الذقن لانه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد واللام فيه لاختصاص الخرور بها وَيَزِيدُهُمْ سماع القران خُشُوعاً (109) اى يزيدهم علما ويقينا وخشوعا لاجل نزول بركات القران على بواطنهم- (مسئلة) يستحب البكاء عند قراءة القران عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلج النار من بكى من خشية الله حتّى يعود اللبن فى الضرع- ولا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم فى منخرى مسلم ابدا- رواه البغوي ورواه الحاكم وصححه والبيهقي عنه بلفظ حرم على عينين ان تنالهما النار عين بكت من خشية الله- وعين باتت تحرس الإسلام واهله من اهل الكفر- وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حرمت النار على ثلاثة أعين عين بكت من خشية الله وعين سهرت فى سبيل الله وعين غضت عن محارم الله- رواه البغوي وعن ابى ريحانة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت النار على عين بكت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت فى سبيل الله وحرمت النار على عين غضت عن محارم الله او عين فقئت فى سبيل الله- رواه الطبراني فى الكبير(5/500)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
وصححه وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد مؤمن يخرج من عينه دموع وان كان مثل رأس الذباب من خشية الله ثم يصيب شيئا من حر وجهه الا حرمه الله على النار رواه ابن ماجة والله اعلم- اخرج ابن مردوية وغيره عن ابن عباس قال صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فدعا فقال فى دعائه يا الله يا رحمن فقال المشركون انظروا الى هذا الصابي ينهاتا ان ندعوا الهين فانزل الله تعالى.
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ وذكر البغوي قول ابن عباس انه سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول فى سجوده يا الله يا رحمن فقال ابو جهل ان محمّدا ينهانا عن الهتنا وهو يدعو الهين فانزل الله تعالى هذه الاية ومعناها انهما اسمان لذات واحدة وان اختلف اعتبار اطلاقهما وذلك لا ينافى توحيد ذات واحدة يستحق العبادة هو لا غير- وكلمة او للتخيير وقيل قالت اليهود انك لتقل ذكر الرّحمن وقد أكثره الله فى التورية فانزل الله تعالى هذه الاية والمعنى انهما متساويان فى حسن الإطلاق والإفضاء الى المقصود أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدعاء هاهنا بمعنى التسمية وهو معدى الى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه- والتنوين فى ايّا عوض عن المضاف اليه وما صلة لتأكيد ما فى اىّ من الإبهام- والضمير فى له للمفعول الاول المحذوف يعنى أياما تدعوه فله اى لذات المعبود بالحق الأسماء الحسنى وجملة له الأسماء الحسنى واقعة موقع الجزاء للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه وكان اصل الكلام اىّ اسم من هذين الاسمين تدعوا الله اى تسموه به فهو حسن صحيح لان له تعالى الأسماء الحسنى منها هذين الاسمين وكونها حسنى لدلالتها كلها على صفات الجلال والكمال والتنزه عن النقص والزوال- وقد ذكرنا اسماء الله سبحانه وما يتعلق بها فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها الاية- وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ اى بقراءتك فى الصلاة بحيث يسمعها المشركون وَلا تُخافِتْ بِها كل المخافة بحيث لا يسمع من خلفك من المؤمنين وَابْتَغِ اى اطلب بَيْنَ ذلِكَ اى كمال الجهر والمخافة سَبِيلًا (110) متوسطا فان خير الأمور أوسطها-(5/501)
والمراد بالصلوة صلوة الليل فريضة كانت او نافلة للاجماع على وجوب الإخفات فى صلوة النهار للنقل المتوارث- او المعنى وابتغ بين ذلك سبيلا يعنى بالاخفاة نهارا وحيث يكون بمسمع من المشركين وبالجهر المتوسط ليلا- روى البغوي من طريق البخاري عن ابى بشير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى هذه الاية قال نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختفى بمكة كان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقران فاذا سمعه المشركون سبّوا القران ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ اى بقراءتك فيستمع المشركون فيسبّوا القران وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم وروى البخاري عن ابى بشير بإسناد مثله وزاد وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أسمعهم ولا تجهر حتّى لا يأخذوا عنك القران- قال البغوي وقال قوم الاية فى الدعاء وهو قول عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول رضى الله عنهم روى البخاري عن عائشة وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قالت انزل ذلك فى الدعاء- واخرج ابن جرير من طريق ابن عباس مثله ثم رجح الرواية الاولى بكونها أصح سندا- وكذا رجحها النووي وغيره قال الحافظ ابن حجر لكن يحتمل الجمع بينهما بانها نزلت فى الدعاء داخل الصلاة- وقد اخرج ابن مردوية من حديث ابى هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى عند البيت رفع صوته بالدعاء فنزلت- قلت وهذا الجمع عندى غير مرضى لان الدعوات المأثورة فى الصلاة المتوارث فيها الإخفات ولا خلاف الا فى دعاء القنوت وايضا قوله تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يقتضى الإخفاء فى الدعوات كلها فى الصلاة وخارجها فالاولى ان يقال المراد بالدعاء فى قول عائشة انها نزلت فى الدعاء وكذا فى حديث ابى هريرة رفع صوته بالدعاء سورة الفاتحة لاشتمالها على قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلخ وما اخرج ابن جرير والحاكم عن عائشة قالت اللهم ارحمني فنزلت وأمروا ان لا تخافتوا ولا تجهروا- وما قال البغوي قال عبد الله بن شداد كان اعراب بنى تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا اللهم ارزقنا مالا وولدا ويجهرون بذلك فانزل الله تعالى هذه الاية يجب رده للتقل المتوارث فلا يصادم ما فى الصحيح فى سبب نزول هذه الاية والله اعلم- روى البغوي من طريق الترمذي عن عبد الله بن رباح الأنصاري ان النبي صلى الله(5/502)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
عليه وسلم قال لابى بكر مررت بك وأنت تقرا وتخفض من صوتك فقال انى أسمعت
من ناجيت فقال ارفع قليلا وقال لعمر مررت بك وأنت ترفع صوتك فقال انى اوقظ الوسنان واطرد الشيطان قال اخفض قليلا وروى ابو داود وغيره من حديث ابى قتادة نحوه- وقد ذكرنا بعض مسائل الجهر بالقراءة والإخفات بها فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الاية وذكرنا مسئلة ذكر الجهر والخفي ايضا فى تلك السورة فى تفسير قوله تعالى ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً الاية- (فصل) كيف كان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ابى هريرة قال كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يرفع طورا ويخفض طورا رواه ابو داود- وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه من فى الحجرة وهو فى البيت رواه ابو داود- وعن أم سلمة انها نعتت قراءته صلى الله عليه وسلم فاذا هى تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه ابو داود والترمذي والنسائي وعن أم هانى قالت كنت اسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الليل وانا على عريشى رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة- وعن عبد الله بن قيس قال سالت عائشة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بالقراءة أم يجهر قالت كل ذلك قد كان يفعل ربما اسر وربما جهر قلت الحمد لله الّذي جعل فى الأمر سعة- قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب والله اعلم- اخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظي قال ان اليهود والنصارى قالوا اتخذ الله ولدا وقالت العرب لبيك لا شريك لك لبيك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقال الصابئون والمجوس لولا اولياء الله لذلّ فانزل الله تعالى.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ اى فى الالوهية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ اى ولى يواليه من أجل مذلة به ليدفعها بولايته- نفى عنه ان يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختيارا واضطرارا- وما يعاونه ويقويه- ورتب الحمد عليه للدلالة على انه يستحق جنس الحمد لانه كامل الذات المتفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه(5/503)
ناقص مملوك نعمة او منعم عليه فكل حمد راجع اليه تعالى وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) أي عظّمه عن ان يكون له شريك او ولىّ تعظيما بالغا- روى احمد فى مسنده والطبراني بسند حسن عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه كان يقول اية العز الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الى اخر السورة والله اعلم- فى هذه الاية تنبيه على ان العبد وان بالغ فى التنزيه والتمجيد واجتهد فى العبادة والتحميد ينبغى ان يعترف بالقصور عن حقه فى ذلك- عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يدعى الى الجنة يوم القيامة الحمادون الذين يحمدون فى السراء والضراء رواه الطبراني والحاكم وصححه والبيهقي- وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده رواه البيهقي وعبد الرزاق فى الجامع- وعن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا اله الا الله رواه الترمذي وابن ماجة- وعن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الكلام الى الله اربع لا اله الا الله والله اكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بايتهن بدأت رواه مسلم واحمد بسند صحيح وروى البغوي الأحاديث الاربعة وعن عمران بن حصين ان أفضل عباد الله يوم القيامة الحمادون رواه الطبراني- وعن ابى ذر أحب الكلام الى الله ان يقول العبد سبحان الله وبحمده رواه احمد ومسلم والترمذي وعن انس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افصح الولد من بنى عبد المطلب علمه وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الاية وأخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة وكذا اخرج من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه عبد الرزاق وابن ابى شيبة فى مصنفهما من حديث عمرو بن شعيب مفصلا والله اعلم الحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على خير خلقه محمّد واله وأصحابه أجمعين تم تفسير سورة بنى إسرائيل من التفسير المظهرى ويتلوه ان شاء الله تعالى تفسير سورة الكهف) قد تم ثالث شهر رمضان من السنة الثانية بعد المائتين والف (سنة 1202) من الهجرة صلى الله وسلم على صاحبها بتصحيح: مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى.(5/504)
الجزء السادس
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نحمده ونستعينه ونصلّى على رسوله الكريم
فهرس تفسير سورة الكهف من تفسير المظهرى
مضمون صفحه ما ورد في اصحاب الرقيم 4 قصة اصحاب الكهف 9 مرور معاوية على كهف اصحاب 21 الكهف مسئلة الصوفي كائن بائن 23 مسئلة جواز بناء المسجد عند 23 مقابر الأولياء وما ورد فى النهى عن تحصيص القبور والبناء عليها وجعلها مشرفة والجلوس على القبور 24 والصلاة إليها....
مضمون صفحه لا تقولنّ لشيء انّى فاعل ذلك غدا الّا ان يشاء الله 25 هل يجوز الاستثناء منفصلا ما يفعل ان نسى الاستثناء ذكر سرادق النار...... 30
ذكر ماء كالمهل..... 31
ما ورد فى حلى اهل الجنة 32 حديث كان أحب الألوان الى رسول الله صلى الله عليه 32 وسلم الخضرة ما ورد في ثياب اهل الجنة 32(6/1)
فى الأرائك........ 32
حديث من راى شيئا فاعجبه فقال ما شاء الله 36 لا قوة الا بالله لم يضره ما ورد فى الباقيات الصالحات 38 حديث ايّاكم ومحقرات الذنوب وما فى الباب 41 حديث يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فاما العرضتان فجدال و 41 معاذير واما الثالثة فتطائر الصحف بالأيدي.....
حديث الكتب كلها تحت 41 العرش ما ورد في ذرية إبليس واسماء شيطان الوضوء 42 والصلاة وغيرهما حديث طرق رسول الله صلى الله عليه وسلم على 44 علّى وفاطمة ليلة فقال مضمون صفحه الا تصليان الحديث ما ورد في قصة مسير موسى الى الخضر 37 مسئلة المفضول قد يكون له فضل جزئى على من هو 50 أفضل منه مسئلة الفاضل لا بدّ ان يطلب حصة فضل المفضول 51 منه ولا يستنكف عنه حديث الكلمة الحكمة ضالة المؤمن..... 51
مسئلة اتحاد المشرب والانقياد وترك الاعتراض 51 على المفيد شرط للاستفادة مسئلة ان ظهر على يد ولى من الأولياء امر ينكر في الظاهر فان كان لصحته وجه مستند الى نص او قياس او فتوى أحد من المجتهدين(6/2)
مضمون صفحه لا يجوز عليه الإنكار والا ينكر الفعل ولا يأتى به ولا ينكر 52 كمال فاعله ويجب حمل مقالاتهم مهما أمكن على محمل 52 صحيح او على عدم فهم مرادهم.....
مسئلة وجودات الأشياء كلها ظلال للاعيان الثابتة 58 في مرتبة علم الله تعالى الكلام في حيوة الخضر وموته 61 الكلام في يأجوج ومأجوج وأصنافهم 66 ما ورد في خروج يأجوج 69 مضمون صفحه وما ورد في خروج الدجال 70 حديث الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت 73 والعاجز من اتبع هواه ما ورد في الكفار اى في وزن الكفار ووزن أعمالهم 73 واقوال العلماء فيه ما ورد في الجنة الفردوس 74 ما ورد في الشرك الأصغر اى في الرياء..... 77
فصل في فضائل سورة الكهف انتهى 78.(6/3)
سورة الكهف مكيّة «1»
وهى مائة واحدى عشرة اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ رب يسّر وتمّم بخير اخرج ابن جرير من طريق إسحاق عن شيخ من اهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن ابى معيط الى أحبار اليهود «2» بالمدينة- فقالوا سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته واخبروهم بقوله فانهم اهل الكتاب الاول- وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء- فخرجا حتى أتيا المدينة فسالا «3» أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- ووصفا «4» لهم امره وبعض قوله فقالوا لهم سلوه عن ثلاث فان أخبركم بهن فهو نبى مرسل- وان لم يفعل فالرجل متقوّل سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الاول ما كان من أمرهم فانه كان لهم حديث عجيب- وسلوه عن رجل طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه- وسلوه عن الروح ما هو- فاقبلا حتى قد ما على قريش- فقالا قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد- فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه- فقال أخبركم غدا بما سالتم عنه ولم يستثن فانصرفوا ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله في ذلك وجبا ولا يأتيه جبرئيل حتى ارجف اهل مكة- حتى احزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه- وشن عليه ما يتكلم به اهل مكة- ثم جاءه جبرئيل من الله بسور اصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سالوه عنه من امر الفتية
__________
(1) عند البصريين وعند اهل الكوفة مائة وعشرة اية 12
(2) وفي الأصل أحبار يهود 12
(3) وفي الأصل فسالوا 12 [.....]
(4) وفي الأصل ووصفوا 12(6/4)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
والرجل الطوّاف وقول الله تعالى ويسئلونك عن الرّوح.
قوله تعالى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ اثنى الله على نفسه بانعامه على خلقه بما هو أعظم نعمائه على الناس من إنزال القران على واحد منهم- لانه الهادي الى ما فيه كمال العباد الداعي الى ما به ينتظم لهم صلاح المعاش والمعاد- وفيه تلقين للعباد كيف يثنون عليه وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قرأ حفص عوجا في الوصل بسكتة لطيفة على الالف من غير قطع والباقون يصلون ذلك من غير سكت يعنى شيئا من العوج باختلال في اللفظ أو تناف في المعنى وانحراف من الدعوة الى جناب القدس وخروج شىء منه من الحكمة وهو في المعاني بكسر العين وفتح الواو كالعوج بفتح العين والواو في الأعيان- يقال في رأيه عوج وفي عصاه عوج- وقيل معناه لم يجعله مخلوقا روى عن ابن عباس انه قال في قوله تعالى قرءانا عربيّا غير ذى عوج اى غير مخلوق.
قَيِّماً قال ابن عباس اى عدلا يعنى مستقيما معتدلا لا افراط فيه ولا تفريط وقال الفراء قيما على الكتب كلها يشهد بصحتها وينسخ بعض أحكامها- وقبل اى قيما بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال منصوب بمضمر- قال قتادة تقديره انزل على عبده الكتب ولم يجعل لّه عوجا ولكن جعله قيّما او على الحال من الضمير في له او من الكتاب على ان الواو فى ولم يجعل للحال دون العطف- إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا من المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير يعنى على تقدير كون الواو للعطف تقديره انزل على عبده الكتب قيّما ولم يجعل لّه عوجا- وفائدة الجمع بين نفى العوج واثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الاخر التأييد فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من ادنى عوج عند التصفح لِيُنْذِرَ العبد بالقران الذين كفروا- حذف المفعول الاول اكتفاء بدلالة القرينة- واقتصارا على الغرض المسوق اليه بَأْساً اى عذابا شديدا في نار جهنم مِنْ لَدُنْهُ اى صادرا من عنده؟؟؟ أبو بكر بإسكان الدال وإشمامها شيئا من الضم بضم الشفتين كقبلة المحبوب وبكسر النون والهاء ويصل الهاء بياء- والباقون بضم الدال واسكان النون وضم الهاء وابن كثير يصلها بواو وَيُبَشِّرَ قرا حمزة والكسائي بالتخفيف من الافعال- والباقون بالتشديد من التفعيل(6/5)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ذكر المفعول الاول هاهنا تعظيما لهم وحثا على الايمان والأعمال أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم أَجْراً حَسَناً هو الجنة ورضوان الله تعالى.
ماكِثِينَ فِيهِ اى مقيمين في ذلك الاجر أَبَداً بلا انقطاع.
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً خصصهم بالذكر فكرر الانذار متعلقا بهم استعظاما لكفرهم ولم يذكر المنذر به هاهنا استغناء بتقدم ذكره.
ما لَهُمْ بِهِ اى بالولد او باتخاذه او بالقول مِنْ عِلْمٍ يعنى يقولون ذلك عن جهل مفرط وتوهم باطل او تقليد لما سمعوه من اوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به فانهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر او ما لهم بالله من علم لو علموه لما جوّزوا نسبة اتخاذ الولد اليه- او يقال عدم العلم بالشيء قد يكون لعدم انكشافه مع وجوده- وقد يكون لانعدامه واستحالته والمراد هاهنا ذلك وَلا لِآبائِهِمْ الذين تقوّلوه بمعنى التنبّى كَبُرَتْ كَلِمَةً اى عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيه من التشبيه والتشريك وإيهام احتياجه الى ولد يعينه ويخلفه الى غير ذلك من الزيغ وكلمة منصوب على التميز وفيه معنى التعجب والضمير في كبرت مبهم يفسره كلمة- او راجع الى قولهم اتّخذ الله ولدا- ويطلق الكلمة على الكلام المركب ايضا حيث يسمون القصيدة كلمة وقيل أصله من كلمة وهو في محل الرفع على الفاعلية ومن زائدة- ثم حذف من فانتصب بنزع الخافض تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة لكلمة تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها- وقيل الجملة صفة لمحذوف «1» هو المخصوص بالذم- لان كبر هاهنا بمعنى بئس تقديره قول يخرج إِنْ يَقُولُونَ اى ما يقولون ذلك إِلَّا كَذِباً صفة لمصدر محذوف اى الا قولا كذبا يعنى ليس لهذا القول مصداق بوجه من الوجوه اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال اجتمع عتبة وشيبة ابني ربيعة وابو جهل بن هشام والنضر بن الحارث والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وابو البختري في نفر من قريش- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما راى من خلاف قومه إياه- وانكارهم ما جاء به من النصيحة فاحزنه حزنا شديدا فانزل الله تعالى.
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ اى قاتل نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ اى بعد توليتهم عن الايمان- شبّه النبي صلى الله عليه وسلم وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به
__________
(1) وفي الأصل صفة محذوف.(6/6)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
وما تداخله من الأسف على توليتهم عن فارقته احبّته فهو يتحسر على اثارهم وينجع نفسه وجدا عليهم إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ اى القران شرط مستغن عن الجزاء بما مضى أَسَفاً منصوب على العليّة او الحال اى للتاسف عليهم- او متاسفا عليهم لحرصك على ايمانهم والأسف فرط الحزن والغضب.
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان والنبات والمعادن زِينَةً لَها ولاهلها فان قيل اىّ زينة في الحيّات والعقارب والشياطين- قيل فيها زينة من حيث انها تدل على صانعها ووحدته وصفاته الكاملة- وقال ابن عباس أراد بهم الرجال خاصة هم زينة الأرض وقيل أراد بهم العلماء والصلحاء- وقيل الزينة بنيات الأشجار والأنهار كما قال الله تعالى حتّى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت- وقيل المراد بما على الأرض ما يصلح ان يكون زينة لها من نخلوف الدنيا- قلت ويمكن ان يراد بما على الأرض على العموم كما هو الظاهر وكونها زينة من حيث النظام الجملي او من حيث ان لكل شىء مدخل في الزينة- لان حسن الأشياء الحسنة تعرف كما هى عند معرفة قبح أضدادها لِنَبْلُوَهُمْ اى الناس المفهوم في ضمن قوله تعالى ويبشّر المؤمنين وينذر الّذين قالوا اتّخذ الله ولدا أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فى تعاطيه وهو من تزهّد فيه ولم يغتر به وقنع منه بما كفى وصرفه على ما ينبغي- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الدنيا خضرة حلوة وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون.
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً «1» جُرُزاً اى ما جعلناها زينة من الحيوان والنبات وغير ذلك من الأشياء جاعلوها ترابا ورفاتا.
أَمْ بل احَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً استفهام تقرير يعنى أعلمت انهم كانوا اية عجبا من آياتنا اى عجيبة- وصفوا بالمصدر مبالغة او على انه بمعنى الفاعل اى معجبا او ذات عجب- وقيل الاستفهام على سبيل الإنكار يعنى انهم ليسوا بأعجب آياتنا فان خلق السموات والأرض وخلق ما على الأرض من الأجناس والأنواع التي لا تعدّو لا تحصى مخلوقة منها على طبائع متباعدة وهيات مختلفة ثم ردها إليها كما كانت اعجب منهم- والكهف الغار الواسع في الجبل واختلفوا في الرقيم قال سعيد بن جبير هو لوح كتب فيه اسماء اصحاب الكهف وقصتهم دو هذا اظهر الأقاويل ثم وضعوه على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل من حجارة- وعلى هذا
__________
(1) الصعيد يقال لوجه الأرض وقيل للغبار الذي يصعد وارض جون اى لا نبت او أكل نباتها ولم يصبها مطر 12 منه ر ح(6/7)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
يكون الرقيم بمعنى المرقوم اى المكتوب والرقم الكتابة- وحكى عن ابن عباس انه اسم للوادى الذي فيه كهفهم فعلى هذا هو من رقمة الوادي وهو جانبه- وقال كعب الأحبار هو اسم للقرية التي خرج منها اصحاب الكهف وقيل اسم للجبل الذي فيه الكهف وقيل اصحاب الرقيم قوم آخرون اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني وابن مردوية عن النعمان بن بشير انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن اصحاب الرقيم انهم ثلاثة نفر دخلوا الى الكهف وأخرجه احمد وابن المنذر عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم ان ثلاثة نفر فيما سلف من الناس انطلقوا يرتادون «1» لاهلهم فاخذتهم السماء فأووا الى الكهف فانحطت صخرة وسدت بابه- فقال أحدهم اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله يرحمنا ببركته- فقال واحد استعملت اجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل بقيته مثل عملهم فاعطيته مثل أجرهم- فغضب أحدهم وترك اجره فوضعته في جانب البيت ثم مرّبى نفر فاشتريت به فصيلة فبلغت ما شاء الله- فرجع الىّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال ان لى عندك حقّا وذكره حتى عرفته فدفعتها اليه جميعا- اللهم ان كنت فعلت ذلك لوجهك فاخرج عنا فانصدع الجبل حتى رأووا الضوء- وقال الاخر كانت لى فضيلة وأصاب الناس شدة فجاءتنى امراة فطلبت منى معروفا فقلت ما هو دون نفسك فابت ثم رجعت ثلاثا ثم ذكرت لزوجها- فقال أجيبي له واعينى عيالك فاتت وسلّمت الىّ نفسها- فلما تكشفتها وهممت بها ارتعدت فقلت مالك قالت أخاف الله فقلت خفتيه في الشدة ولم اخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها- اللهم ان كنت فعلته لاجلك فافرج عنّا فانصدع حتى تعارفوا- وقال الثالث كان لى أبوان هرمان وكانت لى غنم وكنت أطعمهما «2» واسقيهما ثم ارجع الى غنمى فحبسنى ذات يوم غنم فلم أرح حتى أمسيت فاتيت أهلي وأخذت محلبى فحلبت فيه ومضيت إليهما فوجدتهما نائمين- فشق علّى ان أوقظهما فتوقفت جالسا ومحلبى على يدىّ حتى ايقظهما الصبح فسقيتهما- اللهم ان فعلته لوجهك فافرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا والله اعلم- ثم ذكر الله قصة اصحاب الكهف فقال.
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ يعني اذكر إذ أوى الفتية اى صاروا إِلَى الْكَهْفِ يقال أوى فلان الى موضع كذا اى اتخذه منزلا- قال البغوي وهو غار في جبل
__________
(1) اى يطلبون لاهلها الكلاء والغيث 12 منه رح
(2) وفي الأصل اطعمتهما واسقيتهما 12(6/8)
بيجلوس واسم الكهف جيرم فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يوجب لنا الهداية فى الدين والمغفرة من الذنوب والرزق والامن من العدوّ وَهَيِّئْ لَنا قال البيضاوي واصل التهية احداث هيئة الشيء مِنْ أَمْرِنا اى من الأمر الذي نحن عليه من الايمان ومفارقة الكفار رَشَداً او المعنى اجعل لنا أمرنا كله رشدا- كقولك رايت منك رشدا اى استقامة على طريق الحق مع تصلب فيه كذا في القاموس وفيه رشد كنصر وفرح رشدا ورشدا ورشادا اهتدى كاسترشد واسترشد طلبه والرشيد في صفات الله تعالى بمعنى الهادي الى سواء الصراط- والذي حسن تقديره فيما قدر- قال البغوي اختلفوا في سبب مصيرهم الى الكهف قال محمد بن إسحاق مرج اهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله عزّ وجلّ وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه- وكان ينزل قرى الروم ولا يترك في قرية نزلها أحدا الا فتنة حتى يذبح للطواغيت ويعبد الأصنام او يقتله- حتى نزل مدينة اصحاب الكهف وهى أفسوس كلما نزلها كبر على اهل الايمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه- وكان دقيانوس حين نزلها أمران يتبع اهل الايمان في أماكنهم- فيخرجونهم الى دقيانوس فيخيّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت- فمنهم من يرغب في الحيوة ومنهم من يأبى ان يعبد غير الله فيقتل- فلما راى ذلك اهل الشدة فى الايمان بالله جعلوا يسلمون للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون- ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من ابوابها- حتى عظمت الفتنة فلمّا راى ذلك الفتية حزنوا حزنا شديدا فقاموا واشتغلوا بالصلوة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء- وكانوا من اشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرعوا الى الله وجعلوا يقولون ربّنا ربّ السّموات والأرض لن ندعو من دونه الها لّقد قلنا إذا شططا ان عبدنا غيره- اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم البلاء حتى يعلنوا بعبادتك فبينا هم على ذلك وقد دخلوا في مصلّى لهم أدركهم الشرط «1» فوجدوهم وهم سجود على وجوههم يبكون ويتضرعون الى الله عزّ وجلّ فقالوا لهم ما خلّفكم عن امر الملك انطلقوا اليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم الى دقيانوس فقالوا تجمع الناس للذبح لالهتك وهؤلاء الفتية من اهل بيتك يستهزءون
__________
(1) شرط السلطان نخبة أصحابه الذين يقدمهم على غيرهم من جنده 12 منه(6/9)
بك ويعصون أمرك فلمّا سمع بذلك بعث إليهم فاتى بهم تفيض أعينهم من الدمع «1» معفّرة وجوههم بالتراب فقال ما منعكم ان تشهدوا الذبح لالهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلون أنفسكم أسوة كسرات اهل مدينتكم اختاروا اما ان تذبحوا لالهتنا واما ان أقتلكم- فقال مكسلمينا وهو أكبرهم ان لنا الها ملاء السموات عظمته لن ندعوا من دونه الها إبداله الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا إياه نعبد وإياه نسئل النجاة والخير فاما الطواغيت فلن نعبدها ابدا- فاصنع ما بدا لك وقال اصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال- فلمّا قالوا ذلك امر فنزع عنهم لبوس كانت عليهم من لبوس عظمائهم- ثم قال سافرغ فانجز لكم ما وعدتكم من العقوبة وما يمنعنى ان اعجل ذلك لكم الا انى أراكم شبانا حديثة أسنانكم ولا أحب ان أهلككم حتى اجعل لكم أجلا تذكّرون فيه وتراجعون عقولكم- ثم امر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت ثم امر بهم فاخرجوا عنه- وانطلق دقيانوس الى مدينة سوى مدينتهم قريبا لبعض أموره...... فلمّا راى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم ان يذكرهم فأتمروا بينهم ان يأخذ كل منهم نفقته من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا الى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بيجلوس فيمكثون فيه ويعبدون الله- حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما يشاء فلمّا قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم الى بيت أبيه فاخذ نفقته فتصدق منها ثم انطلقوا بما بقي معهم واتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه- قال كعب الأحبار ومرّوا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا- فقال لهم الكلب يا قوم ما تريدون منى لا تخشون جانبى انا أحب احبّاء الله عز وجل فنموا «2» حتى أحرسكم وقال ابن عباس هربوا ليلا من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعهم كلبه فخرجوا من البلد الى الكهف وهو قريب من البلد قال ابن عباس فلبثوا فيه ليس لهم عمل الا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله- وجعلوا نفقتهم الى فتى منهم يقال له تمليخا وكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرّا وكان من أجملهم واجلدهم- وكان إذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها- ثم يأخذ ورقة فينطلق الى المدينة فيشترى طعاما وشرابا ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ثم يرجع الى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا- ثم قدم دقيانوس المدينة فامر
__________
(1) العفرة الغبرة ولون التراب 12 منه رح
(2) وفي الأصل فناموا 12 منه رح(6/10)
عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ففزع اهل الايمان وكان تمليخا بالمدينة يشترى لاصحابه طعامهم فرجع الى أصحابه وهو يبكى ومعه طعام قليل وأخبرهم ان الجبار قد دخل المدينة وقد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجودا يدعون الى الله ويتضرعون ويتعوّذون من الفتنة- ثم ان تمليخا قال يا إخوتاه ارفعوا رءوسكم وأطعموا وتوّكلوا على ربكم- فرفعوا رءوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا وذلك من غروب الشمس ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكّر بعضهم بعضا فبيناهم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فاصابه ما أصابهم وهم مؤمنون وموقنون ونفقتهم عند رءوسهم- فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فلم يجدهم فقال لبعضهم قد ساءنى شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد كانوا ظنوا ان لى غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من امرى ما كنت لاحمل عليهم ان هو تابوا وعبدوا الهتى- فقال عظماء المدينة ما أنت بحقيق ان ترحم قوما فجرة مردة عصاة لقد كنت اجّلت لهم أجلا ولو شاءوا لرجعوا في ذلك الاجل ولكنهم لم يتوبوا- فلمّا قالوا ذلك غضب غضبا شديدا ثم أرسل الى ابائهم فاتى بهم فسالهم عنهم فقال أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصونى- فقالوا له اما نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا باموالنا فاهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا وأرسلوا الى جيل يدعى بيجلوس- فلمّا قالوا له ذلك خلّى سبيلهم وجعل لا يدرى ما يصنع بالفتية فالقى الله عز وجل في نفسه ان يأمر بالكهف فيسد عليهم- أراد الله ان يكرمهم ويجعلهم اية لامة تستخلف من بعدهم وان يبين لهم انّ السّاعة لا ريب فيها وانّ الله يبعث من في القبور- فامر دقيانوس بالكهف ان يسدّ عليهم وقال دعوهم في الكهف الذي اختاروا كما هم يموتون جوعا وعطشا ويكون كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم وهو يظن انهم إيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم ينقلبون ذات اليمين وذات الشمال ثم ان رجلين مؤمنين من بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس والاخر راياش ائتمروا ان يكتبا شان الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلا هما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان- وقالا لعل الله ان يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا لكتاب خبرهم ففعلا فبنيا عليه فبقى دقيانوس ما بقي ثم مات هو وقومه وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك- وقال عبيد بن عمير كان اصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوى ذوائب وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم(6/11)
فى ذىّ وموكب واخرجوا معهم الهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله في قلوب الفتية الايمان وكان أحدهم وزير الملك فامنوا وأخفى كل واحد إيمانه- فقالوا في أنفسهم نخرج من بين اظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب يجرهم- فخرج شابّ منهم حتى انتهى الى ظل شجرة فجلس فيه- ثم خرج اخر فراه جالسا وحده فرجا ان يكون على مثل امره من غير ان يظهر ذلك- ثم خرج اخر فاجتمعوا الى مكان فقال بعضهم لبعض ما جمعكم وكل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافة على نفسه- ثم قالوا ليخرج كل فئتين فيخلو بصاحبه ثم يغشى كل واحد منكم سره الى صاحبه فاذاهم جميعا على الايمان وإذا كهف في الجبل قريبا منهم فقال بعضهم لبعض فاوآ الى الكهف ينشر لكم ربّكم من رّحمته- فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا وفقدهم قومهم وطلبوهم فعمى الله عليهم اثارهم وكهفهم فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح ان فلان بن فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في ملكة فلان بن فلان- ووضعوا اللوح في خزانة الملك فقالوا ليكونن لهذا شأن- ومات ذلك الملك وجاء قرن بعد قرن وقال وهب بن منبه جاء حوارى عيسى صلى الله عليه وسلم الى مدينة اصحاب الكهف فاراد ان يدخلها فقيل له ان على بابها صنما لا يدخلها أحد الا سجد له فكره ان يدخلها- فاتى حماما قريبا من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه وراى صاحب الحمام في حمامه البركة
وعلقه فتية من اهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض حتى أمنوا وصدقوه وكان شرط على صاحب الحمام ان الليل لى لا يحول بينى وبينه ولا بين الصلاة أحد وكان على ذلك حتى اتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام فعيّره الحمامي وقال أنت ابن الملك وتدخل مع هذه فاستحيى وذهب فرجع مرة اخرى فقال له مثل ذلك فسبّه وانتهره ولم يلتفت الى مقالته حتى دخلا معا فماتا في الحمام واتى الملك فقيل له قتل صاحب الحمام وابنك فالتمس فلم يقدر عليه وهرب فقال من كان يصحبه فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل ايمانهم فانطلق ومعه كلب حتى اواهم الليل الى الكهف فدخلوه وقالوا نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح ان شاء الله فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فلما أراد رجل منهم دخوله رعب فلم يطق أحد ان يدخله- فقال قائل أليس لو قدرت عليهم قتلتهم قال بلى قال فابن عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتون جوعا ففعل قال وهب فعبروا بعد ما سدوا عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان- ثم ان راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال لو فتحت هذا الكهف وادخلت غنمى اليه فاكنّهم من المطر فلم(6/12)
يزل يعالجه حتى فتح- ورد الله أرواحهم من الغد حين أصبحوا- وقال محمد بن إسحاق ثم ملك اهل تلك البلاد رجل صالح يقال له بيدوسيس فلمّا بقي في ملكه ثمانية وستين سنة فتحزّب الناس في ملكه وكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم ان الساعة حق ومنهم من يكذّب بها- فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرع الى الله وحزن حزنا شديدا لما راى اهل الباطل يزيدون ويظهرون على اهل الحق ويقولون لا حيوة الا الحيوة الدنيا وانما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد- فجعل بيدوسيس يرسل الى من يظن فيه خيرا وانهم ائمة في الحق- فجعلوا يكذّبون بالساعة حتى كادوا ان يحوّلوا الناس عن الحق وملة الحواريين- فلمّا راى ذلك الملك الصالح دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا فجلس عليه- فداب ليله ونهاره زمانا يتضرع الى الله ويبكى ويقول اى ربّ قد ترى اختلاف هؤلاء- فابعث إليهم اية تبين لهم بطلان ما هو عليه ثم ان الرحمان الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد ان يظهر على الفتية اصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعل اية وحجة عليهم ليعلموا انّ السّاعة اتية لا ريب فيها ويستجيب لعبده الصالح بيدوسيس ليتم نعمته عليه- وان يجمع من كان تبدد من المؤمنين- فألقى الله في نفس رجل من اهل ذلك البلد الذي فيه الكهف كان اسم ذلك الرجل اولياس ان يهدم ذلك البنيان الذي على فم الكهف- فيبنى به حضيرة لغنمه فاستأجر غلامين فجعل ينزعان تلك الحجارة ويبنيان على تلك الحضيرة حتى نزعاما على فم الكهف وفتحا باب الكهف وحجبهم الله عن أعين الناس بالرعب- فلمّا فتحا باب الكهف اذن الله عزّ وجلّ ذو القوة والسلطان محيى الموتى الفتية ان يجلسوا بين ظهرى الكهف فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم يسلّم بعضهم على بعض كانما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها إذا أصبحوا من ليلتهم- ثم قاموا الى الصلاة فصلوا كالذى كانوا يفعلون- لا يرى في وجوههم وألوانهم شىء ينكرونه كهيئتهم حين رقدوا وهم يرون ان ملكهم دقيانوس في طلبهم- فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم نبئنا بالذي قالوا للناس عنا عشية أمس عند هذا الجبار وهم يظنون انهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون- وقد تخيل إليهم انهم ناموا أطول مما كانوا ينامون حتى يتساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض كم لبثتم نياما قالوا لبثنا يوما او بعض يوم ثم قالوا ربّكم اعلم بما لبثتم- وكل ذلك في أنفسهم يسير- فقال لهم تمليخا ألستم في المدينة وهو(6/13)
