ما أجلك رب العالمين فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ اى ظهر وانكشف بعض أنواره قال السيوطي اظهر من نوره قدر نصف انملة الخنصر كذا فى حديث صححه الحاكم لِلْجَبَلِ قالت الصوفية التجلي ظهور الشيء فى المرتبة الثانية كظهور زيد فى المرآة وليس هو روية الذات فان الله سبحانه لما نفى الروية لموسى بالتاكيد مع كونه أقوى استعدادا من الجبل لا يتصور حصوله للجبل قال الله تعالى انا عرضنا الامانة على السموات والأرض والجبال فابين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان قال ابن عباس ظهر نوره للجبل وقال الضحاك اظهر الله من نوره الحجب مثل منخر ثور وقال عبد الله ابن سلام وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل الأمثل سم الخياط حتى صار دكا وقال السدى ما تجلى الا قدر الخنصر يدل عليه ما روى احمد والترمذي والحاكم وصححاه عن ثابت عن انس ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قرأ هذه الاية وقال هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ «1» الجبل وخر موسى صعقا واخرج ابو الشيخ بلفظ وأشار بالخنصر فمن نورها جعله دكا وحكى عن سهل بن سعد الساعدي ان الله اظهر من سبعين الف حجاب من نور قدر الدرهم فجعل الدرهم للجبل دكا جَعَلَهُ دَكًّا قرأ حمزة والكسائي دكاء بالمد والهمز بغير تنوين اى أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لاسنام لها وقرأ الباقون دكا بالتنوين بغير همز اى مدكوكا مفتتا والدك والدق اخوان قال فى القاموس الدك والدق والهدم ما استوى من الرمل قال ابن عباس جعله ترابا قال ساخ الجبل فى الأرض حتّى وقع فى البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفى صار رملا هائلا وقال الكلبي جعله دكا اى كسر اجبالا صغارا قال البغوي وقع فى التفاسير صارت لعظمته ستة اجبل وقعت ثلثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقعت ثلثة بمكة ثور وثبير وحراء قال السعاف فى تخريج البيضاوي اخرج ابن مردوية عن على بن ابى طالب رضى الله عنه فى قوله تعالى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال اسمع موسى قال له اننى انا الله قال وذاك عشية عرفة وكان الجبل بالموقف فانقطع على سبع قطع قطعة أسقطت بين يديه وهو الذي يقوم الامام عنده فى الموقف وبالمدينة ثلثة طيبة واحد ورضوى وطور سيناء بالشام وانما سمى الطور لانه طار فى الهواء الى الشام قلت هذه الرواية غريبة جدا فان تكلم الله تعالى بموسى عليه السلام وإعطائه التورية كان بالشام على طور سينا دون مكة والله اعلم وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال ابن عباس والحسن مغشيا عليه
__________
(1) ساخ سوخا وسواخا وسوخاتا سار رويدا 12 قاموس(3/406)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
وقال قتادة ميتا قال الكلبي خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة فاعطى التورية يوم الجمعة يوم النحر قال الواقدي لما خر موسى صعقا قال ملئكة السموات ما لابن عمران وسوال الروية فَلَمَّا أَفاقَ موسى من صعقته قالَ تعظيما لما راى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة والاقدام على السؤال بغير اذن وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ لان ايمان كل نبى مقدم على ايمان أمته.
قالَ الله تعالى يا مُوسى إِنِّي قرأ ابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان اصْطَفَيْتُكَ اى اخترتك عَلَى النَّاسِ الموجودين فى زمانك بِرِسالاتِي قرأ نافع وابن كثير برسالتى على التوحيد والباقون على الجمع وَبِكَلامِي اى بتكليمى إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من الرسالة وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وفى القصة ان موسى بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد ان ينظر اليه لما غشى وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له امرأته انا ايم منك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فاخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرت لله ساجدة وقالت ادع الله ان يجعلنى زوجتك فى الجنة قال ذلك لك ان لم تتزوجى بعدي فان المرأة لاخر أزواجها وروى البغوي بسنده عن كعب الأحبار ان موسى نظر فى التورية فقال رب انى أجد امة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله وبالكتاب الاول وبالكتاب الاخر ويقاتلون اهل الضلالة حتّى يقاتلون الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي قال يا موسى هى امة محمد صلى الله عليه واله وسلم قال رب انى أجد امة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا امرا قالوا نفعل إنشاء الله فاجعلهم أمتي قال هى امة محمد صلى الله عليه واله وسلم قال رب انى أجد امة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفع لهم فاجعلهم أمتي قال هى امة محمد صلى الله عليه واله وسلم فقال انى أجد امة إذا اشرف أحدهم على شرف كبر الله وإذا هبط واديا حمد الله الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من اثار الوضوء فاجعلهم أمتي قال هى امة محمد صلى الله عليه واله وسلم فقال رب انى أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة مثلها وان عملها ضعف عشر أمثالها الى سبعمائة ضعف وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب(3/407)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
عليه وان عمل كتبت له سيئة مثلها فاجعلهم أمتي قال هى امة احمد صلى الله عليه واله وسلم فقال رب انى أجد امة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب من الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد منهم الا مرحوما فاجعلهم أمتي قال هى امة احمد صلى الله عليه واله وسلم فقال انى أجد امة مصاحفهم فى صدورهم يلبسون ألوان ثياب اهل الجنة يصفون فى صلوتهم صفوف الملئكة أصواتهم فى مساجدهم كدوى النحل لا يدخل النار أحد منهم ابدا الا من برى من الحسنات مثل ما برى الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمتي قال هى امة احمد صلى الله عليه واله وسلم فلما عجب موسى من الخير الذي اعطى الله محمدا صلى الله عليه واله وسلم وأمته قال يا ليتنى من اصحاب محمد صلى الله عليه واله وسلم فاوحى الله عز وجل بثلث يرضيه بهن يا موسى انى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامي الى قوله ساوريكم دار الفاسقين ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون قال فرضى موسى عليه السلام كل الرضاء.
وَكَتَبْنا لَهُ اى لموسى فِي الْأَلْواحِ كانت سبعة او عشرة قال ابن عباس يعنى الواح التورية وفى الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنى عشر ذراعا أخرجه ابو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده وجاء فى الحديث خلق الله عز وجل آدم عليه السلام بيده وكتب التورية بيده وغرس شجرة طوبى بيده وقال الحسن كانت الألواح من خشب وقال الكلبي كانت من زبرجدة خضراء وقال سعيد بن جبير كانت من ياقوت احمر وكذا اخرج الطبراني وابو الشيخ عن كعب وقال الربيع بن انس كانت الألواح من زبرجد وقال ابن جريح كانت زمردا امر الله تعالى جبرئيل عليه السلام حتى جاء بها من عدن فكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور واخرج ابو الشيخ عن ابن جريج انها كانت من زمرد او زبرجد قال وهب امر الله بقلع الألواح من صخرة صماء لينها الله تعالى له فقطعها بيده ثم شققها بيده وسمع موسى عليه السلام صرير القلم بالكلمات العشرة وكان ذلك فى أول يوم من ذى القعدة وكانت الألواح عشرة اذرع على طول موسى عليه السلام وقال مقاتل ووهب وكتبنا فى الألواح كنقش الخاتم وقال الربيع بن انس نزلت التورية وهى سبعون وقر بعير يقرء الجزء منه فى سنة لم يقرأه الا اربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى وقال الحسن هذه الاية فى التورية الف اية يعنى قوله تعالى وكتبنا له فى الألواح مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مما يحتاجون اليه من امر الدين مَوْعِظَةً الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته قال فى القاموس وعظه موعظة ذكره(3/408)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
ما يلين قلبه من الثواب والعقاب وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ اى تبيانا لكل شىء من الأمر والنهى والحلال والحرام والحدود والاحكام بدل من الجار والمجرور اى كتبنا كل شىء من المواعظ وتفصيل الاحكام فَخُذْها عطف على كتبنا بإضمار القول او بدل من قوله فخذ ما أتيتك والضمير راجع الى الألواح او الى كل شىء فانه بمعنى الأشياء او للرسالات بِقُوَّةٍ اى بجد واجتهاد وقيل بقوة القلب وصحة العزيمة لانه إذا اخذه بضعف النية رده الى الفتور وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها اى بما هو بالغ فى الحسن مطلقا وليس افعل للتفضيل بالاضافة فان كل ما هو فى كتاب الله حسن بالغ فى الحسن لا يحتمل النقيض ولا يجوز ان يكون شىء احسن منه فهو كقولهم الصيف أحر من الشتاء كذا قال قطرب وقال عطاء عن ابن عباس يحلوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا ويتعظوا بامثالها ويعملوا بحكمها ويقفوا عند متشابهها وقيل المراد بأحسنها الفرائض والنوافل يعنى ما يستحق عليه الثواب وما دونها المباح لانه لا يستحق عليها الثواب وقيل بالعزيمة دون الرخصة وبأحسن الامرين فى كل شىء كالعفو احسن من القصاص والصبر احسن من الانتصار سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ تحذيرا من ان لا تأخذوا بكتاب الله تعالى فتكونون مثلهم والمراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها كذا قال عطية العوفى وقال السدى مصارع الكفار وقال الكلبي وقتادة ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين اهلكوا وقال مجاهد والحسن وعطاء دار الفاسقين مصيرهم فى الاخرة يعنى جهنم.
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ قرأ ابن عامر وحمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها والمعنى ساصرف عن التفكر فى آياتي التي فى الآفاق والأنفس وعن الاعتبار بها وقيل معناه ساصرفهم عن ابطال آياتي المنزلة والمعجزات وان يطفئوا نور الله بأفواههم كما فعل فرعون فعاد عليه باعلائها او باهلاكهم والله متم نوره ولو كره الكافرون او المعنى ساصرف عن قبول آياتي المنزلة فى الكتاب والتصديق بها بالحرمان عن الهداية لعنادهم الحق نظيره قوله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم كذا قال ابن عباس وقال سفيان سامنع عن فهم القران ودرك عجائبه الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ ويتجبرون على عبادى ويحاربون أوليائي بِغَيْرِ الْحَقِّ صلة يتكبرون اى يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل او حال من فاعله فحكم الاية عام بجميع الكفار وقيل حكم الاية خاص وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها الله تعالى(3/409)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
موسى عليه السلام وَإِنْ يَرَوْا هؤلاء المتكبرون كُلَّ آيَةٍ منزلة او معجزة او منصوبة لدرك الحق لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم او اختلال عقلهم بسبب انهماكهم فى الهوى والتقليد وبما طبع الله على قلوبهم وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ اى الهدى والسداد بإراءة الأنبياء والعلماء لا يَتَّخِذُوهُ لانفسهم سَبِيلًا لاستيلاء الشيطنة عليهم قرأ حمزة والكسائي الرشد بفتح الراء والشين والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان وثالثهما الرشاد كالسقم والسّقم والسّقام وكان ابو عمر يفرق بينهما فيقول الرشد بالضم الصلاح فى الأمر وبالفتح الاستقامة فى الدين وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ اى طريق الضلالة بإراءة النفس والشيطان يَتَّخِذُوهُ لانفسهم سَبِيلًا ذلِكَ الصرف محله الرفع بالابتداء والظرف المستقر بعده خبره أو محله النصب على المفعولية مفعولا مطلقا من قوله تعالى ساصرف والظرف متعلق به بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة والمعجزات وعدم تدبرهم فى خلق الأرض والسموات وَكانُوا عَنْها اى عن الآيات غافِلِينَ لاهين ساهين او غافلين غفلة عناد.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى لقائهم الدار الاخرة او ما وعد الله فى الاخرة من الثواب والعقاب حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة من انفاق المال وصلة الرحم وغير ذلك فهم لا ينتفعون بها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء هَلْ يُجْزَوْنَ الاستفهام للانكار اى ما يجزون فى الاخرة إِلَّا جزاء ما كانُوا يَعْمَلُونَ فى الدنيا عملا معتدا به عند الله تعالى وهو ما كان لله تعالى مخلصا له الدين وهم لم يعملوا كذلك او المعنى ما يجزون الاجزاء ما كانوا يعملون من السيئات فان أعمالهم كلها سيات ليس شىء منها حسنة فان العبادة إذا كان لغير الله تعالى فهو أسوأ السيئات والانفاق وصلة الرحم إذا لم يكن لله تعالى كان اعانة للكفار على الكفر ومعاداة الله تعالى او خطأ لنفسه.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ اى بعد ذهابه لميقات ربه بعد ثلثين ليلة إذا زيدت فى الميقات عشرا مِنْ حُلِيِّهِمْ التي استعاروها من قوم فرعون بعلة عرس حين هموا بالخروج من مصر فبقى عندهم واضافتها إليهم لانها كانت فى أيديهم وملكوها بعد هلاكهم قرأ حمزة والكسائي بكسر الحاء بالاتباع كدلى والباقون غير يعقوب بالضم وهو جمع حلى كثدى وثدى بالفتح والضم وقرأ يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام وكسر الياء مخففا على الافراد بارادة الجنس عِجْلًا مفعول أول لاتخذ والمفعول الثاني محذوف(3/410)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
يعنى الها يعبدونه جَسَداً اى بدنا بدل من عجلا قال ابن عباس والحسن وقتادة وجماعة من المفسرين صوغه السامري فالقى فى فمه من تراب اثر فرس جبرئيل عليه السلام فصار ذا لحم ودم كما قال الله تعالى حكاية عن السامري بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من اثر الرسول فنبذتها الاية وسنذكر قصة السامري وسبب معرفته جبرئيل فى سورة طه إنشاء الله تعالى لَهُ خُوارٌ اى صوت البقر قيل ما خار إلا مرة واحدة وقيل كان يخور كثيرا فكلما خار سجدوا له وإذ سكت رفعوا رؤسهم وقال وهب كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك وقال السدى كان يخور ويمشى وقيل كان جسدا من الذهب لا روح فيه صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح فى جوفه فيسمع منه صوت كخوار البقر وهذا القول يرده ما تلونا أَلَمْ يَرَوْا هؤلاء الحمقاء حين اتخذوه الها وعبدوه أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يعنى لا يقدر على ما يقدر عليه احاد البشر فكيف حسبوه خالق السموات والأرض وما فيهما من الأجسام والقوى اتَّخَذُوهُ تكرير للذم اى اتخذوه الها وَكانُوا ظالِمِينَ اى واضعين الأشياء فى غير مواضعها ومن ثم وضعوا العبادة للعجل فى موضع الاستخدام.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ سقط مسند الى الظرف وهو كناية من ان اشتد ندمهم فان النادم المتحسر يعض يده غما فيصير يده مسقوطا فيه يقول العرب لكل نادم قد سقط فى يده وقال الزجاج معناه سقط الندم فى أيديهم اى فى قلوبهم وأنفسهم كما يقال حصل فى يده مكروه وان استحال ان يكون فى اليد تشبيها لما يحصل فى القلب والنفس بما يحصل فى اليد ويرى بالعين والحاصل انهم ندموا على عبادة العجل حين جائهم وعاتبهم موسى عليه السلام وَرَأَوْا علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتخاذ العجل تابوا وقالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بقبول التوبة وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن الخطيئة قرأ حمزة والكسائي ترحمنا وتغفر لنا بالتاء الفوقانية على الخطاب ونصب ربنا على النداء والباقون بالتحتانية على الغيبة والرفع على الفاعلية لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد انقضاء أربعين ليلة الميقات غَضْبانَ من جهتهم أَسِفاً قال ابو الدرداء يعنى شديد الغضب وقال ابن عباس والسدى شديد الحزن وفى القاموس الأسف أشد الحزن وأسف عليه غضب قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي اى فعلتم فعلا مذموما حيث عبدتم العجل والخطاب لعبدة العجل او قمتم مقامى قياما مذموما حيث لم تكفوا العبدة من بنى إسرائيل والخطاب لهرون(3/411)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
عليه السلام والمؤمنين معه وما نكرة موصوفة تفسير للمستكن فى بئس والمخصوص بالذم محذوف اى بئس خلافة خلفتمونى خلافتكم مِنْ بَعْدِي اى بعد ذهابى لميقات ربى او بعد ما رأيتم منى من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعنى تركتموه غير تام ولما تضمن عجل معنى سبق عدى تعديته او المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتى وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد الأنبياء واصل العجلة طلب الشيء قبل حينه وَأَلْقَى الْأَلْواحَ التي جاء بها فيها التورية القاها على الأرض من شدة الغضب لربه اخرج ابن ابى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال اعطى موسى التوراة فى سبعة الواح من زبرجد فيها تبيان كل شىء وموعظة فلما جاء بها ورأى بنى إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمى بالتورية من يده فتخطت يعنى تكسرت فرفع الله تعالى منها ستة اسباع وبقي سبع قال البغوي فرفع ما كان من اخبار الغيب وبقي ما فيه الموعظة والاحكام والحلال والحرام عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليس الخبر كالمعاينة ان الله تعالى اخبر موسى بما صنع قومه فى العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا القى الألواح فانكسرت رواه احمد والطبراني فى الأوسط والحاكم بسند صحيح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون اى بشعر راسه قال البغوي بذوائبه ولحيته يَجُرُّهُ إِلَيْهِ توهما بانه قصر فى كفهم وهارون كان اكبر من موسى عليهما السلام بثلث سنين وأحب الى بنى إسرائيل من موسى لانه كان لين الغضب قالَ هارون ابْنَ أُمَّ ذكر الام لرفقه وكان من اب وأم قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم بكسر الميم وأصله يا ابن أمي حذف حرف النداء ثم حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف الى ياء المتكلم والباقون بفتحها زيادة فى التخفيف لطوله وتشبيها بخمسة عشر إِنَّ الْقَوْمَ يعنى عبدة العجل اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا وهموا وقاربوا ان يَقْتُلُونَنِي يعنى بذلت سعى فى كفهم حتى قهرونى واستضعفوني وقاربوا ان يقتلوننى فلا تتوهم التقصير فى كفهم منى فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ اى لا تفعل بي ما يفرحوا به والشماتة الفرح ببلية العدو كذا فى القاموس وَلا تَجْعَلْنِي فى موجدتك علىّ والانتقام مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى عبدة العجل.
قالَ موسى رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت بأخي وَلِأَخِي ان فرط فى كفهم والظاهر ان المقصود الاستغفار لاخيه ضم اليه نفسه ترضية له ودفعا للشماتة(3/412)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
عنه ولان سنة الاستغفار لغيره ان يبدأ بالاستغفار لنفسه دفعا لتزكية النفس ولان الدعاء بعد الاستغفار قرب الى الاجابة فان الذنوب مانعة من الاجابة ومن ثم ورد فى دعاء الجنازة اللهم اغفر لحينا وميتنا قدم الاستغفار للاحياء لكونه منهم وفى الدعاء لاهل القبور يغفر الله لنا ولكم وقال الله تعالى لنبيه مع كونه معصوما واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات حتى يبقى منه سنة فى أمته وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ اى عصمتك فى الدنيا ورحمتك فى الاخرة وبمزيد الانعام علينا فى الدارين وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فانت ارحم إلينا من أنفسنا علينا.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ الها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ اى عذاب وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهى خروجهم من ديارهم فعلى هذا السين فى قوله سينالهم للاستقبال بالنسبة الى زمان غضب موسى عليه السلام عليهم على سبيل الحكاية وقال عطية العوفى ان الذين اتخذوا العجل أراد به اليهود الذين كانوا فى زمن النبي صلى الله عليه واله وسلم عيرهم بصنيع ابائهم وقال بالنسبة إليهم سينالهم فى الاخرة غضب من ربهم وينالهم ذلة فى الدنيا يعنى ما أصاب بنى قريظة والنضير وغيرهم من القتل والاجلاء قال ابن عباس هو الجزية وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال ابو قلابة هو والله جزاء كل مفتر الى يوم القيامة ان يذله الله تعالى قال سفيان بن عيينة هذا فى كل مبتدع الى يوم القيامة.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا يعنى الذين عبدوا العجل من قوم موسى ثم تابوا وأمنوا وقتلوا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وان كان الذنوب عظيمة متكثرة ان مع اسمها وخبرها خبر للموصول.
وَلَمَّا سَكَتَ اى سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار هارون وندامة قومه وتوبتهم وفى هذا الكلام مبالغة من حيث انه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالامر به والمغرى عليه حق عبر عن سكونه بالسكوت أَخَذَ الْأَلْواحَ التي القاها وقد ذهب ستة اسباعها وَفِي نُسْخَتِها قيل أراد بها اللوح لانها نسخت من اللوح المحفوظ وقيل ان موسى لما القى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة اخرى وقيل معناه فيما نسخ فيها اى كتب فهو فعلة بمعنى المفعول كالخطبة وقال عطاء فيما بقي منها قال ابن عباس وعمرو بن دينار ولما القى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت اليه(3/413)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
فى لوحين هُدىً من الضلالة وبيان للحق وَرَحْمَةٌ من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ اى يخافون ربهم اللام فى لربهم زيدت للتاكيد كقوله تعالى ردف لكم وقال الكسائي دخلت اللام لضعف الفعل بالتأخير كقوله للرويا تعبرون وقال قطرب اللام بمعنى من يعنى من ربهم يرهبون وقيل أراد راهبون لربهم وقيل اللام للتعليل والتقدير يرهبون من معاصى لربهم.
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ اى من قومه حذف الجار وأوصل الفعل اليه فانتصيب بنزع الخافض سَبْعِينَ رَجُلًا ممن لم يعبدوا العجل لِمِيقاتِنا اى للوقت الذي وعدنا بإتيانهم روى انه تعالى امر موسى ان يأتيه فى سبعين من بنى إسرائيل يعتذرون اليه من عبادة العجل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال ان لمن قعد اجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين فلما دنوا من الجبل غشيهم غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه ثم انكشف الغمام فاقبلوا عليه فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فاخذتهم الرجفة الصاعقة او رجفة الجبل فصعقوا منها اى ماتوا كذا قال السدى وقال ابن عباس ان السبعين الذين قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فاخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين اخذتهم الرجفة وانما امر الله سبحانه موسى عليه السلام ان يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم وبرزهم ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا ان قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فانكر الله ذلك من دعائهم فاخذتهم الرجفة وقال وهب لم تكن تلك الرجفة موتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة اخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت ان تبين منهم مفاصلهم فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال السيوطي قال ابن عباس اخذتهم الرجفة اى الزلزلة الشديدة لانهم لم يزالوا قومهم حين عبدوا العجل فلما رأى موسى عليه السلام ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربه تبارك وتعالى قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ تمنى هلاكهم وهلاكه قبل ان يرى ما راى بسبب اخر او عنى به انك قد قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم او باغراقهم فى البحر وغيرها فترحمت عليهم بالانقاذ منها فان ترحمت عليهم مرة فارحم عليهم مرة اخرى فانه(3/414)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
لا مبعد من عميم إحسانك قيل معناه لو شئت أهلكتهم قبل خروجهم ليعاين بنوا إسرائيل ذلك ولا يتهمونى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من التجاسر على طلب الروية الذي فعله بعضهم او عبادة العجل قال المبرد قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام استعطاف اى لا تهلكنا وقد علم موسى ان الله اعدل من ان يأخذ بجريمة أحد غيره إِنْ هِيَ يعنى طلبا لروية او عبادة العجل إِلَّا فِتْنَتُكَ اى ابتلاءك واختيارك حين اسمعتهم كلامك فطمعوا رويتك او إذا أوجدت فى العجل خوارا فزاغوا وخذلت أنفسهم وفيه اشارة الى قوله تعالى انا فتنّا قومك من بعدك فقال موسى تلك الفتنة التي أخبرتني بها أضللت بها قوما فافتتنوا وهديت قوما عصمتهم حتى ثبتوا على دينك تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ إضلاله بخذلانه حتى يتجاوز عن حده وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته فتقوى بها إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا ناصرنا وحافظنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ
تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
وَاكْتُبْ لَنا اى أوجب لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً اى توفيق الطاعة والنعمة والعافية وَفِي الْآخِرَةِ المغفرة والرحمة والجنة إِنَّا هُدْنا من هاد يهود إذا رجع يعنى تبنا إِلَيْكَ قال قتادة وابن جريح ومحمد بن كعب انما اخذتهم الرجفة لانهم لم يزابلوا قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر والله اعلم قالَ الله تعالى فى جواب دعاء موسى عَذابِي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من خلقى تعذيبه وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ عمت كُلَّ شَيْءٍ فى الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره وانما انتفت فى الاخرة عن الكفار لانهم أبوا ان يرحمهم الله تعالى وجعلوا له شركاء قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كل أمتي يدخلون الجنة الا من ابى قيل له ومن ابى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصانى فقد ابى رواه البخاري قال عطية العوفى وسعت كل شىء ولكن لا يجب الا للذين يتقون وذلك لان الكافرين يرزقون ويدفع عنهم بالمؤمنين لسعة رحمة الله بالمؤمنين فيعيشون فيها فاذا صاروا الى الاخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضئ بنا وغيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه فَسَأَكْتُبُها اى ساجعلها واجبا فى الاخرة منكم يا بنى إسرائيل لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ خصها بالذكر لكونها أشق على النفوس وَالَّذِينَ(3/415)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
هُمْ بِآياتِنا
اى بجميع كتبنا يُؤْمِنُونَ لا يكفرون بشئ منها ولما كان شريعة موسى عليه السّلام فى علم الله تعالى منسوخة نبه الله تعالى على ذلك وحثهم على اتباع خاتم النبيين وقال.
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ مبتدأ خبره يأمرهم او خبر مبتدأ تقديره هم الذين او بدل من الذين يتقون بدل البعض او الكل سماه رسولا بالاضافة الى الله تعالى ونبيا بالاضافة الى العباد الْأُمِّيَّ يعنى محمدا صلى الله عليه واله وسلم منسوب الى الام يعنى هو على ما ولدته امه لم يكتب ولم يقرأ قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انا امة امية لا نكتب ولا نحسب الحديث متفق عليه عن ابن عمر وصفه الله به تنبيها على ان كمال علمه مع حاله أحد معجزاته وقيل منسوب الى الامة لكثرة أمته عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انا اكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وانا أول من يقرع باب الجنة رواه مسلم أصله أمتي فسقطت التاء فى النسبة كما فى المكي والمدني وقيل هو منسوب الى أم القرى يعنى مكة وبهذا الكلام خرج من هذا الحكم من بنى إسرائيل الذين أدركوا النبي صلى الله عليه واله وسلم ولم يؤمنوا وبقي فى الحكم من لم يدرك زمن...... النبي صلى الله عليه واله وسلم لانه ما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة اخرج ابن حبان عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان لكل نبى يوم القيمة منبرا من نور وانى على أطولها وانورها فيجئى مناد ينادى اين النبي الأمي فيقول الأنبياء كلنا نبى أمي فالى أينا أرسل فيرجع الثانية فيقول اين النبي الأمي العربي فينزل محمد صلى الله عليه واله وسلم حتى يأتي باب الجنة فيقرعه فيقال من فيقول محمد واحمد فيقول أوقد أرسل اليه فيقول نعم فيفتح له فيتجلى له الرب ولا يتجلى بشئ قبله فيخر لله ساجد او يحمده بمحامده لم يحمده بها أحد بعد فيقال ارفع راسك وتكلم واشفع تشفع هذا الحديث يدل على ان الأمي مشتق من الامة حتّى يصح قولهم كلنا نبى أمي اى ذى امة وخص النبي صلى الله عليه واله وسلم بهذا الاسم لكثرة أمته الَّذِي يَجِدُونَهُ اى بنو إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اسما وصفة عن انس ان غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى الله عليه واله وسلم فمرض فاتاه النبي صلى الله عليه واله وسلم فوجد أباه عند راسه يقرأ التورية فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يا يهودى أنشدك بالله الذي انزل التورية على موسى(3/416)
هل تجد فى التورية نعتى وصفتى ومخرجى قال لا قال الفتى بلى والله يا رسول الله انا نجد لك فى التورية نعتك وصفتك ومخرجك وانى اشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اقيموا هذا من عند راسه وولوا أخاكم وعن على رضى الله عنه ان يهوديا كان له على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم دنانير فتقاضى النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال له يا يهودى ما عندى ما أعطيك فقال انى لا أفارقك يا محمد حتى تعطينى فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذا اجلس معك فجلس معه فصلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة والغداة وكان اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يتهددونه ويتواعدونه ففطن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بالذي يصنعون به فقالوا يا رسول الله يهودى يحبسك فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم منعنى ربى ان اظلم معاهدا وغيره فلما ترجل «1» النهار قال اليهودي اشهد ان لا اله الا الله واشهد انك رسول الله وشطر مالى فى سبيل الله اما والله ما فعلت بك الذي فعلت بك الا لا نظر الى نعتك فى التورية محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ليس بفظ «2» ولا غليظ ولا سخاب «3» فى الأسواق ولا متزى بالفحش ولاقوال للخنا اشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله وهذا مالى فاحكم فيه بما أراك وكان اليهودي كثير المال روى الحديثين البيهقي فى دلائل النبوة وعن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن
العاص قال قلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى التورية قال أجل والله انه لموصوف فى التورية ببعض صفته فى القران يا ايها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا الأميين أنت عبدى ورسولى سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء بان يقولوا لا اله الا الله ونفتح بها أعينا عمياء واذانا صماء وقلوبا غلفاء رواه البخاري وعن عطاء بن يسار عن ابن سلام نحوه رواه الدارمي وعن كعب الأحبار يحكى عن التورية قال نجد مكتوبا محمد رسول الله عبدى المختار لافظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ولا يجزئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله
__________
(1) ترجل النهار اى ارتفع النهار شبيها بارتفاع الرجل من الصبى 12 نهايه
(2) فظ سيئى الخلق 12
(3) السخب الصياح 12(3/417)
فى السراء والضراء يحمدون الله فى كل منزله ويكبرونه على كل شرف رعاة للشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها يتبارزون على اتصافهم ويتوضؤن على أطرافهم مناديهم ينادى فى جو السماء صفهم فى القتال وصفهم فى الصلاة سواء لهم بالليل دوى كدوى النحل رواه البغوي بسنده فى معالم التنزيل وذكره فى المصابيح ورواه الدارمي مع تغيير يسير وعن عبد الله ابن سلام رضى الله عنه قال مكتوب فى التورية صفة محمد وعيسى بن مريم يدفن معه رواه الترمذي قال ابو مودود وقد بقي فى البيت موضع قبر يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعنى ما يعرف حسنه شرعا وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يعنى ما ينكره الشرع والعقل السليم والطبع المستقيم من الشرك وكفر المنعم وعصيانه وقطع الأرحام وَيُحِلُّ لَهُمُ اى لبنى إسرائيل الطَّيِّباتِ التي حرم الله عليهم فى التورية جزاء لبغيهم كالشحوم ولحوم الإبل والتي حرم اهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ كالدم والخمر والخنزير والميتة والربوا والرشوة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ قرأ ابن عامر اصارهم على الجمع والباقون على الافراد واصل الإصر الثقل الذي يأصر اى يحبس صاحبه عن الحركة لثقله قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدى ومجاهد يعنى العهد الثقيل الذي أخذ على بنى إسرائيل للعمل بما فى التورية قال قتادة يعنى التشديد الذي كان عليهم فى الدين وَالْأَغْلالَ يعنى الأثقال الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فى شريعة موسى عليه السلام مثل قتل النفس فى التوبة وقطع الأعضاء الخاطية وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض وتعيين القصاص فى القتل العمد والخطأ وتحريم أخذ الدية وترك العمل فى السبت وعدم جواز الصلاة فى غير الكنائس وغير ذلك من الشدائد التي تشبه بالاغلال التي تجمع الأيدي الى الأعناق فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ اى بالنبي الأمي محمد صلى الله عليه واله وسلم وَعَزَّرُوهُ اى عظموه بالتقوية وَنَصَرُوهُ لى على الأعداء وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ اى مع نبوته يعنى القران سماه نورا لانه باعجازه ظاهر امره مظهر غيره او لانه كاشف الحقائق مظهر لها ويجوز ان يكون معه متعلقا باتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون اشارة الى اتباع الكتاب والسنة أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الابدية الى هاهنا جواب لدعاء موسى عليه السلام قال البغوي قال نوف البكائى الحميرى اختار موسى قومه سبعين رجلا قال الله تعالى لموسى اجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث ادركتكم الصلاة(3/418)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
الا عند مرحاض «1» او حمام او قبر واجعل السكينة فى قلوبكم وأجعلكم تقرءون التورية عن ظهور قلوبكم يقرأها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير فقال ذلك موسى لقومه فقالوا لا نريد ان نصلى الا فى الكنائس ولا نستطيع ان تقرأ التورية عن ظهور قلوبنا ولا نريد ان نقرأها الا نظرا فقال الله تعالى فساكتبها للذين يتقون الى قوله أولئك هم المفلحون فجعلها الله لهذه الامة فقال موسى عليه السلام يا رب اجعلنى نبيهم فقال نبيهم منهم قال رب اجعلنى منهم فقال انك لن تدركهم فقال موسى يا رب أتيتك بوفد بنى إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فانزل الله تعالى ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون فرضى موسى وقول نوف هذا يابى عنه سياق الاية ومنطوقه فان قوله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التورية والإنجيل صريح فى ان الاية فى حق مومنى اهل الكتاب لا غير وكذا ما ذكر البغوي انه قال ابن عباس وقتادة وابن جريح انه لما نزلت ورحمتى وسعت كل شىء قال إبليس انا من ذلك الشيء فقال الله تعالى فساكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة والذين هم باياتنا يؤمنون فتمناها اليهود والنصارى وقالوا نحن نتقى ونوتى الزكوة ونومن فجعلها الله لهذه الامة حيث قال الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الاية فان مقتضى هذا القول ان الاية خطاب للنبى صلى الله عليه واله وسلم وسياق الاية يقتضى انها خطاب لموسى عليه السلام فى جواب دعائه وانما نزل على النبي صلى الله عليه واله وسلم حكاية والله اعلم.
قُلْ يا محمد يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ الاضافة للعهد الخارجي يعنى الرسول النبي الأمي الذي مر ذكره وأخذ العهد على اتباعه إِلَيْكُمْ خطاب للناس كافة ولذلك اردفه بقوله جَمِيعاً حال من إليكم فان النبي صلى الله عليه واله وسلم كان مبعوثا الى الناس كافة بل الى الجن والانس عامة وسائر الأنبياء الى أقوامهم خاصة قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لى الغنائم وجعلت لى الأرض مسجد او طهورا وأرسلت الى الخلق كافة وختم بي النبوة رواه مسلم والترمذي عن ابى هريرة وروى الطبراني فى الكبير بسند صحيح عن السائب بن يزيد بلفظ فضلت على الأنبياء بخمس بعثت الى الناس كافة وذخرت شفاعتى لامتى ونصرت بالرعب شهرا امامى وشهرا خلفى وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لى الغنائم ولم يحل لاحد قبلى وروى البيهقي بسند صحيح عن ابى امامة
__________
(1) مرحاض موضع بنيت للغائط والرحض الغسل وذلك موضع اغتسال 12(3/419)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
فضلت بأربع ولم يذكر ذخرت شفاعتى قلت الخطاب وإن كان للناس عموما لكن سياق القصة تقتضى ان المقصود بهذا الخطاب العام يهود المدينة وبعض النصارى فانهم داخلون فى عموم الخطاب ومحجوجون عليهم بقوله تعالى مكتوبا عندهم فى التورية والإنجيل وانكارهم ذلك عنادا لا يفيدهم عند الله تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صفة الله جعل بينهما ما هو متعلق بالمضاف لانه كالمتقدم عليه او مدح منصوب او مرفوع او مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه الاول بدل من الصلة بيان لما قبله فان من ملك العالم كان هو الا له لا غيره وفى يُحيِي وَيُمِيتُ مزيد تقرير لاختصاصه بالالوهية وإعرابه كاعراب ما سبق على تقدير كون الموصول مبتدأ وما بعده خبر الجملة الاسمية بيان لما أرسل به فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الذي أخذ منكم العهد فى الكتب السابقة على اتباعه الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ التي أنزلت عليه وعلى سائر المرسلين من كتب الله ووحيه وقرئ وكلمته على ارادة الجنس وقال مجاهد والسدى يعنى عيسى بن مريم عليه السلام كلمته القاها الى مريم وانما عدل عن التكلم الى الغيبة لاجراء هذه الصفات الداعية الى الايمان به والاتباع له وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ جعل رجاء الاهتداء اثر الامرين تنبيها على ان من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو بعد فى حيز الضلالة.
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعنى بنى إسرائيل أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ اى محقين او بكلمة الحق اى يرشدون ويدعون الى الحق او بسبب الحق الذي هم عليه وَبِهِ اى بالحق يَعْدِلُونَ بينهم فى الحكم قال الضحاك والكلبي والربيع هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يجرى الرمل يسمى نهر أوراق ليس لاحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويضحون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منا أحد وهم على دين الحق وذكر ان جبرئيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه واله وسلم ليلة اسرى به إليهم فكلمهم جبرئيل هل تعرفون من تتكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي صلى الله عليه واله وسلم فامنوا به فقالوا يا رسول الله ان موسى اوصانا ان من أدرك منكم احمد صلى الله عليه واله وسلم فليقرأ عليه منى السلام فرد النبي صلى الله عليه واله وسلم على موسى عليه السلام ثم اقرأ عشر سور من القران نزلت بمكة وأمرهم بالصلوة والزكوة وأمرهم ان يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فامرهم ان يجمعوا ويتركوا السبت وقيل هم الذين اسلموا من(3/420)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
اليهود فى زمن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال البغوي والاول أصح قال والظاهر ان الاول قول غريب ولم يكن بمكة ليلة الاسراء الجمعة وليس فى عشر سور مما نزلت بمكة احكام الإسلام كلها والله اعلم والأظهر عندى ان المراد المؤمنين الذين أمنوا بموسى من اهل زمانه والذين أدركوا النبي صلى الله عليه واله وسلم من اليهود فامنوا به كعبد الله بن سلام ونظرائه.
وَقَطَّعْناهُمُ اى فرقنا بنى إسرائيل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تميزه محذوف يدل عليه قطعنا يعنى اثنتي عشرة قطعة وهو مفعول ثان لقطع فانه متضمن لمعنى صير او حال أَسْباطاً بدل لا تمييز فان تمييز ما فوق العشرة لا يكون جمعا والسبط ولد الولد وكانوا اثنتي عشرة قبيلة اولا واثنى عشر ابن لاسرائيل يعنى يعقوب عليه السلام أُمَماً صفة لاسباط او بدل بعد بدل قال الزجاج المعنى وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة امما وانما قال أسباطا امما بالجمع وما فوق العشرة لا يفسر بالجمع فلا يقال اثنا عشر رجالا لان الأسباط فى الحقيقة نعت للمفسر المحذوف وهو الفرقة اى قطعناهم اثنتا عشرة فرقة أسباطا امما يعنى كل فرقة أسباط وقيل فيه تقديم وتأخير تقديرها وقطعناهم أسباطا امما اثنتي عشرة وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ فى التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ اى فضرب فانبجست حذفه للايماء على انّ موسى لم يتوقف فى الامتثال وعلى ان ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الانبجاس فى ذاته ومعناه انفجرت وقال ابو عمرو ابن العلا عرقت وهو الانبجاس ثم ثم انفجرت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً لكل سبط عين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ اى كل سبط أبناء ابن ليعقوب عليه السلام مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ فى التيه ليقيهم حر الشمس وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا اى وقلنا لهم كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بضم التاء المثناة الفوقانية وفتح الفاء على التأنيث والبناء للمفعول مسندا الى ما بعده وهو مرفوع والباقون بفتح النون وكسر الفاء على التكلم والبناء للفاعل وما بعده منصوب على المفعولية.
خَطِيئاتِكُمْ قرأ ابن عامر على وزن الفعيلة بالهمزة على التوحيد وابو عمر وخطاياكم على وزن قضاياكم على الجمع والباقون خطيئاتكم على الجمع على وزن فعيلاتكم بالهمز سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ(3/421)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
وعد بالمغفرة والزيادة عليه بالاثابة وانما اخرج الثاني مخرج الاستيناف للدلالة على انها تفضل محض ليس فى مقابلة ما أمروا به.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مضى تفسير هذه الآيات فى سورة البقرة غير ان قوله تعالى فكلوا فى البقرة بالفاء أفاد تسبيب سكناهم للاكل منها ولم يتعرض له هاهنا اكتفاء بذكره ثمه او بدلالة الحال عليه كذا قال البيضاوي قلت ذكر فى البقرة ادخلوا هذه القرية فكلوا ولا شك ان الاكل بعد الدخول ولذلك أورد هنا فاء التعقيب وذكر هاهنا اسكنوا هذه القرية والسكنى يجامع الاكل ولا يستعقبه فلذلك أورد الواو للجمع ولا اثر لتقديم قولوا على وادخلوا فى المعنى.
وَسْئَلْهُمْ اى سل يا محمد اليهود للتقرير والتوبيخ على تقديم كفرهم وعصيانهم والاعلام بما هو من علومهم التي لم يكن اهل مكة يعلمها حتّى يكون لك معجزة وحجة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ اى عن خبر أهلها وما وقع بهم الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اى قريبة الْبَحْرِ قال ابن عباس هى قرية يقال لها ايلة بين مدين والطور على شاطى البحر وقال الأزهري طبرية الشام إِذْ يَعْدُونَ الضمير راجع الى المضاف المحذوف يعنى اهل القرية كانوا يتجاوزون حد الإباحة بصيد السمك فِي السَّبْتِ وقد نهوا عنه إذ ظرف متعلق بكانت او حاضرة او للمضاف المحذوف اى خبر اهل القرية وقت عدوانهم او بدل اشتمال من اهل القرية إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ليعدون او بدل بعد بدل يَوْمَ سَبْتِهِمْ اى يوم تعظيمهم امر السبت مصدر من سبت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة وقيل اسم لليوم والاضافة لاختصاصهم باحكام فيها ويؤيد الاول قوله تعالى ويوم لا يسبتون شُرَّعاً حال من الحيتان اى ظاهرة على الماء متكثرة جمع شارع علينا إذا اشرف ودنا وقال الضحاك متتابعا وفى القصة انها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ اى لا يعظمون السبت متعلق بقوله لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ اى مثل إتيانهم يوم السبت نَبْلُوهُمْ حال من الضمير المنصوب فى لا تأتيهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق بيعدوا والمعنى مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم قيل وسوس إليهم الشيطان ان الله لم ينهيكم عن الاصطياد وانما نهاكم عن الاكل فاصطادوا وقيل وسوس إليهم انكم انما نهيتم عن الاخذ فاتخذوا حياضا على شط البحر يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ثم ياخذونها(3/422)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ثم جرؤا على السبت وقالوا ما نرى السبت الا قد أحل لنا فاخذوا وأكلوا وباعوا فصار اهل القرية أثلاثا وكانوا نحوا من سبعين الفا ثلث كانوا يعدون فى السبت وثلث كانوا ينهونهم عن الاعتداء وثلث لم يفعلوا ولم ينهوا وهم الذين حكى عنهم الله سبحانه بقوله.
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ اى الفرقة الساكتة للفرقة الواعظة الناهية عن المنكر لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ فى الدنيا أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فى الاخرة قالُوا الناهون فى جوابهم مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرأ الجمهور معذرة بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف اى موعظتنا معذرة اى إبداء لعذرنا الى الله تعالى حتى لا نكون مفرطين فى النهى عن المنكر وقرأ حفص بالنصب على المصدرية او العلية اى اعتذرنا معذرة اوعظناهم معذرة وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فان الياس لا يحصل الا بعد الهلاك.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ اى ترك الفرقة العاصية ما ذكّرهم الصلحاء الواعظون أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ يعنى الفرقة الواعظة الصالحة وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى الفرقة العاصية بِعَذابٍ بَئِيسٍ اى شديد قرأ الجمهور بفتح الباء وكسر الهمزة بعدها ياء ساكنة على وزن فعيل من بؤس يبئس بأسا إذا اشتد وقرأ ابو جعفر ونافع وابن عامر بئس على وزن فعل وكان فى الأصل بئس مفتوح الفاء مكسور العين وزن حذر فخفف عينه بنقل حركتها الى ما قبلها فصار بئس بسكون الهمزة او هو فعل ذم وصف به فجعل اسما الا ان ابن عامر يهمز ونافع وابو جعفر لا يهمزان بل يقلبان الهمزة ياء ويقران بيس وقرأ ابو بكر عن عاصم بخلاف عنه بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل بِما كانُوا يَفْسُقُونَ قال ابن عباس رضى الله عنه اسمع الله يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئس فلا أدرى ما فعل الفرقة الساكتة قال عكرمة قلت له جعلنى الله فداك الا تريهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه وقالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم وان لم يقل الله انجيتهم لم يقل أهلكتهم فاعجبه قولى فرضى وامر لى ببردين فكسانيها وقال نجت الفرقة الساكتة كذا روى الحاكم وقال يمان بن رباب نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم والذين قالوا معذرة الى ربكم وأهلك الله الذين أخذوا لحيتان وهذا قول الحسن ومجاهد وقال ابن زيد نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه أشد اية فى ترك النهى عن المنكر.
فَلَمَّا عَتَوْا اى تكبر الفرقة الخاطئة عَنْ ما نُهُوا(3/423)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
اى عن ترك ما نهوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ اى مبعدين امر تكوين وتسخير والظاهر يقتضى ان الله تعالى عذبهم او لا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ويجوز ان يكون الاية الثانية تقريرا وتفصيلا للاولى وقيل المراد بقوله تعالى وإذ قالت امة منهم لم تعظون ان الفرقة الصالحة الواعظة قالت بعضهم لبعضهم لم تعظون مبالغة فى ان الوعظ لا ينفع فيهم تحسرا فاجابوا فيما بينهم وقالوا معذرة الى ربكم او قال من ارعوى عن الوعظ منهم لمن لم يرعوا منهم وقيل معنى الاية قالت امة منهم يعنى الهالكة للفرقة الصالحة الواعظة لم تعظون قوما الله مهلكهم على زعمكم قالوا ذلك تهكما واستهزاء بهم فقالوا اى الصالحون معذرة الى ربكم لكن هذا المعنى يابى عنه ضمير الغائب فى قولهم لعلهم يتقون بل كان المناسب على هذا ان يقولوا لعلكم تتقون روى ان الناهين لما ايسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه السلام وأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا ان لهم لشانا فدخلوا عليهم فاذاهم قردة فلم يعرفوا انسبائهم ولكن القرود تعرفهم فجعلت القرود تأتي انسبائهم وتشمهم فتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم فيقولون الم ننهيكم فتقول القردة برأسها نعم فمكثوا ثلثة ايام ينظر بعضهم الى بعض وينظر إليهم الناس ثم ماتوا.
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ تفعل من الاذن ومعناه العزم المصمم الذي لا يتخلف لان العازم على الشيء يوذن نفسه بفعله ولذلك اجرى مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله ولذلك أجيب بجوابه وقال ابن عباس معنى تأذن ربك قال ربك وقال مجاهد امر ربك وقال عطاء حكم ربك وعلى الأقوال غير الاول لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ جواب قسم محذوف اى والله ليسلطن الله تعالى على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ بالقتل والضرب والسبي وأخذ الجزية فبعث الله عليهم سليمان وبعده بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نسائهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم فكانوا يؤدونها الى المجوس حتّى بعث الله محمدا صلى الله عليه واله وسلم فقتل بنى قريظة وسبى نسائهم وذراريهم وأجلا بنى نضير وبنى قينقاع وأجلا عمر عن خيبر وفدك وامر الله سبحانه بقتالهم الى يوم القيامة حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه ولذا عاقبهم فى الدنيا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وأمن.
وَ(3/424)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
قَطَّعْناهُمْ
فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا فشتت أمرهم حتى لا يكون لهم شوكة قط ولا يجتمع كلمتهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين أمنوا بمحمد صلى الله عليه واله وسلم كذا قال ابن عباس ومجاهد قلت والظاهر ان المراد الذين على دين موسى صالحين قبل نسخه بقرينة قوله فخلف من بعدهم خلف وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ تقديره ومنهم ناس دون ذلك اى منحطون عن الصلاح وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه واله وسلم او كانوا فساقا قبل نسخ دين موسى او كفارا لعيسى وداود وسليمان وَبَلَوْناهُمْ اى اختبرناهم بِالْحَسَناتِ اى النعم وَالسَّيِّئاتِ اى النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ اى لكى ينتبهوا فيرجعوا عما كانوا عليه من الكفر والفسق بشكر المنعم عند النعمة وبالتوبة عند حلول النقمة.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ اى جاء بعد المذكورين الذين وصفناهم خَلْفٌ القرن الذي يجئ بعد قرن كذا فى القاموس وقال ابو حاتم الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع سواء والخلف بفتح اللام البدل سواء كان ولدا وغريبا وقال ابن الاعرابى الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح وقال النضر بن شميل الخلف بتحريك اللام وإسكانها فى القرن السوء واما فى القرن الصالح فتحريك اللام لا غير وقال محمد بن جرير اكثر ما جاء فى المدح بفتح اللام وفى الذم بتسكينها وقد يحرك فى الذم ويسكن فى المدح قال البيضاوي هو مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع وقيل جمع والمراد به الذين كانوا فى عصر النبي صلى الله عليه واله وسلم وَرِثُوا الْكِتابَ اى انتقل إليهم الكتاب يعنى التورية من ابائهم يقرؤنها ويطلعون على ما فيها يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى يعنى حطام هذا العالم الأدنى يعنى الدنيا وهو من الدنو او الدناءة والعرض المتاع وكل شىء سوى النقدين او ما كان من مال قل او كثر وهو المراد هاهنا وقيل العرض ما لا يكون له ثبات ومنه استعار المتكلمون العرض لما لم يكن له ثبات الا بالجوهر كاللون والطعم ولذا قيل الدنيا عرض حاضر يعنى لاثبات لها والمراد به ما كان علماء اليهود يأخذون من جهالهم فياكلون ولذلك كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وحرّفوا كلام الله تعالى خوفا من زوال ماكلتهم وما كانوا يأخذون من الرشى فى الحكم والجملة حال من الضمير المرفوع فى ورثوا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يحتمل العطف والحال والفعل مسند الى الجار والمجرور او الى الضمير العائد الى مصدر يأخذون يعنى بتمنون على الله المغفرة بلا توبة مع الإصرار على الذنب وهذا امر شنيع(3/425)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم والبغوي بسند صحيح عن شداد بن أوس وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ حال من الضمير فى يقولون يعنى يرجون المغفرة مصرين على الذنب عامدين الى مثله غير تائبين قال السدى كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا الا ارتشى فى الحكم فيقال له مالك ترتشى فيقول سيغفر لى فيطعن فيه الآخرون فاذا مات او نزع وجعل مكانه رجل ممن يطعن عليه يرتشى ايضا فيقول الله تعالى وان يأتهم يعنى الآخرين منهم عرض مثله يأخذوه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ اى أخذ عليهم العهد فى التورية أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وهذا غير الحق لانه ليس فى التورية ميعاد المغفرة مع الإصرار وَدَرَسُوا ما فِيهِ عطف على الم يوخذ من حيث المعنى فانه تقريرا وعلى ورثوا ودرس الكتاب قراءته وتدبره مرة بعد اخرى يعنى يعلمون ما يعملون وهم ذاكرون انه معصية وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الله تعالى ويؤمنون بالنبي صلى الله عليه واله وسلم مما يأخذون من حطام الدنيا أَفَلا تَعْقِلُونَ عطف على محذوف تقديره أيختارون الشر ويتركون الخير فلا يعقلون يعنى فليس لهم عقل فان مقتضى العقل اختيار الخير على الشر بل اختيار أخير الخيرين وهم يستبدلون الأدنى المؤدى الى العذاب بالنعيم المخلد قرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ قرأ ابو بكر مخففا من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وقرأ ابى بن كعب والذين تمسكوا بِالْكِتابِ على صيغة الماضي لما عطف عليه وَأَقامُوا الصَّلاةَ قال مجاهدهم المؤمنون من اهل الكتب عبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه ماكلة بل عملوا بما فيه حتّى أمنوا بمحمد صلى الله عليه واله وسلم وقال عطاءهم امة محمد صلى الله عليه واله وسلم والذين يمسكون عطف على الذين يتقون وقوله أفلا يعقلون اعتراض او مبتدأ خبره إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ على تقدير منهم او وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على ان الإصلاح كالمانع من التضييع.
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ متعلق باذكر واصل النتق الجذب والمعنى قلعناه ورفعناه فَوْقَهُمْ اى فوق بنى إسرائيل حين أبوا ان يقبلوا احكام التورية لثقلها فرفع الله عليهم الجبل كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة وهى كل ما اظلك وَظَنُّوا اى أيقنوا(3/426)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ وانما اطلق الظن لانه لم يقع متعلقه وقيل لهم ان قبلتم ما فيها والا ليقعن عليكم خُذُوا بإضمار القول اى وقلنا خذوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بجد وعزم على تحمل مشاقه حال من فاعل خذوا وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل ولا تتركوه كالمنسى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قبايح الأعمال ورذايل الأخلاق.
وَاذكر إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ فيه اختصار تقديره من آدم وبنى آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بنى آدم بدل البعض والمعنى إذا خرج ربك من ظهور آدم بنيه ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ نافع وابو عمرو وابن عامر ويعقوب ذرياتهم على صيغة الجمع والباقون على الافراد وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ اى اشهد بعضهم على بعض وقال لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته الى يوم القيامة وجعل بين عينى كل انسان منهم وبيصا «1» من نور ثم عرضهم على آدم فقال اى رب من هؤلاء قال ذريتك فراى منهم رجلا فاعجبه وبيص عينيه فقال اى رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال رب زده من عمرى أربعين سنة قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلما انقضى عمر آدم الا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم الم يبق من عمرى أربعين سنة قال او لم تعطها ابنك داود فجحد آدم فجحدت ذريته ونسى آدم فاكل من الشجرة ونسيت ذريته وخطأ آدم فخطأت ذريته ورواه الترمذي عن ابى الدرداء عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال خلق الله آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فاخرج ذريته بيضاء كانهم الذر وضرب كتفه اليسرى فاخرج ذريته سوداء كانهم الحمم قال للذى فى يمينه الى الجنة ولا أبالي وقال للذى فى كتفه اليسرى الى النار ولا أبالي رواه احمد كذا ذكر مقاتل وغيره من اهل التفسير فذكروا نحوه وفى آخره ثم أعادهم جميعا فى صلبه فاهل القبور محبوسون حتى يخرج اهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء قال الله تعالى فيمن نقض العهد الاول وما وجدنا لاكثرهم من عهد وعن مسلم بن يسار قال سئل عمر بن الخطاب عن هذه الاية وإذ أخذ ربك من بنى آدم الاية قال عمر رضى الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يسأل منها فقال ان الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل اهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره
__________
(1) وبيص يعنى البريق 12(3/427)
فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل اهل النار يعملون فقال رجل ففيم العمل يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل اهل الجنة حتّى يموت على عمل من اعمال اهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل اهل النار حتى يموت على عمل من اعمال اهل النار فيدخله به النار رواه مالك وابو داود والترمذي واحمد فى مسنده والبخاري فى التاريخ وابن حبان والحاكم والبيهقي وقال الترمذي حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر قال البغوي قد ذكر بعضهم فى هذا الاسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعنى عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال الست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين او تقولوا انما أشرك ابائنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون رواه احمد والنسائي والحاكم وصححه واخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى هذه الاية أخذ من ظهره كما يوخذ بالمشط من الرأس فقال لهم الست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا قال البغوي روى عن ابن عباس ايضا ان الله أخرجهم وأخذ الميثاق بدهناء من ارض الهند وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام وقال الكلبي بين مكة والطائف وقال السدى خلق الله آدم ولم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فاخرج ذريته وعن ابى بن كعب جمعهم فجعلهم أزواجا يعنى أصنافا ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذهم العهد والميثاق واشهدهم على أنفسهم الست بربكم قال الله تعالى فانى اشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع واشهد عليكم أباكم آدم ان تقولوا يوم القيامة لم نعلم بهذا اعلموا انه لا اله غيرى ولا رب غيرى ولا تشركوا بي شيئا انى سارسل إليكم رسلى يذكرونكم عهدى وميثاقى وانزل عليكم كتبى قالوا شهدنا بانك ربنا والهنا لا رب لنا غيرك ولا اله لنا غيرك فاقروا بذلك ورفع عليهم آدم عليه السلام ينظر إليهم فرأى الغنى والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال رب لولا سويت بين عبادك قال انى أحببت ان اشكر ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور خصوا بميثاق اخر فى الرسالة والنبوة وهو قوله تعالى وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم الى قوله وعيسى بن مريم وعيسى بن مريم كان فى تلك الأرواح فارسله الى مريم فحدث عن ابى انه دخل من فيها رواه احمد زاد(3/428)
فى بعض الروايات بعد قوله لا تشركوا بي شيئا قوله فانى سانتقم عمن أشرك بي ولم يؤمن بي وزاد بعد قوله فاقروا بذلك قوله ثم كتب اجالهم وأرزاقهم ومصائبهم وبعد قوله انى أحببت ان اشكر انه فلما قررهم بتوحيده واشهد بعضهم على بعض أعاد الى صلبه فلا تقوم الساعة حتّى يولد كل من أخذ ميثاقه قال البغوي ما معنى قوله وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم وانما أخرجهم من ظهر آدم قلت وبه نطق الأحاديث قيل فى جوابه ان الله اخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالدون فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لما علم انهم كلهم بنوه فاخرجوا من ظهره ولذلك لم يذكر ظهر آدم فى الاية قلت وإخراج كلهم الى ظهر آدم انما أسند فى الحديث بناء على انه لما كان بعضهم فى ظهر بعض والأصول فى ظهر آدم فكان كلهم فى ظهره فصح اسناد إخراج كلهم الى ظهره او لان المراد بآدم فى الحديث آدم وبنيه اقتصر على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع قلت ومعنى قوله صلى الله عليه واله وسلم ضرب كتفه اليمنى فاخرج ذرية بيضاء انه ضرب كتفه او كتف أحد من ابنائه فاخرج منها ذرية بيضاء وكتفه او كتف أحد منهم اليسرى فاخرج منها ذرية سوداء ثم قال خلقت هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار قال البغوي قال اهل التفسير ان اهل السعادة أقروا طوعا واهل الشقاوة قالوا تقية وكرها
وذلك معنى قوله تعالى وله اسلم من فى السموات والأرض طوعا وكرها شَهِدْنا قال السدى هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملئكته انهم شهدوا على اقرار بنى آدم وقال بعضهم هو خبر من قول بنى آدم حين اشهد الله بعضهم على بعض فقالوا بلى شهدنا وقال الكلبي ذلك من قول الملئكة وفيه حذف تقديره لما قالت الذرية بلى قال الله تعالى للملئكة اشهدوا قالوا شهدنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب على العلية قرأ ابو عمرو ويقولوا فى الموضعين بالياء التحتانية على الغيبة تقديره اشهدهم كراهية ان يقولوا او لئلا يقولوا والباقون بالفوقانية على الخطاب تقديره اخاطبكم بالست بربكم كراهة ان تقولوا او لئلا تقولوا قلت والاولى «1» ان يقال تقديره على قراءة ابى عمرو ذكرهم يا محمد بالميثاق كراهة ان يقولوا انا كنا عن هذا غافلين وعلى قراءة الجمهور أخبرتكم ايها الناس بالميثاق كراهة ان تقولوا إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا الميثاق او الإقرار غافِلِينَ فان قيل كيف يلزم الحجة واحد لا يذكر الميثاق قيل لما اخبر بذلك المخبر الصادق المؤيد بالمعجزة لزمهم الحجة ولا يسقط الاحتجاج بعدم حفظهم
__________
(1) وجه الاولوية ان تذكير الميثاق بلسان صاحب المعجزة يزيل الغفلة لانفس الاشهاد والميثاق والله اعلم 12
.(3/429)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ اتباعا لهم فاقتدينا بهم أَفَتُهْلِكُنا اى تعذبنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ اى الاسلاف المشركون يعنى كراهة ان تعتذروا بالغفلة او بالتقليد للاباء وليس شىء من ذلك مسقطا للاحتجاج.
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ اى نبينها ليتدبر فيها العباد ويتذكروا ما نسوا وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معطوف على مقدر تقديره لعلهم يتدبرون ويتذكرون ما نسوا ولعلهم يرجعون من الكفر الى التوحيد كذا قال السلف الصالح وجمهور المفسرين على ما يشهد به الأحاديث وقال البيضاوي ومن تبعه معنى الاية وإذ أخذ ربك اى اخرج من صلب آدم وأصلاب بنيه نسلهم على ما يتوالدون قرنا بعد قرن واشهدهم على أنفسهم اى نصب لهم دلائل على ربوبيته وركب فى عقولهم ما يدعوهم الى الإقرار بالتوحيد حتى صاروا كانهم قيل لهم الست بربكم قالوا بلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم فيه منزلة الاشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل قال البيضاوي ويدل عليه قوله قالوا بلى شهدنا ان تقولوا اى كراهة ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين اى لم تنبه بالدليل او تقولوا انما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم فاقتدينا بهم لان التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم لا يصلح عذرا وقال والمقصود من إيراد هذا الكلام الزام اليهود مقتضى الميثاق العام بعد ما الزمهم الميثاق المخصوص بهم فى التورية والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال الله تعالى وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون عن التقليد واتباع الباطل والقائل بهذا التفسير يأول الأحاديث المذكورة ايضا والله اعلم.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ اى اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها اى من الآيات بان كفر بها واعرض عنها قال ابن عباس هو بلعم بن باعور وقال مجاهد بلعام بن باعور قال عطية عن ابن عباس كان من بنى إسرائيل وروى ابو طلحة عنه انه كان من الكنعانيين من مدينة الجبارين وقال مقاتل من مدينة بلقاء وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس وابن اسحق والسدى وغيرهم ان موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين ونزل ارض بنى كنعان من ارض الشام اتى قوم الى بلعم وكان عنده اسم الأعظم فقالوا ان موسى عليه السلام رجل حديد ومعه جنود كثيرة وانه قد جاءنا يخرجنا من ديارنا ويقتلنا ويحلها بنى إسرائيل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله ان يردهم عنا قال ويلكم(3/430)
نبى ومعه الملئكة والمؤمنون كيف ادعو عليهم وانا اعلم من الله ما اعلم وان فعلت هذا ذهبت دنياى وآخرتي فراجعوه وألحوا عليه فقال حتّى او امر ربى تبارك وتعالى وكان لا يدعو حتّى ينظر ما يومر فى المنام فامّر فى الدعاء عليهم فقيل له فى المنام لا تدع عليهم فقال لقومه وأمرت ربى وانى قد نهيت فاهدوا له هدية فقبلها ثم راجعوه فقال حتّى أوامر فامر فلم يجئى له شىء فقال قد وأمرت فلم يجئ الىّ شىء فقالوا لو كره ربك ان تدعو عليهم لنهاك كما نهاك فى المرة الاولى فلم يزالوا يتضرعون اليه حتى فتنوه فافتتن فركب أتانا متوجها الى جبل يطلعه على عسكر بنى إسرائيل يقال له حسان فلما سار عليها غير كثير ربصت «1» به فنزل عنها فضربها حتّى قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربصت فضربها حتّى اذن الله لها الكلام وكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعم اين تذهب الا ترى الملئكة امامى تردنى عن وجهى هذا تذهب الى نبى الله والمؤمنين تدعو عليهم فلم ينزع فخلى الله سبيلها فانطلقت حتّى إذا شرفت على جبل حسان جعل لا يدعو عليهم بشئ الا صرف لسانه الى قومه ولا يدعو لقومه بخير الا صرف لسانه الى بنى إسرائيل فقال قومه يا بلعم أتدري ما تصنع انما تدعوهم وعلينا قال هذا ما لا املك هذا شىء قد غلب الله عليه واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم قد ذهبت الان منى الدنيا والاخرة فلم يبق الا المكر والحيلة فسامكر لكم واحتال جملوا النساء وزينوهن فاعطوهن السلع ثم ارسلوهن الى العسكر يبعنها فيه ومروهن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فانهم ان زنى منهم رجل واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخلت النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بنى إسرائيل يقال له زهرى بن شلوم راس سبط شمعون بن يعقوب عليه السلام فقام إليها فاخذ بيدها حين أعجبه جمالها ثم اقبل بها حتّى وقف بها على موسى عليه السلام فقال انى أظنك ستقول هذه حرام عليك قال أجل هى حرام عليك لا تقربها قال فو الله لا أطيعك فى هذه ثم دخل بها قبته فوقع عليها فارسل الله الطاعون على بنى إسرائيل فى الوقت وكان الفنحاص بن العيزار بن هارون صاحب امر موسى وكان رجلا قد اعطى بسطة فى الخلق وقوة فى البطش وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون فى بنى إسرائيل فاخبر الخبر فاخذ بحربته وكانت من حديد كلها ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعا إياهما الى السماء والحربة قد أخذها بذراعه
و
__________
(1) ربصت اى برلت 12(3/431)
اعتمد بمرفقه على خاصرته وأسند الحربة الى لحيته وكان بكر العيزار وجعل يقول اللهم هكذا يفعل بمن يعصيك فرفع الطاعون فهلك من بنى إسرائيل فى الطاعون فيما بين ان أصاب زمرى المرأة الى ان قتله فنحاص سبعون الفا فى ساعة من النهار فمن هناك يعطى بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصره واخذه إياهما بذراعه واسناده إياهما الى لحيته والبكر من كل أموالهم لانه كان بكر العيزار وفى بلعم انزل الله عز وجل واتل عليهم نبا الذي اتيناه آياتنا الاية وقال مقاتل ان ملك البلقاء قال لبلعام ادع الله على موسى فقال انه من اهل دينى لا ادعو عليه فتخشب خشبة ليصلبه فلما راى ذلك خرج على أتان له وليدعو عليه فلما عاين العسكر قامت به الأتان ووقفت فضربها فقالت لم تضربنى انى مامورة وهذه نار امامى قد منعتنى ان امشى فرجع فاخبر الملك فقال لتدعون عليه اولا صلبنك فدعى على موسى بالاسم الأعظم ان لا يدخل المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل فى التيه بدعائه فقال موسى عليه السلام يا رب باى ذنب وقعنا فى التيه فقال بدعاء بلعام قال فكما سمعت دعائه على فاسمع دعائى عليه فدعا موسى عليه السلام ان ينزع منه الاسم الأعظم والايمان فنزع منه المعرفة وسلخه منها فخرجت منصورة كحمامة بيضاء فذلك قوله تعالى فانسلخ منها وقال عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب وزيد بن اسلم وليث بن سعد نزلت هذه الاية فى امية بن ابى الصلت الثقفي وكانت قصته انه كان قد قرأ الكتب وعلم ان الله مرسل رسولا فرجى ان يكون ذلك الرسول فلما أرسل محمد صلى الله عليه واله وسلم حسده وكفر به وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة وكان قصد بعض الملوك فلما رجع مر على قتلى بدر فسأل عنهم فقيل قتلهم محمد صلى الله عليه واله وسلم فقال لو كان نبيا ما قتل أقربائه فلما مات امية أتت أخته فارعة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فسألها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن وفات أخيها فقالت بينما هورا قد أتاه إتيان وكشفا سقف البيت فنزلا فقعد أحدهما عند رجليه والاخر عند راسه فقال الذي عند رجليه للذى عند راسه اوعى قال وعى قال ازكى قال ابى قالت فسالته عن ذلك فقال خير أريد بي فصرف عنى فغشى عليه فلما أفاق قال
كل عيش وان تطاول دهرا ... صائر مرة الى ان يزولا
ليتنى كنت قبل ما بدا لى ... فى قلال الجبال أرعى الوعولا
ان يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا
ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انشدينى من شعر أخيك فانشدته بعض قصايده فقال(3/432)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أمن شعره وكفر قلبه فانزل الله تعالى وتقدس فيه اتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها الاية وفى رواية عن ابن عباس انها نزلت فى البسولس رجل من بنى إسرائيل وكان اعطى له ثلث دعوات مستجابات وكانت له امرأة له منها ولد فقالت اجعلنى منها دعوة واحدة فقال لك منها واحدة فما تريدين قالت ادع الله ان يجعلنى أجمل امرأة فى بنى إسرائيل فدعالها فجعلت أجمل النساء فى بنى إسرائيل فلما علمت انه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزوج ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان فجاء بنوها وقالوا ليس لنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة نباحة والناس يعيروننا بها ادع الله ان يردها الى الحال التي كانت عليها فعادت كما كانت فذهبت فيها الدعوات كلها قال البغوي والقولان الأولان اظهر قلت بل القول الثاني يرده قوله تعالى قالوا يا موسى انا لن ندخلها ابدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون قال رب انى لا املك الا نفسى وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فانها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون فى الأرض الاية فان ذلك الاية تدل على ان وقوعهم فى التيه لذلك القول لا لدعوة بلعام والله اعلم وقال الحسن وابن كيسان نزلت فى منافقى اهل الكتاب الذين كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وقال قتادة هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن عرض عليه الهدى فابى ان يقبله فذلك قوله تعالى واتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا قال ابن عباس والسدى يعنى الاسم الأعظم قال ابن زيد كان لا يسأل شيئا الا أعطاه وقال ابن عباس فى رواية اخرى اوتى كتابا من كتب الله فانسلخ اى خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ يعنى لحقه وقيل استتبعه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من الضالين.
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ الى منازل الأبرار من العلماء بِها اى بسبب تلك الآيات وقال مجاهد لرفعنا عنه الكفر وعصمناه بالآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ اى مال الى الدنيا والى السفالة كنى من الدنيا بالأرض لمناسبة الاسفلية او لان ما فيها من البلاد والعقار كلها ارض وسائر متاعها مستخرج من الأرض قال الزجاج خلد واخلد واحد وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام يقال اخلد فلان بالمكان إذا اقام به وَاتَّبَعَ هَواهُ فى إيثار الدنيا واسترضاء قومه واعرض عن مقتضيات الآيات أسند الله سبحانه الرفع الى مشيئته والخلود الى الأرض بمعنى الاقامة على الميل الى الدنيا الى العبد اشارة الى ان هذا امر طبعى يقتضيه ذاته لاجل إمكانه وعدمه الذاتي والرفع الى الدرجات العلى امر وهبى انما يستفاد من سبحانه بفضله وقال البيضاوي علق رفعه بمشية الله ثم استدرك عنه بفعل العبد تنبيها على ان المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وان عدمه دليل على عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه وان السبب(3/433)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
الحقيقي هو المشية وان ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة فى حصول المسبب من حيث ان المشية تعلقت به كذلك وكان من حقه ان يقول ولكنه اعرض عنها فاوقع موقعه اخلد الى الأرض واتبع هواه مبالغة وتنبيها على ما حمله عليه وعلى ان حب الدنيا راس كل خطيئة وهذا حديث مرفوع رواه البيهقي عن الحسن مرسلا فَمَثَلُهُ اى صفته التي هى مثل فى الخسة كَمَثَلِ كصفة الْكَلْبِ فى اخس أحواله وهو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ اى يخرج لسانه من العطش او من التعب والاعياء يعنى يلهث دائما سواء حمل عليه بالزجر والطرد او ترك ولم يتعرض له لضعف فواده بخلاف سائر الحيوانات فانه لا يلهث شىء منها الا إذا حرك واعيا او عطش والشرطية فى موضع الحال والمعنى لاهثا فى الحالين ذليلا دائم الذلة قال مجاهد هو مثل الذي يقرأ القران ولا يعمل به والمعنى ان هذا الكافران زجرته ووعظته لم ينزجر وان تركته لم يهتد فهو ضال ابدا ذليل مثل ذلة الكلب لاهتا ابدا نظير هذه الاية فى المعنى قوله تعالى وان تدعوهم الى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامعون ثم عم لهذا التمثيل جميع من كذب بايات الله تعالى فقال ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من اليهود حيث قرأوا نعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى التورية وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءتهم واظهر المعجزات وقرأ القران المعجز وعرفوه كما يعرفون أبنائهم انسلخوا من آيات التورية وكفروا بمحمد صلى الله عليه واله وسلم وصاروا أذلاء كالكلب لاهثا لم ينفعهم الزواجر والمواعظ التي فى التورية فَاقْصُصِ الْقَصَصَ المذكورة على اليهود فانها نحو قصصهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكرا يؤدى بهم الى الاتعاظ فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا نحو سيرته وقيل هذا مثال الكفار مكة وذلك انهم كانوا يتمنون هاديا يهديهم ويدعوهم الى طاعة الله عز وجل فلما جاء بهم نبى لا يشكون فى صدقه كذبوه فلم يهتدوا وادعوا او تركوا.
ساءَ فاعله مضمر تميزه مَثَلًا الْقَوْمُ اى مثل القوم حذف المضاف واعراب المضاف اليه إعرابه الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ معطوف على كذبوا داخل فى الصلة يعنى الذين كذبوا وظلموا أنفسهم او منقطع عما سبق والمعنى وما يظلمون الا أنفسهم فان وباله لا يتخطاها ولذلك قدم المفعول.
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أفرد حملا على لفظة من وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ أورد لفظ الجمع حملا على المعنى فيه تصريح بان الهدى والضلال من الله تعالى وان هداية الله تعالى يختص ببعض دون بعض وانها مستلزمة للاهتداء وليس معنى الهدى من الله البيان كما قالت المعتزلة وفى افراد لفظ المهتدى وجمع الخاسرين تنبيه(3/434)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
على ان المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين والاقتصاد فى الأخيار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشان الاهتداء وتنبيه على انه فى نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وانه المستلزم للفوز بالنعم الاجلة والعنوان لها عن عمر بن الخطاب انه خطب بالجابية فحمد الله واثنى عليه ثم قال من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له فقال له قس بين يديه كلمة بالفارسية فقال عمر لمترجم له ما يقول قال يزعم ان الله لا يضل أحدا فقال عمر كذبت يا عدو الله بل الله خلقك وهو اضلك وهو يدخلك النار ان شاء الله تعالى ولولا ان بيننا عقد لضربت عنقك فتفرق الناس وما يختلفون فى القدر.
وَلَقَدْ ذَرَأْنا اى خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنى المصرين على الكفر فى علمه تعالى عن عائشة عنه صلى الله عليه واله وسلم ان الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب ابائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب ابائهم رواه مسلم ونحو ذلك فيما مر من حديث إخراج الذرية من صلب آدم وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال خرج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وفى يديه كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله الا ان تخبرنا فقال للذى فى يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء اهل الجنة واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا ثم قال للذى فى شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه اسماء اهل النار واسماء ابائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ابدا فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله ان كان امر قد فرغ منه قال سددوا وقاربوا فان صاحب الجنة يختم له بعمل اهل الجنة وان عمل اىّ عمل وان صاحب النار يختم له بعمل اهل النار وان عمل اىّ عمل ثم قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بيديه فنبذهما ثم قال فرغ ربكم من العباد فريق فى الجنة وفريق فى السعير رواه الترمذي فان قيل كيف التوفيق بين هذه الاية وو بين قوله تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون قلنا خلق الجن والانس كلهم للعبادة من حيث نفس الخلق واصل الحكمة فى خلق العالم من غير ملاحظة علم الله فيهم اختيار الكفر وخلق كثيرا من الجن والانس لجهنم نظرا الى انه تعالى علم منهم اختيار الكفر وحق القول منه لا ملئن جهنم من الجنة والناس أجمعين ولا منافاة بين الحيثيتين وما قيل ان قوله تعالى ما خلقت الجن والانس الا ليعبدون وان كان عاما صيغة لكن أريد به الخصوص يعنى من علم منهم الايمان والطاعة فليس بشئ وقول المعتزلة بان هذا لام العاقبة اى ليكون عاقبتهم جهنم فلما كان عاقبتهم جهنم جعل كانهم خلقوا لها قرارا عن ارادة الله المعاصي عدول عن الظاهر لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ(3/435)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
بِها
اى ليس فيها استعداد معرفة الحق والنظر فى دلائله وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ونظر الاعتبار فى دلائله وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات والموعظ سماع تأمل وتذكر أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ فى عدم الفقه والابصار للاعتبار والاستماع للتدبر وان مشاعرهم وقواهم مقصورة على الاكل والشرب والجماع واسباب التعيش بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الانعام لان للانعام تميزا بين الضار والنافع من وجه فتجتهد فى جذب المنافع ودفع المضار غاية جهدها والكفار منهم من يقدمون على النار المؤبدة معاندة مع العلم بالهلاك قال الله تعالى يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ومنهم من كابر العقول وارتكب الفضول وضيّع ما أودع الله فيه من العقل والشعور فكيف يستوى المكلف المأمور والمخلى المعذور أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ كمال الغفلة لا غيرهم بمثل تلك الغفلة هذه الجملة تدل على ان للانعام والجمادات شعورا ما بخالقهم ليسوا بغافلين كمال الغفلة ويشهد هذا قوله تعالى وان من شىء الا يسبح بحمده وقوله تعالى الم تر ان الله يسجد له من فى السموات ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب قال مقاتل ان رجلا دعا الله فى صلوة ودعا الرحمن فقال بعض المشركين من اهل مكة ان محمدا صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه يزعمون انهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين فانزل الله عز وجل.
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى دالة على معان هى احسن المعاني والمراد بها الألفاظ الدالة على الذات المتصفة بالصفات دون الصفات فحسب وبينهما بون بعيد فَادْعُوهُ بِها اى قسموه بتلك الأسماء فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة الا واحدة من أحصاها دخل الجنة وفى رواية وهو وتر يحب الوتر ولم يذكر الشيخان تعيين الأسماء التسعة والتسعين المذكورة فى هذا الحديث لعدم ثبوته على شرطها وذكر الترمذي والبيهقي فى الدعوات الكبير تعيينها عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلى الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوى المتين الولي الحميد المحصى المبدى المعيد المحى المميت الحي القيوم الواحد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الاول(3/436)
الاخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال «1» والإكرام المقسط الجامع الغنى المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور واعلم ان اسماء الله تعالى غير منحصرة فى العدد المذكور ولعل الأسماء المذكورة فى الحديث من خواصها انه من أحصاها دخل الجنة ولذلك ضبطها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى سلك واحد واعلم ان من الأسماء التي وقعت فى رواية الترمذي لم يقع سبعة وعشرون اسما منها فى القران بصيغة الاسم الصريح وهو القابض والباسط والخافض والرافع والمعز والمذل والعدل والجليل والباعث والمحصى والمبدى والمعيد والمميت والواجد والماجد والمقدم والمؤخر والوالي وذو الجلال والإكرام والمقسط والمغني والمانع والضار والنافع والباقي والرشيد والصبور وقد وقع فى القران بصيغة الاسم ما لم يقع فى رواية الترمذي وهو خير وأبقى واله وشاكر ورب العالمين وأحد ومالك يوم الدين والأعلى والأكرم وخفى واعلم بمن ضل عن سبيله واعلم بالمهتدين والقريب والنصير والقدير والمبين والخلاق والمبتلى والموسع والمليك والكافي وفاطر السموات والأرض والقائم بالقسط وغافر الذنب وقابل التوب وشديد العقاب ونعم المولى والغالب على امره وسريع الحساب وفالق الحب والنوى وفالق الإصباح وجاعل الليل سكنا وعلام الغيوب وعالم الغيب والشهادة وذو الطول وذو انتقام ورفيع الدرجات وذو العرش وذو المعارج وذو الفضل العظيم وذو القوة وذو المغفرة وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ومتم نعمته ومتم نوره وعدو الكافرين وولى المؤمنين والقاهر فوق عباده واسرع الحاسبين ومخرج الميت من الحي ومحيى الموتى وارحم الراحمين واحكم الحاكمين وخير الرازقين وخير الماكرين وخير الفاتحين ومخزى الكافرين وموهن كيد الكافرين وفعال لما يريد والمستعان ونور السموات والأرض واهل التقوى واهل المغفرة ونعم الماهدون ورب الناس وملك الناس واله الناس واقرب من حبل الوريد والقائم على كل نفس بما كسبت وأحق ان تخشاه الذي هو اغنى واقنى والذي هو أمات واحيى والذي هو اضحك وابكى والذي خلق الزوجين الذكر والأنثى والذي أهلك عادا الاولى والذي لم يكن له ولد ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولى من الذل والذي انزل على عبده الكتاب والذي بيده ملكوت كل شىء والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر والذي يبدأ الخلق ثم يعيده والذي بيده الملك والذي بعث فى الأميين رسولا ونحو ذلك وقوله تعالى لا اله الا أنت سبحانك انى كنت من الظالمين فى الحديث انه الاسم الأعظم وقد ذكرنا تحقيق الاسم الأعظم
__________
(1) هذا وقع فى التنزيل فى سورة الرحمن 12 ابو الخير(3/437)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
فى أوائل سورة ال عمران ومنها ما وقع فى الأحاديث سوى الحديث المذكور وليس فى القران كالحنان والمنان والجواد والأجود والفرد والوتر والصادق والجميل والقديم والبار والوافي والعادل والمعطى والمغيث والطيب والطاهر والمبارك وخالق الشمس والقمر المنير ورازق الطفل الصغير وجابر العظم الكسير وكبير كل كبير والذي نفسى بيده وغير ذلك ثم اعلم ان اسماء الله تعالى غير منحصرة فيما ورد فى القران والأحاديث فقد روى انه تعالى انزل فى التورية الفا من أسمائه وقد كان من دعائه صلى الله عليه واله وسلم اللهم انى أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك وأنزلته فى كتابك او علمته أحدا من خلقك او استأثرت به فى علم الغيب عندك فلا بد من الايمان مجملا بجميع اسماء الله تعالى التي سمى الله تعالى بها نفسه.
وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قرأ حمزة هنا وفى فصلت بفتح الياء والحاء والباقون بضم الياء وكسر الحاء ومعنى الإلحاد واللحد الميل عن القصد قال يعقوب بن السكيت الإلحاد هو العدول عن الحق وإدخال ما ليس منه فيه يقال الحد فى الدين ولحد والذين يلحدون فى أسمائه هم المشركون عدلوا بأسماء الله عما هى عليه فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا فاشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان هذا قول ابن عباس ومجاهد وقيل هو تسميتهم الأصنام الهة روى عن ابن عباس معنى يلحدون فى أسمائه يكذبون وقال اهل المعاني الإلحاد فى اسماء الله تعالى تسميته تعالى بما لم يتسم ولم ينطق به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه واله وسلم والحاصل ان اسماء الله تعالى توقيفية فانه يسمى جوادا ولا يسمى سخيا ويسمى عالما ولا يسمى عاقلا ويسمى رحيما ولا يسمى رقيقا وقال الله عز وجل يخادعون الله وهو خادعهم وقال عز وجل ومكروا ومكر الله ولا يقال يا خادع يا مكار ويقال يا قائم بالقسط ولا يقال يا قائم ولا يقال يا خالق القردة والخنازير ويا كبير من زيد وان كان زيد اكبر من ملوك الدنيا بل يدعى بأسمائه التي ورد بها التوقيف على وجه التعظيم ولا يجوز لنا أخذ اسم من اسماء الله تعالى التي ورد فى التورية من اليهود لعدم الاعتماد على قولهم لكفرهم لكن من اسلم من أحبارهم وحسن إسلامه فلا بأس بالأخذ منه فان عمر رضى الله عنه وابن عباس وأبا هريرة وغيرهم من الصحابة كانوا يسألون أبناء التورية من كتب الأحبار وعبد الله بن سلام من غير نكير فمعنى الاية على هذا وذروا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لم يرد به الشرع او المعنى ذروا الملحدين يعنى لا تبالوا بانكارهم فيما سمى به نفسه كقولهم ما نعرف إلا رحمن اليمامة او المعنى ذروهم والحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات ولا توافقوهم عليه او اعرضوا عنهم فان الله مجازيهم كما قال سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال البغوي قال عطاء عن ابن عباس يريد امة محمد صلى الله عليه واله وسلم(3/438)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
وهم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان وقال قتادة بلغنا ان النبي صلى الله عليه واله وسلم كان إذا قرأ هذه الاية قال هذه لكم وقد اعطى القوم بين ايديكم مثلها ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون وقال الكلبي هم من جميع الخلق وعلى كلا التقديرين ذكر الله تعالى فى هذه الاية بعد ما بيّن انه خلق للنار طائفة ظالمين ملحدين عن الحق انه خلق للجنة امة هاذين عادلين فى الأمر والاستدلال بهذه الاية على صحة اجماع كل عصر ضعيف إذ لا دلالة فيها على ان فى كل فرقة طائفة بهذه الصفة فلا مساس لهذه الاية بقوله صلى الله عليه واله وسلم لا يزال من أمتي امة قائمة بامر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي امر الله وهم على ذلك متفق عليه من حديث معاوية بن ابى سفيان والمغيرة بن شعبة.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعنى كفار مكة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يعنى سنقربهم الى الهلاك قليلا قليلا واصل الاستدراج الاستصعاد او الاستنزال درجة بعد درجة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ قال عطاء سنمكر بهم من حيث لا يعلمون وقال الكلبي تزين لهم أعمالهم فنهلكهم وقال الضحاك كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وقال سفيان الثوري نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر.
وَأُمْلِي لَهُمْ عطف على سنستدرجهم يعنى امهلهم وأطيل لهم مدة عمرهم وازين أعمالهم السوء وامهلها ليتمادوا فى المعاصي المفضية الى الهلاك إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ اى أخذي شديد وانما سماه كيدا لان ظاهره احسان وباطنه خذلان قال ابن عباس ان مكرى شديد قيل نزلت فى المستهزئين فقتلهم الله فى ليلة واحدة والله اعلم اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قام على الصفا ليلا فجعل يدعو قريشا فخذا فخذا يا بنى فلان يا بنى فلان يحذرهم بأس الله ووقائعه فقال قائلهم ان صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت الى الصباح فانزل الله تعالى.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا سكته ما بِصاحِبِهِمْ محمد صلى الله عليه واله وسلم مِنْ جِنَّةٍ اى جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضح إنذاره بصوره جلى بحيث لا يخفى على أحد.
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعنى ما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يحصى الدلالة على كمال قدرة صانعها ووحدته ليظهر لهم صحة ما يدعوهم اليه وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت وان مصدرية او خفيفة عن الثقيلة واسمه ضمير الشان وكذا اسم يكون والمعنى او لم ينظروا فى اقتراب اجالهم وتوقع حلولها حتّى يسارعوا الى طلب الحق والتوجه الى ما ينجيهم قبل حلول اجالهم والاستفهام فى او لم يتفكروا واو لم ينظروا للانكار والتعجب والواو للعطف على محذوف تقديره الم يؤمنوا بالقران والنبي ورموه بالجنون ولم يتفكروا ولم ينظروا(3/439)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ اى بعد القران العربي المعجز المشحون من العلم والحكمة على لسان رجل منهم أمي غير متهم قط بالكذب يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا بالقران يعنى لعل اجالهم قريبة فما بالهم لا يتبادرون الايمان بالقران وما يطلبون أوضح دليل منه فاذا لم يؤمنوا به فباى حديث أحق منه يريدون ان يؤمنوا به ثم ذكر علة اعراضهم فقال.
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ قرأ ابو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة والضمير راجع الى الله والباقون بالنون على التكلم وقرأ حمزة والكسائي يذرهم بالجزم عطفا على محل فلا هادى له كانه قال فلا يهده أحد غيره ويذرهم والباقون بالرفع على الاستيناف فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين يعمهون حال من الضمير المنصوب فى يذرهم اخرج ابن جرير عن قتادة وغيره انه قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان بيننا وبينك قرابة فاشر إلينا متى الساعة واخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال قال حمل بن ابى قشير وسمول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم متى الساعة ان كنت نبيا كما تقول فانا نعلم ما هى فانزل الله تعالى.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ اى القيامة وهى من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها اما لوقوعها بغتة او لسرعة حسابها او لانها على طولها عند الله كساعة أَيَّانَ متى مُرْساها مصدر ميمى يعنى ارسائها اى إثباتها واستقرارها ورسوا لشئ ثباته واستقراره ومنه رسا الجبل وارسى السفينة قال ابن عباس معناه منتهاها وقال قتادة قيامها قُلْ يا محمد إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر بعلمها لا يعلمها الا هو لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا لا يُجَلِّيها اى لا يظهر أمرها ولا يكشف خفائها لِوَقْتِها اى فى وقتها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى ثقل علمها وخفى أمرها بأعلى اهل السموات والأرض وكل خفى ثقيل او يقال كل من اهل السموات والأرض من الملئكة وغيرهم أهمه شان الساعة ويتمنى ان يتجل له علمها وشق عليه خفائها او ثقلت فيها لانهم يخافون شدائدها وأهوالها وقال الحسن معناه إذا جاءت ثقلت على أهلها من الملئكة والثقلين وعظمت كانه اشارة الى الحكمة فى اخفائها لا تَأْتِيكُمْ الساعة إِلَّا بَغْتَةً فجاءة على غفلة فى الصحيحين عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمها ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته الى فيه فلا يطعمها واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عمر قال لينفخن فى الصور والناس فى طرقهم وأسواقهم(3/440)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
ومجالسهم حتى ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتّى ينفخ فى الصور فيصعق به قال وهى التي قال الله تعالى ما ينظرون الا صيحة واحدة قال تقوم الساعة والناس فى أسواقهم يتبايعون ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح وفى حوائجهم فلا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون واخرج عبد الله بن احمد فى رواية الزهد عن زيد بن العوام قال ان الساعة تقوم والرجل يذرع الثوب والرجل يحلب الناقة ثم قرأ فلا يستطيعون توصية الاية واخرج الطبراني بسند جيد عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع فى السماء تنتشر حتى تملأ السماء ثم ينادى مناديا ايها الناس اتى امر الله فلا تستعجلوه قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والذي نفسى بيده ان الرجلان ينشران الثوب فلا يطويانه وان الرجل ليمدد حوضه «1» فلا يسقى منه شيئا والرجل يحلب ناقته فلا يشربه يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فعيل من حفى الشيء إذا سال عنه وبالغ فى السؤال والمعنى كانك عالم بها فانه من بالغ فى السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه ولذلك عدى بعن وقيل عنها متعلق يسئلونك تقديره يسألونك عنها كانك حفى اى عالم وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فان قريشا قالوا ان بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك عنها كانك شفيق بقريش تخصهم بالاطلاع عليها لاجل قرابتك بهم قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ كرره لتكرير يسألونك لمانيط به قوله كانك حفى وللمبالغة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ان علمها مما استاثره الله ولم يوته أحدا من خلقه.
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا اى جلب منفعة ولا دفع مضرة دينية ولا دنيوية وهو اظهار للعبودية والتبري عن دعوى العلم بالغيب إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من ذلك فيعلمنى به وحيا جليا او خفيا ويعطنى قدرة على جلب النفع او دفع الضرر وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يعنى لاستكثرت من جلب المنافع ودفع المضار حتّى لا يمسنى سوء ولم أكن مغلوبا فى الحروب تارة وغالبا اخرى وقيل معناه لو كنت اعلم الغيب يعنى متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح وما مسنى السوء يعنى اجتنب عما يكون من الشر والفتنة وقيل معناه لو كنت اعلم الغيب اى متى الساعة لاخبرتكم حتّى تؤمنوا وما مسّنى السوء بتكذيبكم وقيل ما مسنى السوء كلام مبتدأ رد لقولهم انك مجنون يعنى ما مسنى جنون إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ للكافرين وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون وجاز ان يكون لقوم يؤمنون متعلقا
__________
(1) امدد الحوض طينه لتستلب منه الماء 12(3/441)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
لبشير ونذير كليهما على سبيل تنازع الفعلين فان النذارة والبشارة انما ينفعان فيهم.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها اى من جسدها من ضلع من أضلاعها زَوْجَها حواء لِيَسْكُنَ إِلَيْها اى ليانس بها ويطمئن إليها ذكر للضمير ذهابا الى المعنى ليناسب قوله فَلَمَّا تَغَشَّاها اى جامعها حَمَلَتْ حواء حَمْلًا خَفِيفاً خف عليها ولم تلق منه ما تلقى الحوامل غالبا من الأذى او محمولا خفيفا وهو النطفة فَمَرَّتْ بِهِ اى فمضت به الى وقت ميلاده من غير إخراج ولا ازلاق او فاستمرت به وقامت وقعدت ولم يثقلها فَلَمَّا أَثْقَلَتْ اى صارت ذات ثقل إذ اكبر الولد فى بطنها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما اى دعا آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا يا ربنا صالِحاً سويّا قد صلح بدنه مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على هذه النعمة المجددة قال البغوي قال المفسرون لما حملت حواء أتاها إبليس فى صورة رجل وقال لها ما الذي فى بطنك قالت ما أدرى قال أخاف ان يكون بهيمة او كلبا او خنزيرا وما يدريك من اين يخرج من دبرك فيقتلك او من فيك او ينشق بطنك فخافت حواء من ذلك وذكرت ذلك لادم عليه السلام فلم يزالا فى هم من ذلك ثم عاد إليها فقال انى من الله بمنزلة فان دعوت الله ان يجعله خلقا سويا مثلك ويسهل عليك خروجه أتسميه عبد الحارث وكان اسم إبليس فى الملئكة الحارث فذكرت لادم عليه السلام فقال لعله صاحبنا الذي قد علمت فعاودها إبليس فلم يزل بهما إبليس حتى غرهما فلما ولدت سمياه عبد الحارث قال الكلبي قال لها ان دعوت الله فولدت إنسانا أتسميه بي قالت نعم فلما ولدت قال سميه بي قالت وما اسمك قال الحارث ولو سمى لها نفسه لعرفته فسمته عبد الحارث وروى عن ابن عباس قال كانت حواء تلد وآدم يسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن فيصيبهم الموت فسمياه عبد الحارث فعاش واخرج احمد والترمذي وحسنه وقال غريب والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فانه يعيش فسمته فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وامره قال البغوي جاء فى الحديث انه خدمهما إبليس مرتين مرة فى الجنة ومرة فى الأرض وقال ابن زيد ولد لادم فسماه عبد الله فاتها إبليس فقال ما سميتهما ابنكما قالا عبد الله وكان قد ولد لهما قبل ذلك ولد فسمياه عبد الله فمات فقال إبليس أتظنان ان الله تارك عبده عندكما والله ليذهبن به كما ذهب بالاخر ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما فسمياه عبد الشمس قال البغوي والاول أصح.
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بشرا سويا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ(3/442)
فِيما آتاهُما
قرأ ابو بكر شركاء بكسر الشين والتنوين اى شركة قال ابو عبيدة يعنى حظا ونصيبا وقرأ الآخرون بضم الشين وفتح الراء والمد والهمز جمع شريك قال البغوي اخبر عن الواحد بلفظ الجمع اى جعلا له شريكا إذ سمياه عبد الحارث وقال لم يكن هذا اشراكا فى العبادة ولا فى اعتقاد ان الحارث ربهما فان آدم كان نبيا معصوما من الشرك ولكن قصد ان الحارث كان سبب نجاة الولد وسلامة امه وقد يطلق اسم العبد على من لا يراد به انه مملوك كما يطلق اسم الرب على من لا يراد به انه معبود وهذا كالرجل إذا نزل به ضيف يسمى نفسه عبد الضيف على وجه الخضوع لا على ان الضيف ربه ويقول للغير انا عبدك وقال يوسف لعزيز مصر انه ربى احسن مثواى ولم يرد به انه معبوده كذلك هذا وقال الحسن وعكرمة معنى قوله تعالى جعلا له شركاء انه جعل أولادهما يعنى كفار مكة وغيرهم له تعالى شركاء فيما اتى أولادهما على حذف المضاف فى الموضعين واقامة المضاف اليه مقامه نظيره قوله تعالى ثم اتخذتم العجل وإذ قتلتم نفسا خطابا للذين كانوا فى عهد النبي صلى الله عليه واله وسلم من اليهود وكان ذلك من فعل ابائهم والمعنى ثم اتخذ آباؤكم العجل وإذ قتل اسلافكم نفسا ويؤيد هذا القول إيراد شركاء بصيغة الجمع وقوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يعنى الأصنام وكذا ما بعدها من الآيات وقال البغوي قيل هذا ابتداء كلام وأراد به اشراك اهل مكة ولئن أراد ما سبق فمستقيم من حيث انه كان الاولى بهما ان لا يفعلا ما فعلا من الإشراك فى الاسم وقال السيوطي هذا معطوف على خلقكم وما بينهما اعتراض وقال البغوي وقيل هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوهم ونصروهم وقال ابن كيسان هم الكفار سموا أولادهم عبد العزى وعبد اللات وعبد المناف وعبد الشمس وقال عكرمة خاطب كل واحد من الخلق بقوله خلقكم من نفس واحدة اى من أبيه وجعل منها اى من جنسها زوجها قال البغوي وهذا قول الحسن والاول قول السلف ابن عباس ومجاهد وسعيد بن المسيب وجماعة من المفسرين انه آدم وحواء قلت ذكر الله سبحانه من آدم قصة أكل الشجرة بعد ما نهى عنه واشنع عليه فى القران فى عدة مواضع حيث قال وعصى آدم ربه فغوى وذكر انه ندم على ذلك كثيرا حيث قال ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فتاب الله سبحانه عليه وقال ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ومع ذلك ندم آدم على تلك الزلة ابدا حتّى انه ورد فى الصحيحين فى حديث طويل عن انس ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال يحبس المؤمنون يوم القيامة حتّى يهموا بذلك فيقولون لو استشفعنا الى ربنا فيريحنا(3/443)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
من مكاننا فياتون آدم فيقولون أنت آدم ابو الناس خلقك الله بيده وأسكنك جنته واسجد لك ملئكته وعلمك اسماء كل شىء اشفع لنا عند ربك فيريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب أكله من الشجرة وقد نهى عنها ولم يذكر هذا الخطيئة من آدم عليه السلام ولو كانت تلك الخطيئة من آدم عليه السلام لكانت اغلظ من الاولى فى هذا المقام تاويل النصوص على ما قال الحسن وعكرمة.
أَيُشْرِكُونَ به تعالى ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً يعنى إبليس والأصنام وَهُمْ يُخْلَقُونَ هم ضمير للاصنام جئ به بناء على تسميتهم الهة.
وَلا يَسْتَطِيعُونَ اى الأصنام لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بكسر او نحو ذلك.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ اى المشركين إِلَى الْهُدى اى الإسلام لا يَتَّبِعُوكُمْ قرأ نافع هاهنا وفى الشعراء يتبعهم الغاوون بسكون التاء المثناة من فوق وفتح الموحدة من المجرد والباقون بتشديد المثناة وكسر الموحدة من الافتعال وهما بمعنى يقال تبعه واتبعه اتباعا وقيل الخطاب للمشركين والضمير المنصوب فى تدعوهم للاصنام اى ان تدعوا ايها الكفار الأصنام الى ان يهدوكم لا يتبعوكم اى لا يجيبوكم الى مرادكم كما يجيب الله سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ لم يقل أم صمتم لرعاية رؤس الاى وللمبالغة فى عدم إفادة الدعاء من حيث ان الدعاء مستو بالثبات على الصمات او لانهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكانه قيل سواء عليكم أحداثكم دعائهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ايها المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ اى تعبدونهم وتسمونهم الهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ اى مخلوقة مملوكة مذللة مسخرة لما أريد منهم قال مقاتل أراد به الملئكة والخطاب مع قوم يعبدون الملئكة والاول أصح فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ انها الهة ويحتمل انهم لما نحتوا الأصنام بصورا لاناسى قال لهم ان منتهى أمرهم ان يكونوا احياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحقها بعضكم من بعض ثم بين انها دونكم منزلة فقال.
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها قرأ ابو جعفر هاهنا وفى القصص والدخان بضم الطاء والباقون بكسرها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها كما هى لكم فكيف تعبدون ما هى أدون منكم منزلة قُلِ يا محمد ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ايها المشركون ثُمَّ كِيدُونِ قرأ هشام بخلاف عنه بإثبات الياء فى الحالين وابو عمرو بإثباتها فى الوصل خاصة والباقون بحذفها فى الحالين يعنى بالغوا فيما(3/444)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
تقدرون أنتم وشركاؤكم فى المكر وإصابة المكروه فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلونى فانى لا أبالي بكم لوثوقى على ولاية الله تعالى وحفظه.
إِنَّ وَلِيِّيَ اى حفيظى اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القران وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده فضلا من أنبيائه قال ابن عباس الذي لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا يعنى الأصنام وَتَراهُمْ ايها المخاطب يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يعنى انهم يشهون الناظر إليك لانهم صوروا الصورة الإنسان وقال الحسن معنى الاية ان تدعوهم يعنى المشركين على الإسلام لا يسمعوا اى لا يعقلون ذلك بقلوبهم وتراهم ينظرون إليك بأعينهم وهم لا يبصرون بقلوبهم والله اعلم.
خُذِ الْعَفْوَ قال عبد الله بن الزبير ومجاهد امر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه واله وسلم ان يأخذ العفو من اخلاق الناس وأعمالهم وما يسهل عليهم وذلك مثل قبول اعتذار والعفو والمساهلة وترك البحث عن الأشياء والتجسس ونحو ذلك ولا تطلب ما يشق عليهم فالعفو هو ضد الجهد وقيل معناه خذ العفو عن المذنبين اخرج البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصين بن حذيفة فدخل على ابن أخيه الحر بن يقيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء اصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا او شبانا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا فاستاذن لى عليه قال ساستاذن لك عليه قال ابن عباس فاستاذن الحر للعيينة فاذن له عمر فلما دخل قال يا ابن الخطاب فو الله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتّى هم ان يوقع به فقال الحسن يا امير المؤمنين ان الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه واله وسلم خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين وان هذا من الجاهلين والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل عن انس بن مالك ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال إذا وقف العباد للحساب جاء قوم فذكر الحديث وفيه ثم نادى مناد ليقم من اجره على الله فليدخل الجنة قيل ومن ذا الذي اجره على الله قال العافون عن الناس فقام كذا وكذا الفا فدخلوها بغير حساب رواه الطبراني بإسناد حسن وروى انه نزلت هذه الاية قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لجبرئيل ما هذا قال لا أدرى حتّى اسأل ربى ثم رجع فقال ان ربك أمرك ان تصل من قطعك وتعطى من حرمك تعفو عمن ظلمك رواه ابن مردوية عن جابر وابن ابى الدنيا وابن جرير وابن ابى حاتم عن الشعبي مرسلا وعن ابى بن كعب(3/445)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال من سره ان يشرف له البنيان ويرفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد كذا قال لكنه منقطع وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها رواه البخاري وعن ابى هريرة ان رجلا قال يا رسول الله ان لى قرابة أصلهم ويقطعونى واحسن إليهم ويسيئو الى وأحلم عنهم ويجهلون علىّ فقال لئن كنت كما قلت فكانما تسفّهم المل «1» ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك رواه مسلم وقال ابن عباس والضحاك والكلبي معنى الاية خذ ما عفا لك من الأموال وهو الفضل من العيال وذلك معنى العفو فى قوله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل العفو ثم نسخت هذه بالصدقات المفروضات وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ اى بما هو معروف حسنة من الافعال شرعا وعقلا عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال من راى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان رواه مسلم وعن حذيفة ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال والذي نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر او ليوشكن الله ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتد عنه ولا يستجاب لكم رواه الترمذي وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ يعنى إذا سفه عليك الجاهلون فلا تقابلهم بالسفه ولا تكافيهم بمثل أفعالهم نظيره قوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال جعفر الصادق رضى الله عنه امر الله نبيه صلى الله عليه واله وسلم بمكارم الأخلاق وليس فى القران اية اجمع لمكارم الأخلاق من هذه الاية وعن جابر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان الله عز وجل بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الافعال رواه البغوي وعن عائشة انها قالت لم يكن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا فى الأسواق ولا يجزى السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح
رواه الترمذي والبغوي.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ما زائدة بعد ان الشرطية والنزع النخس وهو الضرب برؤس الأصابع والمراد هاهنا التحريك الى الشر والإغراء والوسوسة والمعنى ان يصيبك ويعتريك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ قال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت قوله تعالى خذ العفو قال النبي صلى الله عليه واله وسلم كيف يا رب والغضب فنزل واما ينزغنك من الشيطان نزغ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ اى استجر به جواب الأمر محذوف اى يدفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ لقولك عَلِيمٌ بالتجائك وبما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه او سميع لاقوال من اذاك عليم بأفعاله
__________
(1) المل الرمال الحار الذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج أراد انما تجعل المل لهم سقوفا يستفونه حتّى ان عطاءك إياهم حرام عليهم ونار فى بطونهم 12 [.....](3/446)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
فيجازيه عليها مغنينا إياك عن الانتقام واتباع الشيطان.
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة على وزن فاعل من طاف يطوف والمراد به لمة كانها طافت بهم ودارت حولهم فلم يقدر ان يؤثر فيهم او من طاف به الخيال يطيف طيفا وقرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي ويعقوب طيف بغير همز على انه مصدر على وزن ضرب او مخفف طيّف على وزن ليّن وهيّن مِنَ الشَّيْطانِ المراد به الجنس ولذلك جمع ضميره «1» تَذَكَّرُوا ما امر الله به ونهى عنه وثوابه وعقابه وان هذه لمة من الشيطان فَإِذا هُمْ اى الذين اتقوا مُبْصِرُونَ مواقع الخطاء مكائد الشيطان بسبب التذكر فيتحرّزون عنها ولا يتبعونه فيها قال السدى المتقى إذ ازل تاب وقال مقاتل ان المتقى إذا أصابه نزغ من الشيطان تذكر وعرف انه معصية فابصر ونزع عن مخالفة الله تعالى والاية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله.
وَإِخْوانُهُمْ اى اخوان الشياطين يعنى الفساق وجاز ان يكون المراد بالاخوان الشياطين ويعود الضمير الى الجاهلين قال الكلبي لكل كافراخ من الشياطين يَمُدُّونَهُمْ قرأ نافع بضم الياء وكسر الميم من الامداد والباقون بفتح الياء وضم الميم من المجرد يعنى يمدهم الشياطين اى يعينونهم بالتسهيل والإغراء او هم يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال فِي الغَيِّ اى الضلال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ اى لا يكفوا الفساق عن الضلالة ولا يبصرون بخلاف المؤمنين تذكروا فاذا هم مبصرون كذا قال الضحاك ومقاتل او المعنى ثم لا يكفون الشياطين عن اغوائهم حتّى يردونهم قال ابن عباس لا الانس يقصرون عما يعملون من السيئات ولا الشياطين يمسكون عنهم.
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا محمد بِآيَةٍ من القران او معجزة مما اقترحوه قالُوا يعنى الكفار لَوْلا اجْتَبَيْتَها اى هلا جمعتها تقولا من نفسك يقول العرب اجتبيت الكلام إذا اختلقته او هلا أخذتها من الله قال الكلبي كان اهل مكة يسألون النبي صلى الله عليه واله وسلم الآيات تعنتا فاذا تأخرت اتهموه وقالوا لولا اجتبيتها اى هلا أنشأتها من عندك قُلْ لهم يا محمد إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي اى لست بمختلق للايات او لست بمقترح لها هذا القران بَصائِرُ للقلوب بها تبصر الحق من الباطل والصواب من الخطاء او حجج وبرهان يظهر بها صدق دعواى مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية والبيهقي فى سننه من طريق ابى عياض عن ابى هريرة قال كانوا يتكلمون فى الصلاة فنزلت هذه الاية وفى رواية عنه انها نزلت فى رفع الأصوات خلف رسول الله صلى الله
__________
(1) فى وإخوانهم 12 ابو الخير(3/447)
عليه واله وسلم واخرج ابن ابى حاتم وابن مردوية عن ابن مسعود انه سلم على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهو يصلى فلم يرد وكان الرجل قبل ذلك يتكلم فى صلوته ويأمر لحاجته فلما فرغ رد عليه وقال ان الله يفعل ما يشاء وانها نزلت وإذا قرأ القران فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون واخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال كنا نسلم بعضنا على بعض فى الصلاة فنزلت فاستمعوا له وانصتوا واخرج ابن مردوية والبيهقي فى سننه عن عبد الله بن مغفل قال كان الناس يتكلمون فى الصلاة فأنزل الله هذه الاية فنهى النبي صلى الله عليه واله وسلم عن الكلام فى الصلاة واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابو الشيخ وابن جرير والبيهقي عن قتادة قال كانوا يتكلمون فى الصلاة أول ما أمروا بها كان الرجل يجئ وهم فى الصلاة فيقول لصاحبه كم صليتم فيقول كذا وكذا فانزل الله هذه الاية فامروا بالاستماع والإنصات واخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال كانوا يتكلمون فى الصلاة فانزل الله هذه الاية فهذه الروايات تدل على ان الاية نزلت للنهى عن الكلام فى الصلاة فقال ابو حنيفة رحمه الله وهو رواية عن احمد ان الكلام فى الصلاة عامدا كان او ناسيا او ساهيا او مكرها او جاهلا بالتحريم قل او كثر ينقض الصلاة غير ان السلام ناسيا غير مبطل للصلوة وعند الائمة الثلاثة إذا تكلم فى صلوته او سلم ناسيا او جاهلا بالتحريم او سبق لها لسانه لا يبطل صلوته وان طال والأصح عند الشافعي ان الكلام ناسيا ونحو ذلك ان طال يبطل وعن مالك ان كلام العامد فيما فيه مصلحة وان لم يكن عائدة الى الصلاة كارشاد الضال وتحذير الضرير لا يبطل الصلاة احتج الائمة الثلاثة بحديث ابن سيرين عن ابى هريرة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم احدى صلوة العشاء فصلى ركعتين ثم سلم فقام الى خشبة معروضة فى المسجد فاتكأ عليها كانه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه ووضع خده الايمن على ظهر كفه اليسرى وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا قصرت الصلاة وفى القوم ابو بكر وعمر فهاباه ان يكلماه وفى القوم رجل فى يديه طول يقال له ذو اليدين فقال يا رسول الله نسيت أم قصرت الصلاة فقال لم انس ولم تقصر فقال أكما يقول ذو اليدين فقالوا نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده او أطول ثم رفع راسه ثم كبر وسجد مثل سجوده او أطول ثم رفع راسه وكبر فربما سألوه ثم سلم فيقول يعنى ابن سيرين نبئت ان عمران بن حصين قال ثم سلم متفق عليه وبحديث عمران بن حصين ان النبي صلى الله عليه واله وسلم سلّم فى ثلث ركعات(3/448)
من العصر ثم دخل منزله فقام اليه رجل يقال له الخرباق وكان فى يديه طول فقال يا رسول الله فذكر به فخرج كانه غضبان يجر ردائه حتّى انتهى الى الناس فقال اصدق هذا قالوا نعم فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم رواه مسلم وجه الاحتجاج ان النبي صلى الله عليه واله وسلم تكلم معتقدا ان صلوته قد تمت وانه ليس فى الصلاة وكذلك ذو اليدين لامكان النسخ واعترض على هذا الحديث بوجوه أحدها ان أبا هريرة اسلم فى سنة سبع وذو اليدين قتل يوم بدر فكيف يصح قوله صلى بنا وثانيها ان ألفاظه يختلف فتارة يروى فسلم من ركعتين وتارة من ثلث وثالثها ان هذا كان حين كان الكلام مباحا فى الصلاة ولهذا تكلم ابو بكر وعمرو الناس عامدين وأجيب بانه اتفق الائمة على صحة الحديث واسم ذى اليدين الخرباق كما ذكر فى حديث عمران بن حصين وهو عاش بعد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وانما المقتول يوم بدر ذو الشمالين اسمه عمير وانما وقع اعتراضهم على رواية الزهري لهذا الحديث فانه قال فى رواية فقام ذو الشمالين قال ابو داود السجستاني وهم الزهري فى هذا الحديث فرواه عن ذى الشمالين ظنا منه ان ذا الشمالين وذا اليدين واحد واما اختلاف ألفاظه فجوابه ان حديث ابى هريرة لم يختلف
وانما يروى الثلث من عمران وهو من افراد مسلم وحديث ابى هريرة أصح وان الشك فى العدد لا يضر مع حفظ اهل الحديث وثبوت الكلام ناسيا واما تحريم الكلام فقال ابو حاتم بن حبان انما كان الكلام بمكة فلما بلغ المسلمون بالمدينة سكتوا وقال زيد بن أرقم وهو من اهل المدينة كنا نتكلم فى الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فامرنا بالسكوت وقال ابو سليمان الخطابي نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة يسيرة وعلى القولين كان تحريم الكلام قبل اسلام ابى هريرة بيقين واما كلام ابى بكر وعمر الناس فاجيب عنه بوجهين أحدهما ان فى رواية حماد بن زيد عن أيوب انهم اومؤا اى نعم فدل ذلك ان رواية من روى انهم قالوا نعم فيه تجوز والمراد انهم اومؤا ثانيهما انه لم ينسخ من الكلام ما كان جوابا لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم لحديث ابى سعيد بن المعلى قال كنت أصلي فى المسجد فدعانى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلم أجبه حتّى أتيته فقلت يا رسول الله انى كنت أصلي فقال الم يقل الله استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم رواه البخاري واحتج ابو حنيفة بحديث معاوية بن الحكم قال بينا نحن نصلى مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت له يرحمك الله فرمانى القوم بأبصارهم فقلت وا ثكلى أمياه ما شانكم تنظرون الىّ فجعلوا يضربون بايديهم على افخاذهم فلما رأيتهم يصمتونى لكنى سكت فلما صلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم دعانى فبابى هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده احسن تعليما منه والله ما لهزنى «1» ولا شتمنى
__________
(1) اللهز الضرب بجمع الكف فى الصدر 12 نهايه(3/449)
ولا ضربنى ثم قال ان هذه الصلاة لا تصلح فيها شىء من كلام الناس انما هو التسبيح والتكبير وقراءة للقران رواه مسلم وبحديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الكلام ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء رواه الدارقطني وأجيب بان حديث معاوية حجة على ابى حنيفة لا له حيث لم يأمره رسول الله صلى الله عليه واله وسلم باعادة الصلاة وانما علمه احكام الصلاة وقال له لا يصلح لانه مخطور فى الصلاة واما حديث جابر فهو من رواية ابى شيبة عن يزيد بن خالد عن ابى سفيان وابو شيبة اسمه عبد الرحمن بن اسحق ضعيف كذلك قال يحيى بن معين وقال احمد ليس بشئ منكر الحديث ويزيد لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد كذا قال ابن حبان والله اعلم وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد ان الاية فى الخطبة أمروا بالإنصات لخطبة الامام يوم الجمعة واختار السيوطي هذا القول وقد ذكرنا مسئلة الإنصات فى الخطبة فى سورة الجمعة وقال عمر بن عبد العزيز الإنصات لقول كل واعظ وقال الكلبي كانوا يرفعون أصواتهم فى الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار يعنى بالدعاء والتعوذ وقال قوم نزلت الاية فى ترك الجهر بالقراءة خلف الامام قال البغوي روى زيد بن اسلم عن أبيه عن ابى هريرة قال نزلت هذه الاية فى رفع الأصوات خلف رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى الصلاة وذكر البغوي عن المقداد انه سمع ناسا يقرءون مع الامام فلما انصرف قال اما ان لكم ان تفقهوا إذا قرأ القران فاستمعوا له وانصتوا كما أمركم الله قال البغوي وهذا قول الحسن والزهري والنخعي ان الاية فى القراءة فى الصلاة خلف الامام قال البغوي وهذا اولى ممن قال انها نزلت للانصات فى الخطبة لان الاية مكية والجمعة وجبت بالمدينة وقال ابن همام اخرج البيهقي عن الامام احمد قال اجمع الناس على ان هذه الاية فى الصلاة واخرج عن مجاهد كان عليه السلام يقرأ فى الصلاة فسمع قراءة فتى من الأنصار فنزل وإذا قرأ القران فاستمعوا له وانصتوا وقد ذكرنا مسئلة القراءة خلف الامام فى سورة المزمل فى تفسير قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران واخرج ابن جرير عن الزهري قال نزلت هذه الاية فى فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كلما قرأ شيئا قرأه قلت يعنى خارج الصلاة وقال سعيد بن منصور فى سننه حدثنى ابو معشر عن محمد بن كعب قال كانوا يتلقون من رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذا قرأ شيئا قرأوا معه حتّى نزلت هذه الاية فى الأعراف قال صاحب لباب النقول فى اسباب النزول ظاهر ذلك الرواية ان الاية مدنية.
(فصل) اختلف العلماء فى وجوب الاستماع والإنصات على من هو خارج الصلاة يبلغه(3/450)
صوت من يقرأ القران فى الصلاة او خارجها قال البيضاوي عامة العلماء على استحبابها خارج الصلاة وقال ابن همام وفى كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع فى الجهر بالقراءة مطلقا قال فى الخلاصة رجل يكتب الفقه وبجنبه يقرأ القران فلا يمكنه استماع القران فالاثم على القاري وعلى هذا لو قرأ على السطح فى الليل جهرا والناس نيام يأثم وهذا صريح فى اطلاق الوجوب ولان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب قلت وقد ثبت عنه صلى الله عليه واله وسلم انه كان يقرأ القران بالليل جهرا بحيث يسمع من وراء حجرته وربما يسمعه الجيران روى الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أم هانى قال كنت اسمع قراءة النبي صلى الله عليه واله وسلم بالليل وانا على عريشى قال البغوي فى شرح السنة العريش السقف سميت بيوت مكة عروشا لانها عيدان ينصب ويظلل وروى ابو داود والترمذي عن ابن عباس قال كان قراءة النبي صلى الله عليه واله وسلم على قدر ما يسمعه من فى الحجرة وهو فى البيت وروى الطحاوي بلفظ كان يصلى بالليل فيسمع قراءته من وراء الحجرة وهو فى البيت وقد كانت فى بيوت النبي صلى الله عليه واله وسلم نسائه وربما كانت إحداهن نائمة وهو يصلى روى البخاري فى الصحيح عن عائشة قالت كنت أنام بين يدى النبي صلى الله عليه واله وسلم ورجلاى فى قبلته فاذا سجد غمزنى فقبضت رجلى فاذا قام بسطتها قالت والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح وكان اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقرءون القران بالليل والنهار رافعى أصواتهم من غير نكير روى مسلم عن ابى موسى الأشعري ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال له لقد رأيتنى وانا اسمع لقراءتك البارحة وفى الصحيحين عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انى لاعرف أصوات رفقة الأشعريين حين يرحلون واعرف منازلهم من أصواتهم بالقران باليل وان كنت لم ار منازلهم حين نزلوا بالنهار ولا شك ان بعض الناس فى العسكر كانوا يناما وقت قراءة الأشعريين وروى ابن ابى داود عن على بن ابى طالب رضى الله عنه انه سمع ضجة ناس فى المسجد يقرءون القران فقال طوبى لهؤلاء كانوا أحب الناس الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فهذه الأحاديث تدل على فساد ما افتى به صاحب الخلاصة واخرج ابن مردوية فى تفسيره قال ثنا ابو اسامة عن سفيان عن ابى المقدام هشام بن زيد عن معاوية ابن قرة قال سالت بعض مشايخنا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم احسبه قال عبد الله ابن مغفل كل من سمع القران وجب عليه الاستماع والإنصات قال انما نزلت هذه الاية إذا قرأ القران فاستمعوا له وانصتوا فى القراءة خلف الامام قلت واللام فى قوله تعالى إذا قرئ القران(3/451)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
للعهد دون الجنس والمراد به القران المقر ولاستماعكم كالامام يقرأ حتى يسمع من خلفه والخطيب يقرأ للتخاطب والمقري يقرأ على التلميذ والله اعلم: - (فصل) لا يجوز الدعاء والتعوذ للسامع إذا قرأ القاري فى القران ذكر الجنة والنار لما ذكرنا من قول الكلبي قال ابن همام ان الله وعده بالرحمة إذا استمع حيث قال فاستمعوا وانصتوا لعلكم ترحمون ووعده حتم واجابة دعاء المتشاغل عنه به غير مجزوم به وكذا الامام: - (مسئلة) وكذا المنفرد لا يشتغل بغير القراءة فى الفرض وفى النفل يسأل الجنة ويتعوذ من النار عند ذكرهما ويتفكر فى اية المثل لحديث حذيفة قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم صلوة الليل فما مر باية فيها ذكر الجنة الا وقف وسأل الله الجنة وما مر باية فيها ذكر النار الا وقف وتعوذ من النار رواه.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ قال ابن عباس يعنى بالذكر القراءة فى الصلاة يريد يقرأ سرا فى نفسه فى صلوة السر تَضَرُّعاً وَخِيفَةً اى متضرعا وخائفا منى وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ اى متكلما كلاما فوق السر ودون الجهر أراد فى صلوة الجهر ولا تجهر جهرا شديدا بل فى خفض وسكون يسمع من خلفك كذا قال ابن عباس فى تفسير الاية فقوله ودون الجهر عطف على قوله فى نفسك قلت وجاز ان يكون المراد اقرأ القران فوق السر دون الجهر جهرا متوسطا نظيره قوله تعالى ولا تجهر بصلوتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ويؤيده حديث ابى قتادة قال ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خرج ليلة فاذا هو بابى بكر يصلى يخفض صوته ومر بعمر وهو يصلى رافعا صوته قال فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال يا أبا بكر مررت بك وأنت تصلى تخفض صوتك قال قد أسمعت من ناجيت يا رسول الله وقال لعمر مررت بك وأنت تصلى رافعا صوتك قال يا رسول الله اوقظ الوسنان واطرد الشيطان فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا رواه ابو داود وروى الترمذي نحوه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري وجاز ان يكون المعنى اقرأ القران سرا وجهرا دون الجهر الشديد يعنى على كلا الوجهين تارة كذا وتارة كذا روى ابو داود عن ابى هريرة قال كانت قراءة النبي صلى الله عليه واله وسلم بالليل يرفع طورا ويخفض طورا وروى الترمذي عن عبد الله بن ابى قيس قال سألت عائشة عن قراءة النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يسر بالقراءة أم يجهر قالت كل ذلك قد كان يفعل ربما اسر وربما جهر قلت الحمد لله الذي جعل فى الأمر سعة قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب.