يريد ان يوتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت او يقتلكم- فما شاء الله بعد ذلك فعل فقال لهم مكسلمينا يا إخوتاه اعلموا امّكم مّلاقوا الله فلا تكفروا بعد ايمانكم إذا دعاكم عدو الله ثم قالوا لتمليخا انطلق الى المدينة فتسمع ما يقال لنابها وما الذي يذكر عند دقيانوس وتلطّف ولا يشعر بك أحد وابتغ لنا طعاما فأتنا به وزدنا على الطعام الذي جئتنا به فقد أصبحنا جياعا- ففعل تمليخا كما كان
يفعل ووضع ثيابه وأخذ الثياب الذي كان ينتكر فيها- وأخذ ورقا عن نفقتهم التي كانت معهم الذي ضربت بطابع دقيانوس وكانت كخفاف الربع- فانطلق تمليخا خارجا فلمّا مرّ بباب الكهف رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ثم مرّ ولم يبال بها حتى اتى باب المدينة مستخفيا يصدعن الطريق تخوّفا ان يراه أحد من أهلها فيعرفه ولا يشعر ان دقيانوس واهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاث مائة سنة- فلما اتى تمليخا باب المدينة وقع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لاهل الايمان إذا كان امر الايمان ظاهرا فلمّا راها عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا وينظر يمينا وشمالا- ثم ترك ذلك الباب فتحول الى باب اخر من ابوابها فراى مثل ذلك فجعل يخيّل اليه ان المدينة ليست بالتي كان يعرف- وراى ناسا كثيرا محدثين لم يكونوا هم قبل ذلك فجعل يمشى ويتعجب ويخيل اليه انه حيران- ثم رجع الى الباب الذي اتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول يا ليت شعرى ما هذا- اما عشية أمس فكان المسلمون يحبون هذه العلامة ويستخفون بها واما اليوم فانها ظاهرة لعلّى نائم ثم يرى انه ليس بنائم- فاخذ كساءه فجعله على رأسه ثم دخل المدينة فجعل يمشى بين ظهرى سوقها فيسمع ناسا يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فرقا وراى انه حيران- فقام مسندا ظهره الى جداد من جدد المدينة وقال في نفسه والله ما أدرى اما عشية أمس فليس على وجه الأرض من يذكر عيسى بن مريم الا قليل واما الغداة فاسمعهم وكل انسان يذكر عيسى ولا يخاف- ثم قال في نفسه لعل هذا ليست بالمدينة التي اعرف والله ما اعرف مدينة قرب مدنيتنا فقام كالحيران ثم لقى فتى فقال ما اسم هذه المدينة يا فتى قال اسمها أفسوس فقال في نفسه لعل شيئا او امرا اذهب عقلى والله يحق لى ان اسرع الخروج منها قبل ان اخزى فيها او يصيبنى شر فاهلك ثم انه أفاق فقال والله لو عجّلت الخروج من المدينة قبل ان يفطن بي كان أليس بي- فدنا من الذين يبيعون الطعام فاخرج الورق التي كان معه فاعطاها رجلا منهم فقال بعنى بهذه الورق طعاما(6/14)
فاخذها الرجل فنظر الى ضرب الورق ونقشها فتعجب منها ثم طرحها الى رجل من أصحابه- فنظر إليها فجعلوا يتطارحون بينهم ويقول بعضهم لبعض ان هذا أصاب كنزا خبيّبا في الأرض منذ زمان ودهر طويل- فلما راهم تمليخا يتشاورون من اجله فرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن انهم قد فطنوا به وعرفوه وانهم انما يريدون ان يذهبوا به الى ملكهم دقيانوس وجعل أناس اخر يأتونه فيتعرفونه فلا يعرفونه- فقال لهم وهو شديد الفرق منهم افضلوا علىّ قد أخذتم ورقى فامسكوها واما طعامكم فلا حاجة لى به- فقالوا من أنت يا فتى وما شأنك والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين وأنت تريد ان تخفيه منا فانطلق معنا وأرنا وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت- فانك ان لم تفعل نأت بك الى السلطان فنسلّمك اليه فيقتلك- فلما سمع قولهم قال قد وقعت وفي كل شىء كنت احذر منه- فقالوا يا فتى انك والله لن تسطيع ان تكتم ما وجدت- فجعل تمليخا لا يدرى ما يقول لهم وما يرجع إليهم وفرق حتى ما يحير إليهم شيئا- فلما رأوه انه لا يتكلّم أخذوا كساءه فطرحوه في عنقه ثم جعلوا يقودونه في سلك المدينة حتى سمع به من فيها فسألوه ما الخبر فقيل لهم أخذ رجل عنده كنز فاجتمع اليه اهل المدينة صغيرهم وكبيرهم فجعلوا ينظرون اليه ويقولون والله ما هذا الفتى من اهل هذه المدينة وما رايناه فيها قط- فجعل تمليخا لا يعرف ما يقول لهم فلما اجتمع اليه فرق فسكت ولم يتكلم- وكان مستيقنا ان أباه واخوته بالمدينة وان حسبه بالمدينة من عظماء أهلها وانهم سيأتونه إذا سمعوا به فبينا هو قائم كالحيران ينتظر حتى يأتيه بعض اهله فيخلصه من بين أيديهم- إذا اختطفوه وانطلقوا به الى رءوس المدينة ومدبريها الذين يدبر ان أمرها- وهما رجلان صالحان اسم أحدهما اريوس والاخر اشطيوس- فلما انطلق به إليهما ظن تمليخا انه ينطلق به الى دقيانوس الجبار فجعل يلتفت يمينا وشمالا- وجعل الناس ليسخرون منه كما يسخر من المجنون- وجعل تمليخا يبكى ثم رفع رأسه الى
السماء فقال اللهم اله السماء والأرض افرغ اليوم علىّ صبرا وادلج معى روحا منك يؤيدني عند هذا الجبار وجعل يبكى- ويقول في نفسه فرّق بينى وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت ولو انهم يعلمون فيأتونى فنقوم جميعا بين يدى الجبار فانّا كنا توافقنا ان لا نفترق فى حيوة ولا موت ابدا- يحدث تمليخا نفسه فيما اخبر أصحابه حين رجع إليهم حتى انتهى الى الرجلين الصالحين اريوس واشطيوس فلما راى تمليخا انه لا يذهب به الى دقيانوس أفاق وذهب عنه البكاء- فاخذ اريوس واشطيوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها ثم قال له أحدهما اين الكنز الذي وجدت(6/15)
يا فتى- فقال تمليخا ما وجدت كنزا ولكن هذا ورق ابائى ونقش هذه المدينة وضربها- ولكنى والله ما أدرى ما شأنى وما أقول لكم فقال أحدهما فمن أنت- فقال تلميخا اما انا فكنت من اهل هذه المدينة- فقالوا ومن أبوك ومن يعرفك بها- فانباهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه- فقال له أحدهما أنت رجل كذّاب لا تنبئنا بالحق- فلم يدر تمليخا ما يقول لهم غير انه نكس بصره الى الأرض- فقال بعض من حوله هذا رجل مجنون وقال بعضهم ليس بمجنون ولكنه يمحّق نفسه عمدا لكى ينفلت منكم فقال له أحدهما دو نظر اليه نظرا شديدا تظن ان نرسلك ونصدقك بان هذا الورق مال أبيك- ونقش هذا الورق وضربها اكثر من ثلاث مائة سنة- وانما أنت غلام شاب أتظن انك تأفكنا وتسخر بنا ونحن شمط كما ترى وحولك سراة اهل المدينة وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بايدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار انى لاظن سامر بك فتعذب عذابا شديدا- ثم اوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدته فلمّا قال ذلك فقال لهم تمليخا انبئونى عن شىء اسئلكم عنه فان فعلتم صدقتكم عمّا عندى قالوا سل لانكتمك شيئا- قال ما فعل الملك دقيانوس قالا ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس ولم يكن الا ملك هلك من زمان ودهر طويل وهلكت بعده قرون كثيرة فقال تمليخا انى إذا لحيران وما هو بمصدقى أحد من الناس لقد كنافئة على دين واحد وهو الإسلام وان الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس- فلمّا انتبهنا خرجت لاشترى لهم طعاما وأتجسس الاخبار فانا كنا كما ترون- فانطلقوا معى الى الكهف الذي في جبل بيجلوس أراكم أصحابي فلما سمع اريوس ما يقول تمليخا قال يا قوم لعل هذه اية من آيات الله جعلها الله لكم على يدى هذا الفتى فانطلقوا بنا معه يرينا أصحابه- فانطلق معه اريوس واشطيوس وانطلق معهم اهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو اصحاب الكهف لينظروا إليهم- ولمّا راى الفتية اصحاب الكهفان تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتى به فيه ظنوا انه قد أخذ فذهب به الى ملكهم دقيانوس- فبينما هم يظنون ذلك ويتخوّفونه إذ سمعوا الأصوات وجبلة الخيل مصعدة نحوهم- فظنوا انهم رسل الجبار دقيانوس بعث إليهم ليؤتى بهم فقاموا الى الصلاة وسلّم بعضهم على بعض واوصى بعضهم بعضا- وقالوا انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا- فانه الان بين يدى الجبار ينتظر متى نأتيه فبينما هو يقولون ذلك وهو جلوس بين ظهرانى الكهف لم يروا الا اريوس وأصحابه وقوفا على(6/16)
باب الكهف فسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو يبكى- فلمّا رأوه يبكى بكوا معه ثم سألوه عن شأنه فاخبرهم وقص عليهم النبأ كله فعرفوا عند ذلك انهم كانوا قياما بامر الله ذلك الزمان كله- وانما أوقظوا ليكونوا اية للناس وتصديقا للبعث- ويعلموا انّ السّاعة اتية لا ريب فيها- ثم دخل على اثر تمليخا اريوس فراى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة- فقام بباب الكهف ثم دعا رجلا من عظماء اهل المدينة ففتح التابوت عندهم فوجد فيه لوحين من رصاص مكتوب فيهما ان مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا ومرطونس وبشرطونس- وبيربوس ودينومس ويطنومونس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة ان يفتنهم عن دينهم فدخلوا هذا الكهف فلمّا اخبر بمكانهم امر بالكهف فسد عليهم بالحجارة وانا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم ان عثر عليهم- فلما قرءووه عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم اية البعث فيهم ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه- ثم دخلوا
على الفتية الى الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهريه سفرة وجوههم لم تبل ثيابهم فخرّ اريوس وأصحابه سجودا وحمدوا لله الذي أراهم اية من آياته ثم كلم بعضهم بعضا وانبأهم الفتية عن الذين لقوا من ملكهم دقيانوس- ثم ان اريوس وأصحابه بعثوا بريدا الى ملكهم الصالح بيدوسيس ان اعجل لعلك تنظر الى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك وجعلها اية للعالمين لتكون لهم نورا وضياء وتصديقا للبعث- فاعجل الى فتية بعثهم الله عزّ وجل وقد كان توفّاهم اكثر من ثلاث مائة سنين- فلما اتى الملك الخبر قام فرجع اليه عقله وذهب همه فقال أحمدك رب السموات والأرض وأعبدك واسبح لك تطولت علىّ ورحمتنى ولم تطف النور الذي كنت جعلته لآبائي وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك فلمّا نبّابه اهل المدينة كبوا اليه وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف- فلمّا راى الفتية بيدوسيس فرحوا به وخرّوا سجدا على وجوههم- وقام بيدوسيس قدامهم ثم اعتنقهم وركا وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون ويحمدونه- ثم قال الفتية لبيدوسيس نستودعك الله والسّلام عليك ورحمة الله وحفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الجن والانس- فبينما الملك قائم إذ رجعوا الى مضاجعهم فناموا وتوفى الله أنفسهم- وقام الملك إليهم وجعل ثيابهم عليهم وامر ان يّجعل كل رجل منهم فى تابوت من ذهب فلمّا امسى ونام أتوه فقالوا له انا لم نخلق من ذهب ولا فضة ولكن خلقنا من تراب والى التراب(6/17)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
نصير فاتركنا كما كنا فى الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه فامر الملك حينئذ بتابوت من ساج وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب فلم يقدر أحد أن يدخل عليهم- وامر الملك فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه وجعل لهم عيدا عظيما وأمران يؤتى كل سنة- وقيل ان تمليخا لمّا حمل الى الملك الصّالح قال الملك من أنت- قال انا رجل من اهل هذه المدينة وذكر انه خرج أمس او منذ ايام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد- وكان الملك قد سمع ان فتية فقدوا فى الزمان الاول وان اسماء هم مكتوبة على اللوح فى الخزانة فدعا اللوح ونظر فى اسمائهم فاذا هو من أولئك القوم- وذكر اسماء الآخرين فقال تمليخا هم أصحابي- فلما سمع الملك ذلك ركب هو ومن معه من القوم فلمّا أتوا باب الكهف قال تمليخا دعونى حتى ادخل على أصحابي فابشّر هو فانّ هم ان رايكم معى دعبتموهم- فدخل فبشّرهم فقبض الله أرواحهم وأعمى عليهم اثرهم- فلم يهتدوا إليهم وذلك قوله عز وجل إذ أوى الفتية الى الكهف الى قوله.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ اى ضربنا حجابا على مسامعهم يمنع نفوذ الأصوات فيها وهو النوم اى أنمناهم نوما لا ينبههم الأصوات- فحذف المفعول كما حذف فى قوله بنى على امرأته فِي الْكَهْفِ سِنِينَ ظرفان لضربنا عَدَداً اى ذوات عدد وصف به السنين ليدل على الكثرة فان القليل لا يعد عادة.......
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ اى أيقظناهم لِنَعْلَمَ اى ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه اولا تعلقا استقباليا...... أَيُّ الْحِزْبَيْنِ اى الطائفتين أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) اى غاية- اىّ مبتدأ واحصى خبره وهو فعل ماض وأمدا مفعوله ولما لبثوا حال منه وما مصدرية وما فى اىّ من معنى الاستفهام علق عنه لنعلم والمعنى ايّهم ضبط أمدا كائنا لزمان لبثهم- وقيل اللام زائدة وما لبثوا مفعول لاحصى وهو فعل ماض وما موصولة وأمدا تميز- وقيل احصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم حصى للمال وأفلس من ابن المدلف- وأمدا نصب لفعل دل عليه كقوله واضرب بالسيوف القوانسا-.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ اى خبر اصحاب الكهف بِالْحَقِّ متلبسا بالصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ اى شبّان جمع فتى كصبى وصبية..... آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) ايمانا وبصيرة يعنى أعطيناهم ايمانا حقيقيّا يحصل بعد فناء النفس فوق الايمان المجازى الذي هو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب مع طغيان النفس وكفرانه.
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ(6/18)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
بالصبر على هجر الوطن والأهل والمال والجرأة على اظهار الحق والرد على دقيانوس الجبار- وذلك بفناء القلب حتى تمكن فيه حب الله وهيبة وخشيته وتخلى عن ملاحظة غيره من الخلائق فصار الناس عنده كالاباعر إِذْ قامُوا بين يدى دقيانوس حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فَقالُوا مفتخرين رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً اى إذا أشركنا بالله الها اخر شَطَطاً (14) اى قولا ذا شطط اى تجاوز عن القدر والحد وتباعد عن الحق مفرط فى الظلم من شط يشط إذا بعد.
هؤُلاءِ مبتدأ قَوْمُنَا عطف بيان له اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ اى من دون الله آلِهَةً يعنى الأصنام يعبدونها والجملة خبر للمبتدا اخبار فى معنى الإنكار لَوْلا هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ اى على عبادتهم فحذف المضاف بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ اى ببرهان ظاهر فان الدين لا يؤخذ الا بالبرهان والظن والتقليد لا يجوز اتباعه فى العقائد- وفيه تبكيت فان اقامة البرهان على عبادة الأوثان محال فَمَنْ اى لا أحد أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وزعم ان له شريكا وولدا فان الافتراء على كل أحد ظلم فكيف على الله تعالى- ثم قال بعضهم لبعض حين تصمموا على الفرار بدينهم.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ يعنى قومكم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ عطف على الضمير المنصوب اى إذ اعتزلتم القوم ومعبوديهم الا الله فانهم كانوا يعبدون الله والأصنام كسائر المشركين ويجوز ان يكون ما مصدرية يعنى وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم الا عبادة الله ويجوز ان يكون نافية على انه اخبار من الله عن الفتية بالتوحيد معترض بين إذا وجوابه لتحقيق اعتزالهم فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ اى صيروا اليه واتخذوه مسكنا كيلا يجاوركم الكفار يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ اى ليبسط لكم الرزق ويوسع عليكم فى الدارين مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) بكسر الميم وفتح الفاء اسم فمعز الدولة- اى ما يرتفق اى ينتفع به جزموا بذلك لقوة وثوقهم بفضل الله- وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر من الأوزان الشاذة كالمرجع والمحيض وقياسه فتح العين.
وَتَرَى الشَّمْسَ لو رايتهم الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم او لكل أحد إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ قرأ ابن عامر ويعقوب تزورّ بإسكان الزاء المنقوطة وتشديد(6/19)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
الراء المهملة على وزن تحمرّ من الافعلال- والكوفيون بفتح التاء والزاء مخففا والف بعدها والباقون بالزاء المنقوطة المشددة والف بعدها واصله تتزاور من التفاعل فحذف الكوفيون احدى التاءين والباقون ادغموها فى الزاء- وكلها من الزور بمعنى الميل يعنى تميل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ اى جهة اليمنى تقديرة الجهة ذات اسم اليمين فلا يقع عليهم شعاعها وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ اى تقطعهم يعنى تتركهم وتعدل عنهم ذاتَ الشِّمالِ يعنى يمين الكهف وشماله وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ اى متسع من الكهف يعنى فى وسطه بحيث ينالهم روح الهواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس- قال ابن قتيبة كان كهفهم مستقبل بنات النعش فاقرب المشارق والمغارب الى محاذاته مشرق راس السرطان ومغربه- والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مقابله بجانب اليمين وهو الذي يلى المغرب وتغرب محاذيه بجانب الأيسر فيقع شعاعها على جنبتيه ويقلل عفونته ويعدل هواه ولا يقع عليهم شعاعها فيوذى أجسادهم ويبلى ثيابهم- وقال بعض العلماء هذا القول خطأ وهو ان كان الكهف مستقبل بنات النعش ولاجل ذلك كان كما ذكر- ولكن الله صرف الشمس عنهم يقدرته وحال بينها وبينهم بدليل قوله تعالى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ اى من عجائب صنعه ودلالات قدرته التي يعتبر بها- ويمكن ان يقال ان ذلك يعنى شأنهم وايواءهم الى كهف كذلك واخبارك قصتهم من آيات الله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بالتوفيق فَهُوَ الْمُهْتَدِ قرأ نافع وابو عمرو بالياء وصلا والباقون يحذفونها فى الحالين يعنى فهو الذي أصاب الفلاح والمراد به اما الثناء عليهم او التنبيه على ان أمثال هذه الآيات كثيرة لكن المنتفع بها من وفقه الله تعالى للتامل فيها والاستبصار بها وَمَنْ يُضْلِلْ اى من يخذله ولم يرشده فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) اى من يليه ويرشده.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً جمع يقظ لانفتاح عيونهم او لكثرة تقلبهم وَهُمْ رُقُودٌ نيام جمع راقد كقاعد وقعود وَنُقَلِّبُهُمْ فى رقدتهم من غير إرادتهم ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ اى مرة للجنبة ذات اسم اليمين ومرة للجنبة ذات اسم الشمال- قال ابن عباس كانوا يتقلبون فى السنة مرة من جانب الى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم «1» - قيل كان يوم عاشوراء يوم تقلبهم- وقال ابو هريرة كان لهم كل سنة لقليبا وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ حكاية حال ماضية ولذلك اعمل اسم الفاعل
__________
(1) وفى الأصل لحومها 12(6/20)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
وأجاز الكوفيون اعمال اسم الفاعل مطلقا قال مجاهد والضحاك الوصيد فناء الكهف وقال عطاء الوصيد عتبة الباب وقال السدى الوصيد الباب وهى رواية عكرمة عن ابن عباس قال اكثر اهل التفسير انه كان من جنس الكلاب- وروى عن ابن جريج انه كان أسدا ويسمى الأسد كلبا- فان النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن ابى لهب فقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه الأسد والاول المعروف قال ابن عباس كان كلبا انمر ويروى عنه فوق العلطى ودون الكردي وقال مقاتل كان أصغر وقال القرطبي كانت شدة صفرته تضرب الى الحمرة وقال الكلبي لونه كالخليج وقيل لون الحجر- قال ابن عباس اسمه قطمير وعن على عليه السّلام اسمه زبان وقال الأوزاعي اسمه تقور وقال السدى ثور وقال كعب صهبا- قال خالد بن معدان ليس فى الجنة شىء من الدواب سوى كلب اصحاب الكهف وحمار بلغام- قال السدى كان اصحاب الكهف إذا انقلبوا انقلب الكلب معهم فاذا انقلبوا الى اليمين كسر الكلب اذنه اليمنى ورقد عليها- وإذا انقلبوا الى الشمال كسر اذنه اليسرى ورقد عليها لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم يا محمد لَوَلَّيْتَ اى لهربت منهم فِراراً منصوب على المصدرية لانه نوع من التولية او على العليّة او على الحال اى فارا وَلَمُلِئْتَ قرأ نافع وابن كثير بتشديد اللام والباقون بتخفيفها مِنْهُمْ رُعْباً اى خوفا برعب اى يملا صدرك قيل من وحشة المكان وقال الكلبي لان أعينهم كانت مفتحة كالمستيقظ الذي يريد ان يتكلم- وقيل لكثرة شعورهم وطول اظفارهم وتقلبهم من غير حس ولا اشعار- وقيل ان الله منعهم بالرعب لئلا يدخل عليهم أحد وهو الصحيح المختار- يدل عليه ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال غزونا مع معاوية رضي الله عنه غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه اصحاب الكهف- فقال معاوية لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك فقال لو اطّلعت عليهم لولّيت منهم فرارا- فلم يسمع معاوية وبعث ناسا فقال اذهبوا فانظروا- فلمّا دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فاحرقتهم- أخرجه ابن ابى شيبة وابن المنذر وابن ابى حاتم-.
وَكَذلِكَ اى كما أنمناهم فى الكهف وحفظنا أجسادهم من البلى على طول الزمان بَعَثْناهُمْ من تلك النومة الطويلة المشبهة بالموت اية على كمال قدرتنا لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ اى ليتساءل بعضهم بعضا فيتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم(6/21)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله تعالى- ويستبصروا به امر البعث ويشكروا ما الغم به عليهم فعلى هذا اللام لام العلة وقال البغوي اللام لام العاقبة لانهم لم يبعثوا للسوال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو رئيسهم مكسلمينا كَمْ لَبِثْتُمْ فى نومكم وذلك انهم استكثروا طول نومهم- ويقال انهم راعهم ما فاتهم من الصلوات فقالوا ذلك قالُوا لَبِثْنا يَوْماً وذلك انهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا عشيّة فقالوا لبثنا يوما- ثم نظروا وقد بقيت من الشمس بقية فقالوا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وهذا الجواب مبنى على غالب الظن وفيه دليل على ان القول بغالب الظن جائز- فلما نظروا الى شعورهم واظفارهم علموا انهم لبثوا دهرا قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وقيل ان رئيسهم مكسلمينا لما سمع الاختلاف قال دعوا الاختلاف فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ يعنى تمليخا..... بِوَرِقِكُمْ قرأ ابو عمرو وحمزة وأبو بكر ساكنة الراء والباقون بكسرها ومعناهما واحد وهى الفضة مضروبة كانت او غير مضروبة هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ قيل هى طرطوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فسموها فى الإسلام طرطوس- وفى حملهم الورق معهم دليل على ان التزود رأى المتوكلين فَلْيَنْظُرْ أَيُّها اى اىّ أهلها بحذف المضاف أَزْكى طَعاماً اى احلّ طعاما حتى لا يكون من غصب او سبب حرام وقيل أمروه ان يطلب ذبيحة من يذبح لله وكان فيهم مؤمنون يخفون ايمانهم- وقال الضحاك أطيب طعاما وقال مقاتل بن حبان أجود وقال عكرمة اكثر واصل الزكوة الزيادة وقيل أرخص طعاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ اى ليتكلف فى اللطف فى المعاملة حتى لا يغبن او فى التخفّي حتى لا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) من الناس اى لا يفعلن ما يؤدى الى الشعور بنا من غير قصد منه فسمى ذلك اشعارا منه بهم لانه سبب فيه والضمير فى إِنَّهُمْ راجع الى الأهل المقدر فى ايّها.
إِنْ يَظْهَرُوا اى يطلعوا عَلَيْكُمْ او يظفروا بكم يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ اى يصيّروكم إليها كرها فالعود بمعنى الصيرورة وقيل هو بمعناه وكانوا اولا فى دينهم فامنوا وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً اى إذا دخلتم فى ملتهم أَبَداً (20) .
وَكَذلِكَ اى كما أنمناهم وبعثناهم ليزداد وبصيرة أَعْثَرْنا اى اطلعنا الناس يقال عثرن على الشيء إذا اطلعت عليه واعثرت غيرى اى اطلعته عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا اى ليعلم الذين(6/22)
اطلعنا هو على حالهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث بعد الموت حَقٌّ لان نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث وَأَنَّ السَّاعَةَ اى القيامة الموعودة لا رَيْبَ فِيها اى فى إمكانها فان من توفّى نفوسهم وأمسكها ثلاث مائة سنين حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها قادر على ان يتوفّى نفوس جميع الناس ممسكا إياها الى ان يحشر أبدانها فيرد عليها إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف لاعثرنا اى أعثرنا عليهم حين كان الناس يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ اى بين امر دينهم قال عكرمة تنازعوا فى البعث فقال قوم للارواح دون الأجساد- وقال المسلمون البعث للارواح والأجساد جميعا- فبعثهم الله وأراهم ان البعث للارواح والأجساد جميعا- او فى امر الفتية حين أماتهم ثانيا بالموت فقال بعضهم ماتوا وقال بعضهم ناموا نومهم أول مرة- وقال ابن عباس تنازعوا فى البنيان قال المسلمون نبنى عندهم مسجدا لانهم كانوا على ديننا وقد ماتوا مسلمين وقال المشركون نبنى عليهم بنيانا يسكنه الناس ويتخذونه قرية- او على باب كهفهم بنيانا يمنع الناس عن التطرق إليهم ضنّا بتربتهم لانهم من اهل نسبنا كما قال الله تعالى فَقالُوا اى المشركون من اهل القرية ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ اى المسلمون بيدوسيس وأصحابه فانهم كانوا اصحاب ملك وثروة وحكومة حينئذ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) يصلى فيه المسلمون ويتبركون بهم- وقوله ربّهم اعلم بهم الظاهر انه اعتراض من الله تعالى ردّا على الخائضين فى أمرهم فان كلّا من الفريقين انتسبوا أنفسهم إليهم وهم براء من الكفر وأربابها ولم يكونوا من عوام المؤمنين ايضا وان كانوا منهم فان الصوفي كائن بائن قال الفاضل الرومي
هر كسى در ظن خود شد يار من ... واز درون من نجست اسرار من
وقيل انه من كلام المتنازعين كانهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام فى أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم- فلمّا لم يهتدوا الى حقيقة ذلك قالوا ربّهم اعلم بهم- (مسئلة) هذه الاية تدل على جواز بناء المسجد ليصلى فيه عند مقابر اولياء الله قصدا للتبرك بهم وقد كان الشيخ الأستاذ محمد فاخر المحدث رحمه الله يكره ذلك مستدلا بما رواه مسلم عن ابن الهياج الأسدي قال قال لى علىّ الا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وان لا تدع تمثالا الا طمسته ولا(6/23)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
قبرا مشرفا الا سوّيته- وما روى مسلم عن جابر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجصص القبر وان يبنى عليه وان يقعد عليه- وما روى الشيخان عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فاذا اغتم كشفها عن وجهه ويقول وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد- قالت يحذّر مثل ما صنعوا قلت هذه الأحاديث تدل على كراهة تجصيص القبور والبناء عليها وجعل القبور مشرفة- ولا دلالة لها على كراهة بناء المسجد بقرب منها- ومعنى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد انهم يسجدون الى القبور- كما هو صريح فى حديث ابى مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها- رواه مسلم.
سَيَقُولُونَ اى المتنازعون فى عدد الفتية فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ اى جاعلهم اربعة بانضمامه إليهم وثلاثة خبر مبتدأ محذوف اى هم ثلاثة وجملة رابعهم كلبهم صفة لثلاثة وكذا ما بعده وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه قال البغوي روى ان السيد والعاقب وأصحابها من نصارى نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر اصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبيّا كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم- وقال العاقب وكان نسطوريّا كانوا خمسة سادسهم كلبهم فرد الله عليهم قولهم بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ منصوب على المصدريّة بفعل مقدر يعنى يرجمون رجما ويرمون رميا بالخبر الغائب عنهم يعنى ليس فى خزانة علمهم ذلك- او على العلية متعلق بقوله يقولون ومعنى رجما ظنّا وضع الرجم موضع الظن لانهم يقولون كثيرا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق بينهم فرق بين العبارتين كذا قال فى المدارك يعنى ليس اخبار الفريقين مستندا الى علم مطابقا للواقع وَيَقُولُونَ يعنى المسلمين بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جبرئيل سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ادخل الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على ان اتصافه ثابت- وقيل هذه واو الثمان وذلك ان العرب يعدّ فيقول واحد اثنان ثلاثة اربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لان العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة ومنه قوله تعالى التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ- وقوله تعالى فى ازواج النبي صلى الله عليه وسلم عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً-(6/24)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
قال الله تعالى قُلْ رَبِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ اى بعددهم ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ 5 منهم اى من النصارى- او الا قليل من الناس وهم المسلمون قال ابن عباس انا من ذلك القليل كانوا سبعة- رواه ابن جرير والفرياني وغيرهما عنه- وكذا روى ابن ابى حاتم عن ابن مسعود انهم سبعة ثامنهم كلبهم- قال البيضاوي ان الله تعالى اثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر اقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة- فان عدم إيراد القول الرابع في نحو هذا المحمل دليل على العدم مع ان الأصل نفيه- وبعد ما رد القولين الأولين ظهر ان الحق هو القول الثالث وقال البغوي روى عن ابن عباس انه قال هم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وسنونس وسارينونس وذو نواس وكعسططيونس وهو الراعي- رواه الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عنه قال ابن حجر في شرح البخاري في النطق بها اختلاف كثير ولا يقع الوثوق من ضبطها بشيء فَلا تُمارِ فِيهِمْ اى لا تجادل في شأن الفتية وعددهم إِلَّا مِراءً ظاهِراً اى جدالا بظاهر ما قصصنا عليك من غير تجهيل لهم ولا تعمق فيه إذ لا فائدة في ذلك الجدال وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ اى في شان اصحاب الكهف وعددهم مِنْهُمْ اى من اهل الكتاب أَحَداً (22) اى لا تسئل عن قصتهم سوال مستعلم فان فيما اوحى إليك لمندوحة عن غيره مع انهم لا علم لهم بها- وايضا لا فائدة لك في زيادة العلم بأحوالهم- ولا سوال متعنت تريد تفضيح المسئول عنه وتزئيف ما عنده- فانه مخل لمكارم الأخلاق والله اعلم- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال حلف النبي صلى الله عليه وسلم على يمين فمضى له أربعون ليلة فانزل الله تعالى.
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ واخرج ابن المنذر عن مجاهد انه قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح وعن اصحاب الكهف وذى القرنين- فسالوه فقال ايتوني غدا أخبركم ولم يستثن فابطا عنه الوحى بضعة عشر يوما- حتى شق عليه وكذّبته قريش فانزل الله هذه الاية- وقد ذكر في أوائل السورة ما اخرج ابن جرير نحوه- وكذا ذكرنا في سورة بنى إسرائيل في تفسير قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ والاستثناء استثناء من النهى- اى لا تقولنّ لاجل شيء تعزم عليه انّى فاعل ذلك الشيء فيما يستقبل من الزمان الّا ان يشاء الله- يعنى لا تقولنّ في حال من الأحوال الا متلبسا بمشيته اى الّا قائلا ان شاء الله: او في وقت من الأوقات الا وقت مشيّته ان تقوله بمعنى الا وقت ان يأذن لك(6/25)
فيه- وذلك الوقت انما هو وقت قولك ان شاء الله معه- وليس الاستثناء متعلقا بقوله انّى فاعل لانه لو قال انى فاعل كذا الا ان يشاء الله- كان معناه الا ان يعترض مشية الله دون فعلى وذلك لا مدخل فيه للنهى- وهذا نهى تأديب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وَاذْكُرْ رَبَّكَ بالتسبيح والاستغفار إِذا نَسِيتَ الاستثناء فيه حثّ وتأكيد على الاهتمام في إتيان الاستثناء على كل عزم- او المعنى واذكر ربّك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليعينك على التدارك- او المعنى إذا نسيت شيئا فاذكره ليذكّرك المنسى- وقال عكرمة معنى الاية واذكر ربّك إذا غضبت قال وهب مكتوب في الإنجيل ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين اغضب وقال الضحاك والسدىّ هذا في الصلاة عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسى صلوة فليصلّها إذا ذكرها- رواه البغوي وفي الصحيحين وعند احمد والترمذي والنسائي بلفظ من نسى صلوة او نام عنها فكفارتها ان يصليها إذا ذكرها- وعن ابى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نام عن وتره او نسيه فليصله إذا ذكره- رواه احمد والحاكم وصححه وقال ابن عباس ومجاهد والحسن معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن- ومن هاهنا جوزوا تأخير الاستثناء ولو بعد سنة ما لم يحنث أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والحاكم عن ابن عباس ويؤيد قولهم ما اخرج ابن مردوية عن ابن عباس انه قال لما نزل هذه الاية قال عليه السلام ان شاء الله وعامة الفقهاء على خلافه فان الكلام الغير المستقل إذا كان مغيرا لمعنى كلام اخر كالشرط والاستثناء والغاية والبدل بدل البعض لا بد ان يكون متصلا به- إذ لو صح الاستثناء ونحو ذلك منفصلا لم يتقرر اقرار ولاطلاق ولا اعتاق ولا يعلم صدق ولا كذب- حكى انه بلغ المنصور ان أبا حنيفة خالف ابن عباس رضي الله عنه في الاستثناء المنفصل- فاستحضره لينكر عليه فقال ابو حنيفة هذا يرجع عليك انك تأخذ البيعة بالطاعة أفترضى ان يخرجوا من عندك فليستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه وامر الطاعن فيه بإخراجه من عنده- وما روى من قوله صلّى الله عليه وسلم ان شاء الله عند نزول هذه الاية ليس استثناء متعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم وايتوني غدا أخبركم يعنى عن اصحاب الكهف والروح وذى القرنين- بل هو استثناء متعلق بمقدر تقديره لا اترك الاستثناء ان شاء الله تعالى فيما أقول في ثانى الحال انى فاعل ذلك غدا والله اعلم-(6/26)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
وقالت الصوفية العلية ان معنى الاية واذكر ربّك إذا نسيت ما عداه- قالوا ذكر الله سبحانه دائما لا يتصوما لم يحصل لقلبه نسيان عما سواه لان قلب الإنسان يشغله شأن عن شأن وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه- فالذكر الدائم الّذي لا يقع فيه فتور لا يتصور ما لم يحصل لقلبه نسيان دائمى عما سواه وهذه الحالة يعبّر عندهم بفناء القلب واما الذكر الّذي يعقبه غفلة فلا يعتدون به- والقلب يذكر تارة ويغفل عنه ويذكر غيره اخرى لا يسمى عندهم موحدا- وهذا التأويل انسب بمنطوق الكتاب وأوفق للعربية وابعد من التجوز لان قوله إذا نسيت ظرف لا ذكر والظرفية الحقيقية ان يكون الذكر في وقت النسيان- ولا شك ان وقت الذكر مغائر لوقت النسيان على سائر التأويلات السابقة
- فلا يكون الظرفية على تلك التأويلات الا مجازا والحمل على الحقيقة اولى- وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ قرأ نافع وابو عمرو بالياء وصلا فقط وابن كثير بالياء في الحالين والباقون يحذفوها فيهما أي يهدنى رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا المنسى رَشَداً (24) اى خيرا وصلاحا عطف على اذكر- يعنى إذا نسيت الاستثناء او شيئا مما أمرك الله بإتيانه فاذكر الله بالتسبيح والاستغفار واستعنه وقل عسى ان يهدين ربّى لشيء اخر أفضل من هذا المنسى واقرب منه رشدا- او ذلك الندم والتوبة والاستغفار مع القضاء وقيل ان القوم لمّا سالوه عن قصة اصحاب الكهف على وجه العناد امره الله عزّ وجلّ ان يخبرهم بان الله سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو ادلّ من قصة اصحاب الكهف- وقد فعل حيث أتاه علم غيب المرسلين وعلم ما كان وما يكون ما هو أوضح في الحجة واقرب الى الرشد من خبر اصحاب الكهف- وقال بعضهم هذا شيء امر الله رسوله ان يقوله مع قوله ان شاء الله لا اترك الاستثناء ابدا إذا ذكر الاستثناء بعد النسيان- يعنى إذا ترك الإنسان ان شاء الله ناسيا ثم ذكره فتوبته من ذلك ان يقول عسى ان يهدين ربّى لاقرب من هذا رشدا- وعلى تأويل الصوفية فمعنى الاية واذكر ربّك إذا نسيت غيره وقل عسى ان يهدين ربّى اى يوصلنى لشيء هو اقرب من هذا الذكر رشدا وهو ذات الله سبحانه الّذي هو اقرب من حبل الوريد.
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ يعنى لبثوا اصحاب الكهف احياء مضروبا على آذانهم- وهذا بيان من الله تعالى لما أجمله من قبل حيث قال فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا- وقيل هذا خبر عن اهل الكتاب انهم قالوا ذلك- ولو كان خبرا من الله تعالى عن قدر لبثهم لم يكن لقوله قل الله اعلم بما لبثوا وجه وهذا قول قتادة- و(6/27)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
يدل عليه قراءة ابن مسعود- وقالوا لبثوا في كهفهم- ثم رد الله عليهم بقوله قل الله اعلم بما لبثوا- والاول أصح واما قوله قل الله اعلم بما لبثوا معناه ان الأمر في مدة لبثهم كما ذكرنا فان نازعوا في فيها فاجبهم قل الله اعلم منكم بما لبثوا وقد اخبر بمدة لبثهم- وقيل ان اهل الكتاب قالوا ان المدة من وقت دخولهم الكهف الى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه- فرد الله عليهم وقال قل الله اعلم بما لبثوا يعنى بعد قبض أرواحهم الى يومنا هذا مضى زمان الله اعلم به ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ قرأ حمزة والكسائي بالاضافة بغير تنوين على مائة- على وضع الجمع في التميز موضع المفرد كما في قوله الأخسرين أعمالا- قال الفراء من العرب من يضع سنين موضع سنة- وقرأ الباقون ثلاثمائة بالتنوين فسنين على هذا بدل من ثلاثمائة او عطف بيان- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس وابن جرير عن الضحاك قالا نزلت ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة فقيل يا رسول الله سنين أم شهورا فانزل الله تعالى سنين وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قال الكلبي قالت نصارى نجران اما ثلاث مائة فقد عرفنا واما التسع فلا علم لنا به فنزلت.