(فصل) اختلف العلماء فى كيفية القراءة فى الصلاة ليلا وخارج الصلاة فقال قوم لا بد من(3/452)
الجهر وكرهوا المخافة اتباعا لحديث أم هانى وابن عباس المذكورين انه صلى الله عليه واله وسلم كان يسمع قراءة من وراء الحجرة وهو فى البيت وسمعته أم هانى على عريشها والجمهور على ان القاري مخير ان شاء جهر وان شاء اخفت لما ذكرنا من حديث ابى هريرة وعائشة انه صلى الله عليه واله وسلم يرفع طورا ويخفض طورا قال الطحاوي فى حديث أم هانى وابن عباس ذكر رفعه صلى الله عليه واله وسلم صوته وهو لا ينفى الخفض أحيانا وحديث ابى هريرة يبين ان للمصلى ان يخفض ان أحب ويرفع ان أحب فهو اولى وبه يقول ابو حنيفة وابو يوسف ومحمد رحمهم الله تعالى ثم القائلون بالتخيير منهم من قال الإخفات أفضل بحديث عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول الجاهر بالقران كالجاهر بالصدقة والمسر بالقران كالمسر بالصدقة رواه ابو داود والترمذي والنسائي قال الترمذي حديث حسن ولا شك ان صدقة السر أفضل من صدقة العلانية قال الله تعالى ان تبدوا الصدقات فنعما هى وان تخفوها وتوتوها الفقراء فهو خير لكم وبه أخذ جماعة من السلف روى عن الأعمش قد دخلت على ابراهيم رضى الله عنه وهو يقرأ فى المصحف فاستاذن عليه رجل فنظاه «1» وقال لا يرى هذا انى اقرأ كل ساعة وعن ابى العالية رضى الله عنه قال كنت جالسا مع اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال رجل قرأت الليلة كذا وقالوا هذا حظك منه وقال كثير من العلماء الجهر أفضل لما ذكرنا فى ما سبق من الأحاديث فى الجهر ولما فى الصحيحين عن ابى هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه واله وسلم يقول ما اذن الله لشئ كاذنه لنبى حسن الصوت يتغنى بالقران يجهر به ومعنى اذن استمع وهو اشارة عن الرضا والقبول وفيهما عن ابى موسى الأشعري ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال له أوتيت مزمارا «2» من مزامير ال داود وروى ابن ماجة من فضالة بن عبيد قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الله أشد اذنا «3» الى الرجل الحسن الصوت بالقران يجهر بها من صاحب القينة «4» الى قينته وروى ابو داود والنسائي وغيرهما عن البراء ابن عازب قال قال رسول
__________
(1) نظّاه اى بغده 12 نهايه
(2) المزمار الآلة التي يزمر بها والزمارة التغني يقال زمر إذا غنى شبه رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حسن صوت ابى موسى وحلاوة نغمته بصوت المزمار داود النبي عليه السلام اليه المنتهى فى حسن الصوت بالقراءة ولفظ ال مقحمة وقيل معناه هاهنا الشخص 12
(3) أشد اذنا اى أشد استماعا 12
(4) القينة المغنية 12: -(3/453)
الله صلى الله عليه واله وسلم زينوا القران بأصواتكم قال ابو حامد الغزالي وغيره من العلماء طريق الجمع بين الاخبار ان الاسرار ابعد من الرياء فهو أفضل فى حق من يخاف ذلك فان لم يخف الرياء فالجهر أفضل لان العمل فيه اكثر ولان فائدته متعد الى غيره فهو أفضل ولانه يوقظ قلب القاري ويجمع همته الى الفكر ويصرف سمعه اليه ويطرد النوم ويزيد فى النشاط ويوقظ غيره من نائم او غافل وينشطه فمهما حضر شىء من هذه النيات فالجهر أفضل وان اجتمعت النيات تضاعف الاجر ولهذا قلنا القراءة فى المصحف أفضل قلت لا شك ان فى الجهر بالقران أحاديث كثيرة والآثار من الصحابة والتابعين اكثر من ان تحصى لكن فيمن لا يخاف رياء ولا إعجابا ولا غيرهما من القبائح ولا يؤذى جماعة يلبس عليهم صلواتهم ويخلطها عليهم فمن خاف شيئا من ذلك فلا يجوز له الجهر وان لم يخف استحب الجهر فان كانت القراءة فى جماعة مجتمعين مستمعين تأكد استحباب الجهر لكن لا يجوز كمال الجهر وان يجهد الرجل نفسه فى الجهر لقوله تعالى ودون الجهر من القول روى محمد ص فى موطاه عن مالك عن عمه ابى سهيل عن أبيه ان عمر بن الخطاب كان يجهر بالقراءة فى الصلاة وانه كان يسمع قراءة عمر بن الخطاب عند دارابى جهيم فقال محمد الجهر بالقران فى الصلاة فيما يجهر بالقراءة حسن ما لم يجهد الرجل نفسه والله اعلم: - فان قيل الجهر بالذكر والدعاء بدعة والسنة فيهما الإخفاء كما مر المسألة فى تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية فما وجه الفرق بين الذكر وقراءة القران مع ان القراءة ايضا ذكر قلنا القران مشتمل على الوعظ والقصص الموجبة للعبرة والاحكام ونظمه معجز جاذب للقلوب السقيمة الى الإسلام ولذا قال الله تعالى وان أحد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله وقراءته باللسان عبادة زائدة على الذكر الذي هو عبادة عن طرد الغفلة عن الجنان وإسماعه غيره عبادة اخرى مرغوبة عند الرحمن بخلاف الذكر والدعاء فان المقصود من الدعاء الاجابة ومن الذكر النسيان عما يشغله من العزيز المنان حتى يسقط عن بصيرته نفس الذكر بل الذاكر ايضا ولا يبقى فى بصيرته الا الواحد القهار: - (فائدة) قال شعبة نهانى أيوب ان أحدث بهذا الحديث زينوا القران بأصواتكم قال ابو عبيدة وانما كره فيما نرى ان يتاول الناس بهذا الحديث الرخصة عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى هذه الالحان المبتدعة ثم ذكر ابو عبيدة أحاديث كثيرة فى(3/454)
تحسين الصوت بالقران ثم قال ومحمل هذه الأحاديث طريق الحزن والتخويف والتشويق لا الالحان المطربة الملهية وقد روى فى ذلك أحاديث مفسرة مرفوعة وغير مرفوعة منها عن طاؤس قال سئل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اى الناس احسن صوتا بالقران او احسن قراءة فقال الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله وعن طاؤوس احسن الناس صوتا بالقران اخشاها الله تعالى رواه الدارمي عن طاؤس مرسلا وعن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اقرؤا القران بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون اهل العشق ولحون اهل الكتابين وسيجئ بعدي قوم يرجعون بالقران ترجيع الغناء والنوح لا يتجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شانهم رواه البيهقي فى شعب الايمان ورزين فى كتابه والله اعلم: - وقال مجاهد معنى الاية انه تعالى امر ان يذكروه فى الصدور بالتضرع اليه فى الدعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح بالدعاء فان الإخفاء ادخل فى الإخلاص قلت وعلى هذا قوله ودون الجهر عطف تفسيرى لقوله فى نفسك وقد ذكرنا مسئلة الذكر الخفي والجهر فى تفسير قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وما قال البيضاوي او هو امر للماموم بالقراءة سرا بعد فراغ الامام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رحمه الله فليس بشئ فانه خطاب مع النبي صلى الله عليه واله وسلم وقد كان اماما ولم يكن ماموما ولو كان الخطاب للمامومين لكان بصيغة الجمع دون المفرد على نسق قوله تعالى فاستمعوا وانصتوا لعلكم ترحمون وايضا القراءة سراينا فى الاستماع والإنصات كالقراءة جهرا وقوله بعد فراغ الامام عن قراءته غير مستفاد من الاية فيلزم حينئذ التعارض بين الآيتين
وايضا القراءة بعد فراغ الامام لا يتصور فان الامام بعد الفراغ من القراءة يركع ولا قراءة للماموم بعد ما ركع الامام اجماعا ولو قام الامام ساكتا حتّى يفرغ المأموم عن قراءته لزم قلب موضوع الامامة والله اعلم بِالْغُدُوِّ اى باوقات الغدو وهو مصدر غدا يغدو غدوا إذا دخل فى وقت البكرة يعنى أول النهار فى القاموس الغدوة بالضم البكرة او ما بين صلوة الفجر وطلوع الشمس وَالْآصالِ جمع اصيل وهو العشى يعنى اخر النهار وقال البغوي هو ما بين العصر والمغرب خص هذين الوقتين بالذكر لفضلهما والمراد امة الذكر كما يدل عليه قوله تعالى وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يعنى لا تغفل من الله أصلا فى وقت من الأوقات قلت وتذئيل قوله تعالى واذكر ربك فى نفسك بقوله بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين(3/455)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
يدل على ان المراد بالذكر أعم من القراءة وغيره والمقصود طرد الغفلة باى وجه كان والله اعلم.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ عندية وقربا غير متكيف بالفضل والكرامة لامتناع العندية الجسمانية فى جنابه تعالى والمراد بالموصول الأنبياء والملئكة وصالحوا المؤمنين لا يَسْتَكْبِرُونَ اى لا يتكبرون بانفسهم عَنْ عِبادَتِهِ قلت بل يستكبرون أنفسهم بعبادته وَيُسَبِّحُونَهُ وينزهونه عما لا يليق به ويذكرونه يقولون سبحان ربى الأعلى وَلَهُ يَسْجُدُونَ ع اى يخصونه بالسجود والعبادة ولا يشركون به غيره عن معدان بن طلحة قال لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقلت أخبرني بعمل أعمله يدخلنى الله به الجنة فسكت ثم سألته الثانية فسكت ثم سألته الثالثة فقال سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال عليك بكثرة السجود لله فانك لا تسجد لله سجدة الا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة قال معد ان ثم لقيت أبا الدرداء فسألته فقال لى مثل ما قال ثوبان رواه مسلم وفى رواية عن ثوبان بلفظ ما من عبد يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة رواه احمد والترمذي والنسائي وابن حبان والبغوي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء رواه مسلم وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى يقول يا ويلتى امر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فابيت فلى النار رواه مسلم وعن ربيعة بن كعب قال كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاتيه بوضوئه وحاجته فقال لى سل فقلت اسألك مرافقتك فى الجنة قال او غير ذلك قلت هو ذلك قال فاعنى على نفسك بكثرة السجود رواه مسلم وقد ذكرنا مسائل سجود التلاوة فى سورة انشقت والله اعلم: - تمت سورة الأعراف ونتلوها سورة الأنفال إنشاء الله تعالى سادس عشر من المحرم من السنة الاولى من المائة الثانية عشر سنه 12 هجرى فقط تمّت صحّحه المولوى عبد الرحمن مدرس ومفتى مدرسه امينيه دهلى 15 5/ 85 هـ ثم مولوى؟؟؟ عنه هـ سنه 1412 صفر.(3/456)
الجزء الرابع
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرست سورة الأنفال من التفسير المظهرى
1 مضمون صفحه ذكر قتال بدر واختلافهم في الغنائم ونزول صدر السورة 6 ما ورد ان الأنفال يوم بدر كانت خالصة لرسول 6 الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخها آية الخمس حديث بل تنصرون الا بضعفائكم 8 مسئلة القول انا مومن خفا او إنشاء الله 9 حديث في الجنة مائة درجة 10 قصه غزوة بدر 11 سبب خروج النبي صلى الله عليه وسلم 11 ذكر منام عاتكة ووصول ضمضم بن عمرو بمكة 12 خروج قريش من مكة وخوفهم من بنى كنانة 13 وظهور إبليس لهم في صورة سراقة بن مالك- رؤيا ضمضم بن عمرو 14 رؤيا جهيم بن صلت 15 خروج رسول الله عليه وسلم من المدينة 15 دعائه صلى الله عليه وسلم للمدينة 15 بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيس بن 16 عمرو وعدى بن ابى الرغباء يتجسسان الاخبار عن ابى سفيان- إتيان خبر مسير قريش ومشاورته صلى الله عليه وسلم 216 مضمون صفحه أصحابه فتكلموا وأحسنوا واستبشر صلى الله عليه وسلم وبشرهم بأن الله وعد إحدى الطائفتين وكأني انظر مصارع القوم وكره جماعة لقاء العدو 17 ركب عليه السلام وابو بكر يتجسسان الاخبار 17 ثم بعث عليا والزبير وغرهما لذلك فاصابوا غلامين 19 لقريش فاستخبرهما- رجع بسيس وعدى بخبر ابى سفيان 20 وصول ابى سفيان ببدر واطلاعه على مسير 20 رسول الله صلى الله عليه وسلم واسراع سيره الى الساحل حتى احرز عيره أرسل ابو سفيان ابى قريش ان ارجعوا 20 الى مكة فابى ابو جهل وكره اهل الرأي منهم راى ابى جهل ورجع بنى زهرة الى مكة بقول الأخنس نزلت قريش عند بدر بالعدوة القصوى- 21 ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون 21 بالعدوة الدنيا وغلب المشركون على الماء فى أول أمرهم فظمى المسلمون ووسوس لهم الشيطان فانزل الله المطر على المشركين وابلا منعهم من التقدم وأفزعهم وعلى المسلمين طلّا طهّرهم واذهب(4/2)
فهرست التفسير المظهرى سورة الأنفال 1 عنهم رجز الشيطان وثبت أقدامهم واستولوا على الماء وبنوا حوضا وبنو الرسول الله عليه وسلم عريشا على التل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير هذا مصرع 22 فلان وهذا مصرع فلان فما تعدى أحد موضع إشارته حديث ثواب تلك الليلة لمن شهد- 23 مرأة الفئتين- 23 روية الكفار والمؤمنين قوما مستمنين وقول عتبة 23 وغيره لابى جهل ارجع الى مكة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الى ابى جهل ان ارجع فأبى- شروع القتال- 24 رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعركة الى العريش 26 يناشد ربه.
بشاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزول الملئكة 28 وظهور بعض الملئكة على بعض الناس- قتال النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة 31 قتالا شديد او ابو بكر- النعاس في القتال امنة وفي الصلاة من الشيطان 32 ما ورد في قتال الملئكة- 33 وذكر موت ابى لهب- 35 ما ورد في ان مصيبة المؤمن في الدنيا كفارة لة 35 مسئله الفرار من الزحف كثيرة الا إذا كان 37 المؤمنون اقل من شطر الكفار- ما ورد في رميه صلى الله عليه وسلم بالحصب- 39 2 ما ورد في فضائل اهل بدر 40 استفتاح ابى جهل وذكر قتله- 42 ما ورد في ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر- 47 قصة محاصرة بنى قريظة واستيثارهم 51 أبا لبابة وخيانة ابى لبابته لله ورسوله وذكر توبته- حديث اتقوا فراسة المؤمن- 52 حديث استفت نفسك 54 ما ورد في ان النجاة بفضل الله لا بالأعمال 55 قصة اجتماع قريش ومعهم إبليس في صورة 56 شيخ نجدى في دار الندوة وهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة- من اسلم من أسارى بدر 25 حديث الإسلام يهدم ما كان قبله والهجرة والحج 25 حديث لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر 22 الا ادخله الله كلمة الإسلام- حديث أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا 22 لا اله الا الله- مسائل الغنائم 62 مسئلة إذا دخل واحد او اثنان دار الحرب 62 بغير اذن الامام هل يخمس ما أخذ- مسئله الخمس واجب في القليل والكثير والمنع عن الفلول- مصرف الخمس(4/3)
1 فهرست التفسير المظهرى سورة الأنفال مسئله هل يجوز صرف الخمس وصنف او شخص واحد 29 مسئله حكم سهم الرسول صلى الله عليه وسلّم بعد وفاته صلى الله عليه وسلّم 72 مسئله حكم سهم ذوى القربى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم- 72 فصل في الأخماس الاربعة- 72 مسئله سلب المقتول- 72 مسئله التنفيل بان شرط حالة القتال وقول الامام 80 من أصاب شيئا فهو له مسئله هل يجوز للامام ان يعطى بعض الغانمين 81 فوق سهمه بلا شرط سبق ان راى اجتهاده- مسئله الاختلاف في سهم الفارس سهمان او ثلثه- 84 مسئله إذ الحق المدد بدار الحرب بعد الفتح 88 قبل الاحراز بدار الإسلام هل يسهم لهم- مسئله هل يسهم لاهل سوق العسكر ولا لسائسة الدواب 89 مسئله ان أطاق الصبى القتال واجازه الامام هل يكمل 89 له السهم مسئله العقار التي فتحت عنوة- 89 المعجزات التي ظهرت يوم بدر- 93 ما ورد في تصحيح النية في الجهاد وخطبة الجهاد 98 قصة فرار الشيطان من رفاقة الكفار حين 99 راى الملئكة- ذكر كون قريش الى زمن قصى بن كلاب على 102 دين اسمعيل وأول من غير دينه فيهم- ذكر قتل بنى قريظة- 103 2 ذكر اجلاء بنى قينقاع- 105 ما ورد في فضل الرمي- 106 ما ورد في ربط الخيل- 107 ما ورد في فضيلة الانفاق على المجاهدين 108 في سبيل الله- ما ورد في اسلام عم ونزل قوله تعالى 110 حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين قصّة أسارى بدر ومشاورة النبي صلى الله 111 عليه وسلم أصحابه فيهم واشارة ابى بكر بالفداء وعم بالقتل ونزول العتاب الا على رأى عمر- مسئله يجوز قتل الأسارى وذكر من قتل 113 من أسارى بدر- مسئله يجوز استرقاق الأسارى 114 مسئله هل يجوز المن على الأسارى او 114 الفداء بالمال او بالأسير المسلم او تركهم ذمة لنا- وذكر من من عليه رسول الله صلى الله 115 عليه وسلم من أسارى بدر- ذكر فداء بعض الأسارى بأسارى 116 المسلمين- قصّة اسلام ثمامة بن أثال- 116 حديث فضلت على الأنبياء بست او نحو ذلك منها حل الغنائم 118(4/4)
1 فهرست تفسير المظهرى سورة الأنفال قصه اسر العباس وتكليفه ان يفدى نفسه 119 وعقيل ونوفل وإنكاره المال عنده وقوله صلى الله عليه وسلم اين الذهب الذي وقعت أم الفضل واسلام العباس- قول عباس في نزول ان يعلم الله في قلوبكم 120 خيرا يوتكم خيرا مما أخذ منكم وقد أبدلني الله بعشرين اوقية عشرين عبدا كلهم تاجر بمالى أدناهم يضرب بعشرين الفا مسئلة لا يجوز للمؤمن موالاة الكفار ولا مناصرتهم- 121 ولا يرث المؤمن الكافر وبالعكس- 121 يكره موالاة الفاسق- 122 مسئلة اختلاف الدارين مانع من الإرث 122 2 مسئله لو أغار قوم من الكفار على 123 قوم منهم وفيهم مسلم مستأمن لا يحل له القتال الا إذا خاف على نفسه مسئله لو أغار الكفار على المسلمين و 123 اسروهم وسبوا وزيتهم وأموالهم واحرزوها بدار الحرب وفيها مسلمون مستأمنون وجب عليهم ان يخلصوا المؤمنين وذراريهم من أيدي الكفار ولو بالقتال ولا يجوزهم التعرض للاموال
- مسئله ميراث ذوى الأرحام 124 تمام شد فهرست سورة الأنفال بتصحيح: مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى.(4/5)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
سورة الأنفال
نحمد يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين سورة الأنفال ستة او سبع وسبعون آية مدنية قيل الا سبع آيات من قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الى آخر سبع نزلت بمكة والأصح انها نزلت بالمدينة وان كانت الواقعة بمكة ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ روى ابن ابى شيبة وابو داود والنسائي والحاكم وابن حبان وعبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن عابد وابن مردوية وابن عساكر عن ابن عباس رضى الله عنهما قال لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن اسر أسيرا فله كذا وكذا وفي رواية ابن مردوية من طريق فيه الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس وعن عطاء عن ابن عجلان عن عكرمة عنه بلفظ من قتل قتيلا فله سلبه فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات واما الشبان فسارعوا الى القتل والغنائم فقال المشيخة للشبان اشركونا معكم فانا كنا لكم ردا ولو كان منكم شىء لجئتم إلينا فاختصموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجاء ابو اليسر باسيرين فقال يا رسول الله قد وعدتنا فقام سعد بن معاذ فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أعطيت هؤلاء لم يبق لاصحابك شىء وانه لم يمنعنا من هذا زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ولا ضعن بالحياة ان نصنع ما صنع إخواننا ولكنا رأينا قد أفردت فكرهنا ان تكون بمضيعة وانما قمنا هذا المقام محافظة عليك ان يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزلت.
يَسْئَلُونَكَ يا محمد عَنِ الْأَنْفالِ يعنى ان الغنائم لمن هى والنفل الغنم لانها من فضل الله وعطائه قُلِ لهم يا محمد الْأَنْفالُ لِلَّهِ ملكا وَالرَّسُولِ تصرفا يقسمها الرسول على ما يأمره الله تعالى(4/6)
يعنى أمرها مختص بهما قال ابن عباس فيما رواه الائمة المذكورون فنزعه الله تعالى من أيديهم فجعله الى رسوله صلى الله عليه وسلّم فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين المسلمين على بواء اى سواء فكان ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم وإصلاح ذات البين كما قال الله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ في الاختلاف والمشاجرة وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ يعنى الصفة التي بينكم من المواسات والالفة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى وتسليم امره الى الله تعالى ورسوله قال الزجاج يعنى ذات بينكم حقيقة وصلكم والبين الوصل وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) شرط استغنى عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم مومنين كاملى الايمان فافعلوا ذلك فان مقتضى كمال الايمان الاطاعة في الأوامر والاتقاء عن المعاصي وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان والإيثار وذكر البيضاوي الحديث بلفظ شرط رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمن كان له غناء ان ينفله فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم وكان المال قليلا فقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا ردا لكم وفئته تتحازون إليها فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينهم على السواء ثم قال البيضاوي ولهذا لا يلزم الامام ان يفي بما وعدهم وهو قول الشافعي رحمه الله وروى ابن ابى شيبة واحمد وعبد بن حميد وابن مردوية عن سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه قال لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فاتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله قد شفانى الله تعالى اليوم من المشركين فنفلنى هذا السيف فانا من قد علمت حاله قال هذا السيف لا لك ولا لى ضعه فوضعته ثم رجعت قلت عسى ان يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي فرجعت فقال اذهب فاطرحه في القبض «1» فرجعت وبي مالا يعلمه الا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبى فرجعت به حتى إذ أردت ان ألقيه لا ميتنى نفسى فرجعت اليه فقلت أعطنيه فشد بي صوته فما جاوزت الا يسيرا حتى نزلت سوره الأنفال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم اذهب فخذ سيفك وفي رواية فجأنى الرسول انك
__________
(1) قبض بالتحريك قبض ما أخذ من اموال الناس(4/7)
سألتنى وليس لى وانه قد صار لى وهو لك وروى البخاري في تاريخه عن سعد بن جبير ان سعدا ورجلا من الأنصار خرجا ينتفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه فقال سعد هو لى وقال الأنصاري هو لى لا أسلمه حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاتياه فقص عليه القصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليس لك يا سعد ولا للانصارى فنزلت ويسألونك عن الأنفال الآية ثم نسخت هذه الاية بقوله تعالى واعلموا انما غنمتم من شىء فان لله خمسه وللرسول ولذى القربى وروى ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال الأنفال المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم خالصة ليس لاحد منها شىء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه فمن حبس ابرة او سلكا فهو غلول فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان يعطيهم منها شيئا فانزل الله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لى جعلتها لرسولى ليس لكم منها شيء فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم الى قوله ان كنتم مومنين ثم انزل الله واعلموا انما غنمتم من شىء الآية ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ولذى القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وجعل اربعة أخماسه للناس فيه سواء للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللراجل سهم قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد ولما امر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان يقسم الغنائم على السواء قال سعد ابن معاذ يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطى الضعيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثكلتك أمك وهل تنصرون الا بضعفائكم ونادى مناديه صلى الله عليه وسلّم من قتل قتيلا فله سلبه ومن اسر أسيرا فهو له كان يعطى من قتل قتيلا سلبه وروى سعيد بن منصور واحمد وابن المنذر وابن حبان والحاكم والبيهقي في السنن عن عبادة بن الصامت قال التقى الناس فهزم الله العدو وانطلقت طائفة الى آثارهم يأسرون ويقتلون واكبت طايفة على العسكر يجوزونه ويجمعونه وأحدقت طايفة برسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل وأفاء الناس بعضهم الى بعض قال الذين جمعوا الغنائم نحن جمعناها وحويناها فليس لاحد فيها نصيب وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم(4/8)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وقال الذين احدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلّم لستم بأحق بها منا نحن احدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلّم حفظنا ان يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت يسألونك عن الأنفال الآية.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملون في الايمان الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ خافت وفزعت قُلُوبُهُمْ استعظاما وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه وقيل هو الرجل يهم بالمعصية فيقال له اتق فينزع منه خوفا من عقابه فالمعنى إذا ذكر وعيد الله بحذف المضاف وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً لاطمينان النفس بنزول البركات عند تلاوة القرآن ورسوخ اليقين بتظاهر الادلة وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) يفوضون أمورهم اليه تعالى ولا يخشون ولا يرجون أحدا الا إياه.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ (3) اى يأتونها بحقوقها ويقيمونها كما يقام القداح وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم يُنْفِقُونَ (3) في سبيل الله.
أُولئِكَ الموصوفون بمكارم اعمال القلوب من الإخلاص والخشية والتوكل واطمينان الأنفس بذكر الله ومحاسن اعمال الجوارح من الصلاة والصدقة هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا صفة لمصدر محذوف اى ايمانا حقا او مصدر مؤكد يعنى حق إيمانه حقا لا شبهة فيه عن الحسن ان رجلا سأله أمؤمن أنت قال ان كنت تسألنى عن الايمان بالله وملئكته وكتبه ورسوله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وان كنت تسألنى عن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الاية فلا أدرى امنهم انا أم لا قلت مراد الحسن ان كمال الايمان بالإخلاص وتصفية القلب وتزكية النفس وتحلية الجوارح بالطاعات وترك المعاصي وذلك امر نادر لا أدرى اتصاف نفسى به واما نفس الايمان. فموجود بفضل الله فليس هذا من قبيل انا مومن إنشاء الله وقال علقمة كنا في سفر فلقينا قوما فقلنا من هؤلاء قالوا نحن المؤمنون حقا فلم ندر ما نجيبهم حتى لقينا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فاخبرناه بما قالوا قال فما رددتم عليهم قلنا لم نرد عليهم قال هلا قلتم أمن اهل الجنة أنتم ان المؤمنين اهل الجنة وقال الثوري من زعم انه مؤمن حقا او عند الله ثم لم يشهد انه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف وبهذا يتشبث من يقول انا مؤمن إنشاء الله يعنى المراد بالاستثناء عدم الجزم بحسن الخاتم الموجب لكونه من اهل الجنة لا الشك في إيمانه الحالي فان الشك ينافى(4/9)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
الايمان الاعتقاد الجازم وكان ابو حنيفة رحمه الله يكره هذا القول لكونه موهما للشك المنافي للاعتقاد الجازم ويقول انا مومن حقا باعتبار حصول الاعتقاد الجازم في الحال لا بمعنى الجازم بحسن الخاتمة فالنزاع انما هو في اللفظ دون المعنى لكن الأحوط قول أبي حنيفة قال ابو حنيفة لقتادة لم تستشنى في إيمانك قال اتباعا لابراهيم عليه السلام في قوله والذي أطمع ان يغفر لى خطيئتى يوم الدين فقال له هلا اقتديت به في قوله اولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى وعن ابراهيم التميمي قال قل انا مومن حقا فان صدقت اثبت عليه وان كذبت فكفرك أشد عليك من ذلك وعن ابن عباس من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقا لَهُمْ دَرَجاتٌ كرامة وفضل وعلو منزلة عِنْدَ رَبِّهِمْ نظيره قوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض وقال عطاء درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة منها تفجر انهار الجنة الاربعة ومن فوقها يكون العرش فاذا سألتم الله فاسئلوا الفردوس رواه الترمذي وقال البغوي قال الربيع بن انس سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر «1» الفرس المضمر «2» سبعين سنة وَمَغْفِرَةٌ لما فرط معهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) حسن أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا يخطر ببال أحد ولا ينقطع ابدا.
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ الذي بالمدينة او المراد بالبيت المدينة نفسها لانها مهاجره ومسكنه فهى مختصة به كاختصاص البيت بصاحبه بِالْحَقِّ متعلق باخرج اى إخراجا متلبسا بالحكمة والصواب لقتال الكفار ببدر وقوله كما اخرجك اما خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال يعنى كون الأنفال لله والرسول وتقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأنفال بين الناس على السواء وكراهة بعض الناس يعنى الشبان المقاتلة ثابت كحال اخراجك الله للحرب وكراهتهم له أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله لله والرسول اى الأنفال ثبت لله والرسول مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات اخراجك ربك من بيتك كذا قال المبرد وقيل تقديره امض لامر الله تعالى في الأنفال وان كرهوا كما مضيت امر الله في الخروج من البيت-
__________
(1) حضر الفرس يعنى عدو 12
(2) تضمير الخيل هو ان يظاهر عليها بالعلفة حتى تسمن ثم لا تعلف الا فوقا ليتخفف نهاية 12(4/10)
(قصة غزوة بدر) والسبب في خروج النبي صلى الله عليه وسلّم انه سمع أبا سفيان ابن حرب مقبلا من الشام في الف بعير لقريش فيها اموال عظام ولم يبق بمكة قرشى ولا قرشية له مثقال فصاعدا الا بعث به في العير فيقال ان فيها خمسين الف دينار وفيها سبعين رجلا كذا ذكر ابن عقبة وابن عابد قال البغوي قال ابن عباس وابن الزبير ومحمد بن إسحاق والسدى اقبل ابو سفيان من الشام في أربعين راكبا من كبار قريش فيهم عمرو بن العاص ومخرمة ابن نوفل الزهري فندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم للخروج معه وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل الله ان يغتمكوها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وتخلف عنه بشر كثير وكان من تخلف لم يلم وذلك انهم لم يظنوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلقى حربا ولم يحتقل لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم احتقالا بليغا فقال من كان ظهره حاضرا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو المدينة قال لا الا من كان ظهره حاضرا- وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل خروجه من المدينة بعشر ليال طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد الى طريق الشام يتجسسان خبر العير فبلغا ارض خوار فنزلا على كشد بن مالك الجهني فأجارهما وانزلهما وكنتم عليها حتى مرت العير ثم خرجا وخرج معهما كشد ضى أوردهما ذا المروة «1» فقد ما ليخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجداه قد خرج فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينبع «2» اقطعها لكشد فقال يا رسول الله انى كبير لكن اقطعها لابن أخي فاقطعه إياها فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة رواه عمر بن شيبة وأدرك أبا سفيان رجل من خدام بالرزقا فاخبره ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينتظر رجوع العير فخرج ابو سفيان ومن معه خايفين للرصد ولما دنا ابو سفيان من الحجاز جعل يتجسس الاخبار ويسأل من نقى من الركبان تخوفا على امر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان ان محمد صلى الله عليه وسلّم قد استنفر لك ولعيرك فحذر عند ذلك واستاجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا فبعثه الى مكة وامره ان يجدع بعيره ويحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا يأتي مكة ويأتى قريشا وليستنفرهم الى أموالهم
__________
(1) قرية بينها وبين المدينة ثمانية برد 12
(2) قرية جامعه بين مكة والمدينة 12-(4/11)
ويخبرهم ان محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم سرعا الى مكة وفعل ما امره به ابو سفيان (ذكر منام عاتكة) روى ابن إسحاق والحاكم والبيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس وموسى بن عقبة وابن إسحاق عن عروة والبيهقي عن ابن شهاب قالوا رات عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم على قريش بثلث ليال رويا فاصبحت عاتكة فاعظمتها فبعثت الى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي لقد رأيت رؤيا أفظعتني «1» ليدخلن على قريش منها شر وبلاء فقال وما هى قالت لن أحدثك حتى تعاهد في انك لا تذكرها فانهم ان يسمعوها آذونا واسمعونا ما لا نحب فعاهدها العباس فقالت رأيت ان رجلا اقبل على بعير فوق الأبطح فصاح بأعلى صوته انفروا يا آل عذر الى مصارعكم في ثلث ثلث صيحات ما رأى الناس اجتمعوا اليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ثم مثل به بعيره فاذا هو على راس الكعبة فصاح ثلث صيحات فقال انفروا «2» يا ال «3» عذر الى مصارعكم في ثلث ثم ارى بعيره مثل على راس ابى قيس فقال انفروا يا آل عذر الى مصارعكم في ثلث ثم أخذ صخرة عظيمة فنزعها من أصلها فارسلها من اصل الجبل فاقبلت الصخرة تهوى لها حس شديد حتى إذا كانت في أسفل «4» ارفضت فما بقيت دار من دور قومك ولا بيث الا دخل فلقه فقال العباس والله ان هذه لرويا فاكتميها لئن بلغت هذه قريشا ليؤذوننا فخرج العباس من عندها فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس وكان صديقا له فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لابيه عتبة فتحدث بها وفشى الحديث بمكة حتى تحدثت به قريش قال العباس فغدوت أطوف بالبيت وابو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برويا عاتكة فلما رانى قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فاقبل إلينا فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال لى ابو جهل يا بنى عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية قلت وما ذاك قال رؤيا عاتكة قلت وما رأت قال يبنى عبد المطلب ما رضيتم ان تنبأ رجالكم حتى تنبا نساءكم ولفظ ابن عقبة اما رضيتم يا بنى هاشم يكذب الرجال حتى جئتم بكذب النساء انا كنا وآباؤكم كفرسى «5» رهان فاستبقنا المجد منه فلما تحاكت الركب قلتم منا نبى فما بقي الا ان تقولوا منا نبية فما اعلم في قريش اهل بيت أكذب امرأة ولا رجلا منكم وآذاه أشد الاذاء قد زعمت عاتكة
__________
(1) أفظعتني على يقال فظع الأمر فظاعة فهو فظع الى شديد شنيع حادر المقدر 12
(2) انفروا سارعو
(3) غذر بضم العين معدول عن عافد القدر ترك الوفاء 12 [.....]
(4) ارفضت تقطعت 12
(5) اى يتساقان الى غدر-(4/12)
في روياها انه قال انفروا في ثلث فسنتربص بكم هذه الثلث فان يك حقا ما تقول فسيكون وان تمضى الثلث ولم يكن كتبنا عليكم كتابا انكم أكذب اهل بيت في العرب قال العباس فو الله ما كان منى اليه كثيرا الا انى جحدت ذلك وأنكرت ان تكون رأت شيئا وعند ابى عقبة في هذا الخبر ان العباس قال لابى جهل هل أنت منته فان الكذب فيك وفي اهل بيتك فقال من حضرهما ما كنت جهولا يا أبا الفضل ولا أحمق خرقا وكذلك قال ابن عابد وزاد مهلا يا مصفر استه «1» ولقى العباس عاتكة أذى شديدا حين افشا حديثها لهذا الفاسق قال العباس فلما أمسيت لم تبق امرأة من بنى عبد المطلب الا أتتني قالت أقررتم لهذا الخبيث الفاسق ان يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم وأنت تسمع ثم لم يكن عندك كبير شيء مما سمعت قلت قد والله قد ما فعلت ما كان منى اليه كبير شيء مما سمعت وايم الله لا تعرض له فان عاد لا كفيكنه قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وانا جديد مغضب ارى انى قد فاتنى منه امر أحب ان أدركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته والله انى لأمشي نحوه اتعرضه ليعود لبعض ما قال فاقع به وكان رجلا خفيفا «2» حديد «3» الوجه جديد اللسان حديث النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتد «4» قلت في نفسه ما له لعنه الله أكل هذا فرقا «5» منى ان اشاتمه قال وإذا هو قد سمع ما لم اسمع صوت ضمضم بن عمر يصرخ في بطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره وحول رجله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش يا ال لوت بن غالب اللطيمة اللطيمة «6» أموالكم مع ابى سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا ارى تدركوها الغوث الغوث والله ما ارى ان تدركوها ففزعت قريش أشد الفرع واشفقوا «7» من رويا عاتكة فشغله ذلك غنى وشلغنى عنه ما جاء من الأمر وقلت عاتكة (شعر) الم تكن رويا بحق وجاءكم بتصديقها قل «8» من القوم هارب فقلت ولم أكذب كذبت وانما يكذبنا بالصدق من هو كاذب فتجهز الناس سراعا وقالوا يظن محمد وأصحابه ان يكون كعير ابن الخضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين اما خارج واما باعث مكانه رجلا وكان جهازهم في
__________
(1) رماه بالأبنة وهى تهمة الفاحشة 12
(2) خفيفا سريعا 12
(3) حديد الوجه قوية 12
(4) يشتد يعدو 12
(5) فرقا خوفا 12
(6) الجمال انى تحل العطر والبز غير المسيرة 12
(7) واشفقوا خافوا 12
(8) القل القوم المنهزمون 12-(4/13)
ثلثة ايام ويقال يومين وأعان قويهم ضعيفهم ولم يتركوا كارها للخروج يظنون انه في صفو محمد وأصحابه ولا مسلما يعلمون إسلامه ولا أحدا من بنى هاشم الا من لا يتهمونه الا أشخصوه معهم وكان ممن اشخص العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب وعقيل ابني ابى طالب في آخرين ولم يتخلف أحد من قريش الا بعث مكانه بعثا الا أبا لهب مشوا اليه فابى ان يخرج او يبعث أحدا ويقال انه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة واسلم بعد ذلك وكان قد لاط «1» له باربعة آلاف درهم كانت له عليه فاستاجره بها على ان يجرى عنه بعثه فخرج عنه وتخلف ابو لهب منعه من الخروج رويا عاتكة فانه كان يقول رويا عاتكة تأخذ باليل واستقسم امية بن خلف وعتبة بن شيبة وزمعة بن الأسود وعمير بن وهب وحكيم بن حزام وغيرهم عند هبل بالأمر والناهي من الأزلام فخرج القدح الناهي من الخروج فاجمعوا المقام حتى أزعجهم «2» ابو جهل ولما اجمع امية بن خلف القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا انى عقبة بن ابى معيط وهو جالس في المسجد بين ظهرانى قومه فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال يا بأعلى فانما أنت من النساء فقال قبحك الله وقبح ما جئت به ثم جهز وخرج مع الناس قال ابن إسحاق وغيره ولما فرغوا من جهازهم واجمعوا السير وخرجوا على الصعب «3» والزلول معهم القيان «4» والدفوف ذكروا ما بينهم وبين بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة من الدماء فقالوا انا نحشى ان يأتينا من خلقنا فكاد ذلك ان يثيتهم «5» فسدى لهم عدو الله إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني وكان من اشراف بنى كنانته فقال انا جار لكم من ان يأتيكم كنافة من خلفكم شيء تكرهونه تخرجوا في خمسين وتسعمائة مقاتل وقيل في الف وكان معهم مأتا فرس وستمأة درع ولم يتخلف عنهم أحد من يطون قريش الا بنى عدى فلم يخرج معهم منهم أحد فقال ابن عقبة وابن عابد واقبل للمشركون ومعهم بليس يعدهم ان بنى كنانة ورائهم قد اقبلوا لنصرهم وانه لا غالب لكم من الناس وانى جار لكم قال في الامتناع فلما نزلوا بمر الظهران نحر ابو جهل عشر جزور فما بقي خباء من اخبية العسكر الا أصابه من دمها وراى ضمضم بن عمرو ان وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه ونحر لهم
__________
(1) اربى واللياط أبا 12
(2) أزالهم عن رايهم 12
(3) عن الإبل الذي لا ينقاد والزلول ضده 12
(4) قيان جمع قينة يقال للامة المعنية 12 [.....]
(5) اى يصرفهم عن السفر 12(4/14)
امية بن خلف بعسيف تسعا ونحر سهيل بن عمرو بقديد عشرا واسلم بعد ذلك ثم ذلك ثم مالوا من قديد الى مياه نحو البحر فظلوا فيها فاقاموا بها فنحر لهم يومئذ عقبة بن ربيعة عشرا ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا عشرا ثم أكلوا من أزوادهم فلما وصلوا الجحفة عشاء نزلوا هناك روى البيهقي عن ابن شهاب وابن عقبة وعروة بن الزبير قالوا لما نزلت قريش بالحجفة كان فيهم رجل من بنى المطلب بن عبد مناة يقال له جهيم بن الصلت بن مخزمة واسلم بعد ذلك في حنين فوضع جهيم راسه فاغفا فقال لاصحابه هل رايتم الفارس الذي وقف على آنفا قالوا لا انك مجنون قال قد وقف على فارس آنفا فقال قتل ابو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة وزمعة وابو البختري وامية بن خلف وعد رجالا ممن قتل يوم بدر من اشراف قريش ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء ممن اخبية العسكر الا أصابه من دمه فقال أصحابه انما لعب بك الشيطان ورفع الحديث الى ابى جهل فقال قد جئتم بكذب بنى المطلب مع كذب بنى هاشم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة واستخلف ابن أم مكتوم على الصلاة ورد أبا لبابة من الروحاء واستخلفه على المدينة قال ابن سعد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت لاثنتى عشرة ليلة خلت من رمضان وقال ابن هشام لثمان وضرب عسكره ببئر ابى عتبة على ميل من المدينة فعرض أصحابه ورد من استصغر منهم فرد عبد الله بن عمرو اسامة بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسيد بن حضير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعمير بن ابى وقاص فبكى عمير فاجازه فقتل يوم بدر وهو ابن ستة عشرة سنة وامر أصحابه ان يستقوا من بير السقيا وشرب من مائها وصلى عند بيوت السقيا وامر قيس بن ابى صعصعة حين فصل من السقيا ان يعد المسلمين فوقف بهم عند بير ابى عتبة فعدّهم ثم اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بانهم ثلاثمائة وثلثة عشر ففرح بذلك وقال عدة اصحاب طالوت ودعا يومئذ للمدينة فقال اللهم ان ابراهيم عبدك وخليلك ونبينك دعا لاهل مكة وانى محمد عبدك ونبيك أدعوك لاهل المدينة ان تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم اللهم حبب إلينا المدينة واجعل ما بها من الوباء بخم «1» اللهم انى حرمت ما بين لابتيها «2» كما حرم ابراهيم خليلك مكة وكان خبيب بن اساف ولم يكن
__________
(1) خم موضع على ثلثة أميال من جحفه 12
(2) لابتين تثنية لابة وهى الحرة وهى ارض ذات حجارة سود نخرة كانها أحرقت بالنار.(4/15)
اسلم خرج منجد «1» القومة من الخزرج طالبا للغنيمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصحبنا الا من كان على ديننا فاسلم وابلى بلاء حسنا راح عشية الأحد من بيوت السقيا وقال صلى الله عليه وسلّم حين فصل منها اللهم انهم حفاة فاحملهم وعراة فاكسهم وجياع فاشبعهم وعالة فاغنهم بفضلك وكانت ابل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبعين بعيرا فاعتقبوها روى احمد وابن سعد عن ابن مسعود قال كنا يوم بدر كل ثلثة على بعير وكان ابو لبابة وعلى زميلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالا اركب يا رسول الله نحن نمشى عنك فقال ما أنتم باقوى منى على المشي وما انا اغنى عن الاجر منكما قال في البداية والعيون هذا قيل ان يرد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا لبابة من الروحاء ثم كان زميلاه علبا وزيدا وكان معهم فرسان فرس للمقداد بن الأسود وفرس لزبير بن العوام وعند ابن سعد في رواية كان معهم ثلثة افرس فرس لمرثد بن ابى مرثد الغنوي قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسعد بن ابى وقاص وهو بتربان «2» انظر الى الظبى فعوق «3» له بسهم وقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوضع ذقنه بين منكب سعد واذنه ثم قال ارم اللهم سدد رميته فما أخطأ سعد عن نحر الظبى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وخرج سعد يعدو فاخذه وبه رمق فزكاه وحمله فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم بين أصحابه ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذا سنجسج وهى بين الروحاء ثم ارتحل منها حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار وسلك ذات اليمين النازيه يزيد بدرا فسلك في ناحية منها حتى إذا جزع «4» واديا يقال زحفان بين النازية وبين مضيق السفراء ثم على المضيق ثم انصب به حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسيس ابن عمرو الجهني حليف بنى ساعدة وعدى بن ابى الرغباء حليف بنى البخار الى بدر يتجسان له الاخبار عن ابى سفيان ولما سار رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الصفراء بيسار وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران وجزع فيه ثم نزل أتاه الخبر بمسير قريش ليمنعوا عيرهم فاستشار الناس فتكلم المهاجرون فاحسنوا فاستشارهم فقام ابو بكر فقال فاحسن ثم قام عمر فقال فاحسن ثم قام المقداد بن الأسود فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله ما نقول كما قال قوم موسى لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون
__________
(1) يعنى ناصرا 12
(2) وادي على ثمانية عشر ميلا في المدينة
(3) اى وضع السهم في الوتر ليرمى به 12
(4) اى قطع 12.(4/16)
ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك والذي بعثك بالحق لو سرت بنا برك الغماد لجالدنا «1» معك من دونه حتى نبلغه فاشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له خيرا ودعا له ثم استشارهم ثالثا ففهمت الأنصار انه يعينهم وذلك انه عدد الناس فقام سعد بن معاذ جزاه الله خيرا فقال يا رسول الله كانك تعرض بنا قال أجل فقال سعد يا رسول الله قد أمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض لما أردت ولعلك يا رسول الله تخشى ان يكون الأنصار لا ينصروك الا في ديارهم وانى أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شيئت وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت وما أمرت فيه من امر فامر فاتبع لامرك فو الله لئن سرت حتى تبلغ برك من عمدان وفي رواية برك الغماد من ذى يمن لنسيرن معك وو الله لو استعرضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان نلقى عدونا غدا انا بصير في الحرب لعل الله يريك منا ما تقربه عينك ولعلك خرجت لامر فاحدث الله غيره فسر بنا على بركة الله فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك وخلفك ولا نكونن كالذين قالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكم متبعون فاشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقول سعد رضى الله عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيروا على بركة الله وابشروا فان الله وعد احدى الطائفتين والله لكانى الان انظر الى مصارع القوم وكره جماعة لقاء العدو كما قال الله تعالى وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) قال البيضاوي وغيره هذه الجملة في محل النصب على الحال من كاف اخرجك اى اخرجك من بيتك في حال كراهتهم خروجك قلت والظاهر انه استيناف ولا يجوز ان يكون في موضع الحال لوجوب اتحاد زمان الحال وصاحبه ولا شك انهم انما كرهوا الخروج إذا اتفق لهم القتال مع النضير واما وقت الخروج فكانوا راغبين في الخروج الى العير طمعا في المال مع عدم القتال
__________
(1) الجالد المضاربة بالسيوف 12(4/17)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
روى ابن ابى حاتم وابن مردوية عن ابى أيوب الأنصاري رضى الله عنه قال لما سرنا يوما او يومين قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما ترون في قتال القوم فانهم قد أخبروا بمخرجكم فقلنا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ولكن أردنا العير ثم قال ما ترون في قتال القوم فقلنا مثل ذلك-.
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ في ايثارك الجهاد إظهارا للحق لايثارهم تلقى العير عليه وجدا لهم قولهم ما لنا طاقة لقتال القوم ولكنا أردنا العير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لهم باعلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم انهم ينصرون وذلك انه نزل جبرئيل عليه السلام حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالروحاء وقال ان الله وعدكم احدى الطائفتين اما العير واما قريش كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ متعلق بقوله كارهون ...
يعنى يكرهون القتالى كراهة من يساق الى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك بقلة عددهم وعدم تاهبهم وقال ابن زيد هولاء المشركون جادلوه في الحق كانما يساقون الى الموت وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ متعلق بمحذوف يعنى اذكر إذ يعدكم الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ اما العير واما قريش وهذا ثانى مفعولى يعدكم وقد أبدل عنها أَنَّها لَكُمْ بدل الاشتمال وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ اى الشدة والقوة والحدة مستعاد من الشوك يعنى العير تَكُونُ لَكُمْ لكثرة المال وعدم القتال روى ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضى الله عنهما قال كان الله تعالى وعدهم احدى الطائفتين وكانوا ان يلقوا العير أحب إليهم لكونهم أيسر شوكة فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم فكره القوم مسيرهم لكثرة القوم وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ اى يظهره ويعليه بِكَلِماتِهِ للوحى بها في هذه الحال يعنى يأمره إياكم بالقتال او باوامره للملئكة بالامداد وقيل بمواعدة التي سبقت من اظهار الدين وإعزازه وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) اى يستاصلهم حتى لا يبقى أحد من كفار العرب الا يقتل او يسلم يعنى انكم تريدون ان تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها والله يريد إعلاء الدين واظهار الحق وما يحصل لكم فوز الدارين.
لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق(4/18)
بيقطع او بمحذوف تقديره فعل ما فعل ليثبت الإسلام وَيُبْطِلَ الْباطِلَ يعنى الكفر وليس في الكلام تكرير فان الاول لبيان المراد وبيان ما بين مراده تعالى ومرادهم من التفاوت والثاني لبيان الداعي الى حمل الرسول الى اختيار ذات الشوكة ونصرة عليها وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) يعنى المشركين ذلك رجعنا الى القصة ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ذفران فسلك ثنايا يقال له الاصافر «1» ثم الخط منها الى بلد يقال له الدية وترك الجنان عن يمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم ثم نزل قريبا من بدر فركب هو وابو بكر الصديق رض حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم قال الشيخ بلغني ان محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فانكان الذي أخبرني صدقنى فهم اليوم بمكان كذا للمكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبلغني ان قريشا خرجوا يوم كذا فانكان الذي أخبرني صدق فهم اليوم في مكان كذا للمكان الذي فيه قريش ثم قال من أنتما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن «2» من ماء قال ابن إسحاق ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أصحابه فلما امسى بعث على ابن ابى طالب والزبير بن العوام وسعد بن ابى وقاص في نفر من أصحابه الى ماء بدر يلتمسون الخبر له فاصابوا راوية لقريش فيها اسلم غلام بنى الحجاج وابو يسار غلام بنى العاصي بن سعيد فاتوا بهما فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قايم يصلى فقالا نحن سقاط قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا ان يكونا لابى سفيان فضربوهما فلما إذ «3» لقوهما قالا نحن لابى سفيان فتركوهما وركع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسجد سجدتين وسلم وقال إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله انهما لقريش اخبر انى عن قريش قالاهم وراء هذا الكثيب الذي يرى بالعدوة «4» القصوى والكثيب العقنقل فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم كم القوم قالا كثير قال ما عدتهم قالا لا ندرى قال كم ينحرون كل يوم قالا يوما تسعا ويوما عشرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما بين التسعمائة والالف ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم
__________
(1) جمع اصفر جبال قريب من الجحفه عن يمين الطريق الى مكة 12
(2) قاله توريه أراد من ماء دافق وأوهمه انه من ماء 12
(3) إذا لقوهما يعنى بالغوا في ضربهما 12
(4) العدوة الجانب المرتفع من الوادي 12 عه البعيد 12(4/19)
من فيهم من الاشراف قالا عتبة وشيبة ابني ربيعة وابو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل ابن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدى والنضر بن الحارث وربيعة الأسود وابو جهل بن هشام وامية بن خلف ونبيه ومنهه ابنا الحجاج وسهل بن عمرو وعمرو بن عبد ود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه مكة قد القت إليكم أفلاذ «1» كبدها قال ابن عابد وكان مسيرهم وإقامتهم حتى بلغوا الجحفة عشر ليال وكان بسيس بن عمرو وعدى بن ابى الزغباء قد مضيا الى بدر فاناخا الى تل قريب من الماء ثم أخذ اشنانهما «2» يستقيان فيه ومجدى بن عمر الجهني على الماء فسمع عدى وبسبس جاريتين من جوار الحاضر «3» يتلازمان على الماء والملزومة تقول بصاحبتها انما يأتي العير غدا او بعد غد فاعمل لهم ثم أعطيك الذي لك قال مجدى صدقت وسمع ذلك عدى وبسبس فجلسا على بعيرهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاخبراه بما سمعا قال ابن إسحاق وغيره واقبل ابو سفيان بالعير وقد خاف خوفا شديدا حين دنوا المدينة واستبطأ ضمضم بن عمرو النضير حتى ورد بدرا وهو خائف وتقدم ابو سفيان امام العير حذرا حتى ورد الماء فرأى مجدى بن عمرو الجهني فقال له هل أحسست أحدا قال ما رايت أحدا أنكره الا انى رايت راكبين يعنى بسبسا وعديا قد أناخا الى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا فأتى ابو سفيان الى مناخنهما فأخذ من ابعار بعيرهما ففته فاذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فرجع الى أصحابه سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل «4» بها وترك بدرا بيسار وانطلق واسرع فسار ليلا ونهارا فرقا من الطلب فلما رأى ابو سفيان انه قد احرز عيره أرسل الى قريش قيس بن أمراء القيس انما خرجتم لتمتنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله تعالى فارجعوا فاتاهم الخبر وهم بالجحفة فقال ابو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدرا موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام فنقيم عليه ثلثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف «5» علينا القينات ويسمع بنا العرب وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا ابدا بعدها وكره
__________
(1) جمع فلذ وهى القطعة يعنى صميم قريش ولبابها 12
(2) الشن القربة 12 [.....]
(3) الحاضر القوم النزول على ماء يقيمون عليه ولا يرحلون 12
(4) فساحل يعنى سلك طريق ساحل البحر 12
(5) تعزف يعنى تلعب بالمعازف اى الملاهي 12(4/20)
اهل الرأي المسير ومشى بعضهم الى بعض وكان ممن ابطاهم عن ذلك الحارث بن عامر وامية بن خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وحكيم ابن حزام وابو البختري وعلى بن امية بن خلف وابو العاصي حتى بكتهم «1» ابو جهل بالجبن وأعانه عقبة بن ابى معيط والنضر بن الحارث والجارث بن كلدة واجمعوا على المسير قال الأخنس بن شريف وكان حليف بنى زهرة يا بنى زهرة قد نجا الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم محزمة بن نوفل وانما نفرتم لتمنعوه وماله فارجعوا الى مكة وكانوا نحو مائة ويقال ثلاثمائة فلم يشهدها زهرى الا رجلين هما عما مسلم بن شهاب الزهري وقتلا كافرين قال ابن سعد ولحق قيس بن امرأ القيس أبا سفيان فاخبره بمجى قريش فقال وا قوماه هذا عمل عمرو بن هشام يعنى أبا جهل واغتبطت بنو زهرة بعد براى الأخنس فلم يزل فيهم مطاعا معظما وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم ابو جهل وقال لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل «2» وبطن الوادي ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعدوة الدنيا وغلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد والقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس إليهم تزعمون انكم اولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم مصلون مجنبين فانزل الله تعالى تلك الليلة المطر وكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلا طهرهم الله تعالى به واذهب عنهم لو جز الشيطان وطابهم «3» الأرض وصلب الرمل وثبت الاقدام ومهدبه المنزل وربط «4» به على قلوبهم ولم يمنعهم عن المسير وسأل الوادي فشرب المؤمنون وملاؤا الاسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس القى عليهم فناموا حتى ان أحدهم وقفه بين يديه وما يشعر حتى يقع على جنبه روى ابو يعلى والبيهقي في الدلائل عن على قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رايتنا وما فينا الا نائم الا رسول الله صلى الله عليه وسلّم
__________
(1) بكتهم عيرهم وقبح فعلهم 12
(2) العقنقل الكثيب العظيم المتداخل الرمل 12
(3) طابه الأرض مهدا 12
(4) ربط على القلب قواه 12-(4/21)
يصلى «1» تحت شجرة حتى أصبح وكانت ليلة الجمعة وبين الفريقين فوز «2» من الرمل وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود فاطافا بالقوم ورجعا فاخبر ان القوم مذعورون وان السماء تسيح عليهم وساد رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشاء يبادرهم الماء فسبقهم اليه ومنعهم من السبق اليه المطر حتى جاء ادنى ماء من بدر فنزل به فقال الحباب ابن المنذر بن الجموح فيما رواه ابن إسحاق يا رسول الله ارايت هذا لمنزل أمنزل نزلكه الله ليس لنا ان نتقدمه ولا نتاخر عنه أم هو الرأي والمكيدة قال بل الرأي والحرب والمكيدة قال يا رسول الله ليس هذا بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي ادنى ماء من القوم فتنزله ثم نغور «3» ما وراه من القليب ثم نبنى عليه حوضا فنملاه ماء فنشرب ولا يشربون فقال صلى الله عليه وسلّم لقد أشرت بالرأى وذكر ابن سعد ان جبرئيل نزل على النبي صلى الله عليه وسلّم فقال الرأي ما أشار به الحباب فنهض صلى الله عليه وسلّم ومن معه من الناس حتى إذا اتى ادنى ماء من القوم نزل عليه نصف الليل ثم امر بالقليب فغورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملى ماءا ثم قذفوا فيه الآنية فقال سعد بن معاذ يا رسول الله الا نبنى لك عريشا «4» تكون فيه ونعد عندك ركائيك ثم نلقى عدونا فان أظهرنا الله على عدونا كان ذلك ما أحبنا وانكانت الاخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن ورأينا فقد تخلف عنك أقوام يا نبى الله ما نحن أشد لك حيا منهم ولو ظنو انك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله عز وجل بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيرا ودعا له ثم بنى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عريشا على تل مشرف على المعركة فكان فيه هو وابو بكر وليس معهما غيرهما وقام سعد ابن معاذ على بابه متوشحا بالسيف ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في موضع المعركة وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان إنشاء الله فما تعدى منهم أحد موضع إشارته رواه احمد ومسلم وغيرهما وروى الطبراني عن رافع بن خديج
__________
(1) يصلى تحت شجرة حتى أصبح وكانت ليلة الجمعة وبين الفريقين فوز ما في الرمل وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم 12
(2) الفوز العالي في الرمل كانة جبل 12
(3) نغور من رواية بغين معجمة فمعناة ندهنه وندفنه ومن رواه بالمهملة فمعناه فقد 12
(4) العريش شبهه الخيمة يستظل به 12(4/22)
ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال يوم بدر والذي نفسى بيده لو ان مولود اولد من اهل الدين يعمل بطاعة الله كلها الى ان يرد الى أرذل العمر لم يبلغ أحدكم هذه الليلة وقال ان الملئكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلاء على من تخلف منهم رجاله ثقات الا جعفر بن معلاص فانه غير معروف وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببدر وارتحلت قريش بحدها وحديدها تحاد «1» الله عز وجل وتحاد رسوله وجاؤا على حرد «2» قادرين وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم وقتل من فيها وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الحضرمي والعير التي كانت معه وذلك ما ذكرنا قصته في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه فلما راها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاؤا منه الى الوادي وكان أول من طلع زمعة بن الأسود على فرس له يتبعه ابنه فاستجال «3» بفرسه يريد ان يتبوأ «4» للقوم منزلا فقال صلى الله عليه وسلم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها «5» وفخرها تجادل وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أمتهم بالغداة ولما راى صلى الله عليه وسلّم عتبة بن ربيعة على جمل احمر قال ان بك في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ان يطيعوه يرشدوا فقال هو عتبة ينهى عن القتال ويأمر بالرجوع ويقول يا قوم اعصبوها «6» اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وابو جهل يأبى وبعث خفاف بن أيما بن رحضة الغفاري او أبوه واسلم الثلاثة بعد ذلك الى قريش بجزائر أهداها لهم مع ابنه وقال ان احببتم ان نمدكم بسلاح ورجال فعلنا فارسلوا اليه ان وصلتك زحم قد قضيت الذي عليك فلعمرى لئن كنا انما نقاتل الناس ما بنا من ضعف عنهم ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد ما لاحد بالله من طاقة فلما نزل الناس اقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم حكيم بن حزام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعوهم
__________
(1) تحاد الله قعاديه وتخالف امره 12
(2) استحال اى طاف به غير مستقر 12
(3) الحرد الغضب 12 [.....]
(4) ينبؤا منزلا اى يتخذه 12
(5) بالخيلاء التكبر والاعجاب 12
(6) اعصبوها اجعلوا عارها متعلقا بي 12(4/23)
فما شرب منهم أحد الا قتل الا ما كان من حكيم بن حزام فآنه لم يقتل واسلم بعد ذلك وحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجانى يوم بدر فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي واسلم بعد ذلك فقالوا له احرز لنا اصحاب محمد فجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا او ينقصون لكن أمهلوني حتى انظر للقوم كمين «1» مدد فضرب «2» فى الوادي حتى ابعد فلم يرشيئا فرجع إليهم فقال ما رأيت شيئا ولكن رأيت يا معشر قريش البلا «3» يا تحمل المنايا نواضح «4» يثرب تحمل الناقع «5» قوم ليس لهم منعة ولا ملجاء الا سيوفهم اما ترونهم حرسا يتكلمون يتلمظون «6» تلمظ الأفاعي والله ما ارى ان يقتل رجل منهم حتى يقتل منكم فاذا أصابوا منكم اعدادهم فما في العيش خير بعد ذلك فرأو آرائكم فبعثوا أبا سلمة الحشمى فاطاف بالمسلمين على فرسه ثم رجع فقال والله ما رأيت جلدا ولا عدوا ولا حلقة ولا كراعا ولكن رأيتهم قوما لا يرونهم يولوا الى أهليهم قوما مسلمين مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجاء الا سيوفهم زرق الأعين كانهم الحصا تحت الحجف فرأو آرائكم فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فاتى عتبة بن ربيعة فكلمه يرجع بالناس وقال يا أبا الوليد انك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها هل لك من الأمر لا تزال تذكر منه يخبر الى اخر الدهر قال وما ذاك يا حكيم قال ترجع بالناس وتحتمل امر حليفك عمرو الحضرمي قال قد فعلت أنت على بذلك انما هو حليفى فعليّ عقله «7» وما أصيب من ماله فأت ابن حنظلة فابى لا أخشى ان يسحر امر الناس غيره يعنى أبا جهل ثم قال عتبة خطيبا في الناس فقال يا معشر قريش انكم والله ما تضعون فان تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبحتموه لا يزال الرجل في وجه رجل يكره النظر اليه قتل ابن عمه او ابن خاله او رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب فان أصابوه فذلك الذي أردتم وان كان غير ذلك القاكم «8» ولم تعرضوه منه بما تريدون انى
__________
(1) المستخفى في الحرب حيلة 12
(2) ضرب في الوادي سار فيه 12
(3) البلايا جمع بلية وهى الفاقة والداية تخف بيدها حضرة ويشد راسها الى خلفها وتبلى اى تترك على قبر الميت فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت وكان بعض العرب ممن يقر بالبعث يزعم ان صاحبها يحشر عليها راكبا وإذا لم يفعل بها ذلك يحشر ما شيئا 12-
(4) الناضح الإبل تسقى عليها الماء 12
(5) الناقع البالع ويقال الثابت 12
(6) التلمظ إدارة اللسان في القم تتبع اثر ما كان
(7) عقل الدية 12
(8) القاكم اوحدكم 12-(4/24)
ارى أقواما مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأنتم تعلمون انى لست بأجبنكم فانطلقت حتى أتيت أبا جهل فوجدته قد نتل «1» درعا له من جرامها فهو يهيئها فقلت له يا أبا الحكم ان عتبة قد أرسلني لكذا وكذا اللذى قال فقال انتفخ «2» والله سجره حين رأى محمد او أصحابه كلا والله لا يرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى ان محمدا وأصحابه أكلته جزور فيكم ابنه قد تخوفكم عليه ثم بعث الى عامر الخضرمي فقال والله هذا حليفك عتبة يريد ان يرجع بالناس فقم فانشد «3» حفرتك ومقتل أخيك فقام عامر بن الخضرمي فكشف عن استه ثم صرخ وا عمراه فحميت الحرب واحقب «4» امر الناس واستو «5» سقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم اليه عتبة ولما بلغ عتبة قول ابى جهل انتفخ والله سجره قال سيعلم مصفر استه من انتفخ سجره انا أم هو ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في راسه فما وجد في الجيش تسعة من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر ببرد على راسه وسل ابو جهل سيفه فضرب متن فرسه فقال له أيما بن رحضة بئس الفال هذا وذكر محمد بن عمر الأسلمي والبلاذري وصاحب الامتناع ان قريشا لما نزلت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب إليهم يقول لهم ارجعوا فانه ان يلى هذا الأمر منى غيركم أحب الى من ان تلوه بنى فقال حكيم بن حرام قد عرض نصحا فاقبلوه فو الله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف «6» فقال ابو جهل والله لا نرجع بعد ما أمكننا الله منهم روى ابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن جريج ان أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذا واربطوهم في الجبال ولا تقتلوا منهم أحدا فنزل انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة الاية في سورة ن يعنى انهم في قدرتهم عليهم كما اقتدر اصحاب الجنة على الجنة ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم صف أصحابه فكانما يقوم بهم القداح «7» ومعه يومئذ قدح يشير الى هذا تقدم والى هذا تأخر
__________
(1) نتل اى استخرج 12
(2) كلمة يقال للجبان الشدة والقوة
(3) اى اطلب في قريش الوفاء بخفرهم لك اى عندهم وكان حليفا لهم 12 [.....]
(4) اى اشتد 12
(5) بسينين مهملتين اى اجتمعوا واستقر رأيهم 12
(6) النصف العدل 12
(7) القداح خرد أسهم بلا فصل وريش 12(4/25)
حتى استووا ودفع رايته الى مصعب بن عمير فتقدم حيث امره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان يضعها ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر الى الصفوف فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه واقبل المشركون فاستقبلوا الشمس ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعدوة الشامية ونزلوا بالعدوة اليمانية ولما عدل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصفوف تقدم سواد بن غزية امام الصف فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في بطنه وقال استويا سواد قال يا رسول الله أوجعتني والذي بعثك بالحق نبيا أقدني فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بطنه قال استقد فاعتنقه وقبله فقال ما حملك على ما ضعت قال حضر من امر الله ما قد ترى وخشيت ان اقتل فاردت ان أكون اخر عهدى بك وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا كثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم كذا روى ابو داود عن ابى أسيد وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحمد الله واثنى عليه واحث الناس على الصبر في القتال وابتغاء وجه الله وتعتبب قريش للقتال والشيطان لا يفارقهم فثبت المسلمون على صفهم وشد عليهم عامر بن الحضرمي فكان أول من خرج من المسلمين مهيجع بن عايش مولى عمر بن الخطاب فقتله ابن الحضرمي وكان أول قتيل من الأنصار حارثة بن سراقة قتله حيان بن عرفة وخرج عتبة بن ربيعة بن أخيه شيبة وابنه الوليد ودعوا لى المبارزة فخرج ثلثة من الأنصار عوذ ومعوذا بنا الحارث وأمها العفراء وعبد الله بن رواحة فقالوا اكفاء كرام ما لنا بكم حاجة ثم نادوا يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم قم يا عبيدة بن الحارث قم يا حمزة قم يا على فاما حمزة فلم يمهل شيبة ان قتله واما على فلم يمهل الوليد ان قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما اثبت صاحبه فكر حمزة وعلى بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبه وفي الصحيحين ان فيهم نزلت هذان خصمان اختصموا في ربهم في سورة الحج قال ابن إسحاق ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم الى العريش ومعه ابو بكر وليس معه غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يناشدد به عز وجل ما وعده من النصر يقول فيما يقول اللهم ان تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في الأرض(4/26)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
وابو بكر يقول يا رسول الله بعض منا شدتك ربك فان الله منجز لك ما وعدك روى ابن جرير وابن ابى حاتم والطبراني عن ابى أيوب الأنصاري ان عبد الله بن رواحة قال يا رسول الله انى أريد ان أشير عليك ورسول الله صلى الله عليه وسلّم أعظم من ان بشار اليه ان الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من ان ينشده وعده فقال يا ابن رواحة لانشدن الله وعده ان الله لا يخلف الميعاد وروى ابن سعد وابن جرير عن على بن ابى طالب وقال لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت مسرعا الى النبي صلى الله عليه وسلّم لا نظر ما فعل فاذا هو ساجد يقول يا حى يا قيوم لا يزيد عليها ثم رجعت الى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذاك ثم ذهبت الى القتال ثم جئت وهو يقول ذلك ثم ذهبت الى القتال ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك ففتح عليه وروى البيهقي عن ابن مسعود حديث المناشدة قال ثم التفت كان وجهه القمر فقال كانما انظر مصارع القوم العشية وروى سعيد بن منصور عن عبيد الله ابن عبد الله بن عتبة قال لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الى المشركين وتكاثرهم والى المسلمين واستقلهم ركع ركعتين وقام ابو بكر عن يمينه فقال صلى الله عليه وسلّم وهو في صلوته اللهم لا تخذلنى اللهم أنشدك ما وعدتني روى ابن ابى شيبة واحمد ومسلم وابو داود والترمذي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الى المشركين وهم الف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبى الله القبلة ثم مديديه فجعل يهتف بربه
عز وجل يقول اللهم أنجز لى ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم ان تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه عز وجل مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط ردائه عن منكبه فاتاه ابو بكر فاخذ ردائه وألقاه على منكبه ثم التزمه من ورائه فقال يا نبى الله كذاك «1» تناشدك لربك فانه سينجز لك ما وعدك فانزل الله تعالى.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بدل من إذ يعدكم او متعلق بقوله لِيُحِقَّ او على إضمار اذكر يعنى يستجيرون به من عدوكم وتطلبون الغوث فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي اى بانى فحذف الجار وسلط عليه الفعل مُمِدُّكُمْ مرسل إليكم مددا وردأ لكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ روى البيهقي عن ابن عباس وحكيم بن حزام وابراهيم
__________
(1) يعنى كفاك 12.(4/27)
التيمي حديث دعائه صلى الله عليه وسلّم وقول ابى بكر نحو ما مر وفيه وخفق «1» رسول الله صلى الله عليه وسلّم خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال ابشر يا أبا بكر هذا جبرئيل متعجر بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض فلما نزل الى الأرض تغيب عنى ساعة ثم طلع على ثناياه النقع يقول أتاك نصر الله إذ دعوته وروى ابن إسحاق وابن المنذر عن حبان بن واسع عن أشياخ قومه نحوه بلفظ هذا جبرئيل «2» أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع وروى البخاري والبهيقى عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال يوم بدر هذا جبرئيل أخذ برأس فرسه وعليه اداة الحرب مُرْدِفِينَ (9) قرأ نافع ويعقوب بفتح الدال اى أردفهم الله تعالى المسلمين وجاء بهم لهم مددا والباقون بكسر الدال اى متتابعين بعضهم اثر بعض وروى ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال في تفسيره يعنى وراء كل ملك ملك وروى عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال متتابعين أمدهم الله تعالى بألف ثم بثلاثة آلاف ثم أكملهم خمسة آلاف وروى الطبراني عن رفاعة بن رافع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال أمد الله نبيه صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين بألف وكان جبرئيل في خمسمائة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة الحديث وروى ابن ابى حاتم عن الشعبي قال بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان كرز المحاربي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك عليهم فانزل الله تعالى ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملئكة منزلين بلى ان تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملئكة مسومين فبلغ كرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم فلم يمدهم الله بالخمسة الآلاف وكانوا قد امدوا بألف من الملئكة وروى ابو يعلى والحاكم عن على رضى الله عنه قال بينما انا من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم ار مثلها قط ثم جاءت ريح شديدة لم ار مثلها قط الا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح شديدة قال وكانت ريح الاولى جبرئيل عليه السلام نزل في الف من الملئكة الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في الف من الملئكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان ابو بكر عن يمينه فكانت
__________
(1) حرك راسه وهو تاع 12
(2) ثنايا راسه وقواعه 12-(4/28)
الثالثة اسرافيل نزل في الف من الملئكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وانا في الميسرة الحديث وروى احمد والبزار والحاكم برجال صحيح عن على قال قال لى ولابى بكر يوم بدر قيل لاحدنا معك جبرئيل وقيل للآخر معك ميكائيل واسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل يكون في الصف وروى ابو يعلى عن جابر قال كنا نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة بدر إذ تبسم في صلوته قلنا يا رسول الله رايناك تبسمت قال مربى جبرئيل وعلى جناحه اثر الغبار وهو راجع عن طلب القوم فضحك الى وتبسمت اليه وروى ابن سعد وابو الشيخ عن عطية بن قيس قال لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قتال بدر جاء جبرئيل على فرس أنثى احمر عليه درعه ومعه رمحه فقال يا محمد ان الله بعثني إليك وأمرني ان لا أفارقك حتى ترضى هل رضيت قال نعم رضيت فانصرف- (فايده) وقد ظهر بعض الملائكة لبعض الرجال في صورة الرجال روى ابراهيم الحرثى عن ابى سفيان بن الحارث قال لقينا ببدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض وروى البيهقي وابن عساكر عن سهل بن عمرو رضى الله عنه قال لقد رايت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون وروى محمد بن عمرو الأسلمي وابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال رايت يوم بدر رجلين عن يمين النبي صلى الله عليه وسلّم أحدهما وعن يساره أحدهما يقاتلان أشد القتال ثم ثلثهما ثالث من خلفه ثم ربعهم رابع امامه وروى محمد بن عمرو الأسلمي عن ابراهيم الغفاري عن ابن عم له بينا انا وابن عم لى على ماء ببدر فلما راينا قلة من مع محمد وكثرة قريش قلنا إذا التقت الفئتان عمدنا الى عسكر محمد وأصحابه- فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحابه ونحن نقول هؤلاء ربع قريش فينا نحن نمشى في المسيرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح وسمعنا لرجل يقول لفرسه اقدم «1» خيزوم فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم جاءت اخرى مثل ذلك لكانت
__________
(1) اقدم بضم الدال والهمزة او فتح الدال وكسر الهمزة او عكسه ورجح النووي الثاني وهو في التقدم على الحرب او الاقدام او الشجاعة وحيزوم فيقول من الحزم والحيزوم يطلق ايضا على الصدر يجوز ان يكون سمى به لانه صدر خيل الملئكة 12(4/29)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
مع النبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فاذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمى واما انا فما سكت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلّم وأسلمت وكذا روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس عن رجل من غفار وروى البيهقي عن السائب بن ابى حبيش انه يقول والله ما أسرني أحد من الناس فيقول لما انهزمت قريش انهزمت معها فادركنى رجل ابيض طويل على فرس بين السماء والأرض فاورثنى رباطا وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدنى مربوطا فنادى في العسكر من ربط هذا فليس يزعم أحد انه أسرني حتى انتهى الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال من أسرك قلت لا أعرفه وكرهت ان أخبره بالذي رايت فقال أسرك ملك من الملائكة وروى احمد وابن سعد وابن جرير عن ابن عباس والبهيقى عن على قال كان الذي اسر العباس ابو اليسر وكان رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم يا أبا اليسر كيف أسرت العباس قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئة كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقد اعانك عليه ملك كريم وروى ابن إسحاق وإسحاق بن راهويه عن ابى أسيد الساعدي انه قال بعد ما عمى لو كنت معكم ببدر الان ومعى بصرى لاخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملئكة لا أشك ولا اتمارى وروى البيهقي عن ابن عباس قال كانت سيما الملئكة يوم بدر عمائم بيض قال أرسلوا في ظهورهم ويوم خيبر عمائم حمر وروى ابن إسحاق عن ابن عباس نحوه وزاد الا جبرئيل فانه كانت عليه عمامة صفراء وروى الطبراني بسند صحيح عن عروة قال نزل جبرئيل يوم بدر على سيما الزبير وهو معتجر بعمامة صفراء وكذا روى ابن ابى شيبة وابن جرير وابن مردوية عن عبد الله بن الزبير وروى الطبراني وابن مردوية بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا في قوله تعالى مسومين قال معلمين وكانت سيما الملئكة يوم بدر عمائم سود ويوم أحد عمائم حمر قال ابن سعد كانت سيما الملئكة يوم بدر عمائم قد ارخوا بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور والصوف في نواصى خيلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لاصحابه ان الملئكة قد سومت فسوموا فاعلموا بالصوف في مفارقهم وقلانسهم وكانت الملئكة على خيل بلق.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الامداد بالملائكة الذي دل عليه قوله ممدكم إِلَّا بُشْرى اى سببا لاستبشاركم وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ(4/30)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
فيزول ما بها من وجل نظرا على جرى عادة الله في غلبة الكثير على القليل قلت نظير حال النبي صلى الله عليه وسلّم هاهنا في اضطراب قلبه ومناشدته صلى الله عليه وسلّم ربه بعد ما وعده بالنصر حال ابراهيم عليه السلام حيث قال رب أرني كيف تحيى الموتى قال اولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى وكان حالهما عليهما السلام مبنيا على النزول الأتم كما حققناه في سورة البقرة في تفسير رب أرني كيف تحيى الموتى ولما لم يكن ابن رواحة رضى الله عنه في تلك المرتبة من النزول قال ان الله تبارك وتعالى أجل وأعظم ان ينشد وعده ولما كان ابو بكر اقرب منزلة من النبي صلى الله عليه وسلّم لم يقل كما قال ابن رواحة بل قال كذاك تناشدك لربك وكان اضطراب النبي صلى الله عليه وسلّم لحرصه على اشاعة الإسلام وهدم أساس الكفر ونظره على كمال استغنائه تعالى عن العالمين وعن عبادتهم والله اعلم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) وامداد الملئكة وكثرة العدد والأهب ونحوها وسايط في جرى العادة لا تأثير لها في نفس الأمر والله اعلم.
(فايدة) ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من مناشدته ربه قاتل بنفسه الشريفة قتالا شديدا وكذلك ابو بكر وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع ثم نزلا فحرضا وحشا الناس على القتال وقاتلا بابدانهما جمعا بين المقامات كذا قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد وروى ابن سعد والفريابي عن على قال لما كان يوم بدر وحضر البأس امّنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم واتقينا به وكان أشد الناس بأسا يومئذ وما كان أحد اقرب الى المشركين منه ورواه احمد بلفظ لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلّم والنسائي بلفظ كنا إذا حمى البأس ولقى القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلّم.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ اى النوم الخفيف قرأ ابن كثير وابو عمرو إذ يغشاكم بفتح الياء والشين والف بعدها ورفع النعاس كما في سورة ال عمران امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ونافع بضم الياء وكسر الشين مخففا ونصب النعاس كما في قوله تعالى كانما أغشيت وجوههم والباقون كذلك الا انهم فتحوا الغين وشدد والشين كما في قوله تعالى فغشاها ما غشى و(4/31)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
الفاعل على القرائتين هو الله والظرف بدل ثان من إذ يعدكم لاظهار نعمة ثالثة او متعلق بالنصر او بما في عند الله من معنى الفعل او بجعل او بإضمار اذكر امنة منه اى أمنا كائنا من الله مصدر امنت أمنا او امنة وأمانا مفعول له باعتبار المعنى فان قوله يغشيكم النعاس يتضمن معنى تنعسون ويغشاكم بمعناه والامنة فعل لفاعله ويجوز ان يراد به الايمان فيكون فعل المغشى وان يجعل على قراءة ابن كثير وابو عمر فعل النعاس على المجاز لانها لاصحابه او لانه كان من حقه ان لا يغشاهم لشدة الخوف فلما غشاهم فكانه حصلت له امنة من الله لولاها لم يغشهم قال عبد الله بن مسعود النعاس في القتال امنة من الله عز وجل وفي الصلاة من الشيطان روى عبد بن جميد عن قتادة قال كان النعاس امنة «1» من الله وكان النعاس نعاسين نعاس يوم بدر ونعاس يوم أحد وقد مر ذكر النعاس في القصة وذكر المطر الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال وَيُنَزِّلُ قرأ ابن كثير وابو عمرو بالتخفيف والباقون بالتشديد عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الحدث والجنابة وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يعنى وسوسته إليهم تزعمون انكم اولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم مصلون مجنبون وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ يقويها بالوثوق على لطف الله بهم وإنزال السكينة عليها يقال فلان رابط الجاش إذا قوى قلبه واصل الربط الشد وذلك يقتضى القوة والاستحكام وَيُثَبِّتَ بِهِ اى بالمطر الْأَقْدامَ (11) حيث صلب الرمل ولم يذهب الاقدام فيها او بالصبر وقوة القلب.
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ الذين أمد بهم المؤمنين بدل ثالث او متعلق بيثبت أَنِّي مَعَكُمْ في اعانة المؤمنين وثبتهم وهو مفعول يوحى فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بمحاربة أعدائهم وتكثير سوادهم وبشارتهم بالنصر قال مقاتل كان الملك يمشى امام الصف في صورة الرجل ويقول ابشروا فان الله ناصركم سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ هو امتلاء القلب من الخوف يعنى الخوف من المؤمنين قرأ ابن عامر والكسائي بضم العين والباقون بسكونها وهذا بمنزلة التفسير لقوله انى معكم روى ابو نعيم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قلت لابى يا أبت كيف أسرك ابو اليسر ولو شئت لجعلته
__________
(1) يعنى الامن الذي هو ضد الخوف فعل لفاعل متنعون اى المخاطبون 12(4/32)
في كفك فقال يا بنى لا تقل ذلك لقينى وهو في عينى أعظم من الخندقه قلت وهذا الإلقاء الله الرعب في قلوبهم فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ اى أعاليها التي هى المذابح والرؤوس وقال عكرمة يعنى الرؤوس لانها فوق الأعناق وقال الضحاك معناه فاضربوا الأعناق وفوق صلة وقيل معناه فاضربوا على الأعناق وفوق بمعنى على وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) قال عطية يعنى كل مفصل وقال ابن عباس وابن جريح والضحاك يعنى الأطراف والبنان جمع بنانة وهى أطراف أصابع اليدين والرجلين في القاموس الأصابع او أطرافها والخطاب للملئكة يقتضيه سياق الآية وفيه دليل على ان الملائكة قاتلوا قال ابن الأنباري كانت الملائكة لا تعلم كيف يقتل الآدميون فعلمهم الله تعالى روى البخاري والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال وهو في قبة يوم بدر اللهم انى أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان تشأ لا تعبد بعد اليوم فاخذ ابو بكر بيده فقال حسبك يا رسول الله لقد ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وامر وانزل الله تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم انى ممدكم بألف من الملئكة مردفين اى متتابعين يتبع بعضهم بعضا وانزل الله تعالى ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين فاوحى الله تعالى الى الملئكة انى معكم فثبتوا الذين أمنوا سالقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان وروى مسلم وابن مردوية عن ابن عباس قال بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في اثر رجل من المشركين امامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وسمع صوت الفارس يقول اقدم حيزوم إذ نظر الى المشرك امامه مستاتيا فنظر اليه فاذا هو قد حطم انفه وشق وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع اجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة وروى الحاكم وصححه والبيهقي وابو نعيم عن سهل بن حنيف قال لقد رايتنا يوم بدر ان أحدنا يشير بسيفه الى راس المشرك فيقع راسه قبل ان يصل اليه وروى البيهقي عن الربيع بن انس قال كان الناس يعرفون قتل من قتلوه بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق وروى ابن(4/33)
سعد عن حويطب بن عبد العزى قال شهدت بدرا مع المشركين فرأيت عيرا رأيت الملئكة تقتل وتاسر بين السماء والأرض وروى محمد بن عمر الأسلمي والبيهقي عن ابى بردة بن يناد رضى الله عنه قال جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة رؤس فقلت يا رسول الله اما راسان فقتلتهما واما الثالث فانى رأيت رجلا ابيض طويلا ضربه فاخذت رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك فلان من الملئكة وروى ابن سعد عن عكرمة قال كان يومئذ يندر رأس الرجل الا يدرى من ضربه وتندر يد رجل لا يدرى من ضربه وروى ابن إسحاق والبيهقي عن ابى واقد الليثي قال انى لا تبع يوم بدر رجلا من المشركين لا ضربه فوقع راسه قبل ان يصل اليه سيفى فعرفت ان غيرى قتله وروى البيهقي عن خارجة بن ابراهيم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل من القائل يوم بدر من الملئكة اقدم حيزوم فقال جبرئيل ما كل اهل السماء اعرف وروى ابن إسحاق عن ابى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا اهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق فى قومه وكان ابو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحابه بل ركبه «1» الله وأخزاه فوجدنا فى أنفسنا قوة وعزة وكنت رجلا ضعيفا وكنت اعمل القداح وأنحتها فى حجرة زمزم فو الله انى لجالس انحت القداح وعندى أم الفضل جالسة إذ اقبل الفاسق ابو لهب يجر رجليسه حتى جلس على طنب «2» الحجرة وكان ظهره الى ظهرى فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا ابو سفيان بن الحارث بن
عبد المطلب قد قدم فقال ابو لهب الىّ ابن أخي فعندك الخبر فجلس اليه والناس قيام عليه فقال أخبرني ابن أخي كيف كان امر الناس فقال لا شىء والله ان كان الا ان لقيناهم فمحناهم «3» أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاء وايم الله مع ذلك ما ملت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء قال ابو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك والله الملئكة قال فرفع
__________
(1) اى اذله 12.
(2) الطنب حبل الخباء وطرف الحجرة 12
(3) فمحناهم أعطيناهم 12(4/34)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
ابو لهب يده فضرب وجهى ضربة شديدة فثاورته «1» فاحتملنى فضرب بي الأرض ثم برك علىّ يضربنى وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل الى عمود من عمد الحجرة فاخذته فضربته به ضربة فلقت فى راسه شجة منكرة وقالت استضعفته ان غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا فو الله ما عاش الا سبع ليال حتى رماه الله عز وجل بالعدسة فقتله قال ابن جرير والعدسة «2» قرحة كانت العرب يتشاءم بها ويرون انها تعدو أشد العدو فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه بعد موته ثلثا ولا تقرب جثته ولا يحاول دفنه فلما خافوا السبة «3» فى تركه حفروا له ثم وضعوه بعصا فى حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه قال ابن إسحاق فى رواية يونس بن بكير انهم لم يحفر واله ولكنه أسندوه الى حائط وقذفوا عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه.
ِكَ
اشارة الى الضرب والأمر به والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يعنى بسبب انهم عاندوهما اشتقاقه من الشق لان كلا من المتعاندين فى شق خلاف شق الاخر كالمعاداة من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يعاقبه الله عقابا شديداإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)
تقرير للتعليل او وعيد بما أعد لهم فى الاخرة بعد ما حاق بهم فى الدنيا.
ذلِكُمْ الخطاب مع الكفار على طريقة الالتفات ومحله الرفع اى الأمر ذلكم او ذلكم العقاب واقع او النصب بفعل دل عليه قوله تعالى فَذُوقُوهُ يعنى ذوقوا ذلكم العذاب فى الدنيا فذوقوه او غير ذلك الفعل مثل باشروا او عليكم ويكون الفاء حينئذ عاطفة وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) فى الاخرة عطف على ذلكم او الواو بمعنى مع والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما أجل لكم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ان الكفر سبب موجب للعذاب الاجل والجمع بينهما والمؤمن لو أصابه مصيبة فى الدنيا بما كسبت يداه كانت له كفارة ولا يعذب فى الاخرة إنشاء الله تعالى روى البغوي بسنده فى تفسير قوله تعالى ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم الاية عن على رضى الله عنه قال الا أخبركم بأفضل آية من كتاب الله حدثنا بها رسول الله
__________
(1) ثادرته اى نهضت 12
(2) عدسة بثرة شبيه العدس تخرج فى موضع من الجسد تقتل صاحبها غالبا 12 [.....]
(3) السبة طعن الناس وقولهم بالسوء 12(4/35)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
صلى الله عليه وسلم وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير وسافسرها لك يا عليّ ما أصابكم من مرض او عقوبته او بلاء فى الدنيا فبما كسبت ايديكم والله عز وجل أكرم من ان يثنى عليهم العقوبة فى الاخرة وما عفى الله عنه فى الدنيا فالله احكم من ان يعود بعد عفوه والله اعلم روى الترمذي وحسنه والحاكم عن عكرمة عن ابن عباس قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس وهو أسير فى وثاقه لا يصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم قال لان الله وعدك احدى الطائفتين وقد اعطاك ما وعدك قال صدقت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً حال من فاعل لقيتم ومفعوله اى متزاحفين بعضكم الى بعض مختلطين المسلمون بالمشركين والتزاحف التداني فى القتال كذا قال البغوي قلت وانما سمى التداني فى القتال تزاحفا لانه ماخوذ من زحف الصبى إذا دب على استه قليلا او من زحف البعير إذا أعيى فيسير قليلا يجر فرسه فان مزاحمة العدو يمنعهم عن الاسراع فى المشي فكانهم يزحفون كما يزحف الصبى فالزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم قوم عدل وقال الليث الزحف جماعة يزحفون الى عدو لهم فهم الزحف بالفتح والإسكان والجمع الزحف بالضمتين وفى القاموس الزحف الجيش يزحفون الى العدو واختار البيضاوي هذا المعنى حيث فسرز حفا بمعنى كثيرا فعلى هذا اما ان يكون حالا من الذين كفروا يعنى إذا لقيتم جماعة كثيرة من الكفار فضلا من ان يكونوا مثلكم او قليلا منكم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) اى لا تولوا ظهوركم بالانهزام واما من الفاعل والمفعول جميعا والمعنى إذا لقيتم متكثرين بجماعة كثيرة من الكفار وحينئذ يكون جريان الحال جريا على العادة فان الغالب قتال لمتكثرين بالمتكثرين واما من الفاعل وحده ويكون اشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم اثنا عشر الفا والأظهر عندى فى تفسير الاية ما قال البغوي فانه يقتضى عموم النهى سواء كان من الفريقين جماعات او فرادى فان مقابلة الجمع بالجمع يقتضى انقسام الآحاد على الآحاد(4/36)
(مسئله) الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر وعلى هذا اكثر اهل العلم وبه قال الائمة الاربعة من الفقهاء لكنهم قالوا ان المسلمين إذا كانوا على شطر من عدوهم لا يجوز لهم ان يفروا وإن كانوا اقل من ذلك جاز لهم ان يولوا ظهورهم ويتجاوزوا عنهم لقوله تعالى الان خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فان يكن منكم مأته صابرة يغلبوا مائتين الاية قال عطاء ابن رباح هذه الاية يعنى لا تولوهم الأدبار منسوخة بقوله تعالى الان خفف الله عنكم وبحديث ابن عمر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية فحاص الناس حيصة فاتينا المدينة فاختفينا بها وقلنا هلكنا ثم اتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله نحن الفرارون قال بل أنتم العكارون «1» وانا فئتكم رواه الترمذي وحسنه وفى رواية ابى داود نحوه وقال محمد بن سيرين لما قتل ابو عبيدة جاء الخبر الى عمر رضى الله عنهما فقال لو انحاز الى كنت له فئة وانا فئة كل مسلم ومحمل هذين الحديثين قلة المسلمين من شطر الكفار قال البغوي قال ابن عباس من فرمن ثلثة فلم يفرو من فرمن اثنين فقد فرو قال بعض الناس لا بأس بالفرار مطلقا محتجا بما ذكرنا من حديث ابن عمرو محمد بن سيرين قال ابو سعيد الخدري هذا يعنى النهى عن التولي زحفا فى اهل بدر خاصة ما كان يجوز لهم الانهزام لان النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك ولو انحازوا انحازوا الى المشركين فاما بعد ذلك فان المسلمين بعضهم فئة بعض فيكون الفار متحيزا الى فئة فلا يكون فراره كبيرة وهو قول الحسن وقتادة والضحاك وقال يزيد ابن ابى حبيب أوجب الله تعالى النار لمن فريوم بدر فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم ثم كان يوم حنين بعد فقال ثم وليتم مدبرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشآء قلت وهذا القول ردّه اجماع الائمة على ما ذكرنا وما ذكر من الآيات فى يوم أحد ويوم حنين فهى حجة لنا لا علينا حيث قال الله تعالى انما استزلهم الشيطان وقال عفى الله عنهم والعفو يقتضى العصيان وكذا قوله تعالى ثم يتوب الله يدل على وجود المعصية والله اعلم وقد ذكر رسول الله صلى الله
__________
(1) الكرارون الى الحرب يقال للرجل يولى عن الحرب لم يكرر اجفا إليها 12(4/37)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات رواه الشيخان فى الصحيحين فى حديث ابى هريرة واصحاب السنن عن صفوان بن عسال وقد ذكرنا الكبائر فى سورة النساء فى تفسير قوله تعالى ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم فالوعيد عام بقوله تعالى.
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يعنى الذين كفروا يَوْمَئِذٍ اى يوم إذا لقيتموهم زحفا دُبُرَهُ اى ظهره فى اى حال كان إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ اى متعطفا يريد ان يرى من نفسه الانهزام وقصده الغرة بالعدو وهو يريد الكر أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ اى منضما صابرا الى جماعة المسلمين إذا أعيى من القتال يريد العود بعد زوال التعب فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) جهنم وفى القصة ما ذكره البغوي انه قال مجاهد فلما انصرف المسلمون عن القتال كان الرجل يقول انا قتلت فلانا ويقول الاخر مثله فنزلت.
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصره إياكم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم وامداد الملئكة لكم والفاء جواب شرط محذوف تقديره ان افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وهذا سبب أقيم مقام المسبب والأصل فى التقدير ان افتخرتم فقد أخطأتم إذ لم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم من غير تجشم منكم بامداده على خلاف جرى العادة وَما رَمَيْتَ يا محمد بالحصباء رميا يوصلها الى أعينهم أجمعين ولم تكن تقدر على ذلك إِذْ رَمَيْتَ أتيت بصورة الرمي وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى اتى هو غاية الرمي فاوصلها الى أعينهم جميعا حتى انهزموا قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف لكن فى الموضعين ورفع ما بعده والباقون بالتشديد ونصب ما بعده روى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس والأموي عن عبد الله ابن ثعلبه بن صفير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعنى فى مناشدته ربه ان تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض ابدا فقال له جبرئيل خذ قبضة من تراب فرمى بها فى وجوههم فما بقي من المشركين من أحد الا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه فولوا مدبرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه احملوا فلم يكن الا الهزيمة فقتل الله من قتل من(4/38)
صناديد قريش واسر من اسر وانزل الله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم الاية وروى الطبراني وابو الشيخ برجال الصحيح عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلى رضى الله عنه ناولنى قبضة من حصباء فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجوه الكفار فما بقي أحد من القوم الا امتلأت عيناه من الحصباء وروى ابو الشيخ وابو نعيم وابن مردويه عن جابر رضى الله عنه قال سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كانهن وقعن فى طست فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن وجوه المشركين فانهزموا وروى ابن ابى حاتم عن ابن زيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بثلث حصيات فرمى بحصاة فى ميمنة القوم وحصاة فى ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال شاهت الوجوه فانهزم القوم وروى محمد بن عمرو الأسلمي امر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخذ من الحصباء كفا فرمى به المشركين وقال شاهت الوجوه اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم فانهزم اعداء الله لا يلوذون على شيء والقواد روعهم والمسلمون يقتلون ويأسرون وما بقي منهم أحد الا امتلأ وجهه وعيينه ما يدرى اين يوجه والملائكة يقتلونهم وروى الطبراني وابن ابى حاتم وابن جرير بسند حسن عن حكيم بن جزام قال لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء الى الأرض كانه صوت حصاة وقعت فى طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة وقال شاهت الوجوه فانهزمنا وفى شان نزول الآيات روايات أخو غريبة منها ما روى الحاكم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال اقبل ابى بن خلف يوم أحد الى النبي صلى الله عليه وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب بن عمير وراى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة ابي من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فسقط من فرسه ولم يخرج من طعنه دم فكسر ضلعا من أضلاعه فاتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا ما أعجزك انما هو خدش فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل انا اقتل أبيا قال والذي نفسى بيده لو كان هذا باهل ذى المجاز لماتوا أجمعين فمات ابى قبل ان يقدم مكة فانزل الله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى اسناده صحيح لكنه غريب ومنها ما اخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خبير دعى(4/39)
بقوس فرمى الحصن فاقبل السهم يهوى حتى قتل ابن ابى الحقيق وهو فى فراشه فانزل الله وما رميت إذ رميت وهذا مرسل جيد لكنه غريب والله اعلم وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ اى لينعم الله عليهم مِنْهُ اى ما فعل بَلاءً حَسَناً نعمة عظيمة قوله تعالى ليبلى معطوف على محذوف يعنى فعل ما فعل ليظهر دينه ويقهر أعدائه ويبلى المؤمنين اى يعطيهم نعمة عظيمة النصر
والغنيمة وتقويته الايمان بمشاهدة الآيات واجر الجهاد والشهادة ودرجات القرب وغرفات الجنان ومرضاة الله تعالى قلت كانه جواب سوال مقدر وهو ان الله تعالى كان قادرا على ان يهلك الكفار أجمعين من غير مجاهدة المؤمنين وقتالهم حتى قتل بعضهم ومن غير امداد الملئكة وايضا كان ملك من الملئكة كاف فى إهلاكهم كما فعل بأشياعهم من قبل حيث قال وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين انكانت الا صيحة واحدة فاذا هم خامدون فاى فائدة فى امدادهم بثلاثة آلاف من الملئكة وقتال الملئكة وغير ذلك فيقول الله سبحانه فعلنا هذا كله لاظهار دينه وإعطاء المؤمنين من الانس والملئكة نعمة من الله من الاجر والثواب والنصر والغنيمة ولو أهلك كلهم بقدرته او بصيحة ملك واحد ولم يبق من المشركين أحد لم ينل أحد منهم فضل الايمان بالله تعالى وقد أمن كثير من بقي منهم بعد ذلك وما نال المؤمنون اجر الجهاد والشهادة والغنيمة والفضل وما نال الملئكة ذلك الفضل- (فصل) فيما ورد فى فضائل اهل بدر روى البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال جاء جبرئيل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما تعدون اهل بدر فيكم قال أفضل المسلمين او كلمة نحوها قال جبرئيل وكذلك من شهد بدر أمن الملائكة وروى احمد وابن ماجه عن رافع بن خديج نحوه وروى احمد بسند صحيح على شرط مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يدخل النار رجل شهد بدرا والحديبية وروى ابو داود وابن ماجة والطبراني بسند جيد عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع الله على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وروى احمد عن حفصة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول انى لارجوا ان لا يدخل النار إنشاء الله أحد(4/40)
شهد بدر او الحديبية قالت قلت أليس الله يقول وان منكم الا واردها قال اما سمعته يقول ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا وروى مسلم والترمذي عن جابر ان عبد الله بن حاطب جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشكوا حاطبا اليه فقال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار قال كذبت لا يدخلها فانه شهد بدر او الحديبية وفي الصحيحين عن على قصة كتاب حاطب بن بلتعة وقول عمر يا رسول الله اضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم أليس من اهل بدر ولعل الله اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقال فقد وجبت لكم الجنة وقد ذكرنا الحديث في سورة الفتح وسورة الممتحنة وروى البخاري عن انس قال أصيب حارثة بن زيد يوم بدر فجاءت امه الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة منى فان يك في الجنة اصبر واحتسب وان يك الاخرى فترى ما اصنع قال ويحك او جنة واحدة هى انها جنان كثيرة وانه فى الفردوس وفي رواية عند غير البخاري عن انس ان حارثة كان في النظارة وفيه ان ابنك أصاب الفردوس الأعلى ففيه تنبيه عظيم على فضل اهل بدر فانه لم يكن في بحجة القتال ولا في حومة الغوائل بل كان من النظارة من بعيد وانما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب جنة الفردوس التي هى أعلى الجنة وأوسطها ومنها تفجر انهار الجنة فاذا كان هذا حاله فما ظنك بمن كان في نحر العدد وهم على ثلثة أضعافهم عددا وعددا واستشكل قوله صلى الله عليه وسلّم اعملوا ما شئتم فان ظاهره للاباحة وهو خلاف عقد الشرع فقيل انه اخبار عن مغفرة الذنوب الماضية يدل عليه قوله قد غفرت لكم بصيغة الماضي ورد هذا القول بانه لو كان للماضى لما صح الاستدلال في قصة حاطب بن بلتعة لانه صلى الله عليه وسلّم خاطب عمر منكرا عليه ما قال في امر حاطب فان هذه القصة كانت بعد بدر بست سنة فدل على ان المراد مغفرة الذنوب المستقبلة وانما أورد بلفظ الماضي مبالغة في تحققه والصحيح ان قوله صلى الله عليه وسلّم اعملوا للتشريف والتكريم
والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر عنهم وانهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيم التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة وتأهلوا لان(4/41)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
يغفر لهم للذنوب اللاحقة ان وقعت.
(فايده) اتفقوا على ان البشارة المذكورة فيما يتعلق باحكام الآخرة لا باحكام الدنيا من اقامة الحدود وغيرها والله اعلم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم ودعائهم عَلِيمٌ (17) بنياتهم وأحوالهم.
ذلِكُمْ اشارة الى البلاء الحسن أو القتل والرمي ومحله الرفع اى المقصود او الأمر ذلكم او ذلكم الإبلاء حق وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) معطوف على ذلكم يعنى المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وابطال حيلهم قرأ نافع وابن كثير وابو عمر بفتح الواو وتشديد الهاء والباقون بإسكان الواو وتخفيف الهاء وقرأ حفص موهن بغير تنوين مضافا الى كيد بالجر والباقون بالتنوين ونصب كيد روى ابن إسحاق واحمد عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير بالمهملتين العذرى وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعضهم قال ابو جهل اللهم أينا كان اقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة اللهم من كان أحب إليك وارضى عندك فانصره فكان هو المستفتح على نفسه فانزل الله تعالى.
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا اى تستنصر والأحب الناس وارضهم عند الله فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ الذي طلبتم فقتل ابو جهل يوم بدر وروى احمد والشيخان وغيرهم عن عبد الرحمن بن عوف قال انى لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يمينى وعن شمالى فاذا انا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت ان أكون بين اضلع منهما فغمزنى أحدهما سرّا من صاحبه فقال اى عم هل تعرف أبا جهل قلت نعم فما حاجتك اليه يا ابن أخي قال أخبرت انه يسب النبي صلى الله عليه وسلّم والذي نفسى بيده لئن رايته لا يفارق سوادى سواده حتى يموت الأعجل منهما قال وغمزنى الاخر سرا من صاحبه فقال مثلها فعجبت لذلك فلم انشب ان نظرت الى الى جهل يحول في الناس وهو يرتجز- شعر: ما تنقم الحرب «1» العوان منى بازل «2» عامين حديث سنى لمثل هذا ولدتني أمي فقلت الا تريان هذا صاحبكما كما الذي تسالان عنه فابتدراه
__________
(1) الحرب العوان التي قوتل فيها مرة بعد أخرى 12
(2) البازل في الإبل الذي خرج نابه وهو في ذلك السن به قوته 12(4/42)
بسيفهما فضرباه حتى برد وانصرفا الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاخبراه فقال كلاكما قتله وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والرجلان هو ومعاذ بن عفراء وروى البخاري عن انس قال قال النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر من ينظر ما فعل ابو جهل قال فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد فاخذ بلحية وقال أنت ابو جهل قال وهل فوق رجل قتله قومه او قتلتموه وفي مسند احمد عن ابى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه انه وجد أبا جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو ضريع وقد ندب الناس فيه بسيف له فاخذته فقتلته به فنفلنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيفه قال الحافظ هو معارض لما في الصحيح انه صلى الله عليه وسلّم اعطى سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ويمكن الجمع بان يكون نفل ابن مسعود سيفه الذي قتله به فقط وروى ابن إسحاق عن معاذ بن عمرو بن الجموح قال لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة امر بابى جهل بن هشام ان يلتمس في القتلى وقال اللهم لا يعجزنك قال فلما سمعتها جعلته من سابق فصمدت نحوه فضربته ضربة اطنت قدمه بنصف ساقه قال وضربنى ابنه عكرمة على عاتقى فطرح يدى فتعلقت بجلدة من جنبى واجهضنى القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومى هذا وانى لاصحبها خلفي فلما آذتني وضعت قدمى ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها قال ابن إسحاق وعاش بعد ذلك الى زمن عثمان قال القاضي زاد ابن وهب في روايته فجاء معاذ يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلصقت كذا نقل عن القاضي في العيون وفي الشفاء قطع ابو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وألصقها فلصقت رواه ابن وهب قال إسحاق ثم مر بابى جهل وهو عفير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل ثم مر عبد الله بن مسعود بابى جهل قال ابن مسعود وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلى على عنقه ثم قلت هل أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني هل اعمد «1» من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدابرة «2» قلت الله ولرسوله
__________
(1) يعنى زاد على رجل قتله توته وهل كان الا هذا يعنى انه ليس لعاد 12
(2) اى الدّالة والظفر والنصر 12(4/43)
وروى عن ابن مسعود انه قال قال لى ابو جهل لقد ارتقيت يا رويعى الغنم مرتقا صعبا ثم اخررت راسه ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله هذا راس عدو الله ابى جهل فقال الله الذي لا اله غيره قلت ونعم والذي لا اله غيره ثم ألقيت بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فحمد الله وفي رواية خر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ساجدا وفي روايته صلى ركعتين وروى ابن عابد عن قتادة ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال ان لكل امة فرعون وفرعون هذه الامة ابو جهل قاتله الله قتله ابنا عفراء وقتله الملائكة وتدافه ابن مسعود يعنى اجهز عليه واسرع قتله وقال عكرمة قال المشركون والله ما نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فانزل الله تعالى ان تستفتحوا فقد جاءكم الفتح اى ان تستقضوا فقد جاءكم القضا وقال السدى والكلبي كان المشركون حين خرجوا الى النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم الضر على الجندين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت فعلى هذه الروايات الخطاب لكفار مكة وقال ابى بن كعب هذا خطاب لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى للمسلمين ان تستفتحوا اى ان تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر والظفر روى البغوي بسنده عن قيس بن حباب قال شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا الا تدعوا الله لنا الا تستنصر لنا فجلس محمارا لونه او وجهه فقال لنا لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق راسه ثم يجعل بفرقتين ما يصرفه عن دينه ويمشط بامشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ما يصرفه عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعا الى حضرموت لا يخشى الا الله ولكنكم تعجلون وَإِنْ تَنْتَهُوا ايها الكفار عن الكفر بالله والقتال مع نبيه صلى الله عليه وسلّم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فان فيه صلاح الدارين لكم وَإِنْ تَعُودُوا لحربه ومعاداته نَعُدْ بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر وَلَنْ تُغْنِيَ اى لن يدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ اى جماعتكم شيئا من الإغناء او شيئا من المضارّ وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)(4/44)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الهمزة وحينئذ عطف على محذوف يعنى لن تغنى عنكم فئتكم شيئا لاجل شوم كفركم ولان الله مع المؤمنين وقيل هو عطف على قوله ذلكم وان الله موهن كيد الكافرين وان الله مع المؤمنين وقرأ الباقون بالكسر على الاستيناف والعطف على لن تغنى وإن كان قوله تعالى ان تستفتحوا خطابا للمسلمين فالمعنى ان تستنصروا فقد جاءكم الفتح النصر وان تنتهو عن التكاسل في القتال والمجادلة في الحق والرغبة عما يستاثره الرسول فهو خير لكم وان تعودوا بعد بالإنكار وتهيج العدو ولن تغنى حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فان الله مع المؤمنين الكاملين ويناسبه قوله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ اى لا تعرضوا عن الرسول يعنى عن اطاعنه افراد الضمير لان المراد من الاية الأمر باطاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم والنهى عن الاعراض عنه وذكر الله تعالى للتوطية والتنبيه على ان طاعة الله تعالى في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلّم وقيل الضمير للجهاد او للامر الذي يدل عليه الطاعة وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) القرآن والمواعظ وتصدقونه.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا يعنى المنافقين الذين ادعوا السماع والتصديق وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) سماع اتعاظ وقبول.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ اى شر ما يدب على الأرض او شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ عن الحق لا يسمعه سماع قبول فلا ينطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) الحق عدهم من البهائم وجعلهم شرها لابطالهم ما امتازوا به من البهائم وفضلوا لاجله قال ابن عباس هم نفر من بنى الدار بن قصى كانوا يقولون نحن صم بكم عمى عما جاء به محمد فقتلوا جميعا بأحد وكانوا اصحاب اللواء ولم يسلم منهم الا رجلان مصطب بن عمير وسويط بن حرملة.
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً يعنى استعداد قبول الحق وكانوا من اهل السعادة من مربيات اسم الله الهادي لَأَسْمَعَهُمْ سماع قبول وتفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سماع انتفاع وقفهم وقد علم ان لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا بعد الايمان والتصديق والانتفاع وارتدوا لما سبق عليهم(4/45)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
الكتاب وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) بعد ظهور الحق عنادا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل اهل النار فيدخلها الحديث متفق عليه عن ابن مسعود قال البغوي وقيل انهم كانوا يقولون للنبى صلى الله عليه وسلّم احى لنا قصيا فانه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك فقال الله تعالى ولو أسمعهم كلام قصى لتولوا وهم معرضون.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ يعنى أجيبوا هما بالطاعة إِذا دَعاكُمْ الرسول أفرد الضمير لما ذكرنا ولان دعوة الله يسمع من الرسول لِما يُحْيِيكُمْ قال السدى اى الايمان لان الكافر ميت وقال قتادة هو القرآن فيه الحيوة وبه النجاة والعصمة في الدارين وقال مجاهد الحق وقال ابن إسحاق هو الجهاد حيث أعزكم الله به بعد الذل وقال القتيبي هو الشهادة قال الله تعالى بل احياء عند ربهم يرزقون فرحين قلت والاولى ان يقال هو كل ما دعى له الرسول صلى الله عليه وسلّم والتقيد ليس للاحتراز بل للمدح والتحريض فان طاعة الرسول في كل امر يحى القلب وعصيانه يميته والمراد بحياة القلب طرد الغفلة عنه بخرق الحجب ودفع الظلمة روى الترمذي والنسائي من حديث ابى هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلّم مر على ابى بن كعب وهو يصلى فدعاه فعجل ابى في صلوته ثم جاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما منعك ان تجيبنى إذا دعوتك قال كنت في الصلاة قال أليس الله تعالى يقول يايّها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم فقال لا جرم يا رسول الله لا تدعونى الا أجبتك وان كنت مصليا وهذا الحديث يؤيد ما قلت بوجوب الاجابة لكل ما دعى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
(مسئلة) قيل اجابة الرسول لا يقطع الصلاة وقيل دعائه إن كان لامر لا يحتمل التأخير فللمصلى ان يقطع الصلاة لاجله والظاهر هو المعنى الاول والا فقطع الصلاة يجوز لكل امر دينى مهم يفوت بالتأخير كالاعمى يقع في البير وهو يصلى لو لم يقطعها ولم يرشده والله اعلم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ اى يميته(4/46)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
فيفوته الفرصة التي هو واجدها لطاعة الله تعالى فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لله وسارعوا الى الخيرات او المعنى ان الله يحول بين الإنسان وبين ما يتمناه قلبه من طول الحيوة فيفسخ عزائمه فلا تسوقوا في امور الدين وقيل هو تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى نحن اقرب اليه من حبل الوريد وتنبيه على انه مطلع على مكنونات القلب ما عسى ان يغفل عنه صاحبه فعليكم بالإخلاص وقيل هو تصوير وتخيل لتملكه على قلب العبد فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده يحول بينه وبين الكفر والعصيان ان أراد سعادته وبينه وبين الايمان والطاعة ان أراد شقاوته فلابد من دوام التضرع والالتجاء اليه وخوف الخاتمة عن انس بن مالك قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر ان يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك قالوا يا رسول الله أمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا قال القلوب بين إصبعين من أصابع الله بقلبها كيف يشاء رواه الترمذي وابن ماجة وعن ابن عمر مرفوعا ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم وعن عمر بن الخطاب انه سمع غلاما يدعوا اللهم انك تحول بين المرأ وقلبه فحل بينى وبين الخطايا فلا اعمل بسوء منها فقال رحمك الله ودعا له بخير وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) فيجازيكم بأعمالكم.
وَاتَّقُوا فِتْنَةً اى معصية لا تُصِيبَنَّ الضمير راجع الى فتنة بتقدير حذف المضاف اى لا يصيبن وبالها الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً لا تصيبن صيغة نهى موكد بالنون صفة لفتنة على ارادة القول يعنى اتقوا فتنة يقال فيها لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل تعم الظالم وغيره او صيغة نفي دخلها النون لتضمنها معنى النهى فمعنى الآية الأمر بالاتقاء عن فتنة موصوفة بعموم وبالها من ارتكبها ومن لم يرتكبها واختلفوا في ذلك الفتنة ما هى فقال قوم هى ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قال ابن عباس امر الله المؤمنين ان لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعهم الله بعذاب يصيب(4/47)
الظالم وغير الظالم واستدلوا على ذلك بحديث ابى بكر الصديق قال يا ايها الناس انكم تقرءون هذه الآية يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه او شك ان يعمهم الله بعقاب من عنده رواه اصحاب السنن الاربعة وقال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان وحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ايها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل ان تدعوا الله فلا يستجيب لكم وقبل ان تستغفروه فلا يغفر لكم ان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا يدفع رزقا ولا يقرب أجلا وان الأحبار من اليهود والنصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء رواه الاصبهانى وله شاهد من حديث ابن مسعود وحديث عائشه وعن عدى بن عدى الكندي قال حدثنا مولى لنا انه سمع جدى يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول ان الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على ان ينكروه فلم ينكروه فاذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة رواه البغوي في شرح السنة والمعالم وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصاروا بعضهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتاذوا به فاخذ فاسا فجعل ينقر أسفل السفينة فاتوه فقالوا مالك قال تاذيتم بي ولا بد لى من الماء فان أخذوا على يديه انجوه وانجوا بانفسهم وان تركوه اهلكوه واهلكوا أنفسهم رواه البخاري قلت والاستدلال بهذه الأحاديث لا يصح فان مقتضى الأحاديث ان معصية أحد لا يعذب بها غيره الا إذا عمل بها بين اظهر الناس وهم قادرون على الإنكار فلم ينكروا فحينئذ يعم عذاب تلك المعصية فاعلها ومن لم يفعلها بل ترك النهى عنها ولا شك ان النهى عن المنكر فريضة تاركها ظالم فشموله عذاب المعصية إصابة عذاب الظالم وليس ذلك العذاب شاملا للظالم(4/48)
وغيره الم تسمع قصة القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت يعنى طائفة منهم وطائفة كانت ناهية عن المنكر وطائفة لم يأتوا بالمنكر لكنهم تركوا النهى عنه فقال الله تعالى فانجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب فهذا صريح في ان وبال ترك النهى لم ينل غير الظالم وهذه الآية تدل على فتنة ينال وباله الظالم وغيره وقال قوم هى البغي والفساد في الأرض فانه ينال وباله في الدنيا رجال معصومون يعنى يقتل الناس وينهب عن قتادة في الاية قال علم والله ذوو الألباب من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم حين نزلت هذه الآية انه ستكون فتن ومن هاهنا قال ابن زيد أراد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا وقال الحسن نزلت الآية في على وعمار وطلحة والزبير عن مطرف قال قلنا للزبير يا أبا عبد الله قد ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه قال الزبير لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فاذا نحن المعنيون بها يعنى ما كان منه يوم الجمل من البغي على على رضى الله عنه وكذا قال السدى والضحاك وقتادة قلت وعندى ان المراد بالفتنة المذكورة ترك الجهاد خصوصا عند النفير العام إذا دعاهم الامام اليه والتولي يوم الزحف بقرينة سياق القصة قال الله تعالى وان فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق
وقال الله تعالى يا ايها الذين أمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار وقال عز من قائل يا ايها الذين أمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم والمراد من إصابة الوبال للظالم وغيره وصول المكروه لجميعهم الا ترى ان ترك القتال يوجب غلبة الكفار وقتل المسلمين ونهب أموالهم من الصغار والكبار والنساء والقرار من الزحف يوجب قتل المجاهدين الصابرين الا ترى ان المسلمين إذا استزلهم الشيطان يوم أحد نال وباله سائر المسلمين حتى نال بعض المكروه للنبى المعصوم شج وجهه وكسر رباعيته والله اعلم وجاز ان يكون قوله تعالى لا تصيبن نهيا بعد امر باتقاء الذنب والمعنى اتقوا كل فتنة ولا يرتكبن أحد منكم فتنة ما فان وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه وفائدته ان الظالم منكم أقبح منه من غيركم(4/49)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
وهذا معنى ما قال البغوي ليس بجزاء محض ولو كان جزاء لم يدخل فيه النون لكنه نهى وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده تقديره واتقوا فتنة ان لم تتقوها أصابتكم خاصة فلا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ومثله ادخلوا مساكنكم ان لم تدخلوها يحطمنكم سليمان وجنوده والله اعلم وليس قوله تعالى لا تصيبن جوابا للامر لان المعنى حينئذ اتقوا فتنة ان تتقوها لا يصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وليس المعنى ان تتقوها لا يصيبنكم إذ نفي المقيد يرجع الى القيد فالمعنى بل يعمكم وغيركم وفساده ظاهر قال البيضاوي جواب للامر على معنى ان أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة قلت لا بد في جواب الأمر من تقدير شرط ماخوذ من الأمر كما في قول القائل اسلم تدخل الجنة يعنى ان تسلم تدخل الجنة وقوله تعالى ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم يعنى ان تدخلوا لا يحطمنكم فتقدير ان أصابتكم لا يتصور إن كان جوابا للامر بل يكون الشرطية صفة لفتنة ويؤل التأويل الى ما ذكرنا او لا وايضا لا يجوز ان يكون قوله تعالى لا تصيبن الذين ظلموا جواب قسم محذوف ويكون تقدير الكلام اتقوا فتنة والله لا يصيبن الفتنة الذين ظلموا منكم خاصة بل يعمكم لان الفتنة المامورة بالاتقاء عنها على هذا فتنة منكرة والنكرة إذا أضمرت في قوله تعالى لا تصيبن صارت عامة فيلزم عموم وبال كل معصية الظالم وغيره وفساده ظاهر لانه خلاف الإجماع وخلاف منطوق قوله تعالى لا تزر وازرة وزر اخرى اللهم الا ان يقال المراد بالفتنة ما ذكرنا من ترك الجهاد والفرار من الزحف بقرينة السياق والمراد باصابتها إصابة وبالها في الدنيا والله اعلم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) فاحذروا عقابه بالاتقاء من الفتنة.
وَاذْكُرُوا ايها المهاجرون إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ارض مكة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يعنى كفار قريش وأخرج ابو الشيخ عن ابن عباس قيل يا رسول الله من الناس قال اهل فارس فَآواكُمْ المدينة وَأَيَّدَكُمْ يوم بدر بِنَصْرِهِ على الكفار وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ(4/50)
من المغانم أحلها لكم ولم يحلها لاحد قبلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) وقيل الخطاب للعرب كافة فانهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم كانوا جميعا معادين لهم متضادين فجعل لهم الله ماوى يتحصنون به عن أعدائهم يعنى جوار نبيه صلى الله عليه وسلّم وأيدهم بنصره على جميع اهل الملل والله اعلم روى سعيد بن منصور وغيره عن عبد الله بن ابى قتادة وذكره البغوي ان النبي صلى الله عليه وسلّم حاصر بنى قريظة احدى وعشرين ليلة فسالوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بنى النضير على ان يسيروا الى إخوانهم الى أذرعات وأريحا من ارض الشام فابى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان يعطيهم ذلك الا ان ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فابوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لان ماله وعياله وولده كانت فيهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاتاهم فقالوا يا أبا لبابة ما ترى انزل على حكم سعد بن معاذ فاشار ابو لبابته الى حلقه انه الذبح فلا تفعلوا وذكر في سبيل الرشاد انه أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا لبابته فلما رأوه قام اليه الرجال وجهش اليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرّق لهم فقال كعب ابن اسد يا أبا لبابته انا قد اخترناك على غيرك ان محمدا ابى الا ان ننزل على حكمه يعنى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم افترى ان ننزل على حكمه قال نعم وأشار بيده الى حلقه انه الذبح قال ابو لبابته والله ما زالت قدماى مكانهما حتى عرفت انى قد خنت الله ورسوله فندمت فاسترجعت وان لحيتى لمبنلة من الدموع والناس ينتظرون رجوعه إليهم حتى أخذت من وراء الحصن طريقا اخرى حتى جئت الى المسجد ولم ات رسول الله صلى الله عليه وسلّم فارتبطت الى اسطوانة المخلفة التي يقال لها اسطوانة التوبة وقلت لا أبرح من مكانى حتى أموت او يتوب الله علىّ قال البغوي قال والله لا انحل ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت او يتوب الله عليّ فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبره قال اما لو جاءنى لاستغفرت له فاما إذا فعل ما فعل فانى لا أطلقه حتى يتوب الله عليه فمكث سبعة ايام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله(4/51)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
عليه كذا قال البغوي وفي سبيل الرشاد قال ابن هشام اقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته كل صلوة فتحله حتى يتوضأ ويصلى ثم يرتبط وقال ابن عقبة زعموا انه ارتبط قريبا من عشرين ليلة وقال في البدايته وهذا أشبه الأقاويل وقال ابن إسحاق خمسا وعشرين ليلة وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن ابى بكر انه ارتبط بسلسلة ربوض بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع وكاد يذهب بصره وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة او أراد ان يذهب لحاجته فاذا فرغ أعادت الرباط والظاهر ان زوجته كانت تباشر حله مرة وابنته مرة وانزل الله تعالى في توبته وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم ان الله غفور رحيم قال ابن إسحاق حدثنى يزيد بن عبد الله بن قسيط ان توبة ابى لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم من السحر وهو يضحك قالت فقلت يا رسول الله مم تضحك اضحك الله منك قال تيب على ابى لبابته قالت قلت أفلا أبشره يا رسول الله قال بلى ان شئت فقامت على باب حجرتها وذلك قبل ان يضرب عليهن الحجاب فقالت يا أبا لبابة ابشر فقد تاب الله عليك قالت فثار الناس ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقنى بيده فلما مر عليه خارجا الى صلوة الصبح أطلقه قال السهيلي وروى حماد
بن سلمة عن على بن زيد بن جدعان عن على بن الحسين رضى الله عنهما ان فاطمة رضى عنها جاءت تحله فقال انى حلفت ان لا يحلنى الا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان فاطمة بضعة منى وعلى بن زيد بن جدعان ضعيف ورواية على بن الحسين مرسلة ثم قال ابو لبابة من تمام توبتى ان اهجر دار قومى التي أصبت فيها الذنب وان انخلع من مالى كلها فقال النبي صلى الله عليه وسلّم يجزيك الثلث ان تصدقت به فنزل في ابى لبابة قوله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ واصل الخون النقص كما ان اصل الوفاء التمام واستعماله في ضد الامانة لتضمنه إياه وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ فيما بينكم مجزوم بالعطف على الاول او منصوب على الجواب بالواو والظاهر(4/52)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
هو الاول لان في الثاني يشترط معنى الجمعية وكل واحد من الخيانتين محرمة برأسها لا الجمع بينهما كما في لا تأكل السمك وتشرب اللبن وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) انها أمانته أو أنتم تعلمون ان ما فعلتم من الاشارة الى الحلق خيانته وأنتم علماء تتميزون الحسن من القبح قال السدى إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم قال ابن عباس لا تخونوا لله بترك فرايضة والرسول بترك سنته وأماناتكم هى ما يخفى عن أعين الناس من فرايض الله تعالى والأعمال التي ائتمن الله عليها عبادة وقال قتادة اعلموا ان دين الله امانة فادوا الى الله ما ائتمنكم عليه من فرايضه وحدوده ومن كانت عليه امانة فليود الى من ائتمن عليها قلت حاصل قول ابن عباس وقتادة ان سبب نزول هذه الاية وإن كان ما فعل ابو لبابة لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد فيحرم الخيانة في دين الله من فرايضه وحدوده كلها ومنها ما فعل ابو لبابة والله اعلم فان قيل المستشار مؤتمن حديث صحيح رواه احمد من حديث ابى هريرة مرفوعا والترمذي عن أم سلمة وابن ماجة عن ابن مسعود وقد استشار اليهود من ابى لبابة فلو لم يفعل ابو لبابة ما فعل لزمه الخيانة في المشورة فكيف كان له التفصى قلت كان له التفصى بالسكوت وبان يقول لست أشير لكم قد بدا بينى وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تومنوا بالله ورسوله والله اعلم واخرج ابن جرير عن السدى قال كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلّم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنزلت فيه وروى ابن جرير وغيره عن جابر بن عبد الله ان أبا سفيان خرج من مكة فاتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلّم فقال ان أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا اليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين الى ابى سفيان ان محمدا يريدكم فخذوا حذركم فانزل الله هذه الآية وهذا غريب جدا في سنده وسياقه نظر.
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
اصل الفتن إدخال الذهب النار ليظهر جودته ومنه استعمل في الاختبار والامتحان قال الله تعالى نبلوكم بالشر والخير فتنة ويستعمل ايضا في العذاب قال الله تعالى يومهم على النار يفتنون ويستعمل ايضا في(4/53)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
الكفر والمعصية والفساد وكل ما يفضى الى العذاب قال الله تعالى واتقوا فتنة وقال الا في الفتنة سقطوا والفتنة أشد من الكفر وتسمية الأموال والأولاد بالفتنة لانها سبب الوقوع في الإثم والعقاب او لانها امتحان من الله تعالى فلا يحملنكم حبهم على الخيانة قيل هذا ايضا نزلت في ابى لبابة لان أمواله وأولاده كانت في بنى قريظة فقال ما قال خوفا عليهم عن عايشة ان النبي صلى الله عليه وسلّم اتى بصبى فقبله فقال اما انهم مبخلة مجبنة «1» وانهم لمن ريحان الله رواه البغوي وروى ابو يعلى عن ابى سعيد الولد ثمر القلب وانه مجبنة مبخلة محزنة وروى الحكيم عن خولة بنت حكيم الولد من ريحان الجنة وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
لمن نصح لله ورسوله وادى أمانته ورعى حدوده وآثر رضاء الله تعالى على حبهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ بطاعته وترك معصيته يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً اى بصيرة في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلّم اتقوا فراسته المؤمن فانه ينظر بنور الله رواه البخاري في التاريخ والترمذي عن ابى سعيد والطبراني وابن عدى عن ابى امامة وابن جرير عن ابن عمرو قوله صلى الله عليه وسلّم استفت نفسك وان أفتاك المفتون رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن قلت هذا بعد فناء القلب وتزكية النفس عن الرذائل وحينئذ يتحقق حقيقة التقوى ويسمى هذا في اصطلاح الصوفية بالكشف والمراد بالفرقان نصرا يفرق بين المحقق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين وقال مجاهد يجعل له مخرجا في الدنيا والاخرة عما يحذرون وقال مقاتل بن حيان مخرجا في الدين من الشبهات وهذا يناسب الاول وقال عكرمة نجاة يفرق بينكم وبين ما تخافون وقال الضحاك ثباتا وقال ابن إسحاق فصلا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفى بطلان من خالفكم والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ اى يمحو عنكم ويستر لكم ما سلف من ذنوبكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ نعمائه روى
__________
(1) اى سبب للجبن والبخل لا يتصدى الرجل لاجل حبهم على الجهاد وعلى انفاق المال والولد محزن سبب للحزن 12(4/54)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
البزار عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلّم يخرج لابن آدم ثلثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله فيقول الله لاصغر نعمه في ديوان النعم خذى منك من عمله الصالح فتستوعب العمل الصالح فيقول وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح كله فاذا أراد الله ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سياتك ووهبت لك نعمتى واخرج الطبراني عن واصلة بن الأسقع يبعث الله يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول الله تبارك وتعالى الى الامرين أحب إليك ان اجزى بعملك او بنعمتي عليك قال يا رب أنت اعلم انى لم اعصك قال خذوا عبدى بنعمة من نعمى فما تبقى له حسنة الا استغرقتها تلك النعمة فيقول بنعمتك ورحمتك ومن هاهنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم انه لا ينجى أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يستغمدنى الله برحمة منه وفضل متفق عليه من حديث ابى هريرة وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى الله برحمته واليه أشار الله سبحانه بقوله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) يعنى ما وعدتكم على التقوى ليس مما يوجب ذلك علينا تقويكم بل انما هو تفضل واحسان كالسيد إذا وعد انعاما لعبده على عمل واجب عليه وان لم ينعم السيد ذلك وقيل معنى يكفر عنكم سيئاتكم يعنى الصغائر ويغفر لكم يعنى ذنوبكم الكبائر.
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على قوله إذا أنتم قليل يعنى اذكروا إذ يمكر بك الذين كفروا وإذ قالوا اللهم فان هذه السورة مدنية وهذا المكر والقول كان بمكة روى ابن إسحاق وعبد الرزاق واحمد وابن جرير وابو نعيم وابن المنذر والطبراني عن ابن عباس وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة ان قريشا لما أسلمت الأنصار رأت ان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحابا من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه المهاجرين إليهم عرفوا انهم نزلوا دارا وأصابوا جوارا ومنعة فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلّم(4/55)
إليهم وعرفوا انه قد اجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة وهى دار قصى بن كلاب التي كانت قريش لا تقضى امرا لا يتشاورن فيها فاجتمعوا لذلك واتعدوا وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه بت له فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ قال شيخ من اهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى ان لا تعدموا منه رايا ولا نصحا قالوا أجل ادخل فدخل معهم واجتمع فيها اشراف قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وطعيمة بن عدى والنضر ابن الحارث بن كلدة وابو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود وابو جهل بن هشام ونبيه ومنبه ابنا حجاج وامية بن خلف وابو سفيان بن حرب وجبير بن معطم وحكيم ابن حزام واسلم الثلاثة الاخيرة بعد ذلك وغيرهم من كان منهم ومن غيرهم ممن لا يعد من قريش فقال بعضهم لبعض ان هذا الرجل قد كان من امره ما قد رأيتم وانا والله ما ناء منه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا فاجمعوا فيه رأيا فتشاوروا فقال قائل منهم نقل السهيلي عن عبد السلام انه ابو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهير والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم فقال الشيخ النجدي لعنه الله والله ما هذا لكم برأى والله لئن حبستموه في بيت ليخرجن امره من وراء الباب الذي اغلقتم دونه الى أصحابه فيوشك ان يثبوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من ايديكم قالوا صدق الشيخ فقال قائل منهم ذكر السهيلي انه ابو الأسود ربيعه بن عمر أخو بنى عامر بن لوى نخرجه من بين أظهرنا فلا يضرنا ما صنع واين وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فاصلحنا أمرنا وألفتنا فقال الشيخ النجدي لعنه الله ما هذلكم برأى الم تروا الى حسن حديثه وحلاوة منطقة وغلبة قلوب الرجال بما يأتي به والله لئن فعلتم ذلك فيذهب فيستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم حتى يطاكم به فياخذ أمركم من ايديكم ثم يفعل بكم ما أراد فأروا فيه رايا غير هذا فقال ابو جهل والله ان لى فيه رايا ما أراكم وقفتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا(4/56)
الحكم قال ارى ان ناخذ من كل قبيلة شابا جلدا حسيبا وسطا ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا عليه بأجمعهم فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فانهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا به بالعقل فعقلناه لهم فقال الشيخ النجدي القول ما قال هذا الرجل هذا الرأي لا راى غيره وقال شعر
الرأي رايان راى ليس يعرفه ... هاد وراى كنصل السيف معروف
يكون اوله عزو مكرمة ... يوما وآخره حمد وتشريف
فتفرق القوم على ذلك وهم مجتمعون له فانى جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي تبيت عليه وأخبره بمكر القوم واذن الله تعالى في الخروج فلما كانت العتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيبيتون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكانهم قال لعلي رضى الله عنه نم على فراشي وتسبح بردائي الأخضر الحضرمي فنم فيه فانه لن يخلص إليك منهم امر تكرهه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينام في برده ذاك إذا نام فلما اجتمعوا قال ابو جهل ان محمدا يزعم انكم ان تابعتموه على امره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن «1» وان أنتم لم تفعلوا كان له فيكم ذبيح ثم بعثتم بعد موتكم فجعل لكم النار تحرقون فيها فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه حفنة «2» من تراب ثم قال نعم انا أقول ذلك وأنت أحدهم وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل يذرى التراب على رؤسهم وهو يتلوا هذه الآيات يس والقرآن الحكيم الى قوله فهم لا يبصرون ولم يبق منهم رجل الا وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم على رأسه ترابا وانصرف الى حيث أراد ان يذهب فاتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنظرون هاهنا قالوا محمدا قال خيبكم الله عز وجل قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا الا وقد وضع على راسه ترابا وانطلق لحاجته فما
__________
(1) الأردن موضع معروف من ارض الشام قريب بيت المقدس 12
(2) الحفنة الكف 12(4/57)
ترون ما بكم ووضع كل رجل منهم يده على راسه فاذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا رضى الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلّم متسبحا برداء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيقولون والله ان هذا محمدا نائم عليه برده فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علىّ عن فراشه فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا وذهب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الى غار ثور وسيجى باقى قصة خروجه صلى الله عليه وسلّم في سورة التوبة إنشاء الله تعالى روى الحاكم عن ابن عباس قال شرى عليّ نفسه ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلّم ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجعلوا يرمون عليا ويرونه النبي صلى الله عليه وسلّم وجعل عليّ يتضور «1» فاذا هو عليّ فقالوا انك لليئم انك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه فيك وروى الحاكم عن على بن الحسين قال ان أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علىّ وقال في ذلك شعر
وقيت بنفسي خير من وطى الحصى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول اله أخاف ان يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمنا ... موقى وفي حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم وما يتهمونه ... وقد وطنت نفسى على القتل والاسر
قال ابن إسحاق وكان مما نزل في ذلك اليوم وما اجتمعوا له قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ اى يحبسوك ويوثقوك كما قال به ابو الحقيق أَوْ يَقْتُلُوكَ كما قال به ابو جهل وارتضى به إبليس لعنهما الله سبحانه أَوْ يُخْرِجُوكَ كما قال به أخو بنى عامر وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ط المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان مكر محمود وهو ان يتحرى بذلك فعل جميل ومذموم وهو ان يتحرى به فعل قبيح لكن اسناده الى الله تعالى انما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتدا علما فيه من إيهام الذم والمعنى انهم احتالوا لابطال امر محمد واطفاء نور الله والله تعالى احتال لاتمام امره ونوره وإهلاك أعدائه وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (3) فان فعله تعالى
__________
(1) اى ينقلب ظهر البطن 12(4/58)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
خير كله وحسن جميل وقيل معنى مكر الله انه يرد مكرهم وقيل معناه يجازيهم على المكر وقال بعضهم من مكر الله امهال العبد وتمكينه من اعراض الدنيا ولذلك قال أمير المؤمنين من وسع عليه دنياه ولم يعلم انه مكر فهو مخدوع عن عقله واخرج ابن جرير من طريق عبيد ابن عمير عن المطلب بن وداعة ان أبا طالب قال للنبى صلى الله عليه وسلّم ما يأتمر بك قومك قال يريدون ان يسجنونى او يقتلونى او يخرجونى قال من حدثك بهذا قال ربى قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا قال انا استوصى به بل هو يستوصى بي فنزلت وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية قال ابن كثير ذكر ابى طالب فيه غريب بل منكر لان القصة ليلة الهجرة وذلك بعد موت ابى طالب بثلث سنين اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال قتل النبي صلى الله عليه وسلّم يوم بدر صبرا عقبة بن ابى معيط وطعيمة بن عدى والنضر بن الحارث وكان المقداد اسر النضر فلما امر بقتله قال المقداد يا رسول الله اسيرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم انه كان يقول في كتاب الله ما يقول قال وفيه أنزلت.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا يعنى النضر بن الحارث واسناد الفعل الى جميعهم لكونهم راضيا بقوله كما أسند عقر الناقة الى ثمود في قوله تعالى فعقروها وكان العاقر أشقاها قذار بن هالف قَدْ سَمِعْنا يعنى القرآن لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا وهذا غاية مكابرنهم وفرط عنادهم إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم ان يشاؤا وقد تحديهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم فلم يعارضوه سورة مع ألفتهم وفرط استنكافهم ان يغلبوا خصوصا في باب البيان يعنى إِنْ هذا يعنى القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) يعنى ما سطره وكتبه الأولون من اخبار الأمم الماضية جمع اسطورة وهى المكتوبة قال البغوي كان النضر بن الحارث تاجرا الى فارس وحيرة فيسمع اخبار رستم وإسفنديار وأحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرؤن التورية والإنجيل ويركعون ويسجدون فجاء مكة فوجد محمد صلى الله عليه وسلّم يصلى ويقرأ القرآن فقال النضر قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا الآية.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا يعنى القرآن(4/59)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ كما فعلت باصحاب الفيل وقوم لوط أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) مولم على إنكاره قالوا ذلك استهزاء وإيهاما بانهم على بصيرة وجزم ببطلانه اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير انها نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل بذلك قال البغوي قال ابن عباس لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلّم شان القرون الماضية قال النضر لو شئت قلت مثل هذا ان هذا الا أساطير الأولين في كتبهم قال له عثمان بن مظعون اتق الله فان محمدا يقول الحق قال فانا أقول الحق قال عثمان فان محمدا يقول لا اله الا الله قال فانا أقول لا اله الا الله ولكن هذه بنات الله يعنى الأصنام ثم قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلخ وفيه نزل سأل سائل بعذاب واقع ومعناه إن كان القرآن حقا منزلا فامطر الحجارة علينا عقوبة على إنكاره او ائتنا بعذاب اليم سواه والمراد منه التهكم واظهار اليقين على كونه باطلا قال عطاء لقد نزل في النضر بضعة عشر اية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر قوله تعالى.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) اختلفوا في معنى هذه الآية فقال محمد ابن إسحاق هذا حكاية عن المشركين انهم قالوها وهى متصلة بالآية الاولى ذلك انهم كانوا يقولون ان الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمته نبيها معها فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم ثم قال ردوا عليهم.
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وان كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وقال الآخرون هذا كلام مستانف روى البخاري عن انس قال قال ابو جهل بن هشام اللهم ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم فنزلت وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم اخبارا عن نفسه فاختلفوا في تأويلها فقال الضحاك وجماعة وكذا اخرج ابن جرير عن ابن الزي تأويلها وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم بيان لموجب إمهالهم(4/60)
والتوقف لاجابته دعائهم واللام لتاكيد النفي والدلالة على ان تعذيبهم عذاب استيصال والنبي بين أظهرهم خارج عن عادة الله تعالى غير مستقيم في قضائه خصوصا حال كونك فيهم وقد بعثت رحمة للعلمين وفيه اشعار بانهم يرصدون بالعذاب إذا هاجرت من بينهم قالوا نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو مقيم بمكة ثم خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقيته من المسلمين يستغفرون الله فانزل الله وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعنى فيهم من يستغفرون وهم المسلمون ثم خرج أولئك من بينهم فعذبوا واذن الله في فتح مكة وهو العذاب الأليم الذي وعدهم ويدل على ان كون المؤمنين بينهم واستغفارهم منعهم من العذاب قوله تعالى ولولا رجال مؤمنون ونساء مومنات لم تعلموهم الى قوله لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما قال ابن عباس لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين أمنوا ويلحق بحيث يوم فقال وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعنى المسلمين فلما خرجوا قال الله تعالى ما لهم ان لا يعذبهم الله اى ما لهم مما يمنع تعذيبهم إذا زال ذلك وكيف لا يعذبون وهم يصدون الناس عن المسجد الحرام وحالهم ذلك ومن صدهم الجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم الى الهجرة فعذبهم الله يوم بدر قال ابو موسى الأشعري كان فيكم أمانان وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فاما النبي صلى الله عليه وسلّم فقد مضى والاستغفار كائن فيكم الى يوم القيامة واخرج الترمذي وضعفه عن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم انزل الله علىّ امانين لامتى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فاذا مضيت تركت فيهم الاستغفار الى يوم القيامة وقال بعضهم هذا الاستغفار راجع الى المشركين اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون غفرانك غفرانك فانزل الله تعالى وما كان الله ليعذبهم الآية واخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان قالت قريش بعضها لبعض محمد أكرم الله من بيننا اللهم ان كان هذا هو الحق(4/61)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
من عندك فامطر علينا حجارة من السماء فلما امسوا ندموا على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فقال الله سبحانه وما كان الله ليعذبهم وهم يستغفرون الى قوله لا يعلمون وقال قتادة والسدى معنى ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ان لو استغفروا لم يعذبهم الله لكنهم لم يستغفروا ولو أقروا بالذنب واستغفروا لكانوا مؤمنين نظيره قوله تعالى ما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون وقيل معنى الاية ان الله تعالى يدعوهم الى الإسلام ومصاحبة الرسول والاستغفار بهذا الكلام كالرجل يقول لغيره لا أعاقبك وأنت تطيعنى اى أطعني حتى لا أعاقبك وقال مجاهد وعكرمة وهم يستغفرون اى يسلمون يقول لو اسلموا ما عذبوا وروى الوالبي عن ابن عباس ان معناه وفيهم من سبق له من الله انه يومن ويستغفر وذلك مثل ابى سفيان بن حرب وصفوان ابن امية وعكرمة بن ابى جهل وسهيل بن عمرو حكيم بن حزام وغيرهم وروى عبد الوهاب عن مجاهد وهم يستغفرون يعنى وفي أصلابهم من يستغفر وقيل أراد بالعذاب في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم عذاب استيصال وفي قوله تعالى وما لهم ان لا يعذبهم الله العذاب بالسيف وقيل أراد بنفي العذاب عذاب استيصال في الدنيا وبوقوع العذاب عذاب الاخرة وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ قال الحسن كان المشركون يقولون نحن اولياء المسجد الحرام
فنصد من نشاء وندخل من نشاء فرد الله عليهم بقوله وما كانوا أولياءه اى اولياء البيت إِنْ أَوْلِياؤُهُ اى البيت إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك الذين لا يعبدون فيه غير الله وقيل الضمير لله تعالى وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) ان لا ولاية لهم عليه كانه نبه بالأكثر ان منهم من يعلم ذلك ويعاند او أراد بالأكثر الكل كما يراد بالقلة العدم «1» .
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ اى دعائهم او ما يسمونه صلوة إِلَّا مُكاءً قال ابن عباس والحسن المكاء الصفير
__________
(1) عن رفاعة بن رافع ان النبي صلى الله عليه وسلّم قال لعمر رضى الله تعالى عنه اجمع لى قومك فجمعهم فلما حصروا باب النبي صلى الله عليه وسلّم دخل عمر عليه قد جمعت الان قومى فسمع ذلك الأنصار فقالو قد لزل في قريش الوحى فجاء من المتمع والناظر ما يقال لهم خرج النبي صلى الله عليه وسلّم فقام بين أظهرهم فقال هل فيكم من غيركم قالوا نعم حليفنا وابن اختينا وموالينا قال النبي صلى الله عليه وسلّم حليفنا منا وابن أختنا منها وموالينا منا وأنتم تسمعون ان أوليائي الا المتقون فانكنتم أولئك فذاك والا فانظروا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة ويأتون الأثقال فيعرض عنكم 12-(4/62)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
وهى في اللغة اسم طاير ابيض يكون بالحجاز له صفير كانه قال إلا صوت مكاء وَتَصْدِيَةً وتصفيقا قال البغوي قال ابن عباس كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون وكذا اخرج الواحدي عن ابن عمر قال البغوي قال مجاهد كان نفر من بنى عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف ويستهزؤن ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون فالمكاء جعل الأصابع في الشدق والتصدية الصفير ومنه الصداء الذي يسمعه المصوت من الجبل وفي اللغة الصداء صوت يرجع من كل جانب واخرج ابن جرير عن سعيد قال كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلّم في الطواف يستهزؤن به يصفرون ويصفقون فنزلت هذه الاية وقال البغوي قال جعفر بن ابى ربيعة سالت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله تعالى مكاء وتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا وقال مقاتل كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ورجلان عن يساره فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلّم صلوته وهم من بنى عبد الدار وقال سعيد بن جبير التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وعن الدين وعن الصلاة فالتصدية مشتق من الصدد بالدالين قلبت حرف التضعيف بالياء وعلى هذه الوجوه معنى قوله تعالى ما كان صلوتهم ما وضعوه موضع الصلاة فانهم أمروا بالصلوة في المسجد فجعلوا ذلك مكانه فَذُوقُوا الْعَذابَ يعنى القتل يوم بدر وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل للعهد والمعهود العذاب المطلوب بقولهم ائتنا بعذاب اليم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) اعتقاد او عملا وهذه الآية متصلة بما قبلها لتقرير استحقاقهم العذاب وعدم ولايتهم للمسجد فانها لا يليق بمن هذ صفته.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا اى ليصرفوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن دين الله قال البغوي قال الكلبي نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنا عشر رجلا ابو جهل بن هشام وعتبة وشيبه ابنا ربيعة بن عبد الشمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وابو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وابى(4/63)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
ابن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش وكان يطعم كلو أحد منهم كل يوم عشر جزور وقال ابن إسحاق حدثنى الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا الى مكة مشى عبد الله بن ابى وعكرمة ابن ابى جهل وصفوان بن امية في رجال من قريش أصيب آبائهم وأبنائهم فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في ذلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فاعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا ان ندرك منه ثارا ففعلوا ففيهم كما ذكر ابن عباس انزل الله ان الذين كفروا ينفقون أموالهم الى قوله يحشرون واخرج ابن ابى حاتم عن الحكم بن عتبة قال نزلت في ابى سفيان أنفق على المشركين أربعين اوقية من ذهب واخرج ابن جرير عن أبزى وسعيد ابن جبير قالا نزلت في ابى سفيان استاجر يوم أحد الفين من الأحابيش «1» ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليهم قلت واللفظ عام يشتمل كلهم ومن فعل فعلهم فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندما وغما في الدنيا لفواتها من من غير حصول مقصود جعل وانها حسرة وهى عاقبة إنفاقها مبالغة ثُمَّ يُغْلَبُونَ 5 آخر الأمر وإن كان الحرب سجاه «2» قبل ذلك وَالَّذِينَ كَفَرُوا اى ثبتوا على الكفر منهم إذا اسلم بعضهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) يساقون.
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الكافر من المؤمن او الفساد من الصلاح واللام متعلقه بيحشرون او يغلبون او ما أنفقه المشركون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلّم مما أنفقه المسلمون في نصره واللام متعلقه بقوله ثم تكون عليهم حسرة قرأ حمزة والكسائي ويعقوب ليميز بالتشديد من التفعيل وهو ابلغ من الميز وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ اى يجمعه ويضم بعضه الى بعض ومنه السحاب المركوم جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كله أُولئِكَ
__________
(1) حابيش احياء من القارة انضموا الى نبى الليث في محاربتهم فرفساء التحبش التجمع وقيل حالفوا فريشا تحت جبل يسمى حبشا 12
(2) سبحا لا اى مرة للمؤمنين ومرة للكاذبين مستعار من المستقين بالسجل يعنى الدلو 12(4/64)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
اشارة الى الخبيث لانه مقدر بالفريق الخبيث او الى المنفقين هُمُ الْخاسِرُونَ (37) الكاملون في الخسران حيث اشتروا باموالهم عذاب الآخرة.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عن الكفر ومعاداة الرسول وقتاله يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الكفر والفساد والذنوب وقد اسلم جماعة كثيرة منهم ابو سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعكرمة بن ابى جهل وعمرو بن العاص وغيرهم خلق كثير واسلم من أسارى بدر عباس بن عبد المطلب وعقيل ابن ابى طالب ونوفل بن حارث وابو العاص بن الربيع وابو عزيز بن عمير العبدري والصائب بن ابى جيش وخالد بن هشام المخزومي وعبد الله بن ابى السائب والمطلب بن حنطب وابو وداعة السهمي وعبد الله بن ابى خلف ووهب بن عمير الجمحي وسهيل بن عمر العامري وعبد الله بن زمعة أخو أم المؤمنين سودة وقيس بن السائب ولسطاس مولى امية بن خلف والسائب بن عبيد اسلم يوم بدر بعد ان فدى نفسه وعدى بن خيار اسلم يوم الفتح والوليد بن الوليد بن المغيرة افتكه هشام وخالد فلما افتدى اسلم فعاتبوه في ذلك فقال كرهت ان يظن بي انى جزعت من الاسر ولما اسلم حبسه أخواله فكان عليه السلام يدعوا له في القنوت ثم أفلت ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلّم عام القضاء روى مسلم عن عمرو بن العاص قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلّم فقلت ابسط يمينك فلا بايعك فبسط يمينه فقبضت يدى فقال مالك يا عمرو قال أردت ان اشترط قال تشترط ماذا قلت ان يغفر لى قال اما علمت يا عمرو ان الإسلام يهدم ما كان قبله وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله وَإِنْ يَعُودُوا الى قتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) الذين تحادوا الأنبياء بالتدمير كما جرى على اهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك.
وَقاتِلُوهُمْ يعنى الكفار ايها المؤمنون حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ اى فساد في الأرض يعنى حتى يسلموا او يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ليس المراد بالدين هاهنا ملة الإسلام وما يتعبد الله به والا يلزم التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى حتى يعطوا الجزية بل المراد منه القهر والغلبة والاستعلاء والسلطان والملك والحكم ذكر تلك المعاني للدين في القاموس عن المقداد بن اسود انه سمع رسول الله(4/65)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
صلى الله عليه وسلّم يقول لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر الا ادخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز او ذل ذليل اما يعزهم الله فيجعلهم أهلها او يذلهم فيدينون لها فيكون الدين كله لله رواه احمد ومعنى قوله عليه السلام فيدينون لها اى يطيعون لاحكامها ويكونون من اهل الذمة فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر واسلموا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) فيجازيهم على حسب أعمالهم عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة فاذا فعلوا ذلك عصم منى دمائهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى متفق عليه الا ان مسلم الم يذكر الا بحق الإسلام ورواه اصحاب الكتب الستة عن ابى هريرة قال السيوطي حديث متواترا والمعنى انتهوا عن القتال اما بالإسلام او بإعطاء الجزية فان الله بما يعملون بصير يعنى لا تقاتلوهم أنتم لكن الله يجازيهم على إسلامهم وكفرهم وأعمالهم الحسنة والسيئة وعن يعقوب انه قرأ تعملون بالتاء على الخطاب للمؤمنين يعنى اعملوا بهم ما تعاملون بالمؤمنين ولا تظلموهم فان الله يجازيكم على حسب أعمالكم عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال الا من ظلم معاهدا او انتقصه او كلفه فوق طاقته او أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فانا حجيجه يوم القيامة رواه ابو داود هذا التأويل لقراءة يعقوب يصح على كلا التقديرين سواء كان المراد بالانتهاء الانتهاء عن الكفر بالإسلام او الانتهاء عن القتال بأحد الامرين اما بالإسلام او بإعطائه الجزية وقال البيضاوي تاويل قراءة يعقوب ان الله بما تعملون ايها المؤمنون من الجهاد والدعوة الى الإسلام والإخراج من ظلمة الكفر الى نور الايمان يصير يجازيكم ويكون تعليقه بالانتهاء دلالة على انه كما يستدعى اثابتهم للمباشرة يستدعى اثابة مقاتليهم بالتسبيب وهذا التأويل يختص بما إذا كان الانتهاء بمعنى الانتهاء من الكفر ومع ذلك بعيد جدا فان قوله بما تعملون يعم الحسنة والسيّئة والله اعلم.
وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام ولم ينتهو عن الكفر او تولوا عن الانقياد ولم ينتهوا عن القتال فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم فثقوا به وقاتلوا(4/66)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
الكفرة ولا تبالوا بمعاداتهم وإن كانوا متكاثرين نِعْمَ الْمَوْلى الله لا يضيع من تولاه وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) هو لا يغلب من نصره.
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ما بمعنى الذي ... وغنمتم صلته والعائد محذوف يعنى الذي غنمتموه ولا يجوز ان يكتب ما موصولا لانه يكون حينئذ كافة والغنيمة مال حربى أخذ قهرا وغلبة ومن هاهنا قال ابو حنيفة إذا دخل واحد او اثنان في دار الحرب بغير اذن الامام مغرين وأخذوا من مال اهل الحرب شيئا لا يجب فيه الخمس وان دخل اربعة يجب الخمس فيما أخذوا وفي المحيط عن ابى يوسف انه قدر الجماعة التي لا منعة لها بسبعة والتي لها منعة بعشرة ومذهب الشافعي ومالك واكثر اهل العلم انه يخمس ما اخذه واحد تلصصا لانه مال حربى أخذ قهرا فكان غنيمة فيخمس بالنص وقال ابو حنيفة واحمد في رواية عنه انه ليس بغنيمة لانه لم يوخذ قهرا بل اختلا ساو سرقة والمتلصص انما يأخذ بحيلة فكان اكتسابا مباحا من المباحات كالاحتطاب والاصطياد ومحل الخمس الغنيمة بخلاف ما لو دخل واحد او اثنان بإذن الامام فانه غنيمة اتفاقا لان على الامام ان ينصره حيث اذن له كما ان على الامام ان ينصر الجماعة الذين لهم منعة كالاربعة او العشرة وان دخلوا بغير اذنه تحاميا عن توهين المسلمين والدين فلم يكونوا مع نصرة الامام متلصصين والله اعلم مِنْ شَيْءٍ بيان لما الغرض منه التعميم يعنى ما يطلق عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول أدوا الخياط والمخيط وإياكم والغلول فانه عاد على اهله يوم القيامة رواه الدارمي ورواه الشافعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفي رواية لابى داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وفيه فقام رجل في يده كبة من شعر فقال أخذت هذه لا صلح بها برذعة فقال النبي صلى الله عليه وسلّم اما ما كان لى ولبنى عبد المطلب فلك فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ دخلت الفاء لما في ما من معنى المجازاة وما بعده في محل الرفع مبتدأ محذوف الخبر يعنى فحق ان الله خمسه او خبر مبتدأ محذوف يعنى فالحكم ان الله خمسه أبقى الله سبحانه خمس الغنائم على ملكه ولم يجعلها في ملك الغانمين ولذا قالت الحنفية ان خمس الغنيمة حق قائم بنفسه ليس واجبا في ذمة الغانمين كالزكوة فانها وجبت في ذمة(4/67)
المكلفين حيث أمروا بإتيانها ولذلك صار الزكوة من أوساخ الناس ولم يحل لرسول الله صلى الله عليه واله وسلّم واله لشرافته وحل له الخمس ثم بين الله سبحانه حيث يصرف خالص حقه تعالى فقال وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى يعنى أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلّم واختلفوا فيهم فقال قوم هم جميع قريش وقال مجاهد وعلى بن الحسين هم بنو هاشم وقال الشافعي هم بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف وليس لبنى عبد الشمس وبنى نوفل منه شيء مع انهم كانوا ابني عبد مناف ايضا روى الشافعي عن الثقة عن ابن ابى شهاب عن ابن المسيب عن جبير بن مطعم قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم سهم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب ولم يعط أحدا من بنى عبد الشمس ولا بنى نوفل شيئا وكذا روى البخاري عنه في صحيحه وفي رواية للشافعى عنه قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم ذوى القربى بين بنى هاشم وبنى المطلب أتيته انا وعثمان بن عفان فقلنا يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بنى هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله فيهم ارايت إخواننا من بنى المطلب اعطيتهم وتركتنا او منعتنا وانما قرابتنا وقرابتهم واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم انما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه وكذا روى ابو داود والنسائي قال البرقاني وهو على شرط مسلم وفي هذا الحديث اشارة الى شان الصحيفة القاطعة التي كتبها قريش على ان لا تجالسوا بنى هاشم ولا تبايعوهم ولا تناكحوهم وبقوا على ذلك سنة ولم يدخل في بيعتهم بنو المطلب بل خرجوا مع بنى هاشم الى شعب ابى طالب كذا في السنن والمغازي وروى البيهقي في السنن والدلائل قال الخطابي وكان يحيى بن معين يرويه انما بنو هاشم وبنو
المطلب سيّ واحد بالسين المهملة والياء المشددة اى مثل وسواء يقال سيان اى مثلان قلت هذا الحديث يدل على ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم الحق بنى المطلب ببني هاشم وعدهم منهم لكمال موافقتهم ومواذرتهم في الجاهلية والإسلام لا لكونهم من بنى عبد مناف والا فبنى عبد الشمس وبنى نوفل كانوا مثلهم في ذلك وما قال صاحب الهداية ان هذا الحديث يدل على ان المراد قرب النصرة لا قرب القرابة فليس بشيء لانه لو كان المراد قرب النصرة لكان عثمان بن عفان اولى به(4/68)
من العباس فان عثمان اسلم في بداية الإسلام وعباس بعد قتال بدر بل لزم ان يكون غير أقرباء النبي من المهاجرين والأنصار مستحقين لذلك السهم وَالْيَتامى جمع يتيم وهم صغير لا اب له وفي القاموس اليتيم فقدان الأب وانما قيدناه بكونه صغيرا لما رواه ابو داود وعن عليّ في حديث لا يتم بعد الاحتلام وقد أعله العقيلي وعبد الحق وابن القطان والمنذرى وغيرهم وحسنه النووي ورواه الطبراني بسند اخر عن عليّ ورواه ابو داود الطيالسي في مسنده وفي الباب حديث طلحة بن حذيفة عن جده واسناده لا بأس به وهو في الطبراني الكبير وغيره وعن جابر رواه ابن عدى في ترجمة حزام بن عثمان وهو متروك وعن انس وَالْمَساكِينِ جمع مسكين وسنذكر تحقيقه في مصارف الصدقات في سورة التوبة وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر البعيد عن منزله نسب الى السبيل لما رسقه إياه اجمع الامة على ان هذه الأصناف الثلاثة يستحقون لفقرهم وحاجتهم فلا يعطى للاغنياء من اليتامى وأبناء السبيل وكذا قال بعض الناس في ذوى القربى انهم يستحقون لفقرهم وحاجتهم وهذا القول مردود لان لفظ ذوى القربى لا يشعر بالفقر أصلا بخلاف لفظ اليتيم وابن السبيل وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يعطى العباس وكان كثير المال واجمع الائمة واتفقت الرواة على ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان يقسم الغنيمة على خمسة أسهم اربعة أخماسه للغانمين ويجعل الخمس على خمسة أسهم فيجعل سهما لنفسه فينفق منه على نفسه واهله ويعطى منه اهله نفقة سنة وما فضل جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله وفي مصالح المسلمين وسهما يقسمها في بنى هاشم وبنى مطلب يعطى منها الغنى والفقير والذكر والأنثى منهم وثلثة أسهم يقسمها في اليتامى والمساكين وأبناء السبيل فلينظر هل كان هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من الأصناف الخمسة هل كان كل واحد منهم مستحقا لحصته منها لا يجوز منعه عنه ولا صرفه الى غيره او كان الأصناف المذكورة مصرفا لها جاز للامام ان يصرفها الى صنف واحد منها اولى شخص واحد منه ولا يجوز له التجاوز عنها الى غيرها وبالشق الثاني قال ابو حنيفة قال ابن همام انه ذكر في التحفة ان هذه الثلاثة يعنى اليتامى والمساكين وابن السبيل(4/69)
مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لو صرف الى صنف واحد منها جاز وقال الشافعي وجماعة من السلف والخلف بالشق الاول قالوا لا يجوز للامام ان يصرفها الى صنف او صنفين بل يجب صرفها الى جميعها فانكان كل صنف منها جماعة محصورين لا يجوز منع واحد منها وسوى بينهم بالقسمة كما يقسم الأسهم الاربعة بين الغانمين لا يجوز منع واحد منهم اجماعا والحق الشافعي سهم ذوى القربى بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير انهم يعطون القريب والبعيد وفقال يفضل الذكر على الأنثى فيعطى للذكر سهمين والأنثى سهما وإن كانوا غير محصورين لا يمكن استيعابهم لا بد عنده ان يعطى من كل صنف ثلثة لان الله تعالى ذكر لام الاختصاص وذلك يقتضى الملك او استحقاق الملك وذكر كل صنف بلفظ الجمع واقله ثلثة وقال ابو حنيفة ومن معه اللام لمطلق الاختصاص ومن الاختصاص ان لا يجوز الصرف الى غير تلك الأصناف واللام ليس للاستغراق بل للجنس ولام الجنس يبطل الجمعية والحجة لهذا القول أن الأصناف المذكورة متداخلة بعضها في بعض فان من ذوى القربى اليتامى والمساكين وابن السبيل ومن اليتامى ذو والقربى والمساكين وابن السبيل ومن المساكين ذوو القربى واليتامى وأبناء السبيل
ولو كان كل صنف منها مختص بسهم ولا يجوز صرفها الى صنف اخر لزم ذكر كل صنف منها بحيث لا يصدق عليه عنوان صنف اخر وايضا إذا كان شخص واحد داخلا في الأصناف كلها لزم حينئذ ان يعطى له لاجل كل وصف سهما كما يعطى من الميراث للزوج إذا كان ابن عم لها لاجل الحيثيتين سهمين مختلفين فرضا وعصوبة ومن المنقول ما في الصحيحين عن على رضى الله عنه ان فاطمة رضى الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تشكو اليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها ان جاءه رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة قال فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال مكانكما فقعد بينى وبينها حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال الا أدلكما على خير ما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما تسبحا ثلثا وثلثين واحمدا ثلثا وثلثين وكبرا أربعا وثلثين فهو خير لكما من خادم وفي رواية لمسلم الا ادلك على ما هو خير من خادم تسبحين الله ثلثا وثلثين وتحمدين ثلثا وثلثين وتكبرين أربعا وثلثين عند كل صلوة وعند(4/70)
منامك وروى الطحاوي عن علىّ بلفظ انه قال لفاطمة رضى الله عنهما ذات يوم قد جاء الله أباك بسعة ورقيق فاتيه فاستخدميه فاتته فذكرت ذلك فقال والله لا أعطيكها وادع اهل الصفة ليطوون بطونهم ولا أجد ما أنفق عليهم ولكن أبيعها وأنفق عليهم الا أدلكما على خير مما سألتما علمنيه جبرئيل كبر الله دبر كل صلوة عشرا وسبحا عشرا واحمدا عشرا وإذا أتيتما الى فراشكما وروى الطحاوي عن الفضل بن حسن ابن عمر بن الحكم ان امه حدثته انها ذهبت هى وأمها حتى دخلن على فاطمة فخرجن جميعا فاتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقد اقبل من بعض غزواته ومعه رقيق فسألته ان يخدمهن فقال سبقكن يتامى اهل بدر فان هذه الأحاديث تدل على ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كان قد يعطى بعض الأصناف ولا يعطى بعضا اخر والا لما منع فاطمة عن حقها وقد كان لها حظ من الخمس ولما بعض صرف حق فاطمة الى فقراء اهل الصفة ويتامى اهل بدر فان سهم ذوى القربى لا يجوز صرفها عند الشافعي الى الفقراء واليتامى بل لكل من الصنفين عنده سهم من الخمس غير سهم ذوى القربى ويؤيد ما قلت ما روى ابو يوسف في كتاب الخراج قال حدثنى اشعث بن سوار عن ابى الزبير عن جابر بن عبد الله انه كان يحمل من الخمس في سبيل الله ويعطى منه نائبة القوم فلما كثر المال جعل في اليتامى والمساكين وابن السبيل قلت عندى معنى الاية ان لله خمسه يعنى ملكا حيث أبقاه سبحانه على ملك نفسه ولم يعطه أحدا غيره وامر رسوله صرفه كما امر وللرسول ذلك الخمس استحقاقا وتصرف على نفسه وفي مصارفه كيف يشاء ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل مصرفا ولذلك ذكر الصنفين الأخيرين عطفا على ذى القربى بلا لام وذكر الأصناف الاربعة بلام واحد لكون كلها من جنس واحد مختصا باختصاص المصرفية ولم يعطفها على الرسول كما عطف الأخيرين وأورد اللام على الرسول ولم يعطف على الله لكون كل اختصاص منها نوعا علحدة فالاختصاص بالله اختصاص الملك وليس بالرسول اختصاص الملك لما روى انه صلى الله عليه وآله وسلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال لا يحل لى من غنائمكم مثل هذا الا الخمس والخمس مردود فيكم رواه ابو داود ومن حديث عمرو بن(4/71)
عنبسة وكذا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ليس لى من هذا الفيء شيء ولا هذا يعنى وبر البعير الا الخمس والخمس مردود فيكم ولم يقل الا خمس الخمس فاللام في الأنواع الثلاثة من الاختصاصات المذكورة كالمشترك او كالحقيقة والمجاز ولا يجوز الجمع بين المشترك ولا بين الحقيقة والمجاز فلذلك أورد اللام ثلث مرات والله اعلم (مسئلة) اختلف العلماء في سهم الرسول صلى الله عليه وسلّم بعد وفاته صلى الله عليه واله وسلّم فقال الشافعي هو اليوم لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام لانه صلى الله عليه واله وسلم
كان يجعل ما بقي من نفقة في السلاح والكراع قال البغوي روى الأعمش عن ابراهيم قال كان ابو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم في الكراع والسلاح وقال قتادة هو لخليفة بعده لانه صلى الله عليه وآله وسلّم كان يستحقه بامامته وقال ابو حنيفة ان سهم الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سقط بموته ولم يكن سهم لامامته بل رسالته فان الحكم إذا علق بمشتق دل على علية ماخذه ولا رسول بعده وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حق الصفي اصطفى ذا الفقار سيف منبه بن حجاج حين اتى به على يوم بدر بعد ان قتل منبها ثم دفعه اليه واصطفي صفية بنت حيى بن اخطب من غنيمة خيبر رواه ابو داود في سننه عن عائشة والحاكم وصححه وقد اجمعوا ان سهم الصفي ليس لاحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وان حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في ذلك خلاف حكم الامام من بعده فكذا سهمه من الغنيمة لا يكون لاحد بعده (مسئلة) واختلفوا في سهم ذوى القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال ابو حنيفة سهم ذوى القربى ايضا سقط بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ذكر الحنفية لسقوطه وجوها قال صاحب الهداية لان النبي صلى الله عليه وسلّم كان يعطيهم النصرة لما مر من حديث جبير بن مطعم انه صلى الله عليه وآله وسلّم اعطى بنى المطلب ولم يعط بنى نوفل وبنى عبد الشمس وقال انهم يعنى بنى المطلب لم يزالوا هكذا في الجاهلية والإسلام وشبك بين أصابعه وبهذا يظهر ان المراد بالنص قرب النصرة لاقرب القرابة ولما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لم يبق النصرة وهذا التوجيه ضعيف وقد ذكرنا(4/72)
تضعيفه من قبل وقال الطحاوي وجه سقوطه ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لما اعطى ذلك السهم بعض القرابة يعنى بنى المطلب وحرم من قرابتهم منه صلى الله عليه وآله وسلّم كقرابتهم يعنى بنى نوفل وبنى عبد شمس ثبت بذلك ان الله عز وجل لم يرد بما جعل لذوى القربى كل قرابة رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم وانما أراد خاصا منهم وجعل الرأى في ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يضعه فيمن شاء منهم فاذا مات وانقطع رأيه انقطع ما جعل لهم من ذلك كما قد جعل الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلّم ان يصطفي من المغنم لنفسه سهما اى سهم الصفي فكان ذلك ما كان حيا يختار لنفسه من المغنم ما شاء فلما مات انقطع ذلك وقال الطحاوي مرة اخرى كان الله عز وجل قد جعل كل قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في قوله ولذى القربى فلم يخص أحدا منهم دون أحد ثم قسم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاعطى منهم بنى هاشم وبنى مطلب خاصة وحرم بنى امية وبنى نوفل وكانوا محصورين معدودين وفيمن اعطى الغنى والفقير وفيمن حرم كذلك فثبت ان ذلك السهم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يجعله في اى قرابته شاء فصار حكمه حكم سهمه والذي كان يصطفيه لنفسه فلما كان ذلك مرتفعا بوفاته غير واجب لاحد بعده كان هذا كذلك ايضا مرتفعا بوفاته غير واجب لاحد من بعده قال وهو قول أبي حنيفة وابى يوسف ومحمد قلت وهذين التوجيهين ايضا ضعيفان لما ذكرنا ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم انما اعطى بنى مطلب لما جعلهم تبعا لبنى هاشم وعدهم منهم لموازرتهم وموانستهم معهم كما حرم الصدقة على موالى بنى هاشم بتعالهم لا لكونهم من بنى عبد مناف قوله حرم من قرابتهم منه صلى الله عليه وآله وسلّم كقرابتهم ممنوع فان بنى هاشم كانوا اقرب من غيرهم ولو نسلم ان الله سبحانه ذكر ذوى القربى وأراد بعضها منهم لا كلهم ولم يدر منهم فحينئذ كان مجملا فاذا لحقه البيان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حيث اعطى بنى هاشم وبنى
المطلب دون بنى امية وبنى نوفل زال الإجمال والإجمال لا يقتضى البيان كل مرة ولو نسلم ان الله تعالى جعل الرأى في ذلك الى رسوله صلى الله عليه وآله وسلّم فقوله إذا مات انقطع رأيه ممنوع إذ بعد موته الرأي لخلفائه كما في سهم المساكين واليتامى وأبناء السبيل في المغانم والصدقات كان تخصيص بعض دون بعض الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم(4/73)
ثم صار لخلفائه وايضا كون تخصيص بعض دون بعض من ذوى القربى الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم لا يقتضى كون ذلك السهم له صلى الله عليه وآله وسلّم فان تخصيص بعض من المساكين واليتامى وأبناء السبيل ايضا كان اليه صلى الله عليه وسلّم ولم يكن ذلك الأسهم له صلى الله عليه وآله وسلّم اجماعا ولم يسقط شيء منها بموته فكذا هذا والله اعلم ثم استدل كلا الفريقين بعمل الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم قال صاحب الهداية لنا ان الخلفاء الراشدين قسموه على ثلثة أسهم على نحو ما قلنا وكفى بهم قدوة وقال ايضا انه لم ينكر عليهم أحد مع توافر الصحابة مع علمهم فكان اجماعا وقال البغوي الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كانوا يعطون ذوى القربى ولا يفضل فقير على غنى لان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله فلا بد من الكلام في عمل الخلفاء فنقول قال ابو يوسف في كتاب الخراج ان الكلبي محمد بن السائب حدثنى عن ابى صالح عن ابن عباس ان الخمس كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على خمسة أسهم لله وللرسول سهم ولذى القربى سهم ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلثة أسهم ثم قسمه ابو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذى النورين رضى الله عنهم على ثلثة أسهم وسقط سهم الرسول وسهم ذوى القربى وقسمه الثلاثة على الباقين ثم قسمه على بن ابى طالب على ما قسمه عليه ابو بكر وعمر وعثمان وقال ابو يوسف وحدثنى محمد بن إسحاق عن الزهري ان نجدة كتب الى ابن عباس يسئله عن سهم ذوى القربى لمن هو فكتب اليه ابن عباس رضى الله عنه كتبت الى تسالنى عن سهم ذوى القربى لمن هو وهو لنا وان عمر بن الخطاب دعانا الى ان ينكح منه ايمنا ويقضى عنه عن مغرمنا ويخدم منه عائلنا فابينا الا ان يسلم لنا فابى ذلك علينا وقال ابو يوسف وحدثنا قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد بن الحنفية قال اختلف الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في هذين السهمين سهم الرسول وسهم ذوى القربى فقال قوم سهم الرسول للخليفة من بعده وقال آخرون سهم ذوى القربى بقرابة النبي صلى الله عليه واله وسلّم وقالت طائفة سهم ذى القربى لقرابة الخليفة بعده فاجمعوا على ان يجعلوا هذين السهمين في الكراع والسلاح وروى الطحاوي بسنده عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد(4/74)
ابن الحنيفة نحوه وزاد كان ذلك في امارة ابى بكر وعمر وروى الطحاوي حدثنا محمد بن خزيمة قال حدثنا يوسف بن عدى قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر قال أرأيت على بن ابى طالب حيث ولى العراق ما ولى من امر الناس كيف صنع في سهم ذوى القربى قال سلك به والله سبيل ابى بكر وعمر قلت كيف وأنتم تقولون ما تقولون قال انه والله ما كان اهله يصدرون الا عن رائه قلت فما منعه قال كره والله ان يدعى عليه خلاف ابى بكر وعمر قلت وهذه الآثار لو ثبتت لثبت ان الخلفاء قسموا الخمس على ثلثة أسهم ولم يعطوا ذوى القربى سهمهم ولما تقدم ما ذكرنا انه يجوز للامام ان يصرف الخمس الى صنف واحد منها وبه قال ابو حنيفة رحمه الله لا يثبت بعدم إعطاء الخلفاء سهم ذوى القربى سقوط سهمهم وعدم جواز اعطائهم كيف وقال ابو يوسف في كتاب الخراج حدثنى محمد بن عبد الرحمن بن ابى ليلى عن أبيه قال سمعت عليا رضى الله عنه بقول قلت يا رسول الله ان رأيت ان
توليتنى حقنا من الخمس فاقسم في حياتك كيلا ينازعنا أحد بعدك فافعل ففعل قال فولانية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقسمته حياته ثم ولانيه ابو بكر الصديق رضى الله عنه فقسمته حياته ثم ولانيه عمر رضى الله عنه فقسمته حياته حتى إذا كانت اخر سنة من سنى عمر فاتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسل الىّ فقال خذه فاقسمه فقلت يا امير المؤمنين بنا عنه العام غنى وبالمسلمين اليه حاجة فرده عليهم ذلك تلك السنة ولم يدعنا اليه أحد بعد عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتّى قمت مقامى هذا فلقينى العباس بن عبد المطلب بعد خروجى من عند عمر بن الخطاب فقال يا عليّ لقد حرمتنا الغداة شيئا لا يرد علينا ابدا وكذا روى ابو داود عنه فهذا الحديث يدل على ان أبا بكر وعمر كانا يعطيان ذوى القربى كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يعطيهم الا ان عمر منعهم اخر خلافته باشارة علىّ ولعل قول ابن عباس ان عمر دعانا الى ان ينكح منه ايمنا ويقضى عنه مغرمنا ويخدم منه عائلنا فابينا الا ان يسلمه إلينا فابى ذلك علينا حكاية عما بعد قول عليّ لعمر بنا العام عنه غنى وبالمسلمين حاجة وهذا وجه توفيق الآثار وبهذا يثبت ان سهم ذوى القربى لم يسقط ويجوز دفعه إليهم غنيهم وفقيرهم لكن جاز للامام ان يدفع(4/75)
ذلك السهم الى غيرهم إن كان بهم عنه غنى وبالناس اليه حاجة كما فعل عمر باشارة علىّ وسلك عليّ ذلك السبيل في خلافته وكره في ذلك مخالفتهم لما رأى فيه مصلحة وقال ابو يوسف حدثنى عطاء ابن السائب ان عمر بن عبد العزيز بعث سهم الرسول وسهم ذوى القربى الى بنى هاشم قلت ولعل ذلك لما راى عمر بن عبد العزيز في بنى هاشم حاجة كثيرة بعث إليهم سهمين والله اعلم وروى ابو داود عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لم يقسم لبنى عبد الشمس ولا لبنى نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبنى هاشم وبنى المطلب قال وكان ابو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم غير انه لم يكن يعطى قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كما كان يعطيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه وهذا الحديث يدل على ان الخلفاء منعوا تارة واعطوا تارة فروى كل على ما علم وهذا يؤيد ما قلنا والله اعلم (فصل) واعلم ان الاية كما تدل بعبارتها على ان ما غنمتم فخمسه خالص لله تعالى يصرف في سبيله في الأصناف المذكورة تدل باشارتها على ان الباقي يعنى الأخماس الاربعة جعلتها لكم ايها الغانمون فكون الأخماس الاربعة للغانمين مسكوت في حكم المنطوق كما ان قوله تعالى وان لم يكن له ولد وورثه أبواه فلامه الثلث تدل على ان الثلثين للاب وهو مسكوت في حكم المنطوق فهذه الاية بهذا الاعتبار ناسخة لقوله تعالى يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول حيث لم يجعل الله فيها شيئا لغيره الا ما أراد رسوله كما ذكرنا من رواية البخاري في تاريخه عن سعيد بن جبير قيل هذه الاية نزلت في غزوة بنى قينقاع بعد غزوة بدر بشهر للنصف من شوال على راس عشرين شهرا من الهجرة أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن أبيه عن سعيد بن كعب ومن طريق سعيد بن المسيب نحوه والصحيح انها نزلت في غزوة بدر بعد ما نزلت يسألونك عن الأنفال والله اعلم (مسئلة) اجمعوا على ان اربعة أخماس الغنيمة للغانمين لا يجوز للامام منع واحد منهم عن نصيبه واختلفوا في سلب المقتول فقال الشافعي واحمد هو للقاتل وحده ولا يجب(4/76)
فيه الخمس بشرط ان يعرض نفسه على القتل في قتل مشرك وأزال امتناعه فان رمى من بعيد وقتل السهم رجلا من صف المشركين لا يجب للقاتل سلبه ويشترط عند الشافعي كون القاتل من اهل السهم وقال احمد وإن كان من اهل الرضح ايضا وقال ابو حنيفة ومالك وهى رواية عن احمد لا يستحق القاتل السلب الا ان يشترط الامام فحينئذ يحسب عند أبي حنيفة من اربعة الأخماس وعند مالك من الخمس عن ابى قتادة
قال خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدرع فاقبل عليّ فضمنى ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت فارسلنى فلحقت عمر بن الخطاب فقلت ما بال الناس قال امر الله ثم رجعوا وجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فقلت من يشهد لى ثم جلست فقال النبي صلى الله عليه واله وسلّم مثله فقلت من يشهد لى ثم جلست ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مثله فقمت فقال مالك يا با قتادة فاخبرته فقال رجل صدق وسلبه عندى فارضه منى فقال ابو بكر لاها الله إذ لا يعمد الى اسد من اسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم صدق فاعطه فاعطانيه فابتعت منه مخرفا فى بنى سلمة فانه لاول مال تاثلته في الإسلام متفق عليه وفي رواية للطحاوى عن ابى قتادة انه قتل رجلا من المشركين فنفله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سلبه ودرعه فباعه بخمس أواق وعن انس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال يوم حنين من قتل قتيلا فله سلبه فقتل ابو طلحة يومئذ عشرين فاخذ سلبهم رواه الدارمي والطحاوي وابو داود وعن سلمة ابن الأكوع قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم هوازن قتلت رجلا ثم جئت بجمله أقوده وعليه رحله وسلاحه فاستقبلنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم والناس معه فقال من قتل الرجل قالوا ابن الأكوع فقال له سلبه اجمع رواه الطحاوي وعنه قال اتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عين من المشركين فجلس يتحدث عند أصحابه ثم انسل فقال نبى الله صلى الله عليه وآله وسلّم اطلبوه فاقتلوه فسبقتهم فقتلته(4/77)
وأخذت سلبه فنفلنى إياه رواه الطحاوي وروى الحاكم بإسناد فيه الواقدي ضرب محمد بن سلمة ساقى مرحب فقطعهما ولم يجهز عليه فمر به عليّ فضرب عنقه واعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سلبه محمد بن مسلمة والصحيح ان على بن ابى طالب هو الذي قتله لما ثبت في صحيح مسلم وعن عوف بن مالك ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم جعل السلب للقاتل رواه الطحاوي وفي رواية له عنه وعن خالد بن الوليد نحوه وكذا روى احمد وابو داود والطبراني وروى احمد عن عوف بن مالك وخالد بن الوليد ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لم يخمس السلب وكذا روى ابو داود وابن حبان والطبراني بلفظ قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس وروى احمد عن سمرة بن جندب مرفوعا من قتل قتيلا فله سلبه وسنده لا بأس به وروى الطحاوي عن ابن عباس قال انتدب «1» رجل من المشركين فامر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الزبير فخرج اليه فقتله فجعل له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سلبه قال ابن همام لا خلاف فيه فانه صلى الله عليه وآله وسلّم قال ذلك يعنى قوله من قتل قتيلا فله سلبه انما الكلام ان هذا منه نصب الشرع على العموم في الأوقات والأحوال كلها او كان تحريضا بالتنفيل قاله في تلك الواقعة فعند الشافعي نصب الشرع لانه هو الأصل في قوله لانه انما بعث لذالك قلت سياق حديث ابى قتادة صريح في ان قوله صلى الله عليه وآله وسلّم ليس على سبيل التنفيل قبل القتال بل هو بعد ان قتل ابو قتادة مشركا وكذا حديث سلمة بن الأكوع وما ورد في الحديث انه صلى الله عليه وآله وسلّم لم يخمس السلب حجة للشافعى واحمد على مالك حيث قال ان السلب يحسب من الخمس.
(فائدة) روى الطحاوي عن انس بن مالك ان البرآء بن مالك أخا انس بن مالك بارز مرزبان الزارة فطعنه طعنة فكسر القربوس وخلصت اليه فقتلته فقوم سلبه ثلثين الفا فلما صلينا الصبح غدا علينا عمر فقال لابى طلحة انا كنا لا نخمس الاسلاب وان سلب البراء قد بلغ مالا ولا أرانا الا خامسيه فقومناه ثلثين الفا فدفعنا الى عمر ستة آلاف وروى الطحاوي من وجه بلفظ ان البراء بن مالك بارز رجلا من عظماء فارس فقتله فاخذ البراء سلبه فكتب فيه الى عمر فكتب عمر الى الأمير ان اقبض إليك خمسة وادفع اليه ما بقي فقبض الأمير
__________
(1) اى طلب المبازرة 12 [.....](4/78)
خمسه قلت وهذين الأثرين يدلان على ان السلب للقاتل وانه لا يخمس غير انه يجوز للامام ان استكثر المال ان يخمسه واستدل ابو حنيفة على ان السلب ليس للقاتل خاصة الا ان يكون الامام قاله في وقت يحتاج الى تحريضهم بما رواه الطبراني في الأوسط والكبير انه بلغ حبيب بن سلمة ان صاحب قبرص خرج يريد طريق اذربيجان ومعه زمرد وياقوت ولؤلؤ وغيرهما فخرج اليه فقتله فجاء بما معه فاراد ابو عبيدة ان يخمسه فقال له حبيب لا تحرمنى رزقا رزقنيه الله فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم جعل السلب للقاتل فقال معاذ يا حبيب اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقول للمرأ ما طابت به نفس امامه وهذا معلول فانه فيه عمرو ابن واقد ورواه إسحاق بن راهويه بسنده عن جنادة بن امية قال فذكر الحديث انه بلغ حبيب بن سلمة الى ان قال فجاء بسلبه على خمسة ابغال من الديباج والياقوت والزبرجد فاراد حبيب ان يأخذ كله وابو عبيدة يقول بعضه فقال حبيب لابى عبيدة قد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من قتل قتيلا فله سلبه قال ابو عبيدة انه لم يقل ذلك للابد وسمع معاذ ذلك فاتى وعبيدة وحبيب يخاصمه فقال معاذ الا تتقى الله وتأخذ ما طابت به نفس امامك فان مالك ما طابت نفس امامك وحدث بذلك معاذ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فاجتمع رايهم على ذلك فاعطوه بعد الخمس فباعه حبيب بألف دينار وفيه رجل مجهول وبما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف في مقتل ابى جهل يوم بدر فان فيه ان قال عليه السلام لمعاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء بعد ما رأى سيفهما كلا كما قتله ثم قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح وحده ولو كان للقاتل لقضى به لهما وبما رواه مسلم وابو داود عن عوف بن مالك الأشجعي قال خرجت مع زيد بن حادثة غزوة مؤتة ورافقنى مددى من اهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر على سرج مذهب وسلاح مذهب وجعل يغرى بالمسلمين وقعد له المددى خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر فعلا فقتله فحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله على المسلمين بعث اليه خالد بن الوليد فاخذ منه بعض السلب قال عوف فاتيت خالدا فقلت له يا خالد اما علمت ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قضى بالسلب للقاتل(4/79)
قال بلى ولكنى استكثرته قلت لتردن او لاعرفتكما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فابى ان يعطيه قال عوف فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقصصت عليه قصة المددى وما فعل خالد فقال عليه السلام يا خالد رد عليه ما أخذت منه قال عرف قلت دونك يا خالد الم أوف لك فقال صلى الله عليه وآله وسلّم وما ذاك قال فاخبرته قال فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقال يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركو لى أمراء لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره وجه الاستدلال انه منع خالد أمن رده بعد ما امره به ولو كان شرعا لازما لم يمنعه من مستحقه قال الخطابي انما منعه ان يرد على عوف سلبه زجر العوف لئلا يجترئ الناس على الائمة وخالد كان مجتهدا فامضاه عليه الصلاة والسلام والضرر اليسير يتحمل للنفع الكثير قال ابن همام وهذا غلط وذلك لان السلب لم يكن للذى تجرأ وهو عوف وانما كان للمددى ولا تزر وازرة وزر اخرى فالوجه انه صلى الله عليه وآله وسلّم أحب اولا ان يمضى شفاعته للمددى في التنفيل فلما غضب عليه رد شفاعته بمنع السلب لا انه لغضبه وسياسته يزجره بمنع حق من لم يقع منه جناية فهذا يدل على انه ليس شرعا لازما قلت حديث حبيب كما سمعت معلول وضعيف ولو ثبت لثبت للامام حق التخميس من السلب لما أراد ابو عبيدة ان يخمسه ولا يثبت منه انه لا حق للقاتل في السلب بل هو كسائر الغنائم وحديث سلب ابى جهل منسوخ قال البيهقي ان غنيمة بدر كانت للنبى صلى الله عليه وسلم بنص الكتاب يعنى بقوله تعالى قل
الأنفال لله والرسول يعطى من يشاء وقد قسم لجماعة لم يحضروا ثم نزلت اية الغنيمة بعد بدر فقضى السلب للقاتل استقر الأمر على ذلك وقول عوف اما علمت ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قضى بالسلب للقاتل وقول خالد بلى وتسليم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ذلك حتى امر خالدا برد ما أخذ من سلبه دليل على التشريع عموما وجرأة عوف كان لاجل المددى وكان المددى راضيا به فهو يستحق الزجر والمنع وقوله صلى الله عليه وآله وسلّم هل أنتم تاركوا لى أمراء لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره يدل على ان الامام وان ظلم ومنع أحدا حقه فعليه كدره لكن يجب على الناس اطاعته.
(مسئلة) التنفيل يعنى إعطاء الامام رجلا فوق سهمه جائز اجماعا ان شرط الامام في(4/80)
حالة القتال قبل الاصابة لانه نوع تحريض على القتال وهو مامور به قال الله تعالى حرض المؤمنين على القتال فجاز للامام ان يقول من قتل قتيلا فله عشرة دراهم او من دخل هذا الحصن فله كذا وقال لسرية جعلت لكم النصف او الربع بعد الخمس او قال من أصاب جارية فهى له عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لانفسهم خاصة سوى قسمة عامة الجيش متفق عليه لكن لا يجوز للامام ان يقول من أصاب شيئا فهو له لانه يستلزم بطلان الخمس الثابت بكتاب الله تعالى وبطلان الأسهم المنصوصة للراجل والفارس في الأحاديث وبطلان حق من لم يصب من المجاهدين وفي بعض روايات الحنفية لو نقل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى الامام المصلحة فيه روى الحاكم من رواية مكحول عن ابى امامة عن عبادة بن الصامت ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حين التقى الناس ببدر نفل كل امرأ ما أصاب وأجيب بان هذا منسوخ واية الخمس نزلت بعد ذلك.
(مسئلة) ثم محل التنفيل اربعة الأخماس قبل الاحراز بدار الإسلام وبعد الاحراز لا يصح الا من الخمس عند أبي حنيفة واحمد وعند مالك والشافعي لا يصح مطلقا الا من الخمس لانه المفوض الى راى الامام وما بقي للغانمين روى مالك عن ابى الزياد عن سعيد بن المسيب كان الناس يعطون النفل من الخمس وروى ابن ابى شيبة عن سعيد ابن المسيب ما كانوا ينفلون الا من الخمس وعن ابن عمر قال نفلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم نفلا سوى نصيبنا من الخمس فاصابنى شارف والشارف المسن الكبير متفق عليه وابو حنيفة يحمل هذه الآثار على ما بعد الاحراز بدار الإسلام واما قبل ذلك فيعطى النفل من اربعة أخماس الغانمين لان المعطى له من الغانمين لا من المساكين واليتامى وابن السبيل وقال البغوي النفل من خمس سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي رحمه الله وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم مالى مما أفاء الله عليكم الا الخمس والخمس مردود فيكم قلت إعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلّم النفل أحدا من خمس خمسه هبة منه صلى الله عليه وآله وسلّم وذلك(4/81)
لا يستلزم عدم جواز النفل من اربعة الأخماس كيف وقد روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه عن عبادة بن الصامت انه صلى الله عليه وآله وسلّم نفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث وكذا روى ابو داود وعن حبيب بن سلمة الفهري ومعنى الحديث على ما قال الخطابي ان السرية إذا ابتدأت السفر نفلها الربع فاذا قفلوا ثم رجعوا الى العدو ثانية نفلهم الثلث لان نهوضهم بعد قفولهم أشق عليهم قلت وهذا الحديث يرد قول من قال لا يجوز النفل الا من الخمس او من خمس الخمس لان إعطاء الربع والثلث لا يتصور من الخمس بل لا يكون الا من اصل الغنيمة كما قال بعضهم او من اربعة الأخماس فان قيل جاز ان يكون معنى الحديث نفل في البدأة الربع من الخمس وفي الرجعة الثلث من الخمس كذا قال الطحاوي قلنا الحديث لا يدل على هذا التقييد وليس هو الا تسوية الحديث على مدعاه وايضا قد روى حديث حبيب بن سلمة عند الطحاوي بلفظ الرابع بعد الخمس والثلث بعد الخمس وكذا روى احمد واستدل به ابن الجوزي على جواز إخراج النفل من اربعة الأخماس.
(مسئلة) جاز للامام ان يعطى بعض الغانمين فوق سهمه بعد القتال بلا شرط سبق منه ان رأى اجتهادا منه فوق اجتهاد غيره وقال ابو حنيفة رحمه الله لا يجوز ذلك الا من الخمس لان بعد القتال تعلق به حق الغانمين فلا يجوز ابطال حقهم والحجة عليه حديث سلمة بن الأكوع قال بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بظهره مع رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وانا معه فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد انمار على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقمت على اكمة فاستقبلت المدينة فناديت ثلثا يا صاحباه ثم خرجت في اثار القوم ارميهم بالنبل وارتجز أقول انا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع فما زلت ارميهم واعقر لهم حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الا خلفته وراى ظهرى ثم اتبعتهم ارميهم حتى القوا اكثر من ثلثين بردة وثلثين رمحا يستخفون ولا يطرحون شيئا الا جعلت عليه آراما من الحجارة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه حتى رأيت من فوارس رسول الله صلى الله(4/82)
عليه وآله وسلّم ولحق ابو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعبد الرحمن فقتله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خير فرساننا اليوم ابو قتادة وخير رجالتنا سلمة قال ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما الى جميعا ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ورائه على العضباء راجعين الى المدينة رواه مسلم والجواب لأبي حنيفة ان الحديث رواه ابن حبان وقال كان سلمة بن الأكوع في تلك الغزاة راجلا فاعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من خمسه لا من سهمان المسلمين ورواه القاسم بن سلام وقال قال ابن مهدى فحدثت به سفيان فقال هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وهذا عندى اولى من حمله على انه أعطاه من سهمه والا لم يسم نفلا بل هبة قلت ولا وجه للحمل على ذلك ولا على القول بالتخصيص وسنذكر حديث اخر لسلمة بن الأكوع انه غزونا فزارة مع ابى بكر في مسئلة جواز فداء أسارى المشركين بأسارى المسلمين وفيه نفل ابو بكر سلمة امرأة واستدل بعض العلماء في هذه المسألة بما ذكرنا من حديث عبادة بن الصامت وحبيب بن سلمة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم نفل في بدأته الربع وفي رجعته الثلث على معنى انه صلى الله عليه وآله وسلّم نفل في رجعته يعنى بعد الرجوع من القتال بالثلث وحمل الطحاوي هذا الحديث بهذا المعنى على انه صلى الله عليه وآله وسلّم نفل في الرجعة الثلث مما يجوز له النفل وهو الخمس ليوافق مذهبه ومذهب ابى حنيفة والله اعلم وكان إعطاء بعض الغانمين شيئا زائدا من الغنيمة على سبيل النفل امرا معروفا في الصحابة لكنهم كانوا مختلفين في محله روى الطحاوي بوجوه عن انس انه كان مع عبيد الله بن ابى بكرة في غزوة غزاها فاصابوا سبيا فاراد عبيد الله ان يعطى أنسا من السبي قبل ان يقسم فقال انس لا ولكن اقسم ثم أعطني من الخمس قال قال عبيد الله لا الا من جميع الغنائم فابى انس ان يقبل منه وابى عبيد الله ان يعطيه من الخمس شيئا وروى الطحاوي عن سليمان بن يسار انهم كانوا مع معاوية ابن خديج في غزوة المغرب فنفل الناس ومعنا اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فلم يرد ذلك غير جبلة بن عمرو وعن خالد بن ابى عمران قال سألت سليمان بن يسار عن النفل في(4/83)
الغزو فقال لم ار أحدا صنعه غير ابن جريج نفلنا بافريقية النصف بعد الخمس ومعنا اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم من المهاجرين الأولين أناس كثير فابى جبلة ان يأخذ منها شيئا.
(مسئلة) يقسم الأخماس الاربعة بين الغانمين للراجل سهما وللفارس ثلثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه قال القاضي عبد الوهاب به قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلى بن ابى طالب ولا مخالف له من الصحابة وبه قال من التابعين عمر بن عبد العزيز وابن سيرين ومن الفقهاء مالك والأوزاعي وليث بن سعد وسفيان الثوري والشافعي واحمد بن حنبل وابو ثور وابو يوسف ومحمد بن الحسن ولم يخالف في هذه المسألة غير أبي حنيفة وحده حيث قال للفارس سهمان وللراجل سهم وقال ابن الجوزي قال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ان للفارس ثلثة سهم احتج الجمهور بأحاديث منها حديث المنذرين الزبير بن العوام عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم اعطى الزبير سهما وفرسه سهمين رواه احمد وكذا روى الدار قطنى عن عبد الله بن الزبير عن الزبير والدار قطنى ايضا عن جابر وأخرجه ايضا من حديث ابى هريرة وأيضا من حديث سهل بن حثمة وفي حديث عبد الله ابن ابى بكر بن عمرو بن حزم من طريق ابن إسحاق في غزوة قريظة انه صلى الله عليه وآله وسلّم جعل للفارس وفرسه ثلثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان وفي الباب حديث ابن عمر انه صلى الله عليه وآله وسلّم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما رواه البخاري واصحاب السنن الا النسائي وفي مسلم عنه قسم في النفل للفرس سهمين وللراجل سهما وفي رواية بإسقاط لفظ النفل وفي رواية أسهم للرجل ولفرسه ثلثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وحديث ابن عباس نحوه رواه إسحاق بن راهويه وكذا اخرج ابو داود من حديث ابن ابى عمرة عن أبيه وكذا اخرج البزار من حديث المقداد وحديث ابى كبشة الأنماري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم عام الفتح انى جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما فمن نقصها نقصه الله عز وجل رواه الدار قطنى والطبراني قال ابن همام فيه محمد ابن عمران العبسي اكثر الناس على تضعيفه وحديث ابى دهم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم انا وأخي ومعنا فرسان فاعطانا ستة أسهم اربعة(4/84)
أسهم لفرسينا وسهمين لنا رواه الدار قطنى وروى ابو يوسف في كتاب الخراج بسنده عن ابى حازم قال ابو ذر الغفاري شهدت انا وأخي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم حنين ومعنا فرسان لنا فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بستة أسهم اربعة لفرسينا وسهمان لنا فبعنا ستة أسهم بحنين ببكرين واحتج ابو حنيفة بحديث مجمع بن جارية الأنصاري قال قسمت خيبر على اهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش الفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فاعطى الفارس سهمين وللراجل سهما رواه ابو داود وقال ابو داود هذا وهم انما كانوا مائتى فارس فاعطى الفرس سهمين والرجل يعنى صاحبه سهما كذا قال الشافعي قلت وكذا ذكرنا في سورة الفتح في قصة غنائم خيبر وحديث المقداد بن عمر انه كان يوم بدر على فرسه يقال له سنجه فاسهم له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم سهمين لفرسه سهم وله سهم رواه الطبراني وفي سنده الواقدي ضعيف واخرج الواقدي ايضا في المغازي عن جعفر بن خارجة قال قال الزبير ابن العوام شهدت بنى قريظة فارسا فضرب لى بسهم ولفرسى بسهم واخرج ابن مردويه في تفسيره حدثنا محمد بن محمد السرى حدثنا المنذر بن محمد حدثنى ابى حدثنا يحيى بن محمد بن هانى عن محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم سبايا بنى المصطلق فاخرج الخمس منها ثم قسمها بين المسلمين فاعطى الفارس سهمين والراجل سهما وروى ابن ابى شيبة في مصنفه ومن طريقة الدارالقطني حدثنا ابو اسامة وابن نمير قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم جعل للفارس سهمين وللراجل سهما قال الدار قطنى قال ابو بكر النيشابوري هذا عندى
وهم من ابن ابى شيبة لان احمد بن حنبل وعبد الرحمن بن بشير وغيرهما رووه عن ابن نمير خلاف هذا على ما تقدم يعنى ثلثة أسهم للفارس ثم اخرج الدار قطنى عن نعيم حدثنا ابن المبارك عن عبيد الله ابن عمر عن نافع عن ابن عمر كما روى ابن ابى شيبة قال ابن الجوزي لعل الوهم من نعيم لان ابن المبارك من اثبت الناس قال ابن همام ونعيم ثقة واخرج الدار قطنى ايضا عن يونس بن(4/85)
عبد الأعلى حدثنا ابن وهب عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كان يسهم للخيل للفارس سهمين وللراجل سهما وتابعه ابن ابى مريم وخالد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر العمرى ورواه القعنبي عن العمرى بالشك في الفارس او الفرس ثم اخرج عن حجاج بن منهال حدثنا حمار بن سلمة حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قسم للفارس سهمين وللراجل سهما وخالفه النضر بن محمد بن حماد قال ابن همام وممن روى حديث عبيد الله متعارضا الكرخي لكن رواية البيهقي عنه اثبت قال ابن الجوزي عبيد الله بن عمر ضعيف وروى الدار قطنى بسنده عن عبد الرحمن بن أمين عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان يقسم للفارس سهمين وللراجل سهما وروى ابو يوسف عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عيينة عن مقسم عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قسم غنائم بدر للفارس سهمان وللراجل سهم قال ابو يوسف في كتاب الخراج انه كان الفقيه المقدم ابو حنيفة تغمده الله برحمته يقول أللراجل سهم للفارس سهم وقال لا أفضل بهيمة على رجل مسلم ويحتج بما حدثناه عن زكريا بن الحارث عن المنذر بن ابى حمصة الهمداني ان غلاما لعمر بن الخطاب رضى الله عنه قسم في بعض الشام للفرس سهم وللرجل سهم فرفع ذلك الى عمر رضى الله تعالى عنه فاجازه وكان ابو حنيفة يأخذ بهذا الحديث ويجعل للفرس سهما وللرجل سهما وما جاء من الآثار والأحاديث ان للفرس سهمين وللرجل سهما اكثر من ذلك وأوثق والعامة عليه وليس هذا على وجه التفضيل وما كان ينبغى ان يكون للفرس سهم وللرجل سهم لانه قد سوى بهيمة برجل مسلم انما هذا على ان يكون عدة الرجل اكثر من عدة الاخر وليرغب الناس في ارتباط الخيل في سبيل الله الا ترى ان سهم الفرس يرد على صاحب الفرس ولا يكون للفرس دونه والمتطوع وصاحب الديوان في القسمة سواء قال ابن همام إذا تعارض الروايات ترجح النفي بالأصل ويحمل رواية الثلاثة على التنفيل وما ورد في حديث جابر اعطى الفارس منا ثلثة أسهم ونحو ذلك ظاهر في انه ليس الأمر المستمر كذلك والا يقال كان عليه السلام وقضى عليه السلام وحديث ابى كبشة انى جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما فمن نقصهما نقصة الله لا يصح كما مر(4/86)
مسئله لو كان مع رجل فرسان فقال ابو حنيفة ومالك والشافعي لا يسهم الا الفرس واحد قال مالك في الموطإ لم اسمع بالقسم الا لفرس واحد وقال ابو يوسف واحمد يسهم لفرسين ولا يسهم لاكثر من فرسين اجماعا والحجة لابى يوسف ما رواه الدار قطنى من حديث بشير بن عمر بن محصن قال أسهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلّم لفرسي اربعة أسهم ولى سهما فأخذت خمسة أسهم وروى عبد الرزاق أخبرنا ابراهيم بن يحيى السلمى عن مكحول ان الزبير حضر خيبر بفرسين فاعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلّم خمسة أسهم وهذا منقطع وقال الواقدي في المغازي حدثنا عبد الملك بن يحيى عن عيسى بن عمر قال كان مع الزبير يوم خيبر فرسان فأسهم له النبي صلى الله عليه وآله وسلّم خمسة أسهم وقال ايضا حدثنى يعقوب بن محمد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ابى صعصعة عن الحارث بن عبد الله بن كعب ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قاد في خيبر ثلثه أفراس لزاز والضرب والسكب وقاد الزبير بن العوام أفراسا وقاد حراس بن الصمت فرسين وقاد البراء بن
أوس فرسين وقاد ابو عمرة الأنصاري فرسين فاسهم عليه الصلاة والسلام لكل من كان له فرسان اربعة أسهم وسهما له وما كان اكثر من فرسين لم يسهم له وروى ابن الجوزي بسنده عن سعيد بن منصور عن ابن عياش عن الأوزاعي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كان يسهم للخيل ولا يسهم للرجل فوق فرسين وان كان معه عشرة أفراس وقال قال سعيد بن منصور ثنا فرج بن فضالة ثنا محمد بن الوليد عن الزهري ان عمر بن الخطاب كتب الى ابى عبيدة بن الجراح ان أسهم للفرس سهمين وللفرسين اربعة أسهم ولصاحبهما سهما فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الاثنين فهو جنائب وقال ابو يوسف في كتاب الخراج حدثنا ابن يحيى بن سعيد عن الحسن في الرجل يكون في الغزو معه الافراس قال لا يقسم له من الغنيمة لاكثر من فرسين قال وحدثنى محمد بن إسحاق عن يزيد بن يزيد بن جابر عن مكحول قال لا يقسم لاكثر من فرسين قال صاحب الهداية ما روى حجة لابى يوسف واحمد محمول على التنفيل كما اعطى سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل قلت ما قال صاحب الهداية ان إعطاء سهمين(4/87)
لفرس واربعة أسهم لفرسين محمول على التنفيل انما يتصور صحته لو قيل جاز للامام ان يعطى بعض الغانمين فوق سهمه بعد القتال من غير شرط سبق منه والا فلم يروا في شى مما ذكر من الأحاديث انه صلى الله عليه وآله وسلّم شرط ذلك.
(مسئلة) إذا لحق المدد في دار الحرب قبل إحراز الغنائم بدار الإسلام بعد انقضاء القتال لا يسهم لهم عند الائمة الثلاثة وعند أبي حنيفة يسهم لهم احتجوا بما رواه ابن ابى شيبة والطحاوي بسند صحيح عن طارق بن شهاب الاخمسى ان اهل بصرة غزوا نهاوند فامدهم اهل الكوفة وعليهم عمار بن ياسر فظهروا فاراد اهل البصرة ان لا يقسموا لاهل الكوفة فقال رجل من بنى تميم وعند الطحاوي من بنى عطارد ايها العبد الأجدع تريد ان تشاركنا في غنائمنا وكانت اذنه جدعت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال عمار خير اذنى سببت ثم كتب الى عمر فكتب عمران الغنيمة لمن شهد الوقعة واخرج الطبراني الغنيمة لمن شهد الوقعة مرفوعا وموقوفا وقال الصحيح الموقوف وأخرجه ابن عدى من طريق بخترى بن مختار عن عبد الرحمن بن مسعود عن عليّ موقوفا وروى الشافعي من طريق زيد بن عبد الله بن قسيط ان أبا بكر بعث عكرمة بن جهل في خمسائة من المسلمين مدد الزياد بن لبيد فذكر القصة وفيها فكتب ابو بكر ان الغنيمة لمن شهد الوقعة لكن في اثر ابى بكر انقطاع وبحديث ابى هريرة ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بعث ابان بن سعيد بن العاص في سرية قبل نجد فقدم ابان بعد فتح خيبر فلم يسهم له رواه ابو داود وابو نعيم موصولا والبخاري في صحيحه تعليقا وأجاب الحنفية عن هذا الحديث ان خيبر بعد ما فتحت صارت دار الإسلام فقدومهم بعد الفتح لحوق بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام ولا خلاف في انه من لحق بعد الاحراز لا سهم له في الغنيمة فانهم ملكوها بالاحراز قبل لحوقهم واما اسهامه لابى موسى الأشعري على ما في الصحيحين عنه انه قال وافينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم حين افتتح خيبر فاسهم لنا ولم يسهم لاحد غاب عن فتح خيبر الا لاهل سفينتنا فقال ابن حبان انما أعطاهم من خمس الخمس والله اعلم.(4/88)
(مسئلة) ولا حق لاهل سوق العسكر ولا لسائسة الدواب عند ابى حنيفة رحمه الله الا ان يقاتلوا وقال الشافعي يسهم لهم لما مر من قوله صلى الله عليه وآله وسلّم ان الغنيمة لمن شهد الوقعة وهم قد شهدوا الوقعة وقد مر انه لم يصح رفعه بل هو حديث موقوف ومعناه لمن شهد الوقعة على قصد القتال وذلك انما يعرف بأحد أمرين اما بإظهار خروجه للجهاد والتجهيز له لا لغيره واما بحقيقة قتاله ولو كان من شهد الوقعة على عمومه لزم ان يسهم للنساء والأطفال والعبيد ايضا وقد اجمعوا على انه لا سهم لهولاء روى مسلم وابو داود عن ابن عباس انه سئل عن النساء هل كن يشهدن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وهل كان يضرب لهن سهم فقال كن يشهدن واما ان يضرب لهن سهم فلا وفي رواية لابى داود وقد كان يرضح لهن فان قيل يعارضه حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أسهم لهن كما أسهم للرجال أخرجه ابو داود والنسائي قلنا حشرج مجهول.
(مسئلة) ان أطاق الصبى القتال واجازه الامام يكمل له السهم عند مالك وقال الجمهور لا يسهم له بل يرضخ روى ابو داود من طريق مكحول ان النبي صلى الله عليه وآله وسلّم للنساء والصبيان والخيل وهذا مرسل لو صح فلعل المراد بقوله أسهم اعطى لهم شيئا وهو الرضخ.
(مسئلة) اختلفوا في العقار التي استولى عليها المسلمون عنوة فقال الشافعي يجب ان يقسمها الامام بين الغانمين بعد التخميس كالمنقول كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خيبر وهى رواية عن احمد لعموم هذه الآية الا ان يطيب انفس الغانمين ويسقطوا حقوقهم فحينئذ يوقفها على المسلمين كما فعل عمر بسواد العراق وقال مالك ليس للامام ان يقسمها بل يصير بنفس الظهور عليها وقفا وهى رواية ثانية عن احمد وقال احمد وهى رواية عن مالك ان الامام مخير بين ان يقسمها على الغانمين بعد التخميس لله وبين ايقافها على جماعة المسلمين وقال ابو حنيفة الامام مخير بين قسمتها بين الغانمين بعد التخميس لله وبين اقرار أهلها بالخراج وبين ان يصرفها عنهم(4/89)
الى قوم آخرين يضرب عليهم الخراج وليس له ان يقفها والحجة لاحمد حديث سهل بن حشمة قال قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خيبر نصفين نصف لنوائبه وحاجته ونصف بين المسلمين قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما رواه ابن الجوزي وروى الطحاوي عن ابن عباس قال اعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خيبر بالشطر ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم وعن ابن عمر انه صلى الله عليه وآله وسلّم عامل اهل خيبر بشطر ما يخرج من الزرع وعن جابر قال ما أفاء الله خيبر فاقرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم كما كانوا وجعل بينه وبينهم فبعث عبد الله بن رواحة عليهم ثم قال الطحاوي فثبت بذلك ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لم يكن قسم خيبر بكمالها لكنه قسم طائفة منها وترك طائفة فلم يقسمها قلت قد ذكرنا في سورة الفتح في قصة فتح خيبر قول ابن إسحاق كانت المقاسم على اموال خيبر على الشق والنطاة والكثيبة كانت الكثيبة في الخمس والشق والنطاة أسهم الغزاة ثمانية عشر سهما النطاة خمسة أسهم والشق ثلثة عشر والوطيح والسلاليم كانت لنوائب المسلمين عامله فيها اليهود بالنصف وكان ابن رواحة يأتيهم كل سنة فيخرصهم فاجلاهم عمر لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم نقركم على ذلك ما شئنا قلت قد جرى الخلاف بين الصحابة في خلافة عمر حين افتتح العراق قال ابو يوسف في كتاب الخراج حدثنى غير واحد من علماء المدينة قال لما قدم على عمر جيش العراق من قبل سعد بن ابى وقاص شاور اصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في قسمة الأرضين التي أفاء الله على المسلمين من ارض العراق والشام فتكلم قوم فيها وأرادوا ان يقسم لهم حقوقهم وما فتحوا فقال عمر فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد قسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا برأي فقال عبد الرحمن بن عوف فما الرأي بالأرض والعلوج الا مما أفاء الله عليهم فقال عمر ما هو الا كما تقول ولست ارى ذلك والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى ان يكون كلا على المسلمين فاذا قسمت ارض العراق بعلوجها وارض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره وان اهل الشام والعراق أكثروا على عمر قالوا تقف ما أفاء الله علينا(4/90)
بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولابناء قوم ولابناء أبنائهم ولم يحضروا فكان لا يزيد على ان يقول هذا رأي قالوا فاستشر قال فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا فاما عبد الرحمن بن عوف فكان رأيه ان يقسم لهم حقوقهم ورأى عثمان وعليّ وطلحة رأى عمر رضى الله عنهم أجمعين فارسل الى عشرة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم واشرافهم فلما اجتمعوا حمد الله واثنى عليه بما هو اهله ومستحقه ثم قال انى لم أزعجكم الا لان تشركوا في أمانتي فيما حملت من أموركم فانى واحد كاحدكم وأنتم اليوم تقرون الحق خالفنى من خالفنى ووافقنى من وافقنى ولست أريد ان تتبعوا الذي هو هواى معكم من الله كتاب ينطق بالحق فو الله لئن كنت نطقت بامر أريده ما أردت به الا الحق قالوا قد نسمع يا امير المؤمنين قال قد سمعتم كلام هؤلاء القوم الذين زعموا انى اظلّمهم حقوقهم وانى أعوذ بالله ان اركب ظلما لئن كنت ظلمتهم شيئا هو لهم وأعطيته غيرهم
لقد شقيت ولكن رايت انه لم يبق شيء يفتح بعد ارض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضيهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا أورثه بين اهله وأخرجت الخمس ووجهته على وجهه وانا في توجيهه ورايت ان احبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم فيها الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فيكون شيئا للمسلمين للمقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم ارايتم هذه الثغور بدلها من رجال يلزمونها ارايتم هذه المدن العظام والشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر بد من ان تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم فمن اين يعطى هولاء إذا قسمت الأرضين والعلوج فقالوا جميعا الرأى رأيك فنعم ما قلت وما رايت ان لم يشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال ويجرى عليهم ما يقوون به رجع اهل الكفر الى مدنهم فقال قد بان لى الأمر فمن رجل له جزالة وعقل يضع الأرض مواضعها ويضع على العلوج ما يحتملون فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا له تبعثه الى أهم ذلك فان له بصرا وعقلا وتجربة فاسرع اليه عمر فولاه مساحة ارض السواد فادت جباية سواد الكوفة قبل ان يموت عمر بعام مائة الف الف والدرهم كانت يومئذ وزن المثقال قال ابو يوسف وحدثنى محمد بن إسحاق عن(4/91)
الزهري ان عمر بن الخطاب استشار الناس في السواد حين افتتح فراى عامتهم ان يقسم وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك وكان راى عمران يتركه ولا يقسمه قال اللهم اكفنى بلا لا ومكثوا في ذلك يومين او ثلثا او دون ذلك ثم قال عمر اني قد وجدت حجة قال الله عز وجل في كتابه ما أفاء الله على رسوله منهم الى قوله والذين جاؤا من بعدهم الآيات من سورة الحشر قال فكانت هذه عامة لمن جاء بعدهم فقد صار هذا الفيء على هؤلاء جميعا فكيف تقسم هؤلاء وتدع من يخلف بغير قسم فاجمع على تركه وجمع خراجه قال ابو يوسف وحدثنى الليث بن الليث بن سعد عن حبيب بن ابى ثابت ان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجماعة المسلمين أرادوا عمر بن الخطاب ان يقسم الشام كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر وانه كان أشد الناس في ذلك الزبير بن العوام وبلال بن رباح فقال عمر اذن اترك من بعدكم من المسلمين لهم ثم قال اللهم اكفنى بلالا وأصحابه قال ورأى المسلمون ان الطاعون الذي أصابهم لعمواس كان من دعوة عمر قال وتركهم عمر ذمة يؤدون الخراج الى المسلمين قلت فثبت انعقاد الإجماع على جواز ترك الأرض في أيدي أهلها يؤدون الخراج فان قيل كيف يجوز نسخ الاية بالإجماع والإجماع لا يكون ناسخا ولا منسوخا وما استدل به عمر من قوله تعالى ما أفاء الله على رسوله من اهل القرى ليس بحجة لانه فيما قال الله تعالى ما او جفتم عليه من خيل ولا ركاب وكلا منا فيما اوجف عليه المسلمون خيلا وركابا قلنا امة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يجتمع على الضلالة فاجماعهم على هذا يدل على ان قوله تعالى ما غنمتم من شيء ليس على عمومه كيف وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفي وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلب للقاتل ولم يخمس السلب وجاز ان يعلف العسكر في دار الحرب ويأكلوا ما وجدوه من الطعام عن محمد ابن ابى المجالد عن عبد الله بن ابى اوفى قال قلت هل كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يجيئ فياخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف وعن ابن عمران جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طعاما وعسلا فلم يوخذ منهم الخمس وعن القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض اصحاب النبي(4/92)
صلى الله عليه وآله وسلم قال كنا ناكل الجزور في الغزو ولا نقسمه حتى كنا لنرجع الى رجالنا وأخرجتنا منه مملوة روى الأحاديث الثلاثة ابو داود.
(فائدة) حمل اصحاب الشافعي ما فعل عمر في سواد العراق والشام على انه وقف الأرض برضاء الغانمين وإسقاطهم حقوق أنفسهم قلنا لو كان كذلك لاخرج منها اولا خمس الله تعالى إذ ليس الخمس للامام ولا للغانمين ولا يسقط باسقاطهم وايضا وضع عمر على جريب الكرم شيئا معلوما وعلى جريب الحنطة شيئا معلوما فلا يجوز ان يكون الأرض مملوكة للمسلمين موقوفة والا يلزم بيع المعدوم وبيع ما ليس عندك بل يظهر بهذا ان الأرض مملوكة للكافرين وضع عليهم خراج الأرض كما وضع عليهم الجزية وهم أحرار ولا يجوز ان يكونوا عبيدا للمسلمين ويكون الجزية ضريبة للمسلمين عليهم بعلة الملك لانه اهل نسائهم ومشايخهم وصبيانهم وان كانوا قادرين على الاكتساب اكثر مما يقدر عليه بعض الرجال البالغين فظهر انه ليس بعلة الملك على وجه الضريبة والله اعلم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وما عطف على بالله أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الملئكة والنصر والآيات المعجزة منها ان الله تعالى تحقق ما وعدهم احدى الطائفتين وانه أخبرهم بميلهم الى العير دون الجيش وانه جاء المطر بحيث كان للمسلمين نعمة وعلى الكافرين نقمة وان امر الله تعالى بالملائكة حتى سمعوا أصواتهم حين قالوا اقدم حيزوم ورأوا الرؤوس تتساقط من الكواهل من غير قطع واثر سياط في ابى جهل وانه رمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين بالحصباء حتى عميت أبصار الكفار أجمعين وانه قلل المشركين في أعين المسلمين لتشجيعهم وانه أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى مصارع المشركين هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فرأى المسلمين ذلك على ما أشار وانه تعالى حقق قوله صلى الله عليه وآله وسلم بعقبة بن ابى معيط ان وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرا وأنه صلى الله عليه وآله وسلم اخبر عمه العباس بما استودع أم الفضل فزالت شبهة العباس في نبوته وان الله تعالى تحقق وعده للمؤمنين بقوله ان يعلم في قلوبكم خيرا يوتكم خيرا مما أخذ منكم فاعطى العباس بدل عشرين اوقية عشرين غلاما(4/93)
يتجرون بماله وان الله سبحانه اطلع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ايتمار عمير بن وهب وصفوان ابن امية بمكة على قتله فعصم الله وجعله سببا لاسلام عمير بن وهب وعاد داعيا الى الإسلام ومنها انقلاب العرجون سيفا روى ابن سعد عن زيد بن اسلم ويزيد بن رومان وغيرهما والبيهقي وابن عساكر عن عمران عكاشة بن محصن قاتل يوم بدر بسيفه حتى انقطع فاتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعطاه جزلا من حطب وقال قاتل بهذا يا عكاشه فلما اخذه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هزه فكان سيفا في يده طويل القامة مديد المتن ابيض الحديدة فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العيون ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قتل في ايام الورد قتله طلحة بن خويد الأسدي وروى البيهقي عن داود بن الحصين عن رجال من بنى عبد الأشهل عدة قالوا انكسر سيف سلمة بن اسلم بن الحرش يوم بدر فبقى اعزل لا سلاح معه فاعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضيبا كان في يده من عراجين نخل بنى طابة فقال اضرب به فاذا هو سيف جيد فلم يزل عنده حتى قتل يوم خيبر ابى عبيدة ومنها ما روى البيهقي انه ضرب جيب بن عدى يوم بدر فمال شقه فتفل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولامه ورده فانطبق ومنها ما روى البيهقي عن قتادة ابن النعمان انه أصيب عينه يوم بدر فسالت حدقته على وجنته فارادوا ان يقطعوها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لا فدعاه به فغمز حدقته براحته فكان لا يدرى اى عينه أصيب ومنها ما روى البيهقي عن رفاعة بن رافع قال لما كان يوم بدر رميت بسهم فقئت عينى فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعا لى فما آذاني منها شيء ومنها ما روى ابن سعد من طريق إسحاق عن عبد الله بن نوفل عن أبيه قال اسر نوفل يوم بدر فقال
له النبي صلى الله عليه وآله وسلم افد نفسك برماحك التي بجدة قال والله ما علم أحد ليعلم ان لى بجدة رماحا بعد الله غيرى اشهد انك رسول الله ففدى نفسه بها وكانت الف رمح يَوْمَ الْفُرْقانِ اى يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل حيث أعز الله الإسلام ودفع الكفر واهله يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ حزب الله(4/94)
وحزب الشيطان وكان يوم الجمعة بسبع عشرة مضت من رمضان بعد ستة عشر شهرا من الهجرة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (31) إِذْ أَنْتُمْ بدل من يوم الفرقان يعنى إذ كنتم ايها المسلمون نازلين بِالْعُدْوَةِ اى شط الوادي الدُّنْيا تأنيث الأدنى يعنى العدوة الشامية القريبة الى المدينة وَهُمْ يعنى المشركين بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى تأنيث الأقصى وكان قياسه قصببا بقلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو اكثر استعمالا من القصيا يعنى العدوة اليمانية البعيدة من المدينة قرأ ابن كثير وابو عمرو بكسر العين فيهما والباقون بضمها فيهما وهما لغتان وَالرَّكْبُ يعنى العير يريد أبا سفيان وأصحابه أَسْفَلَ مِنْكُمْ اى في موضع أسفل منكم الى ساحل البحر على ثلثة أميال من بدر منصوب على الظرف مرفوع المحل على انه خبر مبتدأ والجملة حال من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة وتوطين نفوسهم على ان لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم وضعف شان المسلمين واستبعاد غلبتهم عادة ولذا ذكر مركز الفريقين فان العدوة الدنيا كانت رخوة تسوح فيها الأرجل ولا يمشى فيها الا بتعب ولم يكن بها ماء بخلاف العدوة القصوى وَلَوْ تَواعَدْتُمْ ايها المؤمنون أنتم مع الكفار الاجتماع للقتال ثم علمتم قلتكم وكثرة عدوكم وقوتهم لَاخْتَلَفْتُمْ أنتم فِي الْمِيعادِ هيبة عنهم ويأسا من الظفر عليهم وَلكِنْ الله تعالى جمعكم من غير ميعاد حيث خرجتم للعير وخرج الكفار ليمنعوا عيرهم فالتقوا على غير ميعاد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ اى صار مَفْعُولًا 5 من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وقوله لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل من ليقضى الله او متعلق بقوله مفعولا والمعنى ليموت من مات منهم عن بينة راها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه ويعيش من عاش منهم عن حجة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة فان وقعة بدر من الآيات الواضحات وقال محمد بن إسحاق معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه ويومن من أمن على مثل ذلك استعارة للهلاك(4/95)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
والحيوة للكفر والإسلام يعنى من لهذا حاله في علم الله وقضائه قرأ ابن كثير برواية البزي ونافع وابو بكر ويعقوب حيى بفك الإدغام حملا على المستقبل وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (32) بكفر من كفر وعقابه وايمان من أمن وثوابه ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الامرين على القول والاعتقاد.
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدر با ذكر او بدل ثان من يوم الفرقان او متعلق بعليم اى يعلم المصالح ان يقللهم في عينك في رؤياك حتى تخير به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لاصحابه يوم بدر في أول الأمر لا تقاتلوا حتى او ذنكم وان كثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيف حتى يغشوكم فنام في العريش نومة فقال ابو بكر يا رسول الله قد دنا القوم وقد مالوا منا فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أراه الله عز وجل إياهم في منامه قليلا فاخبر بذلك أصحابه وروى ابن إسحاق وابن المنذر عن حبان بن واسع عن أشياخ من قومه انتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال ابشر يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبرئيل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع قال الحسن معنى في منامك في عينك لان العين موضع النومة وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ امر القتال وتفرقت آرائكم في الثبات والفرار وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ اى سلمكم عن المخالفة والفشل إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (33) يعلم ما يكون فيها وما يتغيرا حوالها وقال ابن عباس علم ما في صدوركم من الحب لله.
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا قال ابن مسعود لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل الى جنبى أتراهم تسعين قال أراهم مائة فاسرنا رجلا منهم فقلناكم كنتم قال الفا وَيُقَلِّلُكُمْ يا معشر المؤمنين فِي أَعْيُنِهِمْ كيلا يهربوا قال ابو جهل ان محمدا وأصحابه أكلة جزور روى ابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن جريج ان أبا جهل قال يوم بدر خذوهم أخذا واربطوهم في الجبال ولا تقتلوا منهم أحدا فنزل انا بلوناهم كما بلونا اصحاب الجنة قال وذلك قبل التحام الحرب فلما التحم أراهم إياهم مثليهم رأى العين كما في ال عمران لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا(4/96)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
كرره لاختلاف الفعل المعلل به او لان المراد بالأمر ثمه الالتقاء على الوجه المحكي وهاهنا إعزاز الإسلام واهله وإذلال الشرك وحزبه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (34) يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ للمحاربة فِئَةً يعنى جماعة كافرة ولم يصفها اشعار ابان المؤمنين لا يقاتلون الا الكفار فَاثْبُتُوا لقاتلهم فان الفرار من الزحف كبيرة كما ورد في الصحاح من الأحاديث وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً داعين له بالنصر مستظهرين بذكره مترقبين لنصره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة وفيه تنبيه على ان العبد ينبغى ان لا يشغله شيء عن ذكر الله وان يلتجى اليه عند الشدائد ويقبل عليه بشر أشره فارغ البال واثقا بان لطفه لا ينفك عن عبده المؤمن في شيء من الأحوال.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في قتال أعدائه وإعزاز دينه وَلا تَنازَعُوا باختلاف الآراء كما فعلتم يوم بدر في أول الأمر ويوم أحد فَتَفْشَلُوا اى تجبنوا منصوب بإضمار ان جواب للنهى وقيل عطف عليه ولذلك قرئ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الجزم والريح استعير للدولة ونفاذ الأمر وجريانه على المراد وكذا قال الأخفش كانها في تمشى أمرها ونفاذه مشبهة بالريح في هبوبها ونفوذها وقال السدى جرأتكم وقال مقاتل حدتكم وقال النصر بن شميل قوتكم وقال قتادة وابن زيد المراد به الحقيقة قالا لم يكن النصر قط الا بريح يبعثها الله يصرف وجوه العدو وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن ابى زيد ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم نصرت بالصبا وأهلك عاد بالدبور متفق عليه من حديث ابن عباس وعن النعمان بن مقرن قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر رواه ابن ابى شيبة وَاصْبِرُوا على الموت والجراح إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (36) بالنصر والاثابة روى البخاري في صحيحه عن سالم ابى النصر مولى عمرو بن عبد الله وكان كاتبا له قال كتب عبد الله بن ابى اوفى كتابا فقراته ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أيامه التي لقى فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال يا ايها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فاذا لقيتم فاصبروا واعلموا ان الجنة تحت(4/97)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ولما امر الله سبحانه بالجهاد والصبر عليه امر بإخلاص النية إذ لا عبرة بالأعمال الا بالنيات عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم رواه مسلم وفي الصحيحين في حديث ابن عباس قوله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن جهاد ونية فقال عز وجل.
وَلا تَكُونُوا في المجاهدة والقتال كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعنى اهل مكة حين خرجوا منها الحماية العير بَطَراً اى فخرا او أشرا قال الزجّاج البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها قيل البطر ان يشغله سكر النعمة عن شكرها وَرِئاءَ النَّاسِ وهو اظهار الجميل ليرى وابطان القبيح يعنى خرجوا متكبرين بكثرة العدد والمال ورياء الناس ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ويعترفوا لعظمتهم وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الايمان به وبرسوله وذلك انه لما راى ابو سفيان انه احرز عيره أرسل الى قريش انكم خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجاها الله فارجعوا فقال ابو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم بها ثلثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القينان ويسمع بها العرب ولا يزالون يهابوننا ابدا فوافوها فسقوا كاس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينان فنهى الله سبحانه ان يكون المؤمنين مثلهم بطرين مرائين وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه وموارزة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (44) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مقدر باذكر أَعْمالَهُمْ يعنى عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وارادة قتله وقتاله وقد ذكرنا في القصة حضور الشيطان عند قريش في دار الندوة وحين أرادوا المسير فذكرت التي بينهم وبين بنى بكر من الحرب جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وَقالَ لهم لا غالِبَ لَكُمُ ولكم خبر لا يعنى لا غالب كائن لكم وليس صلته والا انتصب كقولك لا ضاربا زيدا عندك الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ لكثرة عددكم وما لكم وأوهمهم ان ما يفعلون قربات مجيرة لهم حتى قالوا اللهم انصر اهدى الفئتين وأفضل الدينين وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ من كنانة فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ(4/98)
المسلمون والمشركون وراى إبليس الملئكة نزلوا من السماء وعلم انه لا طاقة له بهم نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ ولى مدبرا هاربا روى الطبراني عن رفاعة بن رافع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف وكان جبرئيل في خمسمائة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته في صوره رجال من بنى مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس وانى جار لكم من الناس واقبل جبرئيل الى إبليس فلما راه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبر او شيعته فقال الرجل يا سراقة الست تزعم انك جار لنا وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (45) فذلك حين رأى الملئكة فتشبث به الحارث بن هشام واسلم بعد ذلك وهو يزعم انه سراقة لما سمع كلامه فضرب الشيطان في صدر الحارث فسقط الحارث وانطلق إبليس لا يلوى حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال يا رب وعدك الذي وعدتني اللهم انى اسألك نظرتك إياي وخاف اى يخلص اليه القتل فقال ابو جهل يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة فانه كان على ميعاد من محمد ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة فانهم قد عجلوا فو اللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال ولا الفين رجلا منكم قتل رجلا منهم ولكن خذوهم أخذا نعرفهم سوء صنيعهم ويروى انهم راوا سراقة بمكة بعد ذلك فقالوا له يا سراقة اخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة فقال والله ما علمت شيئا من أمركم حتى كانت هزيمتكم وما شهدت وعلمت فما صدقوه حتى اسلموا وسمعوا ما انزل الله فيه فعلموا انه كان إبليس تمثل لهم قال البغوي قال قتادة قال إبليس انى ارى ما لا ترون وصدق وقال انى أخاف الله وكذب والله ما به مخافة الله ولكن علم انه لا قوة به ولا منعة فاوردهم وأسلمهم وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم وقال عطاء معناه انى أخاف الله ان يهلكنى فيمن يهلك وقال الكلبي خاف ان يأخذه جبرئيل ويعرفهم حاله فلا يطيعوه وقيل انى أخاف الله اى اعلم صدق وعده لاوليائه لانه كان على ثقة من(4/99)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
امر الله وقيل معناه أخاف الله عليكم والله شديد العقاب وقيل انقطع الكلام عند قوله انى أخاف الله ثم قال الله شديد العقاب عن طلحة بن عبيد الله بن كربز رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال ما رأى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا ادحر ولا احقر ولا اغيظ منه يوم عرفة وما ذلك الا لما يرى من تنزل رحمة الله وتجاوز الله عن الذنوب العظام الا ما كان يوم بدر فقيل وما راى من يوم بدر قال اما انه قد راى جبرئيل عليه السلام وهو يزع الملئكة رواه مالك مرسلا والبغوي في شرح السنة والمصابيح والمعالم واذكر.
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ بالمدينة حين خرج المسلمون وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وسمعوا خروج ابى جهل وغيره في زهاء الف لقتالهم اغتروا بدينهم حيث خرجوا لمقاتلة من لا يدلهم بهم وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى الذين لم يطمئنوا الى الايمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة وقيل هم المشركون وقيل المنافقون والعطف لتغائر الوصفين وقال البغوي هؤلاء يعنى الذين في قلوبهم مرض قوم كانوا بمكة مستضعفين قد اسلموا وحبسهم اقربائهم عن الهجرة فلما خرجت قريش الى بدر أخرجوهم كرها فلما نظروا الى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا غَرَّ هؤُلاءِ يعنى المؤمنين دِينُهُمْ فقتلوا جميعا منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وابو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان والحرث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وعلى بن امية بن خلف الحجمى والعاص بن منبه بن الحجاج وروى الطبراني عن ابى هريرة بسند ضعيف انه قال عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين غر هؤلاء دينهم فقال الله سبحانه جوابا لهم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يذلّ من استجار به وان قل حَكِيمٌ (49) يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه ففعل بالكفار ما لم يكونوا يحتسبون ولما ذكر الله سبحانه سوء عاقبة الكفار في الدنيا بالقتل والهزيمة اردفه بما صنع بهم بعد الموت فقال.
وَلَوْ تَرى يا محمد يعنى ولو رأيت فان لو نقيضه ان تجعل المضارع ماضيا إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ببدر وغير ذلك ظرف لترى والمفعول محذوف يعنى ولو ترى الكفرة او حالهم حين يتوفهم الْمَلائِكَةُ فاعل يتوفى يدل عليه قرأة ابن عامر تتوفى بالتاء وجاز على قرأة الجمهور ان يكون فاعل يتوفى(4/100)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
ضمير الله تعالى والملئكة مبتدأ خبره يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ والجملة حال من الذين كفروا واستغنى فيه بالضمير عن الواو وهو على الاول حال منهم او من الملئكة او منها لاشتماله على الضميرين وَأَدْبارَهُمْ ظهورهم بسياط النار ومقامع من حديد أراد تعميم الضرب اى يضربون ما اقبل منهم وما أدبر وقال سعيد بن جبير ومجاهد يريد بادبارهم أستاههم ولكن الله حيى يكنى وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) عطف على يضربون بإضمار القول اى يقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب النار المؤبدة فعلى هذا بيان لعذابهم في عالم البرزخ وقال ابن عباس كان المشركون ببدر إذا اقبلوا بوجوههم الى المسلمين ضربت الملئكة وجوههم بالسيوف وإذا ولوا أدركتهم الملئكة وضربوا ادبارهم فقتلوا من قتل منهم وكانت تقول الملئكة ذوقوا عذاب الحريق قيل كان مع الملئكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم فذلك قوله تعالى ذوقوا عذاب الحريق وقال ابن عباس يقولون لهم ذلك بعد الموت وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا فزيعا مهولا.
ذلِكَ الذي وقع لكم في الدنيا والاخرة كائن بِما اى بسبب ما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ اى كسبتم من الكفر والمعاصي عبر باليدين لان عامة الافعال يزاول بهما وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) عطف على ما كسبت للدلالة على ان سببية مقيدة بانضمامه اليه إذ لولاه لامكن ان يعذبهم بغير ذنوبهم لا ان لا يعذبهم بذنوبهم فان ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا بل هو رحمة ومغفرة فلا ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وظلام للتكثير لاجل العبيد وهذا بقية كلام الملئكة للكفار.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ خبر مبتدأ محذوف يعنى دآب هؤلاء الكفار يعنى عملهم وطريقهم الذي دابوا فيه اى داموا عليه كدأب ال فرعون وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تفسير لدابهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بالعذاب بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ هؤلاء إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) لا يغلبه شىء ولا يدفع عذابه شيء.
ذلِكَ الذي حل بهم بِأَنَّ اى بسبب ان اللَّهَ لَمْ يَكُ أصله يكون حذف الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ مبدلا إياها بالنعمة كما بدل(4/101)
نعمته باهل مكة من الا من والرزق والعزة وكف اصحاب الفيل عنهم بالقتل والاسر يوم بدر حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ اى يبدلوا ما بهم من حال الى حال أسوأ منه كتغير قريش حالهم من اتباع دين إسماعيل وملة ابراهيم وصلة الرحم وسدانة البيت واطعام الضيف وسقاية الحاج بمعاداة الرسول صلى الله عليه واله وسلم من معه وصدهم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا ان يبلغ محله والسعى في اراقة دماء من قال لا اله الا الله والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها الى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة قال اصحاب التاريخ ان كلاب بن مرة ابن كعب بن لوى جد عبد مناف جد جد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومن قبل كلاب كانوا على دين اسمعيل عليه السلام كابرا عن كابر وكان كل واحد منه ومن ابائه وصيا لابيه قائما مقامه في الرياسة بالوصية عن أبيه وموسوما بالخير والجود وما ظهرت عبادة الأصنام وتبديل دين ابراهيم عليه السلام في أولاد اسمعيل الا في زمن قصى بن كلاب وكان كعب بن لوى أول من جمع العروبة وكانت تجمع اليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه واله وسلم ويعلمهم بانه ولده ويأمرهم باتباعه والايمان به وينشد أبياتا منها قوله يا ليتنى شاهدا فحواى دعوته إذا قريش يبغى الحق خذلانا وكان قصى يصنع طعاما كثيرا للحاج ايام منى وعرفات وهذه هى الرمادة ويصنع حياضا من آدم فيسقى فيها من المياه التي بمكة ومنى وعرفات ويقال لها السقاية يجرى ذلك بامره في الجاهلية حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام على ذلك وأحدث قصى وقود النار بالمزدلفة حتى يريها من دفع من عرفة ولا يضل الطريق ولم يزل ذلك الوقود وكانت النار توقد بالمزدلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وابى بكر وعمر وعثمان وأول من غير دين اسمعيل وعبد الأصنام وسيب السوائب عمرو بن لحى الخزاعي قال السدى نعمة الله محمد صلى الله عليه واله وسلم أنعم الله تعالى على قريش واهل مكة فكذبوه وكفروا به فنقله الله الى الأنصار وقيل لم يكن لاهل مكة وال فرعون حالة مرضية لكنهم تغيروا الحال المسخوطة الى أسخط منها فانهم كانوا قبل البعثة كفرة عبدة الأصنام وبعد البعثة كذبوا الرسول وسعوا في قتله وصدوا عن سبيل الله فغيروا حالهم الى أسوأ مما كانوا عليه فغير الله نعمة الامهال بتعجيل العذاب(4/102)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
في الدنيا وليس السبب عدم تغيّر الله ما أنعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جرى عادة الله على تغييره نعمائه بالنقمات إذا غيروا حالهم وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون عَلِيمٌ (53) بما يفعلون.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فيه زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أهلكنا بعضهم بالغرق وبعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالمسخ وبعضهم بالريح وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ كذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف لما كذبوا بايات ربهم وكرر الله سبحانه قوله كداب ال فرعون إلخ للتاكيد وقيل الاول بسببية الكفر والاخذ به والثاني بسببية التغير في النعمة بسبب تغيرهم ما بانفسهم او لان الاول الاخذ بالذنوب بلا بيان وهاهنا بين انه الهلاك والاستيصال ووَ كُلٌّ من الأولين والآخرين كانُوا ظالِمِينَ (54) أنفسهم بالكفر والمعاصي.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أصروا على الكفر ورسخوا فيه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) احترز به عن الذين كفروا ثم أمنوا وحسن إسلامهم او هو اخبار عن قوم طبعوا على الكفر بانهم لا يؤمنون والفاء للعطف والتنبيه على ان تحقق المعطوف عليه يستدعى تحقق المعطوف يعنى الذين كفروا واستقر في علم الله تعالى كفرهم فهم لا يومنون وهذا عام يشتمل كل من يموت على الكفر واخرج ابو الشيخ عن سعيد بن جبير قال نزلت ان شر الدواب عند الله الذين كفروا الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن التابوت وقوله تعالى.
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من الذين كفروا اما بدل البعض للتخصيص بذمهم واما بدل الكل على رواية سعيد بن جبير والمعنى عاهدتهم وكلمة من لتضمن المعاهدة معنى الاخذ يعنى أخذت منهم العهد ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عاهدتهم وهم بنو قريظة كتب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه يهود وعاهدهم واشترط لهم وعليهم واقرهم على دينهم وأموالهم لما امتنعوا عن الإسلام كذا قال ابن إسحاق وذكر نسخة الكتاب نحو ورقتين ثم هم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه(4/103)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
ثم قالوا نسينا واخطأنا فعاهدهم ثانيا فنقضوا العهد ومال الكفار على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف الى مكة فوافقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) الله حيث يكفرون برسوله بعد ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم وينقضون العهود منه كل مرة روى عبد بن حميد وابن جرير وابو نعيم انه قال لليهود معاذ بن جبل وبشر بن البرام وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن اهل الشرك وتخبرون انه مبعوث وتصفون بصفته جعلهم الله تعالى شر الدواب لان شر الناس بل شر الخلائق الكفار وشر الكفار المصرون وشر المصرون الناكثون العهود فهم شر الدواب.
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ تدركنهم فِي الْحَرْبِ ناسرتهم فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ اصل التشريد التفريق على اضطراب قال ابن عباس معناه فنكل بهم من ورائهم يعنى افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل تفرق منك ويخافك من خلفهم من اهل مكة واليمن يقال شردت بفلان اى فعلت به فعلا شرد غيره ان يفعل فعله ومن هاهنا لما أمكن الله تعالى رسوله صلى الله عليه واله وسلم على بنى قريظه قتل رجالهم كل من أنبت وسبى نسائهم وذراريهم وقسم أموالهم روى الطبراني عن اسلم الأنصاري قال جعلنى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على أسارى بنى قريظة فكنت انظر الى فرج الغلام فان رايته أنبت ضربت عنقه لَعَلَّهُمْ اى لعل من خلفهم يَذَّكَّرُونَ (57) يتذكرون ويتعظون فلا ينقضون العهد.