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وقال البغوي روى عن علّى عليه السّلام انه قال عند اهل الكتاب انهم لبثوا ثلاث مائة سنة شمسية والله تعالى ذكر ثلاث مائة قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون في ثلاث مائة تسع سنين فلذلك قال وازدادوا تسعا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى مختص به تعالى ما غاب من غيره في السموات والأرض أَبْصِرْ بِهِ اى بالله تعالى وَأَسْمِعْ ذكر كماله تعالى في الابصار والسمع بصيغة التعجب للدلالة على ان امره تعالى في الإدراك خارج عما عليه ادراك السامعين والمبصرين إذ لا يحجبه شيء- ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفى وجلى ما لَهُمْ ما لاهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ اى من دون الله مِنْ وَلِيٍّ ينصرهم ويتولى أمرهم وَلا يُشْرِكُ قال البغوي قرأ ابن عامر لا تشرك بالتاء على الخطاب والنهى ولم يذكر الداني في التيسير خلاف ابن عامر- وقرأ الجمهور بالياء اى لا يشرك الله فِي حُكْمِهِ اى في قضائه او في امره ونهيه أَحَداً (26) منهم ولا يجعل لاحد فيه مدخلا- وقيل الحكم هاهنا بمعنى علم الغيب اى لا يشرك في علم غيبه أحدا- ثم لمّا دل اشتمال القران على قصة اصحاب الكهف من حيث انها من المغيبات بالاضافة الى الرسول صلى الله عليه وسلم على انه وحي معجز- امره بان يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال.
وَاتْلُ ما(6/28)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ
اى القران واتبع ما فيه ولا تلتفت الى قولهم ايت بقرآن غير هذا او بدّله فانه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعنى لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره- وقيل معناه لا مغير لما أوعد بكلماته اهل معصية وَلَنْ تَجِدَ أنت يا محمد مِنْ دُونِهِ ان لم تتبع القران مُلْتَحَداً (27) قال ابن عباس حرزا وقال الحسن مدخلا وقيل مهربا وأصله من الميل-.
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ يا محمد اى احبسها وثبتها- قال البغوي هذه الاية نزلت في عيينة بن حصير الفزاري اتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ان يسلم- وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها ويبده خرصة يشقها ثم ينسجها- قال عيينة للنبى صلى الله عليه وسلم اما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر واشرافها فان اسلمنا اسلم الناس وما يمنعنا عن اتباعك الا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك او اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا- فانزل الله تعالى واصبر نفسك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ قرأ ابن عامر بضم الغين وسكون الدال وواو مفتوحة- والباقون بفتح الغين والدال والف بعدها وَالْعَشِيِّ اى في جميع أوقاتهم او في طرفى النهار يُرِيدُونَ بعبادتهم إياه وَجْهَهُ لفظ الوجه مقحم كما في قوله تعالى ويبقى وجه ربّك- والمعنى يريدون الله لا شيئا اخر من الدنيا والاخرة- قال قتادة نزلت في اصحاب الصفة وكانوا سبع مائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون الى زرع ولا ضرع ولا تجارة- يصلون صلوة وينتظرون اخرى- فلما نزلت لهذه الاية قال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الّذي جعل في أمتي من امر ربّى ان اصبر معهم- وقد ذكرنا بعض ما ورد في سبب نزول هذه الاية في سورة الانعام في تفسير قوله تعالى ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم الاية وَلا تَعْدُ اى لا تصرف عَيْناكَ عَنْهُمْ الى غيرهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا حال من الكاف اى تصرف عيناك حال كونك تطلب مجالسة الأغنياء ومصاحبة اهل الزينة من الدنيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا قال البغوي يعنى عيينة بن حصين- وقيل امية بن خلف اخرج ابن مردوية من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الاية قال نزلت في امية بن خلف الجمحي- وذلك انه دعا النبي صلى الله عليه وسلم الى امر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد اهل مكة فنزلت- واخرج ابن ابى حاتم عن الربيع قال حدثنا ان النبي صلى الله عليه وسلم تصدّى لامية بن خلف وهوساه غافل(6/29)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
عما يقال له فنزلت- واخرج ابن بريدة قال دخل عيينة بن حصين على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلمان فقال عيينة إذا نحن اتيناك فاخرج هذا فنزلت ولا تطع من أغفلنا قلبه اى جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا وَاتَّبَعَ هَواهُ فى دعائك الى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش- وفيه تنبيه على ان الداعي له الى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن ذكر الله سبحانه- وانهما له في لذات الدنيا- حتى خفى عليه ان الشرف بتزكية النفس عن الرذائل وتصفية القلب وتنويرها بنور المعرفة لا بزينة الجسد وانه من أطاعه كان مثله في الغفلة والغباوة- والمعتزلة لما لم يجوّزوا نسبة الاغفال الى الله تعالى قالوا معنى أغفلنا وجدناه غافلا او نسبناه الى الغفلة او هو من قبيل اغفل ابله اى تركها بغير سمة- واهل السنة السنية جعلوا مجموع النسبتين في قوله تعالى أغفلنا وقوله واتّبع هويه دليلا على الأمر بين الامرين لاجبر ولا تفويض وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) قال البغوي قال قتادة ومجاهد اى ضياعا- وقيل معناه ضيع امره وعطل أيامه- وقيل ندما وقال مقاتل بن حبان سرفا- وقال الفراء منزوكا- وقيل باطلا- وقيل مخالفا للحق- وقال الأخفش مجاوزا للحد- وقال البيضاوي متقدما على الحق تاركا له وراء ظهره- يقال فرس فرط اى متقدما للخيل ومنه الفرط.
وَقُلِ يا محمد الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ مبتدأ وخبر يعنى الحق ما حقه الله لا ما يقتضيه الهوى ويجوز ان يكون الحق خبر مبتدأ محذوف ومن ربكم حالا يعنى الإسلام او القران هو الحق كائنا من ربكم فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ صيغة تخيير استعمل للتهديد والوعيد كانه جواب لما قال عيينة للنبى صلى الله عليه وسلم اما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر واشرافها فان اسلمنا اسلم الناس وما يمنعنا عن اتباعك الا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك ومعناه الحق كائن من ربك والله يأمر بصبر النفس والمجالسة مع هؤلاء وينهى عن طردهم فان شئتم أمنوا وان شئتم فاكفروا لا أبالي بايمان من أمن منكم ولا بكفر من كفر منكم- فان نفع الايمان ومضرة الكفر انما يعود إليكم إِنَّا أَعْتَدْنا هيّئنا لِلظَّالِمِينَ اى الكافرين ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها السرادق الحجرة يطيف بالفساطيط قال في النهاية هو كل ما أحاط بشيء من حائط او مضرب او خباء- قالوا هو لفظ مفرد معرب إذ ليس في كلامهم اسم مفرد ثالثه الف وبعده حرفان وجاز ان يكون جمع سردق- روى احمد والترمذي والحاكم وصححه عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله(6/30)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
عليه وسلم قال سرادق النار اربعة جدر كثف كل جدار أربعين سنة- قال البغوي قال ابن عباس هو حائط من نار- وقال الكلبي هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحضيرة- وقيل دخان يحيط بالكفار وهو الّذي ذكره الله انطلقوا الى ظلّ ذى ثلث شعب وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا بشدة العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ اخرج احمد والترمذي وابن ابى حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى بماء كالمهل قال كعكر الزيت فاذا قرب اليه سقطت فروة وجهه فيه- وروى احمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وابن جرير وابن ابى حاتم وابن المنذر وابن ابى الدنيا في صفة النار والبيهقي عن ابى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ويسقى من ماء صديد يتجرّعه قال يقرب فيستكرهه فاذ ادنى منه شوى وجهه ووقع فروة رأسه فاذا شربه قطّع امعاءه حتى يخرج من دبره- فيقول وسقوا ماء حميما فقطّع أمعاءهم- وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه- واخرج ابن ابى حاتم من طريق ابى طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى بماء كالمهل قال اسود كعكر الزيت- وقال البغوي قال ابن عباس هو ماء غليظ مثل دردى الزيت وقال مجاهد هو القيح والدم- وسئل ابن مسعود عن المهل فدعا بذهب وفضة وأوقد عليهما النار حتى ذابا ثم قال هذا أشبه شيء بالمهل يَشْوِي الْوُجُوهَ اى إذا قدم يشويها من فرط حرازته- وهو صفة ثانية لماء او حال من المهل او من الضمير في كاف التشبيه بِئْسَ الشَّرابُ المهل وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً (29) قال ابن عباس منزلا- وقال مجاهد مجتمعا- وقال عطاء مقرّا وقال القتيبى مجلسا واصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد فالمعنى متكئا ومستراحا وجئ به لمقابلة قوله حسنت مرتفقا والا فاى ارتفاق لاهل النار-.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) خبر ان الاولى هى الثانية بما في حيزها- والراجع محذوف تقديره من احسن عملا منهم- او مستغنى عنه لعموم من احسن عملا- كما هو مستغنى عنه في قولك نعم الرجل زيد- او واقع موقعه الظاهر فان من احسن عملا لا يحسن إطلاقه الا على الذين أمنوا وعملوا الصّالحات.
أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ اى اقامة يقال عدن الماء بالمكان إذا اقام به سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ(6/31)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
الْأَنْهارُ
جملة أولئك استيناف لبيان الاجر- ويحتمل ان يكون هذا خبرا لانّ الاولى ويكون ان الثانية مع ما في حيزها اعتراضا- او يكون هذا خبرا ثانيا يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ جمع اسورة او أسوار في جمع سوار ومن للابتداء مِنْ ذَهَبٍ صفة لاساور ومن للبيان- والتنكير في أساور وذهب لتعظيم حسنها من الإحاطة به- اخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ان ادنى اهل الجنة حلية عدلت بحلية اهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الاخرة أفضل من حلية اهل الدنيا جميعا واخرج ابو الشيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال ان لله ملكا يصوغ حلى اهل الجنة من أول خلفه الى ان تقوم الساعة- ولو ان حليّا اخرج من حلى اهل الجنة لذهب بضوء الشمس وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً اخرج ابن السنى وابو نعيم كلاهما في طب النبي صلى الله عليه وسلم عن انس قال كان أحب الألوان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضرة مِنْ سُنْدُسٍ وهو مارق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ وهو ما غلظ منه- قال البغوي معنى الغلظ في ثياب الجنة أحكامه- وعن عمر الحربي قال السندس هو الديباج المنسوج بالذهب- اخرج النسائي والطيالسي والبزار والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر قال قال رجل يا رسول الله أخبرنا عن ثياب اهل الجنة.... اخلق يخلق أم سيج يسج- فضحك بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّ نضحكون من جاهل يسئل عالما- ثم قال بل ينشق عنها ثم الجنة مرتين- واخرج البزار وابو يعلى والطبراني من حديث جابر بسند صحيح عن ابى الخير مرثد بن عبد الله قال في الجنة شجرة ينبت السندس يكون ثياب اهل الجنة مُتَّكِئِينَ فِيها اى في الجنة خص بالذكر هيئة الاتكاء لكونها هيئة المتنبعين والمملوك على الاسرة عَلَى الْأَرائِكِ وهى السر في الحجال واحدتها اريكة- اخرج البيهقي عن ابن عباس في هذه الاية قال لا يكون الأرائك حتى يكون السرير في الحجلة- فان كان سرير بغير حجلة لا تكون اريكة وان كان حجلة بغير سرير لا تكون اريكة فاذا اجتمعا كانت اريكة واخرج البيهقي عن مجاهد قال الأرائك من لؤلؤ وياقوت نِعْمَ الثَّوابُ اى نعم الجزاء الجنة ونعيمها وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) اى حسنت الجنات مجلسا ومقرّا- او حسنت الأرائك متكا.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ الاية- قال البغوي قيل نزلت في أخوين من اهل مكة من بنى مخزوم أحدهما مؤمن وهو ابو سلمة(6/32)
عبد الله بن عبد الأسود بن عبد يا ليل روكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم والاخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسود بن عبد يا ليل وقيل هذا مثل لعيينة بن حصين وأصحابه مع سلمان وأصحابه- وشبّههما برجلين من بنى إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهودا في قول ابن عباس وقال مقاتل تمليخا- والاخر كافر واسمه قطروس وقال وهب قطفر- وهما اللذان وصفهما الله في سورة والصافات وكان قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراسانى قال كان رجلان مشريكين لهما ثمانية آلاف دينار- وقيل كانا أخوين ورثا أباهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أحدهما فاشترى أرضا بألف دينار فقال صاحبه اللهم ان فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار فانى اشتريت منك في الجنة أرضا بألف دينار فتصدق بألف دينار- ثم ان صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال اللهم ان فلانا بنى دارا بألف دينار فانى اشترى منك دارا بألف دينار في الجنة فتصدق بألف دينار ثم تزوج صاحبه امرأة فانفق عليها الف دينار فقال هذا المؤمن اللهم انى اخطب إليك من نساء اهل الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار- ثم اشترى صاحبه خدما ومتاعا بألف دينار فقال هذا اللهم انى اشترى منك خدما ومتاعا بألف دينار فتصدق بألف دينار- ثم انه «1» أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبى لعله ينالنى منه بمعروف فجلس على طريقه حتى مرّ به في حشمه فقام اليه فنظر اليه الاخر فعرفه فقال فلان قال نعم قال ما شأنك قال أصابتني حاجة بعدك فاتيت لتصيبنى بخير- فقال ما فعل مالك وقد اقتسمنا مالا وأخذت شطره فقص «2» عليه القصة فقال انك لمن المصدقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئا فطرده- فقضى لهما ان توفيا فنزل فيهما فاقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم انّى كان لى قرين يقول أإنّك لمن المصدّقين «3» .
وروى انه لما اتى فاخذ بيده وجعل يطوف به ويريه اموال نفسه فنزل فيهما واضرب لهم اى للكافرين والمؤمنين مثلا رّجلين اى مثل رجلين يعنى حال رجلين مقدرين او موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم او في الزمان السابق- فرجلين بحذف المضاف بدل من مثل وما بعده تفسير للمثل جَعَلْنا لِأَحَدِهِما اى للكافر منهما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ اى بستانين من كروم والجملة بتمامها بيان للتمثيل او صفة لرجلين وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ اى جعلنا الجنتين محفوفتين اى محاطتين بنخل يعنى جعلنا النحلة محيطة بها- يقال حفه القوم إذا احاطوا به-
و
__________
(1) وفي الأصل ثم ان صاحبة أصابته 12
(2) وفي الأصل فقصه عليه قصة 12
(3) وفي الأصل انك لمصدقين 12(6/33)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
حففته بهم اى جعلتهم حافين حوله محيطين به- فيزيد الباء كقولك غشيته وغشيت به وَجَعَلْنا بَيْنَهُما اى وسط الجنتين زَرْعاً (32) يعنى لم يكن بين الجنتين موضع خراب وكانت الجنتان جامعتين للاقوات والفواله على الشكل والترتيب الأنيق.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ اى اعطت أُكُلَها اى ثمرها أفرد الضمير لافراد لفظ كلتا وَلَمْ تَظْلِمْ اى لم تنقص مِنْهُ اى من أكلها شَيْئاً يعهد في سائر البساتين فان الثمار يتم في عام وينقص في عام غالبا وَفَجَّرْنا قرأ يعقوب «1» بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها- اى شققنا وأخرجنا خِلالَهُما اى وسطها نَهَراً (33) ليدوم شربها ويبقى زهرتها.
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قرأ عاصم بفتح الثاء والميم وابو عمرو بضم الثاء واسكان الميم- والباقون بضمهما وكذلك في قوله وأحبط بثمره- قال الأزهري الثمرة تجمع على ثمر يعنى بفتح الثاء والميم- ويجمع الثمر على ثمار ثم يجمع الثمار على ثمر بالضمتين- وفي القاموس الثمرة محركة حمل الشجر وانواع المال- الواحدة ثمره وثمرة وجمعه ثمار وجمع الجمع ثمر وجمع جمع الجمع اثمار والذهب والفضة والنسل والولد- قيل المراد انه كان لصاحب البساتين ثمر اى انواع من المال سوى الجنتين كثيرة مثمرة من ثمر ماله إذا كثر- وقال مجاهد يعنى ذهب وفضة وقال البغوي من قرأ بفتح الثاء فهى جمع ثمرة وما يخرجه الشجر من الثمار الماكولة ومن قرأ بالضم فهى الأموال الكثيرة المثمرة فَقالَ صاحب البستانين لِصاحِبِهِ الفقير المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ اى يراجعه في الكلام من حاور إذا راجع أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) اى حشما وأعوانا وقيل أولادا ذكورا- لانهم الذين ينفرون معه يدل عليه قوله ان ترن انا أقلّ منك مالا وولدا.
وَدَخَلَ الكافر جَنَّتَهُ بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها- وافراد الجنة لان الدخول يكون في واحدة واحدة- او لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى- او سماهما جنة لاتحاد الحائط وجنتين للنهر الجاري بينهما- أو لأن المراد ما هو جنته الّتي منعته من جنة الخلد الّتي وعد المتقون وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ اى ضار لها لعجبه وكفره قالَ ما أَظُنُّ ان تَبِيدَ اى تفنى هذِهِ الجنة أَبَداً (35) لطول أمله وتمادى غفلته واغتراره بمهلته- لعل المراد انه زعم انه لا يزال له الغنى والمال والجنتان ما دام حيّا- والا فليس من عاقل مومنا كان او كافرا يعلم انه لا يموت ويبقى حيا ابدا- او المراد انه قال ذلك بلسان الحال فان الغافلين المنهمكين في الدنيا
__________
(1) هذا ليس بشيء لان يعقوب قرا بالتشديد كالجمهور- والتخفيف مذهب الأعمش- ابو محمد عفا الله عنه(6/34)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
ولذاتها يأملون آمالا ويعملون أعمالا كانهم لا يموتون ابدا. فكانّهم يقولون ذلك بلسان الحال.
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً اى كائنة قاله ذلك لكونه كافرا منكرا للبعث- ثم قال على تقدير التنزل وفرض البعث وَلَئِنْ رُدِدْتُ بعد الموت والبعث إِلى رَبِّي كما زعمت لَأَجِدَنَّ فى الاخرة خَيْراً مِنْها قرأ اهل البصرة والكوفة بافراد الضمير اى من الجنة الّتي دخلها وقرأ الحجازيان والشامي منهما بتثنية الضمير وكذلك هو في مصاحفهم يعنى خيرا من الجنتين مُنْقَلَباً (36) اى مرجعا وعاقبة- انما قال ذلك لاعتقاده ان الله تعالى انما أعطاه ما أعطاه في الدنيا لكرامته على الله واستحقاقه ذلك-.
قالَ لَهُ اى للكافر صاحِبُهُ المسلم وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ لانه اصل مادتك او مادة أصلك آدم عليه السّلام ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فانها مادتك القريبة ثُمَّ سَوَّاكَ عدلك وكملك إنسانا رَجُلًا (37) ذكرا بالغا مبلغ الرجال جعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لان انكار البعث منشأه الشك في كمال قدرة الله ولذلك؟؟؟ رتب الإنكار على خلقه إياه من تراب- فانه من قدر على بدء خلقه من التراب قادر على ان يعيده منه.
لكِنَّا قرأ الجمهور بالألف وقفا تبعا للخط وبلا الف وصلا- لان أصله لكن انا فحذفت الهمزة طلبا للتخفيف وألقيت حركتها على نون لكن فتلاقت النونان وادغمتا وبقي الالف في الخط فيقرأ الالف وقفا كما يقرأ وقفا في انا- ولا يقرأ وصلا كما لا يقرأ في انا وصلا- وقرأ ابن عامر ويعقوب بالألف في الوصل ايضا لتعويضها من الهمزة او لاجراء الوصل مجرى الوقف هُوَ اللَّهُ رَبِّي هو ضمير الشان والجملة خبره- وجاز ان يكون هو ضمير الله والله بدله وربّى خبره وجملة هو الله ربّى مفعول لفعل محذوف تقديره أقول هو الله ربّى- وجملة أقول خبرانا والراجع ضمير أقول والدليل على تقدير أقول عطف قوله وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَحَداً (38) والاستدراك من اكفرت كانه قال أنت كافر بالله لكنى مؤمن موحد كما يقال زيد غائب لكن عمروا حاضر- قال البغوي قال الكسائي فيه تقديم وتأخير مجازه لكن الله هو ربّى وعلى هذا الالف في لكنّا زائد في رسم الخط على خلاف القياس-.
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ يعنى هلّا قلت عند دخولها ما شاءَ اللَّهُ اى الأمر ما شاء الله او ما شاء الله كائن على ان ما موصولة- او اى شيء شاء الله كان على انها شرطية والجواب محذوف اقرار بانها وما فيها(6/35)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
بمشية الله ان شاء أبقاها وان شاء أتلفها لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ يعنى هلّا قلت اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله يعنى لا اقدر على حفظها الا بمعونته الله- وان ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونته وأقداره- روى البيهقي في شعب الايمان من حديث انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من رأى شيئا فاعجبه قال ما شاء الله لا قوّة الّا بالله لم يضره- وكذا روى ابن السنّى عنه بلفظ لم يضره العين وقال البغوي روى عن هشام بن عروة عن أبيه انه كان إذا راى من ماله شيئا يعجبه او دخل حائطا من حيطانه قال ما شاء الله لا قوّة الّا بالله- ثم قال المؤمن إِنْ تَرَنِ اثبت الياء في الوصل فقط قالون وابو عمرو وفي الحالين ابن كثير- والباقون يحذفونها في الحالين أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً
(39) انا ضمير فصل- او تأكيد للمفعول الاول- وقرئ أقلّ بالرفع على انه خبر انا والجملة مفعول ثان لترن.
فَعَسى رَبِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَنْ يُؤْتِيَنِ اثبت الياء في الحالين ابن كثير وفي الوصل فقط نافع وابو عمرو والباقون يحذفونها في الحالين اى يعطنى في الدنيا والاخرة خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وهو جواب الشرط وَيُرْسِلَ عَلَيْها اى على جنتك لاجل كفرك حُسْباناً مِنَ السَّماءِ قال قتادة عذابا- وقال ابن عباس نارا- وقال القتيبي مرامى- وقال البيضاوي وجمع حسبانة وهى الصواعق قيل هو مصدر بمعنى الحساب والمراد به التقدير بتخريبها او عذاب الأعمال السيئة بحسابها فَتُصْبِحَ الجنة صَعِيداً زَلَقاً (40) اى أرضا ملسا تزلق عليها الاقدام باستيصال بناتها وأشجارها- وقال مجاهد رملا هائلا.
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً اى غائرا ذاهبا في الأرض- مصدر يوصف به كالزلق فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ اى للماء الغائر الذاهب في الأرض طَلَباً (41) اى ترددا في رده فضلا من رده-.
وَأُحِيطَ اى أحاط العذاب بِثَمَرِهِ اى ثمر جنته او أمواله اى أهلكها من حيث لم يتوقعه صاحبه- وهو مأخوذ من احاطته العدو- فانه إذا أحاط به غلبه وأهلكه فَأَصْبَحَ صاحبها الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ اى يصفق بيده على الاخرى- او يقلّب كفّيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهفا عَلى ما أَنْفَقَ من المال فِيها اى في عملوة الجنة- وهو متعلق بيقلب لان تقليب الكف كناية عن الندم- فكانه قال فاصبح يندم على ما أنفق- او حال اى متحسرا على ما أنفق فيها وَهِيَ اى الجنة خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها بان سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم على العروش وَيَقُولُ(6/36)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
ذلك الكافر عطف على يقلّب- والظاهر عندى ان معنى الاية وأصبح الكافر يقلب كفيه في الدنيا حين راى بستانها خاوية- ويقول يوم القيامة او في القبر حين يرى منزله من الجنة أبدلت بمنزله من النار يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَحَداً (42) فى الدنيا.
وَلَمْ تَكُنْ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية- لان تأنيث الفاعل غير حقيقى لَهُ فِئَةٌ اى جماعة يَنْصُرُونَهُ يقدرون على نصره بدفع العذاب يوم القيامة أورد المهلك والإتيان بمثله في الدنيا مِنْ دُونِ اللَّهِ فانه القادر على ذلك وحده لكنه لم ينصره لكفره وَما كانَ ذلك الكافر مُنْتَصِراً (43) بقوته عن انتقام الله منه.
هُنالِكَ اى في ذلك المقام والحال يعنى حين يبعث يوم القيامة الْوَلايَةُ قرأ الحمزة والكسائي بكسر الواو يعنى السلطان والباقون بفتح الواو بمعنى الموالاة والنصرة كقوله تعالى الله ولىّ الّذين أمنوا- وقيل بالفتح الربوبية وبالكسر الامارة لِلَّهِ الْحَقِّ قرأ ابو عمرو والكسائي الحقّ بالرفع على انه صفة للولاية ويؤيده قراءة أبيّ هنا لك الولاية الحقّ لله- او خبر مبتدأ محذوف اى هو الحق- والباقون بالجر على انه صفة لله كقوله تعالى ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وجاز ان يكون قوله يليتنى لم أشرك بربّى أحدا صادرا من الكافر في الدنيا ندما وتوبة من الشرك- او اضطرارا وجزعا حين تذكّر موعظة أخيه وزعم ان ما أصابه أصابه لاجل الشرك فامن او لم يؤمن- ويكون هذا القول منه كقولهم فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ- ومعنى قوله هنا لك اى في ذلك المقام والحال اى حال الجزع زعم ان الولاية لله الْحَقِّ هُوَ اى الله سبحانه خَيْرٌ ثَواباً اى أفضل جزاء لاهل طاعته من غيره فانه تعالى يثيبهم في الدنيا على حسب حكمته وفي الاخرة ثوابا قويّا مؤيدا بخلاف غيره فانهم يثيبون في الدنيا ان شاء الله تعالى اثابة حقيرة فانية فحسب وَخَيْرٌ عُقْباً (44) قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف والباقون بضمها والعقبى هو الجزاء فانه يعقب الطاعة-.
وَاضْرِبْ يا محمد لَهُمْ اى لقومك مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا اى اذكر لهم صفة الحيوة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها او صفتها الغريبة كَماءٍ اى هو كماء ويجوز ان يكون مفعولا ثانيا لا ضرب على انه بمعنى صير أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ اى فالتفت بسبب ذلك الماء نبات الأرض وخالط بعضه بعضا لكثرته وتكاثفه- او اثر في النبات الماء فاختلط النبات بالماء حتى روى وعلى هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض- لكن لما كان كل من(6/37)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته فَأَصْبَحَ اى صار النبات عن قريب هَشِيماً وهو ما يبلس وتفتت من النبات تَذْرُوهُ الرِّياحُ قال ابو عبيدة تفرقه- والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة وهى حال النبات المتبت بالماء يكون وارفا ثم هشيما تطيّره الرياح فيصير كان لم يكن وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإنشاء والافناء وغير ذلك مُقْتَدِراً (45) .
الْمالُ وَالْبَنُونَ الّذي يفتخر بها عيينة وأشباهه الأغنياء ... زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتزين بها الإنسان في دنياه ويفني عن قريب- وليست هى من زاد الاخرة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ يعنى الأعمال الصالحة الّتي يبقى ثمرها ابد الآبدين خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ من المال والبنين ثَواباً عائدة وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) اى ما يأمله الإنسان- قال البغوي قال على بن ابى طالب رضي الله عنه المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الاخرة- وقد يجمعها الله لا قوام- قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا اله الّا الله والله اكبر- وعن ابى سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هى يا رسول الله قال التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ولا حول ولا قوة الا بالله- رواه احمد وابن حبان والحاكم وصححه- وعن جابر قال استكثروا من لا حول ولا قوة الا بالله فانها تدفع تسعة وتسعين بابا من الضرّ أدناها الهم- رواه العقيلي واخرج من حديث النعمان بن بشير مرفوعا سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبرهن الباقيات الصالحات واخرج الطبراني مثله من حديث سعد بن عبادة- وكذا اخرج ابن جرير عن ابى هريرة مرفوعا وعن رجل من الصحابة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الكلام سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر- رواه احمد وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لان أقول سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر أحب الىّ مما طلعت عليه الشمس رواه مسلم والترمذي- وقال سعيد بن جبير ومسروق وابراهيم الباقيات الصالحات هى الصلاة الخمس ويروى هذا عن ابن عباس- وعنه رواية اخرى انها الأعمال الصالحة وهو قول قتادة.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ قرأ الكوفيون ونافع بالنون على التكلم وكسر الياء بناء للفاعل ونصب الجبال- والباقون بالتاء وفتح الياء على صيغة التأنيث والبناء للمفعول ورفع الجبال يعنى نقلعها ونذهب بها فنجعلها هباء منبثا ويوم منصوب باذكر او عطفا على عند ربّك اى الباقيات الصّالحات خير عند ربّك ويوم القيامة(6/38)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً اى ظاهرة ليس عليها ما يسترها من شجر او جبل او بناء كذا اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة وقال عطاء وهو بروز ما في بطونها من الموتى وغيرها- فيرى باطن الأرض ظاهرا وَحَشَرْناهُمْ اى الناس من القبور أورد بصيغة الماضي بعد نسيّر وترى لتحقيق الحشر- او للدلالة على ان الحشر يكون قبل التسيير والواو حينئذ للحال بتقدير قد فَلَمْ نُغادِرْ يقال غادره وغدره إذا تركه ومنه الغدر لترك الوفاء يعنى لم نترك مِنْهُمْ اى من الناس أَحَداً (47) غير محشور.
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
تشبيه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم فًّا
اى مصطفّين لا يحجب أحد أحداقَدْ جِئْتُمُونا
يعنى مقولا في حقهم لقد جئتمونا فهو حال من واو عرضوا- وجاز ان يكون لقد جئتمونا عاملا في يوم يوم نسيّرما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
يعنى حفاة عراة غرلا ليس معكم شيء ممّا خوّلناكم في الدنيا اخرج الشيخان في الصحيحين والترمذي في سننه عن ابن عباس قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا ايها الناس انكم تحشرون الى الله حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرا كما بدانا اوّل خلق نعيده- وأول من يكسى في الخلائق ابراهيم عليه السّلام- واخرج الشيخان عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا-.............. الرجال والنساء ينظر بعضهم الى بعض- قال يا عائشة الأمر يومئذ أشد من ذلك- واخرج الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أم سلمة نحوه- وفيه قالت وواسوأتاه ينظر بعضنا الى بعض- فقال شغل الناس قالت ما شغلهم قال نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل- والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا نحوه وفيه قالت زوجته ينظر بعضنا الى عورة بعض- قال يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه- والطبراني عن سهل بن سعد نحوه- وعن الحسن بن على عليهما السلام مرفوعا نحوه وفيه قالت زوجته يا رسول الله فكيف يرى بعضنا بعضا- قال ان الابصار شاخصة فرفع بصرة- واخرج الطبراني والبيهقي عن سورة بنت زمعة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة عزلا قد الجمهم العرق وبلغ شحوم الاذان- قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا الى بعض- قال شغل الناس عن ذلك لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه- قال القرطبي لا ينافى قوله عراة ما ورد ان الموتى يتزاورون في قبورهم بأكفانهم- لان ذلك يكون في البرزخ فاذا قاموا من قبورهم خرجوا عراة- لكن يعارض هذه الأحاديث ما رواه ابو داؤد والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي عن ابى سعيد الخدري انه لما اختصر دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول الله(6/39)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
صلى الله عليه وسلم يقول ان الميت يبعث في ثيابه الّتي يموت فيها- وما اخرج ابن ابى الدنيا بسند حسن عن معاذ بن جبل انه دفن امه فامر بها فكفنت في ثياب جدد وقال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يحشرون فيها- وما اخرج سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يبعثون فيها يوم القيامة- قال القرطبي فبعضهم قال بظاهر هذه الأحاديث- والأكثر حملوا هذه على الشهيد الّذي امر ان يدفن بثيابه الّتي قتل فيها وبها الدم- وان أبا سعيد سمع الحديث في الشهيد فحمله على العموم وقال البيهقي يجمع بان بعضهم يبعث عاريا وبعضهم بثيابه قلت وهذا الجمع حسن وهذه الاية في حق الكفار بدليل قوله تعالى لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
(48) اى وقتا لانجاز الوعد بالبعث والنشور وان الأنبياء عليهم السّلام كذبوكم وكلمة بل هاهنا للخروج من قصة الى اخرى وايضا يدل على ان الحشر عراة مختص بغير الصلحاء قوله صلى الله عليه وسلم الابصار شاخصة وقوله لكل امره منهم يومئذ شان يغنيه فانها في حق الكفار وشخص الابصار ايضا من صفتهم وشانهم لاجل الهول دون شان الصلحاء لكن يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم وأول من يكسى من الخلائق ابراهيم عليه السّلام فانه يدل على كون الأنبياء ايضا عراة في أول الأمر اللهم الا ان يقال يكسى الصلحاء في قبورهم قبل الخروج منها بحلل الكرامة وأول من يكسى منهم ابراهيم وحمل بعضهم حديث ان الميت يبعث في ثيابه على العمل الصالح لقوله تعالى ولباس التقوى ذلك خير.
وَوُضِعَ الْكِتابُ اللام للجنس والمراد بالكتاب كتب اعمال العباد فانها توضع في أيدي الناس في ايمانهم وشمائلهم او في الميزان او بين يدى الرحمن فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ الذين يعطون كتبهم في شمائلهم مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ اى مما هو مكتوب فيه من الذنوب وَيَقُولُونَ إذا راوها يا وَيْلَتَنا الويل الهلكة ينادون هلكتهم الّتي هلكوا بها من بين المهلكات ومعنى النداء اظهار الجزع وتنبيه المخاطبين على ما نزل بهم مالِ هذَا الْكِتابِ استفهام تعجيب لشانه لا يُغادِرُ اى لا يترك صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً قال ابن عباس الصغيرة التبسم يعنى إذا كان في غير محله والكبيرة القهقهة وقال سعيد بن جبير الصغيرة اللهم والمسيس والقبلة والكبيرة الزنا وانما قالا ذلك على سبيل التمثيل وقد ذكرنا الكبائر في سورة النساء في تفسير قوله تعالى ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم إِلَّا أَحْصاها اى إلا عدها وأحاط بها المستثنى في محل النصب على انه مفعول ثان للايغادر اى لا يترك(6/40)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
صغيرة ولا كبيرة غير محصاة- عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم ومحقرات للذنوب فانما مثل مخفرات الذنوب مثل قوم نزلوا بيطن واو فجاء هذا بعود وجاء لهذا بعود فانضجوا خبزتهم وان محقرات الذنوب لموبقات رواه البغوي وروى الطبراني عن سعد بن جنادة قال لمّا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين نزلنا فقرأ من الأرض ليس فيها شيء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجمعوا من وجد شيئا فليأت به او من وجد عظما او شيئا فليأت به- قال فما كان الا ساعة حتى جعلناه ركابا فقال النبي صلى الله عليه وسلم أترون هذا فكذلك يجتمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله عزّ وجلّ فلا يذنب صغيرة ولا كبيرة فانها محصاة عليه- وروى النسائي واللفظ له وابن ماجة وصححه ابن حبان عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فان لها من الله طالبا وروى البخاري عن انس قال انكم لتعملون أعمالا هى ادقّ في أعينكم من الشعر كنا نعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات- وروى احمد مثله بسند صحيح عن ابى سعيد وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مكتوبا في الصحف او وجد واجزاء ما عملوا حاضرا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) يعنى لا يكتب على العبد من السيئات ما لم يعمل- ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فاما عرضان فجدال ومعاديره واما الثالثة فتطائر الصحف بالأيدي فاخذ بيمينه وأخذ بشماله- أخرجه ابن ماجة عن ابى موسى الأشعري واخرج الترمذي عن ابى هريرة نحوه- واخرج البيهقي عن ابن مسعود موقوفا- قال الحكيم الترمذي الجدال للاعداء يجادلون لانهم لا يعرفون ربهم فيظنون انهم إذا جادلوه نجوا وقامت حجتهم والمعاذير لله تعالى يعتذر الى آدم والى أنبيائه ويقيم حجته عندهم على الأعداء ثم يبعثهم الى النار- واما العرضة الثالثة للمؤمنين- وهو العرض للمغفرة «1» الا ان يخلوهم فيعاتب مزيد عتابه في تلك الخلوة حتى يذوق وبال الحياء والخجل ثم بغفرانهم ويرضى عنهم- واخرج انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكتب كلها تحت العرش فاذا كان الموقف بعث الله ريحا فتطيرها بالايمان والشمائل أول خط فيها اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا- واخرج ابن جرير عن قتادة انه قال سيقرأ يومئذ من لم يكن قاديا في الدنيا- واذكر.
إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كرده في مواضع لكونه مقدمة للامور المقصودة بيانها في تلك المحال- وهاهنا لمّا شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرّر ذلك بانه من سنن إبليس- او لمّا بيّن حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار
__________
(1) وفي الأصل وهو الغرض الا ان يخلوهم-[.....](6/41)
بها حب الشهوات وتسويل الشيطان- زهّدهم اولا في زخارف الدنيا بانها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها- ثم نفرهم من الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة- وهذا وجه كل تكرير في القران كانَ مِنَ الْجِنِّ حال بإضمار قد او استيناف للتعليل كانه قيل ماله لم يسجد فقيل لانه كان من الجن فَفَسَقَ اى فخرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ اى عن امتثال امره وطاعته فيه دليل على انه كان مامورا بالسجود مع الملائكة- والفاء للتسبيب وفيه دليل على ان الملائكة لا يعصون الله ابدا وانما عصى إبليس لانه كان جنيّا في أصله. قال البغوي قال ابن عباس كان إبليس من حى من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم فالاستثنا ومتصل- وقال الحسن كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو اصل الجن كما ان آدم اصل الانس فالاستثناء منقطع وقد مر الكلام في الباب في سورة البقرة- وقول الحسن ان إبليس كان أصلا للجن كما ان آدم اصل للانس بعيد جدا- قال الله تعالى ما خلقت الجنّ والإنس الّا ليعبدون فان هذه الاية وآيات سورة الرحمان وسورة الجن تدل على ان من الجن رجالا مومنين صالحين ومنهم قاسطون كانوا لجهنم حطبا- واما إبليس فهو وذريته أجمعون «1» اعداء الله واعداء أوليائه حيث قال الله تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ هذه الجملة حال والاستفهام للانكار على اتخاذهم اولياء عقيب ظهور العداوة منهم- يعنى تستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتى بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) يعنى إبليس وذريته بئس البدل عن الله في الولاية للظالمين- قال البغوي روى مجاهد عن الشعبي قال انى قاعد يوما إذا قبل حمال فقال أخبرني هل لابليس زوجة قلت ان ذلك لغير بين ما شهدته ثم ذكرت قول الله عزّ وجلّ افتتّخذونه وذرّيّته اولياء فعلمت انه لا تكون ذرّية الا من زوجة فقلت نعم- قلت قول الشعبي لا تكون ذرية الّا من زوجة مستفاد من قوله تعالى أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ- قال قتادة الشياطين يتوالدون كما يتوالد ابن آدم- وقيل انه يدخل ذنبه في دبره فليبيض فينفلق البيضة عن جماعة من الشياطين- قال مجاهد من ذرية إبليس لاقين وولهان دو هو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف ومرة روبه يكنى وزلنبور (وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلعة) والأعور (وهو صاحب الزنى ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة) ومطوس (وهو صاحب الاخبار الكاذبة يلقيها في أقواه للناس لا يجدون لها أصلا) ويثور (وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب) وو اسم وهو الّذي إذا دخل في بيته ولم يسلم ولم يذكر الله بصره من المتاع مالم يرفع او
__________
(1) وفي الأصل أجمعين- ابو محمد عفى عنه-(6/42)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
يحسن موضعه- فاذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه) قال الأعمش ربنا دخلت البيت ولم اذكر اسم الله ولم اسلم فرايت مطهرة فقلت ارفعوا هذه وخاصمتهم- ثم اذكر فاقول داسم داسم- وروى عن ابى وابن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال للوضوء شيطان يقال له ولهان فاتقوا وسواس الماء- رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي هذا حديث غريب وليس اسناده بالقوى عند اهل الحديث لاجد خارجة بن مصعب وعن ابى سعيد الخدري ان عثمان بن ابى العاص اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان الشيطان قد حال بينى وبين صلاتى وقراءتى يلبسها علىّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك شيطان يقال لذنوب فاذا احسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا- قال ففعلت ذلك فاذهبه الله عنى رواه مسلم وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فادناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجئى أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيئ أحدهم فيقول ما تركته حتى فرّقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت- وقال الأعمش أراه قال فيلتزمه رواه مسلم-.
ما أَشْهَدْتُهُمْ اى ما أحضرت إبليس وذرّيته- قرأ أبو جعفر ما أشهدنهم بالنون والالف على التعظيم خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ يعنى ما أشهدت بعضهم خلق بعض اى لم نعتضد بهم في خلق الأشياء حتى يستحقوا العبادة والطاعة- فان استحقاق العبادة من توابع الخالقية والاشتراك فيها يستلزم الاشتراك فيها- ذكر الله سبحانه نفى الاعتضاد اوّلا كناية ثم صرح به فقال وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ اى الشياطين عَضُداً (51) اى أنصارا وأعوانا وضع المظهر اى المضلين موضع الضمير ذامّا لهم واستبعادا للاعضاء بهم- وقيل الضمير للمشركين يعنى ما اشهدتهم خلق الأشياء وما خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم حتى لو أمنوا تبعهم الناس كما يزعمون- فلا تلتفت الى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فانه لا ينبغى لى ان اعتضد بالمضلين لدينى- وتعضده قراءة من قرأ وما كنت بفتح التاء على الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال الكلبي الضمير في اشهدتهم للملائكة يعنى ما أشهدت الملائكة خلق شيء حتى يعبدوا ويقال الهم بنات الله- وعلى هذا يكون قوله وما كنت متّخذ المضلّين كلام مستأنف ليس فيه وضع المظهر موضع الضمير يعنى ما اعتضدت بالملائكة ولا بالشياطين-.
وَيَوْمَ يَقُولُ قرأ حمزة بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة يعنى يقول الله للكافرين نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انهم شركائى او شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابى(6/43)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
واضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ وقيل إبليس وفديته فَدَعَوْهُمْ فنادوهم للاغاثة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ اى بين الكفار والهتهم مَوْبِقاً (52) اسم مكان يعنى مهلكا يقال أوبقه أي أهلكه كذا قال عطاء والضحاك وقال ابن عباس هو واد في النار وقال مجاهد واد من حميم وقال عكرمة نهر من نار يسيل نارا على حافته حيّات مثل البغال الدّهم وقال ابن الاعرابى كل حاجز بين شيئين فهو موبق وقيل مصدر- وقال الفراء البين الوصل والمعنى وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة نظيره قوله تعالى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ على قراءة من قرأ بالرفع.
ورئوا المجرمون اى المشركون النَّارَ فَظَنُّوا أيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها مخالطوها واقعون فيها- اخرج احمد عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها قال ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا وان الكافر ليرى جهنم ويظن انها مواقعه من مسيرة أربعين سنة وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) اى انصرافا او مكانا ينصرفون إليها-.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا اى بيّنا بوجوه البيان فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ اى من كل عبارة هى كالمثل في الغرابة ليتذكروا او يتعظوا- وقيل من كل مثل صفة لمحذوف مفعول لصرفنا اى مثلا من جنس كل مثل ليتعظوا وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (53) قال ابن عباس أراد به النضر بن الحارث وجداله في القرآن وقال الكلبي أراد به ابى بن خلف الجمى وقيل المراد الكفار مطلقا قال الله تعالى ويجادل الّذين كفروا بالباطل- وقيل هو على العموم روى البخاري عن على بن ابى طالب عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال الا تصليان من الليل فقلت يا رسول الله ان أنفسنا بيد الله فاذا شاء ان يبعتنا بعثنا- فاكصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع الىّ شيئا- ثم سمعته وهو مولى يضرب فخذه وهو يقول وكان الإنسان اكثر شيء جدلا- وقوله جدلا منصوب على التميز من النسبة والمعنى كان جدل الإنسان اكثر الأشياء-.
وَما مَنَعَ النَّاسَ من أَنْ يُؤْمِنُوا اى من الايمان إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى القران والإسلام والبيان من الله عزّ وجل وقيل انه الرسول صلى الله عليه وسلم يعنى بعد وضوح الحق وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ اى ومن الاستغفار مما صدر عنهم فيما سلف من الكفر والمعاصي إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ حذف المضاف وأقيم مضاف اليه مقامه تقديره الّا تقدير(6/44)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
ان تأتيهم سنّة الاوّلين اى سنتنا في الأولين من العذاب المستأصل وقيل تقديره الّا طلب ان تأتيهم سنّة الاوّلين من معائعة العذاب وانتظارهم ذلك- حيث قالوا اللهمّ ان كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السّماء أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ اى العذاب في الاخرة قُبُلًا (55) قال ابن عباس اى عيانا من المقابلة وقال مجاهد فجاءة- قرأ اهل الكوفة وابو جعفر بالضمتين والباقون بكسر القاف وفتح الباء وهما لفتان معناهما واحد- وقيل بالضمتين جمع قبيلة اى اصناف العذاب نوعا نوعا وانتصابه على الحال من الضمير او العذاب-.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالثواب والجنة للمؤمنين وَمُنْذِرِينَ بالعذاب والحجيم للكافرين- يعنى ما بعثناهم قادرين على ان يأتوا بما اقترح الكفار من الآيات او قادرين على هداية الخلق كلهم مصيطرين عليهم وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ حيث يقولون ابعث الله بشرا رسولا- ما أنتم الّا بشر مثلنا- لو شاء الله لا نزل ملئكة- لولا نزّل هذا القران على رجل من القريتين عظيم- أيكون ما ذبحتم حلالا وما أماته الله وذبحه بشمشاره خراما ونحو ذلك لِيُدْحِضُوا بِهِ اصل الدحض الزلق والمعنى ليزيلوا بالجدال الباطل الْحَقَّ عن مقره وَاتَّخَذُوا آياتِي المنزلة في القرآن وَما أُنْذِرُوا اى وإنذارهم او الّذي انذروا به من العقاب هُزُواً (56) اى هزوا به قالوا في القرآن لو «1» نشاء لقلنا مثل هذا- يعلّمه بشر- ان هذا الّا أساطير الاوّلين- وقالوا في العذاب لولا يعذّبنا الله بما نقول- وقالوا لذقوم التمر والزبد ونحو ذلك-.
وَمَنْ اى لا أحدا أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ اى وعظ بِآياتِ رَبِّهِ اى آيات القران الّتي اتضح أمرها باعجازها لفظا ومعنا فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبر فيها ولم يتذكر بها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الأعمال الخبيثة الناشئة من الكفر والعقائد الباطلة فلم يتفكر في عاقبتها إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً تعليل لاعراضهم ونسيانهم فان قلوبهم مكنونة مغطاة بظلمات الكفر مطبوع عليها أَنْ يَفْقَهُوهُ اى لئلا يفقهوه واللام المقدرة هاهنا للعاقبة- وافراد الضمير المنصوب وتذكيره معه كونه راجعة الى آيات ربه نظرا الى المعنى فان الآيات هى القرآن يعنى لئلا يفقهوا القرآن وَفِي آذانِهِمْ عطف على قلوبهم يعنى جعلنا في آذانهم وَقْراً اى ثقلا يعنى لم نودع فيها صلاحية استماع الآيات حق استماعها وَإِنْ تَدْعُهُمْ يا محمد إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً اى
__________
(1) وفي الأصل لو شئنا 12(6/45)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
إذا كان على قلوبهم اكنة وفي آذانهم وقر أَبَداً (57) لقوات استعداد الاهتداء وهذا في أقوام علم الله فيهم انهم لا يومنون-.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ البليغ في المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بالرحمة لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ استشهاد على مغفرته ورحمته بامهال قريش مع افراطهم في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ اى يوم القيامة ويوم بدر لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ اى لن يجدوا إذا جاء الموعد من دون الله مَوْئِلًا (58) اى منجا وملجا يقال وال إذا نجا ووال اليه إذا نجا اليه.
وَتِلْكَ الْقُرى يعنى قرى الأمم الهالكة من الكفا وقوم نوح وعاد وثمود وأشباههم الموصوف مع الصفة مبتدأ- وخبره أَهْلَكْناهُمْ او مفعول فعل مضمر يفسره ما بعده ولا بد من تقدير المضاف في الوصف او الصفة حتى يكون مرجعا للضمائر يعنى اصحب تلك القرى او تلك اصحاب القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا بالكفر وانواع المعاصي كما ظلم كفار قريش وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ قرأ أبو بكر هاهنا وفي الفل بفتح الميم واللام وحفص بفتح الميم وكسر اللام حملا على ما شذّ من مصادر مفعل كالمرجع والمحيض- والباقون بضم الميم وفتح اللام من أهلكه يعنى لهلاكهم او لاهلاكهم مَوْعِداً (59) اى وقتا معلوما لم يستقدموه ولم يستاخروه فكذلك كفار قريش لا يسبقون موعدهم ولا يستاخرون-.
وَاذكر إِذْ قالَ مُوسى بن عمران كما يدل عليه الحديث الصحيح لِفَتاهُ يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام قلت لعل نوثا «1» أبا يوشع يكون من ال إفرائيم لبعد الزمان بينهما لا أَبْرَحُ اى لا أزال أسير فحذف الخير لدلالة حاله عليه وهو السفر ودلالة قوله حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ فانها يقتضى تقدير خبر يكون بلوغ مجمع البحرين غاية له ويجوز ان يكون أصله لا ببرح ميبرى حتى ابلغ فيكون الاسم محذوفا أقيم المضاف اليه مقامه فانقلب الضمير والفعل والخبر حينئذ حتّى ابلغ وان يكون لا أبرح تامة بمعنى لا أزال عما انا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا يستدعى الخبر- ومجمع البحرين ملتقى بحر الفارس والروم مما يلى المشرق كذا قال قتادة وقال محمد بن كعب طنجه «2» وقال ابى بن كعب افريقيّة أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) او أسير زمانا طويلا في القاموس الحقبة بالضمتين ثمانون سنة او اكثر والدهر والسنة والسنون وإخراج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس الحقب الدهر- وقال البغوي
__________
(1) وفي الأصل نون بلا تنوين 12 الفقير الدهلوي.
(2) بفتح مهملة وسكون نون فجيم فتهاء بلد بشاطئ مجر المغرب مجمع البحار 12 الفقير الدهلوي.(6/46)
قال عبد الله بن عمر الحقب ثمانون سنة وقيل سبعون- أخرجه ابن ابى شيبة وابن المنذر وابن ابى حاتم- يعنى يقع أحد الامرين اما البلوغ مجمع البحرين او مضى الحقب وجاز ان يكون او بمعنى الا ان والمعنى لا أبرح أسير حتى ابلغ الا ان امضى زمانا أتيقن معه فوات المجمع- روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس ان نوف البكالي يزعم ان موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بنى إسرائيل- فقال ابن عباس- كذب عدو الله حدثنا ابى بن كعب انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل اى الناس اعلم قال انا- فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم اليه فاوحى الله اليه ان لى عبدا بمجمع البحرين هو اعلم منك- قال موسى يا رب فكيف لى به قال خذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثمة- فاخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخة وو؟؟؟ نا رؤسهما فناما- واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتّخذ سبيله في البحر سرابا وامسك الله عنه جرية الماء فصار عليه مثل الطاق- فلمّا استيقظا نسى صاحبه ان يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى اتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا- قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الّذي امره الله به فقال له قتاه ارايت إذ اوينا الى الصّخرة فانّى نسيت الحوت وما أنسانيه الا الشيطان وان اذكره واتّخذ سبيله في البحر عجبا- قال وكان الحوت لفتاه سربا ولموسى عجبا- فقال موسى ذلك ما كنّا نبغ فارتدّ على اثارهما قصصا قال رجعا يقصان اثارهما حتى انتهيا الى الصخرة- فاذا رجل مسجىّ ثوبا فسلّم عليه موسى فقال الخضر انّى بأرضك السلام قال انا موسى قال موسى بنى إسرائيل قال نعم أتيتك لتعلمن ممّا علّمت رشدا- قال انّك لن تستطيع معى صبرا يا موسى انى على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا اعلمه- فقال ستجدنى ان شاء الله صابرا ولا اعصى لك امرا قال الخضر فان اتّبعتنى فلا تسئلنى عن شيء حتّى أحدث لك منه ذكرا- فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم ان يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول- فلما ركبا في السفينة لم يفجا الا والخضر قد قلع لوحا من الواح السفينة بالقدوم- فقال موسى قد حملونا بغير نول عمدت الى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا- قال الم اقل انّك لن تستطيع معى صبرا قال لا تواخذنى بما نسيت هو لا ترهقنى من امرى عسرا- قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الاولى من موسى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا-(6/47)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
قال وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة- فقال له الخضر ما علمى وعلمك في علم الله لا مثل ما تفص هذا العصفور من هذا البحر- ثم خرجا يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فاخذ الخضر برأسه فاقتله بيده فقتله فقال له موسى أقتلت نفسا زكيّة بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا- قال الم اقل لك انّك لن تستطيع معى صبرا- قال وهذه أشد من الاولى- قال ان سالتك عن شيء بعدها فلا تصحبنى قد بلغت من لّدنّى عذرا- فانطلقا حتّى إذ أتيا اهل قرية استطعما أهلها فابوا ان يضيّفوهما فوجدا فيها جدارا يريد ان ينقضّ فاقامه الخضر بيده- فقال موسى قوم اتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا لو شئت لتّخذت عليه اجرا- قال هذا فراق بينى وبينك الى قوله ذلك «1» تأويل ما لم تسطع عليه صبرا- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وددنا ان موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم في تفاسيرهم عن ابن عباس ان موسى سال ربه اى عبادك أحب إليك قال الّذي يذكرنى ولا ينسانى- قال فاىّ عبادك أقضي قال الّذي يقضى بالحق ولا يتبع الهوى. قال فاىّ عبادك اعلم قال الّذي يبتغى علم الناس الى علمه عسى ان يصيب كلمة تدله على هدى وترده عن روى قال ان كان في عبادك اعلم منى فادللنى عليه- قال اعلم منك الخضر قال اين اطلبه قال على ساحل البحر
عند الصخرة- قال كيف لى به قال تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فاخبرنى فذهبا يمشيان.
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما بينهما ظرف أضيف اليه على الاتساع او بمعنى الوصل- وحاصل المعنى فلما بلغا مجموهما يعنى انتهيا الى الصخرة الّتي عند مجمع البحرين كما مرّ في الصحيح وقد موسى فاضطرب الحوت المشوى وعاش وذهب في البحر كما مر في الصحيح ليكون ذلك معجزة لموسى او الخضر وفي الصحيحين وقال سفيان يزعم ناس ان تلك الصخرة عندها عين الحيوة لا يصيب ماؤها شيئا الا عاش ووثب في البحر وقال الكلبي توضّا يوشع بن نون من عين الحيوة فانتضح على الحوت المالح في المكثل من ذلك الماء فعاش ثم وثب في ذلك الماء- فجعل يضرب بذنبه فلا يضرب بشى من الماء وهو ذاهب إلا يبس- فلما استيقظ موسى نَسِيا حُوتَهُما اى نسيا موسى ان يطلبه ويتعرف حاله ويوشع ان يذكر له ما رأى من حياته ووقوعه في البحر وقال البغوي انما كان الحوت مع يوشع وهو الّذي نسيه وأضاف النسيان إليهما لانهما جميعا تزوداه للسفر كما يقال خرج القوم الى موضع كذا وحملوا من الزاد كذا وانما حمله واحد منهم فَاتَّخَذَ اى جعل الحوت يجعل الله تعالى سَبِيلَهُ طريقه
__________
(1) وفي الأصل ذلك ما لم تسطع- ابو محمد عفى عنه-(6/48)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) اى مسلكا ومنه قوله سارب بالنهار وقيل السرب الشق الطويل وقد مر في رواية الصحيح امسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ونصبه على المفعول الثاني وفي البحر حال منه او من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ-.
فَلَمَّا جاوَزا مجمع البحرين بالسير الى وقت الغداء من اليوم الثاني قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا اى طعامنا والغداء ما يعد للاكل غدوة والعشاء ما يعد للاكل عشية لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) اى تعبا وشدة وذلك انه القى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصخرة ليتذكر الحوت ويرجع الى مطلبه وقد مرّ في حديث الصحيحين ان موسى لم يجد نصبا حتى جاوز الموعد.
قالَ له قتاة وتذكرّ أَرَأَيْتَ يعنى أخبرني ما انسانى الحوت إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ الّتي رقدنا عندها قال البغوي قال هقل بن زياد هى الصخرة الّتي دون نهر الزيت فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ اى تركته وفقدته وقيل في الاية إضمار تقديره نسيت ان اذكر لك امر الحوت وما رايت منه- قال البغوي وذلك ان يوشع حين راى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى فيخبره فنسى ان يخبره فمكثا يومهما حتى صليا الظهر من الغد ثم اعتذر وقال وَما أَنْسانِيهُ قرأ حفص بضم الهاء في الوصل وكذا في سورة الفتح في قوله تعالى عليه الله والباقون يكرونها فيهما في الحالين- اى ما انسانى ان اذكر لك امر الحوت إِلَّا الشَّيْطانُ يعنى شغلنى الشيطان بوساوسه ان اذكره لك- قال البيضاوي ولعله نسى لاستغرابه في الاستبصار وانجذاب شراشره الى جناب القدس بما عراه عن مشاهدة الآيات الباهرة وانما نسب الى الشيطان هضما لنفسه- او لان عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الاخر عدّ من نقصان نفسه أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) سبيلا عجبا فهو صفة لمفعول ثان أقيم مقامه والظرف ظرف لغوا واتخاذا عجيا فهو صفة لمصدر والمفعول الثاني هو الظرف- وقيل هو مصدر فعله المضمر كانه قال في اخر كلامه عجبت عجبا وقيل هذا من قول موسى لما قال له يوشع واتخذ سبيله في البحر قال موسى عجبا اى عجبت عجبا- وقيل ضمير اتخذ راجع الى موسى اى اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا اى يعجب عجبا فهو حال- قال موسى.
ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ اثبت الياء في الحالين ابن كثير وفي الوصل فقط نافع وابو عمرو والكسائي والباقون يحذفونها في الحالين يعنى كنا نطلب ذلك لكونه امارة لمكان الخضر فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما اى رجعا في الطريق الّذي جاءا فيه قَصَصاً (64) يقصان قصصا اى يتبعان(6/49)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
اثارهما اتباعا- او مقتصين حتى أتيا الصخرة.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الجمهور على انه الخضر كما ورد في الصحيح واسمه بليا بن ملكان وقيل اليسع وقيل الياس والخضر لقب له- لما روى البغوي بسنده عن همام ابن منبه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما سمى الخضر خضرا لانه إذا جلس على فروة «1» بيضاء فاذا هى تهتزّ خضرا وقال مجاهد سمى خضرا لانه إذا صلى اخضرّ ما حوله قال البغوي قيل كان من نسل بنى إسرائيل وقيل كان من أبناء الملوك الذين تزهّدوا في الدنيا- والمختار عندى انه لم يكن من بنى إسرائيل لان موسى كان مبعوثا الى بنى إسرائيل أجمعين فلو كان الخضر منهم لكان من اتباع موسى والظاهر خلافه- وقد مرّ في الحديث الصحيح ان موسى راى الخضر مسيحى بثوب فسلم عليه فقال له الخضر وانّى بأرضك السلام قال انا موسى قال موسى بنى إسرائيل- قال نعم أتيتك لتعلمنى عمّا علّمت رشدا وفي رواية اخرى لقيه مسيحى بثوب مستلقيا على قفاه بعض ثوبه تحت راسه وبعضه تحت رجليه- وفي رواية لقيه وهو يصلى ويروى لقيه على طنفسه «2» خضراء على كيد «3» البحر آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا هى الوحى والنبوة وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) اى مما يختص بنا ولا يمكن تحصيله الا من لدنا بتوفيقنا وهو علم الذات والصفات قال البغوي لم يكن الخضر نبيّا عند اكثر اهل العلم قلت وهذا عندى محل نظر لان العلم- الحاصل للاولياء بالإلهام وغير ذلك علم ظنى يحتمل الخطاء ولذلك ترى تعارض علومهم الملهمة فلو لم يكن الخضر نبيّا لما جاز له قتل نفس زكية بالهام انه لو عاش لارهق أبويه طغيانا وكفرا.
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ كان حق الكلام جئتك لاتبعك وأصحبك لكن غيّر الأسلوب استيذانا منه في الاتباع والمصاحبة عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ اثبت الياء في الحالين ابن كثير وفي الوصل فقط نافع وابو عمرو والباقون يحذفونها في الحالين يعنى على شرط ان تعلمنى وهو في موضع الحال من الضمير المرفوع او المنصوب من اتبعك مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قرأ ابو عمرو بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء واسكان الشين وهما لغتان كالبخل والبخل ومعناه إصابة الخير وهو مفعول تعلمنى ومفعول علمت العائد محذوف وكلاهما من علم الّذي له مفعول واحد بمعنى عرف ويجوز ان يكون علة لاتبعك او مصدره أبا ضمار فعله وهذه الاية دليل على ان المفضول قد يكون له فضل
__________
(1) الفروة الأرض اليابسة وقيل الهشيم اليابس من النبات 12 نهايه سنه رحمه الله.
(2) طنفسة بكسر الطاء والفاء وبضمها وبكسر الطّاء وفتح الفاء انبساط الّذي له خمل دقيق وجمعه طنافس 12 نهايه منه رحمه الله-
(3) على كبد البحر اى على اوسط موضع من شاطئه اى من جانبه وطرفه 12 نهايه منه رحمه الله-(6/50)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
جزئى على من هو أفضل منه وعلى ان الفاضل ينبغى ان يطلب هذه الحصة من الفضل من المفضول ولا يستنكف عنه لما مرّ في تفسير هذه الاية ان موسى سال ربّه اىّ عبادك اعلم قال الّذي ينبغى علم الناس الى علمه عسى ان يصيب كلمة تدله على هدى ويروه عن ردى- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلمة»
الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها- رواه الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن ابى هريرة وابن عساكر عن على رضي الله عنهما- ومن هذا الباب الصلاة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم اللهم صل على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم- قال البغوي في بعض الاخبار انه لمّا قال له موسى ذلك قال له الخضر كفى بالتورية علما وبنى إسرائيل شغلا فقال له موسى ان الله أمرني بهذا وقد راى موسى عليه السلام في هذا الكلام غاية التواضع والأدب واستجهل نفسه واستأذن ان يكون تابعا له وساله ان يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه فحينئذ.
قالَ له الخضر إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها صَبْراً (67) نفى الخضر عن موسى استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كانها مما لا يصح ولا يستقيم- وعلّل ذلك واعتذر عنه بقوله.
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) اى علما وخبرا تميزا ومصدر لان لم تحط به معناه لم تخبره وجه ذلك النفي ان الخضر علم انه يرى منه أمورا منكرة ظاهرا ولا يجوز للانبياء ان يصبروا على المنكرات مالم يظهر عليهم وجه جوازها- قلت والسر في ذلك ان شرائع الأنبياء المرسلين الى الأمم مبنية على قواعد كلية موجبة للصلاح الغالب بالنسبة الى العامة- فينبغى ان يكون وجوه صلاحها ظاهرة بالنسبة الى العامة- واما الاحكام الّتي يوحى بها افراد الأنبياء الذين لم يبعثوا الى الأمم بل اوحى إليهم لصلاح أنفسهم او امتثال امور بينهم وبين الله تعالى فان تلك الاحكام تكون غالبا مبنية على حكمات لا يظهر وجه صلاحها على العامة- وذلك وجه انكار موسى على ما اتى به الخضر وبناء على مخالفة المشرب (وكون اتحاد المشرب والانقياد وترك الاعتراض من شرائط الاستفادة) جعل الخضر عدم استطاعته على الصبر علة لعدم إفادة صحبة الخضر إياه- ووضع العلة موضعه كانّه قال صحبتى لا ينفعك فانّك لن تستطيع معى صبرا.
ومن هاهنا قالت الصوفية العالية انه يجب على المريد ترك الاعتراض على الشيخ وان ظهر على يديه منكر ظاهرا بعد ما ثبت عنده انه من اهل الكمال والتكميل فان كان المريد لا يستطيع ذلك لاجل اختلاف المشرب يجب عليه
__________
(1) الكلمة الحكمة هو من باب وجل عدل وروى الكلمة الحكيمة وكلمة الحكمة بالاضافة 12 الفقيه الدهلوي.(6/51)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
ترك مصاحبته غير منكر كماله- فان قيل كيف يتصور ذلك في الشريعة الحمدية العامة الشاملة المؤبدة الّتي لا يحتمل النسخ والتبديل قلنا هب الأمر كذلك لا يتصور ان يكون شيء محرما في الدين ليستبيحه «1» أحد فلا يتصور من أحد يدعى الولاية ان يأتى بقتل غلام أبواه مومنان قائلا بان الله تعالى الهمنى انه يرهقهما طغيانا وكفرا- لكن قد يكون شيء مما اختلف فيه اقوال العلماء وكان لصحته وجها مستند الى دليل شرعى كالسماع والجهر بالذكر فمن اتى به من اولياء الله تعالى لا يجوز عليه الإنكار لانه من تقلد عالما لقى الله سالما- وقد يكون شى منكرا ظاهرا وليس هو في الحقيقة كذلك كمن شرب من قارورة ماء مرائيا للناس انه خمر حتى يقل هجوم الخلق عليه ولا يخل؟؟؟؟
وقدر يظهر على يدى رجل من اهل الله سيئة صغيرة وهو يعترف بكونها سيئة- وقد اجمع العلماء على ان العصمة من خواص النبوة- لا يخل صدور معصية بالولاية فحينئذ ايضا لا ينبغى للمريد ان يعترض على شيخه بل ينكر الفعل فلا يأتى به ولا ينكر كمال فاعله بارتكاب وعامة مواد الإنكار على اولياء الله تعالى مقالاتهم المبنية على الكشوف والمشاهدات فتلك المقالات مهما أمكن حملها على محمل صحيح يجب حملها على ذلك قال الله تعالى لولا إذ سمعقوه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بانفسهم خيرا- وان لم يمكن ذلك يحمل تلك المقالات اما على سكر القائل وقد افتى الفقهاء ان السكر إذا حصل بشيء مباح يكون عذر الا يقع طلاقه ونحو ذلك فكيف إذا حصل بغلبة حب الله الّذي هو رأس العبادات واما على عدم فهم السامع مراد القائل وعلى ان القائل أراد من كلامه معنى غير ما يفهم منه ظاهرا فان العبارات مقتصرة على بيان معان محسوسة او معقولة مستنبطة من امور محسوسة فاما ما لا نظير له ولا شبيه من حقائق الذات والصفات إذا تجلت على قلب من له قلب سليم وأراد بيانها ولم يوضع بإزائها ألفاظ- اضطر القائل الى استعارات وتجوزات وتشبيهات غير تامة فلا يجوز للسامع حينئذ ان يحملها على معانيه الظاهرة المخالفة لعقائد اهل السنة حتى ينكر عليه بل يعمل به ما يعمل بالمتشابهات الواردة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم- ومن لم يسلك هذا المسلك لا يزيده الا خسارا كما ان القران لا يزيد الظّالمين الّا خسارا- الا ترى انه من سمع الرّحمن على العرش استوى- ويد الله فوق أيديهم فان أنكر كونها قرآنا كفر- وان اعتقد بكونه تعالى جسما كاد يكون كافرا- فكذلك كلام اولياء الله تعالى إذا كان ظاهره مخالفا للشرع لا ينكر عليه ولا يعتقد بظاهره والله اعلم- ولمّا كان موسى عليه السلام شاكا في المصابرة غير واثق من نفسه عليها لم يقطع بذلك واستثنى و.
قالَ
__________
(1) وفي الأصل يستباحه وليس يصحيح 12 الفقير الدهلوي-(6/52)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
سَتَجِدُنِي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) الجملة معطوفة على صابرا منصوب محلا يعنى صابرا غير عاص او على ستجدنى ولا محل له من الاعراب عاهد موسى عليه السلام على المصابرة لكونها شرطا لافادة الصحبة وقد امره الله تعالى بمصاحبته وشك في إتيانه منه لان الاعتراض والمخالفة كان من لوازم مخالفة المشرب ناشيا منها من غير اختيار منه ولاجل ذلك.
قالَ له الخضر فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي حذف الياء في الحالين ابن ذكون بخلاف عن الأخفش وأثبتها الباقون في الحالين وكذا رسمها وقرأ نافع وابن عامر وابو جعفر بفتح اللام وتشديد النون والآخرون بسكون اللام وتخفيف النون- اتى بالشرط والجزاء للشك والاستبعاد في وقوعه ولم يقل لا تسئلنى عَنْ شَيْءٍ أعمله ممّا تنكره الان لان السؤال مظنة الاعتراض المانع للاستفادة حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) يعنى حتى ابتدئ لك ببيان..
فَانْطَلَقا على الساحل يطلبان السفينة يركبانها فوجدا سفينة فركباها- قال البغوي فقال اهل السفينة هؤلاء لصوص فامروهم بالخروج فقال صاحب السفينة ما هم بلصوص ولكنى ارى وجوه الأنبياء- وقد مر في حديث الصحيحين عن ابى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم انه مرت بهم سفينة فكلموهم ان يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها الخضر قد مر في الصحيحين ان الخضر قلع لوحا من الواح السفينة بالقدوم قالَ له موسى أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها وقد حملونا بغير نول فان خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضى الى غرق أهلها- قرأ حمزة والكسائي ليغرق بفتح الياء التحتانية والراء على صيغة الغائب من المجرد ورفع أهلها بالفاعلية- والباقون بضم التاء الفوقانية وكسر الراء على صيغة المخاطب من الافعال ونصب أهلها على المفعولية لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) اى عظيما من امر الأمر إذ أعظم- وقال البغوي الأمر في كلام العرب الداهية واصل كل شيء شديد كبير- وقال القتيبي اى عجبا- قال البغوي روى ان الخضر أخذ قدحا من زجاج ودقع به محوق السفينة- وقال جلال الدين المحل روى ان الماء لم يدخلها يعنى معجزة للخضر عليه السلام-.
قالَ الخضر أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها- صَبْراً (72) تذكير لما ذكره قبل فلما راى موسى ان الماء لا يدخل من الخرق وانه لم يضر باهل السفينة وتذكر ما عاهد.
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ اى بالذي نسبته او بشيء نسيته(6/53)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
يعنى المعاهدة على ترك الاعتراض او بنسياني إياها- اعتذر بالنسيان- وقيل أراد بالنسيان الترك اى لا تواخذنى بما تركت ووصيتك الاول وفي الحديث الصحيح المذكور عن ابى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان الاولى من موسى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا- وقال البغوي قال ابن عباس انه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكانه نسى شيئا اخر وَلا تُرْهِقْنِي اى لا تكلفنى مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) مشقة بالمضايقة والمؤاخذة يعنى ان ذلك يعسر علّى متابعتك- وعسرا مفعول ثان ليرهق يقال رهقه إذا غشيه وارهقه إياه- وقيل معناه لا تكلفنى مشقة وعاملنى باليسر ولا تعاملنى بالعسر-.
فَانْطَلَقا بعد ما خرجا من السفينة حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً بين غلمان يلعبون قال المفسرون فاخذ الخضر غلاما «1» ظريفا وضيء «2» الوجه- قال السدىّ كان أحسنهم وجها كان وجهه يتوقد حسنا فَقَتَلَهُ قيل أضجعه ثم ذبحه بالسكين وفي الحديث الصحيح المذكور انه أخذ برأسه فاقتلعه بيده- وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه وروى انه رضخ رأسه بالحجارة وقيل ضرب راسه بالجدار- قال ابن عباس كان غلاما لم يبلغ الحلم وهو قول اكثر المفسرين والمستفاد من القران لان الغلام لا يطلق بعد البلوغ- قال ابن عباس لم يكن نبى الله يقول أقتلت نفسا زاكية الا وهو صبى لم يبلغ الحلم- وقال الحسن كان رجلا وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاع ويلجا الى أبويه وقال الضحاك لكان غلاما يعمل بالفساد وتاذّى منه أبواه وفي حديث ابى بن كعب عند مسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الغلام الّذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لارهق أبويه طغيانا وكفرا- والفاء في قوله فقتله للتعقيب والدلالة على انه كما لقيه قتله من غير مهلة واستكشاف حال- ولذلك قالَ موسى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً قرأ الكوفيون وابن عامر بتشديد الياء من غير الف والباقون زاكية بالألف وتخفيف الياء وقال البغوي قال الكسائي والفراء معناهما واحد مثل القاسية والقسيّة وقال ابو عمرو ابن العلاء الزّاكية الّتي لم تذنب قط والزّكيّة الّتي أذنبت ثم تابت بِغَيْرِ نَفْسٍ- اى لم يقتل نفسا وجب عليه القتل بالقصاص يعنى ان القتل لا يجوز الا في حد او قصاص ولم يوجد شيء منها- جعل الله سبحانه في الاولى خرقها جزاء واعتراض موسى عليه السلام مستأنفا وفي الثانية جعل اعتراض موسى جزاء لما قبله من الشرط- لان القتل أقبح والاعتراض عليه ادخل وكان جديرا بان يجعل عمدة الكلام ولذلك عقبه بقوله لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) اى منكرا في الشرع- قرأ نافع ويعقوب وأبو بكر وابن ذكوان نكرا في الموضعين هاهنا وفي الطلاق بضم الكاف والباقون
__________
(1) وصى الوجه اى حسن الوجه والوضاءة الحسن 12 منه رح-
(2) الظريف البليغ جيد الكلام- والظرف في اللسان البلاغة وفي الوجه الحسن وفي القلب الزكاء 12 نهاية منه رح(6/54)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
بأسكانها- قال قتادة النّكر أعظم من الأمر لانه حقيقة الهلاك وفي خرق السفينة كان خوف الهلاك وقيل الأمر أعظم لانه كان فيه تغريق جمع كثير-.
قالَ الخضر أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها صَبْراً (75) زاد فيه لك مكافحة بالعتاب على رفض العهد مرتين.