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً اى نقض عهد يظهر لك منهم اثار الغدر فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ اى اطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ اى على عدل وطريق قصد او على سواء منك وهم في العلم بنقض العهد يعنى أعلمهم قبل الحرب انك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى لا يكون خيانة منك روى ابو الشيخ عن ابن شهاب قال دخل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم فاخرج فان الله قد اذن لك في قريظة وانزل فيهم واما تخافن من قوم خيانة الاية قلت وذلك بعد غزوة الأحزاب وقال الحافظ محمد يوسف الصالحي في سبيل الرشاد كانت قينقاع أول(4/104)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
يهود نقضوا العهد وأظهروا البغي والحسد وقطعوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من العهد فبينما هم على ما هم من اظهار العداوة ونبذ العهد قدمت امرأة من العرب يجلب لها قناعها بسوق بنى قينقاع وجلست الى صائغ بها لحلى فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فلم تفعل فعمد الصائغ الى طرف ثوبها من ورائها فخله بشوكة وهى لا تشعر فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ونبذوا العهد واستصرخ اهل المسلم المسلمين على اليهود وغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع وانزل الله سبحانه واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ان الله لا يحب الخائنين فقال صلى الله عليه واله وسلم انما أخاف من بنى قينقاع فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بهذه الاية وحمل لواه حمزة بن عبد المطلب واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر فتحصنوا في حصنهم فحاصرهم أشد الحصار خمسة عشر ليلة حتى قذف الله في قلوبهم الرعب فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على ان لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم أموالهم وان لهم النساء والذرية وأمرهم ان يجلوا من المدينة فخرجوا بعد ثلث فاخذ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم صفيه والخمس وقسم اربعة أخماسه على أصحابه وكان أول خمس بعد بدر إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (59) روى البغوي بسنده عن رجل من حمير قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس وهو يقول الله اكبر الله اكبر وفاء لا غدر فاذا عمرو بن عنبسة فارسل اليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقده ولا يحلها حتى ينقضى أمدها او ينبذ إليهم عهدهم على سواء فرجع معاوية.
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا قرأ حفص وابن عامر وحمزة لا يحسبن بالياء التحتانية على ان الفاعل الموصول والمفعول الاول أنفسهم فحذف للتكرار أو الفاعل ضمير من خلفهم وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على الخطاب ومفعولاه الذين كفروا سبقوا يعنى لا تحسبنهم سابقين فائتين من عذابنا قال البغوي(4/105)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
نزلت الاية في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) قرأ ابن عامر بفتح الالف والمعنى لانهم لا يعجزون وقيل لا زائدة والمعنى لا يحسبن الذين كفروا انهم يعجزون وسبقوا حينئذ حال بمعنى سابقين اى مفلتين وقرأ الجمهور بكسر الالف على الابتداء.
وَأَعِدُّوا ايها المؤمنون لَهُمْ اى لنا قضى العهد او للكفار مَا اسْتَطَعْتُمْ إعدادها والاعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة مِنْ قُوَّةٍ اى أسباب وآلات واعمال يقويكم على حربهم من الخيل والسلاح والمصارعة ونحو ذلك واللهو بالرمي والبندقة وغير ذلك ومنه جمع المال عدة للجهاد وقيل هى الحصون عن عقبة بن عامر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وهو على المنبر يقول واعدوا لهم ما استطعتم من قوة الا ان القوة الرمي الا ان القوة الرمي الا ان القوة الرمي رواه مسلم وعنه قال ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم ان يلهو باسهمه رواه مسلم وعن ابى نجيح السلمى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة ومن رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر رواه النسائي وروى ابو داود الفصل الاول وروى الترمذي الفصل الثاني وزاد من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة وروى البيهقي في شعب الايمان الفصول الثلاثة غير انه قال من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة وعن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول من علم الرمي ثم تركها فليس منا او قد عصى رواه مسلم وعن ابى أسيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل رواه البخاري وعن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول ان الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلثة نفر في الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله فارموا واركبوا وان ترموا أحب الى من ان تركبوا كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه بفرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق رواه الترمذي وابن ماجة وزاد ابو داود والدارمي ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فانه نعمة تركها او قال كفرها وفي رواية للبغوى ان الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلثة صانعه(4/106)
والممد به والرامي به في سبيل الله وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ يعنى ربط الخيل واقتناءها للغزو فهو مصدر سمى به قال البيضاوي هو اسم للخيل الذي يربط في سبيل الله مصدر سمى به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا او فعال بمعنى مفعول او جمع ربيط كفصيل وفصال وعطفها على القوة كعطف جبرئيل وميكائيل على الملئكة عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم البركة في نواصى الخيل متفق عليه وعن جرير بن عبد الله قال رايت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يلوى ناصية فرس بإصبعه وهو يقول الخيل معقود في نواصيها الخير الى يوم القيامة الاجر والغنيمة رواه مسلم ورواه البغوي من طريق البخاري من حديث عروة البارقي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من احتبس فرسا في سبيل الله ايمانا بالله وتصديقا بوعده فان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة رواه البخاري وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال الخيل ثلثة هى لرجل وزر ولرجل ستر ولرجل اجر فأما التي هى له وزر فرجل ربطها رياء وفخر او نواء على اهل الإسلام فهى له وزر وأما التي هى له ستر فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا في رقابها فهى له ستر واما التي هى له اجر فرجل ربطها في سبيل الله لاهل الإسلام في مرج «1» وروضة فما أكلت من ذلك المرج او الروضة من شيء الا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات ولا يقطع طولها «2» فاستنت «3» شرفا او شرفين الا كتب له عدد اثارها وأرواثها حسنات ولا مر بها صاحبها على هر فشربت منه ويريد ان يسقيها الا كتب الله له عدد ما شربت حسنات رواه مسلم وفي رواية بلغوى في الصنف الثاني رجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس
حق الله في رقابها ولا ظهورها فهى لذلك ستر وعن ابى وهب الجشمي قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ارتبطوا الخيل وامسحوا لنواصيها واعجازها او قال اكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار رواه ابو داود والنسائي تُرْهِبُونَ بِهِ اى تخوفون به وعن يعقوب ترهبون
__________
(1) المرج الأرض الواسعة ذات نبات كثير تمرج فيه الدواب اى يخلى تسرح مختلطة واصل المرج الاختلاط 12 نهاية
(2) الطول الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في الوتد او غيره والطرف الاخر في يد الفرس ليدور فيه ويرعى ولا يذهب بوجهه 12
(3) أسنتت شرفا او شرفين اى عدت شوطا او شوطين واشرف العلو وإمكان المرتفع 12(4/107)
بالتشديد والضمير لما استطعتم او للاعداد عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الاضافة للعهد يعنى كفار مكة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ اى من غير اهل مكة من الكفار وقال مجاهد ومقاتل هم بنو قريظة وقال السدى هم اهل فارس وقال ابن زيد والحسن هم المنافقون لا تَعْلَمُونَهُمُ لانهم معكم يقولون لا اله الا الله وقيل هم كفار الجن أخرجه ابو الشيخ من طريق ابى المهدى عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واخرج الطبراني مثله من حديث يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده مرفوعا اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يوفر لكم جزاؤه وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) لا ينقص أجوركم عن زيد بن خالد ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال من جهز غازيا فقد غزا ومن خلف في اهله فقد غزا متفق عليه وعن ابى مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لك بها يوم القيمة سبعمائة ناقة كلها مخطومة رواه مسلم وعن انس عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال جاهدوا المشركين باموالكم وأنفسكم والسنتكم رواه ابو داود والنسائي والدارمي وعن خزيم بن فاتك قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من أنفق في سبيل الله كتب له بسبعمائة ضعف رواه الترمذي والنسائي وعن عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال للغازى اجره وللجاعل اجره واجر الغازي رواه ابو داود وعن علىّ وابى الدرداء وابى هريرة وابى امامة وعبد الله بن عمرو وجابر ابن عبد الله وعمران بن حصين رضى الله عنهم أجمعين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم انه قال من أرسل نفقة في سبيل الله واقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة دراهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه الاية وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ رواه ابن ماجة وعن عبد الرحمن ابن حباب قال شهدت النبي صلى الله عليه واله وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان فقال يا رسول الله علىّ مائة بعير باحلاسها «1» وأقتابها «2» في سبيل الله ثم حضّ على الجيش فقال
__________
(1) يعنى الاكسية التي تلى ظهر البعير 12
(2) القتب للجمل كالاكاف لغيره 12-(4/108)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
عثمان فقال علىّ مأتا بعير باحلاسها وأقتابها في سبيل الله فانا رايت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول ما على عثمان ما عمل بعد هذا ما على عثمان ما عمل بعد هذا رواه الترمذي وعن عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان الى النبي صلى الله عليه واله وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة نشرها في حجره فرأيت النبي صلى الله عليه واله وسلم يقلبها في حجره ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين رواه احمد.
وَإِنْ جَنَحُوا اى مالوا يعنى الكفار ومنه الجناح ويعدى باللام والى لِلسَّلْمِ اى للصلح قرأ ابو بكر بكسر السين والباقون بالفتح فَاجْنَحْ لَها اى مل إليها وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضه وهى الحرب قال الحسن وقتادة هذه الاية منسوخة بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقال البيضاوي الاية مخصوصة باهل الكتاب لا تصالها بقصتهم قلت لا وجه لتخصيصها باهل الكتاب ولا بالقول بكونها منسوخة بل الأمر للاباحة والصلح جائز مشروع ان رائ الامام فيه مصلحة وقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ليس على عمومه بل خص منه اهل الذمة وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ اى ثق به ولا تخف من ابطانهم خداعا فيه فان الله يعصم من يتوكل عليه من مكر الأعداء ويحيفه بهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاقوالهم الْعَلِيمُ (61) بنياتهم.
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بالصلح ليستعدوا لك او يغدروا او يمكروا بك في الصلح فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ فحسبك الله وكافيك لدفع خداعهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) جميعا.
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بعد ما كان بين جماعة منهم اعنى الأوس والخزرج من العداوة والضغينة والشر والفساد كما ذكرنا في سورة ال عمران في تفسير قوله تعالى إذ كنتم اعداء فالف بين قلوبكم فاصبحتم بنعمته إخوانا لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يعنى كانت العداوة بينهم بمرتبة لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض جميعا من الأموال لم يقدر على الالفة والإصلاح وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بقدرته البالغة(4/109)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
فان القلوب كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء إِنَّهُ عَزِيزٌ تام القدرة والغلبة لا يمكن تخلف مراده حَكِيمٌ (63) يعلم انه كيف ينبغى ان يفعل ما يريده.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كافيك وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (63) قال اكثر المفسرين محله الجر عطف على الكاف على مذهب الكوفيين او النصب على انه المفعول معه كقول الشاعر حسبك والضحاك سيف مهند والمعنى حسبك وحسب من اتبعك الله وهذا بعيد لفظا قريب معنى وقال بعض المفسرين محله الرفع عطفا على اسم الله تعالى يعنى حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين وهذا قريب لفظا بعيد معنى لكن يؤيده ما رواه ابن ابى حاتم بسند صحيح عن سعيد قال لما اسلم مع النبي صلى الله عليه واله وسلم ثلث وثلثون رجلا وست نسوة ثم اسلم عمر نزلت هذه الاية واخرج ابو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال لما اسلم عمر انزل الله في إسلامه حسبك الله الآية واخرج الطبراني وغيره من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال اسلم مع النبي صلى الله عليه واله وسلم تسع وثلثون رجلا وامرأة ثم ان عمر اسلم فصاروا أربعين فنزل يايها النبي حسبك الله الاية وروى البزار بسند ضعيف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال لما اسلم عمر قال المشركون قد انتصف القوم منا اليوم وانزل الله هذه الاية هذه الأحاديث تدل على ان الاية مكية وسياق الكلام يقتضى كونها مدنية فان السورة نزلت بعد غزوة بدر.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ اى بالغ في حثهم عليه واصل الحرض ان ينهكه المرض حتى يشرفه على الهلاك كان المبالغ في الحث على الأمر يجعل المأمور عاجزا مضطرا الى فعله كما يجعل المرض عاجزا مضطرا الى الهلاك إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ رجلا صابِرُونَ على القتال محتسبون يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من عدوهم ويقهروهم وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ قرأ ابو عمرو والكوفيون بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية مِائَةٌ صابرة محتسبة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) يعنى ان المشركين يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب جاهلين بالله واليوم الاخر فلا يثبتون(4/110)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
إذا اصبرتم على القتال لطلب الثواب والدرجات العلى فانهم يخافون الموت وهذا خبر بمعنى الأمر بمصابرة الواحد في مقابلة العشرة ووعد بانهم ان صبروا غلبوا بعون الله وتائيده وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على رجل واحد قتال عشرة من الكفار اخرج إسحاق ابن راهويه في مسنده عن ابن عباس قال لما افترض الله عليهم ان يقاتل الواحد عشرة ثقل ذلك عليهم وشق فوضع الله عنهم وانزل.
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً في البدن وقيل في البصيرة وكانوا متفاوتين فيها قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد والباقون بالضم وهما لغتان وقرأ ابو جعفر ضعفاء بفتح العين والمد والباقون بسكون العين فَإِنْ يَكُنْ قرأ الكوفيون بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفار وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ صابرة يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ اى بإرادته فرد الأمر من العشرة الى اثنين فان كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم الفرار وقال سفيان قال شيرمة وارى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مثل هذا قيل كان فيهم قلة فامروا بقتال واحد مع العشرة ثم لما كثروا خفف الله عنهم وتكريرا لمعنى الواحد بذكر الاعداد المتناسبة للدلالة على ان حكم القليل والكثير واحد وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون ولم لا يصبرون روى احمد عن انس وابن مردويه عن ابى هريرة وابن ابى شيبة واحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود وابن مردويه عن ابن عباس وابن المنذر وابو الشيخ وابن مردويه وابو نعيم عن ابن عمرانه لما كان يوم بدر جيء بالأسرى وفيهم العباس رضى الله عنه اسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار ان يقتلوه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لم أنم الليلة من أجل عمى العباس وقد زعمت الأنصار انهم قاتلوه فقال له عمر رضى الله عنه فأتيهم قال نعم فاتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس فقالوا والله لا نرسله فقال لهم عمر فكان لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم رضا قالوا فانكان لرسول الله(4/111)
صلى الله عليه واله وسلم رضا فخذوه فاخذه عمر فلما صار عباس في يده قال له يا عباس اسلم فو الله لئن تسلم أحب الىّ من ان يسلم الخطاب وما ذاك الا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يعجبه إسلامك وروى البخاري والبيهقي عن انس بن مالك ان رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالوا يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه قال لا والله لا تذرن درهما فاستشار رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال ما تقولون في هؤلاء الأسرى ان الله قد مكنكم منهم وانما هم إخوانكم فقال ابو بكر يا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أهلك وقومك قد اعطاك الله الظفر ونصرك عليهم هولاء بنو العم والعشيرة والاخوان استبقهم وانى ارى ان تأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى ان يهديهم بك فيكونوا لك عضداء فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما تقول يا ابن الخطاب قال يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ما ارى ما رأى ابو بكر ولكنى ارى ان تمكننى من فلان قريب لعمر فاضرب عنقه حتى يعلم الله انه ليست في قلوبنا مودة للمشركين هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله ابن رواحة يا رسول الله انظروا ديا كثير الحطب فاضرمه عليهم نارا فقال العباس وهو يسمع ما يقول قطعت رحمك فدخل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم البيت فقال ناس يأخذ بقول ابى بكر وقال ناس يأخذ بقول عمرو قال ناس يأخذ بقول عبد الله بن رواحة ثم خرج فقال ان الله تعالى ليلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن وان الله ليشدد قلوب أقوام حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر في الملئكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة ومثلك في الأنبياء مثل ابراهيم قال من اتبعنى فانه منى ومن عصانى فانك غفور رحيم ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم ومثلك يا عمر في الملئكة مثل جبرئيل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على اعداء الله ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ومثلك في الأنبياء مثل موسى(4/112)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
إذ قال ربّنا اطمس على أموالهم
واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يرووا العذاب الأليم لو انفقتما ما خالفتكما أنتم عالة فلا يفلتن منهم أحد الا بفداء وبضرب عنق فقال عبد الله بن مسعود يا رسول الله الا سهل بن بيضاء فانه سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال فما رأيتنى في يوم أخاف ان يقع على الحجارة من السماء منى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الا سهل بن بيضاء فلما كان الغد غدا عمر الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاذا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وابو بكر يبكيان فقال يا رسول الله ما يبكيكما فان وجدت بكاء بكيت والا تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إن كان يصبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب اليم ولو نزل العذاب ما أفلت منه الا ابن الخطاب لقد عرض علىّ عذابكم ادلى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه فانزل الله تعالى.
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ «1» قرأ ابو جعفر وابو عمرو بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية لَهُ أَسْرى كذا قرأ الجمهور وقرأ ابو جعفر أسارى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ اى يكثر القتل ويوهن الكفار ويذل الكفر من أثخنه المرض أثقله فالمفعول محذوف اى يثخن الأسرى في الأرض قال في القاموس أثخن فلانا اى اى أوهنه وأثخن في العدو اى بالغ بالجراحة فيهم تُرِيدُونَ ايها المؤمنون عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذ الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ لكم ثواب الْآخِرَةَ بقتل المشركين ونصركم دين الله وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم نسخ الله تعالى هذا الحكم بقوله فاما منا بعد واما فدآء فجعل لنبيه صلى الله عليه واله وسلم والمؤمنين في امر الأسارى خيار ان شاؤا قتلوهم وان شاؤا استعبدوهم وان شاؤا أفادوهم وان شاؤا اعتقوهم.
__________
(1) قال القاضي ابو الفضل العياض رحمه الله في الشفاء ليس في قوله تعالى ما كان للنبى ان يكون له اسرى الا الزام ذنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل فيه بيان ما خص به وفضل من سائر الأنبياء فكانه هذا النبي غيرك كما قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أحلت لى الغنائم ولم يحل لنبى قبلى قال القاضي ابو الفضل عياض رحمه الله خطاب لمن أراد ذلك منهم وتجرد غرضه الغرض الحيوة الدنيا ولاستكثار منها وليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عامة أصحابه بل قد روى عن الضحاك انهما نزلت حين انهزم المشركون يوم يدر واشتغل الناس بالسلم وجمع الغنائم عن القتل حتى خشى عمر ان يعطف عليهم العدو. 12(4/113)
(مسئلة) اجمع العلماء على انه يجوز للامام في الأسارى القتل كما يدل عليه هذه الاية وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببني قريظة وقد قتل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم صبرا النضر بن الحارث وطعيمة بن عدىّ وعقبة بن ابى معيط قال في سبيل الرشاد قال عقبة بن ابى معيط يا محمد من للصبية قال النار قتله ابن ابى الأفلح في قول ابن إسحاق وقال ابن هشام قتله على بن ابى طالب.
(مسئلة) ويجوز استرقاق الأسارى ايضا اجماعا لان فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لاهل الإسلام ومن هاهنا قال ابو حنيفة ليس لواحد من الغزاة ان يقتل أسيرا بنفسه لان الرأي فيه الى الامام ولكن لا يضمن بقتله شيئا.
(مسئلة) واختلف العلماء في المنّ على الأسارى يعنى إطلاقهم الى دار الحرب من غير شيء وفي الفداء بالمال وفي الفداء بأسير مسلم وفي تركهم ذمة لنا فقال مالك والشافعي واحمد والثوري وإسحاق وبه قال الحسن وعطاء يجوز المنّ والفداء بالمال وبالأسارى وقال ابو حنيفة وابو يوسف ومحمد والأوزاعي وبه قال قتادة والضحاك والسدى وابن جريج لا يجوز المنّ أصلا وكذا الفداء بالمال لا يجوز على المشهور من مذهب أبي حنيفة وصاحبيه وفي السير الكبير انه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة وكذا المفادة بالأسارى لا يجوز على رواية من أبي حنيفة وبه قال صاحب القدورى والهداية واظهر الروايتين عنه ما قال صاحبا لا انه يجوز المفاداة بالأسارى واما تركهم أحرارا في دار الإسلام ذمة لنا فاجازه ابو حنيفة ومالك محتجين بما فعل عمر باهل العراق والشام وقال الشافعي واحمد لا يجوز ذلك لانهم ملكوا وجه قول أبي حنيفة في عدم المنّ والفداء ان ردهم الى دار الحرب اعانة للكفار فانهم يعودون حربا علينا فلا يجوز بالمال ولا بالأسير المسلم لان الأسير المسلم إذا بقي في أيديهم كان في حقه ابتلاء من الله تعالى غير مضاف إلينا والاعانة بدفع أسيرهم مضاف إلينا ووجه قوله الجمهور قول تعالى فاما منا بعد واما فداء قال ابو حنيفة هذه الاية منسوخة بقوله تعالى فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم وقوله تعالى اقتلوا المشركين(4/114)
حيث وجدتموهم وعند الجمهور قوله تعالى فاما منا بعد واما فداء غير منسوخ لما ذكرنا من قول ابن عباس انه لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم انزل الله تعالى فاما منا بعد الاية وقوله تعالى اقتلوا المشركين المراد به غير الأسارى للاجماع على جواز استرقاقهم وقد قال ابو حنيفة يجوز تركهم ذمة لنا اخرج مسلم في صحيحه وابو داود والترمذي عن عمران بن حصين ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين واخرج احمد ومسلم واصحاب السنن الاربعة عن سلمة بن الأكوع قال غزونا فزارة مع ابى بكر امرّه علينا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا ابو بكر فعرسنا ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه فانظر الى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت ان ... يسبقونى الى الجبل فرميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما راوا السهم وقفوا فجئت بهم اسوقهم وفيهم امرأة من بنى فزارة عليها قشع من آدم معها ابنة لها من احسن العرب فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلنى ابنتها فقدمنا المدينة ما كشفت لها ثوبا فلقينى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في السوق فقال يا سلمة هب لى المرأة فقلت يا رسول الله قد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا فسكت حتى إذا كان من الغد لقينى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في السوق فقال يا سلمة هب المرأة لله أبوك فقلت هى لك يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة وروى ابن إسحاق بسنده وابو داود من طريقه الى عائشة قالت لما بعث اهل مكة في فدآء أساراهم بعث زينب بنت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في فداء ابى العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة رضى الله عنها أدخلتها بها على ابى العاص حين بنى عليها فلما رأى النبي صلى الله عليه واله وسلم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لاصحابه ان رأيتم ان تطلقوا لها أسيرها وتردوا الذي لها فافعلوا ففعلوا ورواه الحاكم وصححه وزاد وكان النبي صلى الله عليه واله وسلم قد أخذ عليها ان يخلى زينب اليه ففعل وذكر ابن إسحاق ان ممن منّ عليه رسول الله(4/115)
صلى الله عليه واله وسلم المطلب بن حنطب اسره ابو أيوب الأنصاري فخلى سبيله وابو عزة الجمحي كان محتاجا ذا بنات فكلم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فمن عليه وأخذ عليه ان لا يظاهر عليه أحدا وامتدح رسول الله صلى الله عليه واله
وسلم بأبيات ثم قدم مع المشركين في أحد فاسر فقال يا رسول الله أقلني فقال عليه السلام لا تمسح عارضيك بمكة بعدها تقول خدعت محمدا مرتين ثم امر بضرب عنقه وذكر في سبيل الرشاد جعل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم بدر فدأ الرجل اربعة آلاف الى ثلثة آلاف الى الفين الى الف ومنهم من منّ عليه لانه لا مال له وفي صحيح البخاري قوله صلى الله عليه واله وسلم في أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى في هولاء لتركتهم له وعن ابى هريرة قال بعث النبي صلى الله عليه واله وسلم خيلا قبل يمامة فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه في سارية من سوارى المسجد فخرج اليه النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندى خير يا محمد ان تقتلنى تقتل ذا دم وان تنعم تنعم على شاكر وان كنت تريد المال فسل منه ما شئت فتركه حتّى كان الغد ثم قال له ما عندك يا ثمامة فقال كما قال بالأمس فتركه حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندى ما قلت لك قال أطلقوا ثمامة فانطلق الى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا رسول الله يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه ابغض الىّ من وجهك ... فقد أصبح وجهك أحب الوجوه الىّ والله ما كان دين ابغض اليّ من دينك فاصبح دينك أحب الأديان اليّ والله ما كان من بلد ابغض اليّ من بلدك فاصبح بلدك احبّ البلاد اليّ وان خيلك أخذتني وانا أريد العمرة فماذا ترى فبشره رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وامره ان يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل صبوت قال لا ولكنى أسلمت مع محمد صلى الله عليه واله وسلم لا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن النبي صلى الله عليه واله وسلم والله اعلم روى احمد عن انس حال ستشار النبي صلى الله عليه واله وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال ان الله(4/116)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
قد أمكنكم منهم فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اضرب أعناقهم فاعرض عنه فقام ابو بكر فقال ترى ان تعفو عنهم وان تقبل منهم الفداء فعفى عنهم وقبل منهم الفداء فانزل الله تعالى.
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ يعنى انه لا يضل اى لا ينسب الى الضلال ولا يعذبهم قوما بعد إذ هدهم حتى يبين لهم ما يتقون وانه لا يأخذ قوما فعلوا شيئا قبل النهى كذا قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير في تفسير الاية واخرج الترمذي عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال لم يحل الغنائم لاحد سود الروس من قبلكم كانت تنزل نار من السماء فتاكلها فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل ان يحل لهم فانزل الله تعالى لولا كتب من الله يعنى قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ انه يحل لكم الغنائم كذا قال ابن عباس وقيل معناه لولا حكم من الله سبق في اللوح المحفوظ وهو ان لا يعاقب المخطى في اجتهاده وكان هذا اجتهاد أمتهم بان نظروا في استبقائهم ربما كان سببا لاسلامهم كما وجد من كثير منهم وان فدآئهم يتقووا به على الجهاد وخفى عليهم ان قتلهم أعز للاسلام واهيب لمن ورائهم وقيل معناه لولا كتاب في اللوح المحفوظ انه لا يعذب اهل بدر «1» لَمَسَّكُمْ لنا لكم فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء بالاجتهاد وقبل ان تؤمروا به او من الغنائم قبل ان يحل «2» لكم عَذابٌ عَظِيمٌ (68) قال ابن إسحاق لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر الا أحب الغنائم الا عمر بن الخطاب فانه أشار على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بقتل الأسرى وسعيد بن معاذ قال يا نبى الله كان الإثخان في القتل احبّ الىّ من استبقاء الرجال فقال
__________
(1) وقيل معنى الآية لولا ايمانكم بالقرآن وهو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح لعوقبتم ويزاد تفسير او بيانا بان يقال لولا ما كنتم مؤمنين بالقران ولولا كنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم كما عوقب من بعدي قبل فهذه التأويلات كلها ينفى المعصية لانه من فعل ما أحل له لم يعص الله 12.
(2) قال القاضي بكر بن العلا اخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه واله وسلم في هذه الاية ان تأويله وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم والفداء وقد كان قبل هذا فادوا فى سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضري بالحكم بن كهنان وصاحبه فما عتب الله ذلك عليهم وذلك قبل بدر بأزيد من عام فهذا كله يدل على ان فعل النبي صلى الله عليه واله وسلم في شان الأسرى كان على تاويل وبصيرة على ما تقدم قبل مثله فلم ينكره الله عليهم لكن الله تعالى أراد لعظم امر بدر وكثرة اسراهم والله اعلم اظهار نعمته وتأكيد منة بتقريعهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم لا على وجه انكار وعتاب وتذنيب هذا معنى كلامه كذا في الشفاء 12.(4/117)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ وروى ابن ابى شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن سعد وابن جرير وابن حبان والبيهقي عن على رضى الله عنه قال جاء جبرئيل الى النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال يا محمد ان الله تعالى قد كره ما صنع قومك في أخذهم «1» فدآء الأسرى وقد أمرك ان تخيرهم بين أمرين اما ان يقدموا فيضرب أعناقهم وبين ان يأخذوا منهم الفداء على ان يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الناس فذكرهم ذلك فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ منهم الفداء فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره قال البغوي روى انه لما نزلت الاية السابقة كف اصحاب رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزل.
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ الفاء للتسبيب والسّبب محذوف تقديره ابحت لكم الغنائم فكلوا حَلالًا حال من المغنوم او صفة للمصدر اى أكلا حللا وفائدته ازاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب المعاتبة ولذلك وصفه بقوله طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) أباح لكم ما أخذتم من الفداء والمغنم قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فضلت على الأنبياء بست وذكر فيه وأحلت لى الغنائم رواه الترمذي عن ابى هريرة وروى الطبراني بسند صحيح عن السائب بن يزيد فضلت على الأنبياء يخس وفيه وأحلت لى الغنائم ولم تحل لاحد قبلى والبيهقي عن ابى امامة بسند صحيح نحوه غير انه قال فضلت بأربع والطبراني عن ابى الدرداء نحوه وروى البغوي
__________
(1) قال القاضي ابو الفضل عياض رحمه الله انهم لم يفعلوا إلا ما اذن لهم لكن بعضهم مال الى أضعف الوجهين مما كان الأصح غيره من الإثخان والقتل فعوتبوا على ذلك يعنى ترك الاولى وبين لهم ضعف احسارهم وتصويب احسار غيرهم وكلهم غير عصاة والى نحو هذا أشار الطبري وقوله عليه السلام في هذه القصة لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه الا عمر اشارة الى هذا من تصويب رايه وراى من مثله يعنى هذه القصة أوجبت عذابا نجا منه عمر ومثله وعنى عمر لانه أول من أشار بقتلهم ولكن لا يقدر عليهم في ذلك عذابا بحله لهم فيما سبق قال الداودي والخبر بهذا لا يثبت ولو ثبت لما جاز ان يظن ان النبي صلى الله عليه واله وسلم حكم مما لا نص فيه ولا جعل الأمر الله وقد نزهه الله عن ذلك هذا الحديث دليل على نافلة 12.(4/118)
عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لم تحل الغنائم لاحد قبلنا وذلك بان الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا وقال البغوي روينا عن جابر ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال أحلت لى الغنائم ولم تحل لاحد قبل والله اعلم ذكر البغوي ان العباس بن عبد المطلب اسر يوم بدر وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام اهل بدر فكان يوم بدر نوبته وكان خرج بعشرين اوقية من ذهب ليطعم بها الناس فاراد ان يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرين اوقية معه فاخذت معه في الحرب فكلم النبي صلى الله عليه واله وسلم ان يحتسب العشرين اوقية من فدآئه فابى وقال اما شى خرجت به تستعين فلا اتركه لك وكلف فداء ابني أخيه عقيل بن ابى طالب ونوفل بن الحارث فقال العباس يا محمد تركتنى اتكفف قريشا ما بقيت فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاين الذهب الذي دفعته الى أم الفضل وقت حروجك من مكة وقلت لها انى لا أدرى ما يصيبنى في وجهى هذا فان حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقثم يعنى بنيه الاربعة فقال له العباس وما يدريك قال أخبرني به ربى فقال العباس اشهد ان لا اله الا الله وانك عبده ورسوله ولم يطلع عليه أحد الا الله وروى ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي وابو نعيم وإسحاق بن راهويه والطبراني وابو الشيخ من طرق عن ابن عباس وابن إسحاق وابو نعيم عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اسر يوم بدر سبعين من قريش منهم العباس وعقيل فجعل عليهم الفداء أربعين اوقية من الذهب وروى البيهقي عن اسمعيل ابن عبد الرحمن قال كان فداء العباس وعقيل ونوفل وأخيه اربعمائة دينار قال ابن إسحاق وكان اكثر الأسارى فداء يوم بدر فداء العباس نفسه بمائة اوقية من ذهب وروى ابو داود عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه واله وسلم جعل فداء اهل الجاهلية يوم بدر اربعمائة وادعى العباس رضى الله عنه انه لا مال عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فاين المال الذي دفعته أنت أم الفضل وقلت بها ان أصبت في سفرى هذا فهذا لبني الفضل وعبد الله والقثم فقال(4/119)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
والله لا علم انك لرسول الله ان هذا شيء ما علمه الا انا او أم الفضل والله اعلم وقال سعيد بن جبير وجعل على العباس مائة اوقية وقالوا أربعين وعلى عقيل ثمانين اوقية فقال العباس لقد تركتنى أفقر قريش ما بقيت فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الاية وذكر محمد بن يوسف الصّالحى في سبيل الرشاد انه قال جماعة من الأسارى لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم منهم العباس رضى الله عنه انا كنا مسلمين وانما خرجنا كرها فعلام يوخذ منا الفداء فانزل الله تعالى يايها النبي قل لمن في ايديكم من الأسرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ايمانا وإخلاصا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء بان يضعّفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الاخرة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال قال العباس والله نزلت حين أخبرت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بإسلامي وسألته ان يحاسبنى بالعشرين الاوقية التي وجدت معى فاعطانى بها عشرين عبد أكلهم تاجر بما لى في يده مع ما أرجو من مغفرة الله وذكر البغوي قول العباس انه أبدلني الله عنها عشرين عبد أكلهم تاجر يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين الف درهم مكان العشرين أوقية وأعطاني زمزم وما أحب ان لى بها جميع اموال اهل مكة وانا انتظر المغفرة من ربى وذكر في سبيل الرشاد قول العباس حين أنزلت لوددت انك كنت أخذت منى اضعافها فاتانى الله خيرا منها أربعين عبد أكل في يده مال يضرب به وانى أرجو من الله المغفرة والله اعلم روى البخاري وابن سعد ان النبي صلى الله عليه واله وسلم اتى بمال من البحرين فقال انشروه في المسجد إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني انى فاديت نفسى وو فاديت عقيلا فقال خذ فحثا فى ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه الىّ قال لا ... قال فارفعه أنت قال لا فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق وهو يقول انما أخذ ما وعد الله فقد الجز فما زال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم(4/120)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
يتبعه بصره حتى خفى علينا عجبا من حرصه فما قام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وثم منها درهم.
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعنى نقض ما عهدوك عند انفكاكهم من الاسر بالاقتداء او بغيره فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ هذا بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بقوله الست بربكم او بالعقل فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ يعنى فامكنك منهم يوم بدر جزاء الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره ان يريدوا خيانتك يعود عليهم وباله بدليل انهم قد خانوا الله من قبل فامكنك فان عادوا فسنمكنك منهم مرة اخرى كما ذكرنا عن ابن إسحاق انه صلى الله عليه واله وسلم من على ابى غزة الجمحي يوم بدر بلا فداء وأخذ عليه ان لا يظاهر عليه أحدا فقدم مع المشركين يوم أحد فاسر فقتله رسول الله صلى الله عليه واله وسلم صبرا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في صدورهم حَكِيمٌ (71) فيما يفعل.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا قومهم وديارهم حبا لله ورسوله يعنى الذين هاجروا من مكة وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها في السلاح والكراع وأنفقوها في المحاويج وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمباشرة القتال وإتيان كل ما امر الله به من العبادات البدنية وَالَّذِينَ آوَوْا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ومن معه من المهاجرين في ديارهم بالمدينة وَنَصَرُوا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على اعداء الله يعنى الأنصار أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ دون اقربائهم من الكفار فلا يجوز للمؤمنين موالاة الكفار ولو كانوا آبائهم او أبنائهم او إخوانهم او عشيرتهم ولا مناصرتهم وقال ابن عباس هذا في الميراث كانوا يتوارثون بالهجرة وكان المهاجرون يتوارثون دون ذوى الأرحام وكان من أمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى فتحت مكة وانقطعت الهجرة فتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا وصار ذلك منسوخا بقوله عز وجل وأولوا الأرحام بعضهم اولى ببعض في كتاب الله قلت وعندى ان هذه الاية غير منسوخة إن كان المراد به الميراث ايضا فانه متى أمكن الجمع بين الآيتين لا يجوز القول بنسخ أحدهما ومعنى قول ابن عباس كان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوى الأرحام ان ذوى الأرحام الكفار(4/121)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
لا يرثون من المهاجرين لاختلاف الدينين وكان من أمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر لاختلاف الدارين حتى فتحت مكة وصارت دار اسلام انقطعت الهجرة واسلم اهل مكة كلّهم توارثوا بالارحارم وكان وجه أخذ الأنصاري ميراث المهاجر عقد الموالات وذلك سبب للارث عند ابى حنيفة رحمه الله إذا لم يكن للميت وارث من النسب او السبب بلا مانع من الإرث غير منسوخ واما أخذ المهاجر ميراث الأنصاري او الأنصاري ميراث المهاجر مع وجود قريب الميت مؤمنا بالمدينة فلم يثبت ولا دلالة في الاية عليه فلا يجوز القول بكون الاية منسوخة والله اعلم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ قرأ حمزة بكسر الواو تشبيها لها بالعمل والصناعة كالكتابة والرياسة كانه بتولية صاحبه يزاول عملا والباقون بفتح الواو مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا نفى لولايته من لم يهاجر من المؤمنين بمعنى النهى لاجل فسقهم بترك فريضة الهجرة ومنه يظهر انه يكره للمؤمن ولاية المؤمن الفاسق ما لم يتب وان كان المراد بالولاية الميراث فالاية حجة على كون اختلاف الدارين مانعا من الميراث وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ يعنى المؤمنين الذين لم يهاجروا استنصروكم فِي الدِّينِ على أعدائهم من اهل الحرب فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فواجب عليكم ان تبصروهم عليهم إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فانه لا يجوز نقض العهد ولهذا لم ينصر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أبا جندل وقصته في سورة الفتح وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) تحذير عن تعدى حدود الشرع.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ والمقصود منه انه لا يجوز للمؤمنين موالاة الكفار ولا مناصرتهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه الشيخان في الصحيحين واصحاب السنن الاربعة من حديث اسامة بن زيد وقد ذكرنا المسألة في سورة النساء في تفسير (فائدة) لا يجوز لاحد تولية نفسه وان يزعم لزوم فسق منه ومعهذا لا يجوز ولاية الفاسق فالعدل للولاية أفضل من نفسه وصالحى المؤمنين 12(4/122)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
اية الميراث (مسئله) ذكر في المبسوط انه لو أغار قوم من اهل الحرب على اهل الدار من الكفار التي فيها المؤمن المستأمن لا يحل له قتال هؤلاء الكفار الا ان خاف على نفسه لان القتال لما كان تعريضا لنفسه على الهلاك لا يحل الا لاعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه او لدفع الضرر عن نفسه وهو إذا لم يخف على نفسه فقتاله لا يكون الا لاهل الدار من الكفار لاعلاء كلمتهم وذا لا يجوز (مسئله) لو أغار اهل الحرب الذين فيهم مسلمون مستامنون على طائفة من المسلمين فاسروا ذراريهم فمروا بهم على أولئك المستأمنين وجب عليهم ان يقاتلوهم ويخلصوا المؤمنين من أيديهم لانهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيديهم تقرير على الظلم ولم يضمنوا ذلك بخلاف الأموال لانهم ملكوها بالاحراز عند أبي حنيفة وقد ضمنوا لهم ان لا يتعرضوا أموالهم وكذلك لو كان المأخوذ ذرارى الخوارج لانهم مسلمون إِلَّا تَفْعَلُوهُ يعنى ان لا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم والتناصر وقطع العلائق بينكم وبين الكفار حتى قطع التوارث تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ يحصل فتنة عظيمة وهى ظهور الكفر وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) يعنى ضعف الإسلام بترك الجهاد واختلاط المسلمين الكفار.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الكاملون في الايمان الصادقون في ادعائهم إسلامهم حَقًّا حق ذلك الأمر حقا لانهم حققوا ايمانهم بتحصيل مقتضياته من الهجرة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله ونصرة الحق بخلاف من أمن ولم يهاجر ولم يجاهد فانه وان صح عليه اطلاق المؤمن حيث قال الله تعالى والذين أمنوا ولم يهاجروا لكنهم ليسوا كاملين في الايمان ولم يتحقق صدقهم ويحتمل نفاقهم ولا تكرار لان الاية الاولى للامر بالتواصل وهذه الاية واردة للثناء عليهم والوعد لهم بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الإسلام يهدم ما كان قبله والهجرة تهدم ما كان قبلها وقد مر من حديث عمرو بن العاص واعلم انه كان بعض(4/123)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
المهاجرين اهل الهجرة الاولى وهم الذين هاجروا قبل الحديبية ومنهم من كان ذا الهجرتين الهجرة الى الحبشة والهجرة الى المدينة منهم عثمان وجعفر الطيار وغيرهم وكان بعضهم اهل الهجرة الثانية وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة والمراد بالآية الاولى اهل الهجرة الاولى لفضلهم ثم الحق بهم اهل الهجرة الثانية فقال.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ اى بعد صلح الحديبية وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ وكذا من ايتسم بسمتهم فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ايها المهاجرون الأولون والأنصار يعنى من جملتكم ومن جنسكم يتولى بعضكم بعضا ويرث بعضكم بعضا وَأُولُوا الْأَرْحامِ من المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ من الأجانب في التوارث وصلة الرحم وهذا لا ينافي ما سبق والمعنى ان المؤمن إن كان له ذا رحم فهو اولى به من سائر المؤمنين في التوارث فان كان له ذا رحم الذين ذكر الله تعالى في سورة النساء فهو اولى من غيره يعطى له الميراث على ما أوصله الله تعالى في كتابه وان لم يكن منهم أحد وكان ذو رحم من غيرهم فهو اولى من الأجانب بهذا الاية وبقوله صلى الله عليه واله وسلم الخال وارث من لا وارث له وقد ذكرنا الحديث في سورة النساء فهذه الاية حجة على الشافعي حيث قال يوضع ماله في بيت المال ان لم يكن للميت ذا فرض ولا عصبة ولا يرث غيرهم من ذوى الأرحام وقدم المسألة في سورة النساء والمؤمن ان لم يكن له أحد من اولى الأرحام مؤمنا فاوليائه جماعة المؤمنين بما سبق من الاية الاولى فيوضع ماله في بيت المال لجماعة المسلمين فِي كِتابِ اللَّهِ يعنى في حكم الله وقسمته او في اللوح المحفوظ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) ومنها المواريث والحكمة في اناطتها بالقرابة والإسلام والنكاح والولاء والله اعلم تمت تفسير سورة الأنفال من التفسير المظهرى ويتلوه إنشاء الله تعالى تفسير سورة البراءة.(4/124)
فهرس للتفسير المظهرى سورة التّوبة
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتّفسير المظهرى تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمد ثناء الله العثماني الحنفي المظهرى النقشبندي الفاني فتى رضى الله عنه وعن آبائه ومشائخه ولد رحمه الله في سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة 1123 او قبله بسنة او سنتين بفانى فت ونشا بها فحفظ القرآن وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتجر فيها ثم ارتحل الى دهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا الشاه ولىّ الله المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمد عابد السنامى ثم انسلك بخدمة الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع الى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف في نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عدة في التفسير والفقه وغيرهما تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها الى الله وازديادا مجتهدا في الخيرات الى ان أدركته المنية فتوفى في غرة الرجب المرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة 1225 على صاحبها التحية مكتبه رشيديّه سركى رود- كوئطه(4/125)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما ورد في أسمائها ووجه تسميتها- 131 ما ورد في وجه ترك البسملة- 132 تحقيق يوم الحج الأكبر- 134 حرمة الأشهر الحرم منسوخة أم لا- 135 قصة بعث ابى بكر أميرا للحج وعليا ليقرأ 136 على الناس سورة براءة- هل يجوز القتال في حرم مكة مسئله يجوز القتال 139 في الأشهر الحرم وفي الحرم ان بدأ المشركون بالقتال ما ورد في الصلاة والزكوة وجواز القتال على 143 منع الزكوة- فائدة ليكن غرض المسلمين في قتال الكفار إعلاء 144 كلمة الله ومنع الناس عن الشرك والمعاصي دون الملك والمال- حديث لا يزال من أمتي امة قائمة بامره- 146 مسئله مع الكفار عن دخول المسجد الحرام وعن تعميره 146 ما ورد في فضل ادامة العبادة والذكر في المساجد 148 وفي بناء المسجد وتزئينه وتنزيهه- مسئله دوام الذكر أفضل من الجهاد- 159 قصة استقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم 2151 قصة غزوة حنين- 154 ذكر شروع القتال وإعجاب المسلمين بالكثرة وفرارهم 156 ذكر ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم- 159 ذكر ارادة بعض المشركين الفتك برسول الله 160 صلى الله عليه وسلم وإسلامهم بعد روية المعجزة- فائدة في بيان كم بقي ثابتا مع رسول الله صلى 162 الله عليه وسلم ذكر رجوع المنهرمين- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من الحصى 164 نزول الملئكة والنصر من السماء- 164 ذكر قتل الكفار حتى الذراري والمنع من قتل 166 الذراري- ذكر فرار المشركين وفرار مالك بن عوف 166 رئيسهم الى الطائف- جمع غنايم وإرساله الى جعرانة- 167 ذكر حصار الطائف وعدم خروج أهلها للبراز 167 وقتالهم من وراء الحصن- ذكر من استشهد رجال من المسلمين- 167 ورجوعه صلى الله عليه وسلم بعد عشرين ليلة 168 او نحو ذلك الى جعرانة(4/126)
مضمون صفحه ذكر قسمة غنايم حنين- 169 ذكر إتيان أم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيه 169 وأخته من الرضاعة وغيرهم تائبين ورد سباياهم ذكر إعطاء المؤلفة قلوبهم وتقسيم الأموال- 171 ووجد الأنصار واستمالتهم- 173 ذكر إتيان مالك بن عوف راس هوازن حسن إسلامه 175 ذكر نجاسة المشرك- مسئله هل يجوز للمشركين واهل الكتاب دخول 176 المسجد الحرام او الحرم او غير ذلك من المساجد وهل يجوز مقامهم في الحجاز- مسئله اختلاف العلماء في أخذ الجزية من 179 عبدة الأوثان ومن العرب- مسئله اختلاف في قدر الجزية- 184 مسئله لا يجوز أخذ الجزية من فقير غير معتمل- 186 مسئله يسقط الجزية بالإسلام- 187 مسئله الجزية يجب باول الحول وتسقط بالموت- 188 مسئله لا جزية على الصبيان والمجانين ولا 189 على النساء والعبيد- مسئله ما ينقض به عقد الذمة- 190 مسئله ينتقض العهد بذكر الله سبحانه 190 القرآن او الإسلام او النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بهم- مسئلة إذا استعلى ذمى على مسلم على وجه 192 صار مستمرا عليه حل قتله حتى يرجع الى الذل والصغار قصة عزير عليه السلام- 192 قصة إضلال بولس النصارى- 193 مسئله بضم الذهب الى الفضة لاداء الزكوة 196 ما ورد ان النفقات الواجبة اكثر اجر او أفضل- 197 مسئله جواز كنز الأموال إذا
ادى ما وجب فيها 198 وما قبل انه لا يجوز ذلك- حديث ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يودى 200 حقها الحديث- مسئله تحريم القتال في الأشهر الحرام- 201 ذكر النبي وأول من نسا- 203 ما ورد في فضل ابى بكر لمصاحبته في الغار- 207 قصة خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا- 208 حديث اللهم اجعل أبا بكر معى في درجتى في 210 الجنة الحديث- قصة أم معبد ومعجزة حلب الحائل العازب- 214 قصة سراقة والمعجزة 217 حديث عجبا «1» لامر المؤمن ان امره كله خير- 223 قصة خروجه صلى «2» الله عليه وسلم الى غزوة تبوك- 226 قصة تخلف جد بن قيس المنافق- 225 مصارف الصدقات- 231
__________
(1) هذا مؤخر 12
(2) هذه مقدم والذي بعده 12(4/127)
مضمون صفحه مسئله لا يجوز دفع الزكوة الى كافر- 231 مسئله الاولى ان يلتمس لدفع الزكوة سببا 240 يترجح المعطى له من غيره من الفقراء كالمسكين الذي لا يسال الناس والغازي والحاج والكاتب ومن اسباب المزية القرابة وما ورد في إعطاء 240 القريب لا يجوز دفع الزكوة الى من بينهما ولادا وزوجية- 240 وعند ابى يوسف يجوز دفع زكوتها الى زوجها- 241 ومن اسباب المزية الجوار وما ورد فيه- 243 ما ورد في وضع الزكوة في اى صنف شاء- مسئله حد الغنى الذي يمتنع أخذ الزكوة والذي 246 يمنع السؤال- مسئله الفقير إذا كان قويا قادرا بالكسب 249 هل يجوز دفع الزكوة اليه- مسئله لم يكن الصدقة حلالا للنبى صلى الله 250 عليه وسلم- مسئله الذين يحرم عليهم الصدقة خمسة بطون 252 مسئله يحرم الزكوة على مواليهم- 253 مسئله يكره نقل الصدقة من بلد الى بلد- 253 ما ورد في جنة عدن- 264 ما ورد في رضوان الله- 266 قصة ثعلبة بن حاطب- 269 قصة تصدق عبد الرحمن بن عوف وعاصم 271 ابن عدى وابو عقيل الأنصاري رضى الله عنهم ولمز النافقين- ما ورد في بكاء اهل النار في النار- 274 ما ورد في كراهة كثرة المضحك في الدنيا 275 واستحباب البكاء من خشية الله- ذكر موت عبد الله بن ابى المنافق 276 ما ورد في قبائل العرب- 279 ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم بالصلوة 281 على من تصدق- ذكر السابقين الأولين من المهاجرين 285 والأنصار ذكر أول من اسلم من المهاجرين واصحاب 285 العقبات الثلث من الأنصار مسئله اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 287 كلهم في الجنة- قصة ابى لبابة وأصحابه- 289 مسئله هل يجب الدعاء على الامام عند 292 أخذ الصدقة- مسئله هل يجوز الصلاة على غير الأنبياء 292 ذكر بناء مسجد الضرار- 295 وهدمه- 297(4/128)
مضمون صفحه ذكر مسجد أسس على التقوى- 297 ما ورد في مسجد المدينة ومسجد قبا- 297 ما ورد في ثناء اهل قبا في الطهور- 299 قصة بيعة الأنصار في ليالى العقبة وخروج 302 المهاجرين الى المدينة- حديث أول من يدعى الى الجنة الحمادون 304 ما ورد في تفسير الصائمين في فضل الصوم 304 فالجهاد وطلب العلم- ما ورد في فضل الصلاة- 305 ذكر ظاهر الشريعة وباطنها- 305 ذكر موت ابى طالب- 306 مسئله لا يجوز القول بكون أبوي النبي 307 صلى الله عليه وسلم مشركين وما ورد في ذلك ما ورد في عسرة الصحابة وشدتهم في غزوة 311 تبوك ومعجزة الاستسقاء قصة لحوق ابى ذر الغفاري وابى خيثمة 312 بعد ما ابطأ في غزوة تبوك- قصة تخلف كعب بن مالك الشاعر وهلال 313 ابن امية ومرارة بن الربيع عن غزوة تبوك ونزول توبتهم- ما ورد في رضاء الله سبحانه بتوبة العبد- 314 ما ورد في فضل الجهاد 321 مسئلة الجهاد فرض على الكفاية وعند النفير 321 العام فرض عين ما ورد في فضل الانفاق في الجهاد- 321 ما ورد في فضل العلم والعلماء وما هو فرض عين 322 وفرض كفاية منه والعلم اللدني- مسئله يجب الجهاد على اهل كل ثغر بمن 325 يليهم من الكفار فان لم يكن بهم كفاية او تكاسلوا يجب على من يفرب منهم ثم وثم الى الشرق والغرب وكذا جهاز الميت والصلاة عليه ما قيل ان الايمان يزيد وينقص- 326 فصل في بقية قصة غزوه تبوك- 328 لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر تقنع 329 بردائه واسرع السير ونهى الناس عن شرب مائها والوضوء منه وقال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم الا ان تكونوا باكين واهريقوا القدور واعلقوا العجين الذي عجن من مالها الإبل- المعجزات 330 منها الاخبار بهبوب الريح وما ورد فيه- 330 منها قصة ضلال الناقة والاخبار بها وبقول المنافق 330 وقصة اقتداء عليه السلام بعبد الرحمن بن عوف 330 قصة عارض الناس حية عظيمة وكان من الجن 330(4/129)
منها قصة عين تبوك 330 منها قصة مرور الغلام بينه عليه السلام وبين 331 القبلة وهو في الصلاة فصار مقعدا بدعائه عليه السلام- منها قصة البركة في التمرات 331 منها اخبار النبي صلى الله عليه وسلم لموت 332 منافق بالمدينة- منها قصة نفر من سعد بن هزيم- 332 منها قصة صلوته عليه السلام على معاوية 333 ابن معاوية غائبا وقد مات بالمدينة وفيه ذكر فضل سورة الإخلاص 333 منها قصة نحى السمن قصة بعثه صلى الله عليه وسلم كتابا الى هرقل مع دحية الكلبي- وقصة بعث هرقل كتابه الى رسول الله صلى الله 333 عليه مع التنوخي وما فيه من المعجزات- وكتابه مع دحية الكلبي في الجواب 335 قصه
بعثه صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد الى أكيدر 335 بدومة وما فيها طن المعجزات وفتح حصنه- وقسمته غنائمه وقدوم أكيدر مع خالد على رسول 336 الله صلى الله عليه وسلم وما اهدى وقع الصلح على الجزية 336 قصة قدوم ملك ايلة يحنه وكتاب 337 الصلح له والجزية وقدوم اهل جربا واذرح وكتاب 337 الصلح والجزية با اهل مقنا- ذكر مدة إقامته صلى الله عليه وسلم 337 بتبوك ورجوعه الى المدينة- حديث النهى عن الخروج من ارض 337 فيها الطاعون وعن الدخول فيها- من المعجزات قصة البركة في الأزواد 338 بعد نفادها- منها قصة نبع الماء بين أصابعه عليه 339 السلام- ومنها قصة انخراق الماء من وشل 339 كان في وادي الناقة- منها قصة نبع الماء واتساعه وانبساطه 340 في القعب منها قصة جهد الظهور فقويت بدعائه 340 عليه السلام- ذكر قدومه عليه السلام المدينة 340 حديث للمدينة هذه طابة- 340 حديث لا يزال عصابة من أمتي 340 يجاهدون على الحق اللهم صلى على 340 محمد وآله وأصحابه أجمعين- 5- (فهرس تمام شد)(4/130)
نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شيء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلىّ ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيّين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين 5.
سورة التّوبة
مدنيّة وهى مائة وتسع وعشرون اية او ماية وثلثون اية عن «1» ابى عطية الهمداني قال كتب عمر بن الخطاب تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور قلت لان في البراءة الحث على الجهاد وفي النور الحث على الحجاب وعن «2» عثمان بن عفان قال كانت البراءة والأنفال تدعيان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرينتين فلذلك جمعتهما في السبع الطوال 5 منه ولها اسماء سميت براءة لانها براءة عن الكافرين وسورة التوبة لان فيها توبة على المؤمنين والمقشقشة أخرجه ابو الشيخ وابن مردوية عن زيد بن اسلم عن عبد الله بن عمر لانها تقشقش اى بترأ من النفاق والمبعثرة أخرجه ابن المنذر عن محمد بن إسحاق لما كشفت عن سرائر الناس والبحوث أخرجه ابن ابى حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابى رشد الحراني عن المقداد بن الأسود والمثيرة أخرجه ابن المنذر وابو الشيخ وابن ابى حاتم عن قتادة لانها نبعثر النفاق وبتحت عنها وتثيرها وتظهر عوراتهم وتخفر عنها والمنكلة والمدمدمة وسورة العذاب اخرج ابن ابى شيبة والطبراني وابو الشيخ والحاكم وابن مردوية عن حذيفة رضى الله عنه قال التي تسمونها سورة التوبة هى سورة العذاب والله ما تركت
__________
(1) عن ابى عطية للهمدانى قال كتب عمر بن الخطاب تعلموا سوره براءة وعلموا نسائكم سورة النور قلت لان في البراءة الحث على الجهاد وفي النور الحث على الحجاب 12 منه
(2) وعن عثمان بن عفان قال كانت البراءة والأنفال تدعيان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم القرينتين فلذلك جمعتهما في السبع الطوال 12 منه-(4/131)
أحد الا نالت فيه واخرج سورة العذاب ايضا ابو عوانة وابن المنذر وابو الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس عن عمرو الفاضحة لكونها فاضحة للمنافقين قال البغوي قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس سورة التوبة قال هى الفاضحة ما زالت تنزل وتنبئهم حتى ظنوا انها لم تبق أحدا منهم الا ذكرها فيها قال قلت سورة الأنفال قال تلك سورة بدر قال قلت سورة الحشر قال قل سورة النضير وفي وجه ترك البسملة عنها روى البغوي بسنده واحمد وابو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قلت لعثمان رضى الله عنه ما حملكم على ان عمدتم الى الأنفال وهى من الثاني وإلى براءة وهى من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال فقال عثمان رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فاذا نزل عليه الشيء يدعوا بعض من كان يكتب عنده فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكانت الأنفال مما نزلت بالمدينة وكانت براءة من اخر ما نزلت وفي لفظ وكانت الأنفال من أوائل ما نزلت بالمدينة وكانت البراءة من اخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لها انها منها فمن ثم فرنت بينهما ولم اكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال وقيل وجه ترك البسملة انها نزلت لرفع الامان وبسم الله الرّحمن الرّحيم أمان كذا اخرج ابو الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس قال سالت على ابن ابى طالب رضى الله عنه لم لم يكتب بسم الله الرّحمن الرّحيم في براءة قال لان بسم الله الرّحمن الرّحيم أمان وبراة نزلت بالسيف وقيل اختلف اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم الأنفال وبراءة سورة واحدة نزلت في القتال ويعد السابعة من الطوال وهى سبع وقال بعضهم هما سورتان فتركت بينهما فرجة لقول من قال هما سورتان وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال هما سورة واحدة قال البغوي قال المفسرون لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك كان المنافقون يرجعون الأراجيف يعنى يقولون أقوالا يضطرب بها المسلمون اضطرابا(4/132)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
شديدا وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت وذلك لزعهم ان المسلمين لا يقاومون قتال قيصر ملك الشام فامر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهودهم فقال.
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «1» قال الزجاج يعنى قد برئ الله ورسوله اعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا فقوله براءة خبر مبتدا محذوف اى هذه براءة وهى ضد المعاهدة وهى مصدر كالنشاءة والدناءة ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره واصلة من الله ورسوله ويجوز ان يكون براة مبتدأ لتخصيصها بصفتها خبره إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ اى عاهدتموهم ايها الرسول والمؤمنون مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) بيان للموصول علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة بالرسول والمؤمنين للدلالة على انه يجب عليهم نبذ عهودهم.
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ فيه التفات حيث خاطب المشركين بعد ما ذكرهم على الغيبة او المعنى فقل لهم سيحوا اى سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين امنين غير خائفين أحدا من المسلمين والسياحة السير على مهل أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ اى غير فائتين ولا سابقين وان أمهلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) اى مذلهم بالقتل والاسر في الدنيا والعذاب في الآخرة قال الزهري الأشهر الاربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لان الاية نزلت في شوال وقال اكثر المفسرين ابتدائها يوم الحج الأكبر وانقضائها الى عشر من شهر ربيع الاخر لقوله تعالى.
وَأَذانٌ اى اعلام فعال بمعنى الافعال كالامان والعطاء ومنه الاذان للصلوة يقال اذنته فاذن اى أعلمته فعلم وأصله من الاذن اى أوقعت في اذنه ورفعه كرفع براءة على الوجهين
__________
(1) وقرئ رسوله بالجر للجوار عن ابن ابى مليكة قال قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب فقال من يقرأني عما انزل الله على محمد فاقراه براءة فقال ان الله برئ من المشركين ورسوله بالجر فقال الاعرابى لقد برئ الله من رسوله ان يكن الله برئ من رسوله فانا ابرأ منه فتبع عمرو قالة الاعرابى ابترا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا امير المؤمنين انى قدمت المدينة ولا علم لى بالقران فسالت من يقرائنى فاقرانى هذه السورة براة فقال الله برى من المشركين ورسوله وقال الاعرابى وانا والله ابرا مما برا لله منه فامر محمد بن الخطاب ان لا يقرا الناس الا عالم باللغة وامر الأسود فوضع النحو 12. [.....](4/133)
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ «1» الْأَكْبَرِ قال البغوي روى عكرمة عن ابن عباس انه يوم عرفة قال وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عمرو ابن الزبير «2» رضى الله عنهم وهو قول عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب قلت ومستند هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة أخرجه احمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم والدار قطنى والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن معمر واخرج ابن ابى حاتم عن مسور ابن مخرمة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم عرفة وهذا يوم الحج الأكبر قال البغوي قال جماعة هو يوم النحر روى عن يحيى بن الخراز قال خرج على رضى الله عنه يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل أخذ بلجام دابته وساله عن يوم الحج الأكبر فقال يومك هذا خل سبيلها اخرج الترمذي عن على قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الأكبر قال وبروى ذلك عن عبد الله بن ابى اوفى والمغيرة ابن شعبة وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير والسدى قلت واخرج ابو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر انه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر قال البغوي وروى ابن جريح عن مجاهد يوم الحج الأكبر حين الحج ايام منى كلها وكان سفيان الثوري يقول يوم الحج الأكبر ايام منى كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث يراد به الحين والزمان فان هذه الحروب دامت أياما كثيرة ووصف الحج بالأكبر لان العمرة يسمى بالحج الأصغر كذا قال الزهري والشعبي وعطاء والله اعلم قالوا هذه الآية تدل على ان ابتداء الأشهر الاربعة يوم الحج الأكبر قلت ليس في آية الاذان الواقع يوم الحج الأكبر التقييد باربعة أشهر حتى يدل على ان ابتداء الأشهر من ذلك اليوم بل قال الله تعالى وأذان من الله ورسوله الى الناس يوم الحج الأكبر أَنَّ اللَّهَ اى بان الله بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 5 وَرَسُولُهُ قرأ يعقوب رسوله بالنصب عطفا على اسم ان او لان الواو بمعنى مع والباقون بالرفع
__________
(1) وعن الحسن انه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال ذاك عام حج فيه ابو بكر استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج بالناس واجتمع فيه المسلمون والمشركون فلذلك سمى الحج الأكبر ووافق عبد اليهود والنصارى 12
(2) عن الشعبي ان أبا ذر والزبير بن العوام سمع أحدهما من النبي صلى الله عليه وسلم انه قرأها يوم الجمعة على المنبر فقال لصاحبه متى أنزلت هذه الاية فلما قضى صلوته قال له عمر بن الخطاب لا جمعة لك فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فقال صدق عمر 12(4/134)
عطفا على المستكن في برئ او على الابتداء والخبر محذوف اى ورسوله برئ وهذا تعميم بعد تخصيص فان الاية الاولى فيها براءة مختصة بالذين عوهدوا والمراد به الناكثين منهم بدليل الاستثناء الآتي وفي هذه الآية براءة عامة الى المشركين أجمعين عاهدوا ثم نكثوا او لم يعاهدوا منهم ولذا قال الى الناس فلا تكرار غير ان الذين عاهدوا ولم ينكثوا خارجون عن هذه البراءة ايضا لقوله تعالى فاتموا إليهم عهدهم وليس في هذه الاية الأمر بالسياحة اربعة أشهر حتى يلزم اعتبار ابتداء المدة من هذا اليوم وعندى ان قوله تعالى براءة من الله ورسوله وان الله برئ وان كانت نازلة في المشركين الموجودين في ذلك الوقت الناكثين عهودهم في غزوة تبوك وغير المعاهدين منهم لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد فالآية محكمة ناطقة لوجوب قتال الناكثين وغير المعاهدين ابدا فالمراد بقوله تعالى فسيحوا في الأرض اربعة أشهر من كل سنة وهى الأشهر الحرم بدليل قوله تعالى فاذا انسلخ الأشهر الحرم الآية وقوله تعالى ان عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها اربعة حرم فان قيل قال قوم القتال في الأشهر الحرم كان كبيرا ثم نسخ بقوله تعالى قاتلوا المشركين كافة كانه يقول فيهن وفي غيرهن وهو قول قتادة وعطاء الخراسانى والزهري وسفيان الثوري وقالوا لان النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف وحاصر في شوال وبعض ذى القعدة قلنا هذا لقول عندى غير صحيح لان قوله تعالى قاتلوا المشركين كافة من تتمة قوله تعالى ان عدة الشهور عند الله اثنى عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها اربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ولا بد في الناسخ من التراخي والقول بالتخصيص هاهنا غير متصور والقول بان معنى قوله تعالى قاتلوا المشركين كافة فيهن وفي غيرهن باطل لانه يدل على تعميم الافراد دون تعميم الزمان وحصاره صلى الله عليه وسلم الطائف في بعض ذى القعدة ثابت بأحاديث الآحاد ولا يجوز نسخ الكتاب بها كيف وسورة التوبة نزلت بعد غزوة الطائف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة(4/135)
يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بثمانين يوما ان الزمان استدار كهيئة يوم خلق السّموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها اربعة حرم ثلث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان الحديث رواه الشيخان في الصحيحين من حديث ابى بكرة ويحتمل ان يكون جواز حصار الطائف في ذى القعدة مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم أبيح له القتال فيها كما أبيح له القتال في الحرم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السّموات والأرض فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة وانه لم يحل القتال لاحد قبلى ولم يحل لى الا ساعة من نهار الحديث متفق عليه من حديث ابن عباس وفي الصحيحين من حديث ابى شريح العدوى فان أحد ترخص بقتال رسول الله فيها فقولوا له ان الله قد اذن لرسوله ولم يأذن لكم وانما اذن لى فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس- (قصّة) لما نزلت هذه في شوال سنة تسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ليقرأها على الناس في الموسم روى النسائي عن جابر انه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر على الحج فاقبلنا معه حتى إذا كنا بالعرج ثوب «1» بالصبح فلما استوى للتكبير سمع الرغوة خلف ظهره ووقف عن التكبير فقال هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء لقد بد الرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج فلعله ان يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلى معه فاذا على عليها فقال له ابو بكر امير أم رسول قال لا بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة اقرأها على الناس في مواقف الحج «2» فقدمنا مكة فلما كان قبل يوم التروية بيوم قام ابو بكر فخطب الناس فحدثهم عن مناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على
__________
(1) تثويب الصلاة خير من النوم گفتن در أذان فجر 12.
(2) عن عروة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الناس سنة تسع وكتب سنن الحج وبعث معه على بن ابى طالب بآيات من براءة فامره ان يوذن بمكة وبمنى وبعرفات والمشاعر كلها بانه بريت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك حج بعد العام او طاف بالبيت عريانا وأجل من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد اربعة أشهر رسار على راحلة والناس كلهم يقرأ عليهم القران براءة من الله ورسوله وقرأ عليهم يا بنى آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد واخرج الترمذي عن انس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم ببراءة مع ابى ثم دعاه فقال لا ينبغى لاحد ان يبلغ هذا الا رجل من أهلي فدعا عليا فاعطاه إياها وعن سعد بن ابى قاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة الى اهل مكة ثم بعث عليا على اثره فاخذنا منه وقال ابو بكر وجد في نفسه قال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لا يودى عنى الا انا او رجل منى 12.(4/136)
الناس براءة حتى ختمها ثم خرجنا معه حتى إذا كان يوم عرفة قام ابو بكر فخطب الناس فعلمهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها ثم كان يوم النحر فافضنا فلما رجع ابو بكر خطب الناس فحدثهم عن إفاضتهم وعن نحرهم وعن مناسكهم فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها فلما كان يوم النفر الاول قام ابو بكر فخطب الناس فحدثهم كيف ينفرون وكيف يرمون يعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام على فقرأ على الناس براءة حتى ختمها قال البغوي بعث أبا بكر تلك السنة أميرا على الموسم ثم بعث بعده عليا على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر سورة براءة وامره ان يوذن بمكة ومنى وعرفات ان قد برئت ذمة الله وذمة رسوله من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فرجع ابو بكر فقال يا رسول الله بابى أنت وأمي اانزل في شانى شىء قال لا ولكن لا ينبغى لاحد ان يبلغ هذا الا رجل من أهلي اما ترضى يا أبا بكر انك كنت معى في الغار وانك صاحبى على حوضى قال بلى يا رسول الله فسار ابو بكر رضى الله عنه أميرا على الحج وعلى رضى الله عنه ليؤذن براءة فلما كان قبل يوم التروية بيوم خطب ابو بكر الناس وورثهم عن مناسكهم واقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من الحج حتى إذا كان يوم النحر قام على ابن ابى طالب رضى الله عنه فاذن في الناس بالذي امر وقرأ عليهم سورة براءة «1» وقال زيد ابن تبغ سالنا عليا باى شىء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو الى مدته ومن لم يكن له مدة فاجله اربعة أشهر ولا يدخل الجنة الا نفس مومنة ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا روى الشيخان في الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن عن ابى هريرة قال بعثني ابو بكر رضى الله عنه في تلك الحجة في مؤذنى يوم النحر يؤذن بمنى الا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال حميد بن عبد الرحمن ثم اردف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا فامره ان يؤذن ببراءة قال ابو هريرة فاذن معنا على في اهل منى يوم النحر لا يحج بعد
__________
(1) واخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر وامره ان يناوى بهؤلاء الكلمات ثم اتبعه عليا وامره ان يناوى بهؤلاء الكلمات فانطلقا فحجا فقام على في ايام التشريق فنادى ان الله برى من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض اربعة أشهر ولا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريانا ولا يدخل الجنة الا مومن فكان على ينادى فاذا عيى قام ابو بكر فناوى بها 12(4/137)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان- (فائدة) هذه القصة صريح في ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعزل أبا بكر عن امارة الحج وانما بعث عليا ينادى بهذه الآيات وكان السبب في هذا ان العرب تعارفوا فيما بينهم في عقد العقود ونقضها ان لا يتولى ذلك الا سيدهم او رجل من رهط فبعث عليا ازاحة للعلة لئلا يقولوا هذا خلاف ما نعرفه فينا في نقص العهود وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا ينبغى لاحد ان يبلغ هذا الا رجل من أهلي اخرج هذا اللفظ احمد والترمذي وحسنه من حديث انس رضى الله عنه وما ذكرنا من القصة بعضها في سند احمد وبعضها في الدلائل للبيهقى من حديث ابن عباس وبعضها في تفسير ابن مردوية من حديث ابى سعيد الخدري وغيره رضى الله عنهم فَإِنْ تُبْتُمْ رجعتم من الكفر وأسلمتم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فى الدنيا والآخرة من كل شىء وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة والإسلام فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا وتقدير الكلام وان توليتم يعذبكم الله في الدنيا والآخرة لانكم غير معجزيه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) بالقتل والاسر في الدنيا وبالنار في الآخرة.
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من عهدهم الذين عاهدتموهم عليه وَلَمْ يُظاهِرُوا اى لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم قال البغوي هم بنو حمزة من بنى كنانة وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وهم لم ينقضوا العهد فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ اى الى تمام مدتهم الذي عاهدتموهم عليه ولا تجروهم مجرى الناكثين ولا مجرى من لا عهد بينكم وبينهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) تعليل وتنبيه على ان إتمام عهدهم من باب التقوى قوله تعالى الا الذين عاهدتم إلخ استثناء من المشركين بمعنى الاستدراك كانه قيل انما أمرتم بنبذ العهد الى الناكثين او بقتال من لا عهد بينكم وبينهم من المشركين لا بقتال المعاهدين مدة معلومة او مؤيدة غير ناكثين.(4/138)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
فَإِذَا انْسَلَخَ اى انقضى واصل الانسلاخ خروج الشيء مما هو لابسه من سلخ الشاة الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ قال مجاهد وابن إسحاق هى شهور العهد فمن كان له عهد فعهده اربعة أشهر ومن لا عهد له فاجله الى انقضاء المحرم خمسين يوما وقيل لها حرم لان الله حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم فان قيل هذا القدر بعض الأشهر الحرم والله تعالى يقول فاذا انسلخ الأشهر قيل لما كان هذا القدر متصلا بما مضى اطلق عليه اسم الجميع ومعناه مضت المدة المعلومة المضروبة التي يكون مع انسلاخ الأشهر الحرم ولا يخفى ما فيه من التكلف والظاهر ما قلنا ان المعنى إذا انسلخ الأشهر الحرم من كل سنة فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ غير من عوهدوا ولم ينقضوا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال اكثر المفسرين في تفسيره في حل او حرم وهذا يناقض قوله صلى الله عليه وسلم ان هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله الى يوم القيامة وانه لم يحل القتال لاحد قبلى ولا يحل لى الا ساعة من النهار وقوله صلى الله عليه وسلم فان أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له ان الله قد اذن رسوله ولم يأذن لكم وانما اذن لى فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس والحديثان في الصحيحين وقد ذكرناهما من قبل وقوله عليه السلام الى يوم القيامة يمنع كونه منسوخا فالاولى ان يقال عموم الامكنة المفهوم من هذه الآية مخصوص بما سوى الحرم- (مسئله) القتال في الحرم والأشهر الحرام يحل ان بدأ المشركون بالقتال لقوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الآية وقد ذكرنا في سورة البقرة وَخُذُوهُمْ اى اسروهم والأخيذ الأسير وَاحْصُرُوهُمْ قال ابن عباس يريد ان تحصنوا فاحصروهم اى امنعوهم من الخروج حتى يضطروا الى القتل او الإسلام او قبول الجزية وقيل امنعوهم دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ على كل طريق والمرصد الموضع الذي يرصد فيه العدو من رصدت الشيء ارصده إذا ترقبته يريد كونوا لهم رصدا لتاخذوهم من كل وجه توجهوا ولا تتركوهم ينبسطوا في البلاد ويدخلوا مكة(4/139)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
فَإِنْ تابُوا من الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ يعنى قبلوا اقام الصلاة وإيتاء الزكوة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن تاب رَحِيمٌ (5) قال الحسن ابن فضيل هذه الآية نسخت كل اية في القران فيها ذكر الاعراض والصبر على أذى الأعداء.
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين امرتك بقتالهم وقتلهم أحد مرفوع بفعل مضمر يفسره اسْتَجارَكَ استامنك وطلب منك جوارك فَأَجِرْهُ فامنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره فيظهر له صدقك باعجازه ويعلم ما له وما عليه من الثواب ومن العقاب ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ اى موضع امنه ودار قومه ان لم يسلم فان قاتلك بعد ذلك فقاتله واقتله ان قدرت عليه ذلِكَ الا من او الأمر بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) الحق من الباطل فلا بد لهم من سماع كلام الله تعالى حتى يعلموا قال الحسن هذه الآية محكمة الى يوم القيامة.
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ لا خبر يكون كيف وقدم للاستفهام او للمشركين او عند الله وهو على الأولين صفة للعهد او ظرف له او ليكون وكيف على الآخرين حال من العهد وللمشركين ان لم يكن خبرا فتبين والاستفهام للانكار والاستبعاد على وجه التعجيب استبعاد لان يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع كمال عنادهم وفسقهم او لان يفى الله ورسوله عهدهم وهم ينكثون إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ محله النصب على الاستثناء او الجر على البدل وجاز ان يكون الاستثناء منقطعا إن كان المراد بالمشركين الناكثين منهم اى ولكن الذين عدهدتم منهم عند المسجد الحرام فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على الوفاء وما يحتمل الشرطية والمصدرية قال ابن عباس المراد بالدين عاهدتم عند المسجد الحرام قريش وقال قتادة هم اهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية امر الله رسوله بالتبرص في أمرهم ان استقاموا على العهد يستقام لهم على الوفاء فلم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بنى بكر على خزاعة فغزا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة ثم جعل لهم الامان وضرب لهم بعد الفتح اربعة(4/140)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
أشهر يختارون من أمرهم ما شاؤا الا ان يسلموا واما ان يلحقوا باى بلاد شاؤا فاسلموا قبل الاربعة الأشهر وقال السدى والكلبي وابن إسحاق هم من قبايل بكر بنو خزيمة وبنو مدلج وهو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية فلم يكن نقض الا قريش وبنو الديل من بنى بكر فامر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة قال البغوي هذا القول اقرب للصواب لان هذه الآية نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكة فكيف يقول بشئ قد مضى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم فانما هم الذين قال الله عز وجل الا للذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا كما نقضكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحدا كما ظاهرت قريش بنو بكر على خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) والاستقامة على إيفاء العهد من التقوى.
كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد او بقاء حكم إيفاء عهدهم مع التنبيه على علة الاستبعاد وحذف الفعل للعلم به يعنى كيف يكون لهم عهد وحالهم انه وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ اى يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا اى لا يحفظوا وقال الضحاك لا ينظروا وقال قطرب لا يراعوا فِيكُمْ إِلًّا قال قتادة حلفا وقال ابن عباس والضحاك قرابة وقال يمان رحما وقال السدى هو العهد وكذلك الذمة الا انه كرر لاختلاف اللفظين وقيل ربوبيته قال بيضاوى لعله اشتق للحلف من الال وهو الجوار لانهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم وشهروه ثم استعير للقرابة لانها تعقد بين الأقارب ما لا يعقد الحلف ثم لربوبيته ولتربيته وقيل اشتقاقه من ال الشيء إذا حدده أو أل البرق إذا لمع وقال ابو مجيز ومجاهد الال هو الله لفظ عبرى وكان عبيد بن عمير يقرأ جبرال بالتشديد يعنى عبد الله وفي الخبران ناسا قدموا على ابى بكر من قوم مسيلمة الكذاب فاستقرأهم ابو بكر كتاب مسيلمة فقرؤا فقال ابو بكر رضى الله عنه ان هذا الكلام لم يخرج من ال يعنى الله عز وجل والدليل على هذا التأويل قرأة عكرمة لا يرقبون في مؤمن الا يعنى الله عز وجل مثل جبرئيل وميكائيل وفي القاموس الال بالكسر العهد والحلف والجار والقرابة والأصل الجيد والمعدن والحقد والعداوة والربوبية(4/141)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
واسم الله تعالى وكل اسم آخره ال أو إيل فمضاف الى الله تعالى والوحى والامان والجزع عند المصيبة وَلا ذِمَّةً عهدا او حقا يعاب على إغفاله يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ اى يقولون أقوالا موجبة مرضائكم نفاقا وتقية من الوعد بالايمان والطاعة ووفاء العهد وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ما يتفوهون به ويستبطنون الكفر والمعاداة بحيث ان ظفروا خالفوا ما تفوهوا به جملة يرضونكم مستانفه لبيان أحوالهم المنافية لثباتهم على العهد المقتضية لعدم مراقبتهم عند الظفر ولا يجوز جعله حالا من فاعل لا يرقبوا فانهم بعد ظهورهم لا يرضون المؤمنين وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) المراد بالفسق هاهنا نقض العهد وكان بعض المشركين يوفون العهود ويستنكفون من نقضها ولذلك خصص الفسق بأكثرهم دون كلهم.
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ استبدلوا بالقرآن ثَمَناً قَلِيلًا عوضا يسيرا من اعراض الدنيا قال البغوي ذلك انهم نقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم باكلة أطعمهم ابو سفيان قال مجاهد اطعم ابو سفيان حلفاؤه فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ يعنى منعوا الناس من الدخول في دين الله والفاء للدلالة على ان اشترائهم أداهم الى الصد قال ابن عباس وذلك ان اهل الطائف امددهم بالأموال ليقووا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) اى عملهم هذا وما دل عليه قوله.
لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً فهو تفسير لقوله ما كانوا يعملون لا تكرير وقيل الاول عام في المنافقين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود والاعراب الذين جمعهم ابو سفيان وأطعمهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) المجاوزون عن الحد في الشرارة.
فَإِنْ تابُوا عن الشرك وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ اى فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم وَنُفَصِّلُ الْآياتِ تنبيها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) اعتراض للحث على تأمل ما فصل من احكام المعاهدين والتائبين قال ابن عباس حرمت هذه الاية دماء اهل القبلة وقال ابن مسعود أمرتم بالصلوة والزكوة فمن لم يزك فلا صلوة له روى البخاري وغيره عن ابى هريرة قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابو بكر وكفر من كفر من العرب(4/142)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
فقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فمن قالها فقد عصم منى ماله ونفسه الا بحقه وحسابه على الله فقال ابو بكر والله لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكوة فان الزكوة حق المال والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فو الله ما هو الا ان قد شرح الله صدر ابى بكر فعرفت انه الحق وعن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى صلوتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله رواه البخاري وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكوة فاذا فعلوا ذلك عصم منى دمائهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على الله الا ان مسلما لم يذكر وحسابهم على الله.
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ اى نقضوا عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ كما نكث كفار قريش وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بالتكذيب وتقبيح الاحكام قال البغوي هذا دليل على ان الذي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد قلت وهذا الاستدلال ضعيف فان الشرط مجموع الامرين نقض العهد والطعن في الدين فلا يترتب الحكم على أحدهما فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ قرأ الكوفيون وابن عامر بهمزتين محققتين حيث وقع وفي رواية عن هشام انه ادخل بينهما الفا والباقون بهمزة وياء مختلسة الكسرة من غير مد وضع أئمة الكفر موضع الضمير والمعنى فقاتلوهم للدلالة على انهم صاروا بذلك ذوى الرياسة والتقدم في الكفر احقا بالقتل وقيل المراد بأئمة الكفر رؤس المشركين وقادتهم وهم اهل مكة ووجه تخصيصهم بالذكر اما ان قتلهم أهم وهم أحق به او للمنع عن مراقبتهم قال ابن عباس نزلت في ابى سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو عكرمة بن ابى جهل وسائر روساء قريش يومئذ الذين نقضوا العهد وهم الذين هموا بإخراج أهلها بعد إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ اى لا عهود لهم جمع يمين يعنى لا يجب عليكم وفاء عهودهم بعد ما نكثوا وقال قطرب لا وفاء لهم بالعهد وقرأ لا ايمان لهم بكسرة الهمزة اى(4/143)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
لا تصديق لهم ولا دين لهم وقيل هو من الامان اى لا تؤمنوا هم بل اقتلوهم حيث وجدتموهم لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) متعلق بقاتلوا وجملة انهم لا ايمان لهم معترضة بينهما اى ليكن غرضكم في المقاتلة ان ينتهوا عما هم عليه من الشرك والمعاصي لا إيصال الاذية بهم كما هو طريقة الموذين ولا إحراز المال والملك كما هو داب السلاطين ثم حث المسلمين على القتال فقال.
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ يعنى نقضوا عهودهم وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ قيل المراد به اليهود وغيرهم من المنافقين وكفار المدينة نكثوا عهودهم حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك وهوا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من المدينة حيث قالوا لعنهم الله ليخرجن الأعز منها الأذل وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالمعاداة حيث عاونوا المشركين عليه أَوَّلَ مَرَّةٍ قبل ان يقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا اظهر لان السورة نزلت بعد غروة تبوك وقد اسلم اهل مكة قبل ذلك وايضا هموا بإخراج الرسول يدل على انهم هموا بذلك ولم ينالوا به بخلاف اهل مكة فانهم هموا قتله واضطروه الى الخروج فاخرجوا كما قال الله تعالى وإخراج اهله منه اكبر عند الله وقال بعض المفسرين المراد بالذين نكثوا ايمانهم الذين نقضوا صلح الحديبية وأعانوا بنى بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة وهم بدأوكم بالقتال أول مرة لانه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعوة والزام الحجة بالكتاب والتحدي به فعدلوا عن معارصته الى المعاداة والمقاتلة حتى اجتمعوا في دار الندوة واجمعوا على قتله او لان أبا جهل قال يوم بدر بعد ما سلم العير لا ننصرف حتى نستاصل محمدا وأصحابه او لانهم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التأويل لا يتصور الا إذا كان نزول هذه الآيات قبل فتح مكة وحينئذ يستقيم ما قال ابن عباس ان قوله تعالى وان نكثوا ايمانهم وطعنوا في دينكم نزلت في ابى سفيان وغيره المذكورين من قبل وقوله تعالى الا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا المراد به قريش امر الله رسوله بالتربص في أمرهم ان استقاموا على العهد يستقام لهم لكنهم لم يستقيموا والله اعلم أَتَخْشَوْنَهُمْ أتتركون قتالهم خشية ان ينالكم مكروه منهم استفهام للانكار يعنى(4/144)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
لا ينبغى ذلك فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فى ترك امتثال امره فى قتال أعداءه والفاء للسببية فان كون الله تعالى أحق ان يخشى سبب للانكار على الخشية من غيره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) شرط استغنى عن الجزاء بما مضى يعنى ان كنتم مؤمنين فلا تخشوا الا الله فان مقتضى الايمان هذا لان من يعتقد ان خالق الأشياء الجواهر والاعراض وافعال العباد ليس الا الله وان أحدا لا يستطيع النفع والضرر الا بمشية الله تعالى وإرادته لا يخشى أحدا غيره تعالى ثم لما وبخهم على ترك القتال جرد لهم الأمر به فقال.
قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ قتلا وَيُخْزِهِمْ ويذلهم اسرار وقهرا وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وعد لهم بالنصر والتمكن من قتل أعدائهم وإذلالهم وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ يعنى كربها ووجدها بمعونة قريش بنى بكر عليهم اخرج ابو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بنى بكر بمكة واخرج عن عكرمة قال نزلت هذه الآية فى خزاعة واخرج عن السدى ويشف صدور قوم مؤمنين قال هم خزاعة خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشف صدورهم من بنى بكر وفي الآية معجزات وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ابتداء اخبار بان بعضهم يتوب عن كفره وكان ذلك ايضا معجزة وقد هدى الى الإسلام كثيرا من قريش مثل ابى سفيان وعكرمة بن ابى جهل وسهيل بن عمر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما كان وما يكون حَكِيمٌ (15) لا بفعل الا بمقتضى الحكمة قال البغوي روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح ارفعوا لا خزاعة من بنى بكر الى العصر.
أَمْ حَسِبْتُمْ خطاب للمومنين حين كره بعضهم القتال وقيل المنافقين وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة والاستفهام للتوبيخ على الحسبان أَنْ تُتْرَكُوا فلا تومروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ يعنى لم يتحقق منكم من جاهد في سبيل الله نفى العلم وأراد نفى المعلوم للمبالغة فانه كالبرهان عليه من حيث ان تعلق العلم به مستلزم لوقوعه او على طريق ذكر اللازم وارادة الملزوم فان وقوع شيء لا يمكن ان يتخلف من علم الله تعالى به وَلَمْ يَتَّخِذُوا(4/145)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
عطف على جاهدوا يعنى ولما يعلم الله الذين لم يتخذوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم وفي لما اشارة الى توقع وجود المجاهدين المخلصين في امة محمد صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال من أمتي امة قائمة بامر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي امر الله وهم على ذلك متفق عليه من حديث معاوية وروى ابن ماجة بسند صحيح عن ابى هريرة نحوها والحاكم وصححه عن عمر بلفظ لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقوم الساعة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) فيه دفع لما يتوهم من ظاهر قوله تعالى ولما يعلم الله قال البغوي قال ابن عباس لما اسر العباس يوم بدر غيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم واغلظ علىّ القول فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا فقال ... على الكم محاسن قال نعم انا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحاج فانزل الله تعالى ردا على العباس.
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ الآية أخرجه ابن جرير وابو الشيخ عن الضحاك واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم من طريق على بن ابى طلحة عنه بلفظ قال العباس ان كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ولقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقى الحاج ونفك العاني فانزل الله تعالى هذه الآية يعنى ما صح للمشركين وما ينبغى لهم أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ «1» يعنى شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام فانه يجب على المسلمين منهم من ذلك لان مساجد الله انما يعمر لعبادة الله وحده فمن كان كافرا بالله فليس من شانه ان يعمرها فذهب جماعة الى ان المراد منه العمارة المعروفة من بناء المسجد ومرمته عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو اوصى به لا ينفذ وحمل بعضهم العمارة هاهنا على دخول المسجد والقعود فيه اخرج احمد والترمذي وابن حبان والحاكم عن ابى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رايتم الرجل بعامر المسجد فاشهدوا له بالايمان قال الله تعالى انما يعمر مساجد الله من أمن بالله وقال الحسن ما كان للمشركين ان يتركوا فيكونوا اهل المسجد الحرام قرأ ابن كثير وابو عمر ويعقوب مسجد الله على التوحيد
__________
(1) عن عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنسة 12.(4/146)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
والمراد الجنس وقيل أراد به المسجد الحرام لقوله وعمارة المسجد الحرام ولقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام وذلك هو المراد بصيغة الجمع قال الحسن انما قال مساجد الله لانه قبلة المساجد كلها فكان عمارته عمارة الجميع وقال القراء ربما ذهبت العرب بالواحد الى الجمع وبالجمع الى الواحد الا ترى ان الرجل يركب البرذون ويقول أخذت في ركوب البراذين ويقال فلان كثير الدرهم والدينار يريد الدراهم والدنانير شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ اى مظهرين الشرك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حال من ضمير يعمروا والمعنى ما استقام لهم ان يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله وعبادة غيره وقال الحسن لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر وقال الضحاك عن ابن عباس شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للاصنام وذلك ان كفار قريش نصبوا الأصنام خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طاقوا شوطا سجدوا لاصنامهم وقال السدى شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو ان النصراني يسال فيقال من أنت فيقول نصرانى واليهودي يقول يهودى ونحو ذلك أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها ويزعمونها محاسن من سقاية الحاج وعمارة البيت وفك العاني لانها ليست لله تعالى خالصا وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) لاجل الكفر والمعاصي وحبط الحسنات.
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ قف اى لم يخف في الدين غير الله ولم يترك امر الله مخافة غيره والا فالخشية من المخاوف امر جبلى لا يكاد العاقل يتمالك عنها خص الله سبحانه عمارة المسجد بالمؤمنين فانهم هم الجامعون لهذه الكمالات العلمية والعملية وانما لم يذكر الايمان بالرسول لان الايمان بالله كما ينبغى لا يتصور الا أخذا من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون ما الايمان بالله وحده قالوا الله رسوله اعلم قال شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله الحديث في الصحيحين عن ابن عباس في قصة وقد عبد القيس والمراد بعمارة المسجد ادامة العبادة والذكر فيه ودرس العلم والقرآن عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله(4/147)
صلى الله عليه وسلم إذا رايتم الرجل يعتاد المسجد وفى لفظ يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالايمان فان الله تعالى قال انما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي والبغوي وعن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من غدا الى مسجد او راح أعد الله له منزلة من الجنة كلما غدا أو راح متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل الا ظله وذكر فيهم رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود فيه متفق عليه وعن سلمان رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من توضاء في بيته فاحسن الوضوء ثم اتى المسجد فهو زائير الله حق على المزور ان يكرم زائيره رواه الطبراني وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيرهما والبيهقي في شعب الايمان وعن عمرو بن ميمون قال كان اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ان بيوت الله في الأرض المساجد وان حقا على الله ان يكرم من زاره فيما رواه البيهقي في شعب الايمان وعبد الرزاق وابن جرير في تفسيرهما ومن عمارة المسجد بنائها وتزيينها وتنويرها بالسرج وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا والبيع والشراء وغير ذلك عن محمود ابن لبيد ان عثمان بن عفان أراد بناء المسجد فكره الناس ذلك وأحبوا ان يدعه قال عثمان سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة وفي رواية بنى الله له كهيئته في الجنة وفي لفظ من بنى مسجدا ينبغى به وجه الله نبى الله له مثله في الجنة رواه احمد والشيخان في الصحيحين والترمذي وصححه وابن ماجة والبغوي وكذا روى ابن ماجة عن على وروى احمد عن ابن عباس بسند صحيح من بنى الله مسجدا ولو كقحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتا في الجنة والطبراني عن ابى امامة بسند صحيح من بنى الله مسجدا بنى الله له في الجنة أوسع منه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سمع رجلا ينشد ضانة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فان المساجد لم تبن لهذا رواه مسلم وعن عايشة قالت امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في الدور وان ينظف ويتطيب رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تناشد الاشعار في المسجد(4/148)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
وعن البيع والاشتراء فيه وان يتحلق الناس قبل الصلاة في المسجد رواه ابو داود والترمذي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رايتم من يبيع او يبتاع في المسجد فقولوا لا اربح الله تجارتك وإذا رايتم من ينشد ضالة فقولوا لا رد الله عليك رواه الترمذي والدارمي والله اعلم فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) المتمسكين بطاعة الله التي يؤدى الى الجنة ذكر بصيغة التوقع قطعا لاطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم في القطع بانهم مهتدون فان هؤلاء مع كمالهم إذا كان ابتدائهم دائرا بين عسى ولعل فما ظنك باضدادهم ومنعا
للمومنين بان يغتروا بأعمالهم ويتكلوا عليها اخرج ابو نعيم عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تبارك وتعالى اوحى الى بنى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا انا أصيب عبد الحساب يوم القيامة أشاء أعذبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك ان لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي والله اعلم اخرج مسلم وابن حبان وابو داود عن النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم ما أبالي ان لا اعمل الله عملا بعد الإسلام الا ان أسقي الحاج وقال آخر بل عمارة المسجد الحرام وقال آخر بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فانزل الله تعالى.
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية واخرج الفريابي عن ابن سيرين قال قدم على بن ابى طالب مكة فقال للعباس اى عم الا تهاجر الا تلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اعمر المسجد الحرام واحجب البيت فانزل الله تعالى هذه الآية قال البغوي قال ابن عباس قال العباس حين اسر يوم بدر لئن سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقى الحاج فانزل الله تعالى هذه الآية واخبر ان عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله(4/149)
والايمان بالله والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم خير مما هم عليه وقال البغوي قال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وكذا اخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي انها نزلت في على بن ابى طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن شيبة افتخروا فقال طلحة انا صاحب البيت بيدي مفاتيحه وقال العباس انا صاحب السقاية والقائم عليها وقال على ما أدرى ما يقولون لقد صليت الى القبلة ستة سنة يعنى قبل الناس وانا صاحب الجهاد فانزل الله أجعلتم سقاية الحاج وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
السقاية والعمارة مصدر ان من أسقي وعمر فلا بد هاهنا من تقدير ما يقال بحذف المضاف في المشبه او في المشبه به فيقال أجعلتم اهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن أمن او يقال أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كايمان من أمن بالله وجهاد من جاهدوا ما ان يقال المصدر بمعنى الفاعل يعنى ساقى الحاج وعامر المسجد الحرام كقوله تعالى والعاقبة للتقوى يويده قراءة عبد الله بن الزبير أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام ...
على جمع الساقي والعامر والاستفهام للانكار فان كان نزول الآية في اختلاف المؤمنين بالمشركين كما يدل عليه قول ابن عباس ومحمد بن كعب وغيرهما فلا خفاء في انكار المشابهة بين المشركين وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة وإن كان نزولها في اختلاف المؤمنين كما روى مسلم عن النعمان بن بشير فالمراد بعمارة المسجد بنائها دون ادامة الذكر والصلاة فيها فان دوام الذكر أفضل من الجهاد لقوله صلى الله عليه وسلم ما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله رواه مالك والترمذي وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل ورواه البيهقي في الدعوات الكبير من حديث عبد الله بن عمر وزاد قالوا ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله الا ان يضرب بسيفه حتى ينقطع وقوله صلى الله عليه وسلم الا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وارفعها في درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله رواه احمد والترمذي(4/150)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
وابن ماجه عن ابى الدرداء ورواه مالك موقوفا على ابى الدرداء وعن ابى سعيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل اى العباد أفضل وارفع درجة عند الله يوم القيامة قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات قيل يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله قال لو ضرب بسيفه في الكفار حتى ينكسر او يختضب دما فان الذاكر لله أفضل منه درجة رواه احمد والترمذي وقال حديث غريب والله اعلم لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ تقرير لعدم المشابهة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) هذا يؤيد قول من قال ان المراد عدم الاستواء بين فعل المؤمنين من الايمان والجهاد وفعل المشركين من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام والمعنى والله لا يهدى القوم الظالمين بالشرك فكيف يساوون الذين هديهم الله ووفقهم للحق والصواب وقيل المراد بالظلمين الذين يحكمون بالمساواة بينهم وبين المؤمنين والله اعلم (قصّه استقاء من زمزم) روى البخاري وغيره عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الى السقاية فاستسقى فقال العباس يا فضل اذهب الى أمك فان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني فقال يا رسول الله انهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم اتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها فقال اعملوا فانكم على عمل صالح ثم قال لولا ان تغلبوا لنزلت حتى اصنع الحبل على هذه وأشار الى عاتقه وروى مسلم عن بكر بن عبد الله المزني قال كنت جالسا مع ابن عباس رضى الله عنهما عند الكعبة فاتاه أعرابي فقال مالى ارى بنى عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ امن حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس رضى الله عنهما الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه اسامة فقال أحسنتم واجملتم كذا فاضعوا فلا نريد نغير ما امر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً أعلى رتبته واكثر كرامة عِنْدَ اللَّهِ من الذين افتخروا بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج او من لم يستجمع هذه الصفات من المؤمنين(4/151)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) الناجون من النار الواصلون الى الجنة والدرجات العلى دون المشركين وان كانوا سقاة الحاج وعمار المسجد.
يُبَشِّرُهُمْ قرأ حمزة بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعل رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها اى في الجنات نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) دائم تنكير المبشر به للاشعار بانه وراء التعيين والتعريف.
خالِدِينَ فِيها أَبَداً أكد الخلود بالتابيد لانه قد يستعمل للمكث الطويل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يستحقر دونه ما استوجبوا لاجله او نعم الدنيا والله اعلم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ قال البغوي قال مجاهد هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس لما امر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة فمنهم من تعلق به اهله وولده يقولون ننشدك بالله ان يقنعنا فيرق عليهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فانزل الله تعالى هذه الآية وقال مقاتل نزلت في التسعة الذين ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن ولايتهم وانزل هذه الآية يعنى لا تتخذوهم اولياء بطانة وأصدقاء فتفشون إليهم اسراركم وتوثرون المقام معهم على الهجرة ان استحبوا اى اختار والكفر على الايمان كذا روى الثعلبي عنه وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فيطلعهم على عورات المسلمين ويؤثرون المقام ... معهم على الهجرة والجهاد فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) لوضعهم الموالاة في غير موضعه فان محل موالاة المسلمين المسلمون قال البغوي لما نزلت الآية المذكورة قال الذين اسلموا ولم يهاجروا ان نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا فنزلت.
قُلْ يا محمد للمتخلفين عن الهجرة إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ قرأ ابو بكر عن عاصم وعشيراتكم بالألف على الجمع والباقون بلا الف يعنى اقربائكم ماخوذ من العشرة وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اى اكسبتموها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها اى فوت وقت رواجها ونفاقها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ(4/152)
مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ
فقعدتم لاجله عن الهجرة والجهاد فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ جواب ووعيد قال عطاء بقضائه يعنى بالعقوبة العاجلة والاجلة وقال مجاهد ومقاتل بفتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) الخارجين عن طاعة الله تعالى اى لا يرشدهم قال البيضاوي المراد الحب الاختياري يعنى إيثار هذه الأشياء وترك امتثال أوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم دون الحب الطبيعي فانه لا يدخل تحت التكليف والتحفظ عنه قلت وكمال الايمان ان يكون الطبيعة تابعة للشريعة فلا يقتضى الطبيعة الا ما يأمره الشريعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لله وابغض لله واعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان وفي رواية فقد استكمل إيمانه رواه ابو داود عن ابى امامة والترمذي عن معاذ بن انس مع تقديم وتأخير وفي الصحيحين عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى أكون أحب اليه من والده وولده والناس أجمعين والمراد لا يومن ايمانا كاملا وفيهما عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت من كن فيه وجد بهن حلاوة الايمان من كان الله ورسوله أحب اليه مما سواهما ومن أحب عبدا لا يحب الا لله ومن يكره ان يعود في الكفر بعد ان أنقذه الله منه كما يكره ان يلقى في النار قلت وجدان حلاوة الايمان عبارة عن الاستلذاذ به كما يستلذذ الرجل بالشهوات الطبيعية وذلك كمال الايمان ولا يكتسب ذلك الا من مصاحبة ارباب القلوب الصافية والنفوس الزاكية رزقنا الله سبحانه وهذه الآية وما ذكرنا من الأحاديث «1» يوجب افتراض اكتساب التصوف من خدمة المشايخ رضى الله عنهم أجمعين ومعنى قوله تعالى والله لا يهدى القوم الفاسقين يعنى لا يرشدهم الى معرفته قال البيضاوي في الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص عنه قلت ذلك القليل هو الصوفية العلية قال صاحب المدارك الآية تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين إذ تجد من
__________
(1) عن عبد الله بن هشام قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال والله لانت يا رسول الله أحب الىّ من كل شيء الا نفسى فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى أكون أحب اليه من نفسه 12.(4/153)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
أورع الناس من يستجب دينه على الآباء والأبناء والأموال وحظوظ الدنيا قلت الا من أعطاه الله معرفته فيقول ما قال الشاعر بالفارسية.
آنكس كه ترا شناخت جان را چهـ كند ... فرزند وعيال وخان ومان را چهـ كند
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى ... ديوانه تو هر دو جهانرا چهـ كند.
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يوم بدر وقينقاع والأحزاب والنضير او قريظة والحديبية وخيبر وفتح مكة وغيرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب مسيرة شهر وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف على مواطن اما بتقدير المضاف في المعطوف يعنى مواطن حنين او في المعطوف عليه يعنى في ايام مواطن كثيرة او يفسر المواطن بالأوقات كمقتل الحسين رضى الله عنه إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ كانوا اثنى عشر الفا او اربعة عشر الفا كما سيجئى في القصة والكفار اربعة آلاف كذا جزم غير واحد وجزم الحافظ وغيره بانهم كانوا ضعف عدد المسلمين او اكثر من ذلك فعلى هذا كان المشركون اربعة وعشرين الفا او ثمانية وعشرين الفا وقوله إذا أعجبتكم بدل من يوم حنين ولم يمنع إبداله منه ان يعطف على موضع في مواطن فانه لا يقتضى مشاركتهما فيما أضيف اليه المعطوف حتى يقتضى كثرتهم وإعجابهم كثرتهم في جميع المواطن وحنين واد بين مكة والطائف الى جنب ذى المجاز قريب من الطائف بينه وبين مكة بضع عشر ميلا حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن وهو قبيلة كبيرة من العرب فيها عدة بطون وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن غيلان بن الياس بن مضر وثقيف بطن منها (قصّة غزوة حنين) قال ائمة المغازي لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة مشت اشراف هوازن وثقيف بعضها الى بعض واشفقوا ان يغيروهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد فرغ لنا فلا ناحية «1» له دوننا والرأي ان نغزوه فاجمعوا أمركم فسيروا في الناس وسيروا اليه قبل ان يسير إليكم فاجتمعت هوازن وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النضري واسلم بعد ذلك واجتمع اليه مع هوازن ثقيف كلها
__________
(1) اى لا مانع 12.(4/154)
ونصر وجشم كلها وسعد بن بكر ناس من بنى هلال وهم قليل لا يبلغون مائة ولم يشهدها من قيس بن غيلان ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب مشى فيها ابن ابى براء فنهاها عن الحضور وقال والله لو ناوى اى عادى محمد ما بين المشرق والمغرب لظهر عليهم وكان في جشم دريد بن الصمة ابن ستين ومائة سنة او عشرين ومائة سألوا دريدا الرياسة عليهم لرايه قال ما ابصر ولا استمسك على الدابة ولكن احضر معكم لان أشير عليكم براى على ان لا تخالفوني فان تخالفوني لا اخرج فجاءه مالك بن عوف وكان امر الناس اليه وهو ابن ثلثين سنة فقال لا نخالفك فلما اجمع مالك المسير الى رسول الله صلى الله عليه وسلم امر الناس فخرجوا معهم باموالهم ونسائهم ثم انتهى الى أوطاس فعسكر به وجعلت الامداد تأتيه من كل جهة واقبل دريد بن الصمة فقال مالى اسمع بكاء الصغير ورغاء البعير ونهيق الحمير ويعار الشاء وخوار البقر قالوا ساق مالك مع الناس أبنائهم ونسائهم وأموالهم فقال دريد لمالك لم سقت قال أردت ان اجعل خلف كل انسان اهله وماله ...
يقاتل عنهم فقال دريد هذا راعى ضان ماله وللحرب وصفق دريد احدى يديه على الاخرى تعجبا هل يرد المنهزم شيء انها انكانت لك لم ينفعك الا رجل بسيفه ورمحه وانكانت عليك فضحت في أهلك ومالك ارفع النساء والذراري والأموال الى عليا قومهم وممتنع بلادهم ثم الق القوم على متون «1» الخيل والرجال فانكانت لك لحق بك من ورائك وإن كان عليك فقد أحرزت أهلك ومالك قال مالك لا افعلي قد كبرت وكبر عقلك فغضب دريد ثم قال دريد يا معشر هوازن ما فعلت كعب وكلاب قالوا ما شهد منهم أحد قال غاب الحد «2» والجد «3» لو كان يوم علاء ورفعة «4» ما تخلفوا عنه يا معشر هوازن ارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء قابوا عليه قال فمن شهدها منكم قالوا عمرو بن عامر وعوف بن عامر قال ذانك جذغان «5» من بنى عامر لا ينفعان ولا يقران قال لدريد هل من راى غير هذا قد امر القوم قال دريد نعم تجعل كمينا «6» يكونون لك عونا ان حمل القوم عليك جاءهم الكمين
__________
(1) متون جمع متن بمعنى الظهر 12.
(2) الحد بفتح الحاء المهملة المنع 12.
(3) الجد يكسر الجيم الشجاعة 12.
(4) عطف تفسير 12.
(5) يعنى انهمك ضعيفان في الحرب نزلة الجذع 12.
(6) اى الجيش المختفى 12. [.....](4/155)
من خلفهم وكررت أنت بمن معك وانكانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد فذلك حين امر مالك ان يكونوا كمنافى الشعاب وبطون الاودية فحملوا الحملة الاولى التي انهزم فيها اكثر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر هوازن وما عزموا عليه أراد التوجه الى قتالهم واستخلف عتاب بن أسيد أميرا على مكة وهو ابن عشرين سنة ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه وروى البخاري عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين أراد حنينا منزلنا غدا إنشاء الله بخيف بنى كنانة حيث تقاسموا على الكفر واستعار من صفوان بن امية ادرعا وسلاحا فقال أغصبا يا محمد أم عارية قال بل عارية ... مضمونة فاعطى له مائة درع بما يكفيهما من السلاح كذا روى ابن إسحاق عن جابر وابو داود واحمد عن امية بن صفوان قال السهيلي واستعار من نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلثة آلاف رمح فقال كانى انظر الى رماحك هذه في تقصف ظهر المشركين فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثنى عشر الف من المسلمين عشرة آلاف من اهل المدينة والفين من اهل مكة يوم السبت بست خلون من شوال سنة روى ابو الشيخ عن محمد بن عبيد الله الليثى كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من اهل المدينة عشرة آلاف اربعة آلاف من الأنصار ومن كل من جهينة ومزينة واسلم وغفار وأشجع الف ومن المهاجرين وغيرهم الف وقال عروة والزهري قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة باثنى عشر الف وأضيف إليهم الفان من الطلقاء فكانوا اربعة عشر الفا قال ابن عقبة ومحمد بن عمر لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى حنين خرج معه اهل مكة لم يغادر منهم أحدا ركبانا ومشاة حتى خرجن معه النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم ولا يكرهون ان يكون الصدمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معه ابو سفيان بن حرب وصفوان بن امية وكانت امرأته مسلمة وهو مشرك لم يفرق بينهما ومع النبي صلى الله عليه وسلم زوجتيه أم سلمة وميمونة ضربت لهما قبة روى ابن إسحاق والترمذي وصححه والنسائي وابن حبان عن الحارث بن مالك قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى حنين(4/156)
ونحن حديثوا عهد بالجاهلية وكانت لكفار قريش ومن سواهم شجرة عظيمة وعند الحاكم في الإكليل سدرة خضرا يقال لها ذات نواط «1» ياتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها ويعكفون عليها يوما قرابنا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضرا عظيمة فتنادينا يا رسول الله اجعل ذات نواط كما لهم ذات نواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله اكبر الله اكبر قلتم والذي نفسى بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا الها كما لهم الهة قال انكم قوم تجهلون انها لسنن لتركبن سنن من قبلكم حذوا لقده بالقذة وعن سهيل بن حنظلة رضى الله عنه قال جاء فارس فقال يا رسول الله طلعت جبل كذا وكذا فاذا هوازن جاءت عن بكرة أبيها «2» بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تلك غنيمة المسلمين إنشاء الله تعالى ثم قال من يحرسنا الليلة قال انس بن مالك ابى مرثد انا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاركب واستقبل هذا الشعب حتى تكون أعلاه ولا تغرن من قبلك فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فاذا هو قد جاء فقال انى انطلقت حتى كنت في أعلا هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبحت طلعت الشعبين كلاهما فنظرت فلم ار أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبت فلا عليك ان لا تعمل بعدها رواه ابو داود والنسائي وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حدرد ليكشف خبر هوازن فدخل فيهم فاقام فيهم يوما او يومين فسمع من مالك يقول لاصحابه ان محمدا لم يقاتل قوما قبل هذه المرة انما كان يلقى قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم فاذا
كان السحر فصفوا مواشيكم ونسائكم وأبنائكم من ورائكم ثم يكون الجملة منكم واكسروا جفون سيوفكم فتلقون بعشرين الف سيف مكسورة الجفون واحملوا حملة رجل واحد واعلموا ان الغلبة لمن حمل اولا كذا روى ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله وعمرو بن شعيب وعبد الله بن ابى بكر بن عمرو بن حزم وروى محمد بن عمر عن ابى بردة بن بيار قال كنا باوطاس
__________
(1) من ناط ينوط إذا علقة وكلما علق من شيء فهو نوط 12.
(2) عن بكرة أبيها بفتح الموحدة وسكون الكاف كلمة للعرب يريدون به الكثرة يعنى انهم جادا جميعا لم يتخلف منهم أحد وليس هذا البكرة على الحقيقة وهى التي يستقى عليها الماء 12.(4/157)
نزلنا تحت شجرة عظيمة نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وعنده رجل جالس فقال ان هذا الرجل جاءنى وانا نائم فسل سيفى ثم قام به على راسى فانتبهت وهو يقول يا محمد من يمنعك منى فقلت الله فسللت سيفى وقلت يا رسول الله دعنى اضرب عنق عدو الله فانه من عيون المشركين فقال لى اسكت يا با بردة فما قال له شيئا ولا عاقبه فقال يا أبا بردة ان الله مانعى وحافظى حتى يظهر دينه على الدين كله وروى ابو نعيم والبيهقي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى حنينا مساء الليلة الثلثاء لعشر خلون من شوال وبعث مالك بن عوف ثلثة من هوازن ينظرون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمرهم ان يتفرقوا في العسكر فرجعوا إليهم وقد تفرقت أوصالهم فقال ويلكم ما شانكم فقالوا رأينا رجالا بيضا على خيل بلق فو الله ما تماسكنا ان أصابنا ما ترى والله ما نقاتل اهل الأرض انما نقاتل اهل السماء وان اطعتنا رجعت بقومك فان الناس ان راوا مثل الذي راينا أصابهم مثل الذي أصابنا فقال أف لكم بل أنتم اجبن اهل العسكر فحبسهم عنده فرقا ان يشيع ذلك الرعب في العسكر وقال دلونى على رجل شجاع فاجمعوا له على رجل فخرج ثم رجع اليه وقد أصابه نحو ما أصاب من قبله منهم فقال مثل الذي قالت الثلاثة قال محمد بن عمر لما كان ثلثا الليل عمد مالك بن عوف الى أصحابه فعبّاهم «1» في وادي حنين وهو واد أخوف خطوطه ذو شعاب ومضائق وفرق الناس فيها وقال لهم ان يحملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حملة رجل واحد وعبّا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وصفهم صفوفا في السحر ووضع الالوية والرايات في أهلها وليس درعين والمغفر والبيضة واستقبل الصفوف وطاف عليها بعضها خلف بعض يتحدرون فحضهم على القتال وبشرهم بالفتح ان صدقوا وصبروا وقدم خالد بن وليد في بنى سليم واهل مكة وجعل ميمنة وميسرة وقلبا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه روى ابو الشيخ والحاكم وصححه والبزار وابن مردوية عن انس قال لما اجتمع يوم حنين اهل مكة واهل المدينة أعجبتهم كثرتهم فقال القوم اليوم والله نقاتل
__________
(1) عبّا تعبية اى رتبهم في مواضعهم وهياهم للحرب 12.(4/158)
ولفظ البزار قال غلام من الأنصار لن تغلب اليوم من قلة فما هو الا ان لاقينا عدونا فانهزم القوم وولوا مدبرين وفي روايته يونس بن بكر في زيادات المغازي كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا وما أعجبتهم كثرتهم وكذا روى ابن المنذر عن الحسن وذلك قوله تعالى إذ أعجبتكم كثرتكم فَلَمْ تُغْنِ اى الكثرة عَنْكُمْ شَيْئاً من الإغناء او من امر العدو وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ما مصدرية والباء بمعنى مع اى مع رحبها اى سعتها او المعنى ملتبسة برحبها على ان الجار والمجرور في موضع الحال كقولك دخلت عليه بثياب السفر اى ملتبسا بها يعنى ان الأرض مع سعتها لا تجدون فيها مقرا تطمئن اليه نفوسكم من شدة الرعب او لا تبوئون السفر اى ملتبسا بها يعنى ان الأرض مع سعتها لا تجدون فيها كمن لا يسعه مكانه ثُمَّ وَلَّيْتُمْ الكفار ظهوركم خطاب الى الذين انهزموا من المؤمنين مُدْبِرِينَ (25) منهزمين الأدبار الذهاب الى خلف ضد الإقبال روى ابن إسحاق واحمد وابن حبان عن جابر وابو يعلى ومحمد بن عمر عن انس قال جابر لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا من واد أخوف ذو خطوط له مضائق وشعب وقد كان القوم سبقونا الى الوادي فكمنوا في شعابه واخبانه ومضائقه وتهيئوا عدوا فو الله ما راينا ونحن منحطون الا الكثائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وكانوا رماة وقال انس استقبلنا من هوازن شيء لا والله ما رايت مثله في ذلك الزمان قط من الكثرة وله بسواد وقد ساقوا نسائهم وأبنائهم وأموالهم ثم صفوا صفوفا فجعلوا النساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال تم جاؤا بالإبل والبقر والغنم فجعلوها وراء ذلك لئلا يفروا بزعمهم فلما رائينا ذلك السواد حسبناه رجالا كلهم فلما انحدرنا من الوادي فبينا نحن فيه في غلس الصبح ان شعرنا الا بالكثائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشعبه فحملوا حملة رجل واحد فانكشف أوائل الخيل بنى سليم مولية وتبعهم اهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شيء وارتفع النقع فما منا أحد يبصر كفه قال جابر واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ثم قال ايها الناس هلم الى انا رسول الله انا محمد بن عبد الله(4/159)
روى البخاري وابن ابى شيبة وابن مردوية والبيهقي عن ابن إسحاق قال رجل للبراء بن عازب يا با عمارة أفررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه حسرا ليس عليهم كثير سلاح فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فاقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام كانها رجل جراد «1» ما يكادون يخطؤن واقبلوا هناك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته البيضاء وابو سفيان بن الحارث يقود به فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا واستنصر وقال انا النبي لا كذب انا ابن عبد المطلب وفى روايته قال البراء كنا إذا احمر البأس نتقى به وان الشجاع منا الذي يحاذيه يعنى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق لما انهزم الناس تكلم رجال في أنفسهم من الضغن «2» فقال ابو سفيان بن حرب وكان إسلامه بعد مدخولا لا ينتهى هزيمتهم دون البحر وان الأزلام لمعه في كنانة وصرح جبلة ابن الحنبل وقال ابن هشام كلدة بن الحنبل واسلم بعد ذلك وهو مع أخيه لامه صفوان بن امية وصفوان مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الا بطل السحر اليوم فقال له صفوان ان اسكت فو الله لان يرمينى رجل من قريش أحب الى من يرمينى رجل من هوازن روى ابن سعد وابن عساكر عن عبد المالك بن عبيد والطبراني والبيهقي وابن عساكر وابو نعيم عن عكرمة قالا قال شيبة بن عثمان لما كان عام الفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة وغزا حنينا قلت أسير مع قريش الى هوازن فعسى ان اختلطوا أصيب محمدا غرة وتذكرت ابى وقتله حمزة وعمى وقتله على ابن ابى طالب فقلت اليوم أدرك ثارى من محمد وأكون انا الذي قمت بثار قريش كلها وأقول لو لم يبق
من العرب والعجم الا اتبع محمدا ما تبعته ابدا فكنت مرصدا لما خرجت لا يزداد الأمر في نفسى الا قوة فلما انهزم أصحابه جئته من عن يمينه فاذا بالعباس قائم عليه درع بيضاء فقلت عمه لن يخذله فجئته عن يساره فاذا بابى سفيان بن الحارث فقلت ابن عمه لن يخذله فجئته من خلفه فلم
__________
(1) بكسر الراء وسكون الجيم الجماعة الكثيرة من الجراد خاصة وهو جمع على غير لفظ الواحد 12.
(2) اى الحقد يعنى كينه 12.(4/160)
يبق الا ان اسوّره سورة بالسيف إذا ارتفع الى فيما بينى وبينه شواظ من نار كانه يرق فخفت ان يتمخشنى «1» فوضعت على بصرى خوفا عليه ومشيت القهقرى وعلمت انه ممنوع فالتفت الى وقال يا شيبة ادن منى فدنوت منه فوضع يده على صدرى وقال اللهم اذهب عنه الشيطان فرفعت اليه راسى وهو أحب الىّ من سمعى وبصرى وقلبى ثم قال يا شيبة قاتل الكفار قال فتقدمت بين يديه أحب والله ان أقيه بنفسي كلشيء فلما انهزمت هوازن ورجع الى منزله دخلت عليه فقال الحمد لله الذي أراد بك خيرا ثم حدثنى بما هممت به صلى الله عليه وسلم وروى محمد بن عمر عن النضر بن الحارث كان يقول الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام ومنّ علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم نمت على ما مات عليه الآباء فذكر حديثا طويلا ثم قال خرجت مع قوم من قريش هم على دينهم بعد وابى سفيان بن حرب وسفيان بن امية وسهيل بن عمر ونحن نريد انكانت دبرة على محمد ان نغير عليه فيمن يغير عليه فلما تراءت الفئتان ونحن في خير المشركين حملت هوازن حملة واحدة ظننا ان المسلمين لا يجترونها ابدا ونحن معهم وانا أريد بمحمد ما أريد وعمدت له فاذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباؤ حوله رجال بيض الوجوه فاقبلت عامدا اليه فصاحوا بي إليك إليك فرعب فوادى وأرعدت جوارحى قلت هذا مثل يوم بدر ان الرجل لعلى حق انه لمعصوم وادخل الله قلبى الإسلام وغيّره عما كنت أهم به الحديث بطوله وروى محمد بن عمر عن ابى قتادة قال مضى سرعان الناس منهزمين حتى دخلوا مكة ساروا يوما وليلة يخبرون اهل مكة بهزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتاب بن أسيد يومئذ امير على مكة ومعه معاذ بن جبل فجاءهم امر غمهم وسرّ بذلك قوم من اهل مكة وأظهروا الشماتة وقال قائل منهم يرجع العرب الى دين آبائها وقد قتل محمد وتفرق أصحابه فتكلم عتاب بن أسيد يومئذ فقال ان قتل محمد صلى الله عليه وسلم فان دين الله قائم والذي يعبده محمد حى لا يموت فما امسوا من ذلك اليوم حتى جاء الخبر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقع هوازن فسر عتاب بن أسيد ومعاذ بن جبل رضى الله عنهما وكبت الله من......