قالَ له موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها اى بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي اى فارقنى- قرأ يعقوب «1» فلا تصحبنى بغير الف من الصحبة قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي قرأ نافع وابو جعفر بضم الدال وتخفيف النون وأبو بكر «2» بإسكان الدال وإشمامها الضم وتخفيف النون والباقون بضم الدال وتشديد النون يعنى من عندى عُذْراً (76) خالفتك ثلاث مرات روى مسلم عن ابى بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة الله علينا وعلى موسى (وكذا إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه) لولا انه عجل لرأى العجب ولكنه اخذه من صاحبه «3» ذمامة فقال ان سالتك عن شيء بعدها فلا تصحبنى قد بلغت «4» منّى عذرا- وروى ابن مردوية بلفظ رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لا بصرا عجب الا عاجيب.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قال ابن عباس يعنى انطاكية وقال ابن سيرين هى الايكة «5» وهى ابعد الأرض من السماء وقيل برقة وقال البغوي عن ابى هريرة بلدة بالأندلس- اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما قال البغوي قال ابى بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيا اهل قرية لئام فطافا في المجالس فاستطعماهم فلم يطعموها واستضافاهم ولم يضيفوهما قال قتادة شر القرى الّتي لا تضيف الضيف- قال البغوي وروى عن ابى هريرة قال اطعمتهما امراة من اهل بربر بعد ان طلبا من الرجال فلم يطعموهما- فدعا لنسائهم ولعناد جالهم فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ اى يسقط وهذا من مجاز الكلام لان الجدار لا ارادة له وانما معناه قرب ودنا من السقوط كما يقول العرب دارى تنظر دار فلان إذا كانت تقابلها فَأَقامَهُ قال البغوي روينا عن ابى بن كعب عن النبي صلى الله
__________
(1) والصحيح الثابت المقرو من يعقوب باتفاق الطرق كالجمهور بإثبات الالف بعد الصاد وكسر الحاء الا ما انفرد به هبة الله عن المعدل عن روح بفتح التاء واسكان الصاد وفتح الحاء من غير الف وهو غير ماخوذ لردح واما رويس فلم يذكر عنه خلاف بوجه من الوجوه ابو محمد عفا عنه.
(2) قرا أبو بكر هاهنا بالوجهين الاول بإسكان الدال مع الإشمام وتخفيف النون كاول السورة وهو الّذي في التيسير والشاطبيه والكافي والتذكرة وجمع الكتب- والثاني باختلاس ضمة الدال مع تخفيف النون والوجهان في جامع البيان وغيره وبالوجهين قرانا وبهما تأخذ- ابو محمد. [.....]
(3) اخذه من صاحبه عامة اى حياء واشفاق من الذم واللوم 12 منه رح.
(4) وفي القران من لدنّى- ابو محمد عفى عنه.
(5) هكذا في الأصل وقال ابن كثير والبغوي إنها الايلة وقال في مجمع البحار بضم الهمزة وباء وشده لام بلد قرب البصرة 12 الفقير الدهلوي-(6/55)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
عليه وسلم انه قال فقال الخضر بيده فاقامه وقال سعيد بن جبير مسح الجدار بيده فاستقام وروى عن ابن عباس هدمه ثم قعد يبنيه قال السدى بلّ طينا وجعل يبنى الحائط قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ قرأ ابن كثير ويعقوب وابو عمرو لتّخذت بتخفيف التاء وكسر الخاء من المجرد على وزن تبعت يقال تخذ يتخذ على وزن سمع يسمع والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء من الافتعال على وزن اتبعت أدغمت تاء الكلمة في تاء الافتعال ومعناهما واحد مثل تبع واتّبع معناه لاخذت وليس من الاخذ عند البصريين كذا قال البيضاوي لان فاءها همزة والهمزة لا تدغم في التاء. وقال الجوهري الاتخاذ افتعال من الاخذ الا انه أدغمت بعد تليين الهمزة وابدال التاء يعنى أبدلت الهمزة بالياء لانكسار ما قبلها ثم أبدلت الياء بالتاء لوقوعها فاء الافتعال نحو السر من اليسر- ثم لما كثر استعماله بلفظ الافتعال توهموا ان التاء اصلية فبنوا منه فعل يفعل قالوا تخذ يتخذ- واهل العربية على خلاف ما قال الجوهري كذا قال الجزري في النهاية عَلَيْهِ اى على بنائه أَجْراً (77) فيه تحريض على أخذ الجعل «1» ليعيشابه وتعريض بان فعله اشتغال بمالا يعنيه- فيه دليل انه اقام الجدار يعنى بناه بمشقة حيث يجوز عليه أخذ الاجر ولو اقامه بالمعجزة لما جاز له أخذ الاجر-.
قالَ الخضر هذا الاعتراض الثالث فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ اى سبب الفراق بيننا لان في هذا الاعتراض مدخلا لهوى «2» النفس بخلاف الاعتراضين السابقين- فان بناء هما كان على الديانة الصرفة او المعنى هذا الوقت وقت الفراق بيننا لوجود اعتراض منك فيه مدخل لهوى النفس وجاز ان يكون هذا اشارة الى الفراق الوعود بقوله فلا تصحبنى- واضافة الفراق الى البين اضافة المظروف الى الظرف على الاتساع والتجوز- قلت هذه اضافة بمعنى في سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) اى بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه لكونه منكرا في الظاهر- وكان ماله على الخير والصواب- قال البغوي وفي بعض التفاسير ان موسى أخذ ثبوبه فقال أخبرني بمعنى ما عملت قبل ان تفارقنى فقال.
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ قال كعب كانت السفينة لعشرة اخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر وفيه دليل على ان المسكين يجوز إطلاقه على من له مال لا يبلغ نصابا ولا يكفيه اولا يكون فاضلا عن حاجته الاصلية يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ اى يواجرون ويكتسبون بها فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها اى ان اجعلها ذات عيب وَكانَ وَراءَهُمْ اى امامهم
__________
(1) هكذا في الأصل وفي التفسير البيضاوي لينتعشا من الافتعال 12 الفقير الدهلوي-
(2) هكذا ما قاله بعض غلاة الصوفية واتبعهم المفسر رحمه الله تعالى ولم يعلموا ان هذا جراة عظيمة على أفضل أنبياء بنى إسرائيل وكليم الله تعالى وصاحب التوراة وقد تفقوه؟؟؟ به من قبل بعض المفسرين ورده في الكشاف بانه لا يليق بجلالتهما وقال في الروح ان الأثر اطروى فيه عن خبر الامة لغلة ليس بصحيح والله تعالى اعلم 12 الفقير الدهلوي-(6/56)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
كقوله تعالى من ورائهم جهنّم وقيل ورائهم خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والاول أصح يدل عليه قراؤة ابن عباس وكان امامهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة غَصْباً (79) قال البغوي كان ابن عباس يقرأ كذلك- فخرقها وعيّبها الخضر حتى لا يأخذها الملك الغاصب وكان اسمه جليدى بن كركر وقال محمد بن إسحاق سولة بن جليد الأزدي وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد- قال البغوي «1» وكان حق النظم ان يتاخر قوله فاردتّ ان أعيبها من قوله وكان ودائهم ملك لان ارادة التعييب مسبب عن خوف الغصب وانما قدم للغاية او لان السبب كان مجموع الامرين خوف الغصب ومسكنة الملاك فرتبه على أقوى الجزئين وادعاهما وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والتعميم- قال البغوي روى ان الخضر عليه السلام اعتذر الى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون- بخبره- وقال أردت إذا هى مرّت به ان يدعها لعيبها فاذا جاوز اصلحوها فانتفعوا بها قيل سردوها بقارورة وقيل بالقار- قلت لكن رواية الاعتذار يأبى عنه نظم القرآن فانه صريح في ان الخضر بيّن هذه الحكمة لموسى بعد مجاوزته وبعد قتل الغلام وإصلاح الجدار عند الفراق ولو اعتذر الخضر في أول الأمر لاصحاب السفينة لما خفى على موسى لكونه معه ولما احتاج الخضر الى بيان ذلك لموسى والله اعلم-.
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما اى يغشاهما طُغْياناً عليهما وَكُفْراً (80) بعقوقه وسوء صنيعه ويلحقهما شرا وبلاء او يقرن بايمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر- او يعذبهما بغلبته فيرتدا بإضلاله او بممالاته على طغيانه وكفره حبّا- قال سعيد بن جبير خشينا ان يحملهما حبه على ان يتّبعاه على دينه وانما خشى ذلك خضر باعلام من الله بالوحى- اخرج ابن ابى شيبة عن زيد بن هرمز عن ابن عباس ان نجدة الحرودى كتب اليه كيف قتله رقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من قتل الولدان فكتب اليه ان علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك ان تقتل يعنى انما نهى النبي صلى الله عليه وسلم لعامة المسلمين الذين لا يوحى إليهم حتى يحصل لهم علم من حال الولدان والوحى قد انقطع بعد النبي صلى الله عليه وسلم فليس نهى النبي صلى الله.
عليه وسلم متوجها الى خضر وأمثاله- فان قيل مقتضى هذا الكلام ان الله تعالى كان يعلم ان ذلك الغلام ان عاش يكون كافرا طاغيا والمفروض المتحقق ان الغلام لم يعش ولم يكفر ولم يطغ حيث قتله الخضر والعلم يكون
__________
(1) وقد راجعت تفسير البغوي فلم أجد هذا ليه في تفسير هذه الاية «الفقير الدهلوي» .(6/57)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
تابعا للمعلوم فلا بد ان يكون للعلم في الخارج مصداق- فكيف يتصور صحة هذا العلم- لا يقال في جوابه ان وجود الأشياء تابع لعلم الله تعالى بخلاف علوم العباد فان العلم هناك تابع للمعلوم مستفاد منه لانا نقول هذا القول لا يجديك نفعا فان العلم سواء كان تابعا للمعلوم او متبوعا له لا بد من مطابقتهما وعدم تخلف أحدهما عن الآخر- فاذا لم يعش الغلام ولم يكفر ظهر عدم تحقق القضية في الواقع فلا يجوز تعلق علم الله بالقضية حتى لا يلزم عدم مطابقة العلم بالواقع والجواب الصحيح الّذي يحسم مادة الشبهة ان صدق الشرطية وتعلق العلم به يقتضى لزوم التالي للمقدم في الواقع- ولا يقتضى وجوده طرفيها فيه الا ترى ان قوله تعالى لو كان فيهما الهة الّا الله لفسدتا صادق والعلم به متحقق مع امتناع المقدم- فمقتضى هذا العلم لزوم كفر الغلام لبقائه بحيث لا يحتمل تخلفه- كما ان صدق قولنا ان كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يقتضى لزوم وجود النهار لطلوع الشمس لا طلوعها ولا وجوده- فان قيل لزوم أحد الشيئين للاخر يقتضى ان يكون أحد الشيئين علة تامة للشيء الاخر- او يكونان كلاهما معلولين لعلة واحدة تامة- فما وجه لزوم كفر الغلام لبقائه- قلنا وجه هذا اللزوم على ما قالت الصوفية العلية رضي الله عنهم ان وجودات الأشياء كلها في الخارج ظلال للاعيان الثابتة الّتي هى ظلال لصفات الله تعالى ولما كانت الأعيان الثابتة كائنة في مرتبة العلم فلذلك قالوا المعلوم تابع للعلم ثم صفات الله تعالى منها راجعة الى كونه تعالى هاديا ومنها راجعة الى كونه تعالى مضلا فالاشياء الّتي مبادى تعيناتها راجعة الى الهداية ظهور الاهتداء لازم لوجودها لا يمكن ختمها الا على السعادة- والّتي مبادى تعيناتها راجعة الى الضلالة ظهور الشقاوة وختمها عليها لازم لوجودها لا يتصور منها الاهتداء وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم كلّ ميسر لما خلق له اما من كان من اهل السعادة فتسييسر لعمل اهل السعادة واما من كان من اهل الشقاوة فسييسر لعمل اهل الشقاوة- متفق عليه من حديث علىّ رضي الله عنه فمعنى قوله طبع الغلام على الكفر ان مبدء تعينه كان ضلال اسم المضل فموته صغيرا قبل ظهور اثر الضلالة فيه كان أصلح له ولوالديه وكان هذا تفضلا من الله تعالى على والديه لا على ما قالت المعتزلة بوجوب الأصلح على الله سبحانه إذ لو كان كذلك لم يوجد كافر حيث يجب على الله أمانته صغيرا والله اعلم.
فَأَرَدْنا لعل معناه اشتهينا ودعونا الله سبحانه- لان ارادة العبد لا يمكن تعلقه يفعل(6/58)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
الله سبحانه أسند الخضر هاهنا الارادة الى نفسه وايضا الى الله تعالى حيث قال بصيغة الجمع أردنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما لان التبديل باهلاك الغلام وإيجاد الله بدله- والإهلاك وجد بكسب الخضر والإيجاد بخالص صنعه تعالى افصح الإسنادان قرأ ابو جعفر ونافع وابو عمرو بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال ومعناهما واحد- قال البغوي وفرق بعضهم بان التبديل تغيير شيء او تغيير حاله وعين الشيء قائم والابدال دفع شيء ووضع شيء اخر مكانه. قلت وهذا الفرق ليس بشيء إذ لو كان كذلك لما يتصور الجمع بين القرائتين مع كونهما متواترتين بل المراد ان يرزقها ربهما بدله ولدا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً اى طهارة من الذنوب والأخلاق الردية وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) قرأ ابن عامر وابو جعفر ويعقوب بضم الحاء الباقون بإسكانها- اى اقرب رحمة وعطفا على والديه وقيل هو من الرحم والقرابة قال قتادة اى أوصل للرحم وابو بوالديه وانتصاب زكوة ورحما على التمييز والعامل اسم التفضيل وهو خير وأقرب- قال البغوي قال الكلبي أبدلهما الله به جارية فتزوجها نبى من الأنبياء فولدت له نبيا فهدى الله على يديه امة من الأمم وعن جعفر بن محمد عليهما السلام انه قال أبدلهما جارية ولدت سبعين نبيا وقال ابن جريج أبدلهما بغلام مسلم- واخرج ابن ابى شبية وابن المنذر وابن ابى حاتم عن عطيّة بلفظ فابدلا جارية ولدت نبيا- واخرج ابن المنذر عن ابن عباس مثله واخرج ابن المنذر من طريق بسطلم بن جميل عن يوسف بن عمر قال أبدلهما الله مكان الغلام جارية ولدت نبيين- وأخرجه «1» البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث ابى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مطرف فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتلى ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى فان قضاء الله المؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب قلت بل فيما يحب العبد او يكره لا بد له ان يخاف مكر الله ويستعيذ منه ويرجو رحمة الله ويطلبه منه ويرضى بقضاء الله ولا يعترض عليه-.
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ قال البغوي كان اسمهما اصرم وصويم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من مال كذا قال عكرمة واخرج البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث ابى الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال كان ذهبا وفضة واخرج الطبراني عن ابى الدرداء في هذه الاية قال أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغمائم وحرمت علينا الكنوز- قلت لعل معنى حرمت علينا الكنوز ان نكنز الذهب والفضة ولا نؤدى زكوتها فذلك حرام علينا لقوله تعالى وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) وفي الأصل وأخرجه في تاريخه «ابو محمد عفى عنه» -(6/59)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- قال ابن عبّاس وابن عمر كل مال يؤدى زكاته فليس بكنز وان كان مدفونا وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز وان لم يكن مدفونا فلعل الزكوة لم تكن واجبة على اهل تلك القرية حينئذ حتى قيل أحلت لهم الكنوز والله اعلم- وقال البغوي روى عن سعيد بن جبير قال كان الكنز صحفا فيها علم واخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال ما كان ذهبا ولا فضة ولكن صحف علم- واخرج ابن ابى حاتم عن الربيع بن انس نحوه وقال البغوي وروى عن ابن عباس انه قال كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبا لمن يوقن بالموت كيف يفرح عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب عجبا لمن أيقن بالحساب كيف يغفل عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا كيف يطمئن إليها لا اله الا الله محمد رسول الله- وفي الجانب الاخر مكتوب انا الله لا اله الا انا وحدي لا شريك لى خلقت الخير والشر فطوبى لمن محلقته وللخير وأجريته على يديه وويل لن خلقته للشر وأجريته على يديه كذا اخرج البزار بسند ضعيف عن ابى ذر مرفوعا اخضر منه وأخرجه الخرائطي في قمع الحرص عن ابن عباس موقوفا وكذا اخرج ابن مردوية من حديث على مرفوعا وأخرجه البزار عن ابى ذر رفعة وقال الزجاج الكنز إذا اطلق يتصرف الى كنز المال وعند التقييد يجوز ان يقال عنده كنز علم وهذا اللوح كان جامعا لهما- وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قيل كان اسمه كاشح وكان من الأتقياء قال البغوي قال ابن عباس حفظا بصلاح أبيهما يعنى امر الله الخضر لا صلاح الجدار لاجل حفظ الغلامين بصلاح أبيهما قال محمد ابن المنكدر ان الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعترته وعشيرته واهل دويرات حوله في حفظ الله ما دام فيهم- قال سعيد بن مسيب انى أصلي فاذكر ولدي فازيد في صلاتى- وقيل كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة اباء واخرج ابن ابى حاتم من طريق بقية عن سليمان بن سليم ابى سلمة قال مكتوب في التوراة ان الله ليحفظ القرن الى القرن الى سبعة قرون وان الله يهلك القرن الى القرن الى سبعة قرون- وفي الاية دليل على انه حق على المؤمنين السعى والرعاية لذريّات الصلحاء مالم يصدر منهم طغيان وكفر فحينئذ يستحقون زيادة الإيذاء كما يدل عليه اية السابقة امّا الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا ان يرهقهما طغيانا وكفرا فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما اى يبلغا الحلم وكمال الرشد والقوة قيل ثمانية عشر سنة وعندى انه أربعين سنة لقوله تعالى حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً- والظاهر من مذهب ابى حنيفة رحمه الله انه خمسة وعشرون سنة فانه إذا بلغ السفيه خمسة وعشرين سنة دفع عنده اليه ماله وقد قال الله تعالى(6/60)
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ... وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ منصوب على الحال من فاعل يبلغا اى يبلغا مرحومين من ربّك او على المصدرية او العلية فان ارادة الخير رحمة وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربّك- قال البيضاوي لعل اسناد الارادة اولا الى نفسه يعنى في قوله أردت ان أعيبها لانه هو المباشرة للتعييب وثانيا الى الله والى نفسه يعنى في قوله أردنا ان يّبدلهما ربّهما خير منه زكوة لان التبديل باهلاك الغلام وإيجاد الله بدله- وثالثا الى الله وحده يعنى في هذه الاية لانه لا مدخل له في بلوغ الغلامين- او لان الاول في نفسه شر والثالث خير والثاني ممتزج- او لاختلاف حال العارف في الالتفات الى الوسائط وَما فَعَلْتُهُ اى ما رأيت منى من خرق السفينة وقتل الغلام واقامة الجدار عَنْ أَمْرِي اى عن رأى انما فعلته بامر الله عزّ وجلّ وعلا ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ حذفت تاء الاستفعال تخفيفا والمعنى مالم تطق عَلَيْهِ صَبْراً (82) قال البغوي روى ان موسى لما أراد ان يفارقه قال له أوصني- قال لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به- قال البيضاوي ومن فوائد هذه القصة ان لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر الى انكار مالا يستحسنه فلعل فيه سرّا لا يعرفه- قلت لا سيما إذا كان الرجل الّذي راى منه ما لا يستحسنه ذا علم وديانة وانقاء فبالحرى
اى لا ينكر عليه كما ذكرنا آنفا- وان يداوم على التعلّم ويتذلل للمعلم ويراعى الأدب في المقال وان ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه قال البغوي اختلف الناس في ان الخضر عليه السّلام حىّ أم ميت- قيل ان الخضر والياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم وكان سبب حياته فيما يحكى به انه شرب من عين الحيوة وذلك ان ذا القرنين دخل الظلمه لطلب عين الحيوة وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فنزل فاغتسل وشرب وصلى شكر الله تعالى واخطأ ذو القرنين الطريق فعاد وذهب الآخرون الى انه مات لقول الله تعالى وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ- وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى العشاء ليلة اريتكم ليلتكم هذه فان على راس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم حى على ظهر الأرض أحد قلت ذكر صاحب الحصين في التعزية ما روى الحاكم في المستدرك عن انس انه لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل رجل اشهب اللحية جسم صبيح فتخطار قابهم فبكى ثم التفت الى الصحابة رضي الله عنهم فقال ان لله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فالى الله فانيبوا واليه فارغبوا ونظره إليكم في البلاء فانظروا فانما المصاب من لم يجبر. وانصرف فقال أبو بكر وعلىّ هذا الخضر عليه السلام- وقد اشتهر عن اولياء الله ملاقاتهم واستفاداتهم عن الخضر عليه السلام فهذا(6/61)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
دليل على حياته- والظاهر ان الخضر عليه السلام لو كان حيّا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما اعتزل عن صحبته فانه كان مبعوثا الى الناس كافة- ولهذا قال عليه السّلام لو كان موسى حيا ما وسعه الا اتباعى- رواه احمد والبيهقي في شعب الايمان في حديث جابر وسينزل عيسى بن مريم ويقتدى برجل من المسلمين- كذا روى مسلم في حديث عن ابى هريرة عن جابر ولا يمكن حل هذا الاشكال الّا بكلام المجد للالف الثاني رضي الله عنه فانه حين سئل عن حيوة الخضر عليه السلام ووفاته توجه الى الله سبحانه مستعلما من جنابه عن هذا الأمر- فراى الخضر عليه السلام حاضرا عنده فساله عن حاله فقال انا والياس لسنا من الاحياء لكن الله سبحانه اعطى لارواحنا قوة نتجسد بها ونفعل بها افعال الاحياء من ارشاد الضال واغاثة الملهوف إذا شاء الله وتعليم العلم اللدني وإعطاء النسبة لمن شاء الله تعالى- وجعلنا الله تعالى معينا للقطب المدار من اولياء الله تعالى الّذي جعله الله تعالى مدارا للعالم جعل بقاء العالم ببركة وجوده وإفاضته- وقال الخضران القطب في هذا الزمان في ديار اليمن متبع للشافعى في الفقه- قال فنحن نصلى مع القطب صلوة على مذهب الشافعي فبهذا الكشف الصحيح اجتمع الأقوال وذهب الاشكال والحمد لله الكبير المتعال-.
وَيَسْئَلُونَكَ يعنى اليهود او «1» مشركى مكة امتحانا عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قال البغوي اختلفوا في اسمه قيل اسمه مرزبان بن مرزية اليوناني من ولد يافث بن نوح عليه السلام وقيل اسمه إسكندر ابن قبيس بن فيلقوس الرومي قلت وهو الأصح لما اخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن ابى حاتم والشيرازي في الألقاب وابو الشيخ عن وهب بن منبه اليماني وكان له علم بالأحاديث الاولى انه كان يقول كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر- واخرج ابن المنذر عن قتادة قال الإسكندر هو ذو القرنين- قال البغوي واختلفوا في نبوته فقال بعضهم كان نبيا وقال ابو الطفيل سئل علىّ عن ذى القرنين اكان نبيا أم كان ملكا قال لم يكن نبيّا ولا ملكا ولكن كان عبدا احبّ الله فاحبّه الله وناصح الله فناصحه- قلت وكذا اخرج ابن مردوية عن سالم بن ابى الجعد قال سئل على عن ذى القرنين أنبي هو قال سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول هو عبد ناصح الله فنصحه «2» قال البغوي وروى ان عمر سمع رجلا يقول لاخر يا ذو القرنين فقال تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسموا بأسماء الملائكة قال والأكثرون على انه كان ملكا عادلا صالحا قال البغوي واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قال الزهري لانه بلغ قرنى الشمس مشرقها ومغربها وقيل لانه ملك الروم والفارس وقيل لانه دخل النور والظلمة وقيل لانه رأى في المنام
__________
(1) وفي الأصل مشركوا مكة 12 ابو محمد عفى عنه-
(2) خالد بن سعد ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال ملك يمسح الأرض من سمحتها بالأسباب 12 ازالة الخفا- منه رح.(6/62)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
كانه أخذ بقرني الشمس- وقيل لانه كان له ذوابتان حسنتان وقيل لانه كان له قرنان تواديهما العمامة قلت وكذا اخرج ابن عبد الحكم عن يونس بن عبيد ونحوه الشيرازي في الألقاب عن قتادة وروى ابو الطفيل عن علىّ عليه السلام انه قال سمى ذا القرنين لانه امر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الايمن فمات فبعثه الله يعنى أحياه ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله- انتهى كلام البغوي- واخرج احمد في الزهد وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ في العظمة عن ابى الورقاء قال قلت لعلى بن ابى طالب رضى الله عنه ذو القرنين ما كان قرنا لا قال لعلك تحسب ان قرنيه ذهب او فضة كان نبيّا فبعثه الله الى ناس فدعاهم الى الله تعالى فقام رجل فضرب قرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله يعنى أحياه ثم بعثه الله الى ناس فقام رجل فضرب قرنه الايمن فمات فسماه ذا القرنين قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ خطاب للسائلين مِنْهُ اى من حال ذى القرنين وقيل من الله تعالى ذِكْراً (83) اى خبرا.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ اى مكنا امره من التصرف فيها كيف شاء- قال البغوي قال على عليه السلام سخر له السحاب فحمله عليها ومد له الأسباب وبسط له النور كان الليل والنهار عليه سواء فهذا معنى تمكينه في الأرض وهو انه سهل عليه السير فيها وذلل له طرقها- وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ اراده وتوجه اليه وقيل معناه أعطيناه من كلّ شيء يحتاج اليه الخلق وقيل من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحادبة الأعداء سَبَباً (84) يوصل اليه من العلم والقدرة والآلات- قال البغوي قال الحسن اى بلاغا الى حيث أراد- وقيل معناه قرّبنا اليه أقطار الأرض.
فَأَتْبَعَ قرأ اهل الحجاز والبصرة فاتّبع ثمّ اتّبع في الثلاثة بهمزة الوصل والتشديد من الافتعال والباقون بقطع الالف وسكون التاء من الافعال- قال البغوي قيل معناهما واحد والصحيح الفرق بينهما فمن قطع بالهمزة فمعناه أدرك وو لحق ومن قرء بالتشديد فمعناه سار يقال ما زلت اتّبعته حتى اتبعته اى ما ذلت سرت خلفه حتّى لحقته وكذا روى عن الأصمعي سَبَباً (85) يعنى طريقا نحو المغرب وقال ابن عباس منزلا-.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ اى منتهى الأرض المسكونة نحو المغرب- وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ قرأ ابو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر حمية بالألف غير مهمود على وزن رامية اى حارة- والباقون مهموزا بغير الف على وزن ملئة من جسئت للبرّ إذا صارت ذات حماة وهى الطينة السوداء- ولا تنافي بين القرائتين لجواز كون العين جامعة(6/63)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
للوصفين وجاز ان يكون ياء حامية مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها فحينئذ يتخذ القراءتين اى ذات حماة- قال البغوي سال معاوية كعبا كيف تجد في التوراة اين تغرب الشمس قال نجدها تغرب في ماء وطين- قال البيضاوي لعله بلغ ساحل لمحيط فراها كذلك إذا لم يكن في مطمح نظره غير الماء والطين ولذلك قال الله سبحانه وجدها تغرب ولم يقل كانت تغرب كذا قال القيتبى وَوَجَدَ عِنْدَها اى عند العين قَوْماً قال البيضاوي قيل كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما لفظه البحر وكانوا كفارا قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ذلك القوم بالقتل على كفرهم ان أصروا على كفرهم بعد ما دعوتهم الى الإسلام وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ فعلة حُسْناً (86) يعنى الإكرام والإرشاد وتعليم الشرائع ان تابوا واسلموا- فكلمة امّا هاهنا للتقسيم مثل او في قوله تعالى انّما جزاء الّذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ان يقتلوا او يصلّبوا او تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف او ينفوا من الأرض وقيل كلمة امّا هاهنا للتخيير بين ان يعذبهم بالقتل لكفرهم وبين ان يدعوهم الى الإسلام وهو المراد بقوله ان يتّخذ فيهم حسنا وقيل خيره بين القتل والاسر وسماه إحسانا في مقابلة القتل ويؤيد الأولين قوله تعالى-.
قالَ ذو القرنين امتثالا لامره تعالى او اختيارا لدعوتهم الى الإسلام بعد التخيير أَمَّا مَنْ ظَلَمَ نفسه بالإصرار على الكفر بعد ما دعوته الى الإسلام واستمر على ظلمه الّذي هو الشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ انا ومن معى في الدنيا بالقتل ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ ربه في الاخرة عَذاباً نُكْراً (87) اى منكر الم يعهد مثله في نار جهنم.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً على ما يقتضيه الايمان فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص جزاء منونا منصوبا على الحال اى فله الحسنى يعنى الجنة جزاء يجزى بها او فله في الدارين المثوبة الحسنى جزاء وجاز ان يكون منصوبا على المصدرية لفعل مقدر والجملة خال اى يجزى بها جزاء او على التمييز والباقون بالرفع بغير تنوين على الاضافة والحسنى على هذه القراءة الأعمال الحسنة اى له جزاء الأعمال الحسنى او يقال الحسنى هو الجنة او المثوبة الحسنة واضافة الجزاء إليها من قبيل مسجد الجامع وجانب الغربي وَسَنَقُولُ لَهُ اى لمن أمن وعمل صالحا مِنْ أَمْرِنا اى مما نامر به يُسْراً (88) اى سهلا غير شاق تقديره ذا يسر وقال مجاهد يسرا اى معروفا ويستدل بهذا الخطاب من الله تعالى(6/64)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
لذى القرنين على كونه نبيا يوحى اليه وقال البغوي الأصح انه لم يكن نبيا والمراد به الإلهام- قلت ويمكن ان يكون هذا الأمر من الله تعالى على لسان نبى من الأنبياء يكون معه يسدد امره كما كان في بنى إسرائيل أنبياء مع الملوك يسددون أمورهم-.
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) اى سلك طرقا ومنازل يوصله الى المشرق.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ يعنى الموضع الّذي تطلع الشمس عليه اولا من معمورة الأرض وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) من اللباس او البناء فان ارضهم لا تحمل بناء وانهم اتخذوا الأسراب بدل الابنية.
كَذلِكَ اى امر ذى القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك أو أمره في اهل المشرق كامره في اهل المغرب من التخير والاختيار او هو صفة لمصدر محذوف لوجدها اى وجدها تطلع كما وجدها تغرب او لمصدر لم نجعل اى لم نجعل لهم من دونها سترا كما لم نجعل لاهل المغرب او صفة لقوم يعنى وجدها تطلع على قوم مثل ذلك القوم الذين كانت تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود والآلات والعدد والأسباب خُبْراً (91) اى علما تعلق بظواهره وبواطنه منصوب على المصدرية لان في احطنا معنى خبرنا- والمراد كثرة ذلك يعنى بلغ مالديه مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير-.
ثُمَّ أَتْبَعَ ذو القرنين سَبَباً (92) اى طريقا ثالثا معترضا بين المغرب والمشرق أخذا من الجنوب الى الشمال.
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قرأ ابن كثير وابو عمرو وحفص بفتح السين والباقون بضم السين قيل هما لغتان معناهما واحد وقال عكرمة ما كان من صنعة بنى آدم فهو بالفتح وما كان من صنع الله فهو بالضم وكذا قال ابو عمرو وقيل السّد بالفتح مصدر وبالضم اسم والمراد بالسّدين هاهنا جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج وماجوج ومن ورائهم وهما جبلا ارمينية واذربايجان أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس رضى الله عنهما قيل جبلان في اواخر الشمال في منقطع ارض الترك منيعان من ورائهما يأجوج وماجوج أخرجه سعيد بن منصور في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم في تفاسيرهم وبين هاهنا مفعول به وهو من الظروف المتصرفة وَجَدَ مِنْ دُونِهِما اى امام الجبلين قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف من الافعال يعنى لا يفقهون غيرهم قولهم- وقرأ الآخرون بفتح الياء والقاف يعنى لا يفهمون كلام غيرهم قال ابن عباس لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم.(6/65)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
قالُوا بتوسط مترجم لهم- وفي قراءة ابن مسعود قال الّذين من دونهم يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قرأ هما عاصم هاهنا وفي الأنبياء مهموزين والآخرون بغير همزوهما اسمان عجميان بدليل منع الصرف وقيل عربيان من اج الظلم إذا اسرع قال البغوي من اجيج النار وهو ضؤها وشهرها شبهوا به لكثرتهم ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث قال البغوي هم من أولاد يافث بن نوح وقال قال الضحاك هم جيل من الترك وقال قال السدى الترك سرية من يأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجة فجميع الترك منهم وعن قتادة انهم اثنان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السد على احدى وعشرين قبيلة وبقيت قبيلة واحدة فهم الترك وسموا الترك لانهم تركوا خارجين وقال اهل التاريخ أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث سام ابو العرب والعجم والروم- وحام ابو الحبشة والزنج والنوبة- ويافث ابو الترك والخزر والصعالية ويأجوج ومأجوج قال ابن عباس في رواية عطاءهم عشرة اجزاء وولد آدم كلهم جزء وروى عن حذيفة مرفوعا ان يأجوج امة ومأجوج امة كل امة اربعة مائة «1» الف لا يموت الرجل منهم حتى ينظر الى الف من صلبه كلهم حملوا السلاح وهم من ولد آدم يسيرون الى خراب الدنيا قلت لعل معنى الحديث ان كل امة بلغت عددهم اربع مائة الف حين سد عليهم ذو القرنين فاما بعد ذلك فاذا ولد كل رجل منهم الفا مسلحا يبلغ عددهم الى مالا يعلم عدتهم الا الله تعالى ومعنى يسيرون الى خراب الدنيا انهم إذا خرجوا من السد عند قرب القيامة يسيرون الى خراب الدنيا والله اعلم- وقال البغوي وقيل هم ثلاثة اصناف صنف منهم أمثال الأرزة شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء- وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد- وصنف منهم يفترش أحدهم اذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بخيل ولا وحش ولا خنزير الا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون انهار المشرق وبحيرة طبرية- قلت هذا ايضا حين يخرجون من السد- قال البغوي وعن على رضى الله عنه انه قال منهم من طوله شبر وعرضه ذراع ومنهم من هو مفرط في الطول- وقال قال كعب هم نادرة من ولد آدم وذلك ان آدم «2» احتلم ذات يوم فامتزجت نطفة بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الام-
__________
(1) وفي تفسير البغوي اربعة آلاف امة وهو الصحيح ولعل ما في الأصل من غلط الناسخ والله تعالى اعلم 12 الفقير الدهلوي.
(2) هذا مردود فان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من الشيطان والاحتلام من الشيطان هكذا في الحاشية الّتي على تفسير البغوي 12 الفقير الدهلوي-(6/66)
وقال البغوي ذكر وهب بن منبه ان ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز فلما بلغ كان عبدا صالحا قال الله انى باعثك الى امم مختلفة ألسنتهم- منهم امتان بينهما طول الأرض أحدهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والاخر عند مطلعها يقال لها منسك- وامتان بينهما عرض الأرض أحدهما في قطر الايمن يقال لها هاويل والاخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها قاويل- وامم في وسط الأرض منهم الجن والانس ويأجوج ومأجوج فقال ذو القرنين باىّ قوم أكابرهم وباىّ جمع أكاثرهم وباىّ لسان اناطقهم قال انى ساطوتك وابسط لك لسانك وأشد عضدك فلا تهولك شيء والبسك الهيبة فلا يردعك شيء وأسخر لك النور والظلمة واجعلهما من جنودك يهديك النور من امامك ويحوطك الظلمة من ورائك فانطلق حتى اتى مغرب الشمس فوجد جمعا وعد والا يحصيه الا الله فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم الى الله وعبادته فمنهم من أمن ومنهم من صدّ عنه- فعمد الى الذين تولوا عنهم فادخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته- فجند من اهل المغرب جندا عظيما فانطلق يقودهم والظلمة يسوقهم حتى اتى هاويل فعمل فيهم كفعله في ناسك- ثم معنى حتى اتى الى منسك عند مطلع الشمس فعل وجند فيها كفعله في الامتين- ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فاتى قاويل فعل فيها كعلمه فيما «1» قبلها ثم عمد الى الأمم الّتي في وسط الأرض فلما دناهما يلى منقطع الترك نحو المشرق قالت له امة صالحة من الانس يا ذا القرنين ان بين هذين الجبلين خلقا أمثال البهائم يفترسون الدواب والوحوش لهم أنياب واضراس كالسباع يأكلون الحيّات والعقارب وكل ذى روح خلق الله في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ولا شك انهم يملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدّا- قال ما مكنّى فيه ربّى خير- وقال أعدو الى الصخور والحديد والنحاس حتى اعلم علمهم- فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقداد واحد يبلغ طول الوجل منهم مثل نصف الرجل المربوع منا- لهم مخاليب كالاظفار في أيدينا وأنياب واضراس كالسباع ولهم هلب «2» من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد- لكل أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتوفى الاخرى- «3» يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا «4» - فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف الى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس المذاب
__________
(1) وفي الأصل فيما قبله.
(2) الهلب الشعر وقيل ما غلظ من شعر الذنب بنهاية- قلت لعل المراد بالهلب هاهنا الشعر الغليظ 12؟؟؟
(3) يتساقدون من سقد؟؟؟ الذكر على الأنثى سفادا بالكسر نزا اى جامع 12 قاموس- منه رح [.....]
(4) هذا الأثر الطيل العجيب من مز؟؟؟ حزتان اهل الكتاب لا يصح سنده كما في البيضاوي 12 الفقير الدهلوي-(6/67)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
فيصب عليه فصار كانه عرق من جبل تحت الأرض وذلك قوله عزّ وجلّ انّ يأجوج ومأجوج مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ اى في ارضنا بالقتل والتخريب وإتلاف المزرع- قال الكلبي كانوا يخرجون ايام الربيع الى ارضهم فلا يدعون شيئا اخضر الا أكلوه ولا شيئا يابسا الا حملوه وأدخلوه ارضهم- وقد لقوا منهم أذى شديدا او قيل انهم كانوا يأكلون الناس فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً قرا حمزة والكسائي هنا وفي المؤمنين خرجا بالألف والباقون بغير الالف وهما لغتان بمعنى واحد اى جعلا واجرا نخرجه من أموالنا- وقال ابو عمرو الخرج ما تترغب به والخراج مالزمك أداؤه وقيل الخراج على الأرض والخرج على الرقاب يقال إذ خرج راسك وخراج مدينتك- وقيل الخراج على الأرض والذمة والخرج المصدر عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) يحجز دون خروجهم قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بضم السين والباقون بفتحها-.