هناك ممن كان يسر بخلاف ذلك فرجع المنهزمون الى رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أي يتخوفني.(4/161)
فلحقوه باوطاس وقد راحل منها الى الطائف (فائدة) قال انس رضى الله عنه بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وقال العباس فيما روى عنه مسلم وابن إسحاق وعبد الرزاق كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت انا وابو سفيان بن الحارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له شهباء فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلة قبل الكفار وانا أخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم اكفها ان لا يسرع وهو لا يألوا ما اسرع نحو المشركين وابو سفيان بن الحارث أخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أحاديث آخر انه بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة قال محمد بن يوسف الصالحي في الجمع بين الأقوال المراد انه بقي وحده متقدما مقبلا على العدو والذين ثبتوا كانوا وراءه والوحدة بالنسبة لمباشرة القتال وابو سفيان بن الحارث وعباس كانوا يخدمونه في إمساك البغلة ونحو ذلك واختلفوا في عدد الثابتين يوم حنين قال الكلبي كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس وروى البيهقي عن حارثة بن النعمان لقد حرزت من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أدبر الناس فقلت مائة وروى احمد والطبراني والحاكم وابو نعيم برجال ثقات عن ابن مسعود قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى الناس وثبت معه ثمانون رجلا من المهاجرين والأنصار فنكصنا على أعقابنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وروى البزار عن انس ان أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضى الله عنهم ضرب كل منهم بضعة عشر ضربة وروى ابن مردوية عن ابى عمر لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مأته رجلا ولا منافاة بين نفي المائة واثبات ثمانين قال محمد بن عمر ايقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحارثة بن النعمان حين انكشف عنه الناس يوم حنين يا حارثة كم ترى الناس الذين ثبتوا فنظرت عن يمينى وعن شمالى فقلت هم مأته فما علمت انهم مأته حتى كان يوم مررت على النبي صلى الله(4/162)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
عليه وسلم وهو يناجى جبرئيل عند باب المسجد فقال جبرئيل يا محمد من هذا قال حارثة بن النعمان فقال جبرئيل هو أحد المائة الصابرة يوم حنين لو سلمت لوددت عليه فاخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حارثة قال ما كنت أظن الا دحية الكلبي واقف معك وذكر النووي ان الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا ووقع في شعر العباس بن عبد المطلب ان الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط قوله
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وفر من قد فر عنه فاقشعوا
وعاشرنا لاقي الحمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجع
قال الصالحي قال الحافظ لعل هذا هو الا ثبت ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع فعد فيمن لم ينهزم وثبت اربع من النساء أم سليم بنت ملحان وأم عمارة نسيت وأم سليط وأم الحارث قال الله تعالى.
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ اى رحمته التي استقروا بها وأمنوا عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين انهزموا وانما ذكر الرسول لان السكينة انما نزلت على المنهزمين ببركة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم وبتوسطه نزلت على غيره وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حالهما وقيل المراد بالمؤمنين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفروا اخرج الطبراني والحاكم وابو نعيم والبيهقي في الدلايل عن ابن مسعود قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار فكنا على أقدامنا نحوا من ثمانين قدما ولم نولهم الدبر وهم الذين نزلت عليهم السكينة قال ابن عقبة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركابين وهو على البغلة فرفع يديه الى الله تعالى يقول اللهم انى أنشدك ما وعدتني اللهم لا ينبغى لهم ان يظهر علينا انتهى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس ناديا معشر الأنصار يا اصحاب السمرة يا اصحاب سورة البقرة قال العباس وكان رجلا ميتا فقلت يا على صوتى اين الأنصار اين اصحاب السمرة اين اصحاب سورة البقرة قال فو الله لكانما عطفتهم حين سمعوا صوتى عطفة البقر على أولادها وفي حديث عثمان بن ابى شيبة(4/163)
عند ابى القاسم البغوي والبيهقي يا عباس اصرخ بالمهاجرين بايعوا تحت الشجرة وبالأنصار اللذين آووا ونصروا قال فما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عطفة الإبل على أولادها حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانه في خرجة فلرماح الأنصار كانت أخوف عندى على رسول الله صلى الله عليه وسلم من رماح الكفار فقالوا يا لبيك يا لبيك الحديث وروى ابو يعلى والطبراني برجال ثقات عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم حنين كفا من حصى ابيض فرمى به وقال هزموا ورب الكعبة وكان على رضى الله عنه أشد الناس قتالا بين يديه وروى ابن سعد وابن ابى شيبة واحمد وابو داود والبغوي وغيرهم في حديث طويل عن ابى عبد الرحمن يزيد الفهري واسمه كرز ولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا ايها الناس انا عبد الله ورسوله فاقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه وحدثنى من كان اقرب اليه منى انه أخذ حفنة من تراب فخشاه في وجوه القوم وقال شاهت الوجوه قال يعلى بن عطاء أخبرنا أبنائهم عن آبائهم قالوا ما بقي منا أحد الا امتلأت عيناه وفمه من التراب وسمعناه صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست فهزمهم الله تعالى قال الله تعالى- وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها روى ابن ابى حاتم عن السدى الكبير قال هم الملئكة وروى ايضا عن سعيد بن جبير قال في يوم حنين أمد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملئكة مسومين وروى ابن إسحاق وابن المنذر وابن مردوية وابو نعيم والبيهقي عن جبير بن مطعم قال رايت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود اقبل من السماء حتى سقط بين القوم فنظرت فاذا نمل اسود قد ملا الوادي ثم أشك انها الملئكة ولم يكن الا هزيمة القوم وروى محمد بن عمر عن يحيى بن عبد الله عن شيوخ قومه من الأنصار قالوا رأينا يومئذ كالبجد الأسود هوت من السماء ركاما فنظرنا فاذا نمل مبثوث فان كنا لننفضه عن(4/164)
ثيابنا فكان نصر الله أيدنا به وروى مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال حدثنى رجل كان من المشركين يوم حنين قال التقينا اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلب شاة ان كفيناهم فبينا نحن نسوقهم في ادبارهم إذا التقينا صاحب البغلة فاذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية إذ بينا وبينه رجال بيض حسان الوجوه قالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا وكانت إياها وروى ابن مردوية والبيهقي وابن عساكر عن شيبة بن عثمان الحجبي قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ما خرجت إسلاما ولكن خرجت آنفا ان يظهر هوازن
على قريش فو الله انى لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قلت يا رسول الله انى لارى خيلا بلقا قال يا شيبة انه لا يراها الا كافر فضرب بيده على صدرى وقال اللهم اهد شيبة فعل ذلك ثلث مرات فو الله ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية حتى ما أجد من خلق أحب الى منه فالتقى المسلمون فقتل من قتل ثم اقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر آخذ باللجام والعباس أخذ بالثغر فنادى العباس اين المهاجرين اين اصحاب سورة البقرة بصوت عال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقبل المسلمون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول
انا النبي لا كذب ... انا ابن عبد المطلب
فجالدوهم بالسيوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن حمى «1» الوطيس وروى محمد بن عمر عن مالك بن أوس بن الحدثان قال حدثنى عدة من قومى شهدوا ذلك اليوم يقولون لقد رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية من الحصباء فما من أحد الا يشكوا القذى في عينه ولقد كنا نجذ في صدورنا خفقانا كوقع الحصا في الطساس ما يهدى ذلك الخفقان ولقد راينا يومئذ رجالا بيضا على خيل بلق عليها عمائم حمر قد أرخوها بين أكتافهم بين السماء والأرض كثائب كثائب اى لا يعقلون ما يليقون ...
... ولا تستطيع ان تتاملهم من الرعب منهم قال الله تعالى وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) روى ابن ابى حاتم عن السدى الكبير قال
__________
(1) حمى الوطيس هو شىء كالتنور يخبز فيه شبه شدة الحرب به وقيل حجارة مدورة إذا حميت منعت الوطي عليها فضرب مثلا للام يشتد 12.(4/165)
يعنى قتلهم بالسيف وروى البزار بسند رجاله ثقات عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين اجزروهم جزرا وأومى بيده الى الحلق وروى البيهقي عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال قتل من اهل الطائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر يعنى سبعين رجلا واستشهد بحنين ايمن ابن أم ايمن وسراقة بن الحارث ويتيم بن ثعلبة ويزيد بن زمعة وابو عامر الأشعري باوطاس كما سياتى وروى محمد بن عمر عن محمد بن عبد الله بن صعصعة ان سعد بن عبادة جعل يصيح يا للخررج ثلثا وأسيد بن حضير يا للاوس ثلثا فثابوا من كل ناحية كانهم النحل يأوي الى يعسوبها قال اهل المغازي فنحق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتى اسرع القتل في ذرارى المشركين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذرية الا لا تقتل الذرية فقال أسيد بن الخضير يا رسول الله أولاد المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم او ليس خياركم أولاد المشركين كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنهما لسانها فابواه يهودانها وينصرانها قال محمد بن عمر قال شيوخ ثقيف ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا في ما نرى حتى ان الرجل منا ليدخل حصين الطائف وانه ليظن انه على اثره من رعب الهزيمة قالوا اهزم الله تعالى أعدائه من كل ناحية واتبعهم المسلمون يقتلونهم وغنمهم الله نسائهم وذراريهم وفر مالك بن عوف حتى بلغ حصين الطائف هو وأناس من اشراف قوم وقال ابن إسحاق ومحمد بن عمر وغيرهما لما هزم الله هوازن أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف وعسكر بعضهم باوطاس وتوجه بعضهم نحور نخلة ولم يتتبع من سلك الثنايا وقتل ربيعة بن رفيع من بنى سليم دريد بن الصمة قال البغوي فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين انطلقوا حتى أتوا أوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأشعريين يقال له ابو عامر وامره على جيش الى أوطاس فسار إليهم فاقتتلوا وقتل الدريد بن الصمة وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيالهم وهرب مالك بن عوف النضري فاتى الطائف وتحصن بها وأخذ ماله(4/166)
واهله فيمن أخذ وقتل امير المسلمين ابو عامر واسلم عند ذلك ناس كثير من اهل مكة حين راوا فصر الله رسوله وإعزاز دينه ومما جمعت الغنائم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ينحدر الى جعرانة فوقف بها الى ان انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصار الطائف قال ابن سعد وتبعه في العيون كان السبي ستة آلاف راس والأهل اربعة وعشرون الف بعير والغنم اكثر من أربعين الف شاة واربعة آلاف اوقية فضة وروى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب قال سبى يومئذ ستة آلاف سبى بين امراة وغلام فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وقال البلاذري بديل بن ورقاء الخزاعي وقال ابن إسحاق جعل على المغانم مسعود بن عمر الغفاري قال ابن إسحاق ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريبا من الطائف فضرب عسكره واشرف ثقيف على حصنهم ولا مثل له في حصون العرب وأقاموا وهم مأته رام فرموا بالسهام والمقاطيع من بعد حصنهم ومن دخل تحت الحصين ولوا عليه بسكك الحديد محماة من النار تطير منها الشرر فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا كانه رجل جراد حتى أصيب ناس المسلمين بجراحة وقتل منهم اثنا عشر رجلا فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى موضع مسجده اليوم الذي بنته ثقيف بعد إسلامهم وقال عمرو بن امية الثقفي واسلم بعد ذلك لا يخرج الى محمد أحد إذا دعى أحدا من أصحابه الى البراز ودعوه يقيم ما اقام ثم اقبل خالد بن الوليد فنادى من يبارز فلم يطلع عليه أحد ثم دعا فلم ينزل اليه أحد فنادى عبد يا ليل لا ينزل إليك أحد ولكنا نقيم في حصننا خباءنا فيه ما يصلحنا لسنين فاذا أقمت حتى ذهب ذلك الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرمي وهم يقاتلونه بالرمي من وراء الحصين ولم
يخرج اليه أحد وكثرت الجراحات له من ثقيف بالنبل وقتل جماعة من المسلمين روى ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر فخرج من الحصن بضعة عشر رجلا فاعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال محمد بن عمر وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال سلمان الفارسي(4/167)
ارى ان تنصب المنجنيق فنصبه على حصين الطائف وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقطع أعنابهم وتخيلهم قال عروة امر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل من المسلمين ان يقطع خمس نخلات وخمس حيلات فقطع المسلمون قطعا ذريعا فنادت ثقيف لم تقطع أموالنا اما ان تأخذها ان ظهرت علينا واما ان تدعها لله وللرحم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانى ادعها لله وللرحم قال ابن إسحاق وبلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابى بكر انى رايت ان أهديت قعبة مملوءة زبدا فنظرها ديك فهراق ما فيها فقال ابو بكر ما أظن ان تدرك منهم يومك هذا ما تريد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ارى ذلك وروى محمد بن عمر عن ابى هريرة قال لما مضمت خمسة عشر من حصار الطائف استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الدئلي رضى الله عنه فقال يا نوفل ما ترى في المقام عليهم فقال يا رسول الله ثعلب في جحر ان أقمت عليه أخذته وان تركته لم يضرك وروى الشجال عن ابن عمر وعمر رضى الله عنهما قال لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف ولم ينل منه شيئا قال انا قافلون عذا إنشاء الله فثقل عليهم قالوا تذهب ولا نقبح فقال اغدوا فغدوا فقاتلوا قتالا شديدا فاصابهم جراح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا قافلون غدا إنشاء الله تعالى قال فاعجبهم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الصالحي انه استشهد من المسلمين بالطائف اثنا عشر رجلا روى البيهقي عن عروة امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لا يسرحوا ظهرهم فلما أصبحوا ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعا حين ركب قافلا اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم وروى الترمذي وحسنه عن جابر قالوا يا رسول الله احرفتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم فقال اللهم اهدهم ثقيفا وايت بهم قال ابن إسحاق في رواية حاصر اهل الطائف ثلثين ليلة او قريبا من ذلك وفي رواية بضعا وعشرين ليلة وقيل عشرين يوما وقيل بضع عشرة ليلة قال ابن حزم هو الصحيح بلا شك وروى احمد ومسلم وعن انس انهم حاصروا الطائف أربعين ليلة واستغربه في الهداية قال البغوي حاصرهم بقية الشهر يعنى شوال(4/168)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم قلت هذا يوافق ما قال ابن حزم وعلى هذا لا دلالة فيه على القتال في الشهر الحرام كما ذكر من ادعى نسخ حرمة القتال فيها فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجعرانة فاحرم منها بعمرة قال الله تعالى.
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ ان يهديه الى الإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكر عن ابن عمر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وهم اربعة عشر رجلا ورأسهم زهير بن صرد وفيهم بويرقان عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وقد اسلموا فقال يا رسول الله انا اصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال يا رسول الله ان ما في الحظائر «1» من السبايا عماتك وخالاتك يعنى من الرضاع وحواضنك «2» اللاتي كن يكفلنك ولو انا ملحنا للحارث بن ابى شمر يعنى ملك الشام من العرب او للنعمان بن المنذر يعنى ملك العراق من العرب ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عايدنهما وعطفهما وأنت يا رسول الله خير المكفولين ثم انشد بعض الشعر وروى الصالحي عن زهير بن صرد الجشمي يقول لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ويوم هوازن وذهب يفرق السبي والشاء أتيته فانشاءت أقول امنن علينا رسول الله في كرم فانك المرأ نرجوه وننتظر وقرأ اشعارا قال فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال ما كان لى ولبنى عبد المطلب فهو لكم وقالت قريش ما كان لنا فهو لله ولرسوله وقالت الأنصار ما كان لنا فهو لله ورسوله قال الصالحي هذا حديث جيد الاسناد عال جدا رواه ايضا المقدسي في صحيحه ورجح الحافظ بن حجر انه حديث حسن وروى البخاري في الصحيح حديث مروان ومسور بن محزمة قالا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسالوه ان يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم معى من ترون وأحب الحديث الىّ أصدقه فاختاروا احدى الطائفتين اما السبي واما المال قالوا فانا نختار
__________
(1) جمع حظيرة وهو الذرب الذي يصنع للابل والغنم وكان السبي في خطاء مثلها 12.
(2) الحاضنة المرضعة جمع حواضن 12.(4/169)
سبيا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاثنى على الله بما هو اهله ثم قال اما بعد فان إخوانكم قد جاؤ تائبين وانى رايت ان أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم ان يطيب بذلك فليفعل ومن أحب ان يكون على حظه لغطيه إياه من أول ما يفى الله علينا فليفعل فقال الناس قد طبنا ذلك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا لا أدرى من اذن منكم في ذلك فمن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفائكم أمركم فرجع الناس فكلمهم عرفائهم ثم رجعوا الى رسول الله صلى الله عليه فاخبروه انهم قد طيبوا وأذنوا روى ابو داود والبيهقي وابو يعلى عن ابى الطفيل قال رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بالجعرانة لحما فجاءت امراة بدوية فلما دنت من النبي صلى الله عليه وسلم بسط لها ردائه فجلست عليه فقلت من هذه فقالوا امه التي ارضعته وروى ابو داود في المراسيل عن عمرو بن السائب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا يوما فجاءه أبوه من الرضاعة فوضع بعض ثوبه فقعد عليه ثم أقبلت امه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر ثم جائه اخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسه بين يديه وقال محمد بن عمر لما هزم المشركون يوم حنين امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو وقال لخيله ان قدرتم على بجاد رجل من بنى سعد فلا يفلتن منكم وقد كان أحدث حدثا عظيما كان اتى رجلا مسلما فاخذه فقطعه عضوا عضوا ثم حرقه بالنار وكان قد عرف جرمه فهرب فاخذته الخيل فضموه الى الشيما بنت الحارث بن عبد العزى اخت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى من الرضاعة واتبعوها في الساق فجعلت شيما تقول انى والله اخت صاحبكم فلم يصدقوها فاتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا محمد انى أختك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علامة ذلك فارته عضة بابها مها فقالت عضة عضضيتها وانا متوركتك «1» بوادي السرب ونحن نرعى بهم أبيك وابى وأمك وأمي وقد نازعتك الثدي فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فوثب قائما بسط ردائه ثم قال اجلسي عليه وترحب بها ودمعت عيناه وسألها عن امه وأبيه فاخبره بموتهما فقال ان أحببت أقيمي عندنا محيته مكرمة وان أجبت ان ترجعى الى قومك وصلتك ورجعتك الى قومك قالت بل ارجع الى قومى فاسلمت فاعطاها
__________
(1) اى جعلتك على وركي 12.(4/170)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثة اعبد وجارية وامر لها ببعير او بعيرين وقال لها ارجعي الى الجعرانة تكونين مع قومك فانى امضى الى الطائف فرجعت الى جعرانة ووافاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاها نعما وشاء ولمن بقي من اهل بيتها وكلمته في بجاد ان يهيه لها ويعفو عنه ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق في رواية يونس بن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من رد سبايا هوازن ركب بعيره وتبعه الناس يقولون يا رسول الله اقسم علينا فيئا حتى اضطروه الى شجرة فانتزعت ردائه فقال يا ايها الناس ردوا على روائى فو الذي نفسى بيده لو كان عندى شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما القيتمونى بخيلا ولا كذا بالحديث قال ابن إسحاق اعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم وكانوا اشرافا من اشراف العرب يأتلف بهم قلوبهم قال محمد بن عمر بالأموال فقسمها واعطى المؤلفة قلوبهم أول الناس قال الصالحي فمنهم من اعطى مائة بعير ومنهم من اعطى خمسين وجميع ذلك يزيد على خمسين رجلا ثم ذكر الصالحي اسمائهم فذكرهم سبعا وخمسين رجلا روى الشيخان في الصحيحين عن حكيم بن حزام قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين مائة من الإبل فاعطانيها ثم سالته مائة فاعطانيها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حكيم ان هذا المال حلوة فمن أخذ بسخاوة نفس بورك فيه ومن اخذه بإسراف نفس لم يبارك فيه وكان كالذى يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول فقال حكيم والذي بعثك بالحق لا ازرى أحدا بعدك شيئا فكان عمر بن الخطاب يدعوه الى عطائه فيابى ان يأخذ فيقول عمر ايها الناس أشهدكم على حكيم بن حزام ادعوه الى عطائه فيابى ان يأخذ قال ابن ابى الزياد أخذ حكيم المائة الاولى فقط وترك الباقي واعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمر مائة وابو سفيان بن حرب ماية من الإبل وأعطاه أربعين اوقية فضة وابنه معاوية مائة من الإبل وأربعين اوقية فضة ويزيد بن ابى سفيان مائة بعير وأربعين اوقية وهكذا روى البخاري عن صفوان قال ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينى من غنايم حنين وهو ابغض الخلق الىّ حتى ما خلق الله شيئا أحب الى منه وفي صحيح مسلم انه صلى الله عليه وسلم أعطاه مائة من النعم ثم(4/171)
ماية ثم مائة قال محمد بن عمر يقال ان صفوان طاف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصفح الغنائم إذ مر بشعب مما أفاء الله على رسوله فيه غنم وابل ورعاء مملوا فاعجب صفوان وجعل ينظر اليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعجبك هذا الشعب يا أبا وهب قال نعم قال هو لك بما فيه فقال صفوان اشهد انك رسول الله ما طابت بهذا نفس أحد قط الا نبى روى احمد ومسلم والبيهقي عن رافع بن خديج ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطى المؤلفة قلوبهم من سبى حنين كل رجل منهم مائة من الإبل وذكر الحديث وفيه اعطى العباس بن مرداس دون المائة فانشاء العباس يقول أتجعل نهبى ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فما كان حصين ولا جالس يقومان مرداس في الجمع الى اخر الأبيات فاتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم المائة واعطى عثمان بن وهب وعدى بن قيس وعمير بن وهب وعلاء بن جارية ومخرمة بن نوفل وغيرهم كلواحد منهم خمسين بعيرا ثم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بإحصاء الناس والغنائم ثم فضها على الناس فكانت سهمانهم لكل رجل منهم اربعة من الإبل او أربعين شاة فانكان فارسا أخذ اثنى عشر من الإبل او عشرين ومأته شاة وإن كان معه اكثر من فرس واحد لم يسهم له قلت عطائه صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم يبلغ اربعة آلاف بعيرا وزايدا عليه وقد مر فيما سبق ان ابل المغنم كانت اربعة وعشرين الف بعيرا الغنم اكثر من أربعين الف شاة وهى تساوى اربعة آلاف بعير فصار المجموع ثمانية وعشرون الف بعير فخمسة يكون
اقل من خمسة آلاف بعير فعطا المؤلفة لا يخلوا اما ان يكون من راس الغنيمة او من جميع الخمس ولا يمكن ان يكون من خمس الخمس سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزم من هذا اما التنفيل بعد الاحراز بلا شرط سبق والصرف الخمس الى صنف واحد وجعل المؤلفة صنفا من الفقراء والله اعلم ولما كان رجال العسكر اثنى عشر الفا او ستة عشر الفا ومنهم الفرسان وصار سهم الراجل اربعة بعير والفارس اثنى عشر بعيرا فهذا يقتضى ان يبلغ الغنيمة ستين الف بعيرا واكثر او اقل ولعل ذلك بضم قيمة العروض والنقود الى المواشي والله اعلم قال محمد ابن إسحاق حدثنى محمد بن الحارث التيمي ان قائلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه قال(4/172)
محمد بن عمر هو سعد بن ابى وقاص رضى الله عنه يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصين والأقرع بن حابس مأته وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة بن حصين والأقرع بن حابس ولكنى اتالفها ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة الى إسلامه وروى البخاري عن عمرو بن ثعلب قال اعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع آخرين فكانهم عتبوا فقال انى لاعطى أقواما أخاف هلعهم وجوعهم وأكل أقواما الى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن ثعلب قال عمرو فما أحب ان لى بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم وفي هذا المقام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى لاعطى الرجل وغيره أحب الى منه خشية ان يكبه الله في النار على وجهه رواه البخاري عن سعد بن ابى وقاص روى ابن إسحاق واحمد عن ابى سعيد الخدري واحمد والشيخان من طرق عن انس ابن مالك والشيخان عن عبد الله بن يزيد بن عاصم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب غنائم حنين وقسم المتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم وفي رواية طفق يعطى رجالا المائة من الإبل ولم يكن في الأنصار منها شىء قليل ولا كثير وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم المقالة حتى قال قائلهم يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان هذا لهو العجب يعطى قريشا وبتركنا وسيوفنا يقطر من دمائهم إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا ودوننا ممن كان هذا فان كان من الله صبرنا وإن كان من رسول الله استعتبناه فقال رجل من الأنصار لقد كنت أحدثكم ان لو استقامت الأمور لقد اثر عليكم فردوا عليه ردا عنيفا قال انس فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم فقال ابو سعيد فمشى سعد بن عبادة فقال يا رسول الله ان هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم قال فبم قال فيما كان من قسمك هذا الغنائم في قومك وفي ساير العرب ولم يكن فيهم من ذلك شىء فقال اين أنت من ذلك يا سعد قال ما انا الا امرا من قومى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمع لى قومك في هذه الحظيرة فخرج سعد يصرح فيهم حتى جمعهم فجاء رجل من المهاجرين فاذن له فيهم وجاء آخرون فردهم حتى(4/173)
إذا لم يبق من الأنصار أحد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله واثنى عليه بما هو اهله ثم قال يا معشر الأنصار الم تكن ضلالا فهداكم الله وعالة فاغناكم الله واعداء فالف بين قلوبكم قالوا بلى الله ورسوله أمن وأفضل فما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا الا قالوا الله ورسوله أمن وأفضل ثم قال لا تجيبون يا معشر الأنصار قالوا وما نقول يا رسول الله وبماذا نجيبك أمن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم قال والله لو شئتم لقلتم وصدقتم وصدقتم جئتنا طريدا فاويناك وعائلا فآسيناك وخائفا فامنك ومخذولا فنصرناك ومكذبا فصدقناك فقالوا المن لله ولرسوله فقال فما حديث بلغني عنكم فسكتوا فقال ما حديث بلغني عنكم فقال فقهاء الأنصار اما رأسنا فلم يقولوا شيئا واما أناس منا حديثة أسنانهم
قالوا يغفر الله لرسوله يعطى قريشا وتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى لاعطى رجالا حديثى عهد بكفر أتألفهم وفي رواية ان قريشا حديثوا عهد لجاهلية ومصيبة وانى أردت ان اجبرهم في رواية من الجبر ضد الكسر وفي رواية براء معجمة من الجائزة وأتألفهم اوجدتم يا معشر الأنصار في نفوسكم في لعاعة من الدنيا «1» تألفت بها قوما اسلموا ووكلتكم الى ما قسم الله لكم من الإسلام أفلا ترضون يا معشر الأنصار ان يذهب الناس الى رحالهم بالشاء والبعير وفي لفظ بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم الى رحالكم تحوزورنه الى بيوتكم فو الذي نفسى بيده لو ان الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار أنتم الشعار والناس الدثار الأنصار كرشى «2» وعيبتى «3» ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم وقالوا رضينا بالله وبرسوله حظا وقسما وذكر محمد بن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد حينئذ ان يكتب بالبحرين يكون خاصة بعده دون الناس وهى يومئذ أفضل ما فتح عليه من الأرض فابوا وقالوا لا حاجة لنا بالدنيا بعدك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انكم ستجدون بعدي اثرة «4» شديدة فاصبروا حتى تلقونى على الحوض قال اهل المغازي قال
__________
(1) هى لقلة خضراء ناعمة شبه الدنيا لقلة بقائها 12.
(2) الكرش مجمع العلف من الحيوان 12.
(3) عينه مستودع الثياب 12.
(4) اى استأثر عليكم بما لكم فيه اشتراك في الاستحقاق 12. [.....](4/174)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن ما فعل مالك بن عوف قالوا يا رسول الله هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبروه انه ان يأتي مسلما رددت اليه اهله وماله وأعطيته مأته من الإبل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر بحبس اهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد الله بنت ابى امية فلما بلغ مالكا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وان اهله وماله موفور وقد خاف مالك ثقيفا على نفسه وخاف ان يسمعوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ما قال فيحبسونه فامر براحلته فقدمت له بوحناء وامر بفرس له فاتى به ليلا فخرج من الحصن فجلس على فرسه ليلا فركضه حتى اتى وحناء فركب بعيره فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فادركه بالجعرانة او بمكة فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اهله وماله وأعطاه مأته من الإبل واسلم فحسن إسلامه فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على من اسلم من قومه من تلك القبائل من هوازن ودوسا وثقيفا وثمالة وكان قد ضوى اليه قوم مسلمون واعتقد لواء فكان يقاتل بهم من كان على الشرك ويميل بهم على ثقيف فيقاتلهم بهم ولا يخرج لثقيف سرح إلا غار عليه وكان لا يقدر على سرح الا اخذه ولا على رجل الا قتله وكان يبعث الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخمس مما يغنم مرة مائة بعير ومرة الف شاة ولقد أغار على سرح لاهل الطائف فاستاق لهم الف شاة في غداة واحدة قال ابن إسحاق في رواية يونس قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثقيف في رمضان سنة تسع فاسلموا وذلك بعد غزوة تبوك والله اعلم قال الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ مصدر من نجس ينجس على وزن سمع يسمع او كرم يكرم ولذا لا يثنى ولا يجمع ويستوى فيه الذكر والأنثى وحمله اما على المبالغة او بتقدير ذو في القاموس النجس بالفتح وبالكسر وبالتحريك وككتف وعضد ...
ضد الطاهر قلت وهو ما يستقذره الطبع السليم ويطلق عليه النجاسة الحقيقية كالقاذورات والدم والحق بها الشارع النجاسات الحكمية من الحدث والجنابة وانقطاع الحيض والنفاس فهو ما يستقذره الشرع فالكافر نجس شرعا لانه خبيث لخبث باطنه ليستقذره الشرع(4/175)
ويجب الاجتناب عنه كما يجب على المصلى الاجتناب عن النجاسة الحقيقية فلا يجوز موالاتهم قال الضحاك وابو عبيدة نجس يعنى قذر قال البغوي أراد به نجاسته الحكم لا نجاسة العين سموا نجسا على الذم وقال قتادة سماهم نجسا لانهم يجتبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤن ولا يجتنبون من النجاسات وعن ابن عباس ان أعيانهم نجسة كالكلاب اخرج ابو الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صافح شركا فليتوضأ او ليغسل كفيه وهذا القول متروك بالإجماع فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قالت الحنفية المراد به النهى عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا بدليل ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضى الله عنه ينادى في الموسم لا يحج بعد العام مشرك فظهر ان المراد منعهم عن الحج والعمرة فيجوز عنده دخول الكافر المسجد الحرام ودخول غيره بالطريق الاولى وورد النهى عن الاقتراب للمبالغة وقالت الشافعية هو نهى عن دخولهم الحرم لانهم إذا دخلوا بالحرم فقد اقتربوا من المسجد الحرام وهذا كما قال الله تعالى سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام وأراد به الحرم لانه اسرى به من بيت أم هاني قال البغوي رضى الله عنه جملة بلاد الإسلام في حق الكفار على ثلثة اقسام أحدها الحرم فلا يجوز للكافران يدخله ذميا كان او مستامنا لظاهر هذه الآية وإذا جاء رسول من دار الكفار الى الامام والامام في الحرم لا يأذن له في دخول الحرم بل يبعث اليه من يسمع رسالته خارج الحرم والقسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز فلا يجوز للكافر الاقامة فيها اكثر من مقام السفر وهو ثلثة ايام لكن جاز له دخولها لما روى عن عمر بن الخطاب انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لئن عشت إنشاء الله لا خرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا ادع الا مسلما فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم واوصى فقال اخرجوا المشركين من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك ابو بكر واجلاهم عمر رضى الله عنهما في خلافته وأجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلثا وجزيرة العرب من أقصى عدن أبين الى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر الى الشام في العرض والقسم الثالث ساير بلاد الإسلام(4/176)
يجوز للكافر ان يقيم فيها بذمة او أمان ولكن لا يدخلون المساجد الا بإذن مسلم وقال الحافظ ابن حجر المروي عن الشافعي التفضيل بين المسجد الحرام وغيره من المساجد فلا يجوز له دخول المسجد الحرام ويجوز له دخول غيرها من المساجد وعند المالكية والمزني لا يجوز للكافر دخول شيء من المساجد قياسا على المسجد الحرام وعقد البخاري بابا على دخول المشرك المسجد يعنى على جواز دخوله وذكر فيه حديث ابى هريرة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا بل تجد فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سوارى المسجد وقد ذكرنا حديث قصة ثمامة بن أثال وإسلامه في سورة الأنفال في مسئلة جواز المن على الأسارى وهذا الاستدلال ضعيف لان قصة ثمامة بن أثال كان قبل فتح مكة وقد منع الكفار عن الحج او الدخول في المسجد الحرام في سنة تسع حيث قال الله تعالى بَعْدَ عامِهِمْ هذا ط يعنى العام الذي نزلت فيه سورة التوبة وحج فيه ابو بكر ونادى علىّ ببراءة وهى سنة تسع من الهجرة وقيل يوذن للكتابى خاصة بدخول المسجد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري في باب دخول المشرك المسجد ان حديث الباب يرد على هذا القول فان ثمامة بن أثال لم يكن من اهل الكتاب والله اعلم قال البيضاوي في هذه الآية دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع نظرا الى انه سبحانه نهاهم عن اقتراب المسجد وهذا ليس بشيء فان الخطاب في الاية للمؤمنين حيث قال الله تعالى يا ايها الذين أمنوا انما المشركون نجس الآية فالمومنون مامورون بمنعهم عن المسجد الحرام وإن كان ظاهر الآية نهيا للكفار كيف ولو كان الكفار مخاطبين بالفروع
كانوا مخاطبين مامورين بالحج إذ الحج من الفروع مع ان الآية يمنعهم عن الدخول والحج فيلزم التناقض ولو كانوا مخاطبين بهذه الاية بعدم الدخول وترك الحج لكانوا ممتثلين بتركهم الحج فيلزم ان يكونوا ماجورين مثابين في ذلك وذلك باطل والله اعلم اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس وابن جرير وابو الشيخ عن سعيد بن جبير وعكرمة وعطية العوفى والضحاك وقتادة وغيرهم انه كان المشركون يجيئون الى البيت ويجيئون معهم بالطعام فلما نهوا عن إتيان البيت ونزلت انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم(4/177)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
هذا شق على المسلمين وقالوا من يأتينا بالطعام وبالمتاع فانزل الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ ايها المسلمون من اهل مكة عَيْلَةً يعنى فقرا وفاقة يقال عال يعيل عيلة فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ قيده بالمشية لينقطع بالآمال اليه ولينبه على انه متفضل في ذلك وان الغنى الموجود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوال عباده حَكِيمٌ (28) فيما يعطى ويمنع قال عكرمة فاغناهم الله بان انزل عليهم المطر مدرارا فكثر خيرهم وقال مقاتل اسلم اهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة «1» الكثيرة الى مكة فكفاهم الله تعالى ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة عوضهم الله منها الجزية فاغناهم بها وذلك قوله تعالى.
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ قال مجاهد نزلت هذه الآية حين امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك فان قيل اهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الاخر أجيب بانهم لا يؤمنون على ما ينبغى فانهم إذا قالوا عزير بن الله والمسيح بن الله لم يكن ايمانهم بالله على حقيقة ولم يعتقدوا كونه أحدا صمدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وإذا قالوا لا يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى وان النار لا يمسهم الا أياما معدودات واختلفوا في نعيم الجنة اهو من جنس نعيم الدنيا او غيره وفي دوامه وانقطاعه وقال بعضهم لا أكل فيها ولا شرب لم يكن ايمانهم بالآخرة على حقيقة فايمانهم كلا ايمان وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اى ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل المراد برسوله الذي يزعمون اتباعه والمعنى انهم يخالفون اصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا فان موسى وعيسى امرا باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ اى لا يدينون الدين الحق أضاف الاسم الى الصفة وقال قتادة الحق هو الله اى لا يدينون دين الله فان الدين عند الله الإسلام وقيل الحق الإسلام والمعنى دين الإسلام وقال ابو عبيدة معناه لا يطيعون الله طاعة اهل الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان للذين لا يؤمنون يعنى اليهود والنصارى
__________
(1) هى الطعام ونحوه مما يجلب للبيع 12.(4/178)
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهى في اللغة الجزاء وانما بنيت على فعلة للدلالة على الهيئة وهى هيئة الاذلال عند العطاء على ما ستعرف والمراد به الخراج المضروب على رقابهم وقيل هى مشتق من جزى دينه إذا قضاه عَنْ يَدٍ حال من الضمير اى عن يد مواتية غير ممتنعة يعنى منقادين او عن يد من يعطى خراجه يعنى مسلمين بايديهم غير باعثين بايدى غيرهم كذا قال ابن عباس ولذلك يمنع من التوكيل في أداء الجزية او المعنى عن قهر وذل قال ابو عبيدة يقال لكل من اعطى شيئا كرها من غير طيب نفس أعطاه من يد وقيل معنى عن يد نقد الانسية وقيل عن اقرار بانعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم عوضا عن القتل وَهُمْ صاغِرُونَ (29) أذلاء مقهورون قال عكرمة يعطون الجزية قياما والقابض جالس وعن ابن عباس قال يوخذ ويوطا عنقه وقال الكلبي إذا اعطى صفع في قفاه وقيل يوخذ بلحيته فيضرب في لهزمته وقيل يليب ويجر الى موضع الإعطاء بعنف وقيل إعطائه إياه وهو الصغار وقال الشافعي الصغار هو جريان احكام الإسلام عليهم ظاهر هذه الآية يقتضى ان انتهاء القتال بإعطاء الجزية مختص باهل الكتاب ولاجل هذه لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر رواه البخاري في صحيحه من حديث بجالة بن عبدة واختلف كلام الشافعي في بجالة فقال في الحدود مجهول وقال في الجزية حديث ثابت ولاجل هذا الحديث انعقد الإجماع على جواز أخذ الجزية من المجوس- (مسئلة) اختلف العلماء في باب الجزية فقال ابو حنيفة توخذ من اهل الكتاب على العموم عربيا كان او أعجميا ومن مشركى العجم على العموم مجوسيا كان او وثنيا الا المرتدين وقال ابو يوسف يوخذ من اهل العجم دون اهل العرب كتابيا كان او مشركا وقال مالك والأوزاعي يوخذ من كل كافر عربيا كان او أعجميا الا مشركى قريش خاصة والمرتدين وذهب الشافعي الى ان الجزية على الأديان لا على الإنسان فيوخذ من اهل الكتاب عربا وعجما ولا يوخذ من اهل الأوثان بحال واما المجوس فهم عنده اهل كتاب لما روى مالك في الموطإ والشافعي في الام عنه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر قال ما أدرى ما اصنع في أمرهم يعنى المجوس(4/179)
فقال له عبد الرحمن بن عوف اشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة اهل الكتاب وقال الشافعي ثنا سفيان عن سعيد بن المرزبان عن نصر بن عاصم قال قال فروة بن نوفل على ما يوخذ الجزية من المجوس فليسوا باهل كتاب فقام اليه المستورد فاخذ بلبته وقال يا عدو الله أتطعن أبا بكر وعمر وامير المؤمنين يعنى عليا وقد أخذوا منهم الجزية فذهب الى القصر فخرج عليهم على فقال ايته انا اعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وان ملكهم سكر فوقع على ابنته او امه فاطلع عليه بعض اهل مملكته فلما صحا جاؤا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم فدعى اهل مملكته فقال تعلمون دينا خيرا من دين آدم قد كان آدم ينكح بنيه ببناته فانا على دين آدم وما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فاصبحوا وقد اسرى علمائهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم وهم اهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر وعمر منهم الجزية ذكر الحديث ابن الجوزي في التحقيق وقال سعيد بن مرزبان مجروح قال يحيى بن سعيد لا استحل ان يروى عنه وقال يحيى ليس بشى ولا يكتب حديثه وقال القلاس متروك الحديث وقال ابو اسامة كان ثقة وقال ابو ذرعة صدوق مدلس قلت وذكر ابو يوسف في كتاب الخراج قال حدثنا سفيان بن عيينة عن نضر بن عاصم الليثي عن على بن ابى طالب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أخذوا الجزية من المجوس وقال انا اعلم الناس بهم كانوا اهل كتاب يقرؤنه وعلم يدرسونه فنزع من صدورهم قال ابو يوسف وحدثنا نصر بن خليفة ان فروة بن نوفل الأشجعي قال ان هذا الأمر عظيم يوخذ من المجوس الخراج وليسوا أبا هل الكتاب قال فقام
اليه مستوردين الأحنف قال طعنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتب والا قتلتك وقال قد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجوس اهل هجر الخراج قال فارتفعا الى على رضى الله عنه فقال انا احدثكما بحديث ترضيانه جميعا عن المجوس ان المجوس كانوا امة لهم كتاب يقرونه وان ملكا شرب حتى سكر فاخذ بيد أخته فاخرجها من القرية واتبعه اربعة رهط فوقع عليها وهم ينظرون اليه فلما أفاق من سكره قالت له أخته انك صنعت كذا وفلان وفلان(4/180)
وفلان وفلان ينظرون إليك فقال ما علمت ذلك قالت فانك مقتول الا ان تطيعنى قال فانى أطيعك قالت فاجعل هذا دينا وقل هذا دين آدم وقل حواء من آدم وادع الناس اليه واعرضهم على السيف فمن بايعك فدعه ومن ابى فاقتله ففعل فلم يتابعه أحد فقتلهم يومئذ حتى الليل فقالت له انى ارى الناس قد احتروا على السيف وهم على النار لكع فاوقد لهم نارا ثم اعرضهم علينا ففعل وهاب الناس من النار فبايعوه قال على رضى الله عنه فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخراج لاجل كتابهم وحرم مناكحهم وذبائحهم لشركهم وروى ابن الجوزي في التحقيق ان ابن عباس قال ان اهل فارس لما مات نبيهم كتب لهم إبليس المجوسية والجواب ان قوله صلى الله عليه وسلم سنوا بهم سنة اهل الكتاب لا يدل على كونهم من اهل كتاب ولا على ان يفعل بهم كل ما يفعل باهل الكتاب بل يدل على جواز أخذ الجزية منهم للاجماع على انه لا يجوز مناكحه نسائهم ولا أكل ذبائحهم وما ذكر من حديث على حجة لنا لا علينا لانهم وإن كان أسلافهم اهل كتاب يدرسونه لكنهم منذ تركوا ذلك الدين والعمل بالكتاب ورفع العلم منهم وكتب لهم إبليس المجوسية لم يبقوا اهل كتاب ومن هاهنا اتفق العلماء على ان المجوس ليسوا باهل كتاب الا في قول للشافعى وفي قول هو مع الجمهور انهم ليسوا باهل كتاب قلت ولو كفى كون أسلافهم من اهل الكتاب لكان عبدة الأوثان من اهل الهند اولى بهذا الاسم فانهم يقرؤن الكتاب ويدرسونه ويسمونه بيد وهى اربعة اجزاء ويزعمونه من عند الله تعالى ويوافق أصولهم في كثير من الأمور بأصول الشرع وما يخالف الشرع فذلك من اختلاطات الشيطان كما تفرق فرق الإسلام الى ثلث وسبعين فرقة بتخليطه الشيطان ودعوتهم هذا مؤيد من الشرع حيث قال الله تعالى وان من امة الا خلا فيها نذير فهم اولى من المجوس في كونهم اهل كتاب لان ملك المجوس لما سكر وزنا بأخته ترك دينه وكتابه وادعى دين آدم وهؤلاء الكفار لم يفعلوا ذلك الا انهم كفروا بتركهم الايمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر لى ان في الجزء الرابع من بيد بشارة ببعثة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم حتى اسلم بعض من قرأ ذلك الجزأ والله اعلم وقد يحتج للشافعى على ان الوثني(4/181)
لا يوخذ منهم الجزية بان القتال واجب بقوله تعالى قاتلوهم حتى لا تكون فتنة الا انا عرفنا جواز تركه في حق اهل الكتاب بالكتاب وفي حق المجوس بالخبر يعنى انه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس الهجر فبقى من ورائهم على الأصل قلنا قوله تعالى قاتلوا المشركين خص منه المجوس بالإجماع فجاز تخصيصه بالمعنى وبالحديث اما المعنى فان عبدة الأوثان في معنى المجوس فانهم مشركون كهيئتهم وكون أصولهم من اهل الكتاب لا يفيدهم وايضا يجوز استرقاقهم بالإجماع فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كلواحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فانه يكتسب ويودى الى المسلمين ونفقته في كسبه واما الحديث فحديث سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امر أميرا على جيش او سرية أوصاه في خاصة بتقوى الله ... ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تقلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلث خصال او خلال فايتهم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم الى الإسلام فان أجابوك فاقبل منهم وكف ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار الهجرة فاخبرهم انهم ان فعلوا ذلك فلهم ما
للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فان أبوا ان يتحولوا منها فاخبرهم انهم يكونون كاعراب المسلمين يجرى عليهم حكم الله الذي يجرى على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفى شيء الا ان يجاهدوا مع المسلمين فان هم أبوا فسلهم الجزية فان هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم الحديث رواه مسلم والحجة على جواز أخذ الجزية من الكتابي العربي حديث انس قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد الى أكيدر دومة فاخذوه فاتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية رواه ابو داود وروى ابو داود والبيهقي من حديث يزيد بن رومان وعبد الله بن ابى بكر ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد الى البدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا على دومة فذكره مطولا وفيه انه صالحه على الجزية قال الحافظ ان ثبت ان أكيدر كان كنديا ففيه دليل على ان الجزية لا يختص بالعجم من اهل الكتاب لان أكيدر عربى وإذا ثبت ان الجزية لا يختص باهل الكتب ولا باهل(4/182)
العجم ثبت مذهب ابى حنيفة ومالك غير ان أبا حنيفة يقول لا يجوز أخذ الجزية من عبدة الأوثان من اهل العرب ولا استرقاقهم اخرج عبد الرزاق عن معمر عن الزهري انه صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان الا من كان من العرب قال ابو حنيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين اظهر العرب والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم اظهر فلا يقبل منهم الا الإسلام او السيف وكذا المرتد فانه كفر بربه بعد ما هدى الى الإسلام ووقف على محاسبه فلا يقبل منه الا الاستلام او السيف ذكر محمد بن الحسن عن مقسم عن ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم قال لا يقبل من مشركى العرب الا الإسلام او القتل وإذا ظهر على عبدة الأوثان من العرب او المرتدين يسترق نسائهم وصبيانهم لان النبي صلى الله عليه وسلم استرق ذرارى أوطاس وهوازن وهم من مشركى العرب وكذا ذرارى بنى المصطفى وغيرهم وابو بكر استرق ذرارى بنى حنيفة لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين وكانت منهم أم محمد بن على بن ابى طالب وأم زيد بن عبد الله بن عمر ثم ان ذرارى المرتدين ونسائهم يجبرون على الإسلام بعد الاسترقاق بخلاف ذرارى عبدة الأوثان وقال الشافعي يسترق ذرارى عبدة الأوثان من العرب والجواب لابى يوسف ان أخذ الجزية من كفار العرب كتابيا كان او مشركا وان ثبت بحديث أخذ الجزية من أكيدر لكنه نسخ بالأحاديث الواردة في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وان لا يترك فيها الا مسلما فان أخذ الجزية من كفار العرب فرع تركهم فيها عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اوصى بثلث قال اخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بما كنت اجيزهم قال ابن عباس وسكت عن الثالثة او قال نسيتها متفق عليه وعن جابر بن عبد الله قال أخبرني عمر بن الخطاب انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا ادع فيها الا مسلما رواه مسلم وروى مالك في الموطإ عن ابن شهاب مرسلا لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ووصله صالح بن ابى الأخضر ... عن الزهري عن سعيد عن ابى هريرة أخرجه إسحاق في مسنده وروى احمد والبيهقي عن ابى عبيدة بن الجراح آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم ان قال اخرجوا اليهود من(4/183)
الحجاز واهل نجران من جزيرة العرب- (مسئلة) اختلفوا في قدر الجزية فقال ابو حنيفة ان وضع الجزية بالتراضي والصلح فيقدر بحسب ما يقع عليه الصلح كما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم اهل نجران على الفى حلة روى ابو داود عن ابن عباس قال صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم اهل نجران على الفى حلة النصف في صفر والنصف في رجب وقال ابو يوسف في كتاب الخراج وابو عبيدة في كتاب الأموال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اهل نجران الى ان قال الفى حلة كل حلة اوقية يعنى قيمة اوقية قال ابن همام فقول الولوجى كل حلة خمسون درهما ليس بصحيح لان الاوقية أربعون درهما والحلة ثوبان إزار ورداء
ويعتبر هذه الحلل في مقابلة روسهم وأراضيهم قال ابو يوسف الفاحلة على أراضيهم وعلى جزية رؤسهم يقسم على روس الرجل الذين لم يسلموا وعلى كل ارض من أراضي نجران وان كان بعضهم قد باع ارضه او بعضها من مسلم او ذمى او تغلبى والمرأة والصبى في ذلك سواء في أراضيهم واما جزية روسهم فليس على النساء والصبيان وروى ابن ابى شيبة انه صالح عمر نصارى بنى تغلب على ان يؤخذ منهم ضعف ما يوخذ من المسلم المال الواجب وان غلب عليهم الامام واقرهم على املاكهم فيضع على الغنى الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يأخذ منهم في شهر اربعة دراهم وعلى وسط الحال اربعة وعشرون درهما في كل شهر درهمان وعلى الفقير المعتل اثنا عشر درهما في كل شهر درهم إذا كان صحيحا في اكثر السنة عند ابى حنيفة رحمه الله وقال مالك في المشهور عنه على الغنى والفقير جميعا اربعة دنانير في السنة او أربعين درهما لا فرق بينهما وقال الشافعي الواجب دينار يستوى فيه الغنى والفقير وعن احمد اربع روايات أحدها كقول ابى حنيفة والثانية انها مفوضة الى راى الامام وليست بمقدرة وبه قال الثوري والثالثة انه يقدر الأقل منها بدينار دون الأكثر والرابعة انها في اهل اليمن خاصة مقدر بدينار دون غيرهم اتباعا لحديث ورد فيهم عن معاذ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وجهه الى اليمن امره ان يأخذ من كل حالم دينارا او عدله المعافر ثياب يكون بايمن رواه ابو داود والترمذي والنسائي والدار قطنى وابن حبان والحاكم وبه أخذ الشافعي على الإطلاق قال(4/184)
ابو داود وحديث منكر وقال بلغني عن احمد انه كان ينكره وذكر البيهقي الاختلاف فيه فبعضهم رواه عن الأعمش عن ابى وائل عن مسروق عن معاذ وقال بعضهم عن الأعمش عن ابى وائل عن مسروق ان النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ الحديث وأعله ابن حزم بالانقطاع وان مسروقا لم يلق معاذا وقال الحافظ ابن حجر فيه نظر وقال الترمذي حديث حسن وذكر ان بعضهم رواه مرسلا وانه أصح ومذهب ابى حنيفة منقول عن عمر وعثمان وعلى ذكر الاصحاب في كتبهم عن عبد الرحمن بن ابى ليلى عن الحكم ان عمر بن الخطاب وجه حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف الى السواد فمسحا ارضها ووضعا عليها الخراج وجعلا الناس ثلث طبقات على ما قلنا فلما رجعا أخبراه بذلك ثم عمل عثمان كذلك وروى ابن ابى شيبة ثنا على بن مسهر الشيباني عن ابن عون محمد بن عبد الله الثقفي قال وضع عمر بن الخطاب في الجزية على رؤس الرجال على الغنى ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط اربعة وعشرون وعلى الفقير اثنى عشر درهما وهو مرسل ورواه ابن زنجويته في كتاب الأموال ثنا مندل عن الشيباني عن ابن عون عن المغيرة بن شعبة ان عمر وضع الحديث الى آخره وطريق آخر رواه ابن سعد في الطبقات الى نضرة ان عمر بن الخطاب وضع الجزية على اهل الذمة فيما فتح البلاد فوضع على الغنى الى آخر ما ذكر ومن طريق آخر أسنده عبد القاسم بن سلام الى حارثة بن مضر عن عمر انه بعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين واربعة وعشرين واثنا عشر وقد كان ذلك بمحضر من الصحابة بلا نكير فحل محل الإجماع وقال ابو يوسف في كتاب الخراج حدثنى السرى بن اسمعيل عن عامر الشعبي ان عمر بن الخطاب مسح السواد فبلغ ستة وثلثين الف الف جريب وانه وضع على جريب الزرع درهما وقفيزا على الكرم عشرة دراهم وعلى الرطبة خمسة دراهم وعلى الرجل اثنى عشر درهما واربعة وعشرون وثمانيته وأربعون درهما قال وحدثنى سعيد بن ابى عروية عن قتادة عن ابن مجلز قال بعث عمر بن الخطاب عمار بن ياسر على الصلاة والحرب وبعث عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال وبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرض وجعل بينهم شاة كل يوم شطرها وبطنها لعمار وربعها لعبد الله بن مسعود والربع الاخر لعثمان بن حنيف(4/185)
وقال انى أنزلت نفسى وإياكم بهذا المال بمنزلة والى
اليتيم فان الله قال من كان غينا فليستعفف ومن كان فقيرا فلياكل بالمعروف والله ما ارى أرضا يوخذ منها شاة في كل يوم الا سيسرع ضرابها قال فمسح عثمان الأرضين فجعل على جريب العنب عشرة وعلى جريب النخل ثمانية وعلى جريب القصب ستة وعلى جريب الحنطة اربعة وعلى جريب الشعير درهمين وعلى الراس اثنا عشر درهما واربعة وعشرين وثمانية وأربعين وعطل من ذلك النساء والصبيان قال سعيد وخالفنى بعض أصحابي فقال على جريب النخل عشرة وعلى جريب العنب ثمانية قال وحدثنى محمد بن إسحاق عن حارثة بن مطرف عن عمر انه أراد ان يقسم السواد بين المسلمين فامر بهم ان يحصوا فوجد الرجل نصيبه الاثنين والثلاثة من العلاجين فشاور اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال على رضى الله عنه وعنهم يكونون مادة للمسلمين فبعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين واربعة وعشرين واثنا عشر وأجاب الحنفية عن حديث معاذ انه محمول على انه كان صلحا فان اليمن لم يفتح عنوة بل صلحا فوقع على ذلك وبان كان اهل اليمن اهل فاقة والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك ففرض عليهم ما على الفقراء يدل على ذلك ما رواه البخاري عن ابي نجيح قلت لمجاهد ما شان اهل الشام عليهم اربعة دنانير واهل اليمن عليهم دينار قال جعل ذلك من قبل اليسار ووجه قول الثوري واحمد انه صلى الله عليه وسلم امر معاذا بأخذ الدينار وصالح نصارى نجران على الفى حلة وجعل عمر الجزية على ثلث طبقات كما قال ابو حنيفة وصالح بنى تغلب على ضعف ما يوخذ من المسلمين فهذا يدل على انه لا تقدير فيه بل هو مفوض الى راى الامام- (مسئلة) لا يوخذ الجزية من فقير غير معتمل عند ابى حنيفة ومالك واحمد وللشافعى فيه اقوال أحدها انه لا يوخذ منه والثاني انه يجب عليه لكن يطالب عند يساره والثالث انه إذا حال عليه الحول ولم يتيسر له الحق بدار الحرب له اطلاق قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ خذ من كل حالم ولنا ان عثمان بن حنيف لم يوظف الجزية على فقير غير معتل روى ابن رنجوية في كتاب الأموال ثنا الهشيم بن عدى عن عمر بن نافع حدثنى ابو بكر العنبسى صلة بن زفر قال ابصر عمر شيخا كبيرا من اهل الذمة ليال فقال له مالك قال ليس لى(4/186)
مال وان الجزية يوخذ منى فقال له عمر ما انصفناك أكلنا شبيبتك ثم ناخذ منك الجزية ثم كتب عمر الى عماله ان لا تأخذوا الجزية من شيخ كبير «1» وقد جاء في بعض طرقه وعلى الفقير المكتسب اثنا عشر أخرجه البيهقي قال ابو يوسف حدثنى عمرو بن نافع عن ابى بكر قال مر عمر بن الخطاب بباب قوم وعليه سائل شيخ كبير ضرير البصر فذكر نحوه وقال فوضع عنه الجزية وعن ضربائه قال ابو بكر انا شهدت ذلك من عمر ورايت ذلك الشيخ وقال ابو يوسف حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عمر بن الخطاب انه مر بطريق الشام هو راجع في مسيره من الشام على قوم قد اقيموا في الشمس يصب على روسهم الزيت فقال ما بال هؤلاء قالوا عليهم الجزية لم يؤدوا فهم يعذبون حتى يؤدوا قال عمر فما يقولون ما يعتذرون في الجزية قالوا يقولون لا نجد قال فدعوهم لا تكلفوهم مالا يطيقون فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تعذبوا الناس فان الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله يوم القيامة وامر بهم فخلى سبيلهم وقال ابو يوسف وحدثنى بعض المشيخة المتقدمين يرفع الحديث الى النبي صلى الله عليه وسلم انه ولى عبد الله بن أرقم على جزية اهل الذمة فلما ولى من عنده ناداه فقال الا من ظلم معاهدا وكلفه فوق طاقته او ينقصه او أخذ منه شيئا بغير طيبة نفسه فانا حجيجه يوم القيامة وهذا الحديث يؤيد مذهب احمد ان الجزية مفوض الى راى الامام ينظر طاقة الذمي ولا يكلفه فوق طاقته- (مسئلة) لو وجبت الجزية على كافر بتمام السنة بعد عقد الذمة فلم يؤدها حتى اسلم فعند الشافعي يوخذ منه جزية ما مضى لان الجزية اجرة الدار وقد استوفى سكنى الدار كما هو أحد قوليه او وجبت بدلا عن العصمة الذي يثبت للذمى بعقد
الذمة كما هو قوله الآخر وقد وصل اليه المعوض وهو حقن دمه وسكناه فتقرر البدل دينا عليه في ذمته فلا يسقط عنه كساير الديون وعند ابى حنيفة ومالك واحمد يسقط الجزية بإسلامه لان الجزية عقوبة على الكفر ولا عقوبة بعد التوبة وهى غاية للقتال منه ... لهذه الاية
__________
(1) وروى عن عمر بن الخطاب انه مر برجل من اهل الكتاب مطروح على باب قال استكدونى وأخذوا منى الجزية حتى كف بصرى فليس أحد يعود على بشيء فقال عمر ما انصفنا إذا ثم قال هذا من الدين قال الله انما الصدقات للفقرا والمساكين ثم امر له برزق يجرى عليه.(4/187)
وقد انتهى القتال بالإسلام وكون الجزية اجرة الدار ممنوع فانه يسكن دار ملكه لنا حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على المسلم جزية رواه احمد والترمذي وابو داود قال ابو داود سئل سفيان الثوري عن هذا فقال يعنى إذا اسلم فلا جزية عليه وباللفظ الذي فسر به سفيان الثوري رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من اسلم فلا جزية عليه وضعف ابن القطان من رواة حديث ابن عباس قابوس بن ابى الظبيان وليس قابوس في سند الطبراني قال ابن همام هذا الحديث بعمومه يوجب سقوط ما كان استحق عليه قبل إسلامه بل هو المراد بخصوصه لانه موضع الفائدة إذ عدم الجزية على المسلم ابتداء من ضروريات الدين في الاخبار به من جهة الفائدة ليس كالاخبار بسقوطها في حال البقاء قال ابو يوسف في كتاب الخراج حدثنى شيخ من علماء الكوفة قال جاء كتاب عمر بن عبد العزيز الى عبد الحميد بن عبد الرحمن كتبت الى تسالنى عن أناس من اهل الحيرة يسلمون من اليهود والنصارى والمجوس وعليهم جزية عظيمة وتستأذن في أخذ الجزية منهم وان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا الى الإسلام ولم يبعثه جابيا فمن اسلم من اهل تلك الملل فعليه في ماله الصدقة ولا جزية عليه فان قيل ما الفرق بين الخراج والجزية والاسترقاق مع ان كلواحد منها عقوبة على الكفر فكيف يقولون بسقوط الجزية وعدم سقوط الخراج والرق قلنا في الجزية ذل ظاهر ومبناه على الصغار والخراج فيه معنى المئونة فان صاحب الأرض لا يتمكن من الزراعة من غير حماية السلطان والمقاتلة فكانه يعطى اجر مؤنتهم واما الرقيق فقد تعلق به ملك شخص معين بخلاف الجزية فانه لم يتعلق بها ملك شخص معين بل فيه استحقاق للعامة والحق الخاص فضلا عن العام ليس كالملك الخاص- (مسئلة) الجزية يجب باول الحول عند ابى حنيفة وهى رواية عن مالك فيجوز مطالبة جزية سنة فورا بعد عقد الذمة وقال الشافعي واحمد يجب ما جزه وهو المشهور عن مالك فلا يملك المطالبة حتى يمضى السنة فان مات في أثناء السنة او بعد تمامها ولم يؤد(4/188)
الجزية سقطت بموته عند ابى حنيفة واحمد وقال مالك والشافعي لا تسقط والوجه لهما ما ذكرنا انه بدل للسكنى او لحقن الدم وقد استوفى المعوض فصار البدل دينا يوخذ من تركته ولنا انه عقوبة دنيوية والعقوبات الدنيوية تسقط بالموت كالحدود- (مسئلة) إذا لم يؤد الذمي الجزية سنتين او اكثر يتداخل ويوخذ منه جزية واحدة عند ابى حنيفة واحمد وقال الشافعي يوخذ لكل سنة جزية له ما ذكرنا انه استوفى المعوض فصار العوض دينا ولنا انها عقوبة محضة وليس الغرض منها المال بل الاذلال ولذالك لا يوخذ من يد نائبه كما ذكرنا من قبل وكفارات الفطر مع انها عبادة فيه معنى العقوبة تتداخل فكيف الجزية فانها عقوبة محضة والاذلال يحصل يأخذها مرة والله اعلم- (مسئلة) ولا جزية على الصبيان والمجانين اتفاقا فانهم ليسوا أهلا لعقوبة ولا على النساء ايضا اجماعا قال ابو يوسف في كتاب الخراج حدثنا عبيد الله عن نافع عن اسلم مولى عمر قال كتب عمر ان اقبلوا الجزية ممن جرت عليه المواشي ولا تأخذوا من امرأة ولا صبى ولا تأخذوا الجزية الا اربعة دنانير او أربعين درهما يعنى لا تأخذوا اكثر منه وروى البيهقي من طريق زيد بن اسلم عن أبيه ان عمر كتب الى أمراء الأجناد لا تضربوا الجزية الا على من جرت عليه المواشي وكان لا يضرب على النساء والصبيان وروى من طريق آخر بلفظ لا تضعوا الجزية على النساء والصبيان- (مسئلة) ولا جزية على المملوك قنا كان او مكاتبا او مدبرا او ابنا لام الولد إذ لا مال لهم ولا يتحمل عنهم مواليهم لانهم تحملوا الزيادة لاجلهم يعنى وجب عليهم جزية الاعتباء بسبيهم وما روى ابو عبيدة في كتاب الأموال عن عروة قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اهل اليمن انه من كان على يهودية ونصرانية فانه لا ينتزع عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكرا او أنثى عبدا او امة دينارا وقيمته وروى ابن زنجوبة عن الحسن فذكر نحوه مرسلان ضعيفان يقوى
أحدهما الآخر لكن الامة ترك العمل بهما اجماعا فلا عبرة بهما وكذا ما روى ابو عبيد عن عمر قال لا تشتر رقيق اهل الذمة فانهم اهل خراج يؤدى بعضهم عن بعض-(4/189)
(مسئلة) إذا امتنع الذمي من أداء الجزية او امتنع من اجراء حكم من احكام الإسلام او قتل مسلما او اجمع على القتال او زنى بمسلمة وأصابها باسم نكاح او افتن مسلما عن دينه او قطع عليهم الطريق او صار للمشركين جاسوسا او أعان على المسلمين بدلالة او كتب الى المشركين اخبار المسلمين وأطلعهم على عوراتهم ينقض عهده عند احمد في اظهر الروايتين لما روى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرت ان أبا عبيدة بن الجراح وأبا هريرة قتلا كتابيين أرادا امراة على نفسها مسلمة وروى البيهقي من طريق الشعبي عن سويد بن غفلة قال كنا عند عمر وهو امير المؤمنين بالشام إذا نبطى مضروب مسح يستعدى فغضب وقال لصهيب انظر من صاحب هذا فذكر القصة فجاء به وهو عوف بن مالك فقال رايته يسوق بامراة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم يصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار فغشيها ففعلت به ما ترى قال عمر والله ما على هذا عاهدناكم فامر به فصلت ثم قال ايها الناس فوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له وفي رواية عن احمد لا ينتقض الا بالامتناع من بذل الجزية واجراء أحكامنا عليه وقال الشافعي ينتقض بمنع الجزية وامتناع اجراء احكام الإسلام وبالإجماع على قتال المسلمين لا غير الا إذا شرط عند عقد الذمة هذه الأمور المذكورة فح ينتقض عهده بإتيانها وقال مالك لا ينتقض بالزنا بمسلمة ولا باصابتها باسم النكاح ويقطع الطريق وينتقض بما سوى ذلك وقال القاسم من أصحابه بقطع الطريق ايضا وقال ابو حنيفة ينتقض عهده بان يلتحق بدار الحرب او كان له منعة وغلب على موضع وأراد المحاربة لانهم صاروا حربا علينا فيعرى عقد الذمة عن الفائدة وفيما سوى ذلك لا ينتقض عهده لان الغاية التي ينتهى به القتال التزام الجزية لا أدائها والالتزام باق ومن لا منعة له لا عبرة بامتناعه فان الامام يقدر عليه بالحبس والضرب وغير ذلك- (مسئلة) وفي ذكر الله عز وجل بما لا يليق بجلاله او ذكر كتابه المجيد او ذكر دينه القويم او ذكر رسوله الكريم بما لا ينبغى ينتقض عهده عند احمد سواء شرط منه ذلك اولا وكذا قال مالك انه إذا ذكر منهما بغير ما كفروا به ينتقض عهده وقال اكثر اصحاب(4/190)
الشافعي ان لم يشترط لا ينتقض عهده وان شرط ينتقض وذكر صاحب الهداية مذهب الشافعي انه ينتقض لان المؤمن ينتقض به إيمانه فالذمى ينتقض به امانه إذ عقد الذمة خلف عن الايمان وذكر صاحب الهداية مذهب ابى حنيفة ان بسب النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتقض عهده لان سبه عليه السلام كفر والكفر المقارن لا يمنعه فالطارى لا يرفعه قال ابن همام يويده ما روى عن عايشة ان رهطا من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك فقال وعليكم قالت ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة فقال صلى الله وسلم مهلا يا عايشة فان الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله قالت فقلت يا رسول الله الم تسمع ما قالوا قال عليه السلام قد قلت وعليكم وفي رواية عليكم بغير واو متفق عليه وفي رواية رددت عليهم فيستجاب لى فيهم ولا يستجاب لهم في قال ابن همام ولا شك ان هذا سب منهم له عليه الصلاة السلام ولو كان نقضا للعهد لقتلهم وفي الفتاوى من مذهب ابى حنيفة ان من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل ولا يقبل توبته سواء كان مؤمنا او كافرا وبهذا يظهر انه ينتقض عهده ويؤيده ما روى ابو يوسف عن حفص بن عبد الله بن عمر ان رجلا قال له سمعت راهبا سب النبي صلى الله عليه وسلم فقال له لو سمعته لقتلته انا لم نعطهم العهود على هذا وقال ابن همام والذي عندى ان سبه عليه السلام او نسبته الى ما ينبغى الى الله تعالى ان كان مما لا يعتقدونه كنسبة الولد الى الله تعالى الذي يعتقده النصارى واليهود إذا أظهروا يقتل به وينتقض عهده وان لم يظهروا ولكنه عثر عليه وهو يكتمه فلا
لان دفع القتل والقتال عنهم بقبول الجزية الذي هو المراد بالإعطاء مقيد بكونهم صاغرين أذلاء بالنص ولا خلاف ان المراد استمرار ذلك لا عند مجرد القبول واظهار ذلك منه ينافى قبول الجزية الدافع لقتله لانه الغاية في التمرد وعدم الالتفات والاستخفاف بالإسلام والمسلمين فلا يكون جاريا على العقد الذي يدفع عنه القتال وهو ان يكون صاغرا ذليلا واما اليهود المذكورون في حديث عايشة فلم يكونوا اهل ذمة بمعنى.... اعطائهم الجزية بل كانوا اصحاب موادعة بلا مال يوخذ منهم دفعا لشرهم الى ان أمكن الله منهم لانه لم يوضع قط جزية على اليهود المجاورين من قريظة(4/191)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
والنضير قال ابن همام هذا البحث يوجب انه إذا استعلى ذمى على المسلمين على وجه صار مستمرا عليه حل للامام قتله او يرجع الى الذل والصغار والله اعلم اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن اوفى وابو انس ومحمد بن دحية وشاس بن قيس ومالك بن الضيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وانك لا تزعم ان عزير ابن الله فانزل الله تعالى.
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ قرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزير بالتنوين على انه عربى مصغر وقيل انه أعجمي لكنه اسم خفيف يشبه المصغر ولذلك صرف مثل نوح وهود ولوط وعزير مبتدأ ما بعده خبره وليس بصفة له وقرأ الباقون بلا تنوين اما لمنع الصرف للعجمة والتعريف او لالتقاء الساكنين تشبيهما للنون بحرف اللين او لان الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا او صاحبنا قال البيضاوي هذا القول مزيف لانه يودى الى تسليم النسب وانكار الخبر المقدر قال عبيد بن عمير انما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال ان الله فقير ونحن اغنياء وقال البغوي روى عطية العوفى عن ابن عباس انما قالت اليهود عزير بن الله لاجل ان عزيرا كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فاضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا الله عزيز وابتهل اليه ان يرد الذي نسخ من صدورهم فبينما هو يصلى مبتهلا الى الله نزل نور من السماء فدخل فعاد اليه التوراة فاذن في قومه وقال يا قوم قد آتاني الله التوراة وردها فعلق الناس به يعلمهم فمكثوا ما شاء الله ثم ان التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير فوجدوه مثله فقالوا وما اوتى عزير هذا الا انه ابن الله وقال الكلبي ان نجت نصر لما ظهر على بنى إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله فلما رجع بنو إسرائيل الى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون له آية بعد ما أماته مائة عام وقد ذكرنا القصة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى او كالذى مر على قرية وهى خاوية(4/192)
راحلتى هاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن لا اركب بعيرا ليس لى قال هو لك ولكن بالثمن الذي ابتعتهما به قال أخذتها بكذا وكذا قال أخذتها بذلك قال هى لك وعند البخاري في غزوة الرجيع انها الجدعاء وأفاد الواقدي ان الثمن ثمانمائة قالت عايشة فجهزناهما أحب الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب وأفاد الواقدي انه كان في السفرة «1» شاة مطبوخة فقطعت اسماء بنت ابى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين وفي رواية ذات النطاق «2» قال محمد بن يوسف الصالحي المحفوظ في هذا الحديث ان اسماء شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الآخر ومن ثم قيل لها ذات النطاق وذات النطاقين فالتثنية والافراد بهذين الاعتبارين وعند ابن سعد انها شقت نطاقها فاوكت بقطعة منه الجراب وشدت في القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين واستاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر رجلا من بنى الديل وهو على دين كفار قريش واسلم بعد ذلك وكان هاديا خريتا يعنى ماهرا بالهداية فامناه فدفعا اليه راحليتهما وواعداه غار ثور بعد ثلث براحلتيهما واعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم.... عليا بخروجه وامره ان يتخلف بعده حتى يودى عنه الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه الا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته قالت عائشة ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر في غار في جبل ثور في حديث عمر عند البيهقي انها خرجا ليلا وذكر ابن إسحاق والواقدي انهما خرجا من خوخة «3» في ظهر بيت ابى بكر وروى ابو نعيم عن عايشة بنت قد أمته ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقينى ابو جهل فاعمى الله عز وجل بصره عنى وعن ابى بكر حتى مضينا قالت اسماء وخرج ابو بكر بماله كله خمسة آلاف درهم قال البلاذري كان مال ابى بكر يوم اسلم أربعين الف درهم فخرج الى المدينة للهجرة وما ماله الا خمسة آلاف درهم او اربعة
__________
(1) سفرة الطعام السفر.
(2) النطاق ما يشد به الوسط وكانت المرأة تلبس ثوبا ثم تشد وسطها بحبل ثم ترمل الأعلى على الأسفل فذلك الحبل النطاق 12.
(3) باب صغير 12.(4/209)
فبعثه ابنه عبد الله فحملها الى الغار قالت فدخل علينا جدى ابو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله انى لاراه قد ذهب بماله مع نفسه قالت قلت كلا يا أبت انه ترك لنا خيرا كثيرا قالت فاخذت احجارا فوضعتها في كوة البيت كان ابى يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت ضع يا أبت يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس ان كان ترك لكم هذا فقد احسن وفي هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت ان اسكن الشيخ روى البيهقي ان أبا بكر لما خرج هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الى الغار جعل يمشى مرة امام النبي صلى الله عليه وسلم ومرة خلقه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله اذكر الرصد فاكون امامك واذكر الطلب فاكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا أمن عليك فلما انتهيا الى فم الغار قال ابو بكر والذي بعثك بالحق نبيا لا تدخله حتى ادخله قبلك ما كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخله فجعل يلتمس بيده فكلما رأى حجرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الحجر حتى فعل ذلك بثوبه اجمع فبقى حجر فوضع عقبه عليه ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات يلسعن أبا بكر وجعلت دموعه يتحدر وروى ابن ابى شيبة وابن المنذر عن ابى بكر رضى الله عنه انهما لما انتهيا الى الغار إذا جحر فالقمه ابو بكر رجليه فقال يا رسول الله إن كان لدغة او لسعة كان بي وروى ابن مردوية عن جندب بن سفيان قال لما انطلق ابو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الغار قال ابو بكر يا رسول الله لا تدخل الغار حتى استبرئه «1» فدخل ابو بكر الغار فاصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن يده ويقول هل أنت الا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت وفي حديث انس عند ابى نعيم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح قال لابى بكر اين ثوبك فاخبر بالذي صنع فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم اجعل أبا بكر معى في درجتى في الجنة فاوحى الله اليه قد استجاب الله لك وروى زرين عن عمر انه ذكر عنده ابو بكر فبكى وقال وددت ان عملى كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه وليلة واحدة من لياليه
__________
(1) استبرأت الشيء طلبت آخره لقطع الشبهة عليه عنى 12.(4/210)
اما ليلته فليلة سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الغار فلما انتهيا اليه قال والله لا تدخله حتى ادخل قبلك فانكان فيه شيء أصابني دونك فدخل فكسحه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدها به فبقى فيها اثنان فالقمها رجليه ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع رأسه في حجره ونام فلدغ ابو بكر في رجله من الحجر ولم يتحرك مخافة ان ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ما يجده ثم انتقض عليه وكان سبب موته واما يومه فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدى زكوة فقال لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول الله تالف الناس وارفق بهم فقال لى إجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام انه قد انقطع الوحى وتم الدين أينقص وانا حى روى ابن سعد وابو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن ابى مصعب المكي قال أدركت انس بن مالك وزيد بن أرقم والمغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون ان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الغار أنبت الله شجرة الراه فنبت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسترته وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بينها فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وامر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار واقبل فتيان «1» قريش من كل بطن بعصيهم وهراوليهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على أربعين ذراعا جعل بعضهم ينظر في الغار فلم ير الا حمامتين وحشيتين فعرف انه ليس فيه أحد فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف ان الله تعالى قد درأ عنه بهما فبارك عليهما النبي صلى الله عليه وسلم وفرض جزاء بهن والخدرتا في الحرم فافرخ ذلك الزوج كل شيء في الحرم وروى احمد بسند حسن عن ابن عباس ان المشركين قصوا «2» اثره رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلث ليال وروى الحافظ احمد ابو بكر بن سعيد القاضي شيخ النسائي في مسند الصديق عن الحسن البصري قال جاءت قريش يطلب النبي
__________
(1) جمع كثرة للفتى وهو الشاب الحدث 12.
(2) أي طنبوا اثار اقدامه 12.(4/211)
صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا أرادوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا لم يدخله أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلى وابو بكر يرتقب فقال ابو بكر يا رسول الله هؤلاء قومك يطلبونك اما والله ما على نفسى ابكى ولكن مخافة ان ارى فيك ما اكره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لا تخف ان الله معنا وفي الصحيحين عن ابى بكر الصديق قال قلت للنبى صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو ان أحدهم نظر الى قدمه لابصر ما تحت قدمه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما وروى ابو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة قال نسجت العنكبوت مرتين مرة على داؤد حين كان طالوت يطلبه ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وذكر البلاذري في تاريخه وابو سعيد ان المشركين استاجروا رجلا يقال له علقمة بن كرز بن هلال الخزاعي واسلم عام الفتح فقفا لهم الأثر حتى انتهى الى غار ثور وهو بأسفل مكة فقال هنا انقطع اثره ولا أدرى أخذ يمينا او شمالا ثم صعد الجبل فلما انتهوا الى فم الغار قال امية بن خلف ما أريكم في الغار ان عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد ثم جاء قبال وروى البيهقي عن عروة ان المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبوا في كل وجه يطلبونه وبعثوا الى اهل المياه يأمرونهم ويجعلون لهم الجعل العظيم وأتوا على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر أصواتهم فاشفق ابو بكر وبكى واقبل عليه الهم والحزن والخوف فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابى بكر لا تحزن ان الله معنا
أقسمت بالقمر المنشق ان له ... من قلبه نسبة مبرورة القسم
وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمى
فالصدق في الغار والصديق لم يرما «1» ... وهم يقولون ما بالغار من ارم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت ... على خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله اغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن ال من الأطم
__________
(1) لم يبرحا 12.
.(4/212)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قال الله تعالى فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ اى على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لا تحزن ان الله معنا كذا ذكر البلاذري وروى ابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال فانزل الله سكينته على ابى بكر يعنى بقوله صلى الله عليه وسلم لا تحزن فان النبي صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السكينة من قبل وهذا اولى لان فاء فانزل يدل عليه وايضا إرجاع الضمير الى الأقرب اولى وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وهم الملئكة يضربون وجوه الكفار وأبصارهم عن رئية روى ابو نعيم عن اسماء بنت ابى بكر ان أبا بكر رأى رجلا مواجه الغار فقال يا رسول الله انه يرانا قال كلا ان الملئكة يستره الآن بأجنحتها فلم ينشب ان قعد يبول مستقبلهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لو كان يراك ما فعل هذا وقيل القوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا وقال مجاهد والكلبي أعانه الملئكة يوم بدر اخبر انه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم اظهر نصره بالملائكة يوم بدر روى ابن عدى وابن عساكر عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان هل قلت في ابى بكر شيئا قال نعم فقال قل وانا اسمع فقال وثانى اثنين في الغار المنيف وقد طاف العدو إذ صاعدوا الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا من البرية لم يعدل به رجلا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال يا حسان هو كما قلت قالت عايشة فكمنا «1» في الغار ثلث ليال وكان عبد الله بن ابى بكر يبيت عندهما وهو غلام شاب «2» ثقف لقف فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش كبائت لا يسمع امرا يكاد ان به الا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام وعند ابى استحق ان اسماء بنت ابى بكر كانت تأتيهما من الطعام إذا امست بما يصلحهما وكان عامر بن فهيرة يرعى غنما لابى بكر في رعيان اهل مكة فاذا امسى راح عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل «3» ورضيفهما يفعل ذلك كل ليلة من الليالى فلما مضت الثلث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استاجرا ببعيرهما فركبا وانطلق معهما عامر بن فهيرة غلاما لعبد الله ابن الطفيل
__________
(1) اى يطلب لهما من مكروه من الكيد 12.
(2) اى يخرج من السحر 12.
(3) رسل شير تازه رضيف شير گرم 12.(4/213)
ابن سنجره أخو عايشة لامها ليخدمها في الطريق فاخذ بهما الدليل طريق الساحل أسفل من غسفان ثم أجاز بهما حتى عارض الطريق على أمج روى احمد والشيخان عن البراء بن عازب انه قال لابى بكر كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سرينا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد رفعت لنا صخرة طويلة بها ظل لم يأت عليه شمس بعد فنزلنا عندها فاتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت له فروة كانت معى ثم قلت يا رسول الله نم وانا «1» انفض لك ما حولك فنام وخرجت انفض له ما حوله فاذا انا براع مقبل بغنمه الى الصخرة يريد منه الذي أردنا فلقيته فقلت له لمن أنت يا غلام فقال لرجل من اهل مكة فسماه فعرفته فقلت هل في غنمك من لبن قال نعم قلت فاحتلب لى قال نعم فاخذ شاة فقلت انقض الضرع من التراب والقذى فحلب لى في تعب معه كثبة «2» من لبن وسعى اداوة ارتوى «3» فيها للنبى صلى الله عليه وسلم يشرب منها ويتوضأ وعلى فمها خرقة فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت ان أوقظه من نومه فوقفت حتى استيقظه فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب حتى رضيت ثم قال ألم يأن الرحيل قلت بلى قال فارتحلنا بعد ما زالت الشمس روى الطبراني والحاكم وصححه وابو نعيم وابو بكر الشافعي عن سليط بن عمر والأنصاري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج مهاجرا الى المدينة هو وابو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم مروا على خيمة أم معبد الخزاعية وهى لا تعرفه وكانت برزة «4» جلدة تجلس بفناء القبة ثم تسقى وتطعم فسالوها لحما وتمرا يشتروا منها فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك وإذ القوم مرملو «5» مسنتون فقالت والله لو كانت عندنا شيء ما أعوزناكم فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى شاة في كسر الخيمة
__________
(1) اى أتجسس وتعرف ما فيه مما يخاف وفي النهاية اى احرس وأطوف هل ارى طلبا يقال نفضت المكان واستنفضة او أنظرت جميع والنفضة بفتح الفاء وسكونها قوم يبعثون متجسسين بل يرون غددا او خوفا 12.
(2) كثبه اى قدر قدح وقيل جلته خفيفة 12. [.....]
(3) ارتوى فيها اى آب مى اوردم در ان 12.
(4) برزة امراة كهلة لا يحجب كالشواب وهى مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم 12.
(5) مرملون هم الذين نفد زادهم وأصله من الرمل كانهم لصقوا بالرمل 12.(4/214)
فقال ما هذه الشاة يا أم معبد قالت شاة خلفها الجهد عن الغنم قال هل بها لبن قالت هى اجهد من ذلك قال أتأذنين لى ان احلبها قالت بابى أنت وأمي ان رايت بها حلبها فو الله ما ضربها من فحل قط فشانك «1» بها فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله ودعا لها في شانها فتفاجت عليه ودرت ودعا باناء يربض «2» الرهط فحلب فيه ثجا «3» حتى علاه البهاء سقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا ثم شرب صلى الله عليه وسلم وقال ساقى القوم آخرهم شربا ثم حلب فيه ثانيا بعد بداء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها ثم تابعها وارتحلوا عنها وروى ابن سعد وابو نعيم عن أم معبد قالت بقيت الشاة التي لمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها حتى كان زمان الرمادة وهى سنة ثمان عشرة من الهجرة زمن عمر بن الخطاب وكنا نحلبها صبوحا «4» وغبوقا وما في الأرض قليل ولا كثير وروى البيهقي من وجه آخر قصة أم معبد بزيادة ونقصان وفيه عند الماء جاء ابنها باعنز يسوقها فقالت له انطلق بهذه العنزة والشفرة «5» الى هذين الرجلين فقل لهما يقول لكما ابى اذبحا هذه وكلا وأطعما فقال له النبي صلى الله عليه وسلم انطلق بالشفرة وجئنى بالقدح قال انها عنزة وليس بها لبن قال انطلق فانطلق فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها ثم حلب ملأ القدح الحديث وفيه قال ابو بكر فلبثنا ليلتين ثم انطلقنا وكانت تسميه المبارك وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا الى المدينة فمر ابو بكر فرأه ابنها فعرفه فقال يا أمته ان هذا الرجل الذي كان مع المبارك فقامت اليه فقالت يا عبد الله من الرجل الذي كان معك قال هو نبى الله قالت فادخلنى عليه فاطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساها وأسلمت قال هشام بن جيش فلما لثبت حتى جاءها زوجها ابو معبد يسوق أعنزا حبالى عجافا «6» فلما راى اللبن عجب وقال من اين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاء عازب ولا حلوب في البيت قال لا والله الا انه مر رجل
__________
(1) فشانك منصوب بفعل مقدر اى أصلح او نحو ذلك 12.
(2) يربض اى يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض من ربض بالمكان إذا لصق به 12.
(3) اى لنا كثيرا حتى علا الإناء بهاء اللبن وهو وبيص رغوته 12.
(4) صبوح ما يشرب أول النهار غبوق ما يشرب اخر النهار 12.
(5) جمع حامل وهى التي لم تحمل فيدل على العي 12.
(6) اى بعيد المرعى لا تنود الى المرج في الليل 12.(4/215)
مبارك من حاله كذا وكذا قال صفية يا أم معبد قالت رايت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه نجلة ولم تزرئه صعلة وسيما قسيما في عينيه رعج وفي اشفاره وطف وفي صوبة صحل او قالت صهل وفي عنقه سطح وفي لحيته كثافة أزج اقرن ان صمت فعليه الوقار وان تكلم سما وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب فصل لا نزر ولا هذر كان منطقه خرزات نظمن يتحدون ربعة لا يشناه طول ولا تفتحمه عين من قصر غضبا بين غصنين فهو انظر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدر اله رفقاء يحفون به ان قال انصتوا لقوله وان امر ابتدروا الى امره محفود محشود لا عابس ولا معتد فقال ابو معبد هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من امره بمكة ولقد همت ان اصحبه ولافعلن ان وجدت الى ذلك سبيلا قالت اسماء رضى الله عنها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر أتانا رجال من قريش فيهم ابو جهل فوقفوا على باب ابى بكر فخرجت إليهم فقالوا اين أبوك يا ابنة ابى بكر قلت لا أدرى والله اين ابى فرفع ابو جهل يده وكان فاحشا خبيثا فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى قالت ثم انصرفوا فمكثنا ثلثة ايام ما ندرى اين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غنا العرب وتبعه الناس يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول جزا الله رب العرش خير جزائه رفيقين قالا «1» خيمتى أم معبدهما نزلاها بالهدى فاهتدى به وقد فاز من امسى رفيق محمد فيا لقصى مازوى «2» الله عنكم به من فقال لا تجارى وسود وليهن بنى كعب مقام فتاتهم ومقعدها للمومنين بمرصد سلوا أختكم عن شاتها وانائها فانكم ان تسالوا الشاة تشهدوا دعاه بشاة حائل فتحلبت اليه بصريح ضرة «3» الشاة مزيد فغادرها رهنا لديه لحالب «4» يردها في مصدر ثم مورد وفي رواية عند البيهقي بسند حسن في فضة أم معبد انه طلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسالوها عنه فقالوا ارايت محمدا من خلقه كذا فوصفوه لها فقالت ما تقولون قد ضافنا حالب الحائل قالت قريش فذاك الذي أردنا قال البيهقي يحتمل انه صلى الله عليه وسلم راى الشاة التي
__________
(1) قال من القيلوة.
(2) زوى جمع وقبض صرع اللبن الخالص.
(3) ضرة اصل الفرع زيد اى علاه الزبد 12.
(4) يعنى يحلبها مرة بعد اخرى 12.(4/216)
فى كسر الخيمة ثم رجع ابنها باعنز ثم جاء زوجها ووصفته له قلت ولعل ذلك جاءت قريش في طلبه صلى الله عليه وسلم (قصة سراقه) روى احمد والشيخان في الصحيحين عن سراقة بن مالك واحمد ويعقوب بن سفيان عن ابى بكر قال سراقة جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول صلى الله عليه وسلم وابى بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة من الإبل لمن قتله او اسره فبينا انا جالس في مجلس من قومى بنى مدلج اقبل رجل منهم حتى قام علينا فقال يا سراقة انى رايت آنفا اسودة «1» بالساحل وفي لفظ ركبة ثلثة ولا أراها الا محمد او أصحابه قال سراقة فعرفت انهم هم فاوميت اليه ان اسكت فسكت حتى قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتى ان تخرج فرسى الى بطن الوادي وأخرجت سلاحى من وراء حجرتى فخططت برمحى وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسى فركبتها فدفعتها تقرب فرأيت اسودتهما فلما دنوت منهم عثرت بي فرسى فخررت منها فقمت فاهويت بيدي كنانتى فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم اولا أضرهم فخرج الذي اكره ان لا أضرهم وكنت ارجوا ان أرده فآخذ المائة ناقة فركبت فرسى وعصيت الأزلام فدفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وابو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسى في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يداها فلما استوت قائمة إذ لا تريد بها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي اكره ان لا أضرهم فعرفت انه قد منع منى وانه ظاهر فناديتهما بالأمان «2» وقلت انظرونى فو الله لا اوذينكم ولا يأتيكم منى شيء تكرهونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابى بكر رضى الله عنه قل له ماذا تبغى قلت ان قومك قد جعلوا فيك الدية واخبرتهما اخبار ما يريد الناس بهم وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يرزانى ولم يسالنى الا ان قال أخف عنا فسالته ان يكتب لى كتاب أمن قال اكتب له يا أبا بكر وفي رواية فامر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من آدم ثم مضى رسول الله صلى الله
__________
(1) اسودة جمع سواد وهو الشخص 12. [.....]
(2) اى لم ينقصاتى مما معى شيئا 12.(4/217)
عليه وسلم فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفرغ من اهل حنين خرجت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لالقاه ومعى الكتاب الذي كتب لى فبينا انا عامد له دخلت بين ظهرى كثيبة من كثايب الأنصار قال فطففوا يقرعوننى بالرماح ويقول إليك حتى دنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته انظر الى ساقه في غرزه كانها جمادة فرفعت يدى بالكتاب فقلت يا رسول الله هذا كتابك وانا سراقة بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟؟؟ رم وفاء وبر أدنه فدنوت منه فاسلمت ثم ذكرت شيئا أسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم اذكره الا ان قلت يا رسول الله الضالة من الإبل تغشى حياضى وقد ملأتها من الإبل هل لى من اجر قال نعم في كل ذات كبد حرا اجر قال فرجعت الى قومى فسقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتى وقال ابو بكر وتبعنا سراقة بن مالك فنحن في جدد الأرض فقلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال وما يبكيك قلت اما والله ما على نفسى ابكى ولكن ابكى عليك قال فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم اكفناه بما شئت قال فساخت به فرسه في الأرض الى بطنها فوثب عنها ثم قال يا محمد قد علمت ان هذا علمك فادع الله ان يبحينى مما انا فيه فو الله لا عمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتى فخذ منها سهما فانك ستمر بإبلي وغنمى بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حاجة لنا في إبلك وغنمك ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق راجعا الى أصحابه لا يلقى الا قال قد كفيتم ولا يلقى أحدا إلا رده ووفى لنا وعند ابن سعد ان سراقة لما رجع قال لقريش قد عرفتم بصرى بطريق وقد سرت فلم ار شيئا فرجعوا قال ابن سعد والبلاذري عارضهم السراقة بقديد يوم الثلاثاء وروى عروة والحاكم عنه عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم لقى الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضاء وروى البيهقي عن موسى بن عقبة انه صلى الله عليه وسلم لما دنا المدينة قدم طلحة بن عبيد الله من الشام عامدا الى مكة فلما لقيه أعطاه الثياب فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر روى البيهقي عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/218)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قال لابى بكر مدخله المدينة الاغنى؟ الناس فانه لا ينبغى لبنى ان يكذب فكان ابو بكر إذا سئل من أنت قال باغي حاجة وإذا قيل من الذي معك قال هاد يهدينى ولما شارف رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لقيه ابو بردة الأسلمي في سبعين من قومه بنى سهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنت قال بريدة قال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح ثم قال ممن قال من اسلم قال لابى بكر سلمنا ثم قال ممن قال من سهم قال خرج سهمك فلما أصبح قال بريدة للنبى صلى الله عليه وسلم لا تدخل المدينة الا ومعك لواء فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم مضى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحاكم تواترت الاخبار ان خروجه من مكة كان يوم الاثنين ودخول المدينة يوم الاثنين الا ان محمد بن موسى الخوارزمي قال خرج من مكة يوم الخميس قال الحافظ يجمع بينهما بان خروجه من مكة يوم الخميس وخروجه من الغار ليلة الاثنين لانه اقام فيه ثلث ليال ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين قلت ولعل ليلة الخميس هى الليلة التي أراد قريش قتله صلى الله عليه وسلم بعد ما مكروا به في دار الندوة فخرج صلى الله عليه وسلم من بيته الى بيت ابى بكر واستصحبه ثم خرج من خوخة ظهر بيته والله اعلم- وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كلمة الشرك او دعوتهم الى الكفر السُّفْلى ط وذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن إيذاء الكفار الى المدينة او بتأييده
إياه بالملائكة في المواطن او بحفظه ونصره حيث حصروا وَكَلِمَةُ اللَّهِ يعنى كلمة التوحيد ودعوة الإسلام قرأ يعقوب بالنصب عطفا على كلمة الذين كفروا والباقون بالرفع على انه مبتداء خبره هِيَ الْعُلْيا ط وفيه اشعار بان كلمة الله عالية في نفسها وان فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولذلك وسط الفصل وقيل كلمة الذين كفروا ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه وكلمة الله وعده انه ناصره وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) فى امره وتدبيره.
قال الله تعالى انْفِرُوا خِفافاً يعنى حين يخف ويسهل لكم الخروج الى الجهاد بصحة البدن والشباب والقوة والنشاط ووجود الزاد والراحلة والأعوان والاسلحة وَثِقالًا يعنى حين يثقل عليكم لاجل المرض او الشيب او الضعف او عدم النشاط او شاغل من الأهل(4/219)
والمال والضيعات وقلة الزاد والسلاح والكراع والمتاع والى ما ذكرنا يرجع ما قال الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة شبابا وشيوخا وما قال ابن عباس نشاط وغير نشاط او اهل اليسر والعسر او مقلين من السلاح ومكثرين منه وما قال عطية العوفى ركبانا ومشاة وابن زيد ان الثقيل الذي له الضيعة يكره ان يدع ضيعته والحكيم بن عتبة مشاغيل وغير مشاغيل والهمداني أصحاء ومرضى ويمان غرابا ومتاهلين او مقلين الاتباع والحواشي ومستكثرين وقال ابو صالح خفافا من المال اى فقراء وثقالا اى اغنياء وقيل خفافا مسرعين خارجين ساعة سماع النفير وثقالا بعد التروي فيه والاستعداد له قال الزهري خرج سعيد بن المسيب الى الغزو وقد ذهبت احدى عينيه فقيل له انك عليل صاحب ضر فقال استنفر الله الخفيف والثقيل وان لم يمكننى الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع قال عطاء الخراسانى عن ابن عباس نسخت هذه الآية قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقال السدى لما نزلت هذه الآية اشتد شانها على الناس فنسخها الله تعالى وانزل ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية قلت لعل المراد بالنسخ في قول ابن عباس والسدى التخصيص لكون نزول الآيتين جميعا بلا فصل في غزوة تبوك فخرج من هذا الحكم من لا يستطيع الخروج من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون او ما يركبون عليه ولا يستطيعون الشيء وبقي من يستطيع الخروج ولو بنوع مشقة وذلك لاجل النفير العام ويمكن ان يكون نزول قوله تعالى ليس على الضعفاء للآية بفصل يوم او يومين ولو في غزوة تبوك بعد ما اشتد شانها على الناس فيكون نسخا والله اعلم- وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ اى بما أمكن لكم منهما كليهما او أحدهما فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من الاستمتاعات الدنيوية وترك الجهاد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) الخير من الشر علمتهم انه خير لكم او ان كنتم تعلمون انه خير واخبار الله به صدق فبادروا اليه قال محمد بن عمر حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة يعنى لتجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك وكان أول من جاء بماله ابو بكر الصديق باربعة آلاف درهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أبقيت لاهلك شيئا قال أبقيت لهم الله ورسوله وجاء عمر بنصف ماله فقال رسول الله صلى الله(4/220)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
عليه وسلم هل أبقيت لاهلك شيئا قال نعم مثل ما جئت به وحمل العباس طلحة بن عبيد الله وسعد بن عبادة وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتى اوقية الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدق عاصم بن عدى تسعين وسقا من تمر وجهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش حتى كان يقال ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم قال محمد بن يوسف الصالحي كان ذلك الجيش زيادة على ثلثين الفا فيكون رضى الله عنه جهز عشرة آلاف وذكر ابو عمرو في الدرر وتبعه في الاشارة ان عثمان حمل على تسعمائة بعير ومائة فرس بجهازها وقال ابن إسحاق أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها وفقل ابن هشام عمن يثق به ان عثمان أنفق في جيش العسرة عشرة آلاف درهم قال محمد بن يوسف الصالحي يعنى غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارض عن عثمان فانى راض عنه وروى احمد والترمذي وحسنه والبيهقي عن عبد الرحمن بن سمرة قال جاء عثمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم يرددها مرارا قال ابن عقبة وتخلف المنافقون عن غزوة تبوك وحدثوا أنفسهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجع إليهم ابدا
فاعتذروا وقال محمد بن عمر وجاء ناس من المنافقين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاذنوه في القعود من غير علة فاذن لهم وكانوا بضعة وثمانين رجلا فانزل الله تعالى فيهم.
لَوْ كانَ اسم كان مضمر اى لو كان ما دعوا اليه عَرَضاً قَرِيباً اى متاعا دنيويا او المعنى غنيمة قريبته المتناول وَسَفَراً قاصِداً اى متوسطا لَاتَّبَعُوكَ لوافقوك في الخروج طلبا للغنيمته وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ يعنى المسافة فانها تقطع بمشقة وقيل الشقة الغاية التي يقصدونها وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ متعلق بسيحلفون او هو من جملة كلامهم والقول مراد في الوجهين يعنى سيحلفون بالله قائلين لو استطعنا لخرجنا او سيحلفون المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين يقولون بالله لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ ساد مسد جواب القسم والشرط(4/221)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة او استطاعة الأبدان كانهم تمارضوا وهذه معجزة لكونه اخبارا عما وقع قبل وقوعه يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بدل من سيحلفون يعنى انهم يهلكونها بايقاعها في العذاب بترك امتثال امر رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب واليمين الفاجرة وجاز ان يكون حالا من فاعل خرجنا يعنى لخرجنا معكم وان أهلكنا أنفسنا بالمسير في الحر والقياها في التهلكة وجاء به على لفظ الغائب لانه مخبر عنهم الا ترى انه لو قال سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان ايضا سديدا يقال حلف بالله ليفعلن ولا فعلن فالغيبة على حكم الاخبار والتكلم على الحكاية وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (46) في ذلك لانهم كانوا مستطيعين للخروج.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «1» قال سفيان بن عيينه بدأ بالعفو قبل ان يعيره بالذنب لطفا به وإكراما له قلت او لانه تعالى ذكر العفو قبل المعاتبة تحرزا من ان يهلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لكمال خوفه وخشيته من الله تعالى وقيل افتتح الكلام بالدعاء كما يقول الرجل لمن خاطبه إذا كان كريما عنده عفا الله عنك ما صنعت في حاجتى ورضى الله عنك الا زرتنى وقيل معناه ادام الله لك العفو لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فى القعود حين استأذنوك وهلا توقفت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى الاعتذار وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) فيها يعنى من لا عذر له قال ابن عباس لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ اخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون قال اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يومر بهما اذنه المنافقين في القعود واخذه الفدية من أسارى يدر فعاتبه الله كما تسمعون.
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فى التخلف كراهة أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ والمعنى لا يستاذنونك في ان يجاهدوا بل يبادرون اليه ولا ينتظرون الاذن فضلا ان يستاذنوا في التخلف
__________
(1) قال القاضي عياض في الشفاء ليس عفا هاهنا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق ولم تجب عليهم قطاى لم يلزمكم ذلك ونحو للقشيرى وقال انما يقول العفو لا يكون الا عن ذنب من لم يعرف كلام العرب وقال معنى عفا الله عنك لم يلزمك ذنبا قال القاضي لم يتقدم للنبى صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهى فيعد معصية ولاعد الله عليه معصية بل لم يعده اهل العلم معاتبه وغلطوا من ذهب الى ذلك قال نفطويه وقد حاشا الله من ذلك بل كان مخيرا بين أمرين 12.(4/222)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) شهادة لهم بالتقوى ووعدوا بثوابه.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذكر الايمان بالله واليوم الآخر في الموضعين اشارة الى ان الايمان يقتضى محبة الجهاد طمعا في الثواب بحيث لا يستاذن في إتيانه وعدم الايمان يقتضى تركه لعدم رجاء الثواب وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فشكت في الدين ونافقت فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) يتحيرون فتارة يريدون الخروج كيلا يردا من المسلمين أذى لو ظفروا وتارة عدم الخروج لزعمهم ان الرسول لا يرجع إليهم ابدا.
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ معك لَأَعَدُّوا لَهُ ليهيؤا للخروج او للجهاد عُدَّةً ما يعد للسفر والجهاد من المتاع والسلاح والكراع وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ استدراك عن مفهوم قوله ولو أراد والخروج كانه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لانه تعالى كره ولم يرد نهوضهم للخروج فَثَبَّطَهُمْ فحبسهم بالجبن والكسل وَقِيلَ اقْعُدُوا فى بيوتكم مَعَ الْقاعِدِينَ (46) يعنى مع المرضى والزمنا وقيل مع النساء والصبيان تمثيل لا لقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم او وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود او حكاية قول بعضهم لبعض او اذن الرسول لهم قصة خروجه صلى الله عليه وسلم وتخلف اكثر المنافقين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب سنة تسع فعسكر بثنية الوداع ومعه زيادة من ثلثين الفا قاله محمد بن إسحاق ومحمد بن عمرو ابن سعد وكذا روى الحاكم في الإكليل عن معاذ بن جبل ونقل الحاكم في الإكليل عن ابى ذرعة الرازي قال كانوا بتبوك سبعين الفا وجمع بين الكلامين ان سبعين التابع والمتبوع وكانت الخيل عشرة آلاف فرس روى عبد الرزاق وابن سعد انه خرج الى تبوك يوم الخميس وكان يستحب ان يخرج يوم الخميس قال ابن هشام واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري وذكر الدراوردي انه استخلف عام تبوك سباع بن عرفظة زاد محمد بن عمر بعد حكاية ما تقدم ويقال ابن أم مكتوم قال والثابت عندنا محمد بن مسلمة الأنصاري ولم يتخلف عنه في غزوة غيرها وقيل على ابن ابى طالب قال ابو عمر وتبعه ابن دحية وهو الا ثبت روى عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد(4/223)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
بن ابى وقاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج الى تبوك استخلف على المدينة على بن ابى طالب قال ابن إسحاق وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن ابى طالب على اهله وامره بالإقامة فيهم فاوجف به المنافقون وقالوا ما خلفه الا استثقالا له وتحققا منه فلما قالوا ذلك أخذ على سلاحه وخرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فاخبره بما قالوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوا ولكن خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفنى في أهلي وأهلك فلا ترضى يا على ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبى بعدي فرجع على رضى الله عنه وهذا الحديث متفق عليه وعسكر عبد الله بن ابى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حدة عسكرة أسفل منه نحوذ باب «1» فاقام الى ما اقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو تبوك تخلف ابن ابى راجعا الى المدينة فيمن تخلف من المنافقين وقال يغز ومحمد بنى الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد الى ما لا طاقة له به يحسب محمد ان قتال بنى الأصفر معه اللعب والله لكانى انظر الى أصحابه مقرنين في الجبال ارجافا «2» برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه فانزل الله ... تعالى في ابن ابى ومن معه قوله تعالى.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ بخروجهم شيئا إِلَّا خَبالًا اى شرا وفسادا بايقاع الجبن في المؤمنين بتهويل الأمر او باعانة الكفار في حالة الجهاد والغرة بالمؤمنين ونحو ذلك ولا يستلزم الآية وجود الفساد الآن وزيادة الفساد عند خروجهم لان الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ولاجل هذا التوهم جعل بعضهم الاستثناء منقطعا وليس كذلك لانه لا يكون حينئذ مفرغا وَلَأَوْضَعُوا اى اسرعوا ركائبهم بالنميمة او الهزيمة او التخذيل من وضع البعير وضعا إذا اسرع خِلالَكُمْ اى وسطكم وقيل اوضعوا خلالكم اى اسرعوا فيما يخل بكم يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ اى يريدون ان يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم او الرعب من العدو في قلوبكم والجملة حال من فاعل اوضعوا وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ اى ضعفة يسمعون قولهم ويطيعون
__________
(1) ذباب جبل بقرب المدينة 12.
(2) رجافا يعنى قالوا ذلك حتى يضطرب المسلمون 12.(4/224)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
كذا قال قتادة او الجواسيس يسمعون حديثكم للنقل إليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) اى يعلمه ضمايرهم وما يتأتى منهم فيجازيهم عنه.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ اى طلبوا تشتت أمرك وتفرق أصحابك وتخذيل المؤمنين مِنْ قَبْلُ هذا اليوم يوم أحد حين انصرفوا عنك ابن ابى بأصحابه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ اى دبروا لك المكايد والحيل ودور والآراء فى ابطال أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ اى جاء نصر الله وتائيده للدين الحق وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أعلا دينه على زعم منهم وَهُمْ كارِهُونَ (48) ظهور الدين وعلوه.
وَمِنْهُمْ اى من المنافقين الذين استأذنوا فى التخلف مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي فى التخلف وَلا تَفْتِنِّي وذلك جد بن قيس المنافق روى ابن المنذر والطبراني وابن مردوية وابو نعيم فى المعرفة عن ابن عباس وابن ابى حاتم وابن مردوية عن جابر بن عبد الله ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمر وابن عقبة عن شيوخهم ان جد بن قيس اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى المسجد معه نفر فقال يا رسول الله ائذن فى القعود فانى ذو ضيعة وعلة فيها عذر لى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تجهز فانك موسر لعلك تحقب من بنات بنى الأصفر قال الجد او تأذن لى ولا تقتنى فو الله لقد عرف قومى ما أحد أشد عجبا بالنساء منى وانى لاخشى ان رايت بنات بنى الأصفر لا اصبر عنهن فاعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قد اذنا لك زاد محمد بن عمر فجاءه ابنه عبد الله بن جد وكان بدر يا وهو أخو معاذ بن جبل لامه فقال لابيه لم ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله فو الله ما فى بنى سلمة أحد اكثر مالا منك فلا تخرج ولا تحمل فقال يا بنى مالى وللخروج فى الحر الشديد والريح والعسرة الى بنى الأصفر والله ما أمن خوفا من بنى الأصفر وانا فى منزلى افاذهب إليهم اغزوهم انى والله يا بنى عالم بالدوائر فاغلظ له ابنه فقال لا والله ولكنه النفاق والله لينزلن على رسوله قران يقرأ به فرفع نعلم؟؟ فضرب بها وجه ولده فانصرف ابنه ولم يكلمه فانزل الله هذه الاية للطبرانى وابن مردوية وابو نعيم انه قال عليه السلام لجد بن قيس ما تقول فى مجاهدة بنى الأصفر فقال يا رسول الله انى امرأ صاحب النساء ومتى ارى نساء بنى الأصفر افتتن فأذن لى ولا تفتنى فنزلت وذكر البغوي انه صلى الله عليه وسلم قال يا أبا وهب هل لك فى جلاد بنى الأصفر تتخذ منهم(4/225)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
سرارى ووصيفا فقال جد يا رسول الله لقد عرف قومى انى رجل مغرم بالنساء وانى أخشى ان رايت بنات الأصفر ان لا اصبر عنهن ائذن لى فى القعود ولا تفتنى بهن وأعينكم بمالى واخرج الطبراني بوجه اخر عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال اغزوا تغتنموا بنات بنى الأصفر فقال ناس من المنافقين انه ليفتنكم بالنساء فانزل الله تعالى هذه الاية ومعنى قوله لا تفتنى على ما تقتضيه الروايات المذكورة ان لا تفتنى ببنات نبى الأصفر يعنى أقع فى الإثم والفتنة لاجل حبهن وعدم المصابرة عنهن وقيل معناه لا تفتنى بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لها بعدي وقيل معناه ائذن لى فى القعود ولا توقعنى فى الفتنة يعنى العصيان لمخالفة أمرك بان لا تأذن لى واقعد وفيه اشعار بانه لا محالة متخلف اذن به او لا يأذن أَلا فِي الْفِتْنَةِ اى الشرك والعصيان سَقَطُوا وقعوا يعنى الفتنة هى التي سقطوا فيها وهى فتنة التخلف وظهور النفاق وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) مطبقة بهم جامعة لهم يوم القيمة او الان لاحاطة أسبابها.
إِنْ تُصِبْكَ يا محمد فى بعض غزواتك حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ لفرط حدهم وَإِنْ تُصِبْكَ فى بعضها مُصِيبَةٌ كسرة او شدة كما أصاب يوم أحد فرحوا بتخلفهم واستحمدوا آرائهم يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا اى ما كان أصلح لنا يعنى القعود من الغزو مِنْ قَبْلُ وقوع هذه المصيبة وَيَتَوَلَّوْا عن متحدثهم بذلك ومجتمعهم او عن الرسول صلى الله عليه وسلم وَهُمْ فَرِحُونَ (50) مسرورون بمصيبة المؤمنين بعداوتهم.
قُلْ يا محمد لهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فى اللوح المحفوظ من النصرة او الشهادة ولم يقل ما كتب الله لنا او علينا للاشعار يكون كلا التقديرين خيرا لنا هُوَ يعنى الله الذي كتب مَوْلانا ناصرنا ومتولى أمرنا فكيف يكون تقديره شرا لنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خير اله وان أصابته ضراء صبر فكان خير اله رواه احمد ومسلم عن صهيب وروى البيهقي عن سعد نحوه وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) متعلق بمحذوف اى ليتوكل المؤمنون على الله(4/226)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
فليتوكلوا عليه وفيه تأكيد وبالفاء اشعار بانه لا ينبغى لهم ان يتوكلوا على غيره وهو وليهم والقدير على كل شىء.
قُلْ لهم يا محمد هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا فيه حذف أحد التاءين أصله تتربصون يعنى ما تنتظرون بنا ايها الكفار او المنافقون إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ اى احدى العاقبتين كل منهما حسنى العواقب وذلك القتل فى سبيل الله وذلك وإن كان قبيحا على زعمكم لكنه احدى العاقبتين الحسنين فى حقنا أحدهما هذه وهى شهادة مورثة للجنة والحيوة المؤبدة وثانيهما النصر والغنيمة عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انتدب الله لمن خرج فى سبيله لا يخرجه الا ايمان لى وتصديق برسلى ان ارجعه بما نال من اجر وغنيمة او ادخله الجنة متفق عليه والترديد مانعة الخلو دون الجمع وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ احدى السوئتين ان لا تتوبوا أحد لهما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ يوم القيامة ان ظفرتم فى الدنيا وثانيهما ما قال أَوْ بِأَيْدِينا اى او بعذاب بايدينا وهو القتل على الكفر المفضى الى عذاب النار وهذا على تقدير كون الخطاب لمطلق الكفار وعلى تقدير كونه للمنافقين خاصة فاحدى السوئتين ان يصيبكم الله بعذاب من عنده اى يهلككم كما أهلك الأمم الخالية فيعذبكم فى النار ان متم على النفاق وثانيهما القتل على الكفر ان أظهرتم ما فى قلوبكم فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) ما هو عاقبتكم وقال الحسن تربصوا مواعيد الشيطان انا متربصون مواعيد الرحمن من اظهار دينه.
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نصب على الحال اى طائعين من غير الزام من الله ورسوله او مكرهين اى ملزمين سمى الإلزام اكراها لانهم كانوا منافقين فكان إلزامهم الانفاق شاقا عليهم كالاكراه وهذا صيغة امر بمعنى الخبر تقديره لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ نفقاتكم سواء أنفقتم طوعا او كرها وفائدته المبالغة فى الحكم بتساوي الانفاقين فى عدم القبول كانهم أمروا ان يمتحنوا فينفقوا مرة طوعا ومرة كرها وينظروا هل يتقبل منهم شىء منها وهو جواب لجد بن قيس حيث قال ائذن لى ولا تفتنى وأعينك بمال ونفى التقبل بوجهين أحدهما انه لا يقبل منهم رسول الله(4/227)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
صلى الله عليه وسلم وكذا الائمة بعده لا يقبلون الصدقة ممن يعلمون انه منافق وثانيهما انه تعالى لا يتقبل منهم ولا يثيب عليه إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) اى خارجين من زمرة المسلمين تعليل لعدم التقبل على سبيل الاستيناف وما بعده بيان وتقرير له.
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لان الفاعل مونث غير حقيقى اعنى نَفَقاتُهُمْ ان يقبل مفعول لمنع وفاعلا إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا يعنى ما منع من قبول نفقاتهم الا كفرهم بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى يعنى متثاقلين لمراة الناس عطف على كفروا وَلا يُنْفِقُونَ نفقة فى سبيل الله إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ (54) لانهم لا يرجون بها ثوابا ولا يخافون على تركها عفا بايعدون الزكوة مغرما وتركها مغنما فان قيل وصفهم بالطوع فى قوله أنفقوا طوعا او كرها وسلبه هنا بالكلية فكيف التوفيق قلنا المراد بالطوع هناك بذلهم من غير الزام الرسول كما ذكرنا وليس ذلك البزل إلا رياء فليس ذلك الا عن كراهة واضطرار لا عن رغبة واختيار او يقال وصفه بالطوع هناك على سبيل الفرض وسلبه هاهنا على التحقيق.
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ الاعجاب هو السرور بما يستحسن يعنى لا يستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد فان ذلك استدراج ووبال لهم كما قال إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ باعطائهم الأموال والأولاد لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب ما يتكايدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب وفى إنفاقها من المكاره وفى تخليفها عند من لا يحمده من الحسرات وقال مجاهد وقتادة فى الآية تقديم وتأخير تقديرها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم فى الحيوة الدنيا انما يريد الله ان يعذبهم بها فى الآخرة على كسبها وجمعها وحفظها وإنفاقها على وجه غير مشروح وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) واصل الزهوق الخروج بصعوبة يعنى تخرج أنفسهم متحسرا متاسفا على تركها مشتغلون بالتمتعات عن النظر فى المبدأ والمعاد فيكون ذلك استدراجا والآية دلت على بطلان القول بوجوب الأصلح لانه تعالى اخبر انه اعطى الأموال(4/228)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
والأولاد للتعذيب والاماتة على الكفر.
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ اى من المسلمين وَما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) يخافون منكم ان تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين.
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً اى حصنا يلجئون اليه او قوما يأمنون فيهم أَوْ مَغاراتٍ فى الجبال جمع مغارة وهى الغار يعنى الموضع الذي يغور فيه اى يستتر وقال عطاء سراديب أَوْ مُدَّخَلًا أصله مدتخل مفتعل من الدخول اى موضع يدخلون فيه بصعوبته كنفق اليربوع لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لادبروا اليه هربا منكم وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) اى يسرعون فى اباء نفور لا يردهم شىء كالفرس الجموح ومعنى الآية انهم كارهون من مصاحبتكم أشد الكراهة لو يجدون مخلصا منكم لفارقوكم.
وَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ اى يعيبك يقال لمزه وهمزه إذا عابه قرأ يعقوب بضم الميم حيث كان فِي الصَّدَقاتِ اى قسمتها يعنى يقولون لا تعدل فى القسمة روى الشيخان والبيهقي عن ابن مسعود قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائم هوازن يوم حنين آثر ناسا من اشراف العرب فقال رجل من الأنصار يعنى من قومهم ان هذه لقسمة ما عدل فيها او ما أريد فيها وجه الله فقلت والله لاخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبرته فتغير وجهه حتى صار كالصرف «1» وقال فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر قال محمد بن عمر الرجل المبهم هو معتب بن قشير المنافق وروى ابن إسحاق عن ابن عمر والشيخان واحمد عن جابر والبيهقي عن ابى سعيد الخدري رضى الله عنهم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يقسم غنائم هوازن إذ قام اليه رجل قال ابن عمر وابو سعيد من تميم يقال له ذو الخويصرة فوقف عليه صلى الله عليه وسلم قال فكيف رايت قال لم أرك عدلت اعدل وفى رواية فقال الرجل يا رسول الله اعدل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ويلك من يعدل إذا لم اعدل قد خبت وخسرت ان لم أكن اعدل وفى رواية إذا لم يكن العدل عندى فعند من يكون فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله وعنى اقتل هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله
__________
(1) الصرف صيغ يصبغ به الأديم 12 منه.(4/229)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
عليه وسلم معاذ الله ان يتحدث الناس اقتل أصحابي دعه فان له أصحابا يحتضر أحدكم صلوته مع صلوتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر الى نصله فلا يوجد فيه شىء ثم ينظر الى ارصافه فلا يوجد فيه شىء ثم ينظر الى نضيه ... «1» فلا يوجد فيه شىء ثم ينظر الى قدده فلا يوجد فيه شىء وقد سبق الفرث والدم آيتهم رجل اسود احدى عضديه مثل ثدي المرأة او مثل البضعة تدرور ويخرجون على خير فرقة من الناس قال ابو سعيد فاشهد انى سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم واشهد ان على ابن ابى طالب قاتلهم وانا معه فامر بذلك الرجل فالتمس فاتى به فنظرت اليه على لعت النبي صلى الله عليه وسلم قال البغوي وصاحب اسباب النزول نزلت الآية فى ذى الخويصرة التميمي يعنى المذكور فى هذا الحديث واسمه خرقوص بن زهير اصل الخوارج فظاهر الآية يابى عن هذا القول لان المذكور فى الآية لمن الصدقات وقصتها ذى الخويصرة التميمي ومعتب بن قشير المذكورين فى الحديثين الصحيحين المذكورين فى قسمة غنائم حنين وهذه الآية نزلت فى غزوة تبوك بعد غزوة حنين وعندى الآية نزلت فى قسمة صدقات جاء بها المسلمون لتجهيز جيش العسرة والله اعلم وقال الكلبي نزلت الاية فى رجل من المنافقين يقال له ابو الحواص قال لم يقسم بالسوية قال الله تعالى فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) إذا للمفاجات نائب مناب الفاء الجزائية قيل معناه وان اعطوا كثيرا رضوا وفرحوا وان اعطوا قليلا سخطوا نظرا الى قوله تعالى.
وَلَوْ ثبت أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يعنى بما أعطاهم الرسول من الصدقة والغنيمة وذكر الله تعالى للتعظيم والتنبيه على ان فعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان بامره تعالى وعلى انه يجب الرضا والتسليم بما فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يجب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ كفانا من فضله سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من وجه آخر ما يحتاج اليه وَرَسُولُهُ من صدقة او غنيمة اخرى إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) فى ان يغنينا من فضله والاية بأسرها
__________
(1) وهو قدحيه.(4/230)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
فى حيز الشرط والجواب محذوف تقديره لكان خيرا لهم ثم بين مصارف الصدقات قطعا لاطماع رجال كانوا يطمعون فيها ولم يكونوا من أهلها وتصويبا لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال.