قالَ ذو القرنين ما مَكَّنِّي قرأ ابن كثير بنونين مخففتين الاولى مفتوحة والثانية مكسورة على الأصل من غير ادغام. والباقون بنون مشددة مكسورة بالإدغام فِيهِ رَبِّي اى ما جعله الله لى فيه من المكنة بالمال والملك خَيْرٌ مما تجعلون لى عليه بإعطاء الجعل فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ اى فعلة او به أتقوى به من الآلات أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تبرعا رَدْماً (95) حاجزا حصينا وهو اكبر من السدين قولهم نوب مردّم إذا كان رقاع فوق رقاع.
آتُونِي قرأ الجمهور بقطع الهمزة ومدة بعدها من الإيتاء بمعنى المناولة فلا منافاة بينها وبين رد الخراج والاقتصار على المعونة بالأبدان- لان إعطاء الآلة من الاعانة دون الخراج على العمل- فودش على أصله يلقى حركة الهمزة على التنوين قبلها وقرأ أبو بكر ردما ائتوني بكسر التنوين وهمزة ساكنة بعده جنى جيئونى- وعند الابتداء يكسر همزة الوصل ويبدل الهمزة ياء لاجتماع الهمزتين او لهما مكسورة والثانية ساكنة زُبَرَ الْحَدِيدِ اى قطعه والزبرة القطعة الكبيرة- وأصله على قراءة ابى بكر بزبر الحديد لكون الآيتان لازما حذفت الباء كما في قولك امرتك الخير فاتوا بها وبالحطب والفحم فجعل بعضها على بعض ولم يزل يجعل قطع الحديد على الحطب والفحم والحطب والفحم على قطع الحديد حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ اى بين جانبى الجبل- قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بضم الصاد والدال وأبو بكر بضم الصاد واسكان الدال والباقون بالفتحتين وكلها لغات من الصدف بمعنى الميل- لان كلا منهما مائل منعدل من الاخر ومنه التصادف بمعنى التقابل قالَ ذو القرنين للعلمة انْفُخُوا يعنى اجعلوا فيها نارا فانفخوا في النار حَتَّى إِذا جَعَلَهُ اى الحديد(6/68)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
ناراً بالاجماع- أسند الجعل الى ذى القرنين مع انه فعل العلمة لكونه بامره قالَ ذو القرنين آتُونِي قرأ حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بهمزة ساكنة بعد اللام بمعنى المجيء وإذا ابتدا «1» كسر بهمزة الوصل وأبدل الهمزة الساكنة ياء والباقون بقطع الهمزة ومدة بعدها في الحالين بمعنى الإعطاء يعنى أعطوني قطرا أُفْرِغْ عَلَيْهِ الإفراغ الصب يعنى أصب عليه قِطْراً (96) نحاسا مذابا فاتوا بالنحاس وافرغ النحاس المذاب على الحديد فأكلت النار الحطب الفحم- وصار النحاس المذاب مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس فصار الحديد الاجر والنحاس بمنزلة الطين فصار جبلا صلدا- قال البغوي وفي القصة ان عرضه كان خمسون ذراعا- وارتفاعه مائتا ذراع وطوله فرسخ- فقطرا اسم تنازع فيه الفعلان أتوني وافرغ فاعمل البصريون الثاني وقالوا بالحذف في الاول لدلالة الثاني عليه وقالوا اعمال الثاني اولى لقربه- ولو كان مفعول أتوني لزم إتيان ضمير المفعول لا فرغ حذرا من الالتباس- وقال الكوفيون بأعمال الاول لتقدم اقتضائه وحذف المفعول من الثاني ولا التباس في الحالين-.
فَمَا اسْطاعُوا أصله استطاعوا قرأ الجمهور بحذف التاء «2» حذرا من تلاقى المتقاربين وقرأ حمزة مشددا بإدغام التاء في الطاء جامعا بين الساكنين على غير حده أَنْ يَظْهَرُوهُ ان يعلوه من فوقه لطوله وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) من أسفله لشدته وصلابته.
قالَ ذو القرنين هذا اى السد او الإقدار على تسويته رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي على عباده فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي اى وقت وعده لخروج يأجوج ومأجوج- او لقيام الساعة بان شارف يوم القيامة جَعَلَهُ دَكَّاءَ قرأ الكوفيون بالمد والهمز بغير تنوين اى أرضا ملساء مستوية- وقرأ الباقون بالتنوين من غير همز ومد وهو مصدر بمعنى المفعول اى مدكوكا مبسوطا مساويا للارض وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) كائنا لا محالة انتهى قصة ذى القرنين- قال البغوي وفي القصة ان ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفى بشهرزور وذكر بعضهم ان عمره كان نيفا وثلاثين سنة.
وقال البغوي روى قتادة عن ابى رافع عن ابى هريرة يرفعه ان يأجوج ومأجوج يحفرونه يعنى السد كل يوم- حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الّذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيد الله عزّ وجلّ كما كان حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الّذي عليهم ارجعوا فستحفرونه إنشاء الله غدا واستثنى فيعودون اليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه فيخرجون على الناس
__________
(1) وفي الأصل إذا ابتداء كسر همزة الوصل وابدال الهمزة الساكنة- ابو محمد عفى عنه.
(2) وجه مخترع لا يكاد يتم في اللفظ الثاني 12 الفقير الدهلوي.(6/69)
فيتبعون المياه وبتحصن الناس في حصونهم منهم- فيرمون سهامهم الى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم فيقولون قهرنا اهل الأرض وعلونا اهل السماء فيبعث الله عزّ وجلّ نغفا «1» فى أقفائهم فيهلكون وان دواب الأرض ليسمن ويشكر من لحومهم شكرا وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما دخلنا اليه عرف ذلك فينا فقال ما شانكم فقلنا يا رسول الله ذكرت الدجال فخفضت فيه ورفعت حتى ظنتاه في طائفة النخل فقال غير الدجال أخوف عليكم ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجه دونكم وان يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه- والله خليفتى على كل مسلم- انه شاب قطط عينه طافية أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرء عليه فواتح سورة الكهف انه خارج بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا- يا عباد الله فاثبتوا- قلنا يا رسول الله؟؟؟ لبنه في الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر يوم كجمعة وسائر أيامه كايامكم- قلنا فذلك اليوم الّذي كسنة أيكفينا فيه صلوة يوم قال لا اقدر واله قدره قلنا يا رسول الله وما سراعه في الأرض قال كالغيث استدبرته الريح فياتى على القوم فيدعوهم فيومنون به ويستجيبون له. فيأمر السماء فيمطر عليهم والأرض فينبت ويروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعا وامده خواص- ثم يأتى القوم فيدعوهم فيردّون عليه قوله- قال فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بايديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها اخرجى كنوزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل- ثم يدعوا رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك- فبينما هو كذلك إذ بعث الله عيسى بن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على اجنحة ملكين إذا طأطا راسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ- فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه الا مات ونفسه ينتهى حيث ينتهى طرفه- فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ فيقتله- ثم يأتى عيسى قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ اوحى الله الى عيسى انى قد أخرجت عبادا لى لا يدان لاحد بقتالهم فحرز عبادى الى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون- فيمر اوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء- ويحصر نبى الله وأصحابه حتى يكون راس الثور لاحدهم خيرا من مائة دينا ولاحدكم اليوم- فيرغب نبى الله عيسى وأصحابه الى الله- فيرسل الله عليهم
__________
(1) نفضاء ود؟؟؟ يكون في الفاف الإبل والغنم منه رحمه الله تعالى-(6/70)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحده ثم يهبط نبى الله عيسى وأصحابه الى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبى الله عيسى وأصحابه الى الله- فيرسل الله طيرا كاهناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله- ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى تزكها كالزلفة ثم يقال للارض أنبتي ثمرتك وروى بركتك. فيومئذ يأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بعجفها ويبارك في الرسل حتى ان اللقحة من الإبل لتكفى الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفى القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفى الفخذ من الناس فبينماهم كذلك إذا بعث الله ريحا طيبة فياخذهم تحت اباطهم فيفيض روح كل مؤمن وكل مسلم- ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة- وفي رواية اخرى لمسلم نحو ما ذكرنا وزاد بعد قوله لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا الى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس- فيقولون لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون نشابهم الى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبا دما وروى الترمذي نحوه وفيه فيرسل الله طيرا كاعناق البخث فتحملهم فتطرحهم بالمهبل «1» - ويستوقد المسلمون من تسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين- ثم يرسل الله مطرا الى اخر الحديث- ذكر البغوي هذا الحديث ثم قال قال وهب ثم يأتون يعنى يأجوج ومأجوج البحر فيشربون مائه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الخشب والشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون ان يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس- وروى البخاري عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليحجن البيت وليعتمرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج- قوله تعالى.
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ قيل هذا عند فتح السد يقول تركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج اى يدخل بعضهم في بعض كموج الماء ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم وتسابقهم في السير- وقيل هذا عند قيام الساعة يدخل الخلق بعضهم في بعض ويختلط انسهم بجنهم حيارى- ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة يعنى نفخة البعث فَجَمَعْناهُمْ اى الخلق جَمْعاً (99) للحساب والجزاء في صعيد واحد.
وَعَرَضْنا اى ابرزنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) حتى شاهدوها عيانا.
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ اى في غشاء والغطاء ما يستر الشيء عَنْ ذِكْرِي اى عن رؤية الآيات والدلائل على وجودى وصفاتى فاذكر بالتوحيد والتعظيم وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) اسماعا لذكرى وكلاعى وما يرشدهم الى الحق من القول. وذلك لما كتب الله عليهم
__________
(1) المرهبل هو الهوة الذاهبة في الأرض. مجمع البحار-(6/71)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
من الشقاء وما القى في قلوبهم من العناد والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه لكون مبادى تعيناتهم الاسم المضل-.
أَفَحَسِبَ يعنى أفظن الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي يعنى الملئكة والمسيح وعزيرا وقال ابن عباس يعنى الشياطين الذين أطاعوهم من دون الله وقال مقاتل الأصنام سميت عبادا كما قال انّ الّذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم مِنْ دُونِي قرأ نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها وقوله من دونى حال من قوله أَوْلِياءَ يعنى أربابا او شفعاء قوله عبادى واولياء مفعولان ليتّخذوا وان مع صلتها سد مسد المفعولين لحسب والاستفهام للانكار يعنى ليس الأمر كذلك بل هم لهم اعداء يتبرءون منهم فان العباد الصالحين اعداء للكافرين والشياطين والأصنام- إذا كان يوم القيمة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ويتبرءون عمن عبدهم- او المفعول الثاني لحسب محذوف حذف كما يحذف الخبر للقرينة يعنى أفحسبوا اتخاذهم عبادى اولياء نافعا لهم- وقال ابن عباس يريد افظن الذين كفروا ان يتخذوا غيرى اولياء انى لا اغضب لنفسى ولا أعاقبهم. فعلى هذا التأويل كلا المفعولين لحسب «1» محذوفان اعنى انى لا اغضب فان ان مع اسمها وخبرها سد مسدهما- وقوله ان يتخذوا مقدر بحرف الجر متعلق بكفروا يعنى باتخاذهم اى بسبب اتخاذهم غيرى اولياء- وجاز ان يقال تقدير الكلام على قول ابن عبّاس أظنوا ان الاتخاذ المذكور لا يغضبنى ولا أعاقبهم كلا فعلى هذا المفعول الثاني محذوف فحسب إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا (102) اى منزلا او ما يعد الضيف قبل نزوله- وفيه تهكم وتنبيه على ان لهم وراءها من العذاب ما يستحقر دونه ما سبق منه.
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ «2» بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) نصب على التمييز وجمع لانه من اسماء الفاعلين او لتنوع أعمالهم.
الَّذِينَ ضَلَّ اى ضاع سَعْيُهُمْ اجتهادهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بسعيهم وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) اى عملا محل الموصول الرفع على الخبر لمحذوف اى هم الّذين ضلّ سعيهم فهو جواب السؤال والجر على البدل من الأخسرين او النصب على الذم- قال ابن عبّاس وسعد بن ابى وقاص هم اليهود والنصارى حسبوا أنفسهم على الحق وهم على الدين المنسوخ- وقيل هم الرهبان الذين في الصوامع حسبوا أنفسهم انهم تركوا الذّات الدنيا طمعا في الآخرة وقد ضلّ سعيهم لكونهم على الكفر- وقال على بن ابى طالب رضى الله عنه
__________
(1) وفي الأصل محذوف
(2) وفي الأصل قل هل انبّئكم-(6/72)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
هم أهلي حرورا يعنى الخوارج فانهم أول فرقة بغوا على اهل السنة والجماعة من الصحابة ومن معهم وزعموا الهم على الحق- فالمراد بقول علىّ رضى الله عنه انهم اهل الأهواء الذين خالفوا اهل السنة فدخل فيهم الروافض والمعتزلة وسائر اهل الأهواء- قلت والظاهر ان المراد بهم الكفار الذين لا يرون البعث والنشور فيعلمون ويتبعون فيما يرونه نافعا لهم في الحيوة الدنيا ولا يرون وراء الدنيا شيئا ويزعمون انه من يعمل عملا يضره في الدنيا من اعمال الاخرة فهو مجنون سفيه- يدل على ذلك قوله تعالى.
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة وَلِقائِهِ يعنى بالبعث بعد الموت ويشعر هذه الاية بالتشنيع فيمن يعتقد البعث لكنه يقدم اعمال الدنيا على اعمال الاخرة ويتعب لاجل الدنيا ويترك امر الاخرة الى مغفرة الله وفضله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله- رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم بسند صحيح عن انس والله اعلم- وان كان المراد بالآية اليهود والنصارى فالمعنى انهم لا يعتقدون البعث على ما هو عليه او المراد بلقائه لقاء عذابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الّتي عملوها لاكتساب الدنيا او الّتي عملوها طمعا في الثواب ولا يثابون عليها لاجل كفرهم فان الايمان شرط لقبول الحسنات كلها فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) يعنى لا يكون لهم عند الله قدر واعتبار- عن ابى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انّه به قال ليأتى الرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرءوا فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا- متفق عليه واخرج ابو نعيم والآجري في هذه الاية عن ابى هريرة انه قال القوى الشديد الأكول يوضع في الميزان فلا يزن شعيرا يدفع الملك من أولئك سبعين الفا دفعة واحدة- او المعنى لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم لا؟؟؟ نحباطها بل يلقون في النار بلا وزن او المعنى لا يكون لاعمالهم الّتي يرونها حسنات وزنا في الميزان- قال البغوي قال ابو سعيد الخدري يأتى الناس باعمال يوم القيامة عندهم في العظم كجبال تهامة فاذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله عزّ وجلّ فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا- قال السيوطي اختلف اهل العلم هل يختص الميزان بالمؤمنين او يوزن اعمال الكفار ايضا واستدل للاول بقوله تعالى فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً- وأجاب القائلون بالثاني بانه مجاز عن عدم الاعتداء بهم لقوله تعالى وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ الاية الى قوله أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ- وقال القرطبي الميزان(6/73)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
لا يكون لى حق كل واحد وان الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا ينصب لهم ميزان وكذلك من يعجل به الى النار بغير حساب وهم المذكورون في قوله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ الاية- وهذا الّذي قاله القرطبي يجمع بين القولين والآيتين- والفريق الذين فيعجل هم الّذين لا يقام لهم وزن وبقية الكفار ينصب لهم الميزان كذا قال السيوطي- قلت ويحتمل تخصيص الكفار المذكورين بالمنافقين (لانهم الذين يبقون في المسلمين) واهل الكتاب الذين لا يبدلون بعد لحوق كل امة بما كانت تعبد.
ذلِكَ يعنى الأمر ذلك وقوله جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مستأنفة مبيّنة له ويجوز ان يكون ذلك مقيد؟؟؟ الجملة خبره والعائد محذوف اى جزاؤهم به او جزاؤهم بدله وجَهَنَّمُ خبره او جزاؤهم خبره وجهنّم عطف بيان للخبر بِما كَفَرُوا اى بسبب كفرهم وَاتَّخَذُوا واتخاذهم آياتي وَرُسُلِي هُزُواً (106) اى سخرية وهزوا بهم..
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ فيما سبق في حكم الله ووعده جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) عن ابى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا سالتم الله فاسئلوه الفردوس فانه اوسط «1» الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجّر انهار الجنة متفق عليه واخرج الترمذي والحاكم عن عبادة بن الصامت والبيهقي «2» عن معاذ بن جبل نحوه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومن فوقها يكون العرش ومنها تفجّر النهار الجنة الاربعة فاذا سالتم الله فاسئلوه الفردوس واخرج البزار عن العرباض بن سارية والطبراني عن ابى امامة نحوه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سالتم الله فاسئلوه الفردوس فانه أعلى الجنة- وزاد في حديث ابى امامة ان اهل الفردوس يسمعون أطيط العرش- قال البغوي قال كعب ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس فيها الا ترون بالمعروف والناهون عن المنكر وقال مقاتل الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأنعمها- واخرج احمد والطيالسي والبيهقي عن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنات الفردوس اربع جنتان من ذهب حليتهما وأبنيتهما وما فيها وجنتان من فضة الحديث- قلت هذا الحديث يدل على ان كل جنة يسمى بالفردوس والصحيح هو الاول فاما في هذا الحديث سهو من الراوي او المراد بالفردوس معناه اللغوي- قال كعب الفردوس البستان فيه الأعناب وقال مجاهد هو البستان بالرومية وقال عكرمة
__________
(1) قال السيوطي المراد بوسط الجنة خيارها- 12 منه رح.
(2) وفي الأصل عن عبادة بن الصامت والبيهقي نحوه عن معاذ بن جبل نحوه- ابو محمد عفى عنه.(6/74)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
هى الجنة بلسان الحبشة وقال الزجاج لفظ بالرومية منقول الى لفظ العربية وقال الضحاك هى الجنة الملتفة بالأشجار وقيل هى الروضة المستحسنة وقيل هى روضة تنبت ضروبا من النبات وجمعه فراديس فهذا الإطلاق في الحديث من حيث معناه اللغوي- واما بالمعنى العلمي فهوا على الجنات- فان كان المراد في لاية المعنى اللغوي فالموصول على عمومه وإن كان المعنى العلى فالمراد بالذين أمنوا الذين أمنوا حقيقة الايمان- اخرج البيهقي عن انس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الله تبارك وتعالى خلق الفردوس بيده ونظرها على مشرك ومدمن خمر- واخرج ابن ابى الدنيا في صفة الجنة عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله تبارك وتعالى ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التورية بيده وغرس الفردوس بيده وقال وعزتى وجلالى لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث- قالوا يا رسول الله وما الديوث قال الّذي يقرّ السوء في اهله وقد مر تفسير قوله نزلا.
خالِدِينَ فِيها حال مقدرة لا يَبْغُونَ اى لا يطلبون عَنْها حِوَلًا (108) تحولا إذ ليس شى أطيب منها حتى ترغب أنفسهم اليه- ويجوز ان يراد به تأكيد الخلود والله اعلم- اخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسئل عنه هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فنزلت ويسئلونك عن الرّوح قل الرّوح من امر ربّى وما أوتيتم من العلم الّا قليلا- فقالت اليهود أوتينا علما كثيرا أوتينا التورية ومن اوتى التوراة فقد اوتى خيرا كثيرا فنزلت.
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ يعنى ماء البحر مِداداً يكتب به والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر الدوات والسليط للسراج- وأصله من الزيادة ومجىء شيء بعد شيء قال مجاهد لو كان البحر مدادا للقلم والمقلم يكتب لِكَلِماتِ رَبِّي اى كلمات علمه وحكمته لَنَفِدَ الْبَحْرُ اى جنس ماء البحر باسره لان كل جسم متناد؟؟؟
قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي فانها غير متناهية لا تنفد- قراء حمزة والكسائي تنفد بالياء لتقدم الفعل وإسناده الى مونث غير حقيقى وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ اى بمثل البحر الموجود مَدَداً (109) زيادة ومعونة لان مجموع المتناهي متناه بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون الا متناهيا للدلائل القاطعة على تناهى الابعاد والمتناهي ينفد قبل غير المتناهي لا محالة- قلت لو فرضنا البحر او الأبحر السبعة وما زاد مدادا يكتب بها كلمات علمه تعالى فلا شك ان كل جزء منها يقوم بالقلم لا يمكن ان يكتب به ما معنى على ذلك الجزء من الأحوال الطارية عليه- وان كانت ذلك الأحوال متناهية فكيف ما عداها من الممكنات(6/75)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
المعلومة لله تعالى- فهيهات هيهات احاطة المتناهي لغير المتناهي وقال البغوي قال ابن عباس قالت اليهود أتزعم انا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا ثم تقول وما أوتيتم من العلم الّا قليلا- فانزل الله هذه الاية يعنى ان ذلك العلم الّذي في الكتب خير كثير في نفسه لكونه متكفلا لصلاح معاشكم ومعادكم لكنه فطرة من بحار كلمات الله والباء للتعدية ومثله مفعول لجئنا ومددا تمييز نحو على التمرة مثلها زيدا ولى مثله رجلا.
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قال ابن عبّاس علّم الله عزّ وجلّ رسوله، صلى الله عليه وسلم التواضع لئلا يزعى على خلقه فامره ان يقرّ فيقول انى آدمي مثلكم الا انى خصصت بالوحى وأكرمني به يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له قلت فيه سد لباب الفتنة افتتن بها النصارى حين راؤا؟؟؟ عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى وقد اعطى الله تعالى لنبيّنا صلى الله عليه وسلم من المعجزات أضعاف ما اعطى عيسى عليه السلام فامره بإقرار العبوديّة وتوحيد الباري لا شريك وله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ اى يخاف المصير اليه ويأمل رويته وحسن ثوابه- قال البغوي الرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعا قال الشاعر فلاكل ما ترجو من الخير كائن ولاكل ما ترجو من الشر واقع- فجمع بين المعنيين فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يرتضيه وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) اى لا يراى بعمله ولا يطلب على عمله اجرا من أحد غيره تعالى جزاء ولا ثناء اخرج ابن ابى حاتم وابن ابى الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاؤس قال قال رجل يا رسول الله انى اقف الموقف أريد وجه الله وأحب ان يرى موطنى فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الاية فمن كان يرجوا الآية مرسل وأخرجه الحاكم في المستدرك موصولا عن طاوس عن ابن عباس وصححه على شرط الشيخين واخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد قال كان رجل من المسلمين يقاتل وهو يحب ان يرى مكاله فانزل الله من كان يرجوا لقاء ربّه الاية- واخرج ابو نعيم وابن عساكر في تاريخه من طريق السدى الصغير من الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام او تصدق مر؟؟؟ كز بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس له فنزلت في ذلك فمن كان يرجو لقاء ربّه الاية- فان قيل روى الترمذي عن ابى هريرة قال قلت يا رسول الله اما في بيتي؟؟؟ في مصلاى إذ دخل علىّ رجل فاعجبنى الحال الّتي رانى عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمك الله(6/76)
أبا هريرة لك اجر ان اجر السر واجر العلانية- وروى مسلم عن ابى ذر قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده «1» الناس عليه قال تلك عاجل بشرى المؤمن- فان قيل هذان الحديثان «2» ينافيان ما ذكر في شأن نزول الاية- قلنا لا منافاة أصلا فان ما ذكر في شأن نزول الاية- مراده ان من عمل لله ويريد ان يراه الناس ويحمده على عمله- او يزيد في عمله إذا راه الناس فهو من الرياء والشرك الخفي- واما من عمل لله وراه الناس و؟؟؟ حمدوه فلستبشر به وهو لا يريد حمد الناس عليه ولاجراء منهم ولا يزيد في عمله لاجلهم فذلك بشره العاجل وله اجر السر والعلانية والله اعلم- وعن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمّع سمّع الله به ومن يرائى يرائ الله به متفق عليه وعن محمود بن لبيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ان أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصفر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصفر قال الرياء- رواه احمد وزاد البيهقي في شعب الايمان يقول الله لهم حين يجازى للعباد بأعمالهم اذهبوا الى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءا وخيرا وعن ابى هريرة اتقوا الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر قال الرياء أخرجه ابن مردوية في التفسير والاصبهانى في الترغيب والترهيب وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى امّا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركة وفي رواية فلنا منه برى هو الّذي عمله- رواه مسلم وعن ابى سعيد بن ابى فضالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله قال الله اغنى الشركاء عن الشرك- رواه احمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وعن عبد الله بن عمرو انه جمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول من سمع الناس بعلمه سمّع الله به مسامع خلقه وحقره وصغره- رواه احمد والبيهقي في شعب الايمان وعن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى يرائى فقد أشرك ومن صام يرائى فقد أشرك ومن تصدق يرائى فقد أشرك رواه احمد عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى يوم القيمة بصحف مختمة فتنصب؟؟؟ بين يدى الله فيقول القول هذه واقبلوا هذه فيقول الملائكة وعزتك ما كتبتا الا ما عمل- فيقول هذا كان لغير وجهى وانى لا اقبل اليوم الا ما ابتغى به وجهى وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط والدار قطنى والاصبهانى في الترغيب وعن شهر بن عطة قال يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات فيقول رب العزة تبارك وتعالى صليت يوم كذا ليقال صلى فلان انا الله لا اله الا انا لى الدين الخالص وصمت يوم كذا ليقال صام فلان انا الله لا اله الا انا لى الدين الخالص-
__________
(1) وفي الأصل يحمد الناس. ابو محمد عفا عنه.
(2) وفي الأصل هذين الحديثين- ابو محمد عفا الله عنه.(6/77)
فما يزال يمحى شيء بعد شيء فيقول ملكاه لغير الله كنت تعمل وعن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تبارك وتعالى يجمع الأولين والآخرين ببقيع واحد منفذ البصر يسمعهم الداعي فيقول انا خير شريك فكل عمل لى في دار الدنيا كان فيه شريك فانا ادعه اليوم لشريكى ولا اقبل اليوم الا خالصا- رواه الاصبهانى وعن ابن عباس من رايا بشى من عمله وكّله الله اليه يوم القيامة وقال النظر هل يغنى عنك شيئا- وتأويل الاية على طريقة الصوفية فمن يرجوا لقاء الله يعنى وصله بلا كيف بالدنو والتدلّى حتى يكون قاب قوسين او ادنى فليعمل عملا صالحا بعد فناء النفس وازالة رذائلها فان رذائل النفس تفسد العمل ولا تصلح العمل الا بعد فناء النفس- ولا يشرك بعبادة ربّه أحدا يعنى لا يكون لقلبه تعلق علمى ولا حبى لغير الله تعالى- فان التعلق العلمي بالقلب هو الذكر والذكر هو العبادة- والحب يقتضى العبادة والمحبوب هو المعبود- فان العبادة هى غاية الذل والتواضع والمرء بذل نفسه ويتواضع فايته عند محبوبه وإنما يحصل ذلك بعد فناء القلب فان قيل العلم بغير الله لا ينفك عن اولياء الله بل عن الأنبياء ايضا- قلنا العلم بعد فناء القلب لا يكون محله القلب بل يكون قلبه مهبط لتجليات الرحمن- لكنه يتعلق بوراء ذلك المحل لبقاء ماده التكليف على مقتضى الحكمة- والله اعلم- فصل عن ابى الدرداء يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال رواه مسلم واحمد وابو داؤد والنسائي وروى الترمذي عنه بلفظ من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم من فتنة الدجال وقال هذا حديث حسن صحيح وروى احمد ومسلم والنسائي عنه بلفظ من قرا العشر الأواخر «1» من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال وعن سهل بن معاذ عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قرا أول سورة الكهف وآخرها كانت له نور من قدمه الى رأسه- ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض الى السماء رواه البغوي وأخرجه ابن السنى في عمل اليوم والليلة واحمد في مسنده- عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الكهف عند مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلالا الى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم- فان كان مضجعه بمكة كان نورا يتلألأ من مضجعه الى بيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ أخرجه ابن مردوية وعن ابى سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرا. في ليلة فمن كان يرجوا لقاء ربّه الاية كان له نورا من عدن الى مكة حشوه الملائكة 12- ازالة الحنفاء- منه رحمه الله-(6/78)
قال من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين- رواه الحاكم وصححه والبيهقي في الدعوات الكبير ورواه البيهقي في شعب الايمان بلفظ من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق- وعن البراء بن عازب قال كان رجل يقرأ سورة الكهف والى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشه سحابة فجعلت تدور وتدنر- وجعل فرسه ينفر فلمّا أصبح اتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال تلك السكينة تنزلت بالقران متفق عليه تم تفسير سورة الكهف بعون الله تعالى (ويتلوه سورة مريم إنشاء الله تعالى) يوم الأربعاء خامس عشر من شهر ذى الحجة من السنة الثانية بعد المائتين والف (سنة 1202) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.(6/79)
فهرس سورة مريم عليها السّلام من التفسير المظهرى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مضمون صفحه مسئله ما ورد في ان الأنبياء لا يورثون المال 83 بيان درجة الصديق 98 قصة إدريس ودخوله الجنة 103 حديث اتلوا القران وابكوا فان لم تبكوا فتباكوا 104 ما ورد في الغىّ انه نهرا وواد في جهنم 105 ما ورد في ورود الناس كلهم في النار ثم ينجى الله المتقين- وفي تحقيق الورود 111 ما ورد في حشر المتقين ركبانا وحشر الكفار عطاشا مشاة على وجوههم 118 حديث من كنت مولاه فعلىّ مولاه 122 حديث ذكر علىّ عبادة وحبّ علىّ عبادة 122 حديث إذا أحب الله عبدا قال لجبرئيل قد أحببت فلانا فاحبه الحديث 122.(6/80)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
سورة مريم عليها السّلام
مكيّة وهى ثمان وتسعون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسر وتمم بالخير.
كهيعص (1) قرأ أبو بكر والكسائي بامالة فتحة الهاء والياء وابن كثير وحفص بفتحهما وابن عامر وحمزة بفتح الهاء وامالة الياء ونافع بامالة الفاء والياء بين بين.
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ يظهر قال لفظة صاد عند الذال من ذكر نافع وعاصم والباقون يدغمونها ذكر خير لما قبله ان كان المراد به السورة او القران فانه مشتمل عليه او خبر مبتداء محذوف اى هذا المتلوّ ذكر رحمت ربّك او مبتدا حذف خبره اى فيما يتلى عليك ذكر رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ مفعول للرحمة او الذكر على ان الرحمة فاعله على الاتساع كقولك ذكرنى جود زيد زَكَرِيَّا (2) بدل منه او عطف بيان قرأ حمزة والكسائي وحفص بالقصر والباقون بالمد.
إِذْ نادى الظرف متعلق بالرحمة او بالذكر يعنى دعا رَبَّهُ فى مجرابه نِداءً خَفِيًّا (3) اى سرّا في جوف الليل لان الذكر والدعاء سرا اكثر إخلاصا والإخفاء سنة الدعا وثم فسر النداء بقوله.
قالَ رَبِّ اى يا ربى حذف حرف النداء والمضاف اليه اختصارا إِنِّي وَهَنَ اى ضعف ورق الْعَظْمُ مِنِّي أسند الوهن الى العظم لانه دعامة البدن واصل بنائه او لانه أصلب أعضاء البدن فاذا وهن كان ما وراؤه اوهن- وتوحيده بارادة الجنس وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً شبّه الشيب بالنار لبياضه وانتشاره في الشعر باشتعالها وأسند الاشتعال الى الراس وجعل الشيبا تمييزا مبالغة واشارة الى استيعاب الشيب جميع الراس واكتفى(6/82)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
باللام عن الاضافة لان ظهور المراد يغنى عن التقييد فانه يحكى عن رأسه لا عن رأس غيره والمعنى رب انى شبت واختلفوا في سنه حينئذ فقيل ستون أخرجه ابن ابى حاتم عن ابن المبارك وقيل سبعون أخرجه عبد الرزاق وابن ابى حاتم عن الثوري- وقال المحلى مائة وعشرون سنة وبلغت امرأته ثمان وتسعين سنة وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ اى يا ربى شَقِيًّا (4) اى خيّبا يعنى كلما دعوتك في الماضي استجبت لى ولم تخيبنى قط- فالاجابة منك لدعائى جرى منك وعادة وسنة وانى أطمع الاجابة منك الان لماء لودتنى به والكريم لا يخيب من أطمعه فالمصدر مضاف الى المفعول اى بدعائى إياك- وجاز ان يكون مضافا الى الفاعل ويكون المعنى انك لما دعوتنى للايمان امنت بك ولم أشق بترك الايمان- فاستجب دعائى ببركة الايمان بك واجابة دعائك- وجملة لم أكن معطوفة على ما سبق او حال من ضمير المتكلم فانه في المعنى فاعل إذ معناه شبت-.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ اى انباء عمى مِنْ وَرائِي واى بعد موتى متعلق بمحذوف اى خفت فعل الموالي بعد موتى او الذين يلون الأمر من بعدي اى ان لا يحسنوا خلافتى في أمتي بعد موتى ويبدّلوا عليهم دينهم- والجملة اما معطوفة او حال من فاعل أكن وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ فان مثله لا يرجى الا بفضلك وكمال قدرتك فانى وامرأتى لا نصلح للولادة عادة وَلِيًّا (5) يعنى ابنا يلى امرى بعد مونى.
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قرأ ابو عمرو والكسائي الفعلين بالجزم على انهما جواب الدعاء والباقون بالرف على انهما صفتان لوليّا- والمراد ميراث العلم والنبوة دون المال لان الأنبياء لا يورثون المال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بحظ وافر- رواه احمد وابو داود وابن ماجة والدارمي من حديث كثير بن قيس ورواه الترمذي وسماه قيس بن كثير- ولهذا منع ابو بكر فاطمه رضى الله عنهما عن ميراث أبيها صلى الله عليه وسلم حين طلبته وعليه انعقد الإجماع- روى البخاري في الصحيح عن عائشة ان فاطمة والعباس أتيا أبا بكر رضى الله عنهم يلتمسان ميراثهما من النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا نورث ما تركناه صدقة وروى البخاري ايضا في الصحيح ان ازواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن ان يبعثن عثمان(6/83)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
الى ابى بكر يسئلنه ميراثهن. فقالت عائشة أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نورث ما تركنا صدقة وروى البخاري ايضا عن مالك بن أوس بن الحدثان قال انطلقت حتى ادخل على عمر فاتاه حاجبه يرفا فقال هل لك في عثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد قال نعم فاذن لهم ثم قال فهل لك في على وعباس قال نعم فقال عباس يا امير المؤمنين اقض بينى وبين هذا قال أنشدكم بالله الّذي باذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قال الارهط قد قال ذلك فاقبل على على وعبّاس فقال هل تعلمان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك والحديث وروى البخاري ايضا عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يقتسم ورثتى دينارا ما تركت بعد نفقه نسائى ومولة عاملى فهو صدقته وفي الباب حديث حذيفة بن اليمان وزبير بن العوام وابى الدرداء والروافض ينكرون حديث لا نورث وبه ينكرون على ابى بكر رضى الله عنه مع ان مقتداهم محمد بن يعقوب الكليني روى في جامعه عن ابى عبد الله جعفر الصادق بلفظ ان الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وانما أورثوا أحاديث من أحاديثهم الحديث وايضا سياق الاية لا يقتضى ميراث المال حيث قال يرتنى ويرث من ال يعقوب مع انه لا يمكن ان يرث من ال يعقوب بأجمعهم ميراث المال وايضا يبعد ان يشفق زكريا وهو نبى من الانبيا ان يرثه بنوا عمه ماله والله اعلم وَاجْعَلْهُ رَبِّ يا ربى رَضِيًّا (6) اى مرضيا ترضاه قولا وعملا- او راضيا عنك في السراء والضراء.
يا زَكَرِيَّا فيه اختصار تقديره فاستجاب الله دعاءه فقال يا زكريا- ولقد مرّ الخلاف في مد زكريا وقصوه في ال عمران إِنَّا نُبَشِّرُكَ قد مرّ الخلاف في الشديد والتخفيف فيه في ال عمران بِغُلامٍ ولد ذكر يرثك كما سألت اسْمُهُ يَحْيى صفة لغلام تولى الله سبحانه تسمينه تشريفا له لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) حال او صفية بعد صفة لغلام قال قتادة والكلبي لم يسم أحد بيحيى قبله وفيه دليل على ان التسمية بالأسامي الغريبة تعظيم للمسمى وقال سعيد بن جبير وعطاء اى لم نجعل له شبيها ومثلا كما قال الله تعالى هَلْ تَعْلَمُ له سميّا قال البغوي ومعنى؟؟؟ انه لم يكن له مثل انه لم يعص الله ولم يهم بمعصيته- قلت لعل المراد منه اجتماع اكثر الفضائل وان كان بعضها موجبا للفضل الجزئى ككونه حصورا وليس المراد كونه أفضل ممن قبله فضلّا عليا لان الخليل والكليم كانا قبله وكانا أفضل منه- وقال على بن ابى(6/84)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
طلحة عن ابن عباس اى لم يلد العواقر مثله قال البيضاوي الأظهر انه اسم أعجمي وان كان عربيا فمنقول من الفعل كيعيش وبعمرو قيل سمى به لانه حيى به رحم امه أو لأن دين الله حيى بدعوته-.
قالَ رَبِّ اى يا ربى أَنَّى اى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً حال ثانية او معطوف على ما سبق وهذا سوال استكشاف اى باىّ طريق يكون الولد نحوّل شابين او نلذهرمين وفيه استعجاب من الولادة نظرا الى ملاحظة الأسباب لا بالنظر الى كمال قدرته تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) أصله عتق كقعود فاستثقلوا توال السفتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الاولى ياء ثم قلبت الثانية وأدغمت- فقرأ الجمهور عتيّا بضم الفاء اى العين وكسر ما بعدها وحفص وحمزه والكسائي بكسرها اتباعا لما بعده ومعنى العتو الإباء من الطاعة والمراد هاهنا كمال الهرم فان الضعيف لا يطيع أعضاء نفسه ولا يستطيع ان يأتى بما يريد- وقال قتادة يريد نحول»
العظم يقال عتا الشيخ يعتو عتيّا وعسيّا إذا انتهى سنه وكبره فهو عات وعاس إذا صارا الى اليبس والجفاف.
قالَ الله تعالى او الملك المبلغ للبشارة تصديقا له كَذلِكَ اى الأمر كذلك اى كما قلت انه مستبعد بملاحظة الأسباب مستعجب لكن قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ او المعنى الأمر كما وعدت وقال ربّك هو علىّ هيّن لا احتاج فيما أريد ان افعل الى الأسباب وجاز ان يكون المعنى قال زكريا كنا لك يعنى كما سبق فهو تكرير على التأكيد- وجاز ان يكون كذلك منصوبا بقال في قال ربّك وتنازع الفعلان اعنى قال وقال في للفاعلية فاعمل الثاني وأضمر في الاول وجاز عكس ذلك يعنى قال ربّك كذلك وهو اشارة الى ما سبق يعنى نبشرك بغلام إلخ هو علىّ ميّن بان أرد عليك قوة الجماع وافتق رحم امرأتك للعلوق او اشارة الى مبهم يفسره قوله هو علىّ هيّن وَقَدْ خَلَقْتُكَ قرأ حمزة والكسائي خلقنك بالنون والالف على التعظيم والباقون بصيغة الافراد- حال من الضمير المجرور في علىّ متعلق بهيّن مِنْ قَبْلُ هذا «2» وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) بل كنت معدوما حال من كاف خلقتك- وفيه دليل على ان المعدوم ليس بشيء.
قالَ رَبِّ اى يا ربى اجْعَلْ لِي قرأ نافع وابو عمرو يفتح الياء والباقون بإسكانها آيَةً علامة تدل على حمل امراتى قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ وأيامها كما يدل عليه اية ال عمران في القصة انه لم يقدر في تلك والأيام والليالى على الكلام من الناس
__________
(1) نحل جسمه نحولا اى ذهب من مرض او سفر ورق من قاموس 12 سنه رحمه الله تعالى.
(2) الاولى في التفسير ان يقال اى من قبل هل 12؟؟؟ الفقير دهلوى. [.....](6/85)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
فاذا ذكر الله انطق لسانه وتجرد للذكر والشكر سَوِيًّا (10) حال من فاعل لا نكلّم يعنى صحيحا سليما من غير خرس ولا بكم وقال مجاهد لا يمنع من الكلام مرض- وقيل سويّا اى متتابعات والاول أصح.
فَخَرَجَ عطف على مقدر يعنى فظهرت الاية ومنع من التكلم فخرج عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ اى من المسجد فانها موضع الحرب مع الشيطان- وفي القاموس الغرفة وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الامام من المسجد والموضع الّذي ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس قال البغوي كان الناس من وراء المحراب ينتظرونه ان يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلون إذ خرج عليهم زكريا متغير اللون فقالوا مالك يا زكريا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ فاونى إليهم لقوله تعالى الّا رمزا وقال مجاهد كتب لهم في الأرض أَنْ سَبِّحُوا ان مفسرة لا وحي فان فيه معنى القول او مصدرية اى صلوا ونزّهوا ربكم بُكْرَةً غدوة وَعَشِيًّا (11) .
يا يَحْيى تقديره فحملت أم يحيى بيحيى ثمّ ولدته- ثم قلنا له حين صار أهلا للخطاب- وقال المحلى بعد ولادته بسنتين يا يحيى خُذِ الْكِتابَ اى التورية بِقُوَّةٍ اى؟؟؟ استظهار بالتوفيق وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ اى الحكمة وفهم الكتب عطف على قلنا يا يحيى صَبِيًّا (12) وهو ابن ثلاث سنين فقرأ التورية فهو صغير- ومن هاهنا قيل انه من قرا القران قبل ان يبلغ فقد اوتى الحكم صبيا قيل دعاه الصبيان الى اللعب فقال ما اللعب خلقنا- وقيل المراد بالحكم النبوة استنباه الله صغيرا.
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا عطف على الحكم يعنى أعطيناه رحمة عليه من عندنا- او رحمة وتعطفا في قلبه على أبويه وغيرهما- او هيبة ووقارا او رزقا او بركة- فى القاموس حنان كسحاب الرحمة والرزق والهيبة والوقار ورقة القلب ومنه الحنّان اسم الله تعالى بمعنى الرحيم؟؟؟ وَزَكاةً طهارة من الذنوب وقيل عنى بالزكاة الطاعة والإخلاص وقال قتادة هى العمل الصالح وهو قول الضحاك وقال الكلبي صدقة تصدق الله بها على أبويه وَكانَ تَقِيًّا (13) مسلما مخلصا مطيعا لم يعمل خطيئة ولا هم بها عطف على اتيناه.
وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
اى بارّا لطيفا محسنا إليهما وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً
اى متكبرا وقيل الجبار الّذي يضرب ويقتل على الغضب عَصِيًّا
(14) اى عاصيا ربه.
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
جملة معترضة اى سلام من الله مما يؤذيه يَوْمَ وُلِدَ
سلم من ان يناله الشيطان بما ينال به بنى آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ
من عذاب القبر وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
(15) من عذاب النار وهول يوم القيامة- قال سفيان بن عيينة بهم الإنسان في هذه الأحوال يوم ولد فيخرج هما كان فيه- ويوم يموت ويرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث حيّا فيرى نفسه في محشر(6/86)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
لم ير مثله قط- فخص يحيى بالسلامة في هذه المواطن- والظرف يعنى يوم ولد مع ما عطف عليه متعلق بالظرف المستقر اعنى عليه في سلام عليه فان قيل الظرف المستقر اما مقدر بحصل واستقر كما هو مذهب البصريين او بحاصل ومستقر كما هو مذهب الكوفيين وعلى التقديرين لا دلالة له الأعلى زمان واحد اما الماضي واما الحال فكيف يتصور ظرفية يوم ولد على التقدير الثاني والأخيرين على التقدير الاول قلنا المحققون على ان العامل في الظرف عامل معنوى وهو معنى الحصول والاستقرار من غير ملاحظة زمان ولهذا قالوا العامل في الحال في قوله زيد في الدار قائما عامل معنوى وانما يعبرونه بلفظ حصل او حاصل تجوزا كما يقال هذا زيد قائما تقديره أشير زيدا قائما فلا دلالة هاهنا على الزمان أصلا- فيجوز تعلق الظروف الزمانية الثلاثة من الماضي والحال والاستقبال به لاستشمام معنى الفعل منه- ولو سلمنا انه في الأصل متعلق بحصل او حاصل فبعد ما سد الظرف مسده وانتقل الضمير من المحذوف اليه انخلع الظرف عن معنى الزمان فجاز تعلق الظروف الثلاثة به-.
وَاذْكُرْ
عطف على مضمون الكلام السابق لان ما يذكر يذكر ليعلمه المخاطب وليحفظه فكانه متضمن لقوله اعلم هذه القصة واحفظه فالتقدير اعلم ذكر رحمة ربّك زكريّا واذكر فِي الْكِتابِ
اى في القران مَرْيَمَ
اى قصتها إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها
الظرف اما بدل من مريم بدل الاشتمال لان الوقت مشتمل على ما فيها- او بدل الكل لان المراد بمريم قصتها وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد او ظرف لمضاف مقدر وقيل إذ بمعنى ان المصدرية كقولك اكرمتك إذ لم تكرمنى فيكون بدلا لا محالة- اى اعتزلت وتباعدت منهم والنبذ إلقاء الشيء وهو يستلزم البعد مَكاناً شَرْقِيًّا
(16) اى مكانا في الدار مما يلى المشرق وكان يوما شاتيا فجلست في مشرقه تفلى رأسها وقيل كانت طهرت من الحيض فذهبت لتغسل- وقيل تخلّت للعبادة من البيت جانب المشرق قال الحسن ومن ثم اتخذ النصارى المشرق قبلة- ومكانا ظرف او مفعول به لان في انتبذت معنى أتت.
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
قال ابن عباس سترا وقيل جلست من وراء جدار وقال مقاتل وراء جبل وقال عكرمة ان مريم كانت تكون في المسجد فاذا حاضت تحولت الى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت في المسجد فبينما هى تغتسل من الحيض قد تجردت إذ عرض لها جبرئيل في صورة رجل شابّ امرد وضئ الوجه جعد الشاعر سوى الخلق كما قال الله تعالى فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
يعنى جبرئيل عليه السلام أضاف(6/87)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
الى نفسه للتشريف سمى روحا لان الدين يحيى به وبوحيه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
(17) اى رجلا شابّا امر دسوىّ الخلق- وقيل المراد بالروح عيسى «1» جاء في صورة بشر فحملت به والاول أصح فلمّا رات مريم جبرئيل يقصد نحوها نادته من بعيد و.
قالَتْ إِنِّي
قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
قالت ذلك من غاية عقتها إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
(18) وجواب الشرد محذوف اى فلا تتغرضنى او فتنتهى عنى بتعوذى وهذا كقول القائل ان كنت مومنا فلا تظلمنى اى ينبغى ان يكون إيمانك مانعا لك من الظلم فالمعنى ينبغى ان تتقى الله ويكون تقواك مانعا لك من الفجور وقيل مبنى هذا الكلام على المبالغة وتقديره ان كنت تقيّا فانى أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك- وجاز ان يكون ان نافية.
قالَ
جبرئيل إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
يعنى لست بشرا تخافينه وتتعوذين منه لكنى رسول ربّك من الملائكة أرسلني إليك لِأَهَبَ لَكِ
أسند الفعل الى نفسه مجازا لكونه سببا ظاهريّا بالنفخ في الدرع- ويجوز ان يكون حكاية لقوله تعال تقديره أرسلني ربّك إليك يقول أرسلت رسولى إليك لاهب لك بتوسط كسبه النفخ في درعك وقرأ ورش وابو عمرو لهب لك وكذلك روى الحلواني عن قالون يعنى ليهب ربّك لك غُلاماً زَكِيًّا
(19) طاهرا من الذنوب معصوما او ناميا على الخير لا يزال مرتقيا على مساعد الخير والصلاح- قال الصوفية العلية من استوى يوماه فهو مغبون.
قالَتْ مريم متعجبة من قوله لكونه على خلاف العادة أَنَّى كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ حال يعنى انّى يكون لى غلم في حال لم يمسسنى بشر اى بنكاح فان هذه الكنايات انما يطلق فيه- واما في السفاح فيقال خبث بها وفجر ونحو ذلك وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) فاجرة عطف على ما سبق وهو فعول عند المبرّد أصله يغى في قلبت واوه ياء وأدغمت ثم كسرت الغين اتباعا ولذلك لم يلحقه التاء- وعند غيره فعيل بمعنى فاعل ولم يلحقه التاء لانه للمبالغة- أرادت مريم ان الولد يكوان من نكاح او سفاح ولم يتحقق شيء منهما-.
قالَ جبرئيل الأمر كَذلِكِ يعنى يهب الله لك غلاما وان لم يمسسك بشر ولم تك بغيا يعنى بلا اب قالَ رَبُّكِ هُوَ اى خلق الولد من غير اب عَلَيَّ هَيِّنٌ جملة قال ربك اما علة لجملة محذوفة دل عليه كذلك او حال منه بتقدير قد- وجاز ان يكون كذلك
__________
(1) يأباه قوله الآتي لاهب لك غلما زكيا فافهم 12 الفقير الدهلوى(6/88)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
مقولة لقال ربّك تقديره قال جبرئيل قال ربك كنا لك يعنى أهب لك غلاما من غير اب وقوله هو علىّ هيّن في معنى العلة وَلِنَجْعَلَهُ اما عطف على قوله هو علىّ هيّن لكونه في معنى العلة يعنى تفعل ذلك لكونه هينا ولنجعله- او على علة مقدرة لجملة محل دفة ت؟؟؟ ره أهب لك غلاما لنجتبيه بوحينا ولنجعله آيَةً لِلنَّاسِ اى علامة وبرهانا على كمال قدرتنا- وقيل لنجعله عطف على لبهب على طريقة الالتفات من الغيبة الى التكلم وَرَحْمَةً مِنَّا عطف على موضع لنجعل اى لنجعله اية منا على العباد يهتدون بإرشاده او على اية اى لنجعله رحمة مِنَّا وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا (21) تعلق به قضاؤنا في الأزل او قدّر وسطر في اللوح او امرا حقيقا بان يقضى ويفعل لكونه اية ورحمة.
فَحَمَلَتْهُ عطف على محذوف تقديره فاطمانّت بقول الملك فنفخ الملك في جيب درعها فحملت حين لبست كذا قيل وقيل مد جبرئيل جيب درعها بإصبعيه ونفخ في الجيب وقيل نفخ في كم قميصها- وقيل في فيها وقيل نفخ جبرئيل نفخة من بعيد فوصل الريح إليها فحملت بعيسى عليه السلام في الحال فَانْتَبَذَتْ به اى تنحت متلبسا بالحمل مَكاناً قَصِيًّا (22) اى في مكان بعيد من أهلها قال ابن عباس ا؟؟؟ طى الوادي وهو وادي بيت المقدس فرارا من قومها ان يعيروها بالحمل من غير زوج قال البغوي اختلفوا في مدة حملها ووقت وضعها فقال ابن عباس كان الحمل والولادة في ساعة واحدة وقيل كان مدة حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء وقيل ولدت لثمانية اشهد وقيل لستة أشهر وقال مقاتل بن سليمان حمته مريم في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها وهى بنت عشر سنين وكانت حاضت حيضتين قبل ان تحمل بعيسى-.
فَأَجاءَهَا فالجاها وهو في الأصل مشتق من جاء ع؟؟؟ ى بهمزة الافعال لكنه خص بالإلجاء في الاستعمال كما استعمل اتى في اعطى الْمَخاضُ اى وجع الولا ومعيد مخضت المرأة إذ التحرك الولد في بطنها للخروج- أسند الفعل اليه مجازا يعنى أجاءها الله عند المخاض- او المعنى جاءت بسبب المخاض فالمخاض سبب داع للمجيئ فكانه أجاءها إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لنستتر به ولتعمد عليه وتتمسك به على وجع الولادة والجذع هو العرق والغصن وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدة الشتاء لم يكن لها سعف- اخرج ابن ابى حاتم عن ابى روق بلفظ انتهت مريم الى جذع ليس له راس فهزتها فجعل بها راسا وحوصا ورطبا والتعريف للجنس قال البيضاوي لعله تعالى ألهمها(6/89)
ذلك ليريها من الآيات ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب فانها غير مطاعم النساء قالَتْ استحياء من الناس ومخافة لومهم على الولادة من غير زوج يا لَيْتَنِي المنادى محذوف تقديره يا ايها المخاطب ليتنى ولعل المخاطب هاهنا نفسها او جبرئيل عليه السّلام وقيل يا للتنبيه والجملة الندائية لاستبعاد المتمنى مِتُّ قرا ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وأبو بكر بكسر الميم «1» من مات يمات بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر مثل خاف يخاف والباقون بفتحها من مات يموت بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر مثل قال يقول قَبْلَ هذا الأمر وَكُنْتُ نَسْياً قرأ حفص وحمزة بفتح النون والآخرون بكسرها- والنسيان هو ضد الحفظ وترك الإنسان ضبط ما استودع اما لضعف قلبه او عن غفلة او عن قصد حتى يمحو عن القلب ذكره- وكل نسيان ذمه الله فهو ما كان أصله عن تعمد قال الله تعالى فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا- وكلّما عذر فيه فنا؟؟؟ ليس عن تعمد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطاء والنسيان وقد يطلق النسيان على ترك الشيء على طريق الاهانة وهو المراد إذا نسب النسيان الى الله تعالى كما في قوله تعالى نسوا الله فنسيهم- والنّسى بالكسر أصله ما نسى كالنقض لما ينقض وصار في المتعارف اسما له يقل الاعتداد به- تقول العرب احفظوا انساكم اى ما من شأنه ان ينسى وبالفتح قيل لغة فيه مثل الوتر والوتر والحبس والحبس وقيل هو مصدر سمى به او وضع المفعول والمراد بانسىء اما نسى كما هو الأصل ولهذا عقبه بقوله مَنْسِيًّا (23) دفعا لتوهم انه أريد به ما يقل الاعتداد به وان لم ينس- وقال البغوي انسى ما القى ونسى ولم يذكر لحقارية ومنسيّا اى متروكا قال قتادة اى شيئا لا يذكر ولا يعرف وقال عكرمة والضحاك ومجاهد جيفة ملقاة وقيل معناه لم اخلق فان قيل لا يجوز التمني بالموت لضرّ نزل به كما ذكر في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فتمنّوا الموت ان كنتم صدقين- قلنا لعل ذلك قبل ورد النهى في شريعتهم او بغلبة الحال بلا قصد منها او لاجل خوف الفتنة ك الدين فان الإنسان عند خوف الفضيحة قد يكذب وقد يهلك نفسه والله اعلم وقد ذكرنا في سورة البقرة ان تمنى الموت لاجل خوف الفتنة جائز لا بأس به-
__________
(1) ؟؟؟ ست المسألة من زلة القلم والصحيح فرا ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وأبو بكر وابو جعفر ويعقوب بضم اليم من مات بموت بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر مثل قال يقوّل- والباقون بكسر الميم من مات يمات بكسر العين في الماضي وفتحها في الغابر مثل يخاف يخاف كما مرّ في ال عمران- ابو محمد عفا الله عنه.
.(6/90)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
فَناداها مِنْ تَحْتِها قرا ابو جعفر ونافع وحمزة والكسائي وحفص بكسر الميم في من على انها جارة وجر ما بعدها وعلى هذا فاعل نادى محذوف يعنى نادها مناد وهو جبرئيل عليه السلام كذا قال ابن عباس والسدىّ وقتادة والضحاك وجماعة قالوا كانت مريم على اكمة وجبرئيل من وراء الاكمة تحتها فناداها لما سمع جزعها وقال مجاهد والحسن هو عيسى عليه السلام لمّا خرج من بطنها ناداها. فان كان المراد به عيسى فالجنة معطوفة على جملة محذوفة معطوفة على ما سبق تقديره فرضعت حملها فناداها- وقرا الباقون بفتح الميم والتاء على انها موهولة وهى مع صلتها فاعل لنادى يعني ناواها للذى كان تحتها وهو جبرئيل عليه السلام او عيسى عليه السلام ومغير تحتها راجعت الى مريم وقيل الى التحلة أَلَّا تَحْزَنِي ان مفسرة لنادى اى لا تحزن بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومقالة الناس قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) جملة في مقام التعليل للنهى والتبري ال؟؟؟ هم الصغيل أخرجه الطبراني في معجم الصغير من حديث البراء بن عازب مرفوعا لكن قال لم يرفعه عن ابى اسحق الا ابو ستان وأعله بن عدى في الكامل عن ابى سفيان وهو معاوية بن يحيى وحكى تضعيف عن ابن معين والنسائي وابن المديني وذكر البخاري تعليتما عن البراء واستد عبد الرزاق وابن جرير وابن مردوية في تفاسيرهم عن البراء موقوفا عليه وكذا رواه الحاكم في المستدرك فقال انه صحيح على شرط مسلم وأخرجه الطبراني وابو نعيم في الحلية من حديث ابن عمران السّرى أخرجه الله لتشرب امه اى أم عيسى منه وفيه أيوب بن نهيك؟؟؟ هـ ابو زرعة وابى حاتم- قيل معنى تحتك تحت أمرك ان امرتيه بجرى جرى وان امرتيه بالإمساك امسك قال ابن عباس ضرب جبرئيل وقيل عيسى برجليه الأرض فظهرت عين ماء عذاب وجرى- وقيل كان هناك نهر يابس اجرى الله فيه الماء وحييت النخلة اليابسة فاورقت وأثمرت وأرطبت- وقيل البسرى السيّد من اسرد والمراد به العيسى عليه السّلام قال الحسن كان عيسى والله عبدا سريّا او رفيعا سيّدا-.
وَهُزِّي إِلَيْكِ اى حركى بجذب ودفع واميلى إليك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ والباء زائدة لتأكيد قال البغاء تقول العرب هزّه وهزّ به تُساقِطْ قرأ الجمهور بفتح التاء والقاف وتشديد السين وحمزة بضمهما مع التخفيف أصله يتساقط من التفاعل حذف حمزة احدى التاءين وادغمها غيره في السين وقرا حفص بضم التاء وكسر القاف من المفاعلة بمعنى أسقط والتأنيث لكون الضمير عائدا الى النخلة وقرأ يعقوب بالياء التحتانية والضمير حينئذ يعود الى الجذع عَلَيْكِ رُطَباً تمير من سة تتساقط وفيه مبالغة على قراة الجمهور ومفعولا به على قرأة حفص ويعقوب جَنِيًّا (25) يعنى الّذي(6/91)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
بلغ الغاية وجاءا وان اجتنانه قال الربيع بن هيثم ما للنفساء عندى خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل.
فَكُلِي يا مريم من الرطب وَاشْرَبِي من السرى او من الرطب وعصيره وَقَرِّي عَيْناً اى طيبى نفسا وارفضى عنك ما أحزنك- عينا تميز من نسبة قرّى يعنى لتقر عينك قبل يعنى؟؟؟ ك واشتقاقه من القرار فان العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت اليه عن النقل الى غيره ويقال قر الله عينك اى صادف فوادك ما يرضيك فيقرك بالنظر اليه من النظر الى غيره- وقبل أقر الله عليه اى أنامها يقال أقر يقر إذا سكن او من القرّ ضد الحر فان دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة- ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً ما زائدة أدغمت نون ان الشرطية فيها والنون للتأكيد يعنى فكلّما ترينّ يا مريم ارميا فيسئلك عن شأن ولدك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً اى صمتا كذلك كان ابن مسعود يقرأ يعنى نذرت الرحمن ان امسك عن الكلام في شأنه وغيره مع الاناسىّ- وقال السدى كان في بنى إسرائيل من يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم حتى يمسى- فقيل ان الله أمها ان تقول هذا اشارة لكراهة المجادلة والاكتفاء بكلام عيسى عليه السّلام فانه قاطع الطعن وقيل أمها ان تقول هذا لقدر نطقا ثم تمسك من الكلام بعده فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) بعد ان أخبرتكم بنذرى يقال كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الانس.
فَأَتَتْ بِهِ اى بعيسى قَوْمَها تَحْمِلُهُ اى حاملة إياه قيل انها ولدت ثم حملته في الحال الى قومها- وقال الكلبي حمل يوسف النجار مريم وابنها عيسى الى غار مكثت فيه أربعين يوما حتى طهرت من نفاسها- ثم حملته مريم الى قومها فكلمها عيسى في الطريق فقال يا أماه أبشري فانى عبد الله ومسيحه- فلما دخلت على أهلها ومعها صبى راوا وبكوا وخزنوا وكانوا اهل بيت صالحين وقالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) جواب قسم محذوف اى منكرا من فرى الجلد بمعنى الشق ومنه قول الحسان لافرينّهم فرى الأديم اى اشقهم بالهجاء كما يشق الأديم ومنه يستعمل في القران كثيرا بمعنى تصنّع الكذب والشرك والظلم قال الله تعالى ومن اظلم ممّن افترى على الله الكذب- وقال ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما- فان المنكر من الشرك والمعاصي يشق عصمة الرجل وصلاحه- وقيل معناه عظيما عجيبا كانه يفرى العادة اى يقطعها ويشقها- قال وعبيدة كل امر فائق من عجب او عمل فهو فرىّ- قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر فلم ار عبقريّا يفرى فريه(6/92)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
اى يعمل عمله عجيبا فالقافى العجب.
يا أُخْتَ هارُونَ اخرج ابن ابى حاتم عن السدي انهم عنوا به هارون النبي أخا موسى عليهما السّلام لانها كانت من نسله كما يقال للقيمى يا أخا تميم- وقيل لانها كانت من أعقاب من كان مع هارون النبي في طبقة الاخوة أخرجه ابن ابى حاتم عن علّى بن ابى طلحة- وقال الكلبي كان هرون أخا مريم من أبيها وكان أمثل رجل في بنى إسرائيل روى البغوي عن المغيرة بن شعبة قال شاقدمت نجران سالوق فقالوا انكم تقرءون ياخت هرون وموسى كان قبل عيسى بكذا وكذا- فلمّا قدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سالته عن ذلك فقال انهم كانوا يسمون بانبيائهم والصالحين من قبلهم- رواه مسلم في الصحيح وقال البغوي قال قتادة وغيره كان هارون رجلا صالحا عابد في بنى إسرائيل روى انه تبع جنازته يوم مات أربعون الفا كلهم يسمى هارون بنى إسرائيل سوى سائر الناس- شبهوها به على معنى انك مثله في الصلاح وليس المراد منه الاخوة في النسب كما قال الله تعالى إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ اى أشباههم- كذا اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن فتادة وانما شبهوها به تهكما او لما راو اقبل ذلك عن صلاحها وقيل كان هارون رجلا فاسقا من بنى إسرائيل عظيم الفسق فشبهوها به شتما كذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير ما كانَ أَبُوكِ عمران امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ عنّه بَغِيًّا (28) زانية فيه تقرير لكون ذلك منها امرا فريّا فان الفواحش من أولاد الصالحين افحش واعجب.
فَأَشارَتْ مريم إِلَيْهِ اى الى عيسى ان كلموه قال ابن مسعود لمّا لم يكن لها حجة اشارت اليه ليكون كلامه حجة لها وفي القصة انها لما اشارت اليه غضب القوم وقالوا بئسما فعلت تسخرين منّا قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ كان زائدة كما في قوله تعالى هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وصلة من قوله فِي الْمَهْدِ اى الظرف المستقر صَبِيًّا (29) حال من المستكن في الظرف- وجاز ان يكون كان تامة او للدوام كما مرّ في قوله تعالى كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً او بمعنى صار- والمراد بالمهد حجر امه وقيل هو المهد بعينه- يعنون انه لم نعهد عاقلا كلم صبيّا اى في المهدى صبيا لم يعقل فلم يتكلم بعد قال السدى فلمّا سمع عيسى كلامهم ترك الرضاع واقبل عليهم وقيل لما اشارت اليه ترك الثدي واتكى على يساره واقبل عليهم وجعل يشير بيمينه و.
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أشار باضافة نفسه الى الله انه عبد مكرّم ولمّا كان القوم منكرين لذلك أورده بالتأكيد- قال وهب أنا ها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى النطق بحجتك ان كنت أمرت بها- فقال عند ذلك عيسى وهو ابن أربعين يوما(6/93)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
وقال مقاتل قال يوم ولد انّى عبد الله أقرّ على نفسه بالعبودية لله عزّ وجلّ أول ما تكلم لئلا يتخذه النّاس الها آتانِيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الْكِتابَ قال الحسن الهم التورية وهو في بطن امه- وقال الأكثرون أوتي الإنجيل وهو صغير طفل وكان يعقل عقل الرجال وقيل معناه سيؤتينى الكتب اى الإنجيل وكذا قوله وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) يعنى سيجعلنى نبيا والتعبير بلفظ الماضي بجعل المحقق وقوعه كالواقع- وقيل هذا اخبار عما كتب له في اللوح المحفوظ كما قيل للنبى صلى الله عليه وسلم متى كنت نبيّا- قال كنت نبيّا وآدم بين الروح والجسد- رواه ابن سعد وابو نعيم في الحلية عن ميسرة الفجر بن سعد عن ابى الجدعاء والطبراني عن ابن عباس-.
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً البركة اما بمعنى ثبات الخير وقراره ماخوذ من برك البعير- واما بمعنى الزيادة في العطاء يقال اللهم بارك في عطائك- او بمعنى العظمة والكرم يقال هذا من بركة فلان- قيل معناه هاهنا اى نفّاعا وقال مجاهد معلما للخير وقال عطاء ادعوا الى الله والى توحيده وعبادته وقيل مباركا على من تبعني أَيْنَ ما كُنْتُ حيث كنت وفي الأرض او في السماء وحيث توجّهت- ويستفاد منه انه نفاع في السماء يستفيد منه الملائكة وَأَوْصانِي أمرني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ اى تطهير المال بأداء ما وجب فيه وتطهير النفس عن الرذائل- قال البغوي فان قيل لم يكن بعيسى مال فكيف يؤمر بالزكاة قيل معناه أمرني بالزكاة لو كان لى مال وقيل باستكثار الخير وقيل معناه أوصاني بان أمركم بالصلوة والزكوة ما دُمْتُ حَيًّا (31) ظرف للصلوة والزكوة يعنى أوصاني بان أصلي وازكى مدة حياتى.
وَبَرًّا اى بارّا بِوالِدَتِي عطف على مباركا او منصوب بفعل دل عليه أوصاني اى وكلفنى برا وبرّا حينئذ مصدر وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً اى عاتيا منكبرا شَقِيًّا (32) عاصيا بربه قيل الشقي الّذي يذنب ولا يتوب.
وَالسَّلامُ اى السلامة عَلَيَّ جملة فعليه في الأصل ولذلك عطف على فعلية سابقة جعلت اسمية للدلالة على الاستمرار يَوْمَ وُلِدْتُ من طعن الشيطان وَيَوْمَ أَمُوتُ من عذاب القبر وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (32) من الأهوال وعذاب النار او التحية من الله عند كل تغير الأحوال- واللام للعهف او للجنس وفيه تعريض باللعن على أعدائه فانه لما جعل جنس السلام على نفسه وعلى من هو في معناه بالايمان- عرض بان ضداه على من يضاده كقوله تعالى والسّلام على(6/94)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
من اتّبع الهدى فانه تعريض بانّ العذاب على من كذّب وتولّى قال البغوي فلمّا كلمهم عيسى بهذا علموا براءة مريم ثم سكت عيسى فلم يتكلم بعد ذلك حتى نبلغ المدة الّتي يتكلم فيها الصبيان-.
ذلِكَ الّذي تقدم ذكره بكونه معترفا بالعبودية وغير ذلك عِيسَى مبتدا وخبر ابْنُ مَرْيَمَ نعت او خبرثان يعنى ليس عيسى من يصفه النصارى بالالوهية فانه منحوت خيالهم- فيه تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعله الموصوف باضداد ما يصفونه- ثم عكس الحكم قَوْلَ الْحَقِّ قرأ ابن عامر وعاصم ويعفو بالنصب على انه مصدر موكد تقديره أقول قول الحقّ او على المدح- والباقون بالرفع على انه خبر مبتداء محذوف اى الكلام السابق قول الحقّ لاريب فيه واضافة القول الى الحق للبيان وقيل هذا صفة لعيسى او بدل منه او خبرثان لذلك والحق هو الله ومعناه وكلمته الله الَّذِي فِيهِ اى في امره يَمْتَرُونَ (34) اى يشكوّن ويتنازعون فقالت اليهود ساحر كذاب وقالت النصارى ابن الله او هو الله- ثم نفى عن نفسه الولد فقال.
ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ جىء بمن لتأكيد النفي سُبْحانَهُ مصدر أقيم مقام الفعل اى أسبحه سبحانا- فهو جملة معترضة للدلالة على تنزه ذاته عن اتخاذ الولد إِذا قَضى أَمْراً اى أراد ان يحدث شيئا فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) ومن ذلك احداث عيسى بلا اب ومن كان كذلك كان منزعا من مشابهة الخلق بريّا من الحاجة في اتخاذ الولد باحبال الإناث والتجزى بالعلوق- فالجملة الشرطية في مقام التعليل لنفى اتخاذ الولد- قرأ ابن عامر فيكون بالنصب على الجواب-.
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ قرأ الكوفيون وابن عامر ويعقوب بكسر الالف على الاستيناف عطفا على انّى عبد الله- واهل الحجاز وابو عمرو بفتح الالف عطفا على الصلاة والزكوة يعنى وأوصاني بان الله ربى- او مبتدأ حذف خبره تقديره وثابت انّ الله ربّى وربّكم والجملة معطوفة على انّى عبد الله مقولة للقول- فيه اشارة الى استكمال القوّة النظريّة باعتقاد التوحيد وفي قوله فَاعْبُدُوهُ اشارة الى استكمال القوّة العمليّة بإتيان المأمورات والانتهاء عن المناهي والفاء للسبية- وفي قوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) تعليل لقوله فاعبدوه وتأكيد لما سبق يعنى الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالخير-.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ يعنى اليهود والنصارى او فرق النصارى تحزّبوا اى تفرقوا ثلاث(6/95)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
فرق في امر عيسى قالت النسطورية انه ابن الله- وقالت اليعقوبية انه هو الله هبط الى الأرض ثم صعد الى السماء وقالت الملكائية هو عبد الله ورسوله وجملة فاختاف معطوفة على قال عيسى مِنْ بَيْنِهِمْ كلمة من زائدة والظرف متعلق باختلف- والمعنى من بين أصحابه او من بين قومه او من بين الناس فَوَيْلٌ الفاء للسببية ووبل في الأصل مصدر منصوب معناه هلكوا هلاكا- ثم نقلت الجملة من الفعلية الى الاسمية ورفع على الابتداء للدلالة على الاستقرار نحو سلام عليكم لِلَّذِينَ كَفَرُوا كان في الأصل متعلقا بالمصدر ثم جعل ظرفا مستقرا خبرا للمبتدا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) متعلق بويل اى من شهود يوم عظيم هو له وحسابه وجزاؤه وهو يوم القيمة او من وقت الشهود او من مكانه فيه- او من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو ان يشهد عليهم الملائكة والأنبياء وامة محمد صلى الله عليه وسلم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالفسوق والكفر- او من وقت الشهادة عليهم او من مكانها- وقيل هو ما شهدوا به في عيسى-.
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا يعنى يوم القيمة صيغة التعجب والله تعالى لا يوصف بالتعجب فالجمهور على ان المراد ان أسماعهم أبصارهم يوم القيامة جدير بان يتعجب منها لاجل شدة استماعهم وأبصارهم الحق حين لا ينفعهم الاستماع والابصار بعد ما كانوا صمّا وعميا في الدنيا منه حين كان ينفعهم لو سمعوا وابصروا- او تهديد بما سيسمعون ويبصرون يومئذ مما او عدوا به ولم يسمعوا الانذار في الدنيا والجار والجرور في محل الرفع بصيغة التعجب- وقيل هو صيغة امر امر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ان يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم والجار والمجرور على هذا في محل النصب لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ اى في الدنيا طرف متعلق بالظرف المستقر اعنى قوله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وضع الظالمين موضع الضمير اشعارا بانّهم ظلموا- حيث لم يستعملوا الاسماع والابصار حين كان ينفعهم واغفلوا أنفسهم- وسجل على إغفالهم بانهم في ضلال مبين-.
وَأَنْذِرْهُمْ يا محمد يَوْمَ الْحَسْرَةِ مفعول ثان لانذرهم- وجملة انذرهم معترضة او معطوفة على فاختلف بتقدير قلنا اى وقلنا لك انذرهم يوم الحسرة إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ او بدل من اليوم او ظرف للحسرة وذلك إذا فرغ من الحسابء ادخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار وذبح الموت عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادى بناد يا اهل الجنة فيشرفون وينظرون فيقول هل تعرفون هذا قالوا هذا الموت وكلهم قدراؤه-(6/96)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
فيذبح ثم يقول يا اهل الجنة خلود فلا موت ويا اهل النار خلود فلا موت تم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وانذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر الآية رواه البغوي وروى الشيخان في الصحيحين عنه نحوه وروى الشيخان ذبح الموت من حديث ابن عمر نحوه ولكن ليس فيه قراءة الآية وكذ روى ابو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط بسند صحيح عن انس والحاكم وابن حيان عن ابى هريرة من غير ذكر قراءة الآية وقال البيضاوي اى يوم يتحسر الناس المسيء على إساءته والمحسن على قلة إحسانه وروى الطبراني وابو يعلى عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس يتحسر اهل الجنة الا على ساعة مرت بهم ولم يذكروا الله تعالى فيها وروى البغوي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يموت الا ندم قالوا فما ندمه يا رسول الله قال إن كان محسنا ان لا يكون ازداد وإن كان مسيئا ندم ان لا يكون نزغ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ عما هم عليه من الضلال وعما يعمل بهم في الاخرة وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) اى لا يصدقون المخبر الصادق والجملتان حالان من الضمير المستكن في الظرف اى في ضلال مبين وما بينهما اعتراض او من الضمير المنصوب في أنذرهم يعنى انذرهم غافلين غير مومنين فيكون حالا متضمنا للتعليل.
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها يعنى يغنى الأرض ومن عليها ويبقى الرب وحدة كما يبقى الوارث بعد موت المورث وذكر كلمة من تغليبا للعقلاء او المعنى يسلب الله تعالى مالكية غيره تعالى عن الأرض وعمن عليها باهلاك الملاك فيكون الملك لله وحده وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) بعد ما يبعثون فنجازيهم على حسب أعمالهم وجملة إلينا يرجعون مرفوع المحل على انه خبر انا عطفا على نرث.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ 5 اى خبره إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً قيل معناه كثير الصدق وقيل بل من لم يكذب قط وقيل بل من لم يتاتى منه الكذب لتعوده الصدق وقيل بل من صدّق بقوله واعتقاده وحقق صدقه وتصديقه بفعله وقيل كثير التصديق لله تعالى فيما غاب عنه من وحدانيته وصفاته وأنبيائه ورسوله وبالبعث بعد الموت وبحسن ما امر به وتقبح ما نهى عنه وحقق تصديقه بفعله فقام على إتيان الأوامر والانتهاء عن المناهي قلت ليس المراد بكثرة التصديق كثرته باعتبار متعلقه كما يدل عليه ظاهر عبارة البغوي فان التصديق جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم توجد في كل مومن حتى انه من لم يومن بشيء منها كان(6/97)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
كافرا والقيام على إتيان الأوامر وترك المناهي حظ الصالحين منهم وليس كل صالح صديقا بل المراد بكثرة التصديق قوته وشدته وذلك بالنبوة أصالة او وراثة اى بكمال متعابعة الأنبياء ظاهرا وباطنا والاستغراق في كمالات النبوة والتجليات الذاتية الصرفة الداعية بلا حجاب بالوارثة والتبعية الا ترى انه تعالى ذكر اربعة اصناف الذين أنعم الله عليهم فقال من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وبشر غيرهم من المؤمنين بمعيتهم فالصديقون على درجة من الشهداء والصالحين وقد ذكرنا ذلك في سورة النساء في تفسير قوله تعالى أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فالصديقون هم الذين قال الله منهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين وتفسيرها في سورة الواقعة واكبر الصديقين بعد الأنبياء اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما الخواص منهم قال رضى الله عنه انا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي الا كاذب يعنى بعدي من حيث الرتبة دون الزمان وأكبرهم جميعا أبو بكر سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم صديقا وعليه انعقد الإجماع نَبِيًّا (41) من النبوة وهى ما ارتفع من الأرض وهو العالي في الرتبة بإرسال الله تعالى إياه او من النبا بمعنى الخبر يعنى المخبر من الله على اختلاف القرائتين كما مر.