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ قال البيضاوي وهو دليل على ان المراد باللمز لمزهم فى قسمة الزكوة دون الغنائم قلت المراد بالآية والله اعلم ان مصرف الصدقات هم الفقراء فقط دون الأغنياء فالفقير هو المحتاج ضد الغنى سواء كان له قليل من المال او لم يكن وهو أعم من المسكين وغيره من الأصناف وقال اكثر الحنفية الفقير من له مال دون النصاب وما قلت أوفق لمذهب ابى حنيفة رحمه الله حيث يعتبر الفقر فى الغارم والغازي وغيرهما والدليل على ما قلت من عموم الفقر وشموله للاصناف قصة معاذ روى الشيخان واصحاب السنن من حديث ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا الى اليمن قال انك ستاتى قوما اهل كتاب فادعهم الى شهادة ان لا اله الا الله وانى رسول الله فان هم أطاعوا لذلك فاعلمهم ان الله قد افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة فان هم أطاعوا لذلك فاعلمهم ان الله قد افترض عليهم صدقة توخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فان هم أطاعوا لذلك فاياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب وبهذا الحديث اعتبر صفة الايمان فى الزكوة المفروضة فلا يجوز دفع الزكوة الى فقير كافر ذميا كان او حربيا لاجماع وأجاز الزهري وابن شرمة الدفع الى اهل الذمة ويؤيد قول الزهري وابن شبرمة ما روى عن عمر فى قوله تعالى انما الصدقات للفقراء قال هم زمنا اهل الكتاب وقد اضمحل خلافهما بإجماع من بعدهما فان قيل هذا حديث احاد كيف يجوز على اصل ابى حنيفة زيادة الايمان فى الفقراء المنصوصين بنص الكتاب قلنا خص من ذلك الآية الحربي بالإجماع مستندا الى قوله تعالى انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم فى الدين فجاز تخصيصه بعد ذلك بخبر الآحاد وجاز دفع الصدقة النافلة الى الذمي اجماعا لقوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين الآية وحديث معاذ فى الزكوة المفروضة خاصة دون النافلة واما الى الحربي فلا يجوز(4/231)
دفع النافلة ايضا لقوله تعالى انما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم واما الصدقات الواجبة كالفطرة والكفارات والنذور فحكمها حكم المفروضة عند الائمة الثلاثة فانهم لا يفرقون بين الفرض والواجب وعند ابى حنيفة يجوز دفعها الى الذمي لانحطاط درجة الواجب عن الفريضة عنده وعدم شمول حديث معاذ إياها فان معاذا كان عاملا لاخذ الزكوة فحسب والله اعلم وإذا كان الفقير أعم من المسكين وغيره من الأصناف فحينئذ عطف قوله تعالى وَالْمَساكِينِ وما بعده على الفقراء من قبيل عطف الخاص على العام كما فى قوله تعالى حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى فهو لزيادة الاهتمام فلنذكر معانى الألفاظ من المساكين وغيرها حتى يظهر منها وجه الاهتمام بذكرها اما المساكين فالمراد به الفقير الذي لا يسال الناس إلحافا مشتق من السكون والسكينة اى لا يتحرك لاجل السؤال والدليل عليه ما رواه الشيخان فى الصحيحين من حديث ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليس المسكين الذي يطوف على الناس يرده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسال الناس فظهر ان المسكين نوع من الفقير وإعطاءه اولى من إعطاء غيره من الفقراء فهو أهم قال الله تعالى للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الأرض يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا والحاف الإلحاح فان قيل قد يطلق المسكين على الفقير السائل ايضا كما فى حديث متفق عليه عن ابى هريرة فى قصة ثلثة من بنى إسرائيل أبرص واقرع وأعمى الحديث بطوله وفيه رجل مسكين قد انقطعت بي الجبال فى سفرى فلا بلاغ لى اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي اعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا يبلغ وفى سفرى قلنا اما ان يكون فى الحديث السابق بيان المراد من الآية لا بيان الغنى اللغوي واما ان يكون فى الحديث الثاني لفظ المسكين مجاز او ليس المأخوذ فى مفهوم المسكين ان يكون له قليل من المال كما قال به بعض الشافعية ان الفقير من ليس له مال أصلا والمسكين من له قليل من الأعمال لان قوله تعالى فاطعام عشرة مساكين واطعام ستين(4/232)
مسكينا فى الكفارات المراد به اجماعا الفقير مطلقا سواء كان
له قليل من المال او لم يكن له مال أصلا وايضا قوله تعالى او مسكينا ذا متربته يعنى من لصق بالتراث من فقره يرد قول من قال ان المسكين من له قليل من المال وكذا ليس المأخوذ فى مفهوم المسكين ان لا يكون له مال أصلا كما قال به بعض الحنفية لان قوله تعالى اما السفينة فكانت لمساكين يعملون فى البحر تدل على ان السفينة كانت لهم ملكا ومع ذلك سماهم الله تعالى مساكين والقول بانها كانت لهم بالاجارة او العارية او اطلق عليهم لفظ المساكين ترحما صرف للنص عن الظاهر بلا دليل وقد يستدل على ان المسكين احسن حالا من الفقير بان النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر وذلك متفق عليه من حديث عايشة وفى الباب عن ابى هريرة عند ابى داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم وعندهما من حديث ابى بكرة وابى سعيد وانس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا رواه الترمذي من حديث انس وابن ماجة عن ابى سعيد والجواب ان الفقر المستعاذ منه هو فقر النفس وفى الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما الغنى غنى النفس او المستعاذ منه فتنة الفقر لا حاله وكذا المسئول ليس نفس المسكنة بل بعض صفاته من الصبر والتوكل والرضا او يقال اسناد حديث انس وابى سعيد ضعيفان كذا قال الحافظ ابن حجر وذكره ابن الجوزي فى الموضوعات لما رأه مباينا للحال الذي مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم لانه كان مكفيا وقد قال الله تعالى ووجدك عائلا فاغنى والله اعلم- وَالْعامِلِينَ عَلَيْها اى على الصدقات عد الله سبحانه من اصناف الفقراء عاملى الصدقة وأعوانهم مجازا سواء كانوا اغنياء او فقراء لانهم وكلاء للفقراء فى أخذ الصدقات وتقسيمها مشغولون بامورهم فيجب عليهم مؤنتهم فهم فقراء حكما واختلفوا فى قدر ما يعطى للعامل من الزكوة فقال الشافعي يعطى له ولاعوانه الثمن من الصدقات قل عمله او كثر بناء على انه يجب عنده صرف الزكوة الى الأصناف الثمانية على السوية وسنذكر الرد عليه وقال ابو حنيفة واكثر الأئمة يعطى له كفاية بقدر عمله فان عمل(4/233)
يوما يعطى له كفاية يومه وان عمل سنة يعطى له كفاية سنة لانه ليس للغنى حق فى الزكوة وانما يعطى العامل اجر عمله الذي وجب على الفقراء فيعطى ذلك القدر من مال الزكوة الذي هو حقهم ولا يجوز دفع جميع مال الزكوة الى العامل اجماعا وان استغرقت كفاية جميع مال الصدقة بل حينئذ يعطى له النصف لا يزاد عليه إذ لو يعطى اكثر من النصف وللاكثر حكم الكل يكون هو عاملا لنفسه لا للفقراء فيفوت المقصود ولا يجب عليه مؤنته قال الله تعالى وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قال البغوي وهم قسمان قسم مسلمون وقسم كفار فاما المسلمون فقسمان قسم دخلوا فى الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفا كما اعطى عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس او اسلموا ونيتهم قوية فى الإسلام وهم شرفاء فى قومهم مثل عدى بن حاتم والزبرقان بن بدر فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لامثالهم فى الإسلام فهولاء يجوز للامام ان يعطيهم من خمس خمس الغنيمة والفى سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الزكوة والقسم الثاني من المؤلفة المسلمين ان يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار فى موضع لا يبلغه جيوش المسلمين الا بمؤنته كثيرة وهم لا يجاهدون اما لضعف نيّتهم او لضعف حالهم فيجوز للامام ان يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة وقيل من سهم المؤلفة من الصدقات روى ان عدى بن حاتم جاء أبا بكر بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فاعطاه أبا بكر منها ثلثين بعيرا اما الكفار من المؤلفة فهو من يخشى شره منهم او يرجى إسلامه فالامام يعطى هذا حذرا من شره ويعطى ذلك ترغيبا له فى الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس كما اعطى صفوان ابن امية لما راى ميله الى الإسلام واما اليوم فقد أعز الله تعالى الإسلام وله الحمد وأغناه عن ان يتالف عليه رجال فلا يعطى مشرك تألفا
بحال وقد قال بهذا كثير من اهل العلم ان المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط روى ذلك عن عكرمة وهو قول الشعبي وبه قال مالك والثوري وإسحاق بن راهويه واصحاب الرأي وقال قوم سهمهم ثابت يروى ذلك عن الحسن وهو(4/234)
قول الزهري وابى جعفر محمد بن على بن الحسين عليهم السلام وابى ثور وقال احمد يعطون ان احتاج المسلمون الى ذلك انتهى كلامه وفى اكثر الكتب انهم اختلفوا فى حكم المؤلفة قال ابو حنيفة قد سقط منهم المؤلفة قلوبهم لانه تعالى أعز الإسلام واغنى وبه قال مالك وهى رواية عن الشافعي وعن مالك رواية اخرى ان احتيج إليهم فى بلد او ثغر استأنف الامام لوجود العلة وهى رواية عن احمد وقال الشافعي واحمد فى أصح المختار عند اكثر اصحاب الشافعي ما فى المنهاج ان المؤلفة من المصرف قال وهو من اسلم ونيته ضعيفة اوله شرف يتوقع بإعطائه اسلام غيره وقلت وبهذا ظهر ان الشافعي ايضا لا يجوز إعطاء الزكوة للكافر من المؤلفة كما لا يجوز للكافر من الفقراء والمساكين وغيرهم وابو حنيفة ومن معه لا ينكرون إعطاء مسلم فقير من المؤلفة وانما الكلام فى المسلم الغنى من المؤلفة فعند الشافعي يعطى له من الزكوة بناء على زعمه ان الفقر غير معتبر فى سائر الأصناف وعند ابى حنيفة لا يعطى له الزكوة بناء على اعتبار الفقر فى سائر الأصناف فظهر انه لا خلاف بينهم فى ان حكم جواز إعطاء الزكوة للمؤلفة باق غير منسوخ وكيف يحكم بالنسخ مع عدم الناسخ ولو حمل قول ابى حنيفة على إعطاء الكافر من المؤلفة منسوخ لكان له وجه لكن لم يثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم اعطى أحدا من الكفار للايلاف شيئا من الزكوة فان قيل روى مسلم والترمذي عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن امية فى قصة فقال أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم ولانه ابغض الناس الى فما برح يعطينى انه لاحب الناس الى وهذا صريح فى انه كان يعطيهم فى حالة الكفر وقد جزم ابن اثير فى الصحابة انه أعطاه قبل إسلامه قلت قال النووي إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم صفوان بن امية كان من غنائم حنين وصفوان يومئذ كافر قال الحافظ ابن حجر ودعوى الرافعي انه اعطى صفوان ذلك من الزكوة وهم والصواب انه من الغنائم من خمس خمس التي كان للنبى صلى الله عليه وسلم وبذلك جزم البيهقي وابن سيد الناس وابن كثير وغيرهم وقال ابن الهمام فى بيان النسخ أسند الطبراني قول عمر بن الخطاب حين جائه عيينة بن حصين الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن(4/235)
شاء فليكفر يعنى ليس اليوم مؤلفة واخرج ابن ابى شيبة عن الشعبي انما كانت المؤلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ولى ابو بكر انقطعت وقال ابن الهمام جاء عيينه والأقرع يطلبان أرضا الى ابى بكر فكتب له الخط فمزقه عمر وقال هذا شىء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيكموه ليتألفكم على الإسلام واللآن فقد أعز الله الإسلام واغنى عنكم فان ثبتهم على الإسلام والا فبينا وبينكم السيف فرجعوا الى ابى بكر فقالوا الخليفة أنت أم عمر فقال هو ان شاء ووافقه ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة قلت لا يخفى ان قول عمر لا يحتمل ان يكون ناسخا وليس فى قوله تعالى فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر دلالة على نسخ سهم المؤلفة كيف وهو اقدم نزولا من آية سهم المؤلفة فان سورة التوبة آخر القرآن نزولا وسورة الكهف مكية وليست القصة فى الزكوة بل فى أقطاع الأرض فكيف يحكم بنسخ سهم المؤلفة وإذا ثبت ان حكمه باق غير منسوخ لكن الكافر من المؤلفة ليس بمراد بل الحكم مخصوص بالمسلمين منهم ولذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إعطائه من الزكوة كافرا من المؤلفة فنقول إذا خص الكافر من المؤلفة فلا بد ان يخص الغنى ايضا بالأحاديث الواردة فى عدم حل الزكوة للغنى وبما ذكر فى حديث معاذ قوله صلى الله عليه وسلم توخذ من أغنيائهم وترد الى فقرائهم وإذا خص المسلم الغنى من المؤلفة بقي الحكم فى المؤلفة الفقراء فظهر ان المؤلفة ايضا صنف من الفقراء عطف عليه
عطف الخاص على العام لزيادة الاهتمام قوله تعالى وَفِي الرِّقابِ عدل عن اللام الى فى للايذان بان الاربعة اللاحقة ارسخ فى استحقاق التصدق عليهم من المساكين والعاملين والمؤلفة لان فى للوعاء فنبه على انهم أحقاء بان يوضع فيهم الصدقات والمراد بهم المكاتبين عند ابى حنيفة والشافعي واحمد وهى رواية ابن وهب عن مالك وهم فقراء البتة وانكانت عندهم نصاب لا يكفى لاداء كتابتهم فيعان فى فك رقابهم قال الله فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي أتاكم وقال مالك الرقاب العبيد الأرقاء فعنده يشترى من الزكوة رقبة كاملة فيعتق وهى رواية عن احمد لكنه رجع احمد عنها واحتج مالك بأثر ابن عباس روى ابو عبيدة فى كتاب الأموال من طريق ابى الأشرس(4/236)
عن مجاهد عنه انه كان لا يرى بأسا ان يعطى الرجل من زكوة ماله فى الحج وان يعتق منه الرقبة أخرجه عن ابى معوية عن الأعمش عنه واخرج عن ابى بكر بن ابى عياش عن الأعمش عن ابى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال أعتق من زكوة مالك قال وتابع أبا معوية عبدة بن سليمان رويناه فى فوايد يحيى بن معين رواية ابى بكر بن على المروزي عن عبده عن الأعمش عن ابى الأشرس ولفظه كان يخرج زكوة ثم يقول جهزونا منها الى الحج وقال الميموني قلت لابى عبد الله يشترى الرجل من زكوة ماله الرقاب فيعتق ويجعل فى ابن السبيل قال نعم ابن عباس يقول ذلك ولا اعلم شيئا يدفعه قال الجلالي أخبرنا احمد بن هاشم قال قال احمد كنت ارى ان يعتق من الزكوة ثم رجعت عن ذلك فاحتج عليه بحديث ابن عباس فقال هو مضطرب ثم عند مالك الولاء للمسلمين وفى رواية عنه الولاء للمعتق قال الحافظ انما وصف احمد اثر ابن عباس بالاضطراب لاختلاف فى اسناده عن الأعمش قال الحافظ وفى تفسير الرقاب قول ثالث ان سهم الرقاب يجعل نصفين نصف لكل مكاتب يدعى الإسلام ونصف يشترى بها رقاب من صلى وصام أخرجه ابن ابى حاتم وابو عبيدة فى الأموال بإسناد صحيح عن الزهري انه كتب ذلك لعمر بن عبد العزيز والله اعلم قلت قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم يابى قول مالك فان فى شراء الرقيق لم يوجد الرد ... على الفقراء وقول ابن عباس مضطرب كما قال احمد ولو صح فهو رأى ليس برواية فليس بحجة وما ذكرنا فى تفسير الرقاب بالمكاتبين يدل عليه ما أخرجه الطبراني فى تفسيره من طريق محمد بن إسحاق عن الحسن البصري ان مكاتبا قال لابى موسى الأشعري وهو يخطب يوم الجمعة فقال له ايها الأمير حث الناس علىّ فحث عليه ابو موسى فالقى الناس عليه هذا يلقى عمامة وهذا يلقى قلادة وهذا يلقى خاتما حتى القى الناس عليه سوادا كثيرا فلما راى ابو موسى ما القى عليه قال اجمعوه ثم امر به فبيع فاعطى المكاتب مكاتبة ثم اعطى الفضل فى الرقاب ولم يرده على الناس وقال ان هذا أعطوه فى الرقاب فان قيل روى احمد وغيره ان رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال دلنى على عمل يقربنى الى ... الجنة ويباعدنى من النار فقال أعتق(4/237)
النسمة وفك الرقبة فقال اوليسا سواء قال لا عتق الرقبة ان تنفرد بعتقها وفك الرقبة ان تعين فى ثمنها قلت هذا لا يدل على ان فى الرقاب المذكور فى الآية ما قاله مالك والله اعلم وَالْغارِمِينَ وهم المديونون بالاتفاق لكن الشافعي واكثر الائمة جعل المديون على ثلثة اقسام قسم أدانوا أنفسهم من غير معصية فانهم يعطون من الصدقة إذا لم يكن مالهم مال يفى بدينهم فانكان عندهم وفاء فلا يعطون وقسم أدانوا فى المعروف وإصلاح ذات البين فانهم يعطون من الصدقة ويقضى ديونهم وإن كانوا اغنياء وقسم أدانوا فى معصية الله والإسراف فلا يدفع اليه شىء وقال ابو حنيفة رحمه الله يدفع الى كل مديون لم يكن مالكا لنصاب فاضل عن وفاء دينه لعموم اللفظ ولا شك انه فقير فان ماله مشغول بدينه والخلاف فيه كالخلاف فى رخص السفر وكل مديون كان له نصاب فاضل عن وفاء دينه لا يجوز دفع الزكوة اليه عند ابى حنيفة ومالك واحمد خلافا للشافعى فى مديون ادان فى الطاعة قوله تعالى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ كرر
كلمة فى لترجيح الصنفين للاحقين على الرقاب والغارمين قال الشافعي وابو يوسف وجمهور العلماء المراد به منقطع الغزاة وقال احمد ومحمد بن الحسن منقطع الحاج والحجة لاحمد ما رواه احمد وابو داود من حديث أم معقل قالت كان ابو معقل حاجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم قالت أم معقل قد علمت ان علىّ حجة فانطلقا يمشيان حتى دخلا عليه صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله علىّ حجة وان لابى معقل بكرا فقال ابو معقل صدقة جعلته فى سبيل الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطها فلتحج عليه فان الحج فى سبيل الله وفيه ابراهيم بن مهاجر يتكلم فيه وفى بعض الروايات انه كان بعد وفات ابى معقل رواه ابو داود واحمد بسند آخر عن أم معقل قالت لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعل ابو معقل فى سبيل الله وأصابنا مرض وهلك ابو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجته جئته فقال يا أم معقل ما منعك ان تخرجى معنا قالت لقد تهيانا فهلك ابو معقل وكان لنا جمل هو الذي يحج عليه فاوصى به ابو معقل فى سبيل الله قال فهلا خرجت عليه فان الحج فى سبيل الله واحتج الشافعي بحديث(4/238)
ابى هريرة المتفق عليه وفيه واما خالد فانكم تظلمون خالدا فانه قد احتبس ادراعه واعتده قلت ولما كان الفقر ماخوذا فى جميع الأصناف فالاولى ان لا يخص فى سبيل الله بالحج ولا بالغزو بل يترك أعم منهما ومن ساير أبواب الخير فمن أنفق ماله فى طلبة العلم صدق انه أنفق فى سبيل الله قوله تعالى وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر فاعلم ان المسافر اما ان يكون مالكا لنصاب يمنع أخذ الزكاة اولا وعلى الثاني يعطى له الزكوة اتفاقا سواء كان فى أثناء السفر او مريدا للسافر كمن لم يكن مسافرا لكونه فقيرا وعلى التقدير الاول إن كان له مال فى يده بقدر النصاب وبقدر ما يبلغ بلدا يريد دخوله لا يعطى له الزكوة اتفاقا سواء كان فى أثناء السفر اولا وإن كان له مال كثير فى وطنه لا معه وهو فى أثناء السفر فقير يدا ليس عنده ما يبلغ نصابا ولا ما يبلغ به وطنه الذي فيه ماله يعطى له الزكوة اتفاقا وهو المراد بابن السبيل فى هذه الآية عند ابى حنيفة رحمه الله فالفقر المعتبر لاباحة أخذ الزكوة هو الفقر يدا فمالكية المال لا ينافى جواز أخذ الزكوة ان لم يكن المال فى يده فالمقيم فى الوطن الذي له مال فى وطنه بمنزلة ابن السبيل والدائن الذي مديونه مقر مفلس كابن السبيل كذا فى المحيط وإن كان له مال كثير فى وطنه وعنده مال قليل لا يبلغ نصابا لكن يمكن ان يبلغ به مكانه الذي فيه ماله لا يجوز له أخذ الزكوة اتفاقا لانه قادر على الوصول الى ماله فكانه فى يده وإن كان له مال فى يده يبلغ نصابا لكن ليس بقدر ما يقطع به المسافة المقصورة سواء هو فى أثناء السفر او هو مريد للسفر وسواء كان له مال بعيد منه او لا يكون لا يجوز له أخذ الزكوة عند ابى حنيفة وقال الشافعي يجوز لابى حنيفة ان المبيح لاخذ الزكوة انما هو الفقر وهو ليس بفقير وقال الشافعي ارادة السفر ايضا مبيح لاخذ الزكوة ان لم يكن عنده ما يقطع به السفر لان ابن السبيل صنف آخر غير الفقير لا يعتبر فيه الفقر والله اعلم قلت الأصناف السبعة انواع للفقراء والمصرف هم الفقراء ولا يجوز دفع الزكوة الى هؤلاء الأصناف الا بشرط الفقر الا العاملين فانه يجوز اعطائهم وإن كانوا اغنياء فان المعطى لهم حينئذ فى الحقيقة هم الفقراء وهم يأخذون من مال الفقراء ما يجب لهم مؤنتهم عليهم اجرة عملهم لهم ولا تنحصر الفقراء فى هذه الأصناف وانما ذكر الله تعالى هذه(4/239)
الأصناف اهتماما بها فان لهذا الأصناف مزية على غيرهم من الفقراء فالمراد من الآية والله سبحانه اعلم ان المصرف هم الفقراء لكن الاولى ان يلتمس لاعطاء الزكوة سببا يترجح به المعطى له على غيره من الفقراء فالمسكين الذي لا يسأل الناس اولى من السائلين لكونه أفقر والمسافر الفقير أفقر وأشد حاجة من المقيم والغازي والحاج
والكاتب والمؤلف للاسلام أحرى لان يعطوا من غيرهم لان فى اعطائهم اعانة على الحج الذي هو أحد اركان الإسلام والجهاد الذي هو ذروة سنامه وعلى فك الرقبة الذي هو مفرغ لكثير من الخيرات ولا دلالة فى الآية على ان اسباب المزية منحصرة فى هذه الأمور بل للمزية اسباب غيره ايضا وانما ذكرت هذه الأمور تمثيلا فان منها القرابة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول رواه البخاري من حديث ابى هريرة ومسلم من حديث حكيم بن حزام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا نفقته فى سبيل الله ودينار تصدقته به على رقبة ودينار تصدقته به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها اجرا الذي أنفقته على أهلك رواه مسلم من حديث ابى هريرة وعن ميمونة بنت الحارث انها اعتقت وليدة فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لاجرك متفق عليه وعن سليمان بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وعن انس قال قال ابو طلحة ان أحب مالى الى بيرحاء وانه صدقة لله تعالى ارجوا برها ذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارى ان تجعلها فى الأقربين فقسمها ابو طلحة فى أقاربه وبنى عمه متفق عليه غير انه لا يجوز دفع الزكوة الى من بينها ولادا وزوجية عند ابى حنيفة رحمه الله لان منافع املاكهم متصلة شرعا وعرفا فلا يتحقق التمليك على الكمال قال الله تعالى ووجدك عائلا فاغنى يعنى بمال خديجة وقال عليه السلام أنت ومالك لابيك قال ابن همام وسائر القرابات غير الولاد يجوز الدفع معه بل اولى لما فيه من(4/240)
الصلة مع الصدقة فالاخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ولو كان بعضهم فى عياله ولم يفرض القاضي نفقته عليه فدفعها اليه ينوى الزكوة جاز عن الزكوة وان فرضها فدفعها ينوى الزكوة لا يجوز عن الزكوة لانه أداء واجب فى واجب اخر فلا يجوز الا إذا لم يحتسبها فى النفقة لوجود التمليك على الكمال وقال الشافعي ومالك واحمد لا يجوز دفع الزكوة الى من يجب نفقته عليه وعلة المنع عندهم لزوم المئونة ووجوب النفقة على المعطى وقد ذكرنا مسئلة وجوب نفقة الأقارب فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وعلى الوارث مثل ذلك وقال ابو يوسف ومحمد مثل ما قال ابو حنيفة ان علة المنع اتصال الاملاك وذلك فى الولاد والزوجية غير انه يجوز عندهما للزوجة دفع زكوتها الى زوجها على خلاف القياس اتباعا لحديث زينب امراة ابن مسعود قالت كنت فى المسجد فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال تصدقن ولو من حليكن وكانت زينب تنفق على عبد الله وأيتام فى حجرها فقالت لعبد الله سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيجزئ عنى ان أنفق عليك وعلى أيتام فى حجرى من الصدقة قال سلى أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار حاجتها مثل حاجتى فمر علينا بلال فقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزئ عنى ان أتصدق على زوجى وأيتام لى فى حجرى وقلنا لا تخبرنا فدخل فساله فقال من هما قال زينب قال اى الزيانب قال امراة عبد الله قال نعم لها أجران اجر القرابة واجر الصدقة رواه البخاري ومسلم والنسائي والطحاوي وغيرهم وفى رواية النسائي على أزواجنا وأيتام فى حجورنا وفى رواية للطيالسى انهم بنو أخيها وبنو أختها وللنساى من طريق علقمة لاحدهما فضل مال وفى حجرها بنو أخ لها أيتام وللاخرى فضل مال ولها زوج خفيف «1» ذات اليد قالا قولها أيجزي عنى يدل على ان الصدقة كانت واجبة لان الاجزاء انما يستعمل فى الواجبة وأجاب الحنفية بان ذلك كان فى الصدقة النافلة لانها هى التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول
«2» بالموعظة والحث عليها وقولها يجزى وإن كان فى عرف الفقهاء الحادث
__________
(1) اى فقير قليل المال والحظ من الدنيا 12.
(2) اى يتعهد من قولهم فلان خائل مال وهو الذي يصلحه ويقوم 12.(4/241)
لا يستعمل غالبا الا فى الواجب لكن فى ألفاظهم لما هو أعم من الفضل لانه بمعنى الكفاية فالمعنى هل يكفى التصدق عليه فى تحقق مسمى الصدقة وتحقيق مقصودها من التقرب الى الله فسلم القياس من المعارضة واحتج الطحاوي على هذا التأويل يعنى ان الصدقة فى الحديث صدقة التطوع بروايات اخرى روى الطحاوي بسنده عن رابطة بنت عبد الله امرأة عبد الله بن مسعود وكانت امراة صنعاء وليس لعبد الله بن مسعود مال وكانت تنفق عليه وعلى ولده منها فقالت لقد شغلتنى والله أنت وولدك عن الصدقة فما أستطيع معكم بشئ فقال ما أحب ان لم يكن لك فى ذلك اجر ان تفعلى فسالت رسول الله صلى الله عليه وسلم هى وهو فقالت يا رسول الله اننى امراة ذات صنعة أبيع منها وليس لولدى ولا لزوجى شىء فيشغلونى ولا أتصدق فهل فيهم اجر فقال فى ذلك اجر ما أنفقت عليهم فانفقى عليهم قال الطحاوي رابطة هذه هى زينب امراة عبد الله إذ لا يعلم ان عبد الله كانت له امرأة غيرها فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي بطريقين عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الصبح يوما فاتى على النساء فى المسجد فقال يا معشر النساء ما رايت من ناقصات عقل ودين اذهب لعقول ذوى الألباب منكن وانى قد رايت انكن اكثر اهل النار يوم القيامة فتقربن الى الله عز وجل بما استطعتن وكانت فى النساء امرأة ابن مسعود فانقليت الى ابن مسعود فاخبرته بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذت جلبابها فقال ابن مسعود اين تذهبين بهذا الحلي فقالت أتقرب به الى الله عز وجل والى رسوله صلى الله عليه وسلم لعل الله لا يجعلنى من اهل النار قال هلمى ويلك تصدقى به علىّ وعلى ولدىّ فقالت لا والله حتى اذهب به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقى به عليه وعلى بنيه فانهم له موضع وروى البخاري من حديث ابى سعيد الخدري قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اضحى او فطر الى المصلى ثم انصرف فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال ايها الناس تصدقوا فمر على النساء فقال يا معشر النساء تصدقن فانى اريتكن اكثر اهل النار قلن وبم يا رسول الله قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير الحديث الى ان(4/242)
قالت امراة ابن مسعود عندى حلى فاردت ان أتصدق به فزعم ابن مسعود انه وولده أحق من تصدقت به عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم قال الطحاوي هذه الروايات تدل على كون الصدقة نافلة لان فى الحديث الاول كنت امراة صنعاء اصنع بيدي فابيع من ذلك وذلك صريح انها لم تكن مالكة نصاب يجب فيه الزكوة والحديث الثاني يدل على انها تصدقت بكل الحلي وذلك من التطوع دون الزكوة ولان الأحاديث الثلاثة تدل على جواز دفع صدقتها على ولدها وقد اجمعوا على انه لا يجوز للمرأة ان ينفق على ولدها من زكوتها وأجاب الحافظ ابن حجر عن الاستدلال الطحاوي بان إجماعهم على انه لا يجوز للمرأة ان ينفق على ولدها من زكوتها ممنوع لان المانع من إعطاء الزكوة عند الجمهور وجوب نفقة المعطى له على المعطى والا لا يلزمها نفقة ولدها مع وجود أبيه وعن الاستدلال يتصدق كل الحلي ان كل الحلي يمكن ان يكون قدر الواجب الذي وجب إخراجه عليها قلت حمل أحاديث امراة ابن مسعود على قصة واحدة تكلف والظاهر انها قصتان بل قصص كذا قال الحافظ لان قصة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المصلى فى اضحى او فطر غير قصة وعظه صلى الله عليه وسلم بعد الانصراف من صلوة الصبح فى المسجد وقصة الانفاق على أيتام هم بنو أخيها وأختها غير قصة إنفاقها على أولادها وفى بعض الطرق قال ابن مسعود تصدقى علىّ وعلى أولادي وفى بعضها ما أحب ان لم يكن لك فى ذلك اجر ان تفعلى وإذا فرضناها قصتان فالظاهر ان السؤال فى أحدها عن الصدقة الواجبة إذ بعد العلم بالحكم فى الصدقة التطوع لا يحتمل ان تسأل زينب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصدقة التطوع مرة ثانية
وايضا اطلاق قوله صلى الله عليه وسلم نعم لها أجران فى جواب قولها أيجزئ عنى ان أتصدق على زوجى من غير فصل يدل على عموم اجزاء الصدقة والله اعلم- ومن اسباب المزية الجوار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت انه سيورثه رواه احمد والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي وكذا روى احمد والشيخان واصحاب السنن عن عايشة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طبخت مرقة فاكثر مائها وتعاهد(4/243)
جيرانك رواه مسلم عن ابى ذر ومنها شدة الحاجة لاجل العيال او نحوها عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة ان تشيع كبدا جايعا رواه البيهقي فى شغب الايمان ومنها سوال السائل قال الله تعالى واما السائل فلا تنهر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائل حق وان جاء على فرس رواه احمد وابو داود وايضا بسند صحيح عن الحسين وابو داود عن على والطبراني عن الهرماس بن زياد وعن أم بجيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا السائل ولو بظلف محرق رواه مالك والنسائي ورواه الترمذي وابو داود مرسلا وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أخبركم بشر الناس رجل يسال بالله ولا يعطى به ومنها اليتم والاسر قال الله تعالى يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وغيرها من اسباب المزية يعرف بالآيات والأحاديث وما رويت ان الأصناف كلها اصناف للفقراء يوافق رأى ابى حنيفة واكثر الائمة حيث شرطوا الفقر فى جميع الأصناف وقال الشافعي الأصناف الثمانية المذكورة كل منها مستحق للزكوة برأسها ولا يعتبر فى جميعها الفقر بل يجوز ان يعطى للمولف والمكاتب والمديون والغازي وابن السبيل مع كونهم اغنياء واحتج على ذلك بحديث عطاء بن يسار مرسلا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى الا لخمسة لغازى فى سبيل الله او لعامل عليها او لغارم او لرجل اشتراها بماله او لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فاهدى المسكين للغنى رواه مالك وابو داود قلت فى هذا الحديث اضطراب فى السند والمتن اما السند فاختلف على زيد بن اسلم فقيل عنه عن عطاء مرسلا كما قال مالك فى الموطإ وروى عنه ابو داود وقيل عن زيد قال حدثنى الليث وقيل عن زيد عن عطاء عن ابى سعيد ذكر الروايات ابو داود وأماني المتن ففى الرواية المذكورة كما ذكرنا وفى رواية لابى داود عن عمران البارقي عن عطية عن ابى سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى الا فى سبيل الله عز وجل او ابن السبيل او جاز فقير تصدق عليه فهدى لك او يدعوك قال ابن همام هذا الحديث قيل لم يثبت ولو ثبت لم يقوقوة حديث معاذ فانه رواه اصحاب الكتب الستة ولو قوى قوته ترجح حديث معاذ بانه مانع وهذا مبيح مع انه دخله التأويل عندهم حيث قيدوا اباحة الاخذ للغازى بان لا يكون له(4/244)
شىء فى الديوان ولا أخذ من الفيء وهو أعم من ذلك وذلك يضعّف الدلالة بالنسبة الى ما لا يدخله التأويل وحديث زياد بن الحارث الصدائ قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فذكر حديثا طويلا وفيه فاتاه رجل فقال أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى لم يرض بحكم نبى ولا غيره فى الصدقات حتى حكم فيها فجزاها ثمانية اجزاء فان كنت من تلك الاجزاء أعطيتك رواه ابو داود قلت الحديث ضعيف لانه من رواية عبد الله بن عمر بن غانم الافريقى قال الذهبي مجهول الحال واتهمه ابن حبان وشيخه عبد الرحمن بن زياد ضعفه ابن معين والنسائي وقال الدار قطنى ليس بالقوى دوهاه احمد بن حنبل وإذا كان المصرف الفقراء والأصناف الباقية انواع منه فعلى هذا لا شبهة فى جواز دفع جميع مال الزكوة الى صنف واحد منها او الى شخص واحد وكذا لو فرضناها أصنافا مغايرة للفقراء وقال الشافعي لا يجوز صرفها الى بعضهم مع وجود ساير الأصناف فعنده يجب استيعاب الأصناف ان
قسم الامام وهناك عامل والا فالقسمة على سبعة سوى العامل وذكر البغوي انه يقسم على ستة اصناف لاجل سقوط سهم المؤلفة فان فقد بعضهم فعلى الموجودين ويجب التسوية بين الأصناف فى حصة كل صنف فاذا قسم الامام استوعب من الزكوة الحاصلة عنده احاد كل صنف وكذا يستوعب المالك ان انحصر المستحقون فى البلد ووفى بهم المال والا فيجب إعطاء ثلثة ان وجد منهم ثلثا او اكثر فان لم يجد من بعض الأصناف الا واحد اصرف حصة ذلك الصنف اليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق فاذا انتهت حاجته وفضل شىء رده الى الباقين ويجب التسوية بين الأصناف لا بين احاد الصنف الا ان يقسم الامام فيحرم عليه التفصيل مع تساوى الحاجات قال الشافعي فى الام اللام فى قوله تعالى للفقراء للاستحقاق فقد ذكر الله سبحانه الاستحقاق لثمانية اصناف فوجب إعطاء كل صنف وذكر كل صنف بلفظ الجمع المحلى بلام الاستغراق فيجب استيعاب افراد كل صنف ان أمكن ذلك بان كان افراد كل صنف منحصرة فى البلد وكان المال يفى بهم وان لم يمكن الاستيعاب يصرف الى ثلثة لبقاء الجمعية على حالها قلنا لام التعريف فى الآية ليست للاستغراق للاجماع على انه لا يجب صرف كل صدقة على فقراء العالم وتخصيص الاستغراق بفقراء بلده امر اختراعى وايضا إذا(4/245)
لم يمكن حصر فقراء البلد ولا يجب صرف الزكوة الى جماعة اكثر من الثلاثة اجماعا ولو كان اللام للاستغراق لوجب استيعاب الكل او استيعاب ما أمكن منهم مثلا لو كان مائة درهم حصة كل صنف ولا يمكن حصر فقراء البلد فلا بد ان يجب الصرف الى مائة فقير مثلا لا الاقتصار على ثلثة فظهر ان اللام للجنش ولام الجنس ينافى الجمعية فالمعنى يستحقها جنس الفقير اى فرد كان ولو سلمنا ان الجمعية باق فمقابلة الجمع بالجمع يقتضى انقسام الآحاد على الآحاد وايضا كون لام الجر للاستحقاق ممنوع بل حقيقة اللام للاختصاص والاختصاص أعم من الملك والاستحقاق وكونهم مصر فادون غيرهم ويدل على ما ذهبنا اليه الأحاديث والآثار منها ما رواه البيهقي والطبراني عن ابن عباس وابن ابى شيبة عن عمر فى اى صنف وضعته أجزأك وروى الطبراني عن عمر انه كان يأخذ الفرض من الصدقة فيجعله فى صنف واحد قال ابو عبيدة فى كتاب الأموال ومما يدل على صحة ذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ذلك مال فجعله فى صنف واحد وهم المؤلفة قلوبهم اقرع بن حابس وعيينة بن حصين وعلقمة بن علاثه وزيد بن الجبل قسم فيهم الذهيبة التي بعثها معاذ من اليمن وانما يوخذ من اهل اليمن الصدقة ثم أتاه مال آخر فجعله فى صنف آخروهم الغارمون فقال لقبيصة بن المخارق حين أتاه وقد تحمل حمالة يا قبيصة أقم حتى يأتينا الصدقة فنامر لك بها قال ابن همام ولم يرو عن غيرهم ما يخالفهم قولا ولا فعلا قال البيضاوي وعن عمرو حذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم جواز صرفها الى صنف واحد وبه قال الائمة الثلاثة واختاره بعض أصحابنا يعنى الشافعية وبه كان يفتى شيخى ووالدي رحمه الله على ان الآية بيان ان الصدقة لا يخرج منهم لا إيجاب قسمتها عليهم- (مسئلة) لا يجوز دفع الزكوة الى غنى ليس من الأصناف المذكورة اجماعا واما الغنى من الأصناف المذكورة فقد مر الخلاف فيه واختلفوا فى حد الغنى الذي لا يجوز له أخذ الزكوة فقال ابو حنيفة هو الذي يملك نصابا من اى مال كان وقال بعض العلماء من وجد ما يغد به ويغشيه لا يحل له الزكوة لقوله صلى الله عليه وسلم من سال وعنده ما يغنيه فانما يستكثر من النار وفى رواية من نار جهنم فقالوا يا رسول الله وما يغنيه وفى رواية وما الغناء الذي(4/246)
لا ينبغى معه المسألة قال قدر ما يغديه ويعشيه رواه ابو داود من حديث سهيل بن حنظله وصححه ابن حبان وقال بعضهم من ملك أربعين درهما لا يحل له الزكوة لحديث ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سال وله قيمة اوقية فقد الحف فقلت ناقتى الياقوتة هى خير من اوقية فرجعت فلم اساله زاد هشام وكانت الاوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهما رواه ابو
داود والنسائي وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سال وله أربعون درهما فهو الملحف وقال بعضهم من ملك خمسين درهما لم يحل له الصدقة وهى رواية عن احمد وبه قال إسحاق وابو ثور لحديث ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سال وله ما يغنيه جاء يوم القيامة وخموش «1» او خدوش او كدوح فى وجهه فقيل يا رسول الله ما الغنى قال خمسون درهما او قيمتها من الذهب رواه ابو داود والنسائي وغيرهما والحديث ضعيف والجواب ان ما ذكرتم من الأحاديث يدل على حرمة السؤال لمن يجد ما يغديه ويعشيه او أربعين درهما او خمسين لا عدم جواز أخذ الزكوة بغير سوال ونحن نقول بان من يجد ما يكفيه فى وقته لا يحل له السؤال لكن لو أعطاه أحد صدقة بلا سوال جاز له أخذها لما فى الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينى العطاء فاقول أعطه من هو أفقر منى فقال خذه إذا جاءك من هذا المال شىء وأنت غير مشرف «2» ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك فان هذا الحديث يدل على ان عمر كان يجد ما يغديه وما يعشيه والا لكان هو أفقر الناس وقد امره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذ الصدقة من غير سوال وقال مالك والشافعي واحمد الاعتبار فى حرمة الزكوة بالكفاية فله ان يأخذ مع عدمها وإن كان له قنطار وليس له ان يأخذها مع وجودها وان قل ماله فيكون الرجل غنيا بدرهم مع الكسب وقد لا يغنيه الف مع ضعفه وكثرة عياله وذكر البغوي مذهب مالك والشافعي ان يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة لحديث فبيصة بن مخارق عن رسول
__________
(1) خموش خدوش كدوح بمعنى خراشها با اندك تفاوت 12.
(2) يقال أشرفت الشيء وأشرفت عليه اى اطلعت عليه من فوق أراد ما جاءك منه وأنت غير متطلع لا طامع فيه 12.(4/247)
الله صلى الله عليه وسلم انه قال المسألة لا يحل الا لثلثة رجل تحمل حمالة قوم فسأل فيها حتى يوديها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة «1» اجتاحت ماله فسأل فيها حتى يصيب قواما من عيش ثم يمسك ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلثة من ذى الحجى من قومه لقد أصابت فلان فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا رواه مسلم وحديث حسين بن على بن ابى طالب عليهما السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للسائل حق وان جاء على الفرس رواه احمد وابو داود وغيرهما وجه الاحتجاج ان الحديث الاول يدل على ان اباحة السؤال ينتهى بان يصيب قواما من عيش وهو الكفاية فمن كان له نكاية ولو لم يكن له أربعون درهما لا يحل له الصدقة والحديث الثاني يدل على ان السائل وان كان على فرس فله حق ولا شك ان ذلك مع الحاجة فظهر ان من كان له حاجة وكان له ما كان الف درهم مثلا جاز الا عطاء له والجواب ان هذين الحديثين لا مساس لهما بالمدعى لان الحديث الاول فى اباحة السؤال وحرمته وحاصلة ان السؤال بلا حاجة حرام ومع الحاجة جايز فمن أصابته فاقة يسأل حتى يصيب قواما من عيش قلت وذا بكفاية يوم وليلة كما فى حديث سهيل بن حنظلة فاذا أصاب قواما من عيش لا يحل له المسألة ويحل له الصدقة ان اعطى بلا سوال لعموم قوله تعالى الصدقات للفقراء واما الحديث الثاني ففى بيان حق السائل وقوله ولو جاء على الفرس محمول على المبالغة وايضا الفرس قد يكون من حوائجه الاصلية إذا كان الرجل غازيا وقد يكون صاحب الفرس مديونا وقد لا يبلغه فرسه نصابا وبمثل هذه الدلالة مع ما ذكرنا من الاحتمالات لا يمكن ان يقال لجواز الإعطاء من الزكوة الغنى مع النصوص القاطعة على منعه وقال ابو حنيفة الغنى من لا يكون له نصابا فاضلا عن حوائجه الاصلية لحديث معاذ تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم فانه يدل على ان من يردّ عليه غير من يوخذ منه فثبت انه من يجب عليه الزكوة لا يجوز الدفع اليه غير انه لا فرق فى المال النامي وغير النامي فى المنع عن دفع الزكوة اليه لما ثبت فى حديث ابى سعيد وغيره ان الاوقية وما يكون على قيمته حكمهما سواء وانما الفرق بينهما فى وجوب الزكوة لقوله عليه السلام
__________
(1) جائحة آونة التي يهلك الثمار 12.(4/248)
ليس فى العوامل ولا فى الحوامل ولا فى العلوفة صدقة فظهر ان الله سبحانه جعل القدرة الميسرة شرط الوجوب الزكوة وانما شرطنا فى المنع من إعطاء الزكوة اليه كون النصاب فارغا عن حوائجه الاصلية لان النصاب المشغول بالحاجة كالمعدوم نظيره جواز التيمم مع وجود الماء المعد للعطش فجاز للمديون المالك للنصاب أخذ الزكوة إذا لم يكن نصابه فاضلا عن دينه وكذا الغازي وابن السبيل وفرس يركبه يبلغ نصابا او عالم له كتب يحتاج إليها فى المطالعة والتدريس او رجل له بيت يبلغ نصابا يسكنه وهذا محمل قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى الا لخمسة الغازي فى سبيل الله والغارم وابن السبيل والله اعلم- (مسئلة) الفقير إذا كان قادرا على الكفاية بالكسب يجوز دفع الزكوة اليه لعموم قوله تعالى انما الصدقات للفقراء وقال الشافعي واحمد لا يجوز لحديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل الصدقة لغنى ولا لذى مرة سوى رواه احمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم ورواه ابو داود والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمر بن العاص بسند حسن ورواه الدار قطنى فى العلل وابو يعلى عن طلحة وحديث جابر قال جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة فركبه الناس فقال ايها الناس لا يصلح لغنى ولا لصحيح سوى ولا نعامل قوى رواه احمد والدار قطنى وحديث عبيد الله بن عدى ان رجلين أخبراه انهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورأهما جلدين فقال ان شئتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب رواه احمد وابو داود ونسائى وقال صاحب التنقيح حديث صحيح وقال احمد ما أجوده من حديث هو أحسنها اسنادا وفى الباب عن ابن عمر فى كامل ابن عدى وعن حبشى بن جنادة فى سنن الترمذي ورواه احمد من طريق ابى زميل عن رجل من بنى هلال به وعن عبد الرحمن فى الطبراني قلنا قوله صلى الله عليه وسلم ان شئتما اعطيتكما ولا حظ فيها لغنى صريح فى انه يجوز دفع الزكوة الى فقير قوى والا لم يقل ان شيئتما اعطيتكما ولنا ايضا حديث عمر بن الخطاب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينى العطاء فاقول أعطه من هو أفقر اليه منى قال خذه إذا جاءك من هذا المال شىء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالا فلا تتبعه(4/249)
نفسك متفق عليه من حديث سالم عن ابن عمر عنه وفى رواية لمسلم خذه فتموله وتصدق به قال سالم فمن ذلك كان ابن عمر لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه فان قيل ان عطية النبي صلى الله عليه وسلم لعمر كان بسبب العمالة لا لاجل الفقر ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم خذه فتموله وتصدق به لما روى مسلم عن ابى حميد الساعدي انه قال استعملني عمر بن الخطاب على الصدقة فلما فرغت منها وأديتها اليه أمرني بعمالة فقلت انما عملت لله اجرى على الله فقال خذ ما أعطيت فانى عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملنى فقلت مثل قولك فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعطيت شيئا من غير ان تسأل فكل وتصدق قلت العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص الحادثة واللفظ عام إذا جاءك من هذا المال شىء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومن تتبع الأحاديث ظهر له صراحة او دلالة ان النبي صلى الله عليه وسلم اعطى من سأل الصدقة وهو صحيح سوى روى مسلم من حديث انس قال كنت امشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجرانى غليظ الحاشية فادركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت الى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال يا محمد مر لى من مال الله الذي عندك فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم امر له بعطاء قال الحافظ ابن حجر واكثر أحاديث الباب شاهدة لذلك وقلت وما ذكرنا من الأحاديث جملتها تدل على ان دفع الصدقة الى فقير قوى يجوز سواء سأل الفقير او لا
يجوز له ان لم يكن بسوال لكن يكره له السؤال والاخذ بالسؤال فنفى حل الصدقة فى قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل الصدقة لذى مرة سوى يرجع الى نفى حل السؤال ونفى حل الصدقة التي تعطى بالسؤال والظاهر ان الأحاديث التي ينفى الحل وردت فى حادثة السؤال والله اعلم- (مسئلة) لم يكن الصدقة حلالا للنبى صلى الله عليه وسلم لا واجبة ولا نافلة عند اكثر الأئمة وحكى عن الشافعي فى التطوع قولان وكذا فى رواية احمد والحجة للجمهور حديث انس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة فى الطريق فقال لولا انى أخاف ان يكون من الصدقة لاكلتها متفق عليه وحديث ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتى به بطعام(4/250)
سأل عنه أهدية أم صدقة فان قيل صدقة قال لاصحابه كلوا ولم يأكل وان قيل هدية ضرب بيده فاكله معهم متفق عليه وروى الطحاوي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده نحوه وكذا لآل محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن الصدقة حلال لحديث ابى هريرة قال أخذ الحسن بن على تمرة من تمر الصدقة فجعلها فى فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم كخ كخ ليطرحها ثم قال اما شعرت انا لا ناكل الصدقة متفق عليه- (مسئلة) اختلفوا فى تحريم الصدقة على أقارب النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم على اربعة اقوال الاول الجواز مطلقا فريضة كانت او نافلة وهى رواية عن ابى حنيفة ورواية عن مالك وهذا قول لا يصاعده دليل شرعى غير انهم يقولون ان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل خمس الخمس من الغنيمة لاقاربه عوضا عن الصدقة فلما سقط خمس الخمس بعد وفات رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط حرمة الصدقة الثاني المنع مطلقا فريضة كانت او نافلة وبه قال ابو يوسف ومحمد واختاره الطحاوي وابن همام لعموم قوله صلى الله عليه وسلم انا آل محمد لا ناكل الصدقة وفى رواية لا يحل لنا الصدقة رواه مسلم والطبراني والطحاوي من حديث عبد الرحمن بن ابى ليلى ومن حديث رشد بن مالك وكذا عند احمد والطحاوي فى قصة الحسن بن على من حديث الحسن نفسه الثالث جواز الفريضة دون النافلة ولم يذهب اليه غير مالك يقول ان الواجب حق لازم لا يلحق بأخذه ذلة بخلاف التطوع وهذا القول مردود بما ذكرنا من الأحاديث الرابع جواز النافلة دون الفريضة وهو المشهور من مذهب ابى حنيفة والمصحح عند الشافعي والحنابلة ورواية عن مالك فعن مالك اربعة اقوال كلها مشهور وجه هذا لقول ان الأحاديث المذكورة محمولة على الصدقة المفروضة وكذا حديث المطلب بن ربيعة بن الحارث قال اجتمع ربيعة والعباس بن عبد المطلب فقالا لو بعثنا هذين الغلامين لى وللفضل بن عباس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهما على هذه الصدقة فاصابا مما يصيب الناس فقال على لا ترسلوهما فانطلقنا حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ عند زينب بنت حجش فقلنا يا رسول الله قد بلغنا النكاح وأنت ابر الناس وأوصل الناس جئناك لتامرنا(4/251)
على هذه الصدقة فنؤدى إليك كما يؤدى الناس ونصيب كما يصيبون قال فسكت طويلا ثم قال ان الصدقة لا ينبغي لال محمد انما هى أوساخ الناس ادعو الى محمية بن جزء رجلا من بنى اسد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمله على الأخماس ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب فقال لمحمية انكح هذا الغلام ابنتك للفضل «1» ابن العباس فانكحه وقال لنوفل بن الحارث انكح هذا الغلام ابنتك فانكحنى فقال لمحمية اصدق عنهما من الخمس كذا وكذا رواه مسلم وهذا الحديث يدل على انه لا يحل الصدقة للهاشمى وإن كان عاملا على الصدقات على طريق العمالة ايضا فكيف إذا لم يكن عاملا لكن الحديث فى الصدقة المفروضة لانها هى التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الناس لاخذها والدليل على جواز الصدقة ما رواه الطحاوي من حديث ابن عباس قال قدمت عير المدينة فاشترى منه النبي صلى الله عليه وسلم متاعا فباعه بربح أواق فضة فتصدق بها على أرامل بنى عبد المطلب ثم قال لا أعود ان اشترى بعدها شيئا وليس ثمنه عندى وما رواه
الشافعي عن ابراهيم بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهم السلام انه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقال أتشرب من الصدقة قال انما حرم علينا الصدقة المفروضة والقول بان حكم صدقات الأوقاف خلاف حكم سائر الصدقات امر لا دليل عليه وايضا لو كان كذلك لقال الامام حكم صدقات الأوقاف خلاف حكم سائر الصدقات ولم يقل كذلك بل قال انما حرم علينا الصدقة المفروضة وما روى البخاري وغيره قوله صلى الله عليه وسلم لا تورث ما تركناه صدقة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى اهل بيته فى حياته نفقة سنتهم وما بقي يجعله مجعل مال الله وكذلك كان ابو بكر وعمرو على وعباس بعد وفات رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملون بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهر انه ليس كل صدقة على بنى هاشم حراما- (مسئلة) لا يجوز للهاشمى ان يأخذ الزكوة من الهاشمي عند اكثر الائمة وقال ابو يوسف جاز ذلك لان الصدقة انما حرم عليهم لانها من أوساخ الناس والمراد بالناس غيرهم فلا بأس لو أكلوا صدقات أنفسهم قلنا شرفهم يقتضى حرمة أوساخ الناس عليهم كلهم هاشميا كان او غيرهم مسئلة الذين يحرم عليهم الصدقة هم بنو هاشم خمسة بطون ال على وعباس
__________
(1) للفضل ابن العباس فانكحه وقال لنوفل بن الحارث انكح هذا الغلام ابنتك 12.(4/252)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
وجعفر وعقيل والحارث بن عبد المطلب عند ابى حنيفة ومالك وقال الشافعي بنو المطلب ايضا معهم حيث اشركهم النبي صلى الله عليه وسلم فى سهم ذوى القربى من الخمس كما ذكرنا من حديث جبير بن مطعم فى مسائل الخمس- (مسئلة) ويحرم الزكوة على مواليهم عند ابى حنيفة ومحمد وهو الأصح من مذهب الشافعي ومالك وقال بعضهم لا يحرم على مواليهم وقال ابو يوسف لا يصرف غير بنى هاشم الى مواليهم لنا حديث ابى رافع ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا من بنى مخزوم على الصدقة فقال لابى رافع الا تصحبنى فتصيب منها قال فقلت حتى اذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال انا آل محمد لا يحل لنا الصدقة وان مولى القوم منهم رواه احمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم ورواه الطبراني من حديث ابن عباس واسم الى رافع أرقم بن ابى الأرقم والله اعلم- (مسئلة) يكره نقل الصدقة من بلد الى بلد آخر لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ توخذ من أغنيائهم وترد على فقرأهم وحكى عن عمر بن عبد العزيز انه رد صدقة حملت من خراسان الى الشام الى مكانها من خراسان قوله تعالى فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لما دل عليه الآية اى فرض لهم الصدقات فريضة او حال من الضمير المستكن فى الفقراء وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمصلحة حَكِيمٌ (60) فى القسمة يضع الأشياء فى مواضعها والله اعلم- اخرج ابن ابى شيبة وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن مجاهد واخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال اجتمع ناس من المنافقين فيهم خلاس بن سويد بن الصامت ومخشى بن حمير ووديعة بن ثابت فارادوا ان يقعوا فى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضا وقالوا انا نخاف ان يبلغ محمدا فيقع لكم فقال بعضهم انما محمد اذن نحلف فيصدقنا قال الخلاس بل نقول ما شئنا ثم ناتيه وننكو ما قلنا وتحلف فيصدقنا بما نقول فانما محمد اذن فانزل الله تعالى.
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ اى يغتابونه ويتقولون حديثه ويقولون فيه ما لا ينبغى وَيَقُولُونَ إذا نهوا عن ذلك لئلا يبلغه صلى الله عليه وسلم هُوَ يعنى النبي صلى الله عليه وسلم أُذُنٌ اى يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمى بالجارحة(4/253)
للمبالغة كانه من فرط استماعه صار جملته فمعز الدولة للسماع كما يسمى الجاسوس عينا او تقديره ذو اذن سامعة او يقال اذن مشتق فعل من اذن اذنا إذا استمع واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس انه قال كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس اليه يسمع وينقل حديثه الى المنافقين فانزل الله هذه الآية وقال محمد بن إسحاق كان نبتل رجلا ادلم ثائر «1» الراس احمر العينين اسفع الخدين مشوه الخلق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أحب ان ينظر الى الشيطان فينظر الى هذا وكان يتم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المنافقين فقيل له لا تفعل فقال انما محمد اذن فمن حدثه شيئا صدقه فنقول ما شئنا ثم ناتية ونحلف له فيصدقنا فانزل الله تعالى هذه الاية وقال الله تعالى فى جوابهم قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ قرأ العامة بالاضافة وهو كقولك رجل صدق يريد الجودة والصلاح كانه قيل نعم هو اذن ولكن نعم الاذن هو او المعنى انه مستمع خير لكم وصلاح لا مستمع شر وفساد فيسمع عذر من اعتذر ولا يسمع الغيبة والنميمة ونحو ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن عز كريم والفاجر خبث ليئم رواه ابو داود والترمذي والحاكم وصححه عن ابى هريرة ويجوز ان يريد هو اذن فى الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن فى غير ذلك وقرأ الأعمش والبرجمي عن ابى بكر اذن خير مرفوعين مئوفين على ان خير صفة اذن او خبر ثان يعنى ان يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من ان يكذب قولكم ثم مدحه بقوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ اى يصدق لِلْمُؤْمِنِينَ اى لن يظهر الايمان بناء على حسن الظن او المعنى يصدق المؤمنين المخلصين دون المنافقين لكن يقبل اعذارهم إعراضا عنهم عدى فعل الايمان بالباء الى الله لانه قصد ضد الكفر وباللام الى المؤمنين لانه قصد به التصديق لهم ضد تكذيبهم وَرَحْمَةٌ قرأ حمزة بالجر عطفا على خير يعنى اذن خير ورحمة والباقون بالرفع عطفا على اذن لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعنى لمن اظهر الايمان حيث يقبله ولا يكشف سره وفيه تنبيه على انه ليس يقبل قولكم
__________
(1) ثائر الراس اى منتشر شعر الراس من ثار الشيء يثور إذا انتشر وارتفع ومشوه الخلق قبيحة ومنه شاهت الوجود اى قيمت السفع نوع السواد وليس بالكثير 12.(4/254)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
جهلا يحالكم بل ترفقا وترحما عليكم او المعنى رحمة للذين أمنوا منكم مخلصين حيث استنقذهم من الكفر الى الايمان ويشفع لهم فى الآخرة ويستنقذ من النار الى الجنة.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) لا يفيد لهم تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم واعتذارهم قال مقاتل والكلبي نزلت فى رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون ويحلفون فانزل الله تعالى.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ على معاذيرهم فيما قالوا وتخلفوا لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ عنهم والخطاب للمومنين وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ بالطاعة والإخلاص والضمير راجع الى الله تعالى لان إرضاء الله تعالى لا يتحقق بالايمان الكاذبة بل بالطاعة والإخلاص فالتقدير والله أحق ان يرضوه والرسول كذلك وقيل الضمير راجع الى كل منهما وانما وحد الضمير لانه لا تفاوت بين رضاء الله ورضاء رسوله فكانهما فى حكم شىء واحد وقيل الضمير راجع الى الرسول صلى الله عليه وسلم لان الكلام فى إيذاء الرسول وارضائه إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (22) صدقا شرط حذف جزائه لما يدل عليه السياق يعنى إن كانوا مومنين صدقا فليرضوا الله ورسوله بالطاعة والإخلاص لكنهم لم يرضوا الله ورسوله ولم يخلصوا ايمانهم.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ الضمير للشان مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اى يخالف الله ورسوله بالمعصية والتخلف عن الغز وبعد الاستنفار مفاعلة من الحد بمعنى الجانب فان المخالف لاحد يكون فى جانب مغاير لجانبه فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها «1» على حذف الخبر اى الحق ان له نار جهنم او على تكرير ان للتاكيد ويحتمل ان يكون معطوفا على انه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد الله ورسوله يهلك ذلِكَ اى دخول النار والهلاك الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) هذه الآية فى مقام التعليل لقوله الله ورسوله
__________
(1) عن يزيد بن هارون انه خطب ابو بكر الصديق فقال فى خطبته يوتى بعيد قد أنعم الله عليه وبسط له فى رزقه وأصح بدنه وقد كفر نعم ربه فوقف بين يدى الله فيقال له ماذا عملت ليومك هذا ما قدمت لنفسك فلا يجده قدم خيرا فيبكى حتى ينفذ الدموع ثم يعيرو يجزى ما ضيع من طاعة الله فينتجب حتى يسقط صدقاته على وجنتيه وكل واحد منهما فرسخ ثم يعير ويجزى حتى يقول يا رب ابعثني الى النار وارخى من مقامى هذا وذلك قوله تعالى ومن يحادد الله ورسوله فان له نار جهنم الى الاية 12. [.....](4/255)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
أحق ان يرضوه فان عدم إرضاء الله ومخالفته يفضى الى النار دون عدم إرضاء غيره وما احسن قول الشاعر-
ليتك تحلوا والحيوة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
ليت الذي بينى وبينك عامر ... وبينى وبين العالمين خراب
وذكر البغوي قول قتادة والسدى ان قوله تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم نزلت فى جماعة من المنافقين فيهم خلاس بن سويد وقعوا فى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا ان كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير وذكر عامر بن قيس رضى الله عنه هذه المقالة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنذكر القصة فيما بعد إنشاء الله.
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ يعنى المؤمنين بِما فِي قُلُوبِهِمْ اى قلوب المنافقين من الحسد والعداوة للمؤمنين ويهتك عليهم استارهم ويجوز ان يكون الضمائر للمنافقين فان النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث انه مقرو ومحتج به عليهم قال البغوي كانوا يقولون فيما بينهم ويستترون ويخافون الفضيحة بنزول القران فى شانهم وذلك يدل على انهم كانوا مترددين فى امر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحذرون الفضيحة على تقدير صدقه عليه السلام وقيل انه خبر بمعنى الأمر والمعنى ليحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة وقيل كانوا يقولون ذلك فيما بينهم استهزاء لقوله تعالى قُلِ اسْتَهْزِؤُا امر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ اى مظهر ما تَحْذَرُونَ (64) اى ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم او تحذرون إظهاره من مساويكم قال ابن عباس رضى الله عنهما انزل الله تعالى ذكر سبعين رجلا من المنافقين بأسمائهم واسماء آبائهم ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين لئلا يعير بعضهم بعضا لان أولادهم كانوا مومنين قال البغوي نزلت هذه الآية فى اثنى عشر رجلا من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على العقبة لما رجع من غزوة تبوك ليفتكوا به إذا علاها فاخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وسلم (قصّة) ذلك ما روى احمد عن ابى الطفيل والبيهقي عن حذيفه وابن سعد(4/256)
عن جبير بن مطعم رضى الله عنهم وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن الضحاك والبيهقي عن عروة وعن ابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق مكر به ناس من المنافقين وائتمروا بينهم ان يطرحوه من عقبة فى الطريق وفى رواية اجمعوا ان يقتلوه فجعلوا يلتمسون غرته فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يسلك العقبة أرادوا ان يسلكوها معه قالوا إذا أخذ فى العقبة رفعناه عن راحلته فى الوادي فاخبر الله تعالى رسوله بمكرهم فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك العقبة نادى مناديه للناس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ للعقبة فلا يأخذها واحد واسلكوا بطن الوادي فانه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي الا النفر الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا «1» وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة وامر عمار بن ياسر ان يأخذ بزمام الناقة ويقودها وامر حذيفة بن اليمان ان يسوق من خلفه فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير فى العقبة إذ سمع حس القوم فدعسوه «2» فنفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط بعض متاعه وكان حمزة بن عمرو الأسلمي لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وكانت ليلة مظلمة قال حمزة فتور لى فى أصابعي الخمس وأضاءت حتى كنا نجمع ما سقط السوط والحبل واشباههما وامر حذيفة ان يردهم فرجع حذيفة إليهم وقد رأى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه محجن فجعل يضرب وجوه رواحلهم وقال إليكم إليكم يا اعداء الله فعلم القوم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اطلع على مكرهم فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس واقبل حذيفة حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اضرب الراحلة يا حذيفة وامش أنت يا عمار فاسرعوا حتى استويا بأعلاها وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقبة ينتظر الناس وقال لحذيفة هل عرفت أحدا من أولئك الذين رددتهم قال يا رسول الله قد عرفت رواحلهم كان القوم متلثمين فلم ابصرهم من أجل ظلمة الليل قال هل علمتم ما كان من شانهم وما أرادوا قالوا لا والله يا رسول الله قال فانهم مكروا ليسيروا معى فاذا طلعت العقبة
__________
(1) تلثموا اى شد الفم باللثام للغبار 12.
(2) الداعسه المطاعنة بالرماح 12.(4/257)
رهونى فطرحونى منها ان الله تعالى قد أخبرني بأسمائهم واسماء آبائهم ومما خبركم بهم إنشاء الله تعالى قال أفلا تأمرهم يا رسول الله إذا جاءك الناس ان تضرب أعناقهم قال اكره ان يتحدث الناس ويقولوا ان محمدا قد وضع يده فى أصحابه وذكر البغوي بلفظ اكره ان يقول العرب لما ظفر بأصحابه اقبل يقتلهم بل يكفينا الله بالدبيلة «1» فسماهم لهما ثم قال اكتماهم فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أسيد بن الحضير يا رسول الله ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من العقبة فقال يا أبا يحى أتدري ما أراد بي المنافقون وما هموا به قالوا لتبعه فى العقبة فاذا اظلم الليل عليه قطعوا الشاع راحلتى وتحسوها حتى كادوا يطرحونى عن راحلتى قال أسيد يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمع الناس ونزلوا فمر كل بطن ان يقتل الرجل الذي هم بهذا فيكون الرجل فى عشيرته هو الذي يقتله وان أحببت والذي بعثك بالحق فنبئنى فلا أبرح حتى آتيك برؤسهم قال يا أسيد انى اكره ان يقول الناس ان محمدا لما انقطعت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده فى قتل أصحابه فقال يا رسول الله ليسوا باصحاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس يظهرون شهادة ان لا اله الا الله قال بلى ولا شهادة لهم قال فعديت عن قتل أولئك قال ابن إسحاق فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحذيفة ادع عبد الله بن سعد بن ابى السرج وأبا حاضر الاعرابى وعامر أبا عامر والحلاس بن سويد بن الصامت وهو الذي قال لا ننتهى حتى نرمى محمدا من العقبة الليلة ولئن كان محمد وأصحابه خيرا منا انّا إذا الغنم وهو الراعي ولا عقل لنا وهو العاقل وامره ان يدعوا مجمع بن حارثة ومليح التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام فانطلق هاربا فى الأرض فلا يدرى اين ذهب وامره ان يدعوا حيصر بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك ما حملك على هذا قال حملنى عليه انى أظن ان الله لا يطلعك عليه فاما إذا اطلعك الله عليه فانى اشهد اليوم انك لرسول الله صلى الله وانى لم او من بك قبل الساعة فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الذي قال وامر
__________
(1) هى دمل كبير يظهر فى الجوف تقتل صاحبها غالبا 12.(4/258)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
حذيفة ان يأتيه بطعمة ابن أبيرق وعبد الله بن عيينة وهو الذي قال لاصحابه اسهروا هذه اللية تسلموا الدهر كله فو الله مالكم امر دون ان يقتلوا هذا الرجل فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ويحك ما كان ينفعك من قتلى لوانى قتلت فقال عدو الله يا نبى الله والله ما نزال بخير ما اعطاك الله النصر على عدوك انما نحن بالله وبك فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لحذيفة ادع مرة بن الربيع وهو الذي ضرب بيده على عاتق عبد الله بن ابى ثم قال تمطى او قال تميطى والنعيم لنا من بعده كائن تقتل الواحد المفرد فيكون الناس عامة عامة بقتله مطمئنين فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ويحك ما حملك ان تقول الذي قلت فقال يا رسول الله ان كنت قلت شيئا من ذلك انك العالم به وو ما قلت شيئا من ذلك فجمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنى عشر رجلا الذين حاربو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله فاخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم واطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك بعلمه وذلك قوله تعالى وهموا بما لم ينالوا ومات الاثنا عشر منافقين محاربين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال حذيفة فيما رواه البيهقي ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم ارمهم بالدبيلة قال شهاب من نار يقع على نياط «1» قلب أحدهم فيهلك وروى مسلم عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى أصحابي اثنا عشر رجلا منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سلم الخياط ثمانية تكفيهم الدبيلة سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم قال البيهقي وروينا عن حذيفة انهم كانوا اربعة عشر او خمسة عشر وهذه القصة وقعت فى مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك الى المدينة قال الله تعالى.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لام قسم اى والله لئن سالتهم عن استهزائهم بك وبالقرآن وهم سائرون معك فى غزوة تبوك لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) يعنى قل ذلك توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به وإلزاما للحجة عليهم ولا تعبا باعتذارهم
__________
(1) نياط القلب هو عرق به علق القلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه 12.(4/259)
الكاذب فجعلوا كانهم معترفون باستهزائهم حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلى حرف التقرير وذلك يكون بعد ثبوت الاستهزاء كذا قالوا قلت قولهم انما كنا نخوض ونلعب اعتراف منهم بالاستهزاء ومعناه كنا نقول ما يفهم منه الاستهزاء لقطع مسافة الطريق على سبيل اللعب لا على قصد الاستهزاء اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عمر قال قال رجل فى غزوة تبوك فى مجلس ما راينا مثل قراينا هؤلاء لا ارغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا اجبن عند اللقاء فقال له رجل كذبت ولكنك منافق لا خبرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن قال ابن عمرو انا رأيته متعلقا بحقب نافة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكيه وهو يقول انما «1» كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ثم أخرجه من وجه آخر عن ابن عمر نحوه وسمى الرجل عبد الله بن ابى كذا ذكر البغوي عن عمر رضى الله عنه واخرج ابن جرير عن قتادة ان ناسا من المنافقين قالوا فى غزوة تبوك يرجوا هذا الرجل ان يفتح قصور الشام وحصونها هيهات فاطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فاتاهم فقال قلتم كذا وكذا قالوا انما كنا نخوض ونلعب فنزلت قال البغوي سبب نزول هذه الاية على ما قال الكلبي ومقاتل وقتادة ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير فى غزوة تبوك وبين يديه ثلثة نفر من المنافقين اثنان يستهزءان بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والثالث يضحك قيل كانوا يقولون ان محمدا يزعم انه يغلب الروم ويفتح مداينهم وما أبعده من ذلك وقيل كانوا يقولون ان محمدا يزعم انه نزل فى أصحابنا المقيمين فى المدينة قرآن وانما هو قوله وكلامه فاطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال احبسوا علىّ الركب فدعاهم فقال لهم قلتم كذا وكذا فقالوا انما كنا نخوض ونلعب اى كنا نتحدث ونخوض فى الكلام كما يفعل الركب يقطع
__________
(1) عن شريح بن عبيد ان رجلا قال لابى الدرداء يا معشر القراء ما بالكم اجبن منا وأبخل إذا سئلتم وأعظم لقما إذا أكلتم فاعرض عنه ابو الدرداء ولم يرد شيئا فاخبر بذلك عمر بن الخطاب فانطلق عمر الى الرجل الذي قال ذلك فقال بثوبه وخنقه وقاده الى النبي صلى الله عليه وسلم قال الرجل انما كنا نخوض ونلعب فاوحى الله الى نبيه صلى الله عليه وسلم ولين سالتهم ليقولن انما كنا نخوض ونلعب 12.(4/260)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
الطريق بالحديث واللعب وهذه القصة وقعت فى رواحه صلى الله عليه وسلم من المدينة الى تبوك وقال محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر كان رهط من المنافقين يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك لم يخرجوا الا رجاء الغنيمة منهم وديعة بن ثابت أخو بنى عمرو بن عوف والجلاس بن الصامت ومخشى بن حمير من أشجع حليف لبنى سلمة زاد محمد بن عمرو ثعلبة بن حاطب فقال بعضهم بعضا مكانى بكم غدا مقرنين فى الجبال ارجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم وترصيبا للمومنين وقال الجلاس بن عمرو كان زوج أم عمير وكان ابنها عمير فى حجره والله لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فقال عمير وأنت شر من الحمير ورسول الله الصادق وأنت الكاذب فقال مخشى بن حمير والله لوددت انى اقاضى على ان يضرب كل رجل منا «1» مائة جلدة واننا ننقلب من ان ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر أدرك القوم فانهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فان أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا فانطلق عمار إليهم فقال لهم ذلك فاتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون اليه فقال وديعة بن ثابت وقد أخذ حقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاه تنسفان الحجارة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته وهو يقول يا رسول الله انما كنا نخوض ونلعب فانزل الله فيهم ولئن سالتهم ليقولون انما كنا نخوض ونلعب قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون.
لا تَعْتَذِرُوا اى لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فانها معلومة الكذب قَدْ كَفَرْتُمْ اى أظهرتم الكفر بايذاء الرسول والطعن فيه بَعْدَ إِيمانِكُمْ اى اظهاركم الايمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم وإخلاصهم قال محمد بن إسحاق الذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشى بن حمير الأشجعي فقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض وكان يمشى مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع فلما نزلت هذه الآيات تاب من نفاقه قال اللهم لا أزال اسمع آية تقربها عينى وتقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا فى سبيلك لا يقول أحد انا غسلت انا دفنت فاصيب يوم اليمامة فما أحد من
__________
(1) يعنى جلد كل منا مأته ولا ينزل فينا قرآن يفضحنا 12.(4/261)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
المسلمين الا عرف مصرعه غيره وقال مخشى يا رسول الله فعدلى اسمى واسم ابى فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن او عبد الله نُعَذِّبْ طائِفَةً قرأ عاصم نعف بفتح النون وضم الفاء وتعذب بضم النون وكسر الذال على صيغة المتكلم المبنى للفاعل وطائفة بالنصب والباقون بالياء المضمومة وفتح الفاء فى الاول وبالتاء الفوقانية وفتح الذال فى الثاني على صيغة الغائب المبنى للمفعول وطائفة بالرفع بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) بالإصرار على النفاق وإيذاء الرسول والاستهزاء.
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ جنس بَعْضٍ فى الشرك والنفاق والبعد عن الايمان وفيه تكذيب لحلفهم بالله انهم لمنكم وتقرير لقوله وما هم منكم وما بعده كالدليل عليه فانه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وتشابه حال بعضهم لبعض يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ اى بالشرك والمعصية وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ اى عن الايمان والطاعة يقولون لا تنفروا فى الحر وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الانفاق فى سبيل الله وقبض اليد كناية عن الشح نَسُوا اللَّهَ كانهم لا يعلمون لهم خالقا يسألهم عما يفعلون وغفلوا عن ذكره وتركوا طاعته فَنَسِيَهُمْ فتركهم الله من توفيقه وهداية فى الدنيا ورحمته فى الآخرة وتركهم فى عذابه إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) الخارجون عن دائرة الايمان والطاعة بالكلية.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها اى مقدرة الخلود هِيَ اى النار حَسْبُهُمْ عقابا وجزاء على كفرهم ونفاقهم ان يعذبوا فى الدنيا فيه دليل على عظم عذابها وانه بحيث لا يزاد عليه وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وابعدهم من رحمة وأهانهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) دائم لا يقطع والمراد به ما وعدهم فى الآخرة او ما معهم فى الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق والظاهر المخالف للباطن خوفا من المسلمين وما يحذرونه ابدا من الفضيحة ونزول العذاب ان اطلع على أسرارهم.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الكاف محلها رفع خير لمبتدأ محذوف اى أنتم ايها المنافقون مثل الذين كانوا من قبلكم من كفار الأمم الماضية او نصب على المصدرية تقديره(4/262)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
نعلتم ايها المنافقون فعلا مثل فعل الذين كانوا من قبلكم من العدول عن امر الله فلعنتم كما لعنوا كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً بطشا ومنعة وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً بيان لتشبههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم فَاسْتَمْتَعُوا يعنى فتمتعوا وانتفعوا بِخَلاقِهِمْ اى بنصيبهم من الدنيا ولذاتها واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فان الخلاق ما قدر لصاحبه فَاسْتَمْتَعْتُمْ ايها المنافقون بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذم الأولين باستمتاعهم بالحظوظ الدنية الفانية الغير المرضية لله تعالى معرضين عن تحصيل لذائر الباقية القوية المرضية تمهيدا الذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم وَخُضْتُمْ اى دخلتم فى الباطل واللهو كَالَّذِي خاضُوا يعنى كالخوض الذي خاضوا او كالفوج الذي خاضوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لم يستحقوا عليها ثوابا فى الدارين وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) الذين خسروا الدنيا والآخرة يعنى كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وفى رواية ابى هريرة فهل الناس الا هم رواه البخاري وروى الحاكم عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم لتركبن سنن من قبلكم شبرا بشبر ذراعا بذراع حتى لو ان أحدهم دخل حجر ضب لدخلتم ولو ان أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه قال البغوي قال ابن مسعود أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القدة بالقدة غير انى لا أدرى أتعبدون العجل أم لا قوله تعالى.
أَلَمْ يَأْتِهِمْ يعنى المنافقين التفات من الخطاب الى الغيبة نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ انهم عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا فعذبناهم وأهلكناهم ثم ذكرهم فقال قَوْمِ نُوحٍ مع ما عطف عليه بدل من الموصول يعنى اهلكوا بالطوفان لكفرهم وَعادٍ اهلكوا بالريح وَثَمُودَ اهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ بسلب النعمة وإهلاك نمرود بنملة وإهلاك أصحابه وَأَصْحابِ مَدْيَنَ(4/263)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
قوم شعيب اهلكوا بالنار يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قريات قوم لوط ايتفكت بهم اى انقلبت فصار عاليها سافلها وامطروا حجارة من سجيل أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة فكذبوهم فاهلكوا فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ اى لم يكن عادة الله ان يعذبهم بلا جرم منهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) حيث كذبوا الرسل وعصوهم كما فعلتم فاخذناهم بالعذاب فاحذروا ان ينزل بكم مثل ما نزل بهم.
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يؤيد بعضهم بعضا فى طاعة الله وإعلاء دينه يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالايمان والطاعة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن الشرك والنفاق ومعصية الرسول واتباع الشهوات وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى كل ما أمروا به أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لا محالة فان السين موكدة للوقوع إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كل شىء لا يمتنع عنه امر حَكِيمٌ (71) يضع الأشياء مواضعها.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً يطيب فيها العيش او يستطيبها النفس فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قيل معناه اقامة وخلود يقال عدن بالمكان إذا قام به قال صاحب المدارك عدن علم بدليل قوله تعالى جنات عدن التي وعد الرحمن وقد عرفت ان كلمة الذي والتي وضعتا لوصفت المعارف بالجمل فهى مدينة فى الجنة قلت يؤيد كونه علما ما اخرج ابن المبارك والطبراني وابو الشيخ عن عمران بن حصين وابى هريرة رضى الله عنهما قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ومساكن طيبة فى جنات عدن قال قصر من لؤلؤ فى ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء فى كل دار سبعون بيتا من زمرد خضراء فى كل بيت سرير على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش زوجة من الحور العين فى كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام فى كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة ويعطى المؤمن كل غداة من القوة ما يأتي على ذلك كله اجمع واخرج ابو الشيخ فى كتاب العظمة عن ابن عمر قال خلق الله تبارك وتعالى أربعا بيده العرش وعدن والقلم وآدم ثم قال لكل شىء كن(4/264)
فكان واخرج البراز وابن جرير والدار قطنى فى الموتلف والمختلف وابن مردوية من حديث ابى الدرداء قوله صلى الله عليه وسلم عدن دار الله التي لم ترها عين ولم يخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلثة النبيين والصديقين والشهداء يقول الله طوبى لمن دخلك وفى الصحيحين عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين ان ينظروا الى ربهم الا رداء الكبرياء على وجهه فى جنة عدن واخرج احمد والطيالسي والبيهقي هذا الحديث بلفظ جنات الفردوس اربع جنتان من ذهب الحديث قال البيهقي فى قوله رداء الكبرياء استتاره بصفة الكبرياء والعظمة لانه لكبريائه وعظمته لا يراه أحد من خلقه الا باذنه قال البغوي قال ابن مسعود هى يعنى جنات عدن بطنان الجنة اى وسطها وقال عبد الله بن عمرو بن عمرو بن العاص ان فى الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج «1» له خمسة آلاف باب لا يدخله الا نبى او صديق او شهيد وقال الحسن قصر من ذهب لا يدخله الا نبى او صديق او شهيد او حكم عدل وقال عطاء ابن السائب عدن نهر فى الجنة جنانه على حافيته وقال مقاتل والكلبي عدن أعلى درجة فى الجنة وفيها عين التسنيم والجنان حولها محدقة بها وهى مغطاه من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون ومن شاء الله تعالى وفيها قصور الدر والياقوت والذهب فتهب ريح طيبة من تحت العرش فيدخل عليهم كثائب «2» المسك الأبيض قال القرطبي قيل الجنان سبع دار الخلد ودار الجلال ودار السلام وجنة عدن وجنة المأوى وجنة نعيم والفردوس وقيل اربع فقط لحديث ابى موسى فانه لم يذكر فيه سوى اربع كلها يوصف بالمأوى وخلد وعدن والسلام وهذا ما اختاره الحكيم فقال ان الجنتين للمقربين والجنتين الأخريين لاصحاب اليمين وفى كل جنة درجات ومنازل وأبواب ومرجع العطف فى الاية يحتمل ان يكون الى تعدد الموعود لكل واحد او للجميع على سبيل التوزيع او الى تغائر وصفه كانه وصفه اولا بانه من جنس ما هو ابهى الأماكن يعرفونها ليميل
__________
(1) المرج الأرض الواسعة إنبات كثير تمرج فيها الدواب اى تخلى ويشرح مختلطه كيف شاءت واصل ...
المرج الخلطة 12.
(2) كثائب جمع كثيب وهو الرمل المستطيل المحدودب 12.(4/265)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
اليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بانه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا يخلوا عن شىء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهى الا نفس وتلذ الأعين ثم وصفه بانه دار اقامة وثبات فى جوار العليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ثم وعدهم بما هو اكبر من ذلك فقال وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ اى شىء من رضوان الله أَكْبَرُ نعمة من سائر النعم فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى يقول لاهل الجنة يا اهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا ترضى وقد أعطيتنا ما لم ... تعط أحدا من خلقك «1» فقال انا أعطيتكم أفضل من ذلك قالوا وما أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم ابدا واخرج الطبراني فى الأوسط ... وصححه عن جابر يرفعه إذا دخل اهل الجنة الجنة قال الله تعالى هل تسألون شيئا فازيدكم قالوا يا ربنا فما خير مما أعطيتنا قال رضوان من الله اكبر ذلِكَ الرضوان او جميع ما تقدم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) الذي يستحقر دونه ما سواه.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ قال ابن عباس والضحاك يعنى باللسان وترك الرفق وتغليظ الكلام وقال الحسن وقتادة بإقامته الحدود وقال ابن مسعود يجاهدهم بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وقال لا يلقى المنافق الا بوجه مكفهر وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ فى الآخرة جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) هى قال عطاء نسخت هذه الآية كل شىء من العفو والصفح والله تعالى اعلم- اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فى ظل شجرة فقال انه سياتيكم انسان ينظر بعينين شيطان فطلع رجل ازرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علام تشتمنى أنت وأصحابك فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم فانزل الله تعالى.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا واخرج ابن ابى حاتم عن ابن
__________
(1) الظاهر ان المراد من الخلق فى قوله أعطيتنا ما لم يعط أحدا من خلقك الملائكة إذ لا يجوز ان ير أحد التفصيل على اهل النار من الانس والجن ولا على ما لا يعقل والله اعلم منه.(4/266)
عباس قال كان الجلاس بن سويد بن الصامت ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك وقال لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فرفع عمير بن سعد ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قلت فانزل هذه الاية فزعموا انه تاب وحسنت توبته ثم اخرج عن كعب بن مالك نحوه وكذا اخرج ابن إسحاق عنه واخرج ابن سعد فى الطبقات نحوه عن عروة وكذا ذكر البغوي قول الكلبي قال نزلت فى جلاس بن سويد وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجسا وعابهم فقال جلاس لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير فسمعه عامر بن قيس فقال أجل ان محمدا صلى الله عليه وسلم لصادق وأنتم شر من الحمير فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة أتاه عامر بن قيس فاخبره بما قال الجلاس فقال الجلاس كذب يا رسول الله علىّ فامرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا اله الا هو ما قاله ولقد كذب علىّ عامر ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا اله الا هو لقد قاله وما كذبت عليه ثم رفع عامر يديه الى السماء وقال اللهم انزل على نبيك الصادق منا الصدق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أمين فنزل جبرئيل عليه السلام قبل ان يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ فان يتوبوا يك خيرا لهم فقام الجلاس فقال يا رسول الله اسمع الله قد عرض علىّ التوبة صدق عامر بن قيس فيما قاله لقد قلته وانا استغفر الله وأتوب اليه فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته واخرج ابن ابى حاتم عن انس بن مالك قال سمع زيد بن أرقم رجلا من المنافقين يقول والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ان كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير فرفع ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم فجحد القائل فانزل الله هذه الاية واخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا ان رجلين أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار وظهر الغفاري على الجهني فقال عبد الله بن ابى الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا ومثل محمد الا كما قال القائل سمن كلبك يا ذلك لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى رجل من المسلمين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فارسل اليه فسأله فجعل(4/267)
يحلف بالله ما قال فانزل الله تعالى يحلفون بالله ما قالوا الآية وهذه قصة غزوة بنى المصطلق وقد ذكرنا القصة فى سورة المنافقين وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ قيل هى سب النبي صلى الله عليه وسلم وقيل هى قول الجلاس لان كان محمد صادقا لنحن شر الحمير وقيل قولهم لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ اى أظهروا الكفر بعد ما أظهروا الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا قيل هم اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة فى طريق تبوك ليفتكوا «1» برسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء جبرئيل وامره ان يرسل إليهم من يضرب رواحلهم فارسل حذيفة لذلك وقد مر القصة واخرج الطبراني عن ابن عباس قال همّ رجل يقال له الأسود بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية وقال مجاهد همّ المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم لنحن شر من الحمير كيلا يفشيه وقيل هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المدينة فى قصة غزوة بنى المصطلق وقال السدى قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على راس عبد الله بن ابى تاجا فلم يصلوا اليه وَما نَقَمُوا اى ما كرهوا وما وجدوا ما يورث نقمتهم ويقتضى انتقامهم شيئا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ يعنى الا الإحسان بهم وذلك شىء محبوب عند القلوب يوجب المحبة والانقياد دون العداوة والانتقام والجملة حال من فاعل هموا بيان لكمال شرهم وخبثهم حيث أساءوا فى مقابلة الإحسان اخرج ابن جرير وابو الشيخ عن عكرمة ان مولى بن عدى بن كعب قتل رجلا من الأنصار فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر
الفا قال البغوي مولى الجلاس قتل فامر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية اثنى عشر الفا فاستغنى وفيه نزلت هذه الآية وقال الكلبي كان اهل المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فى ضنك من العيش فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم فَإِنْ يَتُوبُوا من نفاقهم وكفرهم يَكُ ذلك التوب خَيْراً لَهُمْ قد مر ان هذه الاية حمل الجلاس على التوبة وَإِنْ يَتَوَلَّوْا اى يعرضوا عن التوبة والإخلاص يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً
__________
(1) الفتك ان يأتي الرجل حاجته وهو غافل فيقتله 12.(4/268)
أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالخزي والفضيحة او القتل وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) حتى ينجيهم من القتل والخزي روى البغوي بسنده وكذا ابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردوية والطبراني والبيهقي فى شعب الايمان عن ابى امامة الباهلي قال جاء ثعلبة بن حاطب الأنصاري الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله ان يرزقنى مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما لك فى رسول الله أسوة حسنة والذي نفسى بيده لو أردت ان تسير الجبال معى ذهبا لساوت ثم أتاه بعد ذلك فقال يا رسول الله ادع الله ان يرزقنى مالا والذي بعثك بالحق نبيا لان رزقنى الله مالا لاعطين كل ذى حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارزق ثعلبة مالا قال فاتخذ غنما فنمت كما ينموا الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزلت واديا من أوديتها وهى تنموا كما ينموا الدود وكان يصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر ويصلى فى غنمه سائر الصلوات ثم كثرت ونمت حتى تباعد عن المدينة فصار لا يشهد الا الجمعة ثم كثرت ونمت فتباعد ايضا حتى كان لا يشهد جمعة ولا جماعة فكان إذا كان يوم الجمعة يخرج يتلقى الناس يسألهم عن الاخبار فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال ما فعل ثعلبة قالوا يا رسول الله اتخذ ثعلبة غنما يسعها واد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ويح «1» ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة فانزل الله تعالى آية الصدقات فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بنى سليم رجلا من جهينة وكتب لهما أسنان الصدقة وكيف يأخذان وقال لهما مرا بثعلبة بن حاطب وبرجل من بنى سليم فخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسالاه الصدقة وأقرأه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما هذه الا جزية ما هذه الا اخت الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم عودا الى فانطلقا وسمع بهما السلمى فنظر الى خيار أسنان ابله فعزها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما راؤها قالوا ما هذا عليك قال خذاه فان نفسى بذاك طيبة فمرا على الناس وأخذا الصدقات ثم رجعا الى ثعلبة فقال أروني كتابكما فقرأه فقال ما هذه الا جزية ما هذه الا اخت الجزية اذهبا حتى ارى رأيى قال فاقبلا فلما راهما رسول الله
__________
(1) هى كلمة ترحم وترجع يقال لمن وقع فى هلكته لا يستحقها 12.(4/269)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
صلى الله عليه وسلم قبل ان يكلماه قال يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة ثم دعا للسلمى بخير فاخبراه بالذي صنع ثعلبة فانزل الله فيه.
وَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ فيه ادغام التاء فى الصاد وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) واخرج ابن جرير وابن مردوية من طريق العوفى عن ابن عباس نحوه يعنى يعمل عمل اهل الصلاح من صلة الرحم وأداء الزكوة والنفقات الواجبة والمستحبة فى سبيل الله.
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ اى بالمال ومنعوا حق الله وَتَوَلَّوْا عن طاعة الله ورسوله وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) اى هم قوم عادتهم الاعراض عنها.
فَأَعْقَبَهُمْ الله او البخل اى جعل عاقبة أمرهم نِفاقاً اى سوء اعتقاد فِي قُلُوبِهِمْ حيث لم يروا امتثال امر الله تعالى فى أداء الزكوة واجبا وأنكروا وجوب الزكوة وزعموها اخت الجزية إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ اى يلقون الله بالموت او يلقون عملهم اى جزائه وهو يوم القيامة او فى القبر يعنى حرمهم الله التوبة الى ان ماتوا على النفاق بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ اى بسبب اخلافهم ما وَعَدُوهُ من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) اى بكونهم كاذبين فان خلف الوعد متضمن لكذب مستقبح من الوجهين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آية المنافق ثلث إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان متفق عليه من حديث ابى هريرة زاد مسلم بعد قوله ثلث وان صام وصلى وزعم انه مسلم ثم اتفقا وروى البغوي وابن جرير وغيره فى حديث ابى امامة المذكور فيما قبل انه نزلت الآية وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه فقال ويحك يا ثعلبة لقد انزل الله عز وجل فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى اتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله ان يقبل صدقته فقال ان الله منعنى ان اقبل منك صدقتك فجعل يحثوا على راسه التراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عملك قد امرتك لم تطعنى فلما ابى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقبض صدقته رجع الى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتى أبا بكر رضى الله عنه فقال اقبل صدقتى فقال ابو بكر لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم انا اقبلها فقبض ابو بكر(4/270)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
ولم يقبلها فلما ولى عمر أتاه فقال اقبل صدقتى فقال لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ابو بكر انا اقبلها منك فلم يقبلها ثم ولى عثمان فاتاه فلم يقبلها وهلك ثعلبة فى خلافة عثمان وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ... اتى ثعلبة مجلسا من الأنصار فاشهدهم لان أتاني الله من فضله أتيت منه كل ذى حق حقه وتصدقت منه وصلت منه القرابة فمات ابن عمر له فورثه مالا فلم يف بما قال فانزل الله تعالى هذه الآية وقال الحسن ومجاهد نزلت فى ثعلبة بن حاطب ومعتب بن قشير وهما من بنى عمرو بن عوف خرجا على ملاء قعود وقالا والله لان رزقنا الله من فضله لنصدقن فلما رزقهما الله بخلا به.
أَلَمْ يَعْلَمُوا اى المنافقون او من عاهد الله حين أظهروا خلاف ما اضمروا والاستفهام للتوبيخ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ يعنى ما يسرون من النفاق او العزم على الأخلاف وَنَجْواهُمْ اى يتناجون فيما بينهم من المطاعن او تسمية الزكوة جزية وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) فلا يخفى عليه شىء روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن مسعود قال لما نزلت اية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشئ كثير فقالوا يعنى المنافقين مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا ان الله لغنى عن صدقة هذا فنزل.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ اى يعيبون الموصول مرفوع على الذم او منصوب او بدل من الضمير فى سرهم او مبتدأ خبره سخر الله منهم الْمُطَّوِّعِينَ أصله المتطوعين اى الراغبين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إكثار الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يتصدقون به إِلَّا جُهْدَهُمْ اى طاقتهم اى ما يطيقون ويقدرون عليه من المال القليل وقال البغوي قال اهل التفسير حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف باربعة آلاف درهم وقال يا رسول الله مالى ثمانية آلاف جئتك باربعة آلاف فاجعلها فى سبيل الله وأمسكت اربعة آلاف لعيالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله ما فى ماله حتى انه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين الف درهما وفى رواية صولحت احدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين الف درهم وكان حقها اكثر مما صولحت عليه وتصدق يومئذ(4/271)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
عاصم بن عدى العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء ابو عقيل الأنصاري واسمه الحجاب بصاع من تمر فقال يا رسول الله بت ليلتى اجر بجرير «1» الماء حتى نلت صاعين من تمر فامسكت أحدهما لاهلى وأتيتك بالاخر فامره رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ينثره فى الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا ما اعطى عبد الرحمن وعاصم الا رياء وان كان الله ورسوله لغنيين عن صاع ابى عقيل ولكنه أحب ان يذكر بنفسه ليعطى من الصدقة فانزل الله هذه الآية وعنى بالمطوعين عبد الرحمن وعاصم وبالذين لا يجدون الا جهدهم أبا عقيل قلت روى القصة احمد وابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس وقصة مصالحة احدى امرأتيه الطبراني واسمه تماضر من حديث ابى عقيل وورد نحو هذه القصة من حديث ابى هريرة وابى سعيد الخدري وابى عقيل نفسه وعميرة بنت سهل بن رافع أخرجها كلها ابن مردويه قال الله تعالى عز شانه فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يستهزؤن بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ اى جازا هم على السخرية واخرج البيهقي عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان المستهزئين بالناس يفتح لاحدهم باب من الجنة فيقال لاحدهم فيجئى بكر به وغمه فاذا جاء غلق دونه فما زال كذلك حتى ان أحدهم ليفتح له الباب من أبواب الجنة فيقال لهم هلم فما يأتيه من الإياس وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) بكفرهم واستهزائهم قال البيضاوي روى عن عبد الله بن عبد الله بن ابى المنافق كان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرض موت أبيه المنافق ان يستغفر له ففعل فنزلت.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ امر بمعنى الاخبار بالتسوية بين استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للمنافقين وعدمه فى عدم الافادة كما نص عليه بقوله إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لازيدن على السبعين فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم كذا اخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر معناه واخرج ابن المنذر عن عروة ومجاهد وقتادة واخرج ابن المنذر من طريق العوفى عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الاية قال النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الجرير الحبلى والمعنى استقى للناس على اجرة صاعين 12.(4/272)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
اسمع ربى وقد رخص لى فيهم فو الله لاستغفرن اكثر من سبعين مرة لعل الله ان يغفر لهم فنزلت استغفرت لهم أم تستغفر لهم قال البيضاوي فهم النبي صلى الله عليه وسلم من السبعين العدد المخصوص لانه الأصل فجوز ان يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما ورائه فبين له ان المراد به التكثير دون التحديد وقد شاع استعمال السبعة والسبعين وسبعمأة ونحوها فى التكثير لاشتمال السبعة على جملة اقسام العدد فان العدد قليل وكثير فالقليل ما دون الثلث والكثير الثلث فما فوقه وادنى الكثير ثلثه ولا غاية لا قصاه وايضا العدد نوعان شفع ووتر وأول الاشفاع اثنان وأول الأوتار ثلثة وواحد ليس بعدد والسبعة أول الجمع الكثير من النوعين لان فيها أوتارا ثلثة واشفاعا ثلثة والعشرة كمال الحساب لان ما جاوز العشرة فهو اضافة الآحاد الى العشرة كقولك اثنا عشر ثلثة عشر الى عشرين والعشرون تكرير العشرة مرتين والثلاثون تكريرها ثلث مراة وهكذا الى ماءة فالسبعون يجمع الكثرة والنوع والكثرة منه وكمال الحساب والكثرة منه فصار السبعون ادنى الكثير من العدد من كل وجه ولا غاية لاقصاه فجاز تخصيص السبعين بهذا المعنى فكانه العدد باسره ذلِكَ الياس عن المغفرة بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعنى ليس ذلك لبخل منا ولا لقصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) المتمردين فى كفرهم وهو كالدليل على الحكم السابق فان مغفرة الكافر انما هو بالإقلاع عن الكفر والإرشاد الى الحق والمنهمك فى كفره المطبوع عليه لا ينقطع ولا يهتدى.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ عن غزوة تبوك والمخلف المتروك بِمَقْعَدِهِمْ اى بعقودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ قال ابو عبيدة اى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل خلاف بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة او الحال يعنى فرحوا لاجل مخالفة الرسول وحال كونهم مخالفين له وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيه تعريض بالمؤمنين الذين حصلوا رضائه تعالى ببذل الأموال والأنفس واثروا رضاه على الأموال والأنفس وَقالُوا اى قال بعضهم لبعض وللمؤمنين تثبيطا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ اخرج ابن جرير عن ابن عباس قال امر رسول الله صلى الله عليه وسلم ان(4/273)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
ينبعثوا معه وذلك فى الصيف فقال رجل يا رسول الله الحر الشديد ولا تستطيع الخروج فلا تنفر فى الحر فانزل الله تعالى قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا وقد اثرتموها بهذه المخالفة فيه استجهال لهم لانه من يصون نفسه من مشقة ساعة ووقع بسبب ذلك فى مشقة أشد واغلظ الموبد كان أجهل من كل جاهل لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) اى يعلمون قال البغوي كذلك هو فى مصحف ابن مسعود يعنى لو كانوا يعلمون ان ما بهم إليها او انها كيف هى ما اختاروها بايثار الدعة على الطاعة قال محمد بن يوسف الصالحي جعل جد بن قيس وغيره من المنافقين يثبطون المسلمين عن الخروج وقال الجد لجبار بن منحر ومن معه من بنى سلمة لا تنفروا فى الحر رهادة فى الجهاد وشكافى الحق وارجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى قل نار جهنم أشد حرا واخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حر شديد الى تبوك فقال رجل من بنى سلمة لا تنفروا فى الحر فانزل الله قل نار جهنم أشد حرا الآية واخرج البيهقي فى الدلايل من طريق ابن إسحاق عن عاصم بن عمر ابو قتادة وعبد الله بن ابى بكر بن حزم قال رجل من المنافقين لا تنفروا فى الحر فنزلت هذه الآية والله اعلم- قال الله تعالى.
فَلْيَضْحَكُوا اى المنافقون حين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله قَلِيلًا يعنى ضحكا قليلا او فى زمان قليل يعنى فى الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فى الآخرة اخبار عما يؤل اليه حالهم فى الدنيا والآخرة أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على انه حتم واجب والضحك والبكاء اما محمولان على الحقيقة او هما كنايتين عن السرور والغم وجاز ان يكون المراد بيان حالهم فى الآخرة والمراد من القلة العدم جَزاءً مصدر فعل محذوف اى يجزون جزاء بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فى الدنيا اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى فليضحكوا قليلا قال الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاؤا فاذا انقطعت الدنيا وصاروا الى الله فليستانفوا البكاء بكاء لا ينقطع ابدا واخرج ابن ماجة وابو يعلى والبيهقي وهناد عن انس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يرسل البكاء على اهل النار فيكون حتى ينقطع الدموع ثم يكون الدم ثم توتى فى وجوههم كهيئة الأخدود ولو أرسلت فيها السفن لجرت واخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن قيس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان اهل النار ليبكون(4/274)
حتى لو أجريت السفن فى دموعهم لجرت وانهم يسكبون الدم واخرج ابن ابى الدنيا والضياء كلاهما فى صفة النار عن زيد بن رفيع رفعه ان اهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم يكون القيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء فى الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيرفعون أصواتهم يا اهل يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش فافيضوا علينا من الماء او مما رزقكم الله فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم يجيبهم انكم ماكثون فيئسوا من كل خير قلت وجاز ان يكون معنى الآية فليضحكوا اى الناس أجمعين فى دنياهم قليلا امر اباحة يشعر كراهة كثرة الضحك فان كثرة الضحك يميت القلب وليبكوا فى الدنيا كثيرا من خشية الله حتى يكون البكاء جزاء وعوضا بما كانوا يكسبون يتهافت به سياتهم عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا رواه احمد والشيخان فى الصحيحين والترمذي والنسائي وابن ماجة ورواه البخاري ايضا عن ابى هريرة ورواه الحاكم وصححه عن ابى ذر وزاد ولما ساغ لكم الطعام ولا الشراب وروى الطبراني والحاكم والبيهقي عن ابى الدرداء مرفوعا بلفظ لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ولخرجتم الى الصعدات تجارون «1» الى الله تعالى لا تدرون تنجون او لا تنجون وروى الحاكم عن ابى هريرة وصححه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما اعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا يظهر النفاق ويرتفع الأمانة ويقبض الرحمة ويتهم الامين ويؤتمن غير الامين أناخ بكم الشرف الجون الفتن كامثال الليل المظلم وروى البغوي بسنده عن انس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا ايها الناس ابكوا فان لم تستطيعوا فتباكوا فان اهل النار يبكون فى النار حتى يسيل دموعهم فى وجوههم كانها جداول حتى ينقطع الدموع فيسيل الدماء ويفرج العيون فلو ان سفنا أجريت فيها لجرت وروى احمد والترمذي وابن ماجة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم الى الصعدات تجارون الى الله وروى ابن ماجة عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد مومن يخرج من
__________
(1) جار الى الله اى تضرع 12.(4/275)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
عينيه دموع وان كان مثل راس الذباب من خشية الله ثم يصيب من خروجه الا حرمه الله على النار.
فَإِنْ رَجَعَكَ اى ردك اللَّهُ إِلى المدينة وفيها طائِفَةٍ مِنْهُمْ اى من المخلفين يعنى منافقيهم فان كلهم لم يكونوا منافقين او من بقي منهم بعد ما تاب بعضهم وهلك بعضهم فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك الى غزوة اخرى بعد تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ قرأ ابو بكر وحمزة والكسائي بسكون الياء والباقون بفتحها أَبَداً فى سفر وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بسكونها عَدُوًّا اخبار فى معى النهى للمبالغة إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعنى فى غزوه تبوك والجملة تعليل للنهي وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) مع النساء والصبيان والمرضى والزمنى لعدم لياقتهم للجهاد وقال ابن عباس مع الذين تخلفوا بغير عذر وقيل مع المخالفين قال القراء يقال صاحت خالف إذا كان مخالفا روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر قال لما توفى عبد الله بن ابى جاء ابنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فاعطاه ثم سأله فقام ليصلى عليه فقام عمر فاخذ بثوبه فقال يا رسول الله اتصلي عليه وقد نهاك ربك ان تصلى على المنافقين فقال انما خيرنى الله فقال استغفر لهم او لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة وسازيده على السبعين فقال انه منافق فصلى عليه فانزل الله تعالى.
وَلا تُصَلِّ المراد بالصلوة الدعاء والاستغفار للميت فيشتمل صلوة الجنازة ايضا لانها مشتملة على الدعاء والاستغفار عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ظرف لتصل وقيل ظرف لمات يعنى مات موتا موبدا على الكفر فان احياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكانه لم يحيى وبهذا المعنى قال الله لا يموت فيها ولا يحيى وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ للدفن او للزيارة قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له ولذا ورد النهى عن القيام على قبره إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ
(84) تعليل للنهى او لتائيد الموت وروى البخاري عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب انه قال لما مات عبد الله بن ابى ابن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلى على ابن ابى وقد قال يوم كذا كذا ويوم كذا كذا اعدد عليه قال انى خيرت(4/276)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
فاخترت لو اعلم انى لو زدت على السبعين غفر له لزدت عليها فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث الا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن ابى بعد ما ادخل حفرته فامر به فاخرج فوضعه على ركبته ونفث فيه ريقه والبسه قميصه وفى الصحيحين عن ابن عمر ان عبد الله بن عبد الله بن ابى كان من المصلحين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرض أبيه ان يستغفر له ففعل فنزلت وروى الحاكم وصححه والبيهقي فى الدلائل عن اسامة بن زيد ان ابن ابى دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مرضه فسأله ان يستغفر له ويكفنه فى شعاره الذي يلى جسده ويصلى عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلى فنزلت هذه هذه الآية واخرج البخاري من حديث جابر انه قال لما كان يوم بدر واتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فوجدوا قميص عبد الله بن ابى يقدر عليه فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي البسه يعنى كان ذلك مكافاة له قال البغوي روى ان النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن ابى فقال صلى الله عليه وسلم وما يغنى عنه قميصى وصلاتى من الله والله انى كنت ارجوا ان يسلم به الف من قومه قال وروى انه اسلم الف من قومه لما راؤه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم قال البغوي فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية على منافق ولا قام على قبره حتى قبض.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) تكرير للتاكيد والأمر حقيق به فان الابصار طامحة الى الأموال والأولاد والنفوس مغطبتة عليها ويجوز ان يكون هذا فى فريق غير الاول.
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن ويجوز ان يراد بها بعضها أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ اى بان أمنوا ويجوز ان يكون ان مفسرة والظاهر ان المراد بالايمان هاهنا امتثال امره صلى الله عليه وسلم فى الجهاد وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ فى القعود أُولُوا الطَّوْلِ اى ذووا الغنا والسعة مِنْهُمْ اى من المنافقين وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) فى رحالهم بعذر.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ اى النساء اللاتي يخلفن فى البيوت جمع خالفة وقد يقال(4/277)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
الخالفة الذي لا خير فيه فلان خالفة قومه إذا كان دونهم يعنى مع ارزال الناس الذين لا خير فيهم وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ طبع الله عليها فلا يدركون حسن الخيرات وسؤالسيات فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) ما فى الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما فى المخالفة عنه من الشقاوة.
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مخلصين جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ يعنى ان تخلف الخوالف ولم يجاهدوا فلا منقصة فى الدين فقد جاهد من هو خير منهم وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ ز اى منافع الدارين وقيل الخيرات الحور العين قال الله تعالى فيهن خيرات حسان جمع خيرة وحكى عن ابن عباس ان الخير لا يعلم معناه الا الله عز وجل كما قال جل ذكره فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين قلت مراد ابن عباس انه يعم جميع المنافع وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) بيان لما لهم فى الاخرة من الخيرات.
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ اى المعتذرون بالجهد وكثرة العيال ادغم التاء فى الذال ونقل حركتها الى العين كذا قال الفراء او المعنى المقصرون فيه الموهمون ان لهم عذر ولا عذر لهم عذر من التفعيل اى قصر وقرأ يعقوب ومجاهد المعذرون بالتخفيف من اعذر إذا اجتهد وبالغ فى العذر مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ فى القعود قال محمد بن عمر جاء ناس من المنافقين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه فى القعود من غير علة فاذن لهم وروى ابن مردوية عن جابر بن عبد الله استاذن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من المنافقين حين اذن لجد بن قيس يستاذنونه يقولون يا رسول الله ايذن لنا فانا لا نستطيع ان ننفر فى الحر فاذن لهم واعرض عنهم ونزل هذه الآية فلم يعذرهم الله تعالى قال ابن إسحاق هم نفر من بنى غفار وقال محمد بن عمر كانوا اثنين وثمانين رجلا منهم خفاف بن أيما انزل الله فيهم وإذا أنزلت سورة ان أمنوا الى قوله وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون قال الضحاك المعذرون هم رهط عامر بن الطفيل جاؤا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم وقالوا يا نبى الله ان نحن غزونا معك تغير اعراب طى على حلائلنا وأولادنا ومواشينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نبأني الله من اخباركم وسيغنى(4/278)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
الله عنكم وقال ابن عباس هم الذين تخلفوا العذر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى ارعاء الايمان يعنى المنافقين فعلى هذا التأويل الفريق الاول غير مسيئين والظاهر ان المراد بهؤلاء هم الأولون كذب الله المنافقين المعذرين بالباطل او يقال المعذرون أعم من هؤلاء فان منهم من اعتذر بكسله لا لكفره قال ابو عمرو بن العلاء كلا الفريقين مسيئين قوم تكلفوا عذرا بالباطل وهم الذين عناهم الله عز وجل بقوله وجاء المعذرون وقوم تخلفوا من غير تكلف عذر فقعدوا جرأة على الله وهم المنافقون فاوعدهم الله تعالى بقوله سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ اى من الاعراب او من المعذرين فان منهم من اعتذر بكسله لا لكفره عَذابٌ أَلِيمٌ (90) اخرج ابن ابى حاتم عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال كنت اكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت اكتب براءة وانى لواضع القلم على اذنى إذ امر بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء أعمى فقال كيف بي يا رسول الله وانا أعمى فنزلت.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ قال ابن عباس يعنى الزمنى والمشايخ والعجزة وقيل الصبيان وقيل النسوان وَلا عَلَى الْمَرْضى العميان وغيرهم وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ لفقرهم حَرَجٌ اى ضيق فى القعود عن الغزو وما ثم إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالايمان والطاعة فى السر والعلانية كما يفعل الموالي والناصح او بما يقدروا عليه فعلا وقولا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على انهم منخرطون فى سلك المحسنين غير معاتبين مِنْ سَبِيلٍ الى معاتبتهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) لهم او للمسى فكيف للمحسن قال البغوي قال قتادة نزلت فى عابد بن عمر وأصحابه وقال الضحاك نزلت فى عبد الله بن أم مكتون وكان ضرير البصر روى البخاري وابن سعد عن انس وابن سعد عن جابر رضى الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا المدينة قال ان بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر.
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على الضعفاء او على المحسنين قال ابن عباس سالوه ان يحملهم على الدواب(4/279)
وقيل سالوه ان يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المحضوفة ليفروا معه قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من الكاف فى أتوك بإضمار قد تَوَلَّوْا جواب إذا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ اى تسيل مِنَ الدَّمْعِ اى دمعها ومن للبيان وهى مع مجرورها فى محل النصب على التميز وهو ابلغ من تفيض دمعها لانه يدل على ان العين صارت دمعا فياضا حَزَناً نصب على العلة او الحال او المصدر لفعل دل عليه ما قبله أَلَّا يَجِدُوا اى لئلا يجدوا متعلق بحزنا او يتقيض ما يُنْفِقُونَ (92) فى غزوتهم روى ابن جرير وابن مردوية عن ابن عباس وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وابن إسحاق وابن المنذر وابو الشيخ عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن بكر وعاصم بن محمد بن عمر وقتادة وغيرهم رحمهم الله ان عصابة من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاؤه يستحملونه وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ان لا يجدوا ما ينفقون قال محمد بن يوسف الصالحي اختلفوا فى اسمائهم فالذى اتفقوا عليه سالم بن عمير من بنى عمرو بن عوف الأوسي وعلية بن زيد وابو ليلى بن عبد الرحمن بن كعب وهرمى بن عبد الله والذي اتفق عليه القرضى وابن إسحاق والواقدي وتبعهم ابن سعد وابن حزم وابو عمرو السهيلي ولم يذكر الأخير عرباض بن سارية جزم بذلك ابن حزم وابو عمرو ورواه ابو نعيم عن ابن عباس والدي اتفق عليه القرظي وابن إسحاق عمرو بن حمام بن الجموح والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة وابن إسحاق عبد الله بن مغفل روى ابن سعد ويعقوب بن سفيان وابن ابى حاتم عن ابن مغفل قال انى لاجد الرهط الذين ذكر الله تعالى ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم وفى حديث ابن عباس أخرجه ابن ابى حاتم من طريق العوفى قال امر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ان ينبعثوا غازين معه فجاءت عصابة من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عبد الله بن مغفل المزني قالوا يا رسول الله احملنا فقال والله ما أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم بكاء وعزّ عليهم ان يحبسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا فانزل الله تعالى عذرهم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم الآية والذي اتفق عليه القرظي وابن عمر سلمة بن صخر ولفظ القرظي سلمان والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة عمرو بن عنمة بن عدى وعبد الله بن عمرو المزني حكاه ابن إسحاق قولا بدلا(4/280)
عن ابن مغفل وانفرد القرظي يذكر عبد الرحمن بن زيد ابو علية من بنى حارثة وبذكر حرمى بن عمرو من بنى مازن وقال محمد بن عمرو يقال ان عمرو بن عوف منهم قال ابن سعد وفى بعض الروايات من يقول فيهم معقل بن يسار وذكر فيهم الحاكم حرمى بن مبارك بن النجار وذكر ابن عابد فيهم مهدى بن عبد الرحمن وذكر فيهم محمد بن كعب سالم بن عمرو الواقفي قال ابن سعد وبعضهم يقول البكاءون بنو مقرن السبعة وهم من مزينة انتهى وهم النعمان وسويد ومغفل وعقبل وسنان ذكر ابن إسحاق فى رواية يونس وابن عمران علية بن زيد لما فقد ما يحمله ولم يجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحمله خرج من الليل فصلى من ليلة ما شاء الله تعالى ثم بكى وقال اللهم انك أمرت بالجهاد ورغبت فيه وانى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال او جسدا وعرض ثم أصبح مع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اين المتصدق هذه الليلة فلم يقم اليه أحد فقام اليه ناخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابشر فو الذي نفسى بيده لقد كتبت فى الزكوة المتقبلة قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر لما خرج البكاءون من عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد أعلمهم انه لا يجد ما يحملهم عليه بقي يامين بن عمرو النضري أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال ما يبكيكما قالا جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نقوى به على الخروج ونحن نكره ان يفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعطاهما ناضحا له وزود كلواحد منهما صاعين من تمر زاد محمد بن عمرو حمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين وحمل عثمان بن عفان منهم ثلثة نفر بعد الذي كان جهز من الجيش قلت لعله لما سقط السبعة من الستة العشر المذكورين وسقط اثنان منهم لاجل شك الراوي فبقى من لم يخرج الى الغزو لفقد ما يحمله سبعة وهم الذين قال الله تعالى فيهم انه لا سبيل عليهم بالمعاتبة والله اعلم روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى موسى الأشعري قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى نفر من الأشعريين ليحملنا وفى رواية أرسلني أصحابي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اساله لهم الحملان فقلت يا رسول الله ان أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم فقال والله لا أحملكم على شىء وما عندى ما أحملكم عليه ووافقته وهو غضبان(4/281)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
ولا أشعر فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن محافة ان يكرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد فى نفسه علىّ فرجعت الى أصحابي فاخبرتهم بالذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب ابل فلم البث الا سويعة إذ سمعت بلالا ينادى اين عبد الله بن قيس فاجبته فقال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فلما أتيته قال هذين القرينين «1» وهذين القرينين لستة ابعرة اتباعهن حينئذ من سعد فانطلق بهن الى أصحابك فقل ان الله او قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء فاركبوهن قال ابو موسى فانطلقت الى أصحابي فقلت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هولاء ولكن والله لا أودعكم حتى ينطلق معى بعضكم الى من سمع مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سالته لكم ومنعه فى أول مرة ثم إعطائه إياي بعد ذلك لا تظنوا انى حدثتكم شيئا لم يقله فقالوا لى والله انك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت قال فانطلق ابو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه إياهم ثم إعطائه بعد ذلك فحدثوهم بمثل ما حدثهم ابو موسى ثم قلنا والله لا يبارك لنا فرجعنا فقلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال انا ما حملتكم ولكن الله حملكم ثم قال والله انى إنشاء الله لا احلف على يمين فارى غيرها خيرا منهما الا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يمينى.
إِنَّمَا السَّبِيلُ بالعقاب والمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون الاهبة رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استيناف ببيان ما هو السبب لاستيذانهم من غير عذرهم وهو رضاهم بالدناة والانتظام فى جملة الخوالف وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) سوى ما اختاروه من القعود على الجهاد وموافقة الرسول.
يَعْتَذِرُونَ يعنى المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وقد ذكرنا انهم كانوا بضعة وثمانين نفرا إِلَيْكُمْ ايها الرسول والمؤمنون إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من غزوة تبوك الى المدينة وفى الاية معجزة فانهم جاؤا بعد ذلك يعتذرون بالباطل قال الله تعالى قُلْ لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم
__________
(1) القرينين الجملان المشدود ان أحدهما الى الآخر 12. [.....](4/282)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
علة للنهى لان غرض المعتذر ان يصدق فيما يعتذر به ثم بين علة عدم التصديق وقال قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أعلمنا بالوحى الى نبيه صلى الله عليه وسلم بعض اخباركم وهو ما فى ضمايركم من الشر والفساد وما زورتم من الاعتذارات الكاذبة وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ فى المستقبل من الزمان هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه فيه استتابة وامهال للتوبة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بعد الموت وضع الوصف موضع الضمير للدلالة على انه مطلع على سرهم وعلتهم لا يفوت شىء من ضمائرهم وأعمالهم من علمه فَيُنَبِّئُكُمْ بالتعذيب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ولا تعاتبوهم.
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ولا تعاتبوهم ولا تصاحبوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ اى لانهم أرجاس لخبث باطنهم فلا يجوز معهم المؤانسة والمصاحبة ولا ينفعهم المعاتبة لعدم صلاحيتهم للتطهر والمقصود عن المعاتبة انما هو التطهير بالحمل على الانابة وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل كانه قال انهم أرجاس من اهل النار فلا تصاحبوهم ولا تعاتبوهم جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يجوز ان يكون مصدر الفعل محذوف اى يجزون جزاء او يكون علة لكون ماواهم جهنم قال البغوي قال ابن عباس نزلت فى جد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما كانوا ثمانين رجلا من المنافقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم وقال مقاتل نزلت فى عبد الله بن ابى حلف للنبى صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا اله الا هو ان لا يتحلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم ان يرضى عنه فانزل الله هذه الاية.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ يحلفهم فتستديموا على ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) اى عنهم وضع المظهر موضع المضمر ليدل على موجب عدم الرضا يعنى ان لبسوا عليكم ورضيتم بهم لا يمكنهم ان يلبسوا على الله ويرضوه مع كفرهم ولا ينفعهم رضائكم مع سخط الله تعالى فانه ينزل بهم الهوان فى الدنيا والعذاب فى الآخرة والمقصود من الآية النهى عن الرضاء عنهم والاغترار بمعاذيرهم.