إِذْ قالَ
بدل من ابراهيم وما بينهما اعتراض او متعلق بكان او صديقا نبيا لِأَبِيهِ
آزر وقد مر ذكره في سورة الانعام يا أَبَتِ
ذكر الابوة للاستعطاف ولذلك كردها لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
المفعول للفعلين منسي غير منوى اى ما لا سمع له ولا بصر وجاز ان يكون تقديره مالا يسمع شيئا ولا يبصره فيعرف حالك ويسمع ذكرك ويرى خضوعك وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
(42) من الإغناء في جلب نفع او دفع ضر فشيئا منصوب على المصدرية او المعنى لا يدفع عنك شيئا من المضار فهو منصوب على المفعولية بيّن ابراهيم عليه السلام أباه ضلالته برفق وشفقة ودعاه الى الهدى واحتج عليه باوضح حجة وبرهان قاطع مع رعاية الأدب حيث لم يصح بضلالته بل طلب منه بيان ما يقتضى عبادة الأوثان وأشار الى انهن ادنى رتبة من ان يركن إليهن عاقل فان العاقل لا يفعل فعلا الا لغرض صحيح والعبادة الّتي هى غاية التعظيم لا يستحقه الا من له الاستغناء التام والانعام انعام القادر على الاثابة والإيلام فدرة تأته ليستطيع أحد مدافعته ولهو الخالق الرازق المحيي والمميت المقتدر المعاقب المثيب فاما من كان ممكنا مثله محتاجا فى الوجود وتوابعه الى غيره وان كان مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الانعام والإيلام بل وإن كان اشرف الخلائق كالنبيين والملئكة فان العقل السليم يستنكف عن عبادته معرضا عن عبادة خالقه وجاعله(6/98)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
كذلك فانه استعارة من المستعير وطلب حاجة من المحتاج الفقير فكيف إذا كان جماد الا يسمع ولا يبصر ولا يغنى شيئا ثم دعاه الى ان يتبعه ليهديه الى الحق القويم فقال.
يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ بالله وأحكامه ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي على دينى أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) مستقيما يوصلك الى فلاح الدارين ومن كمال كربه وخلقه انه لم يسم إياه بالجهل المقرط ولا نفسه بالعلم الفائق بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون اعرف بالطريق منه ثم اظهر مضار ما كان عليه أبوه بعد ذكر خلوه عن النفع بان ما هو عليم في الحقيقة عبادة للشيطان لكونه امرا به فقال.
يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ اى لا تطعه فيما يزين لك من الكفر وعبادة الأوثان وبين وجه المضرة فيه بان الشيطان مستعص على ربك المولى للنعم كلها بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) كثير العصيان ومعلوم ان المطاوع للعاصى عاص وكل عاص حقيق بان يسترد منه النعم وينتقم منه ولذلك عقبه بتخويفه وسوء عاقبته وما يجر اليه فقال.
يا أَبَتِ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون باسكانهما أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ اى يصيبك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ ان أقمت على الكفر وإطاعة الشيطان وفي ذكر الرحمن مع ذكر العذاب اشارة الى ان العصيان يقتضى العذاب ممن هو موصوف بالرحمة الكاملة فان كمال الرحمة على المطيعين لا ينافى كمال الغضب على العاصين المتمردين فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قريبا في اللعن في الدنيا وعذاب النار في الآخرة تليه ويليك قال البيضاوي لعل اقتصاره على عصيان الشيطان من جناياته لارتفاع همته في الربانية ولانه ملاكها او لانه من حيث انه نتيجة معاداته لادم وذريته.
قالَ ابو ابراهيم أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ فتعيبها قابل استعطاف ولطفه في الإرشاد بالغظاظة وغلطة العناد فناداه باسمه ولم يقابل يابت يا بنى وأخره وقدم الخبر على المبتدأ صدّره بالهمزة لانكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب كانها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده بقوله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن مقالك فيها او عن الرغبة عنها لَأَرْجُمَنَّكَ قال الكلبي ومقاتل والضحاك لاشتمنك لابعدنك بالقول القبيح وقال ابن عباس لا ضربنك وقال الحسن لاقتلنك بالحجارة وَاهْجُرْنِي عطف على ما دل عليه لارجمنك اى فاحذرنى واهجرني مَلِيًّا (46) قال الكلبي اجتنبى طويلا وقال مجاهد وعكرمة حينا وقال سعيد بن جبير دهرا(6/99)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
واصل الملي المكث يقال تمليت حينا والملوان الليل والنهار وقال قتادة وعطاء سالما وقال ابن عباس اعتزلني سالما لا يصيبك منى معرة يقال يلى بامر كذا إذا كان كافيا.
قالَ ابراهيم عليه السلام سَلامٌ عَلَيْكَ سلام توديع ومتاركة مقابلة للسيئة بالحسنة كما هو داب الحليم في مقابلة السفيه كما قال الله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما اى سلمت منى لا اصيبك بمكروه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي قرأ نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها قال اكثر المفسرين معناه أسأل الله تعالى لك ان يرزقك التوحيد والإسلام ويوفقك للتوبة فيغفر لك فان السؤال بالمغفرة للكافر لا يجوز الا استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته وعندى ليس كذلك لما قال الله تعالى لقد كان لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه الى قوله تعالى الا قول ابراهيم لابيه لاستغفرن لك فانه صريح في انه لا يجوز اقتداء ابراهيم في الاستغفار للمشرك مع انه يجوز الدعاء للمشرك بالتوفيق فالاولى ان يقال ان ذلك كان قبل النهى عن الاستغفار للمشرك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه ابى طالب والله لاستغفرن لك ما لو انه عنه فنزلت ما كان للنبى والذين أمنوا ان يستغفروا للمشركين الآية وقد مر في سورة التوبة وايضا لو كان ابراهيم سأل الله تعالى ان يرزق أباه الايمان لرزقه الله الايمان فان كل نبى مجاب لكنه لما لم يكن إيمانه مقدرا لم يسأل ابراهيم ذلك والله اعلم إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) اى بليغا في البر والألطاف قال الكلبي عالما يستجيب لى إذا دعوته قال مجاهد عودنى الاجابة لدعائي.
وَأَعْتَزِلُكُمْ بالمهاجرة بديني عطف على ساستغفر وَما تَدْعُونَ عطف على الضمير المنصوب يعنى واعتزل ما تدعونه اى تعبدونه مِنْ دُونِ اللَّهِ قال مقاتل كان اعتزاله إياهم انه فارقهم من كوثى فهاجر منها الى الأرض المقدسة وَأَدْعُوا اى اعبد رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) اى لا أشقى ولا أخيب بدعائه وعبادته كما تنشقون أنتم بعبادة الأصنام أورد كلمه عسى تواضعا وهضما للنفس وتنبيها على ان الاجابة والاثابة تفضل من الله غير واجب عليه وان ملاك الأمر الخاتمة وهى لا تدرى.
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مهاجرا الى الشام وَهَبْنا لَهُ بدلا ممن فارقهم من الكفرة إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أقر الله عينيه باولاد كرام على الله لما ظرف متعلق لوهبنا وجملة وهبنا معطوف على محذوف تقديره(6/100)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
قال سلام عليك الى آخره فاعتزلهم فوهبنا له اسحق ويعقوب وَكُلًّا اى كلا واحد منهما.
جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ اى للثلاثة مِنْ رَحْمَتِنا وكلمة من للتبعيض اى بعض رحمتنا قال الكلبي هو المال والأولاد الكرام وقيل الكتاب والنبوة قال البيضاوي لعل تخصيصهما بالذكر لانهما شجرتا الانبيا او لانه أراد ان يذكر اسمعيل بفضله على الانفراد وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) المراد باللسان ما يصدر منه يقال لسان العرب اى لغتهم يعنى كلام صدق وهو ما يثنون عليهم اهل الملل كلهم ويفتخرون بهم استجابة لدعوته واجعل لى لسان صدق في الآخرين واضافة اللسان الى الصدق وتوصيفه بالعلو للدلالة على انهم أحقاء بما يثنون عليهم وان مجامدهم لا تخفى على تباعد الاعصار وتبدل الملل لهم ظرف مستقر مفعول ثان لجعلنا وعليا حال من الضمير المرفوع المستكن في الظرف.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قرأ الكوفيون بفتح اللام يعنى أخلصه الله واختاره لنفسه ونزهه عن التدنس بالتوجه الى غيره والباقون بكسر اللام يعنى أسلمه وجهه وأخلص نفسه لله ونزه عبادته عن الشرك الجلى والخفي وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) يعنى أرسله الله الى الخلق فصار رفيعا في الدرجة مخبرا من الله باحكامه ولذلك قدم رسولا مع كون الرسالة أخص وأعلى من النبوة.
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ وهو جبل بين مصر ومدين ويقال اسمه الزبير وذلك حين اقبل من مدين وراى النار فنودى يا موسى انى انا الله رب العلمين الْأَيْمَنِ اى جانب الّذي يلى يمين موسى عليه السلام إذ لا يمين للجبل وانما أضيف الى الطور لادنى ملابسة وكان موسى سائرا من مدين الى مصر فلما وصل الى الطور كان الطور على يمين موسى والمراد من جانبه الميمون فانه تمثل له الكلام من تلك الجهة وَقَرَّبْناهُ بذاته تعالى قربا غير متكيف من لم يذقه لم يدر نَجِيًّا (52) حال من هذا الضميرين في قربناه اى مناجيا ربه بان اسمه كلامه.
وَوَهَبْنا لَهُ اى لموسى حين دعا وقال واجعل لى وزيرا من أهلي هارون أخي مِنْ رَحْمَتِنا اى من أجل رحمتنا او بعض رحمتنا أَخاهُ مفعول لوهبنا ان كان من للسببيته وبدل منه ان كان للتبعيض هارُونَ عطف بيان لاخاه نَبِيًّا (53) حال من مفعول وهبنا يعنى وهبنا له نبوة أخيه والا فكان هارون اكبر سنامنه قال البغوي ولذلك سمى هارون هبة الله.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ بن ابراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم عليه عليهما إِنَّهُ(6/101)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
كانَ صادِقَ الْوَعْدِ
قال مجاهد لم يعد شيئا إلا وفى به وقال مقاتل وعد رجلا ان يقيم مكانه حتى يرجع اليه الرجل فاقام اسمعيل مكانه ثلثة ايام للميعاد حتى رجع اليه الرجل وقال الكلبي انتظره حتى حال عليه الحول وناهيك انه وعد الصير على الذبح حيث قال ستجدنى إنشاء الله من الصابرين فوفى به وَكانَ رَسُولًا الى جرهم نَبِيًّا (54) قال البيضاوي هذا يدل على ان الرسول لا يلزم ان يكون صاحب الشريعة فان أولاد ابراهيم عليه السلام كانوا على شريعته.
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ اشتغالا بالأهم وهو ان يقبل الرجل على نفسه ومن هو اقرب الناس اليه بالتكميل قال الله تعالى وانذر عشيرتك الأقربين وامر أهلك بالصلوة قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقيل المراد به أمته فان الأنبياء اباء الأمم بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ قال ابن عباس يريد الّتي افترض الله عليهم وهى الحنفية الّتي افترضت علينا وخص العبادتين بالذكر لان الصلاة أفضل العبادات البدنية والزكوة أفضل العبادات المالية وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) رضى الله لنبوته ورسالته ورضى عنه لاجل قيامه على طاعته واستقامة اعماله وأفعاله.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ هو سبط شيث جد ابى نوح عليهم السلام اسمه أخنوخ قيل سمى إدريس لكثرة درسه الكتب وقال البيضاوي اشتقاقه من الدرس يرده منع الصرف نعم لا يبعد ان يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثره درسه حيث انزل الله تعالى عليه ثلثين صحيحفة قال البغوي هو أول من خط بالعالم وأول من خاط الثياب وليس المخيط وكان من قبله يلبسون الجلود وأول من اتخذ السلاح وقاتل الكفار وأول من نظر في علم النجوم والحساب إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) .
وَرَفَعْناهُ عطف على كان صديقا مَكاناً عَلِيًّا (57) قيل يعنى درجة رفيعة بشرق النبوة والزلفى عند الله وقيل الجنة وقيل السماء السادسة او الرابعة روى انس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه رأى إدريس ليلة المعراج في السماء الرابعة وقد مر الحديث في سورة بنى إسرائيل وسورة النجم وكان سبب دفع إدريس على ما قاله كعب وغيره انه ساد يوما في حاجة فاصابه وهج الشمس فقال يا رب انا مشيت يوما فاصابنى من حر الشمس ما أصابني فكيف من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملاف وجد من خفة الشمس وحرها مالا يعرف فقال يا رب ما الّذي قضيت فيه قال ان عبدى إدريس سألنى ان أخفف(6/102)
عنك حملها وحرها فاجبته فقال رب اجعل بينى وبينه خلة فاذن له حتى إذا جاء الى إدريس فكان يسأله إدريس فقال انى أخبرت انك أكرم الملئكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لى اليه ليوخر اجلى فازداد شكرا وعبادة فقال الملك لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها وانا مكلمه فرفعه الى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ثم اتى ملك الموت فقال حاجتى إليك قال صديق لى من بنى آدم يشفع بي إليك لتوخر اجله فقال ليس ذلك الى ولكن ان أحببت أعلمته اجله فيقدم لنفسه قال نعم فنظر في ديوانه فقال انك كلمتنى في انسان ما أراه ان يموت ابدا قال وكيف قال لا أجده ان يموت الا عند مطلع الشمس قال فانى أتيتك وتركته هناك قال فانطلق فلا أراك تجده الا وقد مات فو الله ما بقي من أجل إدريس شيء فرجع الملك فوجده ميتا قال وهب واختلفوا في انه حى في السماء امر ميت فقال قوم هو حى وقالوا اربعة من الأنبياء احياء اثنان في الأرض الخضر والياس واثنان في السماء إدريس وعيسى وقال وهب كان يرفع لادريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع اهل الأرض في زمانه فعجب منه الملئكة واشتاق اليه ملك الموت فاستاذن ربه في زيارته فاذن له فاتاه في صورة بنى آدم وكان إدريس يصوم الدهر فلما كان وقت إفطاره دعاه الى طعامه فابى ان يأكل معه ففعل ذلك ثلث ليال فانكوه إدريس فقال له الليلة الثالثة انى أريد ان اعلم من أنت قال انا ملك الموت استأذنت ربى انى أصحبك قال فلى إليك حاجة قال ما هى قال تقبض روحى فاوحى الله اليه ان اقبض روحه فقبض روحه وردها الله تعالى بعد ساعة قال له ملك الموت ما في سوالك قبض الروح قال لا ذوق كرب الموت وعمقه فاكون أشد استعدادا له ثم قال إدريس ان لى إليك حاجة اخرى قال وما هى قال ترفعنى الى السماء لا نظر إليها والى الجنة والنار فاذن الله له في رفعه فلما قرب من النار قال لى حاجة قال وما تريد قال تسأل مالكا حتى يفتح لى ابوابها فاوردها ففعل ثم قال فكما أريتني النار فارنى الجنة فذهب إليها فاستفتح ففتح له ابوابها فادخله الجنة ثم قال ملك الموت اخرج لتعود الى مقرك فتعلق بشجرة وقال لا اخرج منها فبعث الله ملكا حكما بينهما فقال له الملك مالك لا تخرج قال لان الله تعالى قال كل نفس ذائقة الموت فقد ذقتة وقال وان منكم الا واردها وقد وردتها وقال وما هم بخارجين منها فلست اخرج فاوحى الله تعالى الى ملك الموت بأذني دخل الجنة وبامرى يخرج فهو حى هناك فذلك قوله تعالى وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا أُولئِكَ اى المذكورين في السورة من ذكريا الى إدريس الَّذِينَ أَنْعَمَ(6/103)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
اللَّهُ عَلَيْهِمْ
بانواع النعم الدنيوية والدينية مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول حال من الضمير في عليهم مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وهو إدريس عليه السلام وغيره أجمعون بدل من من النّبيين باعادة الجار او صفة او حال من النبيين ويجوز ان يكون من فيه للتبعيض لان المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية وَمِمَّنْ اى من ذرية من حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فى السفينة خصوصا وهم ماعدا إدريس فان ابراهيم كان من ذرية سام بن نوح عليهما السلام وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وهم اسمعيل واسحق وغيرهم وَإِسْرائِيلَ عطف على ابراهيم يعنى ومن ذرية اسراءيل ومنهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى
فيه دليل على ان أولاد البنات من الذرية وَمِمَّنْ هَدَيْنا اى من جملة من هديناه الى الحق يحتمل العطف على من الاولى البيانية وعلى من الثانية على تقدير كونها للتبعيض فان كان معطوفا على الاولى فهو يشتمل مريم واهل اسمعيل الذين ذكروا في قوله تعالى كان يأمر اهله بالصلوة وَاجْتَبَيْنا اى اجتبيناه من الأنام للنبوة والكرامة والهداية إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً جمع ساجد يعنى ساجدين رغبة فيها وَبُكِيًّا (58) قرأ حمزة والكسائي بكسر الباء والجمهور بالضم ومعهم حفص هاهنا جمع باك يعنى باكين رهبة الظرف متعلق بخروا وجملة خروا خبر لاولئك ان جعلت الموصول صفته واستيناف ان جعلته خبره لبيان خشيتهم من الله تعالى مع مالهم من علو الرتبة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عزّ وجلّ روى ابن ماجة واسحق بن راهويه والبزار في مسنديهما من حديث ابن ابى وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتلو القران وابكوا فان لم تبكوا فتباكوا.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعنى فعقبهم وجاء بعدهم خَلْفٌ يعنى عقب سوء يقال خلف صدق بفتح اللام وخلف سوء بسكونها أَضاعُوا اى تركوا الصَّلاةَ المفروضة وقال ابن مسعود وابراهيم أخروها عن وقتها وقال سعيد ابن المسيب هو ان لا يصلى الظهر حتى يأتي العصر ولا العصر حتى تغرب الشمس قلت ومن اضاعة الصلاة ان يأتوها على وجه مكروه او يتركوا سننها وآدابها ونحو ذلك وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ يعنى اثروا شهوات النفس على طاعة الله تعالى وأتوا بالمعاصي فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) اى يقذفون فيه والغى على ما قال البغوي(6/104)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
قول «1» وهب) فهو في جهنم بعيد تعره خبيث طبعه- وقال قال ابن عباس هو واد في جهنم وان اودية جهنم لتستعيذ من حرها أعد للزانى المصر عليه ولشارب الخمر المدمن عليها ولآكل الربا الّذي لا ينزع عنه ولاهل المعقوق ولشاهد الزور «2» - وكذا اخرج ابن مردوية من حديث ابن عباس مرفوعا وقال البغوي قال عطاء واد في جهنم يسيل قيحا ودما وقال قال كعب هو واد في جهنم أبعدها قعرا وأشدها حرّا فيبئر يسمى الهيم كلما خبت جهنم فتح الله تلك البئر فيسعر بها في جهنم- وروى البغوي عن زكريا بن ابى مريم الخزاعي قال سمعت أبا امامة الباهلي يقول ان ما بين شفير جهنم الى قعرها مسيرة سبعين خريفا من سجر يهوى او قال صخرة تهوى عظمها كعشر عشراوات عظام سمان- فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد هل تحت ذلك شيء يا أبا امامة قال نعم غىّ واثام- واخرج بن جرير وابن ابى حاتم وسعيد بن منصور وجناد؟؟؟ والفرياني والحاكم وصححه والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في هذه الاية انه قال الغى واد في جهنم وفي لفظ نهر في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم وفي لفظ نهر حميم في النار يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات واخرج البيهقي في الاية عن البراء بن عازب قال الغى واد في جهنم بعيد القعر مئتن الريح- واخرج الطبراني والبيهقي عنه مرقوما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ان صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهى الى غىّ واثام قلت ما غىّ واثام قال نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد اهل النار- وهم الذان ذكرهما الله تعالى في كتابه فسوف يلقون غيّا- من يفعل ذلك يلق أثاما- وقيل الغىّ هو الضلال ضد الهداية فالمعنى يلقون غيّا- عن طريق الجنة- وقيل كل شر عند العرب غىّ وكل خير رشاد ومن هاهنا قال الضحاك معناه يلقون خسرانا وقيل هلاكا وقيل عذابا فان كل ذلك تفسير لشر- وقيل حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه يعنى سوف يلقون جزاء غى وضلال كان عليه في الدنيا من العقائد والأعمال الفاسدة-.
إِلَّا مَنْ تابَ عما ارتكبه من اتباع الشهوات وترك الصلاة وَآمَنَ بعد ما كان كافرا وَعَمِلَ صالِحاً على ما يقتضيه الايمان- قال البيضاوي هذه الاية تدل على ان الاية في الكفرة يعنى الوعيد المذكور مختص بالكفرة يعنى يدل الاية لاجل هذه الاستثناء قلت والمستثنى من أمن وعمل صالحا لا من أمن ولم يعمل صالحا فالفاسق ايضا داخل في الوعيد المذكور كما يدل عليه ما مرّ من حديث ابن عباس في الغى انه الزاني والشارب وغير ذلك اى المصرّين على الكبائر والله اعلم-
__________
(1) وفي تفسير البغوي قال ابن وهب إلخ الفقير الدهلوي
(2) وفيه ولامراة أدخلته لا زوجها ولدا 12 الفقير الدهلوي(6/105)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
فَأُولئِكَ اشارة الى من تاب وأمن وعمل صالحا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قرا ابن كثير وابى عمرو ويعقوب وأبو بكر على البناء للمفعول من ادخل- والباقون على البناء للفاعل من دخل وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) منصوب على المفعولية اى لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم او على المصدرية اى لا يظلمون شيئا من الظلم والتنقيص- وفيه تنبيه على ان كفرهم السابق لا يضر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم في حديث عمرو ابن العاص وجملة أولئك في مقام التعليل على مضمرن الاستثناء.
جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها او منصوب على المدح او مفعول لفعل محذوف وهو اعنى- وعدن ان كان بمعنى الاقامة فما أضيف اليه نكرة وقيل هو علم لجنة معينة والاضافة اضافة الى الاسم وقيل هى علم لارض الجنة فعلى هذين التقديرين جنّت عدن معرفة وصفت بقوله تعالى الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ وعلى تقدير كونه نكرة الموصول صفة للجنة او بدل من جنات عدن والضمير العائد في الصلة محذوف تقديره الّتي وعد الرّحمن بها عباده بِالْغَيْبِ حال من عباده اى مللبسين بالغيبة عن الجنة اى غائبين عنها- او حال من الجنة اى متلبسّة بالغيبة اى غائبة عنهم او متعلق بوعد بحذف المضاف يعنى وعد الرّحمن بسبب تصديق الغيب والايمان إِنَّهُ تعالى كانَ وَعْدُهُ اى ما وعد به وهو الجنة مَأْتِيًّا (61) يأتيها أهلها لا محالة- وقيل هو مفعول بمعنى فاعل يعنى أتيا لان كل ما أتاك فقد أتيته- والحرب لا يفرق بين قول القائل اتى على خمسون سنة وقوله أتيت على خمسين سنة ووصل الىّ الخبر؟؟؟ لتالى الخبر.
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً اى فضولا من الكلام- جملة مستاففة او حال مقدرة من عباده او من الجنة او من الضمير المحذوف في الصلة العائد الى الموصوف بالموصول إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع اى لكن يسمعون تسليما من الله تعالى ومن الملئكة او من بعضهم على بعض- او المعنى لكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) قيل المراد به رفاهية العيش وسعة الرزق- قال الحسن البصري كانت العرب لا يعرف من العيش أفضل من الرزق بالبكرة والعشى فوصف الله جنته بذلك- واخرج سعيد بن منصور وابن ابى حاتم عن ابن عباس في هذه الآية انه قال يؤتون به(6/106)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
فى الاخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا- واخرج ابن المبارك عن الضحاك في هذه الاية قال على مقادير الليل والنهار- واخرج ابن المنذر عن الوليد بن مسلم قال سألت زهير بن محمد عن قوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال ليس في الجنة ليل هم في نور ابدا يعرف لهم مقدار النهار يرفع الحجب ومقدار الليل بإرخاء الحجب- واخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن الحسن وابى قلابة رضى الله عنهما قالا قال رجل يا رسول الله هل في الجنة من ليل فان الله يقول في كتابه لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قال ليس هناك ليل انما هو ضوء نور يرد الغدوّ على الرواح والرواح على الغدو- ويأتيهم ظرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة الّتي كانوا يصلون فيها وتسلّم عليهم الملائكة.
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ اى نورثها مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) اى نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه- ذكر لفظ الوراثة لكونها أقوى الأسباب في التمليك والاستحقاق من حيث انها لا تعقب بفسح ولا استرجاع ولا يبطل برد وإسقاط- وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن الّتي كانت لاهل النار لو أطاعوه زيادة في كرامتهم والله اعلم- اخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزلة فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون- واخرج ابن ماجة عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرّ من ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة- والله تعالى اعلم- اخرج البخاري عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل ما يمنعك وان تزورنا فنزلت.
وَما نَتَنَزَّلُ تقديره قل يا جبرئيل لمحمّد صلى الله عليه وسلم وما نتنزّل وللمتنزل هو النزول على مهلة لانه مطاوع نزّل من التنزيل- وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزّل بمعنى انزل إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ منصوب المحل على الظرفية او المصدرية تقديره ما نتنزّل الا وقتا متلبسا بامر ربّك على ما يقتضيه حكمته- او تنزلا الّا تنزّلا متلبسا بامره- واخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة قال ابطأ جبرئيل في النزول أربعين يوما فذكر لنحوه واخرج ابن مردوية عن انس قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم اى البقاع أحب الى الله وايها ابغض الى الله قال ما أدرى حتى اسئل- فنزل جبرئيل وكان قد ابطأ عليه فقال لقد أبطأت على حتى ظننت ان ترى على وحده فقال وما نتنزّل الّا بامر ربّك- واخرج ابو نعيم(6/107)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
فى الدلائل وابن إسحاق عن ابن عباس ان قريشا لمّا سألوا عن اصحاب الكهف وذى القرنين والروح- ولم يدر ما يجيب ورجا ان يوحى اليه- فمكث خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا.. فلما نزل جبرئيل قال له ابطأت فذكره- وذكر البغوي قول الضحاك وعكرمة ومقاتل وكلبى انه احتبس جبرئيل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه عن اصحاب الكهف وذى القرنين والروح- فقال أخبركم غدا ولم يقل إنشاء الله حتى شق على النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل جبرئيل بعد ايام فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ابطأت علّى حتى ساء ظنى واشتقت إليك- فقال له جبرئيل انى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا أحبست احتبست- فانزل الله هذه الاية وانزل والضّحى واللّيل إذا سجى ما ودّعك ربّك وما قلى لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا جملة في محل النصب على العلية للمكث في النزول او على الحال ومعنى له ما بين أيدينا بعد هذا الوقت الى قيام الساعة والى مالا نهاية له من امر الدنيا والاخرة والثواب والعقاب وَما خَلْفَنا اى قبل هذا الوقت فيما مضى من الأشياء والأحوال وَما بَيْنَ ذلِكَ اى الوقت الموجود وما فيه وقيل ما بين أيدينا اى الأرض إذا أردنا النزول- وما خلفنا اى السماء إذا نزلنا وما بين ذلك اى الهواء- يعنى لا نتنزّل في زمان دون زمان الا بامر الله اولا ننتقل من مكان الى مكان الا بامر الله وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (63) اى تاركا لك اى ما كان عدم النزول لترك الله لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة بل كان لعدم الأمر به لحكمة راها فيه-.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لامتناع النسيان عليه وهو خبر مبتدأ محذوف اى هو او بدل من ربك فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرتب على ما سبق يعنى لمّا عرفت رحمت ربّك عليك وفضله وانه لا ينبغى له ان ينساك- فاقبل على عبادته شكرا لهذه النعمة واصطبر عليها ولا فتشوش بإبطاء الوحى واستهزاء الكفار- عدى الاصطبار باللام وكان حق الكلام على عبادته للاشعار بما في العبارة من الالتذاذ- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عينى في الصلاة- او المعنى اصطبر على المشاق والشدائد وإيذاء الكفار لاجل عبادته تعالى اى لتتمكن من عبادته ولتكون عابدا لله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) قال ابن عباس يعنى مثلا يستحق ان يعبدوا يسمى انها- وقال الكلبي هل تعلم أحدا يسمى بالله غيره فان المشركين وان سموا الأصنام آلهة لم يسموا أحدا منها بالله قط- وذلك لظهور(6/108)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
احديّته وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة- وهو تقرير للامر بالعبادة فانه إذا ثبت ان لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لامره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها.
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ المراد به الجنس فان قول بعضهم يسند الى الجنس او بعضهم المعهود قال البغوي المراد به ابى ابن خلف الجمحي كان منكرا للبعث روى انه أخذ عظما باليا ففتتها وقال يزعم محمد انا نبعث. بعد ما نموت- فحكى الله تعالى قوله حيث قال أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ من الأرض او من حالة الموت حَيًّا (66) تقديم الظرف وايلاؤه حرف الإنكار لكون المنكر كون ما بعد الموت الحيوة- والظرف متعلق بفعل- دل عليه اخرج لابه لان ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله- واللام هاهنا لمجرد التأكيد من غير ارادة معنى الحال- قرأ ابن ذكوان بهمزة واحدة مكسورة على صورة الخبر يحذف همزة الاستفهام في اللفظ والمراد معنى الإنكار والباقون بهمزتين.
أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ قرأ نافع وعاصم وابن عامر بإسكان الذال وضم الكاف مخففك على وزن ينصر والباقون بفتح الكاف والذال مشددا أصله بتذكّر أدغمت التاء في الذال ومعناه يتفكر عطف على يقول أورد همزة الاستفهام بين المعطوف والمعطوف عليه لانكار الجمع بينهما وكان الأصل إدخالها على المعطوف عليه لكن أريد الدلالة على ان المنكر بالذات هو المعطوف وانكار المعطوف عليه انما نشأ منه أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) أصلا مع ان إيجاز المعدوم الصرف اعجب من جمع المواد بعد التفريق وإيجاد مثل ما كان فيها من الاعراض.
فَوَ رَبِّكَ اقسم بنفسه مضافا الى نبيه تفخيما لشان النبي صلى الله عليه وسلم والفاء للسببية فان انكارهم البعث سبب لحشرهم مع الشياطين الى جهنم لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ مفعول معه وجاز كونه معطوفا قال البغوي يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) حال من الضمير المنصوب قال ابن عباس يعنى جماعات جمع جثوة- وقال الحسن والضحاك جمع جاث اى جاتين على الركب- وقال السدىّ قائمين على الركب بضيق المقام قلت يحضر الله حول جهنم جميع الناس السعداء والأشقياء ليزداد السعداء غبطة وسرورا حين يرون ما نجاهم الله منه ويزداد الأشقياء وحسرة وغيظا من رجوع السعداء عنهم الى دار الثواب اخرج عبد الله بن احمد في زوائد الزهد والبيهقي عن عبد الله ابن نابتة قال قال رسول الله(6/109)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
صلى الله عليه وسلم كانى أراكم بالكرم دون جهنّم جاثين- ثم قرأ سفيان راوى الحديث وتر اى كلّ امّة جاثية الاية- قال ابن حجر المراد بالكرم المكان العالي الّذي يكون عليه امة محمد صلى الله عليه وسلم وكلمة ثم تدل على تراخى حضورهم حول جهنم من الحشر وذلك لاحتباسهم دهرا طويلا في الموقف قبل ان يفصل بينهم.
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ اى من كل امة واهل دين وأصله من شاع يشيع شيعا وشيوعا ومشاعا وشيوعة كديمومة وشيعانا محركة ذاع وفشا وشيعة الرجل بالكسر اتباعه والضارة والفرقة علحدة- ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث كذا في القاموس قلت وانما يطلق الشيعة على اتباع الرجل وأنصاره لان الشيوع والانتشار يستلزم التقوية والاتباع والأنصار ينتشرون ويتقوى بهم امر المتبوع قال الجوهري الشياع الانتشار والتقوية يقال شاع الحديث اى كثر وقوى وشاع القوم انتشروا وكثروا وشيعت النار بالحطب قوت بها والشيعة من يتقوى بهم الإنسان وينتشرون عنه- ولما كان كل امة اهل دين ينتشرون بدينهم ويتقوى بهم أمرهم اطلق هاهنا عليه أَيُّهُمْ أَشَدُّ اى هو أشد عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) اى استكبارا او تجاوزا عن الحد في العصيان كذا في القاموس- او نبوا عن الطاعة قال البغوي قال ابن عباس يعنى جرأة وقال مجاهد فجورا- وكلمة عنيّا تميز من نسبة أشد يعنى أبهم أشد عتوة على الرّحمن وكلمة اىّ هاهنا في محل النصب على المفعولية لننزعنّ عند سيبويه- قال البيضاوي كان حقه ان يبنى كسائر الموصولات لشبهها بالحروف كسائر الموصولات لكنه أعرب حملا على كل وبعض الملزوم الاضافة وإذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد الى أصله- وعند الخليل مرفوع اما بالابتداء على انه استفهامى وخبره أشد والجملة محكية وتقديره لننزعنّ من كلّ شيعة الذين يقال فيهم ايّهم أشدّ- او معلق عنها لننزعنّ لتضمّنه معنى التميز اللازم للعلم او مستانفة وكلمة من للتبعيض اى لننزعنّ بعض كل شيعة او زائدة والفعل واقع على كل شيعة واما لشيعة لانها بمعنى يشيع وعلى للبيان-.
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) اى لنحن اعلم بالّذين هم اولى بالصلي اوصليهم بالنار اولى- وكلمة ثم هاهنا للتراخى في الرتبة كما في قوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا- او يقال هذا الكلام كناية عن قولهم ثم لنعذبنهم(6/110)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
فلا إشكال إذا التعذيب متاخر من الإحضار قيل اعلم هاهنا بمعنى العليم لاختصاص هذا العلم به تعالى وجاز ان يقال ان الكرام الكاتبين وغيرهم من الملائكة ايضا يعلمون الفاجر من التقى والسعيد من الشقي والله تعالى اعلم بذلك- قرأ حمزة والكسائي وحفص جتيّا وعتيّا وصليّا بكسر اوائلها كما ذكرنا في قوله تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا- والجمهور بضمها وهى على وزن فعول كما ذكرنا وقوله من كلّ شيعة ان كان يعمم الكفار والعصاة من المؤمنين ففى ذكر أشد تنبيه على انه تعالى يعفو كثيرا من اهل العصيان- ولو خص ذلك بالكفار على ما يقتضيه السياق كما اختاره البغوي واكثر المفسرين فالمراد انه يميّز طوائفهم أعتاهم فاعتاهم ويطرحهم في النار على الترتيب- او يدخل كلّا طبقتها الّتي أعدت لهم اخرج ابن ابى حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضى الله عنه في الاية قال يحشر الاول على الاخر حتى إذا تكاملت العدة اثارهم ثم يبدا بالاكابر فالاكابر جرما ثم قرأ فو ربّك لنحشرنّهم الى قوله عتيّا- واخرج هناد عن ابى الأحوص في الاية قال يبدء الأكابر فالاكابر جرما-.
وَإِنْ مِنْكُمْ ان نافية ومنكم صفة لمحذوف اى ان أحد منكم إِلَّا وارِدُها اى جهنم قيل القسم مضمر اى والله ما منكم الّا واردها بدليل ما ورد في الأحاديث الا تحلة القسم وسنذكرها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً الحتم مصدر حتم الأمر إذا وجب يعنى واجبا أوجبه الله على نفسه مَقْضِيًّا (71) قضاه الله عليكم بان وعده وعدا لا يمكن خلفه............
ثُمَّ نُنَجِّي عطف على مضمون ما سبق تقديره نوردكم جميعا في جهنم ثمّ ننجّى- قرأ الكسائي بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك فيساقون الى الجنة بلا تعذيب او بعد التعذيب وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ اى الكافرين فِيها اى في النار جِثِيًّا (72) جميعا وقيل جاثين على الركب والمراد بالورود الدخول وإن كان بطريق المرور على الصراط الّذي هو على متن جهنم- وقال قوم من اهل الأهواء ليس المراد بالورود الدخول فانه من يدخلها لا ليخرج منها ابدا وقالوا النار لا يدخلها مؤمن ابدا لقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها- بل المراد به الحضور والروية فانهم يحضرون جميعا موضع الحساب وهو بقرب جهنم- ثم ينجى الله المتقين يأمرهم الى الجنة ويذر الظالمين فيها جثيا يأمرهم الى النار- نظيره قوله تعالى ولمّا ورد ماء مدين وقد كان موسى اشرف عليه ولم يدخله ويؤيده(6/111)