الْأَعْرابُ يعنى اهل البادية(4/283)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من اهل البلد لتوحشهم وقساوتهم وعدم اختلاطهم باهل العلم وقلة استماعهم الكتاب والسنة وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا اى أحق بان لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الشرائع فرائضها وسنتها ومباحاتها ومحرماتها ومكروهاتها لا يميزون بعضها من بعض لجهلهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم حال جميع خلقه حَكِيمٌ (97) فيما يفعل بهم فى الدنيا والآخرة.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ اى يزعم ما يُنْفِقُ فى سبيل الله مَغْرَماً اى غرامة وخسرانا قال عطاء لا يرجون لاعطائه ثوابا ولا على إمساكه عقابا انما ينفقون خوفا ورياء وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ اى ينتظرون بكم تقلب الزمان بان يموت الرسول ويظهر المشركون حتى يتخلصوا عن الانفاق الذي ينفقونها رياء وخوفا عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون بالمؤمنين او اخبار بما يقع بهم نحو ما يتربصون بالمؤمنين والدائرة فى الأصل مصدر او اسم فاعل من داريد ورسمى عقبة الزمان التي يأتي بالخير مرة وبالشر اخرى قرأ ابن كثير وابو عمرو السوء هنا وفى سورة الفتح بالضم السين ومعناه الضر والمكروه والباقون بفتح السين وهو مصدر أضيف اليه للمبالغة كقولك رجل صدق وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون عند النفاق فيما بين شياطينهم عَلِيمٌ (98) بما يضمرون قال البغوي نزلت الآية المذكورة فى اعراب اسد وغطفان وبنى تميم وكذا اخرج ابو الشيخ عن الكلبي الا انه لم يذكر فيه بنى تميم ثم استثنى الله سبحانه من الاعراب المذكورين حال بعضهم فقال.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وقال البغوي اخرج ابن جرير عن مجاهد انها نزلت فى بنى مقرن من مزينته الذين نزلت فيهم ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم واخرج عن عبد الرحمن بن معقل قال كنا عشرة ولد مقرن وقال الكلبي اسلم وغفار وجهينة من تميم واسد بن خزيمة وهوازن وغطفان وفى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غفار غفر الله لها واسلم سالمها الله وعصية عصمت الله ورسوله وفيهما عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش والأنصار وجهينة ومزينته واسلم وغفار أشجع موالى ليس لهم مولى دون(4/284)
الله ورسوله وفيهما عن ابى بكرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسلم وغفار ومزينة وجهينة خير من تميم ومن بنى عامر والحليفين اسد وغطفان وروى البغوي عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسلم وغفار وشىء من جهينه ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم واسد بن خزيمة وهوازن وغطفان وَيَتَّخِذُ اى يزعم ما يُنْفِقُ فى سبيل الله سبب قُرُباتٍ وهى ثانى مفعولى يتخذ عِنْدَ اللَّهِ صفة لقربات او ظرف ليتخذ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ اى سبب دعائه صلى الله عليه وسلم واستغفاره اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردوية عن ابن عباس قال صلوات الرسول استغفاره صلى الله عليه وسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم صل على ال ابى اوفى حين جاء عبد الله بن ابى اوفى بصدقته كذا اخرج الجماعة الا الترمذي من حديث عبد الله بن ابى اوفى أَلا إِنَّها اى النفقة قُرْبَةٌ لَهُمْ ط عند الله تعالى قرأ نافع برواية ورش قربة بضم الراء والباقون بسكونها وهذه شهادة من الله تعالى بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستيناف مع حر فى التنبيه والتأكيد سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ السين لتحقيق الوعد فِي رَحْمَتِهِ اى جنته. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين هجروا قومهم وعشائرهم وفارقوا أوطانهم وأموالهم يعنى من قريش مكة وَالْأَنْصارِ الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأووه وأصحابه حين أخرجه قومه يعنى من اهل المدينة واختلفوا فى السابقين من الفريقين قال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة هم الذين صلوا الى القبلتين وقال عطاء بن ابى رباح هم اهل بدر وقال الشعبي هم الذين شهدوا بيعة الرضوان بالحديبية وقيل هم من المهاجرين ثمانية ففر الذين سبقوا الى الإسلام ثم تتابع الناس فى الدخول فى الإسلام بعدهم وهم أبو بكر وعلى وزبير بن الحارثة وعثمان بن عفان وزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابى وقاص وطلحة بن عبيد الله قال البغوي واختلفوا فى أول من أمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على انها أول من أمن برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم على ابن ابى طالب وهو قول جابر بن عبد الله ويؤيده قول على(4/285)
رضى الله عنه (شعر)
سبقتكم الى الإسلام طرا ... غلاما ما بلغت او ان حلم
قال مجاهد وابن إسحاق اسلم على وهو ابن عشر سنين وقال بعضهم أول من أمن به بعد خديجة ابو بكر الصديق وهو قول ابن عباس وابراهيم النخعي والشعبي ويشهده قول حسان بن ثابت فى اشعاره فى مدح ابى بكر وتسليم النبي صلى الله عليه وسلم إياه وقال بعضهم أول من أمن به زيد بن حارثة وهو قول الزهري وعروة ابن الزبير وكان إسحاق بن ابراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول أول من اسلم من الرجال ابو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان على ومن العبيد زيد بن الحارثة رضى الله عنهم أجمعين قال ابن إسحاق فلما اسلم ابو بكر اظهر إسلامه ودعا الى الله والى رسوله وكان رجلا محببا سهلا وكان انسب قريش وأعلمها بما كان فيها وكان تاجر إذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير
واحد من الأمر لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعوا الى الإسلام من وثق به من قومه فاسلم على يديه فيما بلغني عثمان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابى وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اسلموا وصلوا ثم اسلم غيرهم حتى بلغ المسلمون من الرجال والنساء الى تسع وثلثين فى سبع سنين ثم اسلم عمر بن الخطاب فهو منهم أربعين فاذا اسلم عمر قال المشركون اليوم انتصف منا ثم شاع الإسلام وتقوى بإسلام عمر بعد سبع سنين ومن هاهنا قال على رضى الله عنه صليت قبل الناس بسبع سنين والسابقون من الأنصار هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا ستة فى العقبة الاولى وقيل سبعة واثنى عشر فى العقبة الثانية والسبعون فى العقبة الثالثة كما سنذكر والذين أمنوا حين قدم عليهم ابو زرارة ومصعب بن عمير يعلمهم القرآن فاسلم خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان قرأ يعقوب والأنصار بالرفع عطفا على قوله والسابقون وهى قرأة ابى أخرجها ابن جرير وابو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي والحاكم وابو الشيخ عن اسامة ومحمد بن ابراهيم التيمي(4/286)
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ قيل هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وقيل هم الذين سلكوا سبيلهم فى الايمان والهجرة والنصرة الى يوم القيامة قلت ويمكن ان يكون المراد من السابقين المقربين الذين قال الله تعالى فيهم والسابقون السابقون أولئك المقربون فى جنات النعيم ثلة من الأولين يعنى من الصحابة والتابعين واتباعهم فانهم الأولون من هذه الامة وقليل من الآخرين اى آخري هذه الامة يعنى بعد الالف وهم ارباب كمالات النبوة فانهم كثيرون فى الصدر الاول قال المجدد للالف الثاني رضى الله عنه الصحابة كلهم كانوا من ارباب كمالات النبوة واكثر التابعين وبعض من اتباع التابعين وقيل بعد الالف من الهجرة قلت فعلى هذا قوله تعالى من المهاجرين والأنصار بيان للسابقين الأولين وليست كلمة من للتبعيض والذين اتبعوهم بإحسان يشتمل السابقين الآخرين واصحاب اليمين الذين هم ثلة من الأولين من الصدر الاول ومن بعدهم وثلة من الآخرين الى ما بعد الالف الى يوم القيامة وقال عطاء الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين يذكرون الصحابة بالترحم والدعاء قال ابو صخر حميد بن زياد أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له ما قولك فى اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جميع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجنة محسنهم وسيئهم فقلت له من اين تقول هذا قال أقرأ قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار «1» الى ان قال رضى الله عنهم ورضوا عنه قال والذين اتبعوهم بإحسان شرط فى التابعين شريطة وهو ان يتبعوهم فى أفعالهم الحسنة دون السيئة قال ابو صخر فكانى لم يقرأ هذه الاية قط وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علىّ محمد بن كعب قلت واولى بالاحتجاج على كون جميع الصحابة فى الجنة قوله تعالى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد
__________
(1) وعن حبيب الشهيد عن عمر بن عامر الأنصاري ان عمر بن الخطاب قرأ او السابقون الأولون من المهاجرين والأنصاري الذين اتبعوهم بإحسان فرفع الأنصار ولم يلحق الواو فى الذين فقال له زيد بن ثابت والذين فقال الذين فقال زيد امير المؤمنين اعلم فقال ايتوني بالى بن كعب فاتاه فسأله عن ذلك فقال والذين فقال فنعم إذا فتابع أبيا 12.(4/287)
وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى فانه صريح فى ان جميع الصحابة أولهم وآخرهم وعدهم الله تعالى الحسنى يعنى الجنة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسى بيده لو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه من حديث ابى سعيد الخدري وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمس النار مسلما رأنى او راى من رأنى رواه الترمذي عن جابر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد من أصحابي يموت بأرض الا بعث قائدا ونور الهم يوم القيامة رواه الترمذي من حديث بريدة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم فبايهم اقتديتم اهتديتم رواه رزين من حديث عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ ربا وعن الإسلام دينا ومحمد رسولا ونبيا بما القى الله حبه فى قلوبهم وبما نالوا من نعم الدنيوية والدينية وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ قرأ ابن كثير من تحتها كما هو فى ساير المواضع وكذلك فى مصاحف اهل مكة والباقون بحذف من خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وهم من مزينة وجهينة وأشجع واسلم وغفار أخرجه ابن المنذر عن عكرمة كان منازلهم حول المدينة وكون بعضهم منافقين كما يدل عليه من التبعيضية لا ينافى ما مر من الأحاديث فى مناقب غفار واسلم وأشجع وغيرها.
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يعنى من الأوس والخزرج عطف على ممن حولكم وقوله تعالى مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر او كلام مبتدأ بيان لتمرنهم فى النفاق وجاز ان يكون الظرف خبر المحذوف وجملة مردوا صفة لمبتدأ محذوف تقديره ومن اهل المدينة قوم مردوا على النفاق اى مرنوا وثبتوا عليه يقال تمرد فلان على ربه اى عتى ومرد على معصية اى مرن وثبت عليها واعتادها ومنه المريد والمارد قال ابن إسحاق اى لجوا فيه وأبوا غيره وقال ابن زيدا قاموا عليه ولم يتوبوا فى القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرادة فهو مريد ومارد ومتمرد اقدم وعتا او هو يبلغ الغاية التي يخرج إليها من جملة ما عليها ذلك الصنف(4/288)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
أجنحتها رضى لطالب العلم وان العالم يستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض والحيتان فى جوف الماء وان فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بخظ وافر رواه احمد والترمذي وابو داود وابن ماجة.
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ هم المصلون ذكرهم باللفظين كانه كرر ذكره للدلالة على فضل الصلاة على سائر العبادات عن ابن مسعود قال سالت النبي صلى الله عليه وسلم ايّ الأعمال أحب الى الله قال الصلاة لوقتها قلت ثم اى قال بر الوالدين قلت ثم اى قال الجهاد فى سبيل الله متفق عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة عماد الدين رواه ابو نعيم عن الفضل بن دكين وقال الصلاة نور المؤمن رواه ابن عساكر عن انس وقال الصلاة قربان كل تقى رواه القضاعي عن على وقال عليه السلام اقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فاكثروا الدعاء رواه مسلم وابو داود والنسائي عن ابى هريرة الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالايمان والطاعة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن الشرك والمعصية وقيل المعروف السنة والمنكر البدعة ذكر العاطف بينهما للدلالة على ان مجموعهما خصلة واحدة وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ اى فيما بينه وبين الله تعالى من الحقائق والشرائع قيل أورد العاطف هاهنا للتنبيه على ان ما قبله تفصيل الفضائل وهذا اجمالها قلت لعل الله سبحانه أورد العاطف هاهنا لان الله سبحانه ذكر اولا إتيان الحسنات المذكورات ثم ذكر محافظة حد كل منها بلا زيادة من قبل نفسه رهبانيته ابتدعوها وبلا نقصان صورة ولا معنى فكان الأشياء المذكورة قبلها مجموعها شىء واحد يعبر عنها بإتيان الشرائع وهذا شىء اخر كناية عن الإخلاص والحضور التام المستفاد من صحبة ارباب القلوب فان محافظة الحدود لا يتصور الا بحضور تام دائم والله اعلم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) يعنى الموصوفين بتلك الفضائل وضع المؤمنين موضع ضميرهم للدلالة على ان ايمانهم دعاهم الى ذلك وان المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كانه قيل بشرهم بما لا يدركه الافهام ولا يحيط الكلام ولم يسمعه الاذان والله اعلم روى الشيخان فى الصحيحين عن سعيد(4/305)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
بن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن ابى امية بن المغيرة فقال اى عم قل لا اله الا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله فقال ابو جهل وعبد الله بن ابى امية أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد انه بتلك المقالة حتى قال ابو طالب اخر ما كلمهم على ملة عبد المطلب وزاد فى رواية وابى ان يقول لا اله الا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لاستغفرن لك ما لم انه عنك فنزلت.
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) بان ماتوا على الكفر فيه دليل على جواز الاستغفار لاحيائهم فانه طلب لتوفيقهم للايمان وروى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه قل لا اله الا الله اشهد لك يوم القيامة قال لولا ان يعير قريش يقولون انما حمله على ذلك الجزع لاقررت بها عينك فانزل الله تعالى انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وروى البخاري عن ابى سعيد الخدري انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه فقال لعله ينفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح «1» من نار يبلغ كعبيه يغلى منه دماغه هذا الحديث المذكور يدل على ان الاية نزلت بمكة فى ابى طالب واخرج الترمذي وحسنه والحاكم عن على قال سمعت رجلا يستغفر لابويه وهما مشركان فقلت له اتستغفر لك لابويك وهما مشركان فقال استغفر ابراهيم لابيه وهو مشرك فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية ولعل هذه القصة قارنت قصة موت ابى طالب فنزلت الاية فيهما وما يدل على ان الاية نزلت فى امنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله أبيه فلا يصلح منها شيء وليس شيء منها ما يصلح ان يعارض ما ذكرنا فى القوة فيجب ردها منها ما رواه الحاكم والبيهقي فى الدلائل من طريق أيوب بن هانى عن مسروق عن ابن مسعود قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الى المقابر وخرجنا معه فامرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى الى قبر منها فناجاه طويلا
__________
(1) الضحضاح ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار 12.(4/306)
ثم ارتفع باكيا فبكينا لبكائه ثم اقبل علينا فتلقاه عمر فقال يا رسول الله ما الذي أبكاك فقد ابكاناها وأفزعنا فجاء فجلس إلينا فقال افزعكم بكائي قلنا نعم قال ان القبر الذي رايتمونى اناجى فيه قبر امنة بنت وهب وانى استأذنت ربى فى زيارتها فاذن لى فاستاذنته فى الاستغفار لها فلم يأذن لى ونزل علىّ ما كان للنبى والذين أمنوا معه ان يستغفر وللمشركين الآيتين فاخذنى ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني قال الحاكم هذا حديث صحيح ونعقبه الذهبي فى شرح المستدرك وقال أيوب بن هانى ضعفه ابن معين ومنها ما اخرج الطبراني وابن مردوية من حديث ابن عباس قال لما اقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك واعتمر هبط من ثنية عسفان فنزل على قبر امه فذكر نحو حديث ابن مسعود وفيه ذكر نزول الاية قال السيوطي اسناده ضعيف لا تعويل عليه وقال البغوي قال ابو هريرة وبريدة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة اتى قبر امه امنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء ان يؤذن له فيستغفر لها فنزلت ما كان للنبى الاية هذه وكذا اخرج ابن سعد وابن شاهين من حديث بريدة بلفظ لما فتح رسول الله مكة اتى قبر امه فجلس فذكر نحوه وفى لفظ عند ابن جرير عن بريدة كما ذكر البغوي قال ابن سعد فى الطبقات بعد تخريجه هذا غلط وليس قبرها بمكة وقبرها بالأبواء واخرج احمد وابن مردوية واللفظ له من حديث بريدة قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ وقفت على عسفان فابصر قبر امه فتوضأ وصلى وبكى ثم قال انى استأذنت ربى ان اشفعه لها فنهيت فانزل الله تعالى ما كان للنبى الاية هذه قال السيوطي طرق الحديث كلها معلولة وقال الحافظ ابن حجر فى شرح البخاري من حكم بصحة حديث ابن مسعود ليس لكونه صحيحا لذاته بل لوروده من هذه الطرق وقد تاملت فوجدتها كلها معلولة وفى الحديث علة اخرى انها مخالف لما فى الصحيحين ان هذه الاية نزلت بمكة عقب موت ابى طالب وكذا ما ذكر البغوي قول قتادة انه صلى الله عليه وسلم قال لاستغفرن لابى كما استغفر ابراهيم لابيه فانزل الله ما كان للنبى الاية هذه مرسل ليس بصحيح بل ضعيف ومخالف لما فى الصحيحين كما ذكرنا فلا يجوز القول بكون أبوي النبي صلى الله عليه وسلم مشركين مسندى بهذه الاية وقد صنف الشيخ الاجل جلال الدين السيوطي رضى الله عنه رسائل فى اثبات ايمان أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/307)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
وجميع ابائه وأمهاته الى آدم عليه السلام وخلصت منها رسالة سميتها بتقديس اباء النبي صلى الله عليه وسلم فمن شاء فليرجع اليه وهذا المقام لا يسع زيادة التطويل فى الكلام فان قيل ما ورد من حديث الصحيحين فى قصة موت ابى طالب قال ابو جهل أترغب عن ملة عبد المطلب وقول ابى طالب انا على ملة عبد المطلب يدل على كون عبد المطلب مشركا قلنا لا نسلم ذلك بل كان مؤمنا موحد او قد ذكر ابن سعد فى الطبقات بأسانيده ان عبد المطلب قال لام ايمن وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بركة لا تغفلى عن ابني فانى وجدته مع غلمان قريبا من السدرة وان اهل الكتاب يقولون ان ابني هذا نبى هذه الامة لكن لما كان هو فى زمن الجاهلية جاهلا بالشرائع وبما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان التوحيد كافيا له فى زمن الفترة زعم ابو جهل وابو طالب ان محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بشيء منكر وحكما يكون ملة عبد المطلب مخالفا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى.
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ يعنى آزر وكان عما لابراهيم عليه السلام وكان ابراهيم ابن تارخ وقد ذكرنا الكلام فيه فى سورة الانعام وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري فلا يمكن ان يكون كافر فى سلسلة ابائه صلى الله عليه وسلم إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ قال بعض المفسرين الضمير المرفوع عايد الى أبيه والمنصوب الى ابراهيم يعنى ان أباه وعده ان يسلم فقال له ابراهيم ساستغفر لك يعنى إذا أسلمت والأكثر على ان المرفوع راجع الى ابراهيم والمنصوب الى أبيه وذلك ان ابراهيم وعد إياه ان يستغفر له رجاء إسلامه وهو قوله ساستغفر لك ربى يدل على ذلك قراءة من قرأ وعدها أباه بالباء الموحدة والدليل على ان الوعد كان من ابراهيم وكان الاستغفار فى حال كون أبيه مشركا قوله تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة فى ابراهيم الى ان قال الا قول ابراهيم لابيه لاستغفرن لك فانه صريح فى ان ابراهيم عليه السلام ليس بقدوة فى هذا الاستغفار فهو انما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء ان يسلم فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ اى لابراهيم بموت أبيه على الكفر او بما اوحى اليه بانه لن يؤمن أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ فقطع عن استغفاره وقيل فلما تبين له فى الاخرة انه(4/308)
عدو الله تبرأ منه روى البخاري عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له ابراهيم الم اقل لك لا تعصنى فيقول له أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب انك وعدتني ان لا تخزنى يوم يبعثون ناى خزى اخزى من ابى الا بعد فيقول الله تعالى انى حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا ابراهيم انظر ما تحت رجليك فينظر فاذا هو بذيخ متلطخ فيوخذ بقوائمه فيلقى فى النار وفى رواية فتبرأ منه يومئذ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ الذي يكثر التأوه لكمال خشيته من الله تعالى كذا قال كعب الأحبار وكان ابراهيم عليه السلام يكثر ان يقول آه من النار قبل ان لا ينفع آه وقيل هو الذي يتاوه من الذنوب ومالهما واحد وكذا ما قال البغوي انه جاء فى الحديث الأواه الخاشع المتضرع فان الخشوع يستلزم التأوه من الذنوب والنار وكذا ما قال عطاء الراجع عن كل ما يكره الله الخائف من النار وقال ابن مسعود الأواه الدعّاء وعن ابن عباس قال المؤمن التواب وقال الحسن وقتادة الأواه الرحيم بعباد الله وقال مجاهد الأواه الموقن وقال عكرمة هو المستيقن بلغة الحبشة وقال عقبة بن عامر الأواه كثير الذكر لله تعالى وعن سعيد بن جبير قال الأواه المسيح وروى عنه الأواه المعلم للخير وقال النخعي هو الفقيه وفى القاموس ذكر المعاني المذكورة فقال الأواه الموقن او الداعي او الرحيم او الفقيه او المؤمن بالحبشية وقال ابو عبيدة هو المتاوه شفقا المتضرع يقينا ولزوما للطاعة قال الزجاج انتظم قول ابى عبيدة جميع ما قيل فى الأواه حَلِيمٌ (113) اى صفوح عمن ناله بمكروه ومن ثم قال لابيه عند وعيده بقوله لان لم تنته لارجمنك قال سلام عليك ساستغفر لك ربى وقال ابن عباس الحليم السيد وفى القاموس الحلم بالكسر الاناءة والعقل فهو حليم والجملة لبيان ما حمل ابراهيم على الاستغفار والله اعلم- قال مقاتل والكلبي ان قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم واسلموا ولم يكن الخمر حراما ولا القبلة مصروفة الى الكعبة فرجعوا الى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ولا علم لهم بذلك ثم قدموا المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت فقالوا يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضلال فانزل الله(4/309)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
تعالى.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً اى يحكم عليهم بالضلال ويسميهم الضالة ويواخذهم على فعل بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للاسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ اى ما يجب اتقائه من الأعمال فلم يتقوه ويستحقون الإضلال وقيل فيه بيان عذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله لعمه لاستغفرن لك ما لم انه عنه او لمن استغفر لاسلافه المشركين قبل النهى قال مجاهد بيان الله للمؤمنين فى الاستغفار للمشركين خاصة وبيان لهم فى مغصية وطاعة عامة يعنى ان الاية نزلت فى الاستغفار للمشركين لكن حكمها عام لعموم الصيغة إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (114) يعنى يعلم حال من فعل جهلا ومن فعل تمرد او من يستحق الإضلال ومن لا يستحقه.
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ ايها الناس مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره مِنْ وَلِيٍّ يحفظكم منه وَلا نَصِيرٍ (115) يمنع عنكم ضررا يريد بكم فلا ينبغى لكم ان توالوا بالمشركين وتستغفروا لهم وإن كانوا اولى قربى حسبكم ولاية الله ونصرته.
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ من اذن المنافقين فى التخلف او المعنى برأهم عن تعلق الذنوب لقوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر وقيل المراد بعث على التوبة والمعنى ما من أحد الا وهو محتاج الى التوبة حتى النبي صلى الله عليه وسلم وخاصة أصحابه لقوله تعالى توبوا الى الله جميعا إذ ما من أحد الا له مقام يستنقص دونه ما هو فيه والترقي اليه توبة من تلك النقيصة وفيه اظهار تفضل التوبة بانها مقام الأنبياء والصالحين من عباده وقيل افتتح الكلام بالنبي لانه كان سبب توبتهم فذكره معهم كما ذكر كلمة لله فى قوله تعالى لله خمسه وللرسول ولذى القربى الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ حين استغفرهم لغزوة تبوك فِي ساعَةِ اى وقت الْعُسْرَةِ قال البغوي كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة والجيش جيش العسرة اى الشدة لما كانت عليهم عسرة من الظهر والزاد والماء قال الحسن كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد منهم يعنقبونه يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير وكان النفر منهم يخرجون ما معهم الا التمرات بينهم فاذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ التمرة فلاكها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها ثم يشرب(4/310)
عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم ولا يبقى من التمرة الا النواة فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم على صدقهم ويقينهم روى احمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عمر بن الخطاب قال خرجنا الى تبوك فى يوم قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا ان رقابنا سينقطع حتى إذا كان الرجل ليذهب فيلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن ان رقبته سينقطع وحتى ان كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه «1» فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال ابو بكر يا رسول الله ان الله عز وجل قد عود لك فى الدعاء خيرا فادع الله لنا قال أتحب ذلك قال نعم فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعها حتى جالت «2» السماء فاظلت ثم سكبت فملاؤا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر وروى ابن ابى حاتم عن ابى حرزة الأنصاري قال نزلوا الحجر فامرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لا يحملوا من مائها شيئا ثم ارتحل ثم نزل منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين ثم دعا فارسل الله سحابة فامطرت عليهم حتى استقوا منها فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه متهم بالنفاق ويحك قد ترى ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فامطر الله علينا السماء قال انما مطرنا بنوء كذا وكذا فانزل الله تعالى وتجعلون رزقكم انكم تكذبون مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قرأ حفص وحمزة بالياء التحتية والباقون بالتاء الفوقية لان الفاعل مونث غير حقيقى قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ اى قلوب بعضهم ولم يرد الميل عن الدين بل أراد الميل الى التخلف والانصراف لاجل الشدة التي كانت عليهم قال الكلبي همّ ناس بالتخلف ثم لحقوه وقال ابن إسحاق ومحمد عمر كان نقر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تخلفوا عنه من غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك وهلال بن امية ومرارة ابن الربيع وابو حيثمة وابو ذر الغفاري وكانوا نفر صدق لا يتهمون فى إسلامهم روى ابن إسحاق عن ابن مسعود قال لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك جعل يتخلف عنه الرجل فيقولون يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يك غير ذلك فقد ارى حكم الله فيه حتى قيل يا رسول الله تخلف ابو ذر
و
__________
(1) الفرث الرجين فى الكرش 12.
(2) اى دارت السحاب يعنى برخاست ابر پس سايه كرد پس ريخت آب 12.(4/311)
ابطأ بعيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك وتلوّم ابو ذر بعيره فلما ابطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع اثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا قال محمد بن عمر كان ابو ذر يقول ابطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك من أجل بعيري وكان نضوا «1» أعجف فقلت اعلفه أياما ثم الحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فعلفته أياما ثم خرجت فلما كنت بذي المودة إذ مر بي فتلومت عليه يوما فلم ار به حركة فاخذت متاعى فحملته وتطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله ان هذا الرجل يمشى على الطريق وحده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا ذر فلما تأمله القوم قالوا يا رسول الله هو والله ابو ذر فقال رحم الله أبا ذر يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده قال محمد بن يوسف الصالحي فكان كذلك فلما قدم ابو ذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره خبره فقال لقد غفر الله تعالى لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا الى ان بلغتني وروى الطبراني عن ابى خيثمة وابن إسحاق ومحمد بن عمر عن شيوخهما قال لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما دخل ابو خيثمة على اهله فى يوم حار فوجد امرأتين له فى عريشين لهما فى حائط وقد رشت كلواحدة منهما عريشها وبرّدت له فيه ماء وهيات له فيه طعاما فلما دخل قام على باب العريش فنظر الى امرأتيه وما صنعتا له فقال سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر حرفى انصح والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه وابو خيثمة فى ظل بارد وطعام مهيا وامرأة حسناء فى ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال والله لا ادخل عريش واحدة منكما حتى الحق برسول الله صلى الله عليه وسلم تهيا لى زادا ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج فى طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حتى نزل تبوك وقد أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي فى الطريق لطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك قال ابو خيثمة لعمير بن وهب ان لى ذنبا فلا عليك ان تخلف عنى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس هذا راكب مقبل فقال رسول الله
__________
(1) نضوا الدابة التي هزلته الاسفار وأذهبت لحمها 12.(4/312)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة فقالوا والله هو ابو خيثمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اولى «1» لك يا أبا خيثمة ثم اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتاكيد او أراد بالتوبة فى صدر الاية التوبة من اذن المنافقين فى التخلف وهاهنا من كيدودتهم زيغ القلوب او المراد فى صدر الاية التوفيق للتوبة والانابة وهاهنا قبول التوبة او للتبيه على انه تاب عليهم لاجل ما كابدوا من العسرة إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (116) قال البغوي قال ابن عباس من تاب الله عليه لم يعذبه ابدا يعنى على ذلك الذنب.
وَعَلَى الثَّلاثَةِ عطف على عليهم الَّذِينَ خُلِّفُوا اى تخلفوا عن غزوة تبوك وقيل خلفوا اى أرجى أمرهم عن توبة ابى لبابة وأصحابه وهؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك الشاعر ومرارة ابن الربيع وهلال ابن امية كلهم من الأنصار روى الشيخان فى الصحيحين واحمد وابن ابى شيبة وابن إسحاق وعبد الرزاق عن كعب بن مالك قال لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة غزاها الا فى غزوة تبوك غير انى كنت تخلفت فى غزوة بدر ولم يعاقب الله أحدا تخلف عنها انما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة قلت يعنى ليلة العقبة الثالثة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب ان لى بها مشهد بدر وانكانت البدر اكثر ذكرا فى الناس منها كان من خبرى انى لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه فى تلك الغزوة والله ما اجتمعت عندى قبله راحلتان قط حتى جمعتها فى تلك الغزوة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها وكان يقول الحرب خدعة حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حر شديد واستقبل سفرا بعيدا وصفاوز وعدوّا كثيرا فجلّا للمسلمين أمرهم ليتأهبوا اهبة غزوهم فاخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير وعند مسلم يزيدون على عشرة آلاف وروى الحاكم فى اكليل عن معاذ قال
__________
(1) اولى لك كلمة تهديه من دنا الى الهلاك 12.(4/313)
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى غزوة تبوك زيادة عن ثلثين الفا وقال ابو ذرعة لا يجمعهم كتاب حافظ قال الزهري يريد الديوان فما رجل يريد ان يتغيب الا ظن انه سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الظلال والثمار وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجهز المسلمون معه فخرج يوم الخميس وكان يحب إذا كان سفر جهاد او غيره ان يخرج يوم الخميس فطفقت اعدوا لكى أتجهز معهم فارجع ولم اقض شيئا فاقول فى نفسى انا قادر عليه فلم يزل يتمادى بي الحال حتى اشتد بالناس الحر فاصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازيا والمسلمون معه ولم اقض من جهازى شيئا فقلت أتجهز بعده بيوم او يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد ان فصلوا لاتجهز فرجعت ولم اقض شيئا ثم غدوت ولم اقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أمعن القوم واسرعوا وتفارط الغزو وهممت ان ارتحل فادركهم وليتنى فعلت ولم يقدر لى ذلك فكنت إذا خرجت فى الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني ان لا ارى الا رجلا مغموصا «1» عليه بالنفاق او رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكر لى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس فى القوم بتبوك ما فعل كعب بن مالك فقال رجل من بنى سلمة وفى رواية من قومى قال محمد بن عمر هو عبد الله بن أنيس السلمى يا رسول الله حبسه برداه «2» ونظره فى عطفيه فقال معاذ بن جبل ويقال ابو قتادة بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمت عليه الا خيرا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كعب فلما بلغني ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توجه قافلا حضرنى همى وطفقت أعد عذرا لرسول الله صلى الله عليه واهيّئ الكلام وأقول بماذا اخرج من سخطه غدا واستعنت على ذلك بكل ذى رأى من أهلي فلما قيل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل وعرفت ان لن اخرج منه ابدا بشيء فيه كذب فاجمعت صدقه وعرفت انه لن ينجينى الا الصدق وأصبح رسول الله عليه وسلم قادما قال ابن سعد فى رمضان قال كعب وكان إذا قدم من سفر
__________
(1) اى مطعونا فى دينه 12.
(2) اى جانبيه كناية من كونه معجبا متكبرا 12.(4/314)
لا يقدم الا فى الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين فيقعد فيه ثم يدخل على فاطمة ثم على أزواجه فبدأ بالمسجد فركعهما ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جأه المخلفون فطفقوا يعتذرون اليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم الى الله فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب فقال تعال فجئت امشى حتى جلست بين يديه وعند ابن عابد فاعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لم تعرض عنى فو الله ما نافقت ولا ارتبت ولا بدلت فقال لى ما خلفك الم تكن قد اتبعت ظهرا فقلت بلى انى والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من اهل الدنيا لرأيت انى ساخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكنى والله لقد علمت لان حدثتك حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله تعالى ان يسخطك ولان حدثتك حديث صدق تجد على فيه انى لارجوا فيه عفو الله لا والله ما كان لى من عذر والله ما كنت أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما هذا فقد صدق فقم حتى يفضى الله فيك بما يشاء فمضيت وثار رجال من بنى سلمة فاتبعونى فقالوا لى ما علمناك كنت إذ نبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت ان لا تكون اعتذرت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر اليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم فو الله ما زالوا يؤنّبوننى حتى أردت ان ارجع فاكذب نفسى فقلت ما كنت اجمع أمرين أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وكذبه ثم قلت لهم هل بقي هذا معى أحد قالوا نعم رجلان قالا مثل ما قلت فقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت من هما قالوا مرارة بن الربيع العمرى وهلال بن امية الواقفي وعند ابن ابى حاتم من مرسل الحسن ان سبب تخلف الاول انه كان حائط حين زهى فقال فى نفسه قد غزوت قبلها فلو أقمت عامى هذا فلما تذكر ذنبه قال اللهم انى أشهدك انى قد تصدقت به فى سبيلك وان الثاني كان له اهل تفرقوا ثم رجعوا فقالوا قمت هذا العام عندهم فلما تذكر قال اللهم لك على ان لا ارجع الى أهلي ولا مالى قال كعب فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين(4/315)
ذكرهما ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كلامنا «1» ايها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجبنا الناس وتغيروا لنا وعند ابن ابى شيبة فطفقنا تغدوا فى الناس لا يكلمنا أحد ولا يسلم علينا أحد ولا يرد علينا أحد سلاما وعند عبد الرزاق وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هى بالتي نعرف انتهى ومن شى أهم الى من ان أموت فلا يصلى علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم او يموت فاكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمنى أحد ولا يصلى علىّ حتى تنكرت فى نفسى الأرض حتى ما هى بالتي اعرف فلبثنا ذلك خمسين ليلة فاما صاحباى فاستكانا وقعدا فى بيوتهما يبكيان واما انا فكنت أشب القوم واجلدهم فكنت اخرج فاشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق فلا يكلمنى أحد ولا يرد على سلاما وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسلم عليه وهو فى مجلسه بعد الصلاة فاقول فى نفسى هل حرك شفتيه برد السلام علىّ أم لا ثم أصلي قريبا منه فاسارقه النظر فاذا أقبلت على صلوتى اقبل على ذلك فاذا التفت نحوه اعرض عنى حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط ابى قتادة وهو ابن عمى يعنى انه من بنى سلمة وليس هو ابن أخو أبيه الأقرب قال كعب وهو أحب الناس الىّ فسلمت عليه فوالله ما رد علىّ السلام فقلت يا أبا قتادة هل تعلمنى أحب الله ورسوله فسكت فعدت له فسكت فلم يكلمنى حتى إذا كان فى الثالثة او الرابعة قال الله ورسوله اعلم ففاضت عيناى وتوليت حتى تسورت من الجدار قال فبينا انا امشى بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس
يشيرون له حتى جاءنى ودفع الى كتابا من ملك غسان وعند ابن ابى شيبة من بعض قومى بالشام كتب الى كتابا فى سرقة «2» من حرير فاذا فيه اما بعد فانه قد بلغني ان صاحبك قد جفاك وأقصاك ولم يجعلك الله بدار الهوان ولا مضيعة «3» فان كنت متجولا فالحق بنا نواسيك «4» فقلت لما قراتها وهذا ايضا من البلاء قد طمع فى اهل الكفر فتيممت
__________
(1) بالرفع ومحله النصب على الاختصاص اى خصوصا الثلاثة الذين كقولهم اللهم اغفر لنا أيتها العصابة وقال ابو سعيد السيرافي انه مفعول فعل محذوف اى أريد الثلاثة وخالفوا الجمهور وقالوا انه مناوى والثلاثة صفة له وانما أوجبوا ذلك لانه فى الأصل كان كذلك قبل الاختصاص وكل ما نقل من باب الى باب فاعرابه بحسب أصله كافعل التعجب عنه.
(2) الأبيض من الحرير او الحرير عامه 12.
(3) حيث يضيع حقك 12.
(4) مواساة غمخوارى كردن 12.(4/316)
بها التنور فسجرته بها وعند ابن عابد انه شكى حاله الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال ما زال اعراضك عنى حتى رغب فىّ اهل الشرك قال كعب حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتينى قال محمد بن عمر هو خزيمة بن ثابت وهو الرسول الى مرارة وهلال بذلك فقال كعب فقال ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرك ان تعزل امرأتك فقلت أطلقها أم ماذا افعل قال لابل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلى صاحبى بمثل ذلك فقلت لامراتى الحقي باهلك فتكونى عندهم حتى يقضى الله فى هذا الأمر قال كعب بن مالك فجاءت امراة هلال بن امية اى خولة بنت عاصم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت يا رسول الله ان هلال بن امية شيخ ضايع ليس له خادم وعند ابن ابى شيبة انه شيخ قد ضعف بصره انتهى فهل تكره ان اخدمه قال لا ولكن لا يقر بك قالت انه والله ما به حركة الى شىء والله ما زال يبكى منذ كان من امره ما كان الى يومه هذا قال كعب فقال لى بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فى امرأتك كما اذن لامراة هلال بن امية ان يخدمه فقلت والله لا استاذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما يدرينى ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استاذنه فيها وانا رجل شاب فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كلامنا وعند عبد الرزاق وكانت توبتنا نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم ثلث الليل فقالت أم سلمة يا نبى الله الا نبشر كعب بن مالك قال إذا يحطمنكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليل فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وافا على ظهر بيت من بيننا فبينا انا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى قد ضاقت على نفسى وضاقت على الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ او فى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك البشر وعند محمد بن عمر وكان الذي اوفى على جبل سلع أبا بكر الصديق فصاح قد تاب الله على كعب يا كعب البشر وعند عقبة ان رجلين سعيا كعبا يبشرانه فسبق أحدهما فارتقى المسبوق على سلع فصاح يا كعب البشر بتوبة الله وقد انزل الله عز وجل فيكم القرآن وزعموا ان الذين سبقا ابو بكر وعمر قال كعب نخررت ساجدا ابكى فرحا بالتوبة وعرفت انه قد جاء فرج وآذن «1» رسول الله صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) بالمد اعلم 12.(4/317)
بتوبة الله علينا حين صلى صلوة الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبى مبشرون وركض الىّ رجل على فرس وعند محمد بن عمر هو زبير بن العوام وسعى ساع من اسلم قال وكان الصوت اسرع من الفرس فلما جاءنى الذي سمعت صوته وهو حمزة الأسلمي يبشرنى نزعت له ثوبىّ فكسوته إياه يبشراه وو الله ما املك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين من ابى قتادة كما عند محمد بن عمر فلبسته مما قال وكان الذي بشر هلال بن امية بتوبة سعيد بن زيد فما ظننت انه يرفع راسه حتى تخرج نفسه اى الجهد فقد كان امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر من البكاء وكان الذي بشر مرارة ابن الربيع بتوبة سلكان بن سلامة ابو سلامة بن وقش قال كعب وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتلقانى الناس فوجا فوجا يهنؤنى بالتوبة يقولون لتهنئك توبة الله عليك قال كعب حتى دخلت المسجد فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام الىّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحنى وهنأنى والله ما قام الىّ رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم امن عندك أم من عند الله قال لا بل من عند الله انكم صدقتم الله فصدقكم الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كانه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه قلت يا رسول الله ان من توبتى ان انخلع من مالى كله صدقة الى الله تعالى والى رسوله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت نصفه قال لا قلت فثلثه قال نعم قال فانى امسك سهمى الذي بخيبر وقلت يا رسول الله انما نجانى الله بالصدق وان من توبتى ان لا أحدث الا صدقا ما بقيت فو الله ما اعلم أحدا من المسلمين أبلاه «1» الله فى صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم احسن مما ابتلاني ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم الى يومى هذا كذبا وانى لارجو ان يحفظنى الله تعالى فيما بقيت وانزل الله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الى قوله
__________
(1) اى أنعم الله عليه 12. [.....](4/318)
وكونوا مع الصادقين فو الله ما أنعم الله تعالى علىّ من نعمة بعد ان هدانى للاسلام أعظم من نفسى من صدقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان لا أكون كذبة فأهلك كما هلك الذين كذبوا حين انزل الوحى شر «1» ما قال لاحد فقال تبارك وتعالى سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم الى قوله فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين قال كعب وكنا تخلفنا ايها الثلاثة عن امر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم وارجا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله سبحانه فيه بذلك قال الله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا وليس الذي ذكر الله تعالى ممن خلفنا عن الغزو وانما هو تخليفه إيانا وارجاؤه أمرنا عمن خلف واعتذر اليه فقبل منه قال فى النور لعل الحكمة فى هجران كعب وصاحبيه خمسين ليلة انها كانت هذه مدة غيبته صلى الله عليه وسلم فى سفر تلك الغزوة قال الله تعالى حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ لاعراض الناس عنهم بِما رَحُبَتْ اى مع رحبها وسعتها وهذا مثل لشدة الحيرة فى أمرهم كانهم لا يجدون فيها مكانا ليقرون فيه قلقا واضطرابا وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ اى قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعتها انس ولا سرور وَظَنُّوا اى علموا أَنْ لا مَلْجَأَ اى لا مفزع مِنَ اللَّهِ من سخطه إِلَّا إِلَيْهِ اى الا الى استغفاره ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ اى قبل توبتهم لِيَتُوبُوا اى ليستقيموا على التوبة فان توبتهم قد سبقت او المعنى ليعدوا من جملة التوابين عن ابى بكر الوراق انه قال التوبة النصوح ان يضيق على التائب إذا أذنب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة هؤلاء الثلاثة إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ عن ابى موسى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها رواه مسلم وعن انس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الله أشد فرحا يتوب عبده حين يتوب اليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فايس منها فاتى شجرة فاضطجع فى ظلها قد ايس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده
__________
(1) شر ما قال لاحد بالاضافة به اى قال قولا شر القول الكائن لاحد من الناس 12.(4/319)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
فاخذ بخطامها ثم قال لشدة الفرح اللهم أنت عبدى وانا ربك اخطأ من شدة الفرح رواه مسلم وفى الباب أحاديث كثيرة الرَّحِيمُ (117) المتفضل عليهم بالنعم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (118) فى ايمانهم وعهودهم او فى دين الله نية وقولا وعملا يعنى الزموا الصدق فى كل شىء قال ابن عباس وكذا روى عن ابن عمر اى كونوا مع محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى تبوك بإخلاص نية دون المنافقين المتخلفين عنه وقال سعيد بن جبير مع ابى بكر وعمر وقال الضحاك أمروا ان يكونوا مع ابى بكر وعمر وأصحابهما وروى انه قال ابن عباس مع على ابن ابى طالب عن سفيان قال تفسير اختلاف انما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا وقال ابن جريج مع المهاجرين لقوله تعالى للفقراء المهاجرين الى قوله أولئك هم الصادقون وقيل من الذين صدقوا فى الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالاعذار الكاذبة قال ابن مسعود ان الكذب لا يصلح فى جد ولا هزل ولا ان يعد أحدكم صبية شيئا ثم لا ينجز له اقرأ ان شنم وقرأ هذه الاية.
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ظاهره خبر ومعناه نهى كقوله تعالى وما لكم ان توذوا رسول الله وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ سكان البوادي مزينة وجهينة وأشجع واسلم وغفار أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه الشريفة وَلا يَرْغَبُوا ولا ان يرغبوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ اى لا يضنوا أنفسهم عمالا يضن نفسه عنه ذلِكَ اشارة الى ما دل عليه قوله ما كان من النهى عن التخلف يعنى ذلك النهى بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ اى شىء من العطش وَلا نَصَبٌ تعب وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ اى معاونة رسوله والجهاد لاعلاء دينه وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً مصدر او ظرف اى يدوسون دوسا او يذهبون أرضا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وطئهم إياها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا قتلا او اسرا او نهبا او غنيمة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ اى استوجبوا به الثواب وذلك مما يوجب المشايعة والانتهاء عن التخلف إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (119)(4/320)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
على إحسانهم وهو تعليل لكتب وتنبيه على ان الجهاد احسان اما فى حق الكفار فلانه سعى فى تكميلهم وإنقاذهم من النار بأقصى ما يمكن كالضرب للمجنون وتأديب الصبى واما فى حق المؤمنين فلانه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم عن ابى عبس قال سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه فى سبيل الله حرمه الله تعالى على النار رواه البخاري فى الصحيح واحمد والترمذي والنسائي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بايات الله لا يفتر من صيام ولا صلوة حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله متفق عليه قال البغوي اختلفوا فى حكم هذه الاية قال قتادة هذه خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يكن لاحد ان يتخلف عنه الا بعذر فاما غيره من الائمة والولاة فيجوز لمن شاء من المؤمنين يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين اليه ضرورة وقال الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي وابن المبارك وابن جابر وسعد بن عبد العزيز يقولون هذه الاية لاول هذه الامة وآخرها وقال ابن زيد هذا حين كان اهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن شاء وقال وما كان المؤمنون لينفروا كافة قلت اتفق الائمة على ان الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة من المسلمين وحصل بهم الكفاية سقط عن الباقين وعن سعيد بن المسيب انه فرض عين للعمومات الواردة فى الجهاد وما ورد التغليظ فى المتخلفين عن غزوة تبوك قلنا عند النفير العام يكون فرضا على الأعيان بالإجماع كما فى غزوة تبوك والا فهو فرض كفاية لقوله تعالى لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير اولى الضرر والمجاهدون فى سبيل الله الى قوله وكلا وعد الله الحسنى وقوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة قوله تعالى.
وَلا يُنْفِقُونَ فى سبيل الله نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً كما فعل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما فى جيش العسرة (وَلا يَقْطَعُونَ) فى مسيرهم مقبلين ومدبرين وادِياً وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودى إذا سال فشاع بمعنى الأرض (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك الكتابة(4/321)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (120) يعنى جزاء احسن أعمالهم يعنى الجهاد فى سبيل الله او احسن جزاء أعمالهم عن ابى مسعود الأنصاري قال جاء رجل بناقة مخطومة فقال هذه فى سبيل الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة رواه مسلم وعن زيد بن خالد ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من جهز غازيا فى سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا فى اهله فقد غزا متفق عليه والله اعلم قال الكلبي ان احياء بنى اسد بن خزيمة أصابتهم سنة شديدة فاقبلوا بالذراري حتى نزلوا بالمدينة فافسدوا طرقها بالعذرات واغلوا أسعارها فانزل الله تعالى.
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً نفى بمعنى النهى واللام لتأكيد النفي والمعنى لا ينفروا كافة عن أوطانهم لطلب العلم فانه مخل بالمعاش ومفضى الى المفسدة فَلَوْلا فهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ اى من كل جماعة كثيرة كقبيلة واهل بلدة او قرية طائِفَةٌ جماعة قليلة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ اى ليتكلفوا الطلب الفقاهة فى الدين ويتجشموا المشاق فى تحصيلها قال صاحب النهاية الفقه فى الأصل الفهم واشتقاقه من الشق والفتح وفى القاموس الفقه بالكسر المعلم بالشيء والفهم له والفطنة وغلب على علم الدين لشرفه وقال بعض المحققين الفقه هو التوصل الى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم يعنى العلم الاستدلالي قال الله تعالى فما لهولاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ولا يستنبطون مضمونه قال ابو حنيفة رحمه الله هو معرفة النفس مالها وما عليها والتخصيص بالعلم بفروع الدين اصطلاح جديد والظاهر انه يشتمل علم المقلد ايضا فالمقلد إذا أخذ العلم من المجتهد ومن كتابه فقد ادى ما وجب عليه بهذه الاية والله اعلم وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ الذين لم ينفروا إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ فى أوطانهم بعد تحصيل العلم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (121) بانذارهم ما يجب عليهم اجتنابها وقال مجاهد نزلت فى ناس خرجوا فى البوادي فأصابوا منهم معروفا ودعوا من وجدوا من الناس الى الهدى فقال الناس لهم ما نريك الا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا فوجدوا فى أنفسهم من ذلك حرجا فاقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلم(4/322)
فانزل الله تعالى هذه الاية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا رواه الشافعي وكذا روى الشيخان فى الصحيحين واحمد عن ابى هريرة وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الناس رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما رواه الطبراني عن ابن مسعود والله اعلم وهذه الاية دليل على ان اخبار الآحاد حجة لان عموم كل فرقة يقتضى ان ينفر من كل ثلثة تفردوا بقرية طائفة الى التفقه لينذر فرقتها كى يتذكروا فيحذروا فلو لم يعتبر الاخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك اعلم ان الفقه فى الدين ينقسم الى فرض عين وفرض كفاية فالفرض العين هو العلم بالعقائد الصحيحة ومن الفروع ما يحتاج اليه كل أحد كالطهارة والصلاة والصوم وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على الآدمي يجب عليه معرفة أحكامها مثل علم الزكوة إن كان له مال وعلم الحج ان وجب عليه وكذلك من المعاملات يجب معرفة احكام ما يتعاطى بها ويمارسها فيجب معرفة احكام البيع من الصحيح والفاسد والربوا للتجار والإجارات لمن يتاتى بها ونحو ذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم رواه ابن عدى والبيهقي بسند صحيح عن انس والطبراني فى الصغير والخطيب عن الحسن بن على والطبراني فى الأوسط عن ابن عباس وفى الكبير عن ابن مسعود وعند الخطيب عن على وفى الطبراني فى الأوسط والبيهقي عن ابى سعيد وزاد ابن عبد البر عن انس وان طالب العلم يستغفر له كل شىء حتى الحيتان فى البحر وفى رواية والله يحب إغاثة اللهفان والفرض الكفاية وهو ان يتعلم الرجل كل باب من العلم حتى يبلغ درجة الفتوى فاذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط عن الباقين وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث وهو أفضل من كل عبادة نافلة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلب العلم أفضل عند الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد فى سبيل الله عز وجل رواه صاحب سند الفردوس عن ابن عباس وروى ايضا عنه طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة وطلب العلم يوما خير من صيام ثلثة ايام وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلى على(4/323)
أدناكم ان الله وملئكة واهل السموات والأرضين حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت فى الماء ليصلون على معلم الناس الخير رواه الترمذي بسند صحيح عن ابى امامة وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقيه واحد أشد على الشيطان من الف عابد رواه الترمذي وابن ماجة
عن ابن عباس وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلثة الا من صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعوا له واما لعلم اللدني فى الذي يسمون أهلها بالصوفية الكرام فهو فرض عين لان ثمراتها تصفيه القلب عن الاشتغال بغير الله تعالى واتصافه بدوام الحضور وتزكية النفس عن رذائل الأخلاق من العجب والكبر والحسد وحب الدنيا والكسل فى الطاعات وإيثار الشهوات والرياء والسمعة وغير ذلك وتجليتها بكرام الأخلاق من التوبة والرضا بالقضاء والشكر على النعماء والصبر على البلاء وغير ذلك ولا شك ان هذه الأمور محرمات وفرايض على كل بشر أشد تحريما من معاصى الجوارح وأهم افتراضا من فرائضها فالصلوة والصوم وشىء من العبادات لا يعبأ بشئ منها ما لم تقترن بالإخلاص والنية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان الله لا يقبل من العمل الا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه رواه النسائي عن ابى امامة وقال عليه السلام ان الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم- رواه مسلم عن ابى هريرة وكل ما يترتب عليه من الفروض الأعيان فهو فرض عين والله اعلم وفى سبب نزول الاية وجه آخر وذلك ما قال البغوي انه قال ابن عباس فى رواية الكلبي وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة ونحوه عن عبد الله بن عمير انه لما انزل الله تعالى عيوب المنافقين فى غزوة تبوك ونزلت ان لا تنفروا يعذبكم عذابا أليما كان النبي صلّى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا الى الغزو ويتركون النبي صلّى الله عليه وسلم وخده وفى رواية عكرمة تخلف عن الغزو أناس من اهل البوادي فقالت المنافقون هلك أصحاب البوادي فانزل الله تعالى هذه الاية يعنى ما كان المؤمنون لينفروا الى الغزو كافة فهلا نفر من كل فرقة عظيمة(4/324)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
طايفة الى الغزو وبقي طائفة مع النبي صلّى الله عليه وسلم ليتفقه القاعدون فى الدين ويتعلمون القرآن والسنن والفرائض والاحكام فاذا رجعت السرايا اخبروهم بما نزل بعدهم فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم وينفر سرايا اخر حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لان الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة ولذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء فيكون الضمير فى ليتفقهوا ولينذروا لبواقى الفرق بعد الطائفة النافرة للغزوة وفى رجعوا للطائفة النافرة قال السيوطي قال ابن عباس فهذه مخصوصة بالسرايا والتي من قبلها بالنهى عن تخلف أحد فيما إذا خرج النبي صلّى الله عليه وسلم وقال الحسن هذه التفقه والانذار راجع الى الفرقة النافرة معناه هلا نفر فرقة ليتفقهوا اى ليبصروا بما يريهم من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله والمؤمنين لعلهم يحذرون قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزل بهم ما نزل باصحابهم من الكفار وهذا يدل على ان الجهاد فرض كفاية إذا قام به جماعة سقطه عن الباقين الا عند النفير العام حتى يصير فرضا على الأعيان قوله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ امر بقتال الأقرب منهم فالاقرب إليهم فى الدور والنسب فان الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح ولذلك امر رسول الله صلّى الله عليه وسلم اولا بانذار عشيرته الأقربين ولما هاجر الى المدينة امر بقتال قريظة والنضير وخيبر ونحوها وإذا فرغ من قتال العرب امر بقتال الروم وهم المراد بهذه الآية لانهم كانوا سكان الشام وكان الشام اقرب الى المدينة من العراق فاذا نزلت هذه الآية عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على قتال الروم عام تبوك كما ذكرنا فيما سبق فى رواية ابن مردوية عن ابن عباس وابن ابى شيبة وابن المنذر عن مجاهد وابن جرير عن سعيد بن جبير وعلى مقتضى هذه الاية قالت الفقهاء يجب على من يكون فى الثغر الجهاد بمن يليهم من الكفار فان لم يكن بهم كفاية او تكاسلوا وعصوا يجب على من يقرب منهم وكذا من يقرب ممن(4/325)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
يقرب ان لم يكن بهم كفاية او تكاسلوا وهكذا الى ان يجب على جميع اهل الإسلام شرقا وغربا كذا جهاز الميت والصلاة عليه وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وحمية قال الحسن صبرا على الجهاد وظاهر الاية امر للكفار والمراد منه الأمر للمؤمنين بالتغليظ يعنى اغلطوا عليهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (122) دون الكفار بالعون والنصر فلا تبالوا بقتالهم قوله تعالى.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ما صلة مؤكدة فَمِنْهُمْ يعنى من المنافقين مَنْ يَقُولُ لاخوانه استهزاء أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً يقينا وتعديقا قال الله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً بزيادة العلم الحاصل من تدبير السورة بما فيها من الاعجاز وبانضمام الايمان بها وبما فيها الى ايمانهم وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (123) بنزولها لانه سبب لزيادة علمهم وكما لهم وارتفاع ورجاتهم.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق فَزادَتْهُمْ السورة رِجْساً كفرا بها مضموما إِلَى رِجْسِهِمْ كفرهم بغيرها وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (124) فان الايمان امر وهبى لا يفيد النذر والآيات مالم يشاء الله قال مجاهد فى هذه الاية دلالة على ان الايمان يزيد وينقص وكان عمر رضى الله عنه يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول تعالوا حتى نزداد ايمانا وقال على رضى الله عنه ان الايمان يبدوا لمظة «1» بيضاء فى القلب كلما ازاد الايمان عظما ازداد ذلك البياض من حتى يبيض القلب كله وان النفاق يبدو لمظة سوداء فى القلب فكلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد حتى يسود القلب وايم الله لو شققتم عن قلب مومن لوجدتموه ابيض لو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسودا.
أَوَلا يَرَوْنَ قراءة حمزة ويعقوب بالتاء الفوقانية على خطاب المؤمنين والباقون بالياء التحتانية حكاية عن المنافقين المذكورين أَنَّهُمْ اى المنافقون يُفْتَنُونَ اى يبتلون بأصناف البليات من الأمراض والشدائد وقال مجاهد بالقحط والشدة وقال قتادة بالغزو والجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيعاينون ما يظهر من الآيات وقال مقاتل بن حبان يفضحون بإظهار نفاقهم وقال عكرمة
__________
(1) المظة النكتة من البياض 12.(4/326)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
ينافقون ثم يومنون ثم ينافقون وقال يمان ينقضون عهودهم فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نقض العهد ومن المعاصي والنفاق الجالب إليهم تلك البليات والفضائح وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (125) أصله يتذكرون اى لا يتعظون بما يرون من تصديق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها ذكرهم وقرأها النبي صلّى الله عليه وسلم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اى تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية او غيظا لما فيها من عيوبهم وتفضيحهم ويريدون الهرب قائلا بعضهم لبعض اشارة هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من زائدة يعنى هل يراكم أحد من المؤمنين ان قمتم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فان لم يرهم أحد خرجوا من المسجد وان علموا ان أحدهم يريهم أقاموا وثبتوا ثُمَّ انْصَرَفُوا عن الايمان بها وقيل انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها يعنى حضرة الرسول صلّى الله عليه وسلم مخافة الفضيحة صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الايمان قال ابو إسحاق أضلهم الله مجازاة على فعلهم ذلك ويحتمل الدعا بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (126) اى لا يفقهون الحق سوء فهمهم وعدم تدبرهم.
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم عربى مثلكم من بنى اسمعيل عليه السلام تعرفون نسبه وحسبه قال ابن عباس ليس من العرب قبيلة الا وقد ولدت النبي صلّى الله عليه وسلم وله فيهم نسب قال جعفر بن محمد الصادق لم يصبه شىء من ولاد الجاهلية من زمان آدم عليه السلام روى البغوي بسنده عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ولدني من سفاح الجاهلية شىء ما ولدني الانكاح كنكاح الإسلام وقرأ ابن عباس والزهري وابن محيصن من أنفسكم بفتح الفاء اى اى من أشرفكم وأفضلكم عَزِيزٌ شديد شاق عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ قيل ما زايدة معناه عنتكم اى دخول المشقة والمضرة عليكم وقال القتيبي ما اعنتكم وضركم وقال ابن عباس ما ضللتم وقال الضحاك والكلبي أثمتم فما موصولة حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ اى على ايمانكم وصلاح شانكم بِالْمُؤْمِنِينَ منكم و(4/327)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
من غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ (127) الرأفة شدة الرحمة قدم الأبلغ منها لرعاية الفواصل قبل رؤف بالمطيعين رحيم بالمذنبين.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الايمان بك وناصبوك للحرب فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فانه يكفيك مؤنتهم ويعينك عليهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كالدليل عليه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا ارجوا ولا أخاف الا منه وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (128) خصه بالذكر لانه أعظم المخلوقات اخرج عبد الله بن احمد عن ابى بن كعب قال اخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان لقد جاءكم رسول من أنفسكم الى اخر السورة وقال «1» هما أحدث الآيات بالله عهدا والله اعلم.
(فصل) ولما كان نزول اكثر هذه السورة فى غزوة تبوك وقد ذكرنا بعض قصصها فى ضمن تفسير السورة فلنذكر بقية قصص تلك الغزوة والمعجزات التي ظهرت فيها تتميما للمقال روى الطبراني عن عبد الله بن سلام ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما مر بالخليجة فى سفره الى تبوك قال له أصحابه المبرك يا رسول الله الظل والماء وإن كان فيها دوم «2» وماء فقال انها ارض زرع دعوها فانها مامورة يعنى ناقته فاقبلت حتى بركت عند الدومة التي كانت فى مسجد ذى المروة قال محمد بن عمر ولما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وادي القرى اهدى له بنى عريض اليهودي هريسا فاكلها وأطعمهم أربعين وسقا فهى جارية عليهم الى يوم القيامة وفى رواية فهى جارية عليهم الى الساعة روى مالك واحمد والشيخان فى
__________
(1) عن يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب انه قال أراد عمر بن الخطاب ان يجمع القران فقام فى الناس فقال من كان تلقى فى زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فلياتنا به وكانوا كتبوا ذلك فى الصحف والألواح والعسب وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد به شاهدان فقتل وهو يجمع ذلك اليه فقام عثمان بن عفان فقال من كان عنده شىء من كتاب الله فلياتنا به وكان لا يقبل من ذلك حتى يشهد به شاهدان فجاء خزيمة بن ثابت فقال انى رايتكم تركتم به ايتين لم تكتبوهما فقال اما هما قال تلقيت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم الآيتين فقال عثمان وانا اشهد انهما من الله فاين نرى ان تجعلهما قال اختم بهما آخر ما نزل من القرآن فتحتمت بها براة الحمد لله رب العلمين صلى الله على رسوله روف الرحيم.
(2) الودم جمع ودمة وهى ضخام الشجري شجر المقل 12.(4/328)
الصحيحين عن ابن عمرو احمد عن جابر وابى كبشة الأنماري وابى حميد الساعدي ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما مر بالحجر تقنع بردائه وهو على الرحل فاوضع راحلته حتى خلف أبيات ثمود ولما نزل هناك تسارع الناس الى اهل الحجر يدخلون عليهم واستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا ونصبوا القدور باللحم فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنودى فى الناس الصلاة جامعة فلما اجتمعوا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم الا ان تكونوا باكين ان يصيبكم ما أصابهم ولا تشربوا من مائها ولا تتوضاوا منه للصلاة واهريقوا القدور واعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى نزل على البير التي كانت تشرب منها الناقة وقال لا تسألوا الآيات فقد سالها قوم صالح سألوا نبيهم ان يبعث لهم آية فبعث الله تبارك وتعالى لهم الناقة فكانت ترد هذا الفج وتصدر «1» من هذا الفج «2» فعتوا عن امر ربهم فعقروها وكانت تشرب مياههم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها فاخذتهم صيحة اخمد الله تعالى من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان فى حرم الله قيل من هو يا رسول الله قال ابو رغال فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم فناداه رجل منهم تعجب منهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الا أنبئكم بأعجب من ذلك رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فان الله لا يعبأ بعذابكم شيئا وسيأتى الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم بشئ تهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد ومن كان له بعير فليوثق عقاله ولا يخرجن أحد منكم الا ومعه صاحب له ففعل الناس ما أمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا رجلين من بنى ساعدة خرج أحدهما لحاجته وخرج الآخر فى طلب بعير له فاما الذي خرج لحاجته فانه خنق على مذهبه واما الذي ذهب فى طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته على جبل طى فاخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بذلك فقال الم أنهكم ان يخرج أحد الا ومعه صاحب له ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى واما لاخر فان طيا أهدته الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم
__________
(1) تصدر اى ترجع بعد ورود 12.
(2) اى الموضع الذي ينغوط فيه 12.(4/329)
حين رجع الى المدينة وقد مر قصة استسقائه صلّى الله عليه وسلم وروى محمد بن عمر ومحمد بن إسحاق انه ضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرج الناس فى طلبها فقال زيد بن اللّصيب أحد بنى قينقاع كان يهوديا فاسلم ونافق وكان فى رجل عمارة بن حزم محمد يزعم انه نبى وهو يخيركم خبر السماء وهو لا يدرى اين ناقته فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان عمارة بن حزم عنده ان منافقا قال كذا والله انى لا اعلم الا ما علمنى الله وقد اطلعنى الله عليها وهى فى الوادي فى شعب كذا فذهبوا فجاؤا بها فاقبل عمارة على زيد يجافى عنقه ويقول اخرج يا عدو الله من رحلى فلا تصاحبنى قال ابن إسحاق فزعم بعض الناس ان زيدا تاب وقال بعض الناس لم يزل منافقا حتى هلك وفى تلك الغزوة ما روى مسلم عن المغيرة بن شعبة ذهاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الفجر لحاجته فاسفر الناس حتى خافوا الشمس فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم وتوضأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضاق كم جبته فاخرج يديه من تحت الجبة ومسح على خفيه وأدرك ركعة فصلى ركعة اخرى وسلم وقال أحسنتم صلوا الصلاة لوقتها وانه لم يتوف نبى حتى يؤمه رجل صالح من أمته وروى احمد والطبراني انه صلّى الله عليه وسلم اردف سهيل بن بيضاء على رحله ورفع صوته يا سهيل ثلث مرات كل ذلك يقول سهيل لبيك حتى عرف الناس انه يريدهم فلما اجتمع الناس قال من شهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له حرمه الله على النار روى محمد بن عمرو ابو نعيم فى الدلائل انه عارض الناس حية عظيمة ذكر من عظمها وخلقها فاقبلت حتى واقفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون اليه فقامت قائمة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفد والىّ يسمعون القرآن وهاهو ذا يقرأكم السلام فقال الناس جميعا وعليه السلام ورحمة الله وبركاته روى احمد برجال الصحيح عن حذيفة عن معاذ قال عليه السلام لكم ستاتون غدا إنشاء الله عين تبوك وانكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاء فلا يمس من ماءها شيئا حتى اتى فجئناها وسبق اليه رجلان والعين مثل الشراك بتض «1» بشئ من ماء فسالهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا
__________
(1) اى تسيل 12.(4/330)
قالا نعم فسبهما وقال لهما ما شاء الله ان يقول ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع فى شن ثم غسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه وتمضمض ثم إعادة فجرت العين بماء كثير ولفظ ابن إسحاق فانخرق الماء حتى كان يقول من سمعه ان له حساكحس الصواعق وذلك الماء فوارة بتبوك ثم قال يا معاذ يوشك ان طالت بك حيوة ان ترى ما هاهنا يلى جنانا وفيما روى البيهقي وابو نعيم عن عروة ففارت عينها حتى امتلأت فهى كذلك حتى الساعة روى احمد والنسائي عن ابى سعيد الخدري خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك وهو مسند ظهره الى نخلة فنادى الا أخبركم بخير الناس وشر الناس ان من خير الناس رجل محمل فى سبيل الله على ظهر فرسه او على ظهر بعيره او على قدميه حتى يأتيه الموت وان من شر الناس رجلا يقرأ كتاب الله لا يرعوى «1» الى شىء منه وروى ابو داود عن ابن عمر قال اتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بجنبة فى تبوك فدعا بسكين فسمى وقطع روى احمد وابو داود انه مر غلام بينه صلّى الله عليه وسلم وبين القبلة على حمار وهو يصلى فقال اللهم اقطع اثره فصار مقعدا ورمى محمد بن عمر عن رجل من بنى سعد قال جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو جالس بتبوك فى نفر فقال يا بلال أطعمنا فاخرج بلال خرجات بيده من تمر معجون بسمن وإقط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلوا فاكلنا حتى شبعنا فقلت يا رسول الله ان كنت لا كل هذه وحدي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الكافر يأكل فى سبعة أمعاء والمؤمن يأكل فى معاء واحد ثم جئته من الغد فاذا عشرة نفر حوله فقال هات أطعمنا يا بلال فجعل يخرج من جراب تمرا بكفه قبضة قبضة فقال اخرج ولا تخش من ذى العرش إقتارا فجاء بجراب فنشره فخرزته مدين فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده على التمر وقال كلوا بسم الله فاكلوا وأكلت معهم حتى ما أجد له مسلكا قال وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال كانّا لم ناكل منه تمرة واحدة ثم قال غدوت من الغد وعاد نفر فكانوا عشرة او يزيد رجلا او رجلين فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يا بلال أطعمنا فجاء بلال بذلك الجراب بعينه أعرفه فنشره ووضع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده عليه وقال كلوا بسم الله فاكلنا حتى نهلنا
__________
(1) لا يرعوى اى لا ينكف ولا ينزجر من رعى يرعوا إذا انكف عن الأمر وقد ارعوى عن القبيح ارعواء وقيل الارعواء الندم على الشيء والانصراف عنه 12.(4/331)
ثم رجع مثل الذي صب ففعل ذلك ثلثة ايام وفى قصة اخرى روى محمد بن عمر وابو نعيم وابن عساكر عن عرباض بن سارية فذكر قصة انه قال كنا ثلثة انا وجعال بن سراقة وعبد الله بن مغفل المزني كلنا جياع انما نعيش بباب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبة ومعه زوجته أم سلمة فطلب شيئا فلم يجد فخرج فنادى بلا لاهل من عشاء لهولاء النفر فاخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا فتقع التمرة والثمرتان حتى رايت فى يده سبع تمرات ثم دعا بصفحة فوضع التمر فيها ثم وضع يده على التمرات وسمى الله تعالى فقال كلوا بسم الله فاكلنا فأحصيت أربعا وخمسين تمرة اكلتها أعدها عدا ونواها فى يدى الاخرى وصاحباى يصنعان مثل ما اصنع وشبعنا وأكل كل واحد منا خمسين تمرة ورفعنا أيدينا فاذا التمرات السبع كما هى فقال يا بلال ارفعها فانه لا يأكل منها أحد الا نسهل شبعا فلما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصلّى صلوة الصبح انصرف الى فناء قبته فجلس وجلسنا حوله وفقراء من المسلمين عشرة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم هل لكم من الغداء فدعا بلالا بالتمرات فوضع يده عليهن فى الصفحة ثم قال كلوا بسم الله فاكلنا فوالذى بعثه بالحق حتى أشبعنا وانا لعشرة ثم رفعوا منها أيديهم شبعا وإذا التمرات كما هى فقال لولا انى استحيى من ربى لاكلنا من هذه التمر حتى نرد المدينة من آخرنا وطلع غليم من اهل البلد فاخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم التمرات بيده فدفعها اليه فولّى الغلام يلوكهن روى محمد بن عمر انه هاجت ريح شديد بتبوك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لموت منافق عظيم النفاق فقدموا المدينة فوجدوا منافقا عظيم النفاق قد مات روى محمد بن عمر انه قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفر من سعد هزيم فقالوا يا رسول الله انا قدمنا إليك وتركنا أهلنا على بير قليل مائها وهذا القيظ ونحن نخاف ان تفرقنا ان نقتطع لان الإسلام لم يغش حولنا بعد فادع الله لنا فى مائنا فانا ان روينا به فلا قوم اغرمنا لا يقربنا أحد مخالف لديننا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ابغوني حصيات فتناول بعضهم ثلث حصيات فدفعهن الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعركهن بيده ثم قال اذهبوا بهذه الحصيات الى بيركم فاطرحوا واحدة واحدة وسموا الله تعالى فانصرف القوم من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك فجاشت بيرهم بالرواء ونفوا من حاربهم من اهل الشرك ووطئوهم فما انصرف(4/332)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى المدينة حتى اوطئوا «1» من حولهم عليه ودانوا عليه بالإسلام روى الطبراني عن ابن عمرو معاوية بن ابى سفيان والبيهقي وابن سعد عن انس قال طلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أدرها طلعت فيما مضى فاتى جبرئيل فسأل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال ذاك معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة اليوم فبعث الله سبعين الف ملك يصلون عليه فهل لك فى الصلاة عليه قال نعم فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصف الملئكة خلفه صفين فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لجبرئيل بم بلغ هذه المنزلة قال يحبه قل هو الله أحد يقرأها قائما وقاعدا وراكبا وماشيا وعلى كل حال قال الحافظ هذا لحديث له طرق يقوى بعضها بعضا روى الطبراني وابو نعيم عن محمد بن حمزة عن عمرو الأسلمي عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم الى غزوة تبوك وكنت على خدمته ذلك السفر فنظرت الى نحى السمن قد قل ما فيه وهيات للنبى صلّى الله عليه وسلم طعاما فوضعت النحى فى الشمس ونمت فانتبهت بخذير «2» النحى فقمت فاخذت راسه بيدي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورآني لو تركته لسال الوادي سمنا روى الحارث بن اسامة عن بكر بن عبد الله المزني قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من يذهب بهذا الكتاب الى قيصر وله الجنة فقال رجل وان لم يقبل فانطلق الرجل فاتاه بالكتاب فقرأ فقال اذهب الى نبيكم فاخبره انى متبعه ولكن لا أريد ان ادع ملكى وبعث
معه بدنانير الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرجع فاخبره فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كذب وقسم الدنانير روى احمد وابو يعلى بسند حسن عن سعيد بن ابى راشد عن التنوخي رسول هرقل قال قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم تبوك فبعث دحية الكلبي الى هرقل فلما ان جاء كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم دعا قسيسى اى علماء النصارى الروم وبطارقتهما ثم اغلق عليه وعليهم الدار فقال قد نزل هذا الرجل حيث رايتم وقد أرسل يدعونى الى ثلث خصال ان اتبعه على دينه او ان أعطيه مالنا على ارضنا والأرض ارضنا او نلقى اليه الحرب والله لقد عرفتم فيما تقرءون من الكتاب فهلم فلنتبعه على دينه او نعطيه مالنا على ارضنا فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا وقالوا تدعونا الى ان نذر النصرانية او تكون عبيد الاعرابى من الحجاز فلما ظن انهم ان يخرجوا من عنده فسدوا عليه
__________
(1) اى كلموا مع الغصب 12.
(2) هو صوت الماء فاستعير للسمن 12.(4/333)
الروم رناهم «1» ولم يكد وقال انما قلت ذلك لاعلم صلابتكم على دينكم وأمركم ثم دعا رجلا من عرب تجيّب كان على نصارى العرب قال ادع لى رجلا حافظا للحديث عربى اللسان ابعثه الى هذا الرجل بجواب كتابه فجاءنى فدفع الىّ هرقل كتابا فقال اذهب بكتابي هذا الى هذا الرجل فما سمعته من حديثه فاحفظ لى منه ثلث خصال هل يذكر صحيفته التي كتب بشئ وانظر إذا قرأ كتابى فهل يذكر الليل وانظر الى ظهره هل فيه شيء يريبك قال فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا فاذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبيا على الماء فقلت اين صاحبكم قيل هوذا فاقبلت امشى حتى جلست بين يديه فناولته كتابى فوضعه فى حجره ثم قال ممن أنت قلت انا من تنوخ قال هل لك فى الإسلام الحنيفة ملة أبيك ابراهيم قلت انى رسول قوم وعلى دين قوم حتى ارجع إليهم فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال انك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو اعلم بالمهتدين يا أخا تنوخ انى كتبت كتابا الى كسرى فمزقه وممزق ملكه وكتبت الى النجاشي بصحيفة فمزقها والله ممزقه وممزق ملكه وكتبت الى صاحبك بصحيفة فامسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام فى العيش خير قلت هذه احدى الثلث التي أوصاني صاحبى بها فاخذت سهما من جعبتى فكتبتها فى جفن سيفى ثم ناول الصحيفة رجلا عن يساره قلت من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم قالوا معاوية فاذا فى كتاب صاحبى تدعونى الى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فاين النار فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم سبحان الله اين النهار إذا جاء الليل فاخذت سهما من جعبتى فكتبته فى جنب سيفى فلما فرغ من قراءة كتابى قال ان لك حقا وانك رسول الله فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها انا سفر «2» مرملون قال فناداه رجل من طائفة الناس انا أجوزه ففتح رحله فاذا هو بحلة صفراء فوضعها فى حجرى قلت من صاحب الجائزة قيل لى عثمان ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيكم ينزل هذا الرجل فقال فتى من الأنصار انا فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس نادانى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال تعال يا أخا تنوخ فاقبلت أهوى حتى كنت فى مجلسى الذي كنت بين يديه فحل حبوته عن ظهره وقال هنا
__________
(1) من الرنى بضم الراء بمعنى الصعود 12.
(2) سفر جمع سافر كركب وراكب 12.(4/334)
امض لما أمرت له فجلست فى ظهره فاذا انا بخاتم النبوة فى موضع مصرف الكتف مثل المحجمة الضخمة قال محمد بن عمر فانصرف الرجل الى هرقل فذكر ذلك له فدعا قومه الى التصديق بالنبي صلّى الله عليه وسلم فابوا حتى خافهم على ملكه وهو فى موضعه بحمص لم يتحرك ولم يزحف «1» وكان الذي خير النبي صلّى الله عليه وسلم من تعبية أصحابه ودنوه الى وادي الشام باطلا لم يرد ذلك ولا همّ به وذكر السهيلي ان هرقل اهدى هديا فقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفرقها على المسلمين وان هرقل امر مناد يا ينادى الا ان هرقل آمن بمحمد واتبعه فدخلت الأجناد فى سلاحها وطافت بقصره تريد قتله فارسل إليهم انى أردت ان اختبر صلابتكم فى دينكم فقد رضيت عنكم فرضوا عنه ثم كتب الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا مع دحية رضى الله عنه يقول فيه انى مسلم ولكن مغلوب على امرى فلما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابه قال كذب عدو الله والله ليس بمسلم بل هو على نصرانية وروى البيهقي عن ابن إسحاق قال حدثنى يزيد بن رومان وعبد الله بن بكر والبيهقي عن عروة بن الزبير قال لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم قافلا الى المدينة من تبوك بعث خالد بن الوليد بأربعمائة وعشرين فارسا فى رجب سنة تسع الى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل وكان أكيدر من كندة وكان نصرانيا فقال خالد كيف لى به وسط بلاد كلب وانما انا فى أناس يسيرون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ستجده يصيد البقر فتاخذه فيفتح الله لك دومة فان ظفرت به فلا تقتله وايت به الىّ فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين فى ليلة مقمرة صافية وهو على سطح له مع امرأته الرباب بنت انيف بن عامر الكندية فصعد أكيدر على ظهر الحصن من الحر وقينة تغينه ثم دعى بشراب فشرب فاقبلت البقرة الوحشية تحك بقرونها باب الحصن الحديث فنزل أكيدر وركب فرسه وركب معه نفر من اهل بيته معه اخوه حسان ومملوكان له فخرجوا من حصنهم بمطاردهم «2» فلما فصلوا من الحصن أخذته خيل خالد فاستاسر أكيدر وامتنع حسان وقاتل حتى قتل وهرب المملوكان ومن كان معه فدخلوا الحصن وكان على حسان قباء ديباج مخوص «3» بالذهب
__________
(1) الزحفان يتحرك حركة ضعيفة كالصبى على استه 12.
(2) مطروا مح قصير يطعن به 12. [.....]
(3) بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وفتح الواو المشددة والضاد المهملة المنسوج بالذهب 12.(4/335)
فاستلبه وقال خالد لاكيدر هل لك ان اجبرك من القتل حتى اتى بك رسول الله صلّى الله على ان تفتح لى دومة فقال أكيدر نعم فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن فنادى أكيدر اهله ان افتحوا باب الحصن فارادوا ذلك فابى عليهم فصاد أخو أكيدر فقال أكيدر لخالد تعلم والله انهم لا يفتحون لى رأونى فى وثاقك فخل عنى فلك الله والامانة ان افتح لك الحصن ان أنت صالحتنى على أهلي قال خالد فانى أصالحك فقال أكيدر ان شئت حكمتك وان شئت حكمتنى قال خالد بل نقبل منك ما أعطيت فصالحه على الفى بعير وثمانمأة راس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح على ان ينطلق به وبأخيه الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيحكم فيهما حكمه فلما قضاه خالد على ذلك خلى سبيله ففتح باب الحصن فدخل خالد وأوثق مصادا أخا كيدر وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح ولما ظفر خالد بأكيدر وبأخيه حسان أرسل خالد عمر بن امية الضميري الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشيرا وأرسل معه قباء حسان قال انس وجابر رأينا قباء حسان أخي أكيدر حين قدم به على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجعل المسلمون يلمسون بايديهم ويتعجبون من هذا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اتعجبون من هذا والذي نفسى بيده لمناديل سعد بن معاذ فى الجنة احسن من هذا ثم لما قبض خالد ما صالحه عزل للنبى صلّى الله عليه وسلم الصفي ثم خمس الغنائم ثم قسم الغنائم بين أصحابه قال ابو سعيد الخدري أصابني درع وبيضة وعشر من الإبل وقال واثلة أصابني ست فرايض «1» وقال عبد الله بن عمرو بن عوف كنا أربعين رجلا من بنى مزينة أصاب كل رجل خمس فرائض مع سلاخ ودرع ورماح قلت وتفاوت السهم بتفاوت القيمة ثم ان خالدا توجه الى المدينة ومعه أكيدر ومصاد روى محمد بن عمر عن جابر قال رايت أكيدر حين قدم به خالد عليه صليب ذهب وعليه الديباج فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلم سجد له فاومى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيده لا لامرتين واهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلم هدية فيها كسوة قال ابن الأثير وبغلته وصالحه
__________
(1) فرائض جمع فريضة سمى به لانه يوخذ فى فريضة الزكوة ثم اتسع حتى قيل فى غير الزكوة.(4/336)
على الجزية وبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كتابا فيه أمانهم ولما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد الى أكيدر بن عبد الملك بدومة اشفق ملك ايلة بجنّة بن رؤبة ان يبعث اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما بعث الى أكيدر فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقدم معه اهل جربا واذرح قال ابو حميد الساعدي قدم ملك ايلة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاهدى الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بردا وكتب له كتابا رواه ابن ابى شيبة والبخاري وروى محمد بن عمر عن جابر قال رايت يحنة بن روبة يوم اتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليه صليب من ذهب وهو معقود الناصية فاومى برأسه فاومى اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان ارفع راسك وصالحه يومئذ وكساه بردا يمنية فاشتراه بعد ذلك ابو العباس عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار وامر له بمنزله عند بلال انتهى قالوا وقطع الجزية جزية معلومة ثلاثمائة دينار كل سنة وكانوا ثلاثمائة رجل وكتب لهم بذلك كتابا وكتب صلّى الله عليه وسلم لاهل اذرح كتابا وصالح رسول الله صلّى الله عليه اهل مقنا على ربع ثمارهم وربع عربهم وروى ابن ابى شيبة واحمد ومسلم عن ابى حميد الساعدي قال جاء ابن العلماء صاحب ايله رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب واهدى له بغلة بيضاء فكتب اليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم واهدى له بردا روى احمد عن جابر بن عبد الله وابن سعد عن يحيى بن كثير انه صلّى الله عليه وسلم اقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة وعلى ذلك جرى محمد بن عمرو ابن سعد وابن حزم وغيرهم وقال ابن عقبة وابن إسحاق بضع عشرة ليلة قال محمد بن عمر شاور رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصحابه فى التقدم يعنى من تبوك الى الشام فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله ان كنت مامورا فسر والا فللزوم جمعا كثيرا وليس بها أحد من اهل الإسلام وقد دنونا منهم وقد أفزعهم دنوك فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى او يحدث الله تعالى لك امرا روى احمد والطبراني والطحاوي من طريق ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال فى غزوة تبوك إذا دفع الطاعون بأرض(4/337)
وأنتم بها فلا تخرجوا منها وإذا كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها قال الحافظ فى بذل الماعون لعله بلغه صلّى الله عليه وسلم ان الطاعون فى الجهة التي كان يقصدها وكان ذلك من اسباب رجوعه من غير قتال واخرج ابن ابى حاتم والبيهقي فى الدلايل بسند ضعيف من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم ان اليهود آتوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا ان كنت نبينا فالحق بالشام فان الشام ارض المحشر وارض الأنبياء فصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم قولهم فغزا غزوة تبوك فلما بلغ تبوك انزل الله تعالى آيات من بنى إسرائيل وان كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها فامره بالرجوع الى المدينة روى إسحاق بن راهويه عن ابى هريرة وابو يعلى وابو نعيم وابن عساكر عن عمر بن الخطاب ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا يا رسول الله لو أذنت فننحر من نواضحنا «1» فاكلنا فلقيهم عمر بن الخطاب فامرهم ان يمسكوا عن نحرها فقال يا رسول الله أذنت الناس فى نحر حمولتهم يأكلونها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم شكوا الىّ ما بلغ من الجوع فاذنت لهم بنحر الرفقة البعير والبعيرين ويتعاقبون فيما فضل فهم قافلون الى أهلهم فقال عمر يا رسول الله انك ان فعلت قل الظهر ولكن ادع بفضل أزوادهم جميعا وادع الله لهم فيها بالبركة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نعم فدعا بنطع فبسط ونادى منادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من كان عنده فضل من زاد فليأت به فجعل الرجل يأتي بكف ذرة ويجئى الاخر بكسرة وجعل الرجل بالمد
الدقيق او السويق او التمر وكان جميع ما جاؤا به سبعا وعشرين صاعا ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتوضأ وصلّى ركعتين ثم دعا الله ان يبارك فيه قال ابو هريرة فما تركوا فى العسكر وعاء الا ملؤه وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة وقال عمر فاخذوا حتى صدروا وانه نحو ما كانوا يحرزون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله لا يأتي بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة وفى حديث ابى قتادة عند ابى نعيم ومحمد بن عمر ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عرش ليلة
__________
(1) نواضح جمع ناضح وهو البعير الذي يستقى عليها الماء ثم استعمل فى كل بعير 12.(4/338)
قافلا من تبوك فتمنا فما انتبهنا الا بحر الشمس فقلنا انا لله فاتنا الصبح فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لنغيظن الشيطان كما غاظنا فتوضأ من ماء اداوة معى ففضل فضلة فقال يا أبا قتادة احفظ بماء فى الاداوة فصلى بنا الفجر بعد طلوع الشمس فقرأ بالمائدة فلما انصرف من الصلاة قال اما انهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر رشدوا وذلك ان أبا بكر وعمر أرادا ان ينزلا بالجيش على الماء فابوا ذلك عليهما فنزلوا على غير ماء بفلاة من الأرض فركب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه وقد كادت أعناق الخيل والرجال والركاب تقطع عطاشا فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالركوة فافرغ ماء من الاداوة فيها ووضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه واقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى روّوا وروّوا خيلهم وركابهم وكان فى العسكر اثنا عشر الف بعير والناس ثلثون الفا والخيل اثنى عشر الف وروى ابن إسحاق ومحمد بن عمر قالوا اقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم قافلا حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة كان فيه وشل يخرج منه فى أسفله قدر ما يروى الراكبين او ثلثة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سبقنا الى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه فسبق اليه اربعة من المنافقين معتب بن قثير والحارث بن يزيد ووديعة بن ثابت وزيد بن اللصيب فلما أتاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقف عليه فلم يرقيه شيئا فقال من سبقنا الى هذا الماء فقيل فلان وفلان فقال الم أنهكم لا فلعنهم ودعا عليهم ثم نزل فوضع يده تحت الوشل ثم مسحه بإصبعيه ثم اجتمع منه فى كفه ماء قليل ثم نضحه به ثم مسحه بيده ثم دعا بما شاء الله ان يدعوا فانخرق من الماء قال معاذ بن جبل والذي نفسى بيده لقد سمعت له من شدة انخراقه سيل الصواعق فشرب الناس ما شاؤا واستقوا ما شاؤا ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للناس لئن بقيتم لتسمعن بهذا الوادي وهو اخضب مما بين يديه ومما خلفه وروى محمد بن عمر وابو نعيم عن جماعة من اهل المغازي قال بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسير منحدرا للشنة وهو فى قيظ شديد عطش العسكر حتى لا يوجد للشنته ماء قليل ولا كثير فشكوا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فارسل أسيد بن حضير وقال عسى(4/339)
ان تجد لنا ماء فادرك أسيد راوية من ماء مع امرأة فجاء أسيد بالماء ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالبركة وقال هلم أسقيتكم فلم يبق معه سقاء الا ملاؤه ثم دعا بركابهم وخيولهم فسقوها ويقال انه صلّى الله عليه وسلم امر بما جاء به فصبه فى تعب عظيم فادخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيه يده وغسل وجهه ويديه ورجليه ثم صلّى ركعتين ثم رفع يديه مدا ثم انصرف وان القعب ليفور فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم للناس رووا واتسع الماء وانبسط الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان فارتوا وان القعب ليجيش بالرواء وروى الطبراني بسند صحيح عن فضالة عن عبيد ان رسول الله صلّى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك فجهد الظهر جهدا شديدا فشكوا ذلك اليه ورآهم يزحون «1» ظهورهم فوقف فى مضيق والناس يمرون فيه فنفخ فيها وقال اللهم احمل عليها فى سبيلك فانك تحمل على القوى والضعيف والرطب واليابس والبر والبحر فاستمرت فما دخلنا المدينة الا وهى تنازعنا أزمتها ولما اشرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة قال هذه طابت رواه الشيخان فى الصحيحين وغيرهما عن جابر وابى حميد الساعد وغيرهم فلما راى أحد قال هذا أحد جبل يحبنا ونحبه روى البيهقي عن عايشة لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقلن- شعر
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... وجب الشكر علينا ما دعا الله داع
قال ابن سعد وجعل الناس يبيعون اسلحتهم يقولون قد انقطع الجهاد فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنهاهم وقال لا يزال عصابة من
أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال وكان قدومه صلّى الله عليه وسلم بالمدينة فى رمضان وقد خرج من المدينة الى تبوك فى رجب سنة تسع وكان بين المدينة وتبوك نحو اربعة عشر مرحلة قال فى النور كذا قالوا وقد سرناها مع الحجيح فى اثنى عشرة مرحلة وبينها وبين دمشق احدى عشر مرحلة والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد وقع الفراغ من هذا التفسير المظهرى وقت العصر يوم الشنبة فى التاريخ الهفتم الشهر لذى الحجة السنة 1243 بعد الهجرة النبي صلّى الله عليه وسلم واله وأصحابه أجمعين
__________
(1) يرجون اى يسوقون 12.
.(4/340)
الجزء الخامس
انّ فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السّمع وهو شهيد هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتفسير المظهرى منه سورة هود عليه السّلام تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمّد ثناء الله العثماني الحنفي بالمظهري النقشبندي الفاني فتى رضى الله عنه وعن ابائه ومشائخه ولد رحمه الله فى سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة او قبله بسنة او سنتين بفانى فت ونشأ بها فحفظ القران وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتبحر فيها ثم ارتحل الى الدهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا أنشأه ولىّ الله المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمّد عابد السنامى ثم انسلك بخدمت الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع الى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف فى نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عديدة فى التفسير والفقه وغيرها تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها الى الله وازديادا مجتهدا فى الخيرات الى ان أدركته المنبه فتوفى فى غرة الرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة على صاحب التحية مكتبة رشيديّة سركى رود- كوئته(5/1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرس سورة يونس عليه السّلام من التفسير المظهرى
مضمون صفحه مسئلة الاستواء على العرش 7 ما ورد فى تسليم اهل الجنة بعضهم على بعض وتسليم الملائكة وتسليم الرب الرحيم عليهم- 11 حديث ان الدنيا حلوة خضرة- 14 فائدة ما ورد فى قدر عمره صلى الله عليه وسلم وإقامته بمكة وبالمدينة- 15 حديث دعائه صلى الله عليه وسلم على اهل مكة فقحطوا ثم دعا لهم بالكشف فكشف الله عنهم- 18 ما ورد فى البغي وقطيعة الرحم والمكر والنكث- 19 حديث جاءت الملائكة الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا الحديث- 21 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه 21 ما ورد فى تفسير قوله تعالى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ الزيادة النظر الى الله تعالى- 221 حديث انما مثلى ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش وانا النذير العريان الحديث- 29 ما ورد فى اختلاف استعدادات الناس- 30 رد مذهب الجبرية- 30 تحقيق معنى الولي لغة وفى اصطلاح القران والصوفية وما ورد فى فضل اولياء الله- 38 فصل فى اسباب حصول الولاية- 39 ذكر المرادين- 40 فصل فى علامة اولياء الله- 40 فائدة ليست الخوارق والعلم بالمغيبات من لوازم الولاية- 41 بيان البشارات لاولياء الله فى الدنيا- 42 بشارات الصحابة بالوحى وغيرهم بالرؤيا يعنى الكشف- 43 حديث يا رسول الله الرجل يعمل لنفسه ويحبّه الناس قال تلك وعاجل بشرى المؤمن 43(5/2)
حديث من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه- 44 حديث ليس على اهل لا اله الا الله وحشة الحديث 44 قصة نوح عليه السلام 46 قصة موسى عليه السلام 47 قيل كانت الكعبة قبلة موسى عليه السلام 50 مسئلة من خالجه شبهة فى الدين ينبغى ان يتسارع الى حلها بالرجوع الى العلماء- 54 حديث قال الله خلقت هؤلاء للجنة ولهؤلاء للنار- 55 ما ورد فى قبول التوبة ما لم يغرغر 56 قصة يونس عليه السلام 56 رد مذهب القدرية حيث قالوا ان الله يشاء ايمان الكافر- 59 حديث اوحى الى نبي قل لاهل طاعتى ان لا يتكلوا ولاهل معصيتى ان لا يئسوا- 61 تمت.(5/3)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشكرك- ونسئلك الخير فى الدّنيا والآخرة- الحقنا بعبادك الصّالحين الّذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- ونشهد أنّك أنت ربّنا وربّ السّماوات والأرضين ومن فيهنّ ومن عليهنّ- انّك على كلّ شىء قدير ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّد الخلائق سيّدنا ومولانا محمّد وعلى اله وأصحابه أجمعين وعلى من تبعهم الى يوم الدّين برحمتك يا ارحم الرّاحمين.
سورة يونس
مائة وتسع آية مكّيّة الّا ثلث آيات فان كنت فى شكّ ربّ يسّر وتمّم بالخير بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر مر الكلام عليه فى أوائل سورة البقرة- قرا ابن كثير وقالون «1» وحفص الر والمر بالفتح وورش بين اللفظين والباقون بالامالة تِلْكَ اشارة الى ما تضمنته «2» السورة او القران من الآيات- وقيل المراد بها الآيات التي نزلت قبل هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى القران والاضافة بمعنى من الْحَكِيمِ (1) وصفه به لاشتماله على الحكم او لانه كلام حكيم- او المعنى انه محكم آياته لم ينسخ منها شيء ان كان المراد آيات هذه السورة- او محكم عن الكذب والاختلاف- قال الحسن حكم فيها بالعدل والإحسان وايتائ ذى القربى والانتهاء عن الفحشاء والمنكر والبغي وو حكم فيها بالجنة لمن أطاعه والنار لمن عصاه- اخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عبّاس قال لمّا بعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك او من أنكر ذلك منهم فقالوا الله أعظم من ان يكون رسوله بشرا فانزل الله تعالى.
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً استفهام انكار للتعجب- وعجبا خبر كان واسمه أَنْ أَوْحَيْنا واللام فى للناس متعلق بمحذوف حال من قوله عجبا- وفى اللام دلالة على انهم جعلوه عجوبة لهم يوجهون نحوه انكارهم واستهزاءهم- والعجب حالة يعترى للانسان من رؤية شيء على
__________
(1) الخطة من العاشر
(2) فى الأصل ما تضمنه-(5/4)
خلاف العادة ووجه الإنكار على استعجابهم ان عادة الله تعالى جارية من بدء خلق آدم عليه السلام على بعث الرسل من البشر ومن ثمّ انزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا- وايضا عادة الملوك جارية بان الكتاب والخطاب يكون بلسان المخاطبين والرسول من جنس من أرسل إليهم فانه لا بد للافادة والاستفادة من المناسبة بينهما- قال الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ... إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ يعنى من احاد رجالهم دون عظيم من عظمائهم- قالوا وان كان بشرا فغير محمد كان أحق بالرسالة لَوْلا «1» نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أحد اشرف من محمد صلى الله عليه وسلم يعنون الوليد بن مغيرة من مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف فانزل الله تعالى ردا عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الاية- وكان هذا من فرط حماقتهم وجهلهم بحقيقة الوحى- وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأتم وأكمل فى كرائم الأوصاف وفى كل شيء الا فى المال وخفة الحال أعون شيء فى هذا الباب ولذلك كان اكثر الأنبياء قبله كذلك أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ان هى المفسرة او المخففة من الثقيلة فى موضع مفعول أَوْحَيْنا وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عم الانذار إذ قلّ من أحد ليس فيه ما ينبغى منه الانذار- وخص البشارة بالمؤمنين لعدم استحقاق الكفار به أَنْ اى بانّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال عطاء اى مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه- يعنى منزلة رفيعة يسبقون إليها ويقيمون فيها- سمّيت قدما لان السبق والقيام يكون بالقدم كما سميت النعمة يدا لانها تعطى باليد- واضافتها الى الصدق لتحققها وللتنبيه على انهم انما ينالونها بصدق القول والنية- واصدق القول شهادة ان لا اله الا الله- ويعود الى ما قلنا ما قال ابن عباس فى تفسير القدم اى اجرا حسنا بما قدموا من أعمالهم- وما قال الضحاك واى ثواب صدق فان المنزلة عند الله يعبر بالأجر والثواب- وقال الحسن يعنى به عملا صالحا اسلفوه يقدمون عليه- فهو بشارة بانهم يجدون عند ربهم ما قدموا من الأعمال فالقدم بمعنى التقدم- وقال ابو عبيدة كل سابق فى خير او شر فهو عند العرب قدم يقال لفلان قدم فى الإسلام- وله عندى قدم صدق او قدم سوء- وروى على بن ابى طلحة
__________
(1) فى الأصل لولا انزل(5/5)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
عن ابن عباس هو السعادة فى الذكر الاول- وقال زيد بن اسلم هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم- قال البخاري قال زيد بن اسلم انّ لهم قدم صدق محمد صلى الله عليه وسلم قالَ الْكافِرُونَ تعنتا وعنادا لما راوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أمورا خارقة للعادة وسمعوا كلاما معجزا عن المعارضة إِنَّ هذا يعنى الرسول صلى الله عليه وسلم لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) على وزن فاعل كذا قرا ابن كثير والكوفيون وقرا الباقون لسحر بغير الف- والاشارة حينئذ الى القران- يعنى ان هذا الكلام لكونه سحرا يمنعنا عن المعارضة وجاز ان يكون الاشارة الى كل معجزة رأوها-.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الّتى هى اصول الممكنات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ من ايام الدنيا اى فى قدرها ولو شاء لخلقهن فى لمحة وانما فعل ذلك لتعليم خلقه التثبت ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ اجمع اهل السنة من الخلف والسلف على «1» ان الله تعالى منزه عن صفات الأجسام وصفات الحدوث- فلهم فى هذه الاية وأمثالها سبيلان- أحدهما تأويلها بما يليق به تعالى بناء على عطف قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على اسم الله فى قوله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ- وقد مر البحث عليه فى سورة ال عمران- فقالوا معنى استوى استولى على العرش الذي هو أعظم المخلوقات ومحدد الجهات- وذا يستلزم استيلاءه تعالى على جميع الخلائق- وأسند البغوي تأويل الاستواء بالاستيلاء الى المعتزلة وكلام السلف الصالح يأبى عن سبيل التأويل بل المختار عندهم الايمان بتلك الآيات وتفويض علمه الى الله تعالى والتحاشى عن البحث عنه- قال محمد بن الحسن اتفق الفقهاء كلهم من المشرق الى المغرب على الايمان بالقران والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا شبه- فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة وقال مالك بن انس الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والسؤال عنه بدعة- فبناء على هذا السبيل نقل عن السلف القول باستوائه تعالى على العرش مع قولهم بالتنزيه الصرف قال ابو حنيفة ان الله فى السماء دون الأرض رواه البيهقي- وروى عنه من قال لا اعرف
__________
(1) فى الأصل ان الله-(5/6)
ربّى فى اسماء او فى الأرض فقد كفر- لان الله يقول الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وعرشه فوق سمواته- وروى عنه انه قال من أنكر الله فى السماء فقد كفر- وقال الشافعي ان الله على عرشه فى سمائه يقرب من خلقه كيف شاء وينزل كيف شاء- ومثل ذلك قال احمد بن حنبل- وقال إسحاق بن راهويه انه اجمع اهل العلم انه فوق العرش استوى ويعلم كل شيء وهو قول المزني والذهبي والبخاري وابو داؤد والترمذي وابن ماجة وابن ابى شيبة وابو يعلى والبيهقي وغيرهم من ائمة الحديث- وقال ابو زرعة الرازي ما ينبئ عن اجماع اهل السنة على ذلك- وقال عثمان بن سعيد الدارمي الحافظ اتفقت الكلمة بين المسلمين ان الله فوق عرشه فوق سمواته- وقال سهل بن عبد الله التستري لا يجوز لمؤمن ان يقول كيف الاستواء لمن خلق الاستواء ولنا عليه الرضاء والتسليم لقول النبي صلى الله عليه وسلم انه تعالى على العرش- وقال محمد بن جرير حسب امرئ ان يعلم ان ربه الذي على العرش استوى فمن يجاوز ذلك فقد خاب وخسر وقال ابن خزيمة من لم يقر ان الله على عرشه استوى فوق سبع سمواته بائن من خلقه فقد كفر فيستتاب- فان تاب والا ضربت عنقه- وقال الطحاوي العرش والكرسي كما بيّن فى كتابه- وهو مستغن عن العرش وما دونه- محيط بكل شيء وفوقه- وقال الشيخ ابو الحسن الأشعري البصري المتكلم فى كتاب اختلاف المضلين ومقالات الاسلاميين مقالة اهل السنة واصحاب الحديث جملته قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا يردون من ذلك شيئا- وان الله على عرشه كما قال الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وله يدان بلا كيف كما قال خَلَقْتُ بِيَدَيَّ- وقال ابو نعيم فى الحلية طريقتنا طريقة السلف المتبعين الكتاب والسنة واجماع الامة ومما اعتقدوه ان الله لم يزل كاملا بجميع صفاته الى ان قال وان الأحاديث التي ثبتت فى العرش والاستواء عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكيف ولا تمثيل- وانه بائن من خلقه- وقال ابن عبد البر ان الله فى السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة- وقال الخطيب مذهب السلف إثباتها واجراؤها على ظواهرها ونفى الكيفية والتشبيه عنها- وقال امام الحرمين والذي ترضيه دينا- وتدين الله به عقيدة اتباع سلف الائمة وذهب ائمة السلف الى الانكفاف عن التأويل واجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها(5/7)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
الى الله- وقال البغوي اما اهل السنة فيقولون الاستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب الايمان به- قال البيضاوي معناه ان له استواء على الوجه الذي عناه منزعا عن الاستقرار والتمكن- وقال ابو بكر على بن عيسى الشبلي اعلم الصوفية فى زمانه الرب فى السماء يقضى ويمضى- وقال شيخ الإسلام عبد الله الأنصاري فى اخبار شتى ان الله فى السماء السابعة على العرش- وللشيخ عبد القادر الجيلاني فى الباب كلام كثير فى الغنية هذه الأقوال كلها ذكرها الذهبي فى كتاب العلو- وذكر هذا المذهب عن جماعة كثيرة من اهل العلم من الصحابة والتابعين ومن دونهم من الفقهاء والمحدثين والصوفية يطول الكلام بذكرهم وقد ذكرت هذه المسألة مختصرا فى سورة الأعراف فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وقد ذكرنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ما قال اصحاب القلوب من تجليات الله تعالى فى بعض مخلوقاته برقيات ودائميات غير مستدعيات حدوث امر فى ذاته تعالى وكونه محلا للحوادث- ولا تنزلا له سبحانه عن مرتبة التنزيه الصرف بل مبنيات على حدوث امر فى الممكن حتى يصير صالحا لذلك التجلّى- وايضا ذكرنا مسئلة التجلّى على قلب المؤمن والكعبة الحسناء والعرش العظيم فى تلك السورة فى تفسير قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فليرجع إليهما من غفل عنهما يُدَبِّرُ الْأَمْرَ التدبير النظر فى ادبار الأمور حتى يأتى محمودة العاقبة- يعنى يقدر امر الكائنات على ما يقتضيه الحكمة ما مِنْ شَفِيعٍ يشفع لاحد إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته وعز جلاله- ورد على النضر بن الحارث حيث
قال إذا كان يوم القيامة يشفعنى اللات والعزى- وفيه اشارة الى ثبوت الشفاعة لمن اذن له ذلِكُمُ اى الموصوف بتلك الصفات المقتضية للالوهية اللَّهُ مبتدأ وخبر رَبَّكُمُ خبر ثان او خبر مبتدا محذوف والجملة بدل مما سبق يعنى هو ربكم لا غير- او لا يشركه أحد فى شيء من ذلك فَاعْبُدُوهُ دون غيره من انسان او ملك فضلا عن جماد لا يضر ولا ينفع أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) تتفكرون ادنى تفكر فيظهر لكم انه المستحق للعبادة دون غيره مما تعبدون-.
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر او ظرف جَمِيعاً بالموت او النشور لا الى غيره فاستعدوا للقائه-(5/8)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه فان قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعد من الله تعالى حَقًّا مصدر مؤكد لغيره وهو ما يدل عليه وَعْدَ اللَّهِ ... إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالحياة الدنيا- قرا العامة إِنَّهُ بالكسر على الاستيناف- وقرا ابو جعفر بالفتح على معنى لانه وهو تعليل لقوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً- فانه لما كان المقصود من الإبداء والاعادة مجازاة المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع اليه لا محالة- ويجوز ان يكون منصوبا بما نصب وعد الله او مرفوعا بما نصب حقّا ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد إهلاكه بالحياة الاخرى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ
اى بعدله- او بعدالتهم وقيامهم على العدل فى أمورهم- او بايمانهم لان الايمان عدل قويم كما ان الشرك ظلم عظيم- وهو أوجه لمقابلة قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ نهاية الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ اى مؤلم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (3) معناه وليجزى الذين كفروا بشراب من حميم وعذاب اليم بسبب كفرهم- لكنه غير النظم للمبالغة فى استحقاقهم العذاب والتنبيه على ان المقصود بالذات من الإبداء والاعادة انما هو الاثابة وانه تعالى يتولى اثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه- واما تعذيب الكفار فهو واقع بالعرض كانه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وشوم أفعالهم-.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً قرا قنبل ضئاء وبضئآء هاهنا وفى الأنبياء والقصص على القلب- بتقديم اللام على العين- والباقون بياء منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها وهمزة متطرفة- وهو مصدر كقيام- او جمع ضوء كسياط جمع سوط والمضاف محذوف اى ذات ضياء وَالْقَمَرَ نُوراً اى ذات نور- والنور أعم من الضوء فانه أقوى افراد النور- وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ والضمير لكل واحد اى قدر مسير كل واحد منهما منازل- او قدر كل واحد منهما ذا منازل- او للقمر وتخصيصه بالذكر لمعائنة منازله واناطة احكام الشرع من الصوم والزكوة والحج به- ولذلك علله بقوله لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ يعدّ الأشهر المنوطة بسير القمر وَالْحِسابَ اى حساب الأوقات من الأشهر والأيام فى معاملاتكم وتصرفاتكم ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ(5/9)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
الخلق إِلَّا متلبسا «1» بِالْحَقِّ اى لاظهار صنعته ودلالة قدرته مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة يُفَصِّلُ قرا ابن كثير وابو عمرو وحفص بالياء على الغيبة لقوله تعالى ما خَلَقَ اللَّهُ والباقون بالنون على التكلم والتعظيم الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) اى يتدبرون.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ اى فى مجيء كل منهما خلف الاخر او فى اختلاف لونهما وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى من انواع الكائنات لَآياتٍ على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته وتنزهه عن المناقص لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) العواقب فانه يحملهم على التفكر والتدبر.
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا اى ثوابنا فان أعظم المثوبات لقاء الله سبحانه ورؤيته وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا اختاروها على الاخرة وَاطْمَأَنُّوا بِها اى سكنوا إليها واقتصروا على لذائذها وزخارفها وتركوا ما يفيدهم للاخرة وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا اى عن الادلة الدالة على وجود الصانع غافِلُونَ (7) فعلى هذا المراد بالأولين اهل الكتاب من الكفار الذين يعتقدون الصانع ويعلمون البعث والنشور ومع ذلك اختاروا الدنيا على الاخرة ويئسوا من ثواب الاخرة واقتصروا على لذائذ الدنيا- وبالآخرين الذين لم يوحدوا الله تعالى ولا يعرفون البعث والجزاء- وقال البيضاوي المراد بالأولين من أنكر البعث ولا يرجون اى لا يتوقعون الجزاء ولم يروا الا الحيوة الدنيا- وبالآخرين من الهاهم حب العاجل عن التأمل فى الاجل والاعداد له- وقيل العطف لتغائر الوصفين والتنبيه على ان الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك فى الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم أصلا- وقال البغوي الرجاء يكون بمعنى الخوف والطمع فمعنى لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يخافون عقابنا ولا يرجون ثوابنا- وقال ابن عباس عَنْ آياتِنا غافِلُونَ يعنى عن محمد صلى الله عليه وسلم والقران غافلون معرضون.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا أولئك مبتدا مأويهم مبتدا ثان والنار خبره والجملة خبر أولئك وجملة أولئك خبر انّ يَكْسِبُونَ (8) من الكفر والمعاصي اى بما واظبوا عليه وتمرّنوا بالمعاصي- الباء فى بما كانوا متعلق بمحذوف دل عليه الكلام اى جوزوا.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ يرشدهم رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ
__________
(1) في الأصل ملتبسا.(5/10)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
اى يرشدهم بسبب ايمانهم الى سلوك سبيل يؤدى الى الجنة- قال مجاهد يهديهم على الصراط الى الجنة- يجعل لهم نورا يمشون به- وقيل معنى يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ يهديهم ربهم لدينه يعنى لادراك حقائق الدين- عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم رواه ابو نعيم فى الحلية- وقيل معناه يثيبهم ويجزيهم- او يهديهم لما يريدونه فى الجنة- قال البيضاوي مفهوم الترتيب وان دل على ان سبب الهداية الايمان والعمل الصالح- لكن دل منطوق قوله بايمانهم على استقلال الايمان بالسببية فان العمل الصالح كالتتمة والرديف له تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى بين أيديهم كقوله تعالى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا لم يرد به انه تحتها وهى قاعدة عليه وجملة تجرى مستأنفة او خبر ثان او حال من الضمير المنصوب على معنى يهديهم لادراك الحقائق او لما يريدونه فى الجنة حال كونهم كذلك وقال البغوي فيه إضمار تقديره يهديهم اى يرشد ربهم بايمانهم الى جنات تجرى من تحتهم الأنهار فعلى هذا جملة تجرى صفة لجنات لكن يجب حينئذ تقدير ضمير فى تلك الجملة الا ان يقال فى قوله تعالى فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) وضع المظهر موضع الضمير مغن عنه يعنى فيها وقال البيضاوي هذا خبرا وحال اخر منه او من الأنهار او متعلق بتجرى او بيهديهم.
دَعْواهُمْ اى دعاؤهم فِيها اى فى الجنات سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ اى اللهم نسبحك تسبيحا اى ننزهك من كل سوء قال البغوي قال اهل التفسير هذه الكلمة علامة بين اهل الجنة والخدم فى الطعام فاذا أرادوا الطعام قالوا سبحانك اللهم فاتوهم فى الوقت بما يشتهون على الموائد كل مائدة ميل فى ميل على كل مائدة سبعون الف صحفة فى كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضا وإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله عز وجل فذلك قوله تعالى وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقيل دعواهم اى قولهم وكلامهم فيها تلذذا سبحانك اللهم روى مسلم واحمد وابو داود عن جابر فى حديث مرفوع ان اهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها اى فى الجنّة سلام اى يحيى بعضهم بعضا بالسلام وتدخل «1» عليهم الملائكة من كل باب يقولون سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام ويقرأ الله تعالى
__________
(1) في الأصل ويدخلون.(5/11)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
عليهم السلام روى ابن ماجة وابن ابى الدنيا والدار قطنى والآجري عن جابر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم بينا اهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رءوسهم فاذ الرب تبارك وتعالى اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا اهل الجنة وذلك قول الله تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ الحديث- وروى احمد والبزار وابن حيان عن ابن عمر انّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أول من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسير بهم الثعور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته ايتوهم فحيوهم فتقول الملائكة ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك فتأمرنا ان نأتى هؤلاء ونسلم عليهم قال انهم كانوا عبادى يعبدوننى ولا يشركون بي شيئا وتسير بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته فى صدره لا يستطيع لها قضاء قال فتأتيهم الملائكة عند ذلك يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ... وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) لعل المعنى انهم إذا دخلوا الجنة وماينوا عظمة الله تعالى مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة والله سبحانه بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات فحمدوا الله تعالى واثنوا عليه بصفات الإكرام وان هى المخففة من الثقيلة قلت وجاز ان يكون مفسرة لانّ فى الدعاء معنى القول قال البغوي يفتحون كلامهم بالتسبيح ويختمونه بالتحميد ويتكلمون بينهما بما أرادوا-.
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اى يسرعه إليهم اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ قال ابن عباس هذا فى قول الرجل عند الغضب لاهله وولده لعنكم الله ولا بارك فيكم كذا قال قتادة ومعنى الاية لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الذي دعوه واستعجلوه تعجيلا كتعجيله لهم الخير حين دعوه واستعجلوه فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه ووضع استعجالهم موضع تعجيله لهم للاشعار بسرعة اجابة لهم فى الخير حتى كانّ استعجالهم به تعجيل لهم وبان المراد بالشر الشر الذي استعجلوه- قيل نزلت الاية فى النضر بن الحارث حين قال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ اى لأميتوا وأهلكوا قرا ابن عامر ويعقوب لقضى بفتح القاف والضاد على البناء(5/12)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
للفاعل وأجلهم بالنصب على المفعولية والباقون بضم القاف وكسر الضاد على البناء للمفعول ورفع أجلهم فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا اى لا يخافون البعث والعذاب فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) جملة فنذر معطوف على فعل محذوف دل عليه الشرطية تقديره ولكن لا تعجل ولا نقضى فنذرهم امهالا واستدراجا-.
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ الشدة والبلاء دَعانا لازالته مخلصا فيه لِجَنْبِهِ ملقيا بجنبه اى مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال يعنى يدعو لازالته كائنا على اى حال كان سواء كان قائما او قاعدا او راقدا يعنى يدعو فورا ويستمر عليه فى جميع الأحوال فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ اى مضى على طريقه واستمر على كفره ولم يشكر كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أصله كانّه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن يعنى كان لم يكن فى ضر وبلاء ولم يدعنا قط إِلى كشف ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ اى مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) من الانهماك فى الشهوات والاعراض عن الذكر والعبادات.
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا اهل مكة لَمَّا ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر واستعمال القوى والجوارح فيما لا ينبغى لمّا ظرف لاهلكنا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحة عطف على ظلموا او حال من فاعله بتقدير قد فالاهلاك ترتب على الكفر بعد تمام الحجة بمجيء الرسل كما يدل عليه قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ... وَما كانُوا اى القرون الظالمة عطف على وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ... لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي اى ما استقام لهم ان يؤمنوا لفساد استعدادهم حيث كان مبادى تعيناتهم ظلال اسم المضل فخذ لهم الله تعالى او ما كانوا مؤمنين فى علم الله الأزلي بل كان الله يعلم انهم يموتون على الكفر وقيل ما كانوا معطوف على ظلموا كَذلِكَ اى مثل ذلك الجزاء وهو الإهلاك بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم على الكفر بعد ما تحقق انه لا فائدة فى إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) اى نجزى كل مجرم او نجزيكم فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم وانهم هم المستحقون لهذا الاسم.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا كفار مكة خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد(5/13)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
القرون التي أهلكناهم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) خيرا او شرّا فيعاملكم على مقتضى أعمالكم وهل تعتبرون بهم فتصدقوا رسلنا- وكيف منصوب بتعملون لا بننظر لان معنى الاستفهام يقتضى صدر الكلام وفيه دلالة على ان المعتبر فى الجزاء جهات الافعال وكيفياتها لا هى من حيث ذواتها ولذلك يحسن الافعال تارة ويقبح اخرى عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الدنيا حلوة خضرة وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون-.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قال قتادة يعنى على مشركى مكة وقال مقاتل وهم خمسة عبد الله بن أبيّ المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن ابى قبيس العامري والعاص بن عامر بن هشام بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على كونها من عند الله تعالى قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا اى لا يخافون البعث وينكرون القيامة ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا اى بكتاب اخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من الثواب والعقاب بعد الموت وما نكرهه من معائب الهتنا أَوْ بَدِّلْهُ بان تجعل مكان اية آية اخرى قال مقاتل قال النفر الخمسة المذكورة للنبى صلى الله عليه وسلم ان تريد ان نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وليس فيه عيبها وان لم ينزلها الله فقل أنت من عند «1» نفسك او بدله فاجعل مكان اية عذاب اية رحمة او مكان حرام حلالا وحلال حراما قُلْ لهم يا محمد ما يَكُونُ لِي قرا الحرميان وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها اى ما يصلح لى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها اى من قبل نفسى تلقاء مصدر استعمل ظرفا اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن اخر او لان التبديل مقدور للانسان بان يقرا اية الرحمة مكان اية العذاب بخلاف إتيان قران اخر معجز مثله او لان المراد بالتبديل هاهنا أعم من تبديل القران بقرآن اخر او اية مكان اية إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ تعليل لقوله ما يَكُونُ لِي فان المتبع لغيره فى امر لا يستبد بالتصرف فيه بوجه- وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرّضوا له بهذا السؤال من ان القران كلامه واختراعه ولذلك
__________
(1) فى الأصل من عندك نفسك(5/14)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
قيد التبديل فى الجواب بقوله مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي وسماه عصيانا حيث قال إِنِّي قرا الحرميان وابو محمد وابو جعفر ابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بالتبديل عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) اى يوم القيامة وفيه ايماء بانهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح-.
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ غير ذلك او عدم تلاوتى عليكم لم ينزل القرآن علىّ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ اى لا أعلمكم الله على لسانى بِهِ قرا البزي عن ابن كثير لادريكم بالقصر على الإيجاب ولام التأكيد يعنى لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولعلمكم به من غير قراءتى على لسان غيرى وفيه اشارة الى انه الحق الذي لا محيص عليه لو لم أرسل به لارسل به غيرى فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً اى زمانا وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزول القران ولم اتكم بشيء ما لم يوح الىّ وفيه اشارة الى كون القران معجزا خارقا للعادة فان من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما ولم يشاهد عالما ولم ينشأ شعرا ولا خطبة ثم قرأ عليهم كتابا بدت فصاحته فصاحة كل منطيق وعلا كل منظوم ومنثور واحتوى على قواعد الأصول والفروع واغرب عن قصص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هى عليه علم انه معلم به من الله تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) اى أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر فيه لتعلموا انه ليس من قبل نفسى بل من عند الله- (فائدة) لبث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم قبل الوحى أربعين سنة ثم اوحى اليه فاقام بمكة بعد الوحى ثلاث عشرة سنة ثم هاجر فاقام بالمدينة عشر سنين وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة كذا روى مسلم عن ابن عباس قال محمد بن يوسف الصالحي اتفق العلماء على انه صلى الله عليه وسلم اقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وبمكة قبل النبوة أربعين سنة وانما الخلاف فى قدر إقامته بمكة بعد النبوة قبل الهجرة والصحيح انه ثلاث عشرة سنة وذكر البغوي برواية انس انه صلى الله عليه وسلم اقام بمكة بعد الوحى عشر سنين وتوفى وهو ابن ستين سنة وكذا روى ابن اسعد وعمرو بن شيبة والحاكم فى الإكليل عن ابن عباس قال البغوي والاول أشهر واظهر وقد روى مسلم عن انس انه قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وكذا ابو بكر وعمر وروى ابو داؤد الطيالسي ومسلم عن معاوية بن ابى سفيان(5/15)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
قال قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة وكذا أبو بكر وعمر وروى الشيخان عن عائشة قالت توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة قال النووي وهو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء- وروى احمد ومسلم عن عمار بن ابى عمار قال قلت لابن عباس كم اتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات قال أتحسب قلت «1» نعم قال امسك أربعين بعث بها وخمس عشرة اقام بمكة يأمن ويخاف وعشرة مهاجرة بالمدينة وروى الحاكم فى الإكليل عن على بن ابى زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة قال الحاكم فى الإكليل والنووي اتفق العلماء على ان أصح الروايات ثلاث وستين سنة وتأولوا الباقي على ذلك فرواية الستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسور ورواية الخمس والستين متأوّلة عليها او حصل فيها شك وقد أنكر عروة على ابن عباس قوله خمس وستون سنة ونسبه الى الغلط وانه لم يدرك أول النبوة بخلاف الباقين- قال محمد بن يوسف الصالحي اكثر الرواة عن ابن عباس حكوا عنه رواية ثلاث وستين فالظاهر انه كان قال ذلك ثم رجع الى ما عليه الأكثر والله اعلم وحكى القاضي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب رواية شاذة انه بعث على رأس ثلث وأربعين والصواب أربعون-.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فزعم ان له شريكا او ولدا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها إِنَّهُ اى الشأن لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) اى لا ينجوا المشركون.
وَيَعْبُدُونَ اى كفار مكة مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ ان تركوا عبادته وَلا يَنْفَعُهُمْ ان عبدوه يعنى الأصنام فانها جمادات لا تقدر على نفع ولا ضر والمعبود ينبغى ان يكون مثيبا ومعاقبا حتى يعود عبادته بجلب نفع او دفع ضر وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ الأصنام شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ يشفع لنا فيما يهمنا من امور الدنيا وفى الاخرة ان يكن بعث قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ أتخبرونه بِما لا يَعْلَمُ وهو ان له شريكا وفيه تقريع وتهكم بهم إذ هؤلاء شفعاء وما لا يعلم الله لا تحقق له أصلا فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف مؤكد لنفيه وفيه اشارة الى ان ما يزعمونه الها فهو اما سماوى كالملائكة او ارضى كالاصنام
__________
(1) فى الأصل قال-(5/16)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
وليس شيء من الموجودات فيهما الا وهو حادث مقهور مثلهم لا يليق ان يشرك به سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) اى عن اشراكهم او عن الشركاء الذين يشركون به قرا حمزة والكسائي تشركون بالتاء على الخطاب للكفار هاهنا وفى سورة النحل فى موضعين وفى سورة الروم والباقون بالياء على الغيبة.
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحدين على الفطرة او متفقين على الإسلام وذلك فى عهد آدم عليه السلام الى قبيل بعثة نوح او بعد الطوفان او من عهد ابراهيم الى عمر بن لحى او على الضلال فى زمن فترة الرسل فَاخْتَلَفُوا باتباع الهوى والأباطيل او ببعثة الرسل حين تبعهم طائفة وأصرت على الكفر اخرى وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بان جعل لكل امة أجلا وقال الكلبي هى امهال هذه الامة وان لا يهلكهم بالعذاب فى الدنيا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بنزول العذاب فى الدنيا وتعجيل العقوبة للمكذبين وكان ذلك فضلا بينهم فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) قال الحسن لولا كلمة سبقت من ربك مضت فى حكمه انه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه بالثواب والعقاب دون القيامة لقضى فى الدنيا فادخل المؤمن الجنة والكافر النار ولكنه سبق من الله الاجل فجعل موعدهم يوم القيامة.
وَيَقُولُونَ يعنى كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على محمد آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ من الآيات التي اقترحوها فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فهو العالم بالصارف عن إنزال الآيات المقترحة لا غير او المعنى الغيب يعنى ما غاب عن الناس اى امره تعالى عنده فَانْتَظِرُوا نزول الآيات المقترحة او فانتظروا بقضاء الله بيننا وبينكم بإظهار المحق على المبطل إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) لما يفعل الله بكم بجحودكم على ما نزل علىّ من الآيات العظام واقتراحكم غيرها-.
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ اهل مكة رَحْمَةً خصبا وسعة وصحة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ قحط وشدة ومرض مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قال مجاهد تكذيب واستهزاء قلت المكر عبارة عن ارادة الشر بغيره على وجه الإخفاء وانما سمى تكذيب الآيات والاستهزاء بها مكرا لان الظاهر فيه تكذيب الرسول وارادة الشرّ به(5/17)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
عليه السلام دون تكذيب الله سبحانه لكن الشر والتكذيب يعود الى الله فانها فى الحقيقة كلامه تعالى- وقال مقاتل بن حيان مكرهم انهم لا يقولون هذا رزقنا الله بل يقولون سقينا بنوء كذا وقيل مكرهم احتيالهم فى دفعها والطعن فيها قيل قحط اهل مكة فلما كشف الله عنهم ورحمهم اسرعوا الى الكفر والاستهزاء بايات الله تعالى قبل ان يؤدوا شكر النعمة روى البخاري ان النبي صلى الله عليه وسلم لما راى من الناس إدبارا قال اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فاخذتهم سنة حصب كل شيء حتى أكلوا الجلود والميّت والجيف فاتى ابو سفيان فقال يا محمد انك تأمر بطاعة الله وصلة الرحم وان قومك قد هلكوا فادع الله لهم ان يكشف عنهم فدعا- وفى رواية قالوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ فقيل له ان كشفت عنهم عادوا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه فكشف الله عنهم فعادوا فانتقم الله منهم يوم بدر ولمّا كان كلمة إذا للمفاجاة دالة على سرعة مكرهم قال الله تعالى قُلِ يا محمد اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم والمكر من الله تعالى اما الاستدراج كما يدل عليه قول على رضى الله عنه من وسع الله عليه دنياه ولم يعلم انه مكر به فهو مخدوع عن عقله قلت يعنى من وسع الله عليه الدنيا وهو غير شاكر- واما الجزاء على المكر وكونه تعالى اسرع مكرا من الناس انه دبر عقابهم او استدراجهم قيل ان يدبروا كيدهم وقيل معناه ان عذابه فى إهلاككم اسرع إليكم مما يأتى منكم فى دفع الحق فان ما أراد الله بكم ات لا محالة وهو قادر على ما يريد وأنتم لا تقدرون على دفع الحق إِنَّ رُسُلَنا اى حفظتنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) قرأ يعقوب يمكرون بالياء على الغيبة موافقا لما سبق والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب تحقيق للانتقام وتنبيه على ان ما دبروا فى اخفائه لم يخف عن الحفظة فضلا من ان يخفى على خالق الأشياء كلها من الاعراض والجواهر-.
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ اى يحملكم على السير ويمكنكم منه كذا قرا الجمهور وقرا ابن عامر وابو جعفر ينشركم بالنون والشين من النشر فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ اى السفن الفلك لفظ مشترك بين الواحد والجمع والمراد هاهنا الجمع بدليل قوله تعالى وَجَرَيْنَ بِهِمْ اى بمن فيها عدل عن الخطاب الى الغيبة للمبالغة(5/18)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
فانه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم وينكر عليهم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ اى لينة الهبوب الموصلة الى المقصود وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها جواب إذا والضمير للفلك او للريح الطيبة بمعنى تلقاها رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف اى شدة الهبوب وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ وهو ما علا من الماء لشدة الريح مِنْ كُلِّ مَكانٍ يجيء منه وَظَنُّوا لم يقل أيقنوا لان اليقين لا يتصور فيما يكون فى المستقبل بمجرد القرائن أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ يعنى أحاط بهم الموج والمهلكات بحيث لا سبيل الى الخلاص كمن أحاط به العدو دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ 5 اى أخلصوا فى الدعاء لله ولم يدعوا أحدا سوى الله وكانت العرب لا يدعون فى الشدائد الا الله تعالى وقوله دَعَوُا اللَّهَ بدل اشتمال من ظنوا لان دعاءهم من لوازم ظنهم لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربنا مِنْ هذِهِ الريح العاصف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) هذه الجملة الشرطية اما على ارادة القول او مفعول دعوا لانه من جملة القول وليس الكون فى الفلك غاية للتسيير بل مضمون الجملة الشرطية بعد حتى بما فى حيزها كانّه قيل حتى إذا كان كيت وكيت مجيء الريح وتراكم الأمواج والظن بالهلاك والدعاء بالانجاء.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ يعنى فاجئوا وسارعوا الى ما كانوا عليه من البغي اى الظلم على الناس والتجاوز عن حدود الإباحة الى الفساد فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ اى مبطلين فيه تأكيد لقوله يبغون فان البغي لا يكون متلبسا «1» بالحق وفيه دفع لتوهم تخريب المسلمين ديار الكفار وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم فانها بإذن الله تعالى ليجزى الفاسقين ويهديهم الى الصلاح يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فان وباله راجع عليكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم واسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم رواه الترمذي وابن ماجة بسند حسن عن عائشة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه فهى راجعة على صاحبها البغي والمكر والنكث رواه ابو الشيخ وابن مردوية فى التفسير والخطيب عن انس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما رواه ابن لال عن ابى هريرة مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا
__________
(1) في الأصل ملتبسا.(5/19)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
اى منفعة غير باقية قرا حفص بالنصب مصدر مؤكد اى تمتعون متاع الحيوة الدنيا او مفعول للبغى لانه بمعنى الطلب فيكون الجار والمجرور من صلته والخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحيوة الدّنيا محذور او ضلال- او مفعول فعل دل عليه البغي وعلى أنفسكم خبر وقرا الباقون بالرفع على انه خبر بغيكم بعد خبر او هو خبر وعلى أنفسكم صلة او خبر محذوف تقديره ذاك متاع الحيوة الدّنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ بالموت او يوم القيامة فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) بالجزاء عليه-.
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا اى حالها العجيبة فى سرعة زوالها واغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ اى اشتبك وخالط بعضه بعضا بِهِ اى بسبب الماء نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الحبوب والثمار والبقول وَالْأَنْعامُ من الحشيش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها وبهجتها بألوان النبات والازهار وَازَّيَّنَتْ أصله تزينت كذا قرا ابن مسعود وَظَنَّ أَهْلُها اى اهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها اى على الأرض بمعنى انهم متمكنون من تحصيل ثمرتها بالجزاز والقطاف والحصاد ورفع غلتها والانتفاع بها أَتاها أَمْرُنا اى قضاؤنا بضرب زرعها ببعض العاهات بعد استيقانهم انه قد سلم لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها اى زرعها حَصِيداً اى شبيها بالمحصود من أصله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ اى كان لم تلبث زرعها فحذف المضاف فى الموضعين مبالغة وأقيم المضاف اليه مقامه مشتق من غنى بالمكان إذا اقام به بِالْأَمْسِ اى قبيل ذلك الزمان وهو مثل فى الوقت القريب الماضي والممثل به مضمون الحكاية وهو زوال خضرة النبات وبهجتها فجاءة وذهابها حطاما بعد ما كان غصنا وزين الأرض حين طمع فيه اهله وظنوا انه قد سلم من الجوائح لا الماء وان كان متصلا بحرف التشبيه لانه من التشبيه المركب قال قتادة معناة المتشبث بالدنيا يأتيه امر الله وعذابه اغفل ما يكون كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) فانهم هم المنتفعون به.
وَاللَّهُ يَدْعُوا جميع الناس إِلى دارِ السَّلامِ اى دار السلامة(5/20)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
عن الهلاك والآفات وهى الجنة وقال قتادة السلام هو الله تعالى وداره الجنة وتخصيص هذا الاسم للتنبيه على ذلك عن جابر قال جاءت ملائكة الى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا ان لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا قال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان فقالوا مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة- فقالوا اوّلوها له يفقهها قال بعضهم انه نائم وقال بعضهم ان العين نائمة والقلب يقظان فقالوا الدار الجنة والداعي محمد فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله محمد فرق بين الناس رواه البخاري ورواه الدارمي عن ربيعة الجرشى نحوه بلفظ قيل لى سيد بنى دارا وصنع مأدبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال فالله السيد ومحمد الداعي والدار السلام والمأدبة الجنة- وقيل المراد بالسلام التحية سميت الجنة دار السلام لان أهلها يحيّى بعضهم بعضا بالسلام والملئكة يدخلون عليهم من كلّ باب يقولون سلم عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدّار ويَهْدِي من الناس مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) وهو دين الإسلام وطريق السنة وطريق الوصول اليه تعالى وفى تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشية دليل على ان الأمر غير الارادة وان الكافر لم يرد الله هدايته-.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا العمل فى الدنيا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك فى الصحيحين من حديث عمر فى قصة سوال جبرئيل الْحُسْنى يعنى المثوبة الحسنى اى الجنة اخرج ابن مردوية عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا شهادة ان لا اله الا الله الحسنى الجنة والزيادة النظر الى الله وَزِيادَةٌ وهو النظر الى وجه الله الكريم كذا روى ابن جرير وابن مردوية عن ابى موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يبعث الله تعالى يوم القيامة مناديا ينادى بصوت يسمعه أولهم وآخرهم يا اهل الجنة ان الله وعدكم الحسنى(5/21)
وزيادة الحسنى الجنة وزيادة النظر الى وجه الرحمن وكذا روى ابن جرير وابن مردوية واللالكاني وابن ابى حاتم من طرق عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه روى ابن مردوية وابو الشيخ واللالكاني من طريقين عن انس مرفوعا وابو الشيخ عن ابى هريرة مرفوعا نحوه وابن جرير وابن مردوية وابن المنذر وابو الشيخ فى تفاسيرهم واللالكاني والآجري فى كتاب الرؤية عن ابى بكر الصديق وابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ واللالكاني والآجري عن حذيفة ابن اليمان فى الاية نحوه واخرج هناد وابن ابى حاتم وابو الشيخ واللالكاني عن ابى موسى الأشعري نحوه وابن مردوية من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه واخرج ابن ابى حاتم واللالكاني من طريق عن عكرمة عن ابن عباس نحوه واخرج ابن ابى حاتم واللالكاني من طريق السدىّ عن ابى مالك وعن ابى صالح عن ابن عباس وعن عروة عن ابن مسعود نحوه واخرج اللالكاني هذا التفسير بأسانيده عن سعيد بن المسيب وحسن البصري وعبد الرحمن بن ابى ليلى وعامر بن سعيد البجلي وابن ابى إسحاق السبيعي وعبد الرحمن بن سابط وعكرمة ومجاهد وقتادة قال القرطبي فى كتاب الرؤية هذا تفسير قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين ومثله لا يقال الا بتوقيف روى مسلم وابن ماجة عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل اهل الجنة الجنة يقول الله تريدون شيئا أزيدكم فيقولون الم تبيض وجوهنا الم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار قال فيكشف الحجاب فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر الى ربهم ثم تلا هذه الاية وروى البغوي بسنده هذا الحديث بلفظ قرا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وقال إذا دخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار نادى مناديا اهل الجنة انّ لكم عند الله موعدا يريد ان ينجزكموه فقالوا ما هذا الموعد الم تثقل موازيننا وتبيض وجوهنا وتدخلنا الجنة وتجرنا من النار قال فيرفع الحجاب فينظرون الى الله عز وجل قال فما اعطوا شيئا أحب إليهم من النظر اليه قال القرطبي قوله فيكشف الحجاب معناه يرفع الموانع عن الرؤية عن أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نور العظمة والجلال فذكر الحجاب انما هو فى حق الخلق لا الخالق تعالى وتقدس وَلا يَرْهَقُ اى لا يغشى وُجُوهَهُمْ(5/22)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
قَتَرٌ اى غبرة فيها سواد كذا روى ابن ابى حاتم وغيره عن ابن عباس وابن مسعود وَلا ذِلَّةٌ اى هو ان كما يرهق اهل النار أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) دائمون فيها لا زوال فيها ولا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا وزخارفها-.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوز فى الدار زيد والحجرة عمرو او هو مبتدا خبره جزاء سيّئة تقديره جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها اى نجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها وجاز ان يكون خبره كَأَنَّما أُغْشِيَتْ او أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وما بينهما اعتراض وقوله جزاء سيئة مبتدا خبره محذوف اى جزاء سيئة واقع او مقدر بمثلها او الخبر بمثلها على زيادة الباء وَتَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ هو ان ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ من زائدة يعنى مالهم أحد يعصمهم من سخط الله او مالهم أحد من جهة الله او من عنده من يعصمهم من عذاب الله كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً جمع قطعة مفعول ثان لاغشيت مِنَ اللَّيْلِ صفة لقطعا مُظْلِماً حال من الليل والعامل فيه أغشيت لان العامل فى موصوفه عامل فيه او معنى الفعل فى من الليل وقرا ابن كثير والكسائي ويعقوب قطعا ساكن الطاء اى بعضا كقوله تعالى بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وعلى هذا يصح ان يكون مظلما صفة لقطعا او حال منه أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) احتجت المعتزلة بهذه الاية على خلود اصحاب الكبائر فى النار وردّ قولهم بان السيئات يعم الصغائر والكبائر والكفر فلو كانت الاية على عمومها لزم خلود اصحاب الصغائر ايضا ولم يقل به أحد وايضا يأبى عنه قوله تعالى جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها فانه يقتضى ان يكون جزاء الكبائر دون الكفر فوق الصغائر فلا يتصور الحكم بالخلود على العموم فمرجع الاشارة ليس الذين كسبوا السيئات على العموم بل بعضهم وهم الكفار كما فى قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ بعد قوله وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ وجاز ان يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الكفار لان الذين أحسنوا يتناول(5/23)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
اصحاب الكبائر من اهل القبلة فان الايمان رأس الحسنات فلا يتناولهم قسيمه ويمكن ان يقال المراد بالذين كسبوا السيئات الموجودون «1» فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون الموجودون فى ذلك الزمان كانوا اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عدول كلهم بالإجماع ما كسب أحد منهم سيّئة إلا تاب وغفر والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فالمسئ فى ذلك الزمان لم يكن الا كافرا والله اعلم-.
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعنى الفريقين ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ اى الزموا مكانكم حتّى تنظروا ما نفعل بكم أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل الى قوله مكانكم من عامله المحذوف اعنى الزموا وَشُرَكاؤُكُمْ عطف على الضمير المذكور يعنى الأوثان فَزَيَّلْنا اى فرقنا بَيْنَهُمْ يعنى قطّعنا الوصل الّتي كانت بينهم فى الدنيا حتّى تبرّا كل معبود من دون الله ممن عبده وقيل معناه ميّزنا بينهم وبين المؤمنين كما فى قوله تعالى وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ... وَقالَ لهم شُرَكاؤُهُمْ يعنى الأصنام ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) بطلبنا منكم العبادة ينطق الله بذلك الأصنام فيشافههم بالتبرّى مكان الشفاعة الّتي كانوا يرجون منها وقيل المراد بالشركاء الملائكة والمسيح فانهم ما أمروا بها ولا رضوا بها فاذا قالت المعبودون بالباطل ذلك- قالت الكفار بلى كنا نعبدكم فيقول الأوثان.
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ فانه هو العالم بكنه الأشياء إِنْ كُنَّا مخففة من الثقيلة يعنى انّا كنّا عَنْ عِبادَتِكُمْ إيانا لَغافِلِينَ (29) اللام هى الفارقة وجاز ان يكون ان نافية واللام بمعنى الا يعنى ما كنا الا غافلين عن عبادتكم لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل.
هُنالِكَ اى فى ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ اى تختبر وتعلم ما قدمت من عمل فيعائن نفعها «2» وضررها قرا حمزة والكسائي تتلوا بالتائين الفوقانيتين من التلاوة اى تقرأ صحيفتها او من العلو اى تتبع عملها فتقودها الى الجنة او الى النار وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ اى الى حكمه او الى جزائه إياهم بما اسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِّ اى ربهم ومتولى أمورهم على الحقيقة لا ما اتخذوه اولياء فان
__________
(1) فى الأصل الموجود [.....]
(2) فى الأصل نفعه وضرره-(5/24)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
قيل أليس الله قد قال وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ قلنا المولى هنالك بمعنى الناصر وهاهنا بمعنى الرب والمالك وَضَلَّ عَنْهُمْ اى زال وبطل عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) من ان الهتهم يشفع لهم- او ما كانوا يدعون انها الهة-.
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بانزال المطر والبركة وَالْأَرْضِ بالانبات وقيل من لبيان من الموصولة على حذف المضاف اى من اهل السماء والأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فيسمعكم ويبصركم ما شاء إسماعه وابصاره وجرى به عادته او من اعطاكم السمع والابصار ومن يستطيع خلقهما وتسويتهما او من يحملهما عن الآفات مع كثرتها فى المدد الطوال وسرعة انفعالهما عن ادنى شيء وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ الحيوان مِنَ الْمَيِّتِ من النطفة والبيضة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ اى النطفة والبيضة مِنَ الْحَيِّ من الحيوان وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى يقضى الأمور ويعلم عواقبها فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ خبر مبتدا محذوف اى هو الله يعنى لا يقدرون على اسناد هذه الأمور الى ما يدعونه الهة لظهور بطلانه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) أنفسكم عقابه باشراككم إياه ما لا يقدر على شيء مما ذكر.
فَذلِكُمُ اى من يفعل هذه الأشياء اللَّهُ المستحق للعبادة رَبُّكُمُ الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان حيث خلقكم ورزقكم ودبر أموركم الْحَقُّ الثابت المتحقق الّذي لا شبهة فى وجوده ولا فى ألوهيته فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام انكار اى ليس شيء غير الحق الا الضّلال فمن يخطى الحق الّذي هو عبادة الله تعالى وقع فى الضلالة فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) عن الحق الى الضلال مع قيام البرهان.
كَذلِكَ يعنى كما تحققت الربوبية لله تعالى وان ليس بعد الحق الا الضلال او كما صرف هؤلاء عن الايمان حَقَّتْ ثبتت ووجبت كَلِمَةُ رَبِّكَ اى حكمه السابق لاملانّ جهنّم من الجنّة والنّاس قرا ابو جعفر ونافع وابن عامر كلمات ربّك على الجمع والباقون بالإفراد عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا خرجوا عن حد الاستصلاح وتمردوا فى كفرهم أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)(5/25)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
بدل من الكلمة او تعليل لحقيقتها والمراد بها العدة بالعذاب-.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الاعادة كالابداء فى الإلزام بها لظهور برهانها وان كانوا منكرين لها ولذلك امر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ان ينوب عنهم فى الجواب فقال قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد اعدامه كما كان فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) تصرفون عن عبادته الى عبادة غيره مع قيام البرهان.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ بنصب الدلائل وإرسال الرسل والتوفيق الى النظر الصحيح وخلق الهداية- والهدى كما يعدى بالى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام ايضا للدلالة على ان المنتهى هو المقصود بالهداية فقال قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ لا يستطيع ذلك غيره أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ يعنى الله سبحانه تعالى أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ممّن لا يهدى أَمَّنْ لا يَهِدِّي قرا ابن كثير وورش وابن عامر بفتح الياء والهاء وتشديد الدال وقالون وابو عمرو كذلك الا انهما يخفيان حركة الهاء والنص عن قالون الإسكان وقرا اليزيدي عن ابى عمرو كانّ يشم الهاء شيئا من الفتح وأبو بكر بكسر الياء والهاء وحفص ويعقوب بفتح الياء وكسر الهاء والأصل فى هذه القراءات يهتدى فادغمت التاء فى الدال وفتحت الهاء بحركة التاء او كسرت لالتقاء الساكنين وكسرت الياء على قراءة ابى بكر باتباع الهاء ولم يبال «1» ابو عمرو بالتقاء الساكنين لان المدغم فى حكم المتحرك وقرا حمزة والكسائي بفتح الياء واسكان الهاء وتخفيف الدال من المجرد من قولهم هدى بنفسه إذا اهتدى او بمعنى لا يهدى غيره والمعنى امن لا يهدى غيره او لا يهتدى بنفسه فضلا من ان يهدى غيره أحق بالاتباع ممن يهدى غيره إِلَّا أَنْ يُهْدى استثناء مفرغ منصوب على الظرفية يعنى لا يهدى فى شيء من الأوقات الا ان يهديه الله اى الا وقت هداية الله إياه فحينئذ يهتدى بنفسه ويهدى غيره وهذا حال اشراف شركائهم كالملائكة والمسيح وعزير وقيل معنى الهداية الانتقال من مكان الى مكان اخر فيشتمل الأصنام ايضا يعنى الا ان
__________
(1) هذا التوضيح متفرع على قراءة الإسكان لا على قراءة الاختلاس ابو محمّد.(5/26)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
تحمل وتنقل يبين به عجز الأصنام فَما لَكُمْ ايها الكفار كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) بما هو باطل بالبداهة.
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فيما يعتقدونه إِلَّا ظَنًّا غير مستند الى برهان عقلى او نقلى بل الى خيالات فارغة وأقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة والمراد بالأكثر المجموع او من ينتمى منهم الى تميز ونظر ولا يرضى بالتقليد الصرف إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي اى لا يفيد مِنَ الْحَقِّ من العلم والاعتقاد الحق شَيْئاً من الإغناء او لا يفيد شيئا كائنا من الحق وفيه دليل على انه لا يجوز فى الاعتقاديات الاكتفاء بالظن والتقليد بل لا بد فيه من تحصيل العلم بالبرهان النقلى او العقلي إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وعيد على الاعراض عن الحجج العقلية والنقلية اتباعا للظن والتقليد-.
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ المعجز أَنْ يُفْتَرى مصدر بمعنى المفعول خبر كان مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ اى مصدق منصوب على انه خبر لكان مقدرا او علة لفعل محذوف تقديره ولكن أنزله الله لتصديق الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعنى محمّدا صلى الله عليه وسلم او الكتب المنزلة المتقدمة او القيامة او البعث الّذي اخبر بها الكتب المتقدمة فلا يكون كذبا وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ اى تبيين لما فى اللوح المحفوظ من الحلال والحرام والفرائض والاحكام لا رَيْبَ فِيهِ منتفيا عنه صلاحية الريب لكونه معجزا مطابقا للكتب المتقدمة خبر ثالث داخل فى حكم الاستدراك او استيناف مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) خبر اخر تقديره كائنا من ربّ العالمين او متعلق بتصديق او بتفصيل ولا ريب فيه اعتراض او بالفعل المعلل بهما او حال من الكتاب او من ضمير فيه وفى الاية تنبيه على ما يجب اتباعه بعد المنع عن اتباع الظن.
أَمْ يَقُولُونَ بل أيقولون ومعنى الهمزة فيه للانكار افْتَراهُ اختلقه محمّد صلى الله عليه وسلم قُلْ يا محمّد ردّا لقولهم فَأْتُوا بِسُورَةٍ(5/27)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
الفاء جزاء لمقدر يعنى ان افتريته فأتوا أنتم ايضا بسورة مِثْلِهِ اى شبيها للقران فى البلاغة وحسن النظم وقوة المعنى على وجه الافتراء فانكم مثلى فى العربية والفصاحة وأشد تمرّنا فى النظم والعبارة وَادْعُوا مع ذلك مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعوته ممّن يعينكم عليه مِنْ دُونِ اللَّهِ اى غيره تعالى فان غيره تعالى لا يقدر على إتيان مثله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) فى ان محمّدا افتراه شرط مستغن عن الجزاء بما مضى يعنى فأتوا فلم يقدروا على ذلك- ولمّا كان فى هذه الاية دعوتهم الى المناظرة وطلب الحق بالتفكر فى نظم القران ومعانيه قال الله تعالى.
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ يعنى ان كلامهم وانكارهم للقران ليس مبتنيا على التحقيق والتفكر بل كذبوا به أول ما سمعوه قبل ان يتفكروا فيه ويحيطوا بالعلم بشأنه وادراك انه ليس من جنس ان يمكن إتيانه من البشر وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ اى لم يأتهم بعد العلم بعاقبة ما فى القران من الوعد والوعيد والاخبار بالغيوب من المبدأ والمعاد وكان يمكنهم تحصيل ذلك العلم من علماء الكتب المنزلة المتقدمة حتّى يتبين لهم صدق هذا الحديث- والمعنى ان القران معجز من جهة النظم والمعنى ظاهر صدقه على من يتامل فيه ادنى تأمل ويتفكر ويبحث عن علومه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل سارعوا فى تكذيبه قبل ان يتدبروا فى نظمه ويتفحصوا عن معناه ومعنى التوقع فى لمّا انه قد ظهر لهم بالاخر اعجازه لما كرد عليهم التحدي وجرّبوا أقواهم فى معارضته فتضالت دونها وشاهدوا وقوع بعض ما اخبر به مطابقا لما أخبره مرارا كما فى قوله فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا وقوله غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ وقوله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ وغير ذلك فمنهم من أمن بعد ذلك ومنهم من لم يؤمن تمردا وعنادا قال الله تعالى يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وقال وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ... كَذلِكَ اى كما فعل هؤلاء بالقران كذلك كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى كذب(5/28)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
كفار الأمم الخالية كتبهم وأنبياءهم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) فيه وعيد لهم ان لم يؤمنوا بمثل ما عوقب به من قبلهم.
وَمِنْهُمْ اى من المكذبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى يصدق به فى نفسه ويستيقن بعد التفكر فى القران او المعنى ومنهم من يؤمن به فى الاستقبال بعد ما يتضح عليه حقيّة القران فيتوب عن كفره هذا ما دلت عليه كلمة لمّا من التوقع وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ لفرط غباوته وسبق قضاء الله تعالى بموته على الكفر وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) بالمعاندين او المصرين-.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ يعنى ان أصروا على تكذيبك بعد الزام الحجة يا محمّد فَقُلْ يعنى فتبرّأ عنهم وقل لِي عَمَلِي اى جزاؤه وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ اى جزاؤه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ يعنى لا تؤاخذون على عملى ولا يضركم فعلى فلا تؤذوني ولا تهتموا بما فعلت وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) لا أؤاخذ بأعمالكم انما أقول لكم ما أقول نصحا لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما مثلى ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش بعيني وانى انا النذير العريان فالنجا النجا فاطاعه طائفة من قومه فادلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذّبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فاهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصانى وكذب ما جئت به من الحق متفق عليه من حديث ابى موسى الأشعري قال الكلبي ومقاتل هذه الاية منسوخة باية الجهاد كقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ....
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ اى يلقون إليك أسماعهم الظاهرة إذا قرات القران وتكلمت بالحكم والشرائع لكن لا يسمعون بقلوبهم فلا يدركون حقائقها ولطائفها لفساد استعدادهم كالاصم الّذي يريد ان يسمع فلا يسمع لعدم القوة السامعة فى صماخه أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ اى تقدر على اسماع الصم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) اى ولو انضم الى صممهم عدم تعقلهم فان الأصم العاقل ربما تفرس بالقرائن فكما لا تقدر أنت(5/29)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
على اسماع الصم المسلوب عنه العقل لا تقدر على استماع من سلب عن قلبه صلاحبة سماع التفكر والتدبر.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ بأبصارهم ويعائنون ادلة الصدق واعلام النبوة لكنهم لا يصدقون لعدم بصيرة فى قلوبهم أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) اى ولو انضم الى عدم البصر عدم البصيرة فانه لا يهتدى بالطريق الاولى- فيه تسلّية من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول انك لا تقدر ان تسمع من سلبت عنه السمع ولا تهدى من سلبت عنه البصر ولا ان توفق للايمان من حكمت عليه انه لا يؤمن- وتعليل للامر بالتبرّى والاعراض عنهم.
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) فانهم لسوء استعدادهم وفساد اختيارهم لا يقبلون هداية الله ورسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة اخرى انما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلاء فذلك من فقه فى دين ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الّذي أرسلت به متفق عليه من حديث ابى موسى وقيل معناه انّ الله لا يظلم النّاس شيئا بسلب آلات الاستدلال من العقول والحواس ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون بافسادها وتفويت منافعها وترك الاستدلال فالاية دليل على ان العبد له كسب وانه ليس مسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت الجبرية ويجوز ان يكون وعيدا لهم بمعنى ان ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من الله تعالى لا يظلمهم الله به ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابها قرا حمزة والكسائي بتخفيف لكن ورفع الناس والباقون بتشديدها والنصب-.
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ قرا حفص باليا على الغيبة والضمير عائد الى الله(5/30)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
والباقون بالنون على التكلم والتعظيم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا قال ابن عباس فى قبورهم وقال الضحاك فى الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا والقبور لهول ما يرون والجملة التشبيهية فى موقع الحال من الضمير المنصوب فى يحشرهم اى يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث الا ساعة او صفة ليوم والعائد محذوف تقديره كان لم يلبثوا قبله او صفة لمصدر محذوف اى حشرا كان لم يلبثوا قبله يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ اى يعرف بعضهم بعضا كما يتعارفون فى الدنيا كان لم يتفارقوا الا قليلا وهذا حال اخر مقدرة او بيان لقوله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا او متعلق الظرف والتقدير يتعارفون بينهم يوم يحشرهم قال البغوي هذه المعرفة حين بعثوا من القبور ثم ينقطع المعرفة إذا عاينوا اهوال القيامة- وفى بعض الآثار ان الإنسان يعرف من بجنبه ولا يكلمه هيبة وخشية قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ بالبعث على ارادة القول اى يتعارفون بينهم قائلين ذلك او هى شهادة من الله تعالى على خسرانهم حيث استبدلوا الكفر بالايمان والنار بالجنة وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) بطرق استعمال ما اعطوا من اسباب تحصيل المعارف وكسب السعادة استيناف فيه معنى التعجب كانه قيل ما اخسرهم.
وَإِمَّا مركبة من ان شرطية وما زائدة يعنى وان نُرِيَنَّكَ اى نبصرنك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب فى الدنيا كما أراه «1» يوم بدر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ان نريك عذابهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ اى فنريكه فى الاخرة فهو جواب نتوفينك وجواب نرينك محذوف نحو فذاك ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) ذكر الشهادة وأراد نتيجتها ومقتضاها مجازا ولذلك رتبها على الرجوع بثم والمعنى ثم الله يفعل بهم على مقتضى ما شهد منهم من أفعالهم وقيل ثم هاهنا بمعنى الواو قال مجاهد كان البعض الّذي أراه قتلهم يوم بدر وسائر انواع العذاب بعد الموت.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ خلت رَسُولٌ أرسل إليهم
__________
(1) فى الأصل راه.(5/31)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
ليدعوهم الى الإسلام فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ وبين الرسول بِالْقِسْطِ بالعدل فاهلك المكذبون وبحي الرسول والمؤمنون بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) يعنى ما ظلمناهم فى تعذيبهم بل استحقوا ذلك وقال مجاهد ومقاتل معناه لكل امة من الأمم رسول أرسل إليهم فاذا كان يوم القيامة وجاء رسولهم ليشهد عليهم بالكفر او الايمان قضى بينهم بانجاء المؤمنين وتعذيب الكافرين كما قال الله تعالى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وقال فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً-.
وَيَقُولُونَ اى كفار مكة مَتى هذَا الْوَعْدُ الّذي تعدنا يا محمّد من العذاب إِنْ كُنْتُمْ ايها الرسول واتباعه صادِقِينَ (48) فيما وعدتم به شرط حذف جزاؤه يعنى فأتوا به قالوا ذلك تكذيبا واستهزاء.
قُلْ يا محمّد لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً اى دفع ضر او جلب نفع فكيف املك فى جلب العذاب إليكم إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ان يقدرنى فاملكه او المعنى لكن ما شاء الله كائن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة مضروبة فى علم الله تعالى لهلاكهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ اى الوقت المقدر لتعذيبهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً اى لا يتاخرون منه ادنى زمان وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) معطوف على جملة إذا جاء أجلهم يعنى لا تستعجلوا عذابكم فسيجيء وقته وينجز وعدكم.
قُلْ أَرَأَيْتُمْ يعنى أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ تعالى الّذي تستعجلونه بَياتاً وقت اشتغالكم بالنوم أَوْ نَهاراً وقت اشتغالكم بامور معاشكم- وجواب الشرط محذوف يعنى ندمتم على استعجالكم وعرفتم ما اخطأتم ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) استفهام تعجب من استعجالهم شيئا من المكروه- إذ لا شيء من المكروه ما يلائم الاستعجال- وهو متعلق بارايتم وما بينهما اعتراض- والمجرمون مظهر موضع الضمير- وضع للدلالة على ان جرمهم يقتضى ان يفزعوا- لا ان يستعجلوا جزاءه قال البغوي انهم كانوا يستعجلون العذاب ويقول(5/32)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
أحدهم ان كان هذا هو الحقّ من عندك فامطر علينا حجارة من السّماء او ائتنا بعذاب اليم فيقول الله ماذا يستعجلون اى اىّ شيء من العذاب يستعجلونه وكله مكروه- قلت وجاز ان يكون قوله ماذا يَسْتَعْجِلُ إلخ جزاء للشرط كقولك ان أتيتك ماذا تعطينى- والمعنى ان أتاكم عذاب الله اىّ شيء تستعجلون حينئذ هل تستعجلون مثل ذلك العذاب وتختارون بقاءكم فيه او تستعجلون التفصى عنه يعنى لا يستعجلون العذاب حينئذ البته.
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ العذاب الّذي يستعجلونه الظرف متعلق بقوله آمَنْتُمْ بِهِ وهذا معطوف على جزاء الشرط محذوفا كان او مذكورا- تقديره ان أتاكم عذابه ندمتم ثم أمنتم به اى بالعذاب او بمن اخبر به إذا ما وقع يعنى بعد وقوعه والهمزة لانكار تأخير الايمان الى وقت لا يفيد الايمان حينئذ- او تقديره ان أتاكم عذابه اىّ شيء تستعجلون حينئذ يعنى لا تستعجلون حينئذ بالعذاب ثم تؤمنون بالعذاب او بمن اخبر به حين لا ينفعهم وجاز ان يكون هذا جملة شرطية معطوفة على شرطية سابقة وقوله ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ معترضة او جزاء شرطية سابقة والمراد بالعذاب هاهنا عذاب الاخرة وبالعذاب السابق عذاب الدنيا والمعنى ارايتم ان أتاكم عذاب الله فى الدنيا ليلا او نهارا تندموا او اىّ شيء تستعجلوا حينئذ ثم إذا وقع بكم عذاب الاخرة هل تؤمنوا به حين لا ينفعكم الايمان هلا تؤمنوا حين ينفعكم وذلك فى الدنيا قبل الغرغرة آلْآنَ على إضمار القول يعنى يقال لكم حين تؤمنوا بعد رؤية العذاب فى الاخرة او عند غرغرة الموت على وجه الإنكار الان أمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم- قرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام- والباقون بإسكان اللام وهمزة بعدها- وكلهم سهل همزة الوصل الّتي بعد همزة الاستفهام- او قلّبها مدّة فى ذلك وشبهه- نحو قوله تعالى آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ وَالذَّاكِرِينَ- وَاللَّهُ خَيْرُ- ولم يحققها أحد منهم- ولم يجعل أحد فصلا بينها وبين الّتي قبلها بألف لضعفها وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) تكذيبا واستهزاء حال من فاعل أمنتم المقدر.
ثُمَّ قِيلَ عطف على قيل المقدر لِلَّذِينَ ظَلَمُوا اى أشركوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ اى ما تجزون إِلَّا بِما «1» كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) من الكفر والمعاصي.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ اى يستخبرونك يا محمّد أَحَقٌّ هُوَ يعنى ما تدعيه من التوحيد والنبوة والقران وقيام الساعة والعذاب والثواب- أم باطل تهزل به- قوله
__________
(1) فى الأصل الا ما.(5/33)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
حق مبتدا من القسم الثاني والضمير مرتفع به على الفاعلية ساد مسد الخبر او الضمير مبتدا وحق خبر مقدم عليه والجملة فى موضع النصب بيستنبئونك قُلْ يا محمّد إِي اى نعم وَرَبِّي قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها إِنَّهُ لَحَقٌّ لا شك فيه وَما أَنْتُمْ يا كفار مكة بِمُعْجِزِينَ (53) بفائتين من الذاب لان من عجز عن شيء فقد فاته-.
وَلَوْ ثبت أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ على الله سبحانه بالشرك او على غيره بالتعدي ما فِي الْأَرْضِ من خزائنها وما يحبّه مما هو عليها لَافْتَدَتْ بِهِ اى لجعلته فدية من العذاب من قولهم افتداه بمعنى فداه وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ قال ابو عبيدة معناه أظهروا الندامة لانه ليس ذلك اليوم يوم تصبّر وتصنّع وقيل معناه اخفوا الندامة اى أخفى الرؤساء الندامة من الضعفاء وهم الاتباع خوفا من ملامتهم وتعييرهم- وقيل انهم لمّا بهتوا من رؤية عذاب لم يكونوا يحتسبوه لم يقدروا ان ينطقوا- وقيل أسروا الندامة يعنى أخلصوها لان اخفاؤها إخلاصها او لانه يقال سر الشيء لخلاصته من حيث انها تخفى ويضين بها وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ اى بين الظالمين والمظلومين دل عليهم ذكر الظلم يعنى حكم للمظلومين على الظالمين بالعذاب بِالْقِسْطِ اى بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) بالتعذيب بلا ذنب وليس هذا تكريرا لان الاول قضاء بين الأنبياء ومكذبيهم وهذا مجازات المشركين على شركهم والحكومة بين الظالمين والمظلومين.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الاثابة والتعذيب أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ اى ما وعده من الثواب والعذاب كائن لا خلف فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) به لانهم لقصور عقلهم لا يعلمون الا ظاهرا من الحيوة الدنيا.
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فى الدنيا فهو يقدر عليهما فى العقبى لان القادر لذاته لا يزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحيوة والموت قابلة لهما ابدا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) بالموت والبعث.
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى القران على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم- فانها موعظة يعنى تنبيه وتذكير يدعو الى كل مرغوب ويزجر عن كل مرهوب- وذلك بالأوامر والنواهي فان الأمر من الحكيم العليم الجواد يقتضى حسن المأمور به(5/34)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
فيكون مرغوبا ويترتب عليه اجر مرغوب والنهى يقتضى قبحه فهو مرهوب يترتب عليه اجر مرهوب وَشِفاءٌ اى دواء موجب للشفاء لِما فِي الصُّدُورِ اى فى صدوركم من الأمراض القلبية يعنى العقائد الفاسدة وتعلقات القلوب بما سوى الله تعالى- اخرج ابن مردوية عن ابى سعيد الخدري قال جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم قال انى اشتكى صدرى قال اقرأ القران يقول الله تعالى وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وله شاهد من حديث واثلة بن الأسقع أخرجه البيهقي فى شعب الايمان وَهُدىً اى اراءه طريق الى العقائد «1» الحقة وسبيل الجنة ومراتب القرب من الله سبحانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لصاحب القران اقرأ وارتق ورتّل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند اخر اية تقراها رواه احمد والترمذي وابو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو وَرَحْمَةٌ من الله تعالى لِلْمُؤْمِنِينَ (57) اى لمن أمن به منكم فانهم هم المنتفعون به كاسبون رحمة الله بتلاوته واتباعه- قال البغوي الرحمة النعمة على المحتاج فانه لو اهدى ملك الى ملك شيئا لا يقال قد رحمه وان كان ذلك نعمة لانه لم يضعها فى محتاج-.
قُلْ يا محمّد شكرا له تعالى فى جواب ما قال منة عليكم بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ يعنى جاءنا الموعظة والشفاء والهداية والرحمة بفضل الله تعالى ورحمة منه دون استحقاق منا فَبِذلِكَ الفضل من الله والرحمة او بمجيء القران فَلْيَفْرَحُوا تقديره فبذلك ليفرحوا فليفرحوا- والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص مجيء الكتاب او الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أجد الفعلين لدلالة المذكور عليه- والفاء فى قوله فبذلك داخلة لمعنى الشرط كانه قيل ان فرحوا بشيء فليفرحوا بذلك- او للربط بما قبلها والدلالة على ان مجيء الكتاب الموصوف بما ذكر موجب للفرح- وقيل المراد بفضل الله ورحمته إنزال القران- وقال مجاهد وقتادة فضل الله الايمان ورحمته القران- وقال ابو سعيد الخدري فضل الله القران ورحمته ان جعلنا من اهله- اخرج ابو الشيخ وغيره عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بفضل الله اى القران وبرحمته ان جعلكم من اهله- وقال ابن عمر فضل الله الإسلام ورحمته تزيينه فى القلوب- وقال خالد بن معدان فضل الله الإسلام
__________
(1) في الأصل إلى عقائد.(5/35)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
ورحمته السنن- وقيل فضل الله الايمان ورحمته الجنة- والباء على هذه الأقوال متعلقة بفعل يفسره ما بعده تقديره بفضل الله وبرحمته فليعتنوا او ليفرحوا- وفائدة ذلك التكرير التأكيد والبيان بعد الإجمال- وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح- قرا يعقوب باختلاف عنه فلتفرحوا بالتاء الفوقانية على الأصل المرفوض لصيغة الخطاب فى الأمر- اخرج ابو داود عن أبيّ بن كعب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرا قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا بالتاء الفوقانية هُوَ الضمير راجع الى ذلك- اى مجيء القران او فضل الله ورحمته خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) من حطام الدنيا قرا ابو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة-.
قُلْ يا محمّد لكفار مكة أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ اى خلق لكم عبر عن الخلق بالانزال لما نيط خلقها بسبب منزل من السماء يعنى المطر- او لانه لما قدّر وكتب اولا فى اللوح المحفوظ ثم خلق على وفقه فكانّه انزل من اللوح- وما منصوب بانزل او ارايتم فانه بمعنى أخبروني مِنْ رِزْقٍ بيان لما يعنى من زرع او ضرع- وكلمة لكم دلت على ان المراد منه ما حلّ ولذلك وبّخ على تشقيصه فقال فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ اى بعضه حَراماً وَبعضه حَلالًا ... قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ... وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا- وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ فى هذا التحليل والتحريم فتقولون ذلك بحكمه أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) فى نسبة ذلك الأمور- والجملة متعلق بارايتم وقل تكرير للتؤكيد- وجاز ان يكون الاستفهام للانكار وأم منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير افترائهم على الله- والمعنى ان الله لم يأذن لكم بل على الله تفترون حيث تقولون وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها....
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ اىّ شيء ظنهم يَوْمَ الْقِيامَةِ منصوب بالظن- يعنى ايحسبون انهم لا يجازون عليه- لا بل كائن لا محالة وفى إبهام الوعيد تهديد عظيم إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل- وهداهم بانزال الكتب وإرسال الرسل وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) هذه النعمة- ولو شكروها(5/36)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
اتبعوا العقل والنقل ولم يفتروا على الله- وجاز ان يكون معنى الاية ان الله لذو فضل على الناس حيث لم يستعجل بعقوبتهم فى الدنيا-.
وَما تَكُونُ يا محمّد فِي شَأْنٍ اى امر وحال قال بعض المحققين لا يقال الشأن الا فيما يعظم من الأحوال والأمور قال البيضاوي أصله من شأنت شأنه اى قصدت قصده وَما تَتْلُوا مِنْهُ اى من الشأن لان تلاوة القران كان معظم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم- ولان القراءة يكون لشأن عظيم فيكون التقدير من اجله او من القران وإضماره قبل الذكر- ثم قوله مِنْ قُرْآنٍ بيانا له تفخيم له او المعنى ما تتلوا من الله- ومن فى من قرءان تبعيضية- او مزيدة لتأكيد النفي وَلا تَعْمَلُونَ ايها الناس مِنْ عَمَلٍ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم- ولذلك ذكر من اعماله اولا ما فيه فخامة ثم عمم ما يتناول الجليل والحقير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اى رقباء مطلعين عليه إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ اى تدخلون وتندفعون فيه اى فى العمل وقيل معناه تكثرون فيه والافاضة الدفع بكثرة وَما يَعْزُبُ قرا الكسائي بكسر الزاء والآخرون بضمها وهما لغتان معناه لا يغيب عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ مصدر ميمى بمعنى الثقل يعنى الوزن ومن زائدة ذَرَّةٍ اى نملة صغيرة او هباء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ اى فى الوجود والإمكان واقتصر على ذكر الأرض والسماء لان أبصار العوام قاصرة عليهما وقدم الأرض لان الكلام فى حال أهلها والمقصود بيان احاطة علمه تعالى بالأشياء كلها وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) كلام برأسه مقرر لما قبله- ولا لنفى الجنس- وأصغر واكبر اسمها- وفى كتاب خبرها- قرا حمزة ويعقوب برفع أصغر واكبر على الابتداء والخبر بابطال عمل لا لاجل التكرير والباقون بالنصب على اعمال لا- وقيل لا ولا زائدتان وأصغر واكبر معطوفان على مثقال ذرة- او على ذرة والفتح بدل الكسر لامتناع الصرف- او للحمل على مثقال ذرة مع الجار- والرفع للعطف على مثقال ذرة حملا على محله البعيد قبل دخول من والاستثناء «1» حينئذ منقطع-
__________
(1) هذا التوجيه ضعيف لان الاستثناء المنقطع والاستدراك بعد النفي اثبات فيكون المعنى ولكن يعزب فى كتاب مبين وهذا فاسد وسيجيء فى سورة سبا مثله 12 منه رحمه الله.(5/37)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ- او صحائف الأعمال للحفظة-.
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الناس يوم القيامة من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) حينئذ بفوات مأمول- اعلم ان الولاء والتوالي فى اللغة ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما- ويستعار للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد- وفى القاموس الولي القرب والدّنو والولىّ اسم «1» منه بمعنى القريب والمحبّ والصديق والنصير فاعلم ان لله سبحانه بعباده بل بجميع خلقه قربا «2» غير متكيف كما يدل عليه قوله تعالى نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ وذلك القرب هو الموجب لوجود الممكنات فما لم يحصل للممكن ذلك القرب بالواجب تعالى لم يشم رائحة الوجود فان له فى نفسه ليس- وله سبحانه بخواص عباده قرب اخر غير متكيف ايضا وذلك قرب المحبة ويتمثل هذا القرب فى عالم المثال بنظر الكشف بصورة القرب الجسماني- وهذان القربان لا اشتراك بينهما الا من حيث الاسم- وهذا القرب الثاني له درجات ومراتب غير متناهية كما يدل عليه الحديث القدسىّ- لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتّى أحببته فاذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به الحديث رواه البخاري عن ابى هريرة- وادنى درجات هذا القرب يحصل بمجرد الايمان قال الله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا- وأعلى درجاته نصيب الأنبياء ونصيب سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم- وله صلى الله عليه وسلم ترقيات لا تتناهى الى ابد الآبدين- وادنى ما يعتد به ويطلق عليه اسم الولي فى اصطلاح الصوفية والمراد بهذه الاية ان شاء الله تعالى من كان قلبه مستغرقا فى ذكر الله يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ممتليا بحب الله تعالى لا يسع فيه غيره وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ- فلا يحبّ أحدا الا لله- ولا يبغض الا لله- ولا يعطى الا لله- ولا يمنع الا لله- فهم المتحابون فى الله والصوفية العلية «3» يسمون هذه الصفة بفناء القلب- فكان ظاهره وباطنه متحليا بتقوى يقى نفسه عما يكرهه الله تعالى من الأعمال والأخلاق- فكان نفسه منزها عن الرذائل من الشرك الجلى
__________
(1) فى الأصل الاسم
(2) فى الأصل قرب
(3) وصّفنا الصوفية بالعلية لعلوهم درجة لاستنادهم الى على رضى الله عنه فانه قطب هذا المقام 12 منه رحمه الله(5/38)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
والخفي والأخفى من دبيب النمل ومن الحسد والحقد والكبر والهوى والهلع وغير ذلك متصفا بمحاسن الأعمال والأخلاق- والصوفية العلية يسمون هذه الصفة بفناء النفس ويقولون حينئذ اسلم شيطانه أشار الله سبحانه الى الوصف الاول بقوله.
الَّذِينَ آمَنُوا اى حقيقة الايمان فان الايمان محله القلب وكمال الايمان ان يطمئن قلبه بذكر الله لا يغفل عنه ساعة ولا يلتفت الى غيره- «1» والى الوصف الثاني بقوله وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) الله تعالى بإتيان أوامره وانتهاء نواهيه «2» الظاهرة والباطنة- روى ابو داود عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من عباد الله لا ناسا ما هم بانبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله- قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم- قال هم قوم تحابون بروح الله على غير أرحام بينهم- ولا اموال يتعاطونها- فو الله ان وجوههم لنور وانهم على نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرا أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- وروى البغوي بسنده عن ابى مالك الأشعري نحو ذلك وكذا روى البيهقي فى شعب الايمان- اخرج ابن مردوية عن ابى هريرة قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قال الذين يتحابون فى الله وورد مثله من حديث جابر بن عبد الله أخرجه ابن مردوية- (فصل) فى اسباب حصول الولاية- وهذه المرتبة اعنى ولاية الله تعالى انما يستفاد بالانعكاس من رسول الله صلى الله عليه وسلم اما بلا واسطة او بواسطة او بوسائط ولا بد فيه من كثرة المجالسة مع المحبة والانقياد بالنبي صلى الله عليه وسلم- او بمن ينوبه- فانهما يثمران محبة الله تعالى وانصباغ قلبه وقالبه ونفسه بصبغ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالبه ونفسه الّذي هو صبغة الله ومن احسن من الله صبغة وكثرة الذكر على وجه مسنون يؤيد ذلك الانعكاس لكونه موجبا لصقالة القلب المستوجب للانعكاس- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل شيء صقالة وصقالة القلب ذكر الله- رواه البيهقي
__________
(1)
هر كس كه ترا شناخت جان را چهـ كند ... فرزند وعيال وخان ومان را چهـ كند
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى ... ديوانه تو هر دو جهان را چهـ كند
- منه برد الله مضجعه
(2) قال ابن عمر التقوى ان لا ترى نفسك خيرا من أحد- وقال المجدد للالف الثاني معرفة الله تعالى حرام على من يرى نفسه خيرا عن كافر الفرنج 12 منه برد الله مضجعه(5/39)
عن عبد الله بن عمرو الله اعلم عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى وجبت محبتى للمتحابين فىّ والمتجالسين فىّ والمتزاودين فىّ والمتباذلين فىّ- رواه مالك واحمد والطبراني والحاكم والبيهقي وروى احمد والطبراني والحاكم نحوه عن عبادة بن الصامت- وعن ابن مسعود قال جاء رجل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف تقول فى رجل أحب قوما ولم يلحق بهم قال المرء مع من احبّ متفق عليه- ومعنى قوله لم يلحق بهم اى لم يعمل مثل عملهم- وفى الصحيحين عن انس نحوه وعن ابى رزين انه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ادلك على ملاك هذا الأمر الّذي تصيب منه خير الدنيا والاخرة- عليك بمجالس اهل الذكر وإذا خلوت فحرك لسانك ما استطعت بذكر الله وأحب فى الله وابغض فى الله- الحديث رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الأعمال الى الله الحب فى الله والبغض فى الله رواه احمد وابو داود ذكر المرادين ثم اعلم ان ما ذكرنا حال المريدين من اولياء الله تعالى- ومن أوليائه تعالى جماعة مرادون يدل عليه ما رواه مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله إذا أحب عبدا دعا جبرئيل فقال انى أحب فلانا فاحبه قال فيحبّه جبرئيل ثم ينادى فى السماء فيقول ان الله يحب فلانا فاحبوه فيحبه اهل السماء ثم يوضع له القبول فى الأرض وإذا ابغض عبدا دعا جبرئيل فيقول انى ابغض فلانا فابغضه قال فيبغضه جبرئيل ثم ينادى فى اهل السماء ان الله يبغض فلانا فابغضوه قال فيبغضونه ثم يوضع له البغضاء فى الأرض (فصل) فى علامة اولياء الله- ذكر البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه سئل من اولياء الله قال الذين إذا رأوا ذكر الله عز وجل- وقال البغوي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال قال الله تعالى ان أوليائي من عبادى الذين يذكرون بذكرى واذكر بذكرهم- وروى ابن ماجة عن اسماء بنت يزيد انها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الا أنبئكم بخياركم قالوا بلى يا رسول الله قال الذين إذا راوا ذكر الله فائدة والسر فى ذلك ان اولياء الله تعالى لهم قرب ومعية بالله تعالى غير متكيفة- يقتضى ذلك ان يكون(5/40)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
مجالستهم كالمجالسة بالله تعالى- ورؤيتهم مذكرا لله تعالى- وذكرهم جالبا الى ذكره تعالى- كالمرءاة إذا قوبلت بالشمس وامتلأت بنورها حصلت لها حالة إذا قوبل شيء بذلك المرآة يستضيء بها كما يستضيء بمقابلة الشمس- بل يحترق القطنة بمقابلة المرآة دون مقابلة الشمس لقرب القطنة بالمرءاة دون الشمس- وايضا ان الله سبحانه أودع فى ذوات أوليائه استعداد تأثر من الله تعالى لقرب ومناسبة خفية غير متكيفة به تعالى- واستعداد تأثير فى الناس لاجل مناسبة جنسية ونوعية وشخصية- فذلك التأثر والتأثير يقتضى حصول حضور بالله تعالى- وذكره تعالى فيمن راهم وجالسهم بشرط عدم الإنكار نعوذ بالله منه وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ اى الخارجين عن الايمان والانقياد- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى من عادى لى وليّا فقد اذنته بالحرب رواه البخاري عن ابى هريرة- وفى الباب حديث حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأى عين فاذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والّذي نفسى بيده لو تدومون كما تكونون عندى وفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات رواه مسلم (فائدة) وليست علامة الأولياء ما زعمت العوام من خرق العادات ولا العلم بالمغيبات- فانها لا توجد فى كثير من اولياء الله- وقد يوجد فى غيرهم على سبيل الاستدراج وكونه فى بعضهم نادرا لا يستلزم كون ذلك علامة للولاية كيف وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ- وقال قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ- وقال قل إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ونحو ذلك- وقد قالت الصوفية
العلية الكرامة حيض الرجال لا بد استتارها- ولا مزية لاحد على أحد بها- ومن ثم ندم بعض الرجال عن كثرة ظهور خرق العادات بايديهم والله اعلم- ومحل الّذين أمنوا النصب على المدح او على كونه وصفا للاولياء- او الرفع على انه خبر مبتدا محذوف يعنى هم والجملة مادحة او على انه مبتدا خبره.
ُمُ الْبُشْرى(5/41)
فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وذلك ما بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالوحى عموما وخصوصا- فقال ابو بكر فى الجنة وعمر فى الجنة وعثمان فى الجنة وعلى فى الجنة وطلحة فى الجنة والزبير فى الجنة وعبد الرّحمن بن عوف فى الجنة وسعد بن ابى وقاص فى الجنة وسعيد بن زيد فى الجنة وابو عبيدة «1» بن الجراح فى الجنة رواه الترمذي عن عبد الرّحمن بن عوف وابن ماجة عن سعيد بن زيد- وقال اما انك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي رواه ابو داؤد عن ابى هريرة- وقال انا أول من ينشق عنه الأرض ثم ابو بكر ثم عمر رواه الترمذي عن ابى هريرة وقال لكل نبى رفيق ورفيقى فى الجنة عثمان رواه الترمذي عن طلحة بن عبيد الله- وقال لعلى أنت منى بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبى بعدي متفق عليه عن سعد بن ابى وقاص- وقال من كنت مولاه فعلىّ مولاه رواه احمد والترمذي عن زيد بن أرقم- وقال فاطمة بضعة منى فمن أغضبها أغضبني متفق عليه عن مسور بن مخرمة- وقال الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة رواه الترمذي عن ابى سعيد وقال خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد وقال فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام وقال ان عبد الله يعنى ابن عمر رجل صالح متفق عليه عن ابن عمر- وقال لعبد الله بن سلام انه من اهل الجنة متفق عليه عن سعد بن ابى وقاص- وقال الأنصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن ابغضهم أبغضه الله- وقال نعم الرجل أسيد بن حضير نعم الرجل ثابت بن قيس نعم الرجل معاذ بن جبل نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح- وقال ان الجنة تشتاق الى ثلاثة على وعمار وسلمان هكذا بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من الصحابة مفصلا- وبشر الله سبحانه كلهم أجمعين بقوله كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وبقوله مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ الاية- وبقوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه عن ابى سعيد الخدري- وقال أصحابي كالنجوم فبايهم اقتديتم اهتديتم رواه رزين عن عمر- وقال خير أمتي قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الحديث متفق عليه عن عمران بن حصين- ثم إذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فالبشرى فى الدنيا ما بشر الله سبحانه
__________
(1) فى الأصل عبيدة(5/42)
أولياءه بالكشف يعنى أراه فى عالم المثال فى المنام او اليقظة وهو المراد بالرؤيا الصالحة حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق من النبوة الا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة رواه البخاري عن ابى هريرة- وقال البغوي روى عن عبادة بن الصامت قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال هى الرؤيا الصالحة يراها المرء او ترى له- اخرج احمد وسعيد بن منصور والترمذي وغيرهم عن ابى الدرداء انه سئل عن هذه الايةهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
قال ما سالنى عنها أحد منذ سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما سالنى عنها غيرك منذ أنزلت هذه الاية الرؤيا الصالحة يراها المؤمن او ترى له فهى بشراه فى الحيوة الدنيا وبشراه فى الاخرة الجنة له طرق كثيرة- والمراد بالرؤيا رؤيا الأولياء والصلحاء لا رؤيا العوام- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا ثلاث فبشرى من الله وحديث النفس وتخويف الشيطان رواه الترمذي وصححه وابن ماجة عن ابى هريرة- فان قيل الرؤيا وان كان من الأولياء والصلحاء لا يفيد القطع قلنا وان كان لا يفيد القطع لكنه يفيد غلبة الظن وذلك كاف للبشارة- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة رواه البخاري عن ابى سعيد ومسلم عن ابن عمرو عن ابى هرير واحمد وابن ماجة عن ابى رزين والطبراني عن ابن مسعود ونحوه ابن ماجة عن عوف بن مالك- وروى احمد عن ابن عمرو ابن عباس وابن ماجة عن ابن عمر الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من النبوة- وروى ابن النجار عن ابن عمر جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة- وليس المراد بالبشرى هاهنا ما بشر الله تعالى المؤمنين به عموما فى كتابه من جنته وكريم ثوابه كقوله تعالى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا لان البشارة بمثل هذه الآيات لا يتصور الا بعد القطع بالتوفى على الايمان وذلك غير متصور- وقيل البشرى فى الدنيا هى الثناء الحسن لما روى البغوي بسنده عن عبد الله بن الصامت قال قال ابو ذر يا رسول الله الرجل يعمل لنفسه ويحبّه الناس قال تلك عاجل بشرى المؤمن- واخرج مسلم نحوه بلفظ ويحمده الناس- وقال الزهري وقتادة هى نزول الملائكة بالبشارة من الله عند الموت قال الله تعالى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ وكذا قال عطاء عن ابن عباس فِي الْآخِرَةِ
يعنى عند خروج نفس المؤمن(5/43)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
يعرج بها الى الله ويبشر برضوان الله وعند الخروج من القبر يوم القيامة عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة او بعض أزواجه انّا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله ورحمته فاحب لقاء الله وأحب الله لقاءه وان الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء اكره اليه مما امامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه متفق عليه- وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على اهل لا اله الا الله وحشة فى الموت ولا فى القبور ولا فى النشور كانّى انظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ رواه الطبراني- وكذا اخرج الختلي فى الديباج عن ابن عباس مرفوعا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
يعنى لا خلف لمواعيده ومن هاهنا يمكن استنباط قول الصوفية الفاني لا يردلِكَ
اشارة الى كونهم مبشرين فى الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(64) هذه الجملة والّتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه وليس من شرط الاعتراض ان يقع بعده كلام متصل بما قبله-.
وَلا يَحْزُنْكَ قرا نافع بضم الياء وكسر الزاء من الافعال والباقون بفتح الياء وضم الزاء من المجرد وكلاهما بمعنى قَوْلُهُمْ اى اشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً استيناف بمعنى التعليل وبدل عليه ما قرئ بالفتح كانه قيل لا تحزن ولا تبال بهم لان الغلبة لله جميعا لا يملك غيره شيئا منها فهو يقهرهم وينصرك عليهم هُوَ السَّمِيعُ لاقوالهم الْعَلِيمُ (65) بنياتهم فيجازيهم عليها.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الملائكة والثقلين وإذا كان هؤلاء الذين هم اشراف الممكنات عبيدا لا يصلح أحد للربوبية فما لا يعقل منها أحق ان لا يكون له ند ولا شريك فهو كالدليل على قوله وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ اى شركاء على الحقيقة وان كانوا يسمونها شركاء فان الشركة فى الربوبية محال ويجوز ان يكون شركاء مفعول يدعون ومفعول يتبع محذوف دل عليه قوله إِنْ يَتَّبِعُونَ(5/44)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
إِلَّا الظَّنَ
اى ما يتبعون يقينا انما يتبعون ظنهم اى خيالهم انها شركاء- ويجوز ان يكون ما موصولة معطوفة على من اى لله ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ او استفهامية منصوبة بيتبع والمعنى اى شيء يتّبع الّذين يدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين يعنى انهم لا يتبعون الا الله ولا يعبدون غيره فما لكم لا تتبعونهم فيه كقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ فيكون إلزاما بعد برهان وما بعده مصروف عن خطابهم لبيان سندهم ومنشا رأيهم وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) اى يكذبون فيما ينسبون او يحزرون ويعتدون انها شركاء تقديرا باطلا.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وتستريحوا من تعب التردد وَالنَّهارَ مُبْصِراً اى مضيئا سببا لابصار الأشياء إِنَّ فِي ذلِكَ اى فى خلق هذه الأشياء العظام على وفق الحكمة لَآياتٍ دالة على كمال قدرة الله وعظيم نعمته وحكمته المتوحد بها المستحق للعبادة المختصة به لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) كلام الله تعالى وكلام المذكّرين سماع تدبر واعتبار.
قالُوا يعنى المشركين اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وهو قولهم الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيه له عن التبني وتعجب من كلام الحمقاء حيث حكموا بامر مستحيل لا يمكن ولا يتصور هُوَ الْغَنِيُّ عما سواه لا يحتاج فى شيء من الأمور الى شيء من الأشياء وما سواه ممكن محتاج فى وجوده وبقائه وفى كل صفة من صفاته اليه- فاى مناسبة بينه وبين ما يزعمونه ولدا فان الولد يكون من جنس الوالد او يقال انما يطلب الولد ضعيف يتقوى به او فقير ليستعين به او ذليل ليتشرف به او من يموت لبقاء جنسه والكل امارة الحاجة والله غنى قديم لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا فكيف يتصور كون شيء ممّا فيهما ولدا له إِنْ عِنْدَكُمْ ما عندكم مِنْ سُلْطانٍ اى برهان بِهذا متعلق بسلطان او نعت له او بعندكم كانه قيل ليس عندكم فى هذا سلطان نفى لدليل معارض لما اقام من البرهان على نفى الولد أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) توبيخ على جهلهم وتنبيه على انه لا يجوز ان يقول أحد قولا لا دليل عليه وان العقائد لا بد لها من دليل قاطع يوجب العلم ولا يجوز التقليد فيها.(5/45)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
قُلْ يا محمّد إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بنسبة الولد والشريك اليه لا يُفْلِحُونَ (69) لا يبحون من النار ولا يفوزون بالجنة.
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدا محذوف يعنى افتراءهم سبب تمتعهم فى الدنيا يقيمون به رياستهم فى الكفر او حياتهم او تقلبهم مناع- او مبتدا خبره محذوف اى لهم تمنع فى الدنيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) اى بسبب كفرهم-.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ اى اقرأ يا محمّد على اهل مكة نَبَأَ نُوحٍ اى خبره مع قومه إِذْ قالَ متعلق با ذكر لِقَوْمِهِ قال البغوي هم ولد قابيل وهذا لا يتصور لان نوحا عليه السلام كان من ولد شيث عليه السلام لا من ولد قابيل- فاضافة القوم اليه يدل على كونهم من أولاد شيث عليه السلام يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ اى شق عَلَيْكُمْ مَقامِي اى قيامى بينكم مدة مديدة- او قيامى على الدعوة وَتَذْكِيرِي ايّاكم بِآياتِ اللَّهِ اى بحججه وبيناته او آياته المنزلة فَعَلَى اللَّهِ لا على غيره تَوَكَّلْتُ اى وثقت به فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ من اجمع الأمر إذا نواه او عزم عليه وَشُرَكاءَكُمْ قرا يعقوب بالرفع عطفا على الضمير المرفوع المستتر فى اجمعوا وجاز للفصل يعنى اعزموا أنتم وشركاؤكم على قتلى او إصابة مكروه بي- والباقون بالنصب اما على انه مفعول معه والواو بمعنى مع والمعنى ما مر كذا قال الزجاج- واما على انه معطوف على أمركم بحذف المضاف اى اقصدوا أمركم وامر شركائكم- واما انه منصوب بفعل مقدر اى وادعوا شركاءكم ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ اى لا يكن شيء مما تقصدون بي عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستورا بل اجعلوه ظاهرا مكشوفا من غمه إذا ستره- او المعنى لا يكن حالكم عليكم غمّا إذا اهلكتمونى وتخلصتم عن ثقل مقامى وتذكيرى ثُمَّ اقْضُوا اى أدوا إِلَيَّ ما أردتم وَلا تُنْظِرُونِ (71) ولا تمهلونى هذا امر على سبيل التعجيز اخبر الله تعالى عن نوح انه كان واثقا بنصر الله غير خائف من كيد قومه علما منه بانهم والهتهم لا يملكون نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله.
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما(5/46)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ
حذف جزاء الشرط وأقيم علته مقامه- تقديره فان توليتم عن تذكيرى وأعرضتم عن قولى وقبول نصحى بعد ظهور صدقه هلكتم- او يعذبكم الله لكون ذلك التولي عن الحق بلا مانع عن قبوله- إذ ما سالتكم من اجر يوجب توليكم ويمنع عن قبول الحق لثقه عليكم- او اتهامكم إياي لاجله- او المعنى ان توليتم ظلمتم أنفسكم وما اضررتمونى بشيء- إذ ما سالتكم من اجر يفوتنى بتوليتكم بل انما يفوت عليكم الهداية إِنْ أَجْرِيَ قرا نافع وابو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء وكذلك حيث وقع والباقون بإسكانها اى ليس ثوابى على الدعوة والتذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ لا تعلق له بكم فهو يثيبنى أمنتم او توليتم- فيه اشارة الى ان أخذ الاجر على تعليم القران ونحو ذلك لا يصلح وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) المنقادين لحكم الله تعالى فى الايمان والأعمال ودعوة الناس اليه وقد فعلت.
فَكَذَّبُوهُ اى أصروا على تكذيبه بعد وضوح الحق عنادا وتمردا فَنَجَّيْناهُ يعنى نوحا من الغرق وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وكانوا ثمانين وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ من الهالكين وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) اى اخر امر من انذرهم الرسل فلم يؤمنوا- فيه تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن كذّب الرسل وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ اى كل رسول الى قومه فَجاؤُهُمْ اى الرسل بِالْبَيِّناتِ اى بالدلائل الواضحة فَما كانُوا اى أقوام الرسل لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ اى بما كذب به قوم نوح قبل مجيئهم كَذلِكَ اى كما طبعنا على قلوب قوم نوح وأقوام الرسل بعده نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) من أمتك بخذلانهم لانهماكهم فى الضلال واتباع المألوف.
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد تلك الرسل مُوسى بن عمران وَأخاه هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ اى اشراف قومه خص الملأ بالذكر تمهيدا لبيان استكبارهم بِآياتِنا «1» فَاسْتَكْبَرُوا عن اتباع موسى وهارون وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)
__________
(1) ليست فى الأصل بايتنا(5/47)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
اى معتادين بالاجرام ولذلك تهاونوا برسالة الله سبحانه واجترءوا على ردها.
فَلَمَّا جاءَهُمُ اى فرعون وقومه الْحَقُّ اى الدين الحق مِنْ عِنْدِنا وعرفوا حقيقته بتظاهر المعجزات الباهرة المزيلة للشك قالُوا اى فرعون وملاؤه من فرط تمردهم إِنَّ هذا ما جاء به موسى من المعجزات لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) ظاهر انه سحر او فائق فى قنه واضح فيما بين أشباهه.
قالَ مُوسى على سبيل التعجب والإنكار أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ للامر الثابت المتحقق من عند الله لَمَّا جاءَكُمْ انه سحر والسحر ثمويه لا حقيقة له- فحذف محكى القول لدلالة ما قبله عليه- ولا يجوز ان يكون المحكي أَسِحْرٌ هذا لانهم بتّوا القول بل هو استيناف بانكار ما قالوه الا ان يكون الاستفهام فيه للتقرير ويجوز ان يكون معنى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ أتعنونه- من قولهم فلان يخاف القالة فيستغنى عن المفعول كقوله تعالى سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ... وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) اى لا يظفر- من تمام كلام موسى للدلالة على انه ليس بسحر- فانه لو كان سحرا لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة- ولان العالم به لا يسحر او تمام قولهم ان جعل اسحر هذا محكيا- كانهم قالوا اجئتنا بالسحر تطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون.
قالُوا يعنى فرعون وقومه لموسى أَجِئْتَنا يا موسى لِتَلْفِتَنا اى لتصرفنا وقال قتادة لتلوينا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام او عبادة فرعون وَتَكُونَ قرا أبو بكر بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية لَكُمَا الْكِبْرِياءُ الملك والسلطان سمى بها لا تصاف الملوك بالتكبر على الناس باستتباعهم فِي الْأَرْضِ ارض مصر وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) مصدقين فيما تدّعونه.
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ قرا حمزة والكسائي سَحَّارٍ عَلِيمٍ (79) حاذق فيه فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ
قرا ابو عمرو وابو جعفر السّحر بالمد على ان ما استفهامية مرفوعة بالابتداء وجئتم به خبرها والسّحر خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره محذوف والجملة بدل من قوله ما جئتم به تقديره اهو السحر او السحر هو- وقرا الجمهور بلا مد على الخبر يعنى الّذي جئتم به السحر- لا ما سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله- ويؤيده قراءة ابن مسعود(5/48)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
ما جئتم به سحر إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ اى سيمحقه او سيظهر بطلانه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ اى لا يثبت ولا يقوى عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) فيه دليل على ان السحر إفساد وتمويه لا حقيقة.
له وَيُحِقُّ اللَّهُ اى يثبت ويقوى الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ باياته وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) .
فَما آمَنَ لِمُوسى اى لم يصدق موسى مع ما جاء به من الآيات وأبطل سحر السحرة إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ قيل ضمير قومه راجع الى موسى يعنى مومنى بنى إسرائيل الذين كانوا بمصر وخرجوا معه- قال مجاهد كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بنى إسرائيل هلك الآباء وبقي الأبناء ولذا سموا ذرية- وقيل هم قوم نجوا من قتل فرعون لمّا امر بقتل أبناء بنى إسرائيل كانت المرأة من بنى إسرائيل إذا ولدت ولدا وهبته للقبطية خوفا من القتل فنشئوا عند القبط واسلموا فى اليوم الّذي غلب موسى السحرة- وقال آخرون الضمير راجع الى فرعون روى عطية عن ابن عباس قال هم أناس يسيرون من قوم فرعون أمنوا منهم امراة فرعون ومؤمن ال فرعون وخازن فرعون وامراة خازنه وما شطته- كذا اخرج ابن جرير عنه وعن ابن عباس رواية اخرى انهم سبعون اهل بيت من القبط من ال فرعون أمهاتهم من بنى إسرائيل فجعل الرجل يتبع امه وأخواله- قال الفراء سموا ذرية لان آباءهم كانوا من القبط وأمهاتهم من بنى إسرائيل كما يقال لاولاد اهل الفرس الذين سقطوا الى اليمن الأبناء لان أمهاتهم من غير جنس ابائهم عَلى خَوْفٍ اى مع خوف مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد من ضمير العظماء- او على ان المراد بفرعون اله كما يقال ربيعة ومضر والمعنى مع خوف من ال فرعون واشراف قومهم او للذرية او للقوم أَنْ يَفْتِنَهُمْ اى يعذبهم فرعون وهو بدل من فرعون او مفعول خوف وافراده بالضمير للدلالة على ان الخوف من الملأ كان بسببه وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ غالب متكبر فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) المجاوزين الحد حتّى ادعى الربوبية مع كونه عبدا مخلوقا محتاجا- واسترقّ أبناء الأنبياء.
وَقالَ مُوسى لما راى خوف المؤمنين من فرعون يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا اى ثقوا به واعتمدوا عليه ولا تخافوا من فرعون وملائه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) جزاؤه محذوف(5/49)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
دل عليه السياق يعنى ان كنتم مستسلمين لقضاء الله مخلصين له توكلتم عليه- وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالايمان وجوب التوكل فانه المقتضى له- والمشروط بالإسلام حصوله فان التوكل على الله لا يحصل ما لم يسلموا نفوسهم لله اى يجعلوها له سالمة خالصة بحيث لا يكون حظ للهوى ولا للشيطان فيها- لان التوكل لا يحصل مع التخليط وهو من مقامات الصوفية.
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فانهم كانوا مخلصين أصحابا لرسول رب العالمين على نبينا وعليه الصلاة والسلام- ثم دعوا ربهم وقالوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً اى موضع فتنة وعذاب لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) اى لا تسلطهم علينا فيفتنوننا ويعذبوننا- او المعنى لا تجعلنا سببا لزيادة طغيانهم وكفرهم بان تعذبنا بعذاب من عندك او بايدى قوم فرعون فيقول قوم فرعون لو كان هؤلاء على الحق ما عذبوا وظنوا انهم خير منا.
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) من كيدهم وشوم مشاهدتهم وفى تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على ان الداعي ينبغى ان يتوكل اولا ليجاب دعوته قلت بل على ان التوكل من صفات اللازمة للصوفى والدعاء من عوارضه-.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ هارون أَنْ تَبُوءَ اى تتخذا مباة ومرجعا من غيرها من الأماكن إليها للسكنى والعبادة لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً قال البغوي قال اكثر المفسرين كانت بنوا إسرائيل لا يصلون الا فى كنائسهم وبيعهم وكانت ظاهرة فلما أرسل موسى امر فرعون بتخريبها ومنعهم من الصلاة فيها فامرهم الله ان يتخذوا مساجد فى بيوتهم ويصلّوا فيها خوفا من ال فرعون هذا قول ابراهيم النخعي وعكرمة عن ابن عباس- وقال مجاهد خاف موسى ومن معه من فرعون فى الكنائس الجامعة فامروا ان يجعلوا فى بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما بُيُوتَكُمْ الّتي تبوأتما لهم قِبْلَةً يعنى مصلّى متوجهة نحو القبلة يعنى الكعبة- روى ابن جريج عن ابن عباس قال كانت الكعبة قبلة موسى ومن معه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها أمروا بذلك أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيوذوهم وَبَشِّرِ يا موسى الْمُؤْمِنِينَ (87) ان يهلك الله عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فى الدنيا- ويورثكم الجنة فى العقبى- شنّى الضمير اولا لان التبوء(5/50)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
القوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رءوس القوم بتشاورهم- ثم جمع لان جعل البيوت مساجد واقامة الصلاة يجب على كل أحد- ثم وحّد لان البشارة وظيفة صاحب الشريعة وقال البغوي بشّر المؤمنين خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم.
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً اى ما يتزين به الناس من اللباس والحلي والفرش والأثاث والمراكب والخدم والحشم وغيرها وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ اللام فى ليضلوا للعاقبة متعلقة باتيت يعنى حتّى صار عاقبة أمرهم الضلال والطغيان كقوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً- وقيل هى لام كى اى أتيتهم استدراجا ليثبتوا على الضلال- او لانهم لما جعلوها سببا للضلال فكانما اوتوها «1» ليضلوا- فيكون كلمة ربنا تكريرا للاول تأكيدا للالحاح فى التضرع- قال الشيخ ابو منصورا لما تريدى إذا علم منهم انهم يضلون الناس عن سبيله أتاهم ما أتاهم ما أتاهم ليضلوا عن سبيله- وهو كقوله تعالى إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً فيكون الاية حجة على المعتزلة فى القول بوجوب الأصلح واللطف على الله تعالى- وقال البيضاوي قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء عليهم بلفظ الأمر رَبَّنَا اطْمِسْ اى امحق عَلى أَمْوالِهِمْ باهلاكها كذا قال مجاهد- وقال اكثر اهل التفسير امسخها وغيّرها عن هيئتها- قال قتادة صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة منقوشة كهيئتها صحاحا وأنصافا وأثلاثا- ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا ال فرعون فاخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة وانها لحجر- وقال السدى مسخ الله تعالى أموالهم حجارة والنخيل والثمار والدقيق والاطعمة وكانت احدى الآيات التسع وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ يعنى اقسها واطبع عليها حتّى لا تلين ولا تنشرح للايمان- انما دعا عليهم لمّا ايئس من ايمانهم وعلم بالوحى انهم لا يؤمنون- فاما قبل ان يعلم بانهم لا يؤمنون فلا يجوز له ان يدعو بهذا الدعاء لانه أرسل إليهم ليدعوهم بالايمان فان قيل بعد ما علم انهم لا يؤمنون اىّ فائدة فى الدعاء عليهم قلنا لعل ذلك للبغض بأعداء الله فى الله وذلك مقتضى طبيعة الايمان- او يكون ذلك امتثالا لامر الله تعالى ونظير ذلك قولك لعن الله إبليس مع ان ذلك معلوم انه ملعون امتثالا لقوله تعالى إِنَّ الشَّيْطانَ
__________
(1) فى الأصل أتوها [.....](5/51)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ... فَلا يُؤْمِنُوا منصوب على انه جواب للدعاء- او على انه معطوف على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض وقال الفراء مجزوم على انه دعاء بلفظ النهى كانه قال اللهم فلا يؤمنوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) بعد الموت كذا قال السدى.
قالَ الله تعالى لموسى وهارون قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما نسبت الدعوة إليهما لانه روى ان موسى كان يدعو وهارون يؤمّن والتأمين دعاء- قال البغوي وفى بعض القصص كان بين دعاء موسى والاجابة أربعين سنة فَاسْتَقِيما على الرسالة والدعوة وامضيا لامرى الى ان يأتيهم العذاب وَلا تَتَّبِعانِّ نهى بالنون الثقيلة ومحله جزم- وقرا ابن ذكوان بالنون الخفيفة- وكسر النون لالتقاء الساكنين سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) اى طريق الجهلة فى الاستعجال او عدم الوثوق وعدم الاطمينان بما وعد الله سبحانه-.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ اى جوّزناهم وعبرناهم حتّى بلغوا الشطّ وفاعل هاهنا بمعنى فعل نحو عاقب امير اللص- وكان البحر قد انفلق لموسى وقومه فَأَتْبَعَهُمْ اى لحقهم وأدركهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ يقال اتبعه وتبعه إذا أدركه ولحقه واتّبعه بالتشديد إذا سار خلفه واقتدى به وقيل هما واحد بَغْياً وَعَدْواً اى باغين وعادين او للبغى والعدو- وقيل بغيا فى القول وعدوا فى الفعل فلمّا وصل فرعون بجنوده الى البحر هابوا دخوله فتقدمهم جبرئيل عليه السلام على فرس أنثى وخاض البحر فاقتحمت الخيول خلفه حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ وانطبق عليهم الماء لمّا دخل آخرهم وهمّ أولهم ان يخرج قالَ فرعون آمَنْتُ أَنَّهُ اى بانه وقرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على إضمار القول او الاستيناف بدلا وتفسيرا لآمنت لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) فدسّ جبرئيل عليه السلام فى فيه من حماة البحر فمات قبل ان تقبل توبته- نكب الشقي عن الايمان او ان القبول وبالغ فيه حين لا يقبل فقال الله تعالى على سبيل الإنكار.
آلْآنَ يعنى اتؤمن الان حين أيست من الحيوة ولم يبق لك اختيار وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ذلك مدة عمرك وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) الضالين المضلين عن الايمان- قال البغوي روى عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمّا أغرق الله تعالى(5/52)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
فرعون قال امنت انّه لا اله الّا الّذي امنت به بنوا اسراءيل فقال جبرئيل يا محمّد فلو رايتنى وانا أخذ من حال البحر فادسّه فى فيه مخافة ان تدركه الرحمة فائدة زعم جلال الدين الدواني ان فرعون مات مسلما حيث اتى بكلمة التوحيد حال حياته- وقد اتبع هو فى هذا القول الشيخ الاجل محى الدين ابن «1» العربي قدس الله سره حيث قال مات فرعون طاهرا- والحق ان قول الشيخ هذا مصروف عن الظاهر وكثير من كلماته السكرية لا تطابق الشرع وهذا القول خارق للاجماع- ومخالف للصحاح من الأحاديث قال الدواني كل ما فى القران من الوعيد بالنار انما جاء فى حق ال فرعون دون نفسه- قال الله تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ- وقال الله تعالى فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ- وقال وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ- واما فرعون فلا يعذب على كفره فانه قد أمن من بل على عصيانه وظلمه فى حق العباد فان حقوق العباد لا يغفرها الله- قلت وهذا ليس بشيء فان الله سبحانه قال فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فانه صريح فى كونه معذبا فى الاخرة لاجل كفره وما قال الله تعالى حكاية عن موسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا الى قوله اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا- وقوله قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما صريح فى ان موسى دعا على فرعون ان يموت على الكفر وقد أجيبت دعوته- فانكار موته على الكفر انكار لهذه الاية نعوذ بالله منه.
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ اى نلقيك بنجوة من الأرض وهى المكان المرتفع- او المعنى نبعدك مما وقع قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا- وقرا يعقوب ننجيك بالتخفيف من الافعال بِبَدَنِكَ اى ببدنك عاريا من الروح او كاملا سويّا او عريانا عن اللباس او بدرعك- وكانت له درع مشهور من ذهب مرصع بالجواهر- قال البغوي لما اخبر موسى قومه بهلاك فرعون قال بنوا إسرائيل مامان فرعون- فامر الله البحر فالقى فرعون على الساحل احمر قصيرا كانه ثور فراه بنوا إسرائيل وعرفوه بدرعه فصدقوا لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ اى من ورائك آيَةً أي عبرة وعظة- او اية دالة على طريقة التوحيد مظهرا لعجز البشر وان كان ملكا فانه كان فى نفوس بنى إسرائيل متخيّلا متمكنا انه لا يهلك حتّى شكّوا فى موته حين أخبرهم موسى عليه السلام الى ان عاينوه مطروحا على ممرهم من الساحل او لمن يأتى بعدك من القرون إذا سمعوا مال أمرك ممن شاهدك ونكالا عن الطغيان وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى الكفار عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (54) لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها-
__________
(1) فى الأصل محى الدين العربي-
.(5/53)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
وَلَقَدْ بَوَّأْنا اى أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ اى منزلا صالحا يعنى مصر وقيل الأردن وفلسطين وهى الأرض المقدسة الّتي كتب الله ميراثا لابراهيم وذريته وقال الضحاك هى مصر والشام وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى اللذائذ فَمَا اخْتَلَفُوا اى بنوا إسرائيل الذين كانوا فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فى امر محمّد صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه بل كان كلهم متفقين على انه رسول الله منعوت بصفات مكتوبة فى التورية مبشرين الناس بقرب ظهوره مستفتحين به على الذين كفروا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ اى معلومهم وهو محمّد صلى الله عليه وسلم كالخلق بمعنى المخلوق فى قوله تعالى هذا خَلْقُ اللَّهِ او المعنى حتّى جاءهم العلم بانه هو بمطابقة صفاته بما ذكرت فى التورية وظهور معجزاته فحينئذ اختلفوا فامنت طائفة منهم وكفرت طائفة عنادا وحسدا إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فيميّز المحق من المبطل بالانجاء والإهلاك.
فَإِنْ كُنْتَ ايها الإنسان فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القران والهدى على لسان رسولنا محمّد صلى الله عليه وسلم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ قال ابن عباس ومجاهد والضحاك يعنى من أمن من اهل الكتب كعبد الله بن سلام وأصحابه يشهدون لك انه موعود فى التورية والإنجيل مطابق فى قصصه واصول أحكامه بالكتب المتقدمة- فهذا خطاب مع اهل الشك من الناس- وكان الناس فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مصدق ومكذب وشاك- وفيه تنبيه على انه من خالجه شبهة فى الدين ينبغى ان يتسارع الى حلها بالرجوع الى الصالحين من اهل العلم- وقيل هذا خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الفرض والتقدير او لزيادة تثبيته يدل عليه ما اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال بلغنا انه صلى الله عليه وسلم قال لا أشك ولا اسئل- وقيل خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره على عادة العرب فانهم قد يخاطبون الرجل ويريدون به غيره كقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به المؤمنون بدليل قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً حيث لم يقل بما تعمل- وقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ- وقال الفراء علم الله سبحانه ان رسوله صلى الله عليه وسلم غير شاكّ لكنه ذكره على عادة العرب يقول أحدهم لعبده ان كنت عبدى فاطعنى ويقول لولده ان كنت ولدي فافعل كذا ولا يكون ذلك على وجه الشك لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ يعنى ما أنزلنا إليك امر ثابت متحقق مِنْ رَبِّكَ ثبت ذلك عندك بالآيات الواضحة والبراهين القاطعة(5/54)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
بحيث لا مدخل للمرية فيه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين.
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) الخطاب فى هذا كالخطاب فى ما سبق اما للشاكين من الناس او للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره او للرسول على سبيل الفرض- او الفرض منه التثبيت وقطع الاطماع عنه كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ-.
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ اى وجبت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يعنى قوله حين أخذ الميثاق ان هؤلاء للنار- روى مالك والترمذي وابو داؤد عن مسلم بن يسار قال سئل عمر بن الخطاب عن هذه الاية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الاية قال عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عنها فقال ان الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل اهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل اهل النار يعملون الحديث- وروى احمد عن ابى نصرة عن رجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له ابو عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله عز وجل قبض بيمينه قبضة واخرى باليد الاخرى وقال هذه لهذه يعنى للجنة وهذه لهذه يعنى للنار ولا أبالي. لا يُؤْمِنُونَ (97) إذ لا نقض لقضاء الله تعالى.
وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ دالة على الصدق موجبة للايمان فان السبب الأصلي لايمانهم انما هو تعلق ارادة الله تعالى به ولم يوجد- وجملة لو جاءتهم مع معطوفة عليها مقدرة فى محل الحال من فاعل لا يؤمنون- تقديره لا يؤمنون لو لم يجئهم ولو جاءتهم كل اية يعنى لا يؤمنون فى حال من الأحوال حذف ما حذف لدلالة المذكور عليه حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فى القبر او فى النار او حالة الغرغرة وحينئذ لا ينفعهم الايمان كما لم ينفع ايمان فرعون حالة الغرغرة.
فَلَوْلا اى فهلا كانَتْ قَرْيَةٌ اى اهل قرية من القرى الّتي أهلكناها آمَنَتْ قبل معاينة العذاب ولم يؤخر الى حالة الغرغرة كما اخر فرعون فَنَفَعَها إِيمانُها اى قبلها الله منها- عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي- وعن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله ليغفر لعبده ما لم يقع الحجاب قالوا يا رسول الله وما الحجاب قال ان تموت النفس وهى مشركة رواه احمد والبيهقي فى كتاب البعث والنشور إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء منقطع يعنى لكن قوم يونس أمنوا فنفعهم ايمانهم وجاز ان تكون الجملة فى معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه(5/55)
فيكون الاستثناء متصلا- والمعنى ما أمن «1» أحد من اهل قرية عاصية قبل معائنة العذاب الأخروي حالة الغرغرة الا قوم يونس فانهم أمنوا قبل حالة الغرغرة وقبل رؤية العذاب الأخروي لَمَّا آمَنُوا فى حالة الاختيار قبلنا منهم الايمان اخرج ابن مردوية عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الاية قال لما أمنوا دعوا وكَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ فى الدنيا إِلى حِينٍ (98) اى وقت معين معلوم عند الله تعالى وهو وقت اجالهم- وقال البغوي تأويل هذه الاية انه لم يكن قرية امنت عند معائنة العذاب فنفعها إيمانها فى حالة البأس الا قوم يونس- فانهم نفعهم ايمانهم فى ذلك الوقت- ثم قال واختلفوا فى انهم هل رأوا العذاب عيانا اولا- فقال بعضهم راوا دليل العذاب والأكثرون على انهم راوا العذاب عيانا- بدليل قوله تعالى كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ- والكشف يكون بعد الوقوع- وكلام البغوي هذا يفيد ان الايمان فى حالة العذاب الدنيوي لا يقبل ولم يقبل الا من قوم يونس وتسمى تلك الحالة حالة البأس- والصحيح ان المراد برؤية العذاب الأليم المانع من قبول الايمان رؤية العذاب الأخروي عند حضور الموت حين يرى ملائكة الموت- الا ترى ان الكفار عذبوا يوم بدر بالعذاب الدنيوي من القتل والاسر وغير ذلك ثم أمن بعض من بقي منهم حيّا- وكذا كان حال قوم يونس انهم أمنوا قبل رؤية العذاب الأخروي فقبل الله تعالى ايمانهم بعد ما رأوا العذاب فى الدنيا- ثم لما أمنوا كشف الله عنهم عذاب الخزي فى الحيوة الدنيا واما ايمان فرعون فلم يقبل اما لكونه عند الغرغرة واما لعدم خلوصه الى قلبه بسبب دعاء موسى اشدد على قلوبهم- وقد كان من عادة فرعون وقومه انهم كلّما وقع عليهم الرجز قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ وكان كلّما كشف الله عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فلعله أمن فرعون حينئذ ايضا بلسانه دون قلبه فلم يقبل منه- وقد ذكرنا مسئلة قبول التوبة قبل خالة الغرغرة فى سورة النساء فى قوله تعالى إِنَّمَا «2» التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ الاية وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الاية (قصة يونس عليه السلام) على ما ذكره البغوي عن ابن مسعود وسعيد بن جبير ووهب وغيرهم ان قوم يونس كانوا بنينوى من ارض الموصل- فارسل الله تعالى إليهم
__________
(1) فى الأصل ما امنت-
(2) وفى الأصل انّما التوبة على الذين إلخ-(5/56)
يونس عليه السلام يدعوهم الى الايمان- فدعاهم فابوا فقيل له أخبرهم ان العذاب مصبّحهم الى ثلاث فاخبرهم بذلك- فقالوا انا لم نجرّب عليه كذبا- فانظروا فان بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء- وان لم يبت فاعلموا ان العذاب مصبّحكم- فلما كان جوف تلك الليلة خرج يونس من بين أظهرهم- فلما أصبحوا تغشّاهم العذاب فكان فوق رءوسهم قدر ميل- وقال وهب غامت السماء غيما اسود هائلا- يدخن دخانا شديدا- فهبط حتّى غشّى مدينتهم واسودت سطوحهم- فلما راوا ذلك أيقنوا بالهلاك- فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه- فقذف الله فى قلوبهم التوبة- فخرجوا الى الصعيد بانفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم- ولبسوا المسوح وأظهروا الايمان والتوبة- وأخلصوا النية وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والانعام- فحنّ بعضها الى بعض وعلت أصواتها واختلطت أصواتها بأصواتهم وعجّوا وتضرّعوا الى الله عز وجل وقالوا أمنا بما جاء به يونس- فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم وذلك يوم عاشوراء- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابن المنذر وابو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان قوم يونس كانوا بنينوى من ارض الموصل فذكر نحوه- وفيه فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى كشف الله عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم ولم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل- واخرج ابن ابى حاتم عن على رضى الله عنه قال تيب على قوم يونس يوم عاشوراء وكان يونس قد خرج ينتظر العذاب وهلاك قومه فلم ير شيئا- وكان من كذب ولم يكن له بينة قتل فقال يونس كيف ارجع الى قومى وقد كذبتهم- فانطلق عاتبا على ربه مغاضبا لقومه- فاق البحر فاذا قوم يركبون سفينة فعرفوه فحملوه بغير اجر- فلما دخلها وتوسطت بهم ولججت وقفت السفينة لا ترجع ولا تتقدم فقال اهل السفينة ان لسفينتنا لشأنا قال يونس قد عرفت شأنها ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة- قالوا «1» ومن هو- قال انا اقذفونى فى البحر- قالوا ما كنا لنطرحك من بيننا حتّى نعذر فى شأنك- فاستهموا فاقرعوا ثلاث مرات فادحض سهمه- والحوت عند رجل السفينة فاغرقاه ينتظر امر ربه فيه- فقال يونس انكم والله لتهلكن جميعا او لتطرحونى فيه- فقذفوه فيه فانطلقوا وأخذت الحوت- وروى ان الله تعالى اوحى الى حوت عظيم
__________
(1) فى الأصل قال-(5/57)
حتّى قصد السفينة فلما راه اهل السفينة مثل الجبل العظيم وقد فغرفاه ينظر الى من فى السفينة كانّه يطلب شيئا خافوا فلما راه يونس عليه السلام زخ نفسه فى الماء- وعن ابن عباس رضى الله عنه انه خرج مغاضبا لقومه- فاتى بحر الروم فاذا سفينة مشحونة فركبها- فلما لججت السفينة تكافت حتّى كادوا ان يغرقوا- فقال الملاحون هاهنا رجل عاص او عبد ابق وهذا رسم السفينة إذا كان فيها ابق لا تجرى- ومن رسمنا ان نقترع فى مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه فى البحر- ولان يغرق واحد خير من ان تغرق السفينة بما فيها- فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فى كلها على يونس- فقام يونس فقال انا الرجل العاصي والعبد الآبق فالقى نفسه فى الماء- فابتلعه حوت ثم جاء حوت اخر اكبر منه وابتلع هذا الحوت- واوحى الله الى الحوت لا تؤذى منه شعرة فانى جعلت بطنك سبحنه ولم نجعله طعاما لك- وروى عن ابن عباس قال نودى الحوت انا لم نجعل يونس لك قوتا وانما جعلنا بطنك له حرزا ومسجدا- وروى انه قام قبل القرعة قال انا العبد العاصي الآبق- قالوا من أنت- قال يونس بن متّى- فعرفوا فقالوا لا نلقينك يا رسول الله ولكن نساهم- فخرجت القرعة عليه فالقى نفسه فى الماء- قال ابن مسعود ابتلعه الحوت فاهوى به الى قرار الأرض السابعة وكان فى بطنه أربعين ليلة- فسمع تسبيح الحصى فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ- فاجاب الله له فامر الحوت فنبذه على ساحل البحر كالفرخ الممعط- فانبت الله عليه شجرة من يقطين وهو الدباء فجعل يستظل تحتها ووكّل الله به وعلة يشرب من لبنها- فيبست الشجرة فبكى عليها- فاوحى الله تعالى اليه تبكى على شجرة يبست ولا تبكى على مائة الف او يزيدون وأردت ان اهلكهم- فخرج يونس فاذا هو بغلام يرعى فقال من أنت يا غلام- قال من قوم يونس- قال إذا رجعت إليهم فاخبرهم انى لقيت يونس- فقال الغلام قد تعلم انه ان لم يكن بينة قتلت قال يونس تشهد لك هذه البقعة وهذه الشجرة- فقال له الغلام فمرهما- قال يونس إذا جاءكما هذا الغلام فاشهدا «1» له قالتا نعم- فرجع الغلام فقال للملك انى لقيت يونس فامر الملك بقتله- فقال ان لى بينة فارسلوا معى فاتى البقعة والشجرة فقال أنشدكما بالله هل اشهد كما يونس قالتا نعم فرجع القوم مذعورين وقالوا للملك شهد له الشجرة
__________
(1) فى الأصل فاشهدوا-(5/58)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
والأرض فاخذ الملك بيد الغلام فاجلسه فى مجلسه وقال أنت أحق بهذا المكان منى فاقام لهم أمرهم ذلك أربعين سنة-.
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ يا محمّد ان يؤمن من فى الأرض كلهم لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذ عنهم أحد جَمِيعاً مجتمعين على الايمان غير مختلفين فيه- وفيه رد لمذهب القدرية الذين قالوا ان الله سبحانه يشاء ايمان جميع الناس لكنهم لا يؤمنون باختيارهم- فانها تدل انه لم يشأ ايمانهم وانّ من شاء إيمانه يؤمن لا محالة لاستحالة تخلف مشية الله عما شاء والتقييد بمشية الإلجاء خلاف الظاهر أَفَأَنْتَ يا محمّد تُكْرِهُ النَّاسَ يعنى الكفار حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) ولم يشا الله ذلك منهم ترتب الإكراه على عدم المشية بالفاء وإدخال حرف الاستفهام للانكار وتقديم الضمير على الفعل للدلالة على ان ما لم يشأ الله مستحيل وجوده لا يمكن تحصيله بالإكراه فضلا عن الحث والتحريض عليه- وذلك انه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على ان يؤمن جميع الناس فاخبره الله تعالى بانه لا يؤمن منهم الا من سبق علم الله فيه بالسعادة دون من سبق عليه بالشقاوة فلا تهتم فى ذلك فالاية تسلّية للنبى صلى الله عليه وسلم
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ بالله تعالى إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعنى الا بإرادته وتوفيقه وَيَجْعَلُ قرأ ابو بكر بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة اى يجعل الله الرِّجْسَ اى العذاب او الخذلان فانه سببه عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) الحق من الباطل يعنى الكفار لما على قلوبهم من الطبع ولعدم تعلق مشية الله تعالى بتعقّلهم
قُلِ يا محمّد انْظُرُوا ايها الناس وتفكروا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من عجائب الممكنات كالشمس والقمر والنجوم وحركاتها المنتسقة والجبال والبحار والأنهار والأشجار والمواليد الدالات على وجود صانع قديم قادر عليم متوحد بجلال ذاته وكمال صفاته- وكلمة ماذا ان جعلت استفهامية علقت انظروا عن العمد وَما تُغْنِي ما نافية او استفهامية للانكار فى موضع النصب يعنى لا تفيد الْآياتُ الموجبة للعلم واليقين وَالنُّذُرُ جمع نذير يعنى الرسل وغيرهم(5/59)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
كالشيب وموت الاقران عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فى علم الله وحكمه فان الايمان امر وهبى
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ اى مشركوا مكة إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ اى مثل وقائع الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم السّابقة- قال قتادة يعنى وقائع الله تعالى فى قوم نوح وعاد وثمود- والعرب يسمى العذاب أياما- والنعم ايضا أياما قال الله تعالى وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فكلّما مضى عليك من خير او شر فهو ايام قُلْ يا محمّد فَانْتَظِرُوا يا اهل مكة هلاكى إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) هلاككم
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على محذوف دل عليه قوله إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا كانه قيل نهلك الأمم ثم ننجّى رسلنا ومن أمن معهم على حكاية الحال الماضية كَذلِكَ يعنى كما ننجى رسلنا من الأمم السابقة كذلك حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) اى إنجاء مثل ذلك الانجاء ننجى محمّدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين يهلك المشركون- وحقّا علينا اعتراض يعنى وجب علينا وجوبا قرأ حفص والكسائي ننج مخففا من الافعال والباقون مشددا من التفعيل-
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لاهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي من صحته فانهم كانوا فى استبعاد من امر النبوة- وكانوا إذا رأوا الآيات اضطروا الى الايمان فكانوا فى شك وتزدد لشقاوتهم الجبلية فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الحجارة المنحوتة بايديكم وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ يعنى الّذي يحييكم ويميتكم ويخلق ما يشاء ويختار- وانما خص التوفى بالذكر للتهديد- جملة فلا اعبد الى آخره وضع موضع الجزاء اقامة للسبب مقام المسبب- تقديره ان كنتم فى شك من دينى فازيلوا ذلك الشك بالتأمل والتفكر فى دينى وهو هذا لا اعبد الحجارة المخلوقة الّتي لا تضر ولا تنفع واعبد الله الخالق القادر النافع الضار وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ اى بان أكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) بما دل عليه العقل وثبت بالنقل من الكتب السماوية
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ عطف على ان أكون ذكر الصلة فى المعطوف عليه بصيغة المضارع وفى المعطوف بصيغة الأمر لعدم(5/60)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
الفرق بينهما إذ المقصود وصلها بما يتضمنه من المعنى المصدري وصيغ الافعال كلها لذلك سواء- والمعنى أمرت بكونى على الايمان والاستقامة فى الدين والاستبداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح- او فى الصلاة باستقبال القبلة لِلدِّينِ حَنِيفاً حال من الدين او الوجه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) عطف على أقم يعنى أمرت بان لا تكونن من المشركين ومعناه نهيت عن كونى على الشرك
وَلا تَدْعُ عطف تفسيرى على قوله لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعنى لا تعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ ان دعوته وَلا يَضُرُّكَ ان خذلته ولا شك ان من تفكر ونظر بعين الانصاف فى هذا الدين المؤيد بالعقل والنقل حصل له اليقين بصحة الدين وزال عنه الشك ان شاء الله تعالى فَإِنْ فَعَلْتَ عبادة ما لا ينفعك ولا يضرك فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) حيث وضعت العبادة فى غير موضعه جزاء للشرط وجواب لسوال مقدر عن تبعة عبادة غير الله-
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ اى يصيبك بِضُرٍّ اى بمرض او شدة او بلاء فَلا كاشِفَ لَهُ اى لا دافع له أحد إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ الله بِخَيْرٍ من خيرات الدنيا والاخرة فَلا رَادَّ اى لا دافع لِفَضْلِهِ أحد لعله ذكر الارادة مع الخير- والمس مع الضر مع تلازم الامرين للتنبيه على ان الخير مراد بالذات والضر انما مسّهم لا بالقصد الاول- ووضع الفضل موضع الضمير للدلالة على انه متفضل بما يريدهم من الخير لا لاستحقاق لهم عليه- ولم يستثن لان مراد الله لا يمكن رده يُصِيبُ بِهِ اى بكل واحد من الخير والشر مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فتتعرضوا الرحمة بالطاعة ولا تتكلوا عليها ولا تيئسوا من غفرانه بالمعصية ولكن خافوا عذابه- روى ابو نعيم عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم انى لا اناصب عبدا لحساب يوم القيامة أشاء ان أعذّبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي- قطع الله سبحانه بهذه الاية طريق الرغبة والرهبة الا اليه وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)(5/61)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
سبقت رحمته على غضبه.
قُلْ يا محمّد يا أَيُّهَا النَّاسُ اهل مكة قَدْ جاءَكُمُ العلم الْحَقُّ الثابت المطابق للواقع يعنى العلم بالتوحيد والصفات واحوال المبدأ والمعاد فى القران وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مِنْ رَبِّكُمْ ولم يبق لكم عذر بالجهل- او المراد بالحق ما ظهر تحققه وصدقه بالاعجاز يعنى القران او الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبق لكم عذر فَمَنِ اهْتَدى بإذعان ذلك العلم والسلوك على مقتضاه وبقبول القران ومتابعة الرسول فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فان نفعه عائد إليها وَمَنْ ضَلَّ عن طريق الحق بالإنكار والعناد فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لان وباله عائد عليها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) بحفيظ موكول الىّ أمركم حتّى اؤاخذ بضلالكم
وَاتَّبِعْ يا محمّد ما يُوحى إِلَيْكَ بامتثال الأوامر وترك المناهي وَاصْبِرْ على الطاعة وتحمل اذيتهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بقتال الكفار وضرب الجزية عليهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) لا يمكن الخطاء فى حكمه لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر- والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمّد واله وأصحابه أجمعين تمت تفسير سورة يونس من التفسير المظهرى التاسع والعشرين من رمضان السنة الاولى من المائة الثالثة عشر بعد الهجرة شوال «1» سنة 1201 هجرى
__________
(1) هكذا فى الأصل لعل المصنف رحمة الله عليه فرغ من تسويده فى رمضان وكتب هذه التاريخ بالحمرة فى شوال- ابو محمّد عفى عنه
.(5/62)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرس سورة هود عليه السلام من التفسير المظهرى
مضمون صفحة ما ورد فى كتابة مقادير الخلائق والاجل والعمل والرزق ونحو ذلك- 7 ما ورد فى العرش على الماء- 7 مسئلة السموات والأرض وما بينهما خلقت لمحمّد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين 7 حديث عجبا لامر المؤمن ان امره كله له خير 9 حديث تواضعوا لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى- 9 ما ورد فى ان الكفار يعطون ثواب حسناتهم فى الدنيا- 12 حديث من أشرك فى عمله يعنى يرائى 12 حديث من كانت نيته طلب الاخرة ومن كانت نيته طلب الدنيا- 12 ما ورد فى كون علىّ رضى الله عنه باب العلم وذكر قطبيته- 14 حديث والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد ولم يؤمن الا كان من اهل النار- 15 حديث ان الله يدنى المؤمن فيضع كتفه عليه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا الحديث 15 ما ورد فى شهادة الأعضاء والازمنة والامكنة وغير ذلك- 16 قصة نوح عليه السلام 18 صفة السفينة- فى التنور 22 قصة هود عليه السلام 31 حديث الإسلام يهدم ما كان قبله 31 قصة صالح عليه السلام 34 قصة مجيء الملائكة لاهلاك قوم لوط اولا عند ابراهيم بالبشارة بإسحاق ويعقوب عليهم السلام 36 قصة مجيئهم لوطا عليه السلام 40 حديث رحم الله أخي لوطا كان يأوى الى ركن شديد 42 قصة شعيب عليه السلام 46 مسئلة من اشترى مكيلا او موزونا لا يجوز للمشترى ان يبيعه او يأكله حتّى يعيد الكيل والوزن- 47 حديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى يجرى فيه الصاعان- 47(5/63)
مضمون صفحه مضمون صفحه حديث زن وأرجح 47 ذكر موسى عليه السلام وفرعون- 52 حديث ان الله ليملى الظالم حتّى إذا اخذه لم يفلته- 53 حديث ما من نفس منفوسة الا قد كتب مكانها من الجنة او النار 54 قول ابن مسعود ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وتأويله والإجماع على ان الكفار مخلدون فى النار وما ورد فى الباب من الأحاديث- اقوال المفسرين فى تأويل قوله تعالى فى اهل النار والجنة خلدين فيها الّا ما شاء ربّك- 55 حديث اشتكت النار الى ربها فاذن لها بنفسين- 56 ما ورد فى دخول الفساق فى النار وخروجهم منها- 56 اهل الجنة ينعمون فى بعض احيانهم بما هو أعلى من الجنة وهو الاستغراق فى رؤية الله تعالى- 58 حديث قل امنت بالله ثم استقم 60 الاستقامة فوق الكرامة- 60 حديث ان الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد الا غلبه 61 فائدة الميل الى الظالمين ادنى ميل يوجب العذاب فكيف بالميل كله ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه وما ورد فى مصاحبة الظالم وتقويته- 61 ما ورد فى الجمع بين الظهرين والعشاءين وتأويلها وقول الفقهاء فيها- 62 ما ورد فى ان الحسنات والصلوات الخمس ورمضان مكفرات للخطايا- 65 الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم- 66 مسئلة الأمر غير الارادة وان ما أراد الله يجب وقوعه- 66 حديث خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوطا- 67 حديث شيبتنى سورة هود وأخواتها- 68 تمّت(5/64)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
سورة هود عليه السّلام
مائة وثلاث وعشرون اية مكية الا قوله أقم الصّلوة طرفى النّهار الاية ربّ يسّر وتمّم بالخير «1» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ مبتدا وخبر- او كتاب خبر مبتدا محذوف أُحْكِمَتْ آياتُهُ اى نظمت آياته نظما محكما لا يقع فيه نقص من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى- او منعت من النسخ ان كان المراد آيات السورة فانه ليس شيء منها منسوخا- او أحكمت بالحجج والدلائل- او جعلت حكيمة منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما لاشتمالها على أمهات الحكم العلمية والعملية ثُمَّ فُصِّلَتْ اى بينت بالفوائد من العقائد والاحكام والمواعظ والاخبار كما يفصل القلائد بالفرائد- او فصلت بجعلها سورا- او بانزالها نجما نجما- او فصل اى بين فيها ولخص ما يحتاج اليه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة للكتاب او خبر بعد خبر او صلة لاحكمت او لفصلت يعنى فصلت من عنده أحكامها وهو تقرير لاحكامها وتفصيلها على أكمل ما ينبغى باعتبار ما ظهر من امره وما خفى
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ اى لان لا تعبدوا- او بان لا تعبدوا- او فى ذلك الكتاب ان لا تعبدوا- وقيل ان مفسرة لانّ فى تفصيل الآيات معنى القول- ويجوز ان يكون كلاما مبتدا للاغراء كانه قيل الزموا ان لا تعبدوا الا الله إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ اى من الله تعالى نَذِيرٌ بالعقاب على الشرك وَبَشِيرٌ (2) بالثواب على التوحيد
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
__________
(1) الخطبة من الناشر(5/66)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
عطف على ان لا تعبدوا يعنى استغفروا رَبَّكُمْ على ما سلف منكم من المعاصي ثُمَّ تُوبُوا ثم ارجعوا بالطاعة إِلَيْهِ وقال الفراء ثم هاهنا بمعنى الواو والاستغفار هو التوبة يعنى يلزم أحدهما الاخر يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً اى يعيشكم عيشا حسنا فى أمن وسعة فان المعاصي جالبة للمصائب والبليات قال الله تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وقيل العيش الحسن الرضاء بالمقسوم والصبر على المقدور إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى حين موت كل واحد منكم فانها مدة معلومة عند الله تعالى بحيث لا يتغير وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فى دينه وعمله فَضْلَهُ اى جزاء فضله فى الدنيا بكثرة التوفيق وطمانية القلب والالتذاذ والراحة بذكر الله والبشرى وفى الاخرة بكثرة الثواب ومدارج القرب وَإِنْ تَوَلَّوْا حذفت احدى التاءين اى تتولوا وتعرضوا عن عبادة الله والتوحيد فَإِنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) يعنى يوم القيامة فان مقداره خمسين الف سنة بل ما لا نهاية لها
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ اى رجوع أموركم كلها فى الدنيا والاخرة وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الاثابة والتعذيب فى الدارين قَدِيرٌ (4) فهو تقرير لما مر من الآيات-
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ اى من الله تعالى روى البخاري عن ابن عباس قال كان ناس يعنى من المسلمين يستحيون ان يتخلوا فيفضوا بفروجهم الى السماء وان يجامعوا نساءهم فيفضوا الى السماء فنزل ذلك فيهم- وكذا اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية من طريق محمّد بن عباد بن جعفر عن ابن عباس- واخرج ابن ابى شيبة وابن جرير وابن المنذر من طريق ابن ابى مليكة قال سمعت ابن عباس يقرا أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ قال كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط الا وقد تغشوا ثيابهم كراهة ان يفضوا بفروجهم الى السماء- وقال البغوي قال عبد الله بن شداد نزلت هذه الاية فى بعض المنافقين كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم- وكذا اخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله ابن شداد بن الهاد- وفى لفظ المنافقين نظر فان الاية مكية والنفاق حدث بالمدينة وضمير منه(5/67)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
على هذا راجع الى النبي صلى الله عليه وسلم- وقال البغوي قال ابن عباس نزلت فى الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوى بقلبه على ما يكره ومعنى قوله يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يغطون صدورهم على الكفر والشحناء وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقال قتادة كانوا يحنون صدورهم لكى لا يسمعوا كتاب الله ولا ذكره- وقال السدى معنى يثنون يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنّيت عنانى- وقرا ابن عباس فيما روى عنه البخاري تثنونى صدورهم بالتاء والياء بالإسناد الى الصدور من اثنونى يثنونى- وهو بناء للمبالغة- وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخى ستره ويحنى ظهره ويتغشى بثوبه وهو يقول هل يعلم الله ما فى قلبى فنزلت هذه الاية أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ اى يغطون رءوسهم بثيابهم يَعْلَمُ الله ما يُسِرُّونَ فى قلوبهم وفيما عداها وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) اى باسرار ذات الصدور او بالقلوب وأحوالها وإذا لم يخف شيء من الله تعالى فسيظهر ما يشاء على رسوله وعلى المؤمنين-
وَما مِنْ دَابَّةٍ وهى كل حيوان يدب على الأرض فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها لتكفله إياها تفضلا ورحمة- وانما اتى بلفظ الوجوب تحقيقا لوصوله وحملا على التوكل فيه- ومن هاهنا قيل انّ على بمعنى من والاضافة فى رزقها للعهد يعنى ان الرزق المعهود المعلوم عند الله تعالى للعبد فالله تعالى متكفله إياه يأتى منه دون من غيره- قال مجاهد هو ما جاء من رزق فمن الله وربما لم يرزقها حتّى يموت جوعا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها قال البغوي قال ابن مقسم وروى ذلك عن ابن عباس مستقرها المكان الّذي تأوى اليه وتستقر فيه ليلا ونهارا- ومستودعها الموضع الّذي تدفن فيه إذا مات- وقال ابن مسعود المستقر أرحام الأمهات والمستودع أصلاب الآباء- ورواه سعيد بن جبير وعلى بن طلحة وعكرمة عن ابن عباس- وقيل المستقر الجنة او النار والمستودع القبر لقوله تعالى فى صفة الجنة والنار حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا- وساءَتْ مُسْتَقَرًّا كُلٌّ اى كل واحد من الدواب وأحوالها وأرزاقها فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) اى مثبت فى اللوح المحفوظ او فى كتب الحفظة- عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب الله مقادير الخلائق قبل ان يخلق السموات والأرض(5/68)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
بخمسين الف سنة قال وعرشه على الماء رواه مسلم وعن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة- ثم تكون علقة مثل ذلك- ثم تكون مضغة مثل ذلك- ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى او سعيد الحديث متفق عليه- وعن ابى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله عز وجل فرغ الى كل عبد من خلقه من خمس من اجله وعمله ومضجعه واثره ورزقه رواه احمد- كانّه أريد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها وبما بعدها ببيان كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى خلقهما وما فيهما- او المراد بالسماوات ما هو فى جهة العلو- وبالأرض ما هو فى جهة السفل- وجمع السموات دون الأرض لاختلاف العلويات بالأصل والذات دون السفليات وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلق السموات والأرض عَلَى الْماءِ قال البغوي وكان ذلك الماء على متن الريح- وقال كعب الأحبار خلق الله عز وجل ياقوتة خضراء- ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد- ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها- ثم وضع العرش على الماء- وقال ضمرة ان الله عز وجل كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم فكتب به ما هو كائن من خلقه وما هو خالق من خلقه ثم ان ذلك سبح الله ومجّده الف عام قبل ان يخلق شيئا من خلقه وروى البخاري عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء- ثم خلق السموات والأرض وكتب فى الذكر كل شيء الحديث- وقد ذكرنا بعض ما ورد من الاخبار فى العرش فى تفسير اية الكرسي فى سورة البقرة لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا اى ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر لاحوالكم وهو اعلم بكم حتّى يظهر فيكم استحقاق الثواب والعقاب فان السموات والأرض وما فيها اسباب ومواد لوجودكم ومعاشكم وما يحتاج اليه أعمالكم يستدعى ان تشكروا ربكم- ودلائل وامارات تستدلون بها على صانعكم وتستنبطون منها معرفة ربكم- فقوله ليبلوكم متعلق بخلق وفيه اشارة الى ان السموات والأرض وما بينهما لم تخلق لانفسها بل توطية وتمهيدا لخلق المكلفين بل لخلق المؤمنين بل لخلق أحسنهم عملا(5/69)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
وهو محمّد صلى الله عليه وسلم ومن يشبهه والمراد بالعمل ما يعم عمل الجوارح والقلب- اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردوية والحاكم فى التاريخ بسند رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعنى فى تفسير هذه الاية أيكم احسن عقلا وأورع من محارم الله واسرع فى طاعته فان احسن الأعمال اعمال القلوب وأحسنها حب الله والاشتغال بذكره والاستغراق فيه- فالمقصود من خلق السموات والأرض وجود اهل الله وفيه تحضيض على الترقي دائما فى مراتب العلم والعمل كما يدل عليه صيغة التفضيل وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا اى البعث او القول به او القران المتضمن لذكره إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) اى كالسحر فى الخديعة والبطلان وقرا حمزة والكسائي الّا ساحر على ان الاشارة الى القائل والساحر كاذب مبطل- اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة قال لما نزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ قال أناس ان الساعة قد اقتربت فتناهى القوم قليلا ثم عادوا الى أعمالهم السوء فانزل الله أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فقال أناس هذا امر الله قد اتى فتناهى القوم ثم عادوا الى مكرهم السوء فانزل الله
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الاية- واخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله يعنى لان أخرنا عنهم العذاب الموعود إِلى أُمَّةٍ اى الى حين مَعْدُودَةٍ ساعاته- ذكر فى القاموس فى معانى امة الحين- وقال البغوي اى الى أجل معدود- واصل الامة الجماعة فكانّه قال الى انقراض امة ومجيء اخرى- وقال البيضاوي الى جماعة من الأوقات معدودة اى قليلة لَيَقُولُنَّ اى الكفار استهزاء ما يَحْبِسُهُ اى ما يمنعه من الوقوع أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب فى علم الله كيوم بدر لَيْسَ ذلك العذاب مَصْرُوفاً عَنْهُمْ اى مدفوعا عنهم ويوم منصوب بمصروفا يعنى ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم وَحاقَ بِهِمْ اى أحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة فى التهديد ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) اى العذاب الّذي كانوا يستعجلونه ويقولون استهزاء ما يحبسه فوضع يستهزءون موضع يستعجلون-
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ يعنى الجنس مِنَّا رَحْمَةً اى من نعمة صحة وأمن وجدة واللام فى لئن لتوطية القسم ثُمَّ نَزَعْناها اى سلبنا تلك النعمة مِنْهُ وجواب(5/70)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
القسم وجزاء الشرط إِنَّهُ لَيَؤُسٌ اى شديد اليأس من ان يعود اليه مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل الله لقلة صبره وعدم ثقته به وعدم تسليم لقضائه كَفُورٌ (9) عظيم الكفر ان لما سلف له من نعمة الله نسّاء له ولما معه من نعمائه لان الإنسان لا يخلو من نعماء الله تعالى من الوجود وتوابعه
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ كصحة بعد سقم وغنى بعد عدم مَسَّتْهُ صفة لضراء لَيَقُولَنَّ جواب قسم وجزاء شرط ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي «1» اى المصائب الّتي ساءتنى يعنى لا ينسب ذهاب السيئات الى الله تعالى ولا يشكره بل ينسبه الى عادة الدهر إِنَّهُ لَفَرِحٌ اشر بطر بالنعمة مغتربها والفرح لذة فى القلب بنيل المشتهى فَخُورٌ (10) على الناس يزعم نفسه مستحقّا لذلك النعمة متعاليا على الناس يشغله الفرح والفخر عن الشكر
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء من الإنسان يعنى الا المؤمنين فانهم ليسوا بيؤس ولا كفور عند سلب النعمة بل يرجون فضل الله ويشكرون نعماءه السابقة والباقية ولا فرحين بطرا وأشرا غير مفتخرين على الناس عند انعامه بل يشكرون الله تعالى- وضع الله سبحانه الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ موضع المؤمنين اشعارا بانهم يصبرون فى الضراء ويعملون شكرا فى السراء- عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا لامر المؤمن ان امره كله له خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له رواه مسلم- وقال الفراء هذه استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فانهم ان نالهم شدة صبروا وان نالوا نعمة شكروا- وعلى قول الفراء اللام فى الإنسان للعهد يعنى إذا أذقنا الإنسان الكافر الّذي مر ذكره منا رحمة إلخ حتّى ينقطع الاستثناء أُولئِكَ اى الصابرون الشاكرون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) يعنى رضوان الله وجنته- عن عياض بن حمار المجاشعي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الله اوحى الىّ ان تواضعوا حتّى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد رواه مسلم-
فَلَعَلَّكَ يا محمّد تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ يعنى ما فيه سبّ الهتهم وذلك حين قالوا ايت بقرآن غير هذا ليس فيه سبّ الهتنا كذا قال البغوي- قال البيضاوي
__________
(1) لبس فى الأصل عنّى(5/71)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
ولا يلزم من توقع الشيء لوجود ما يدعو اليه وقوعه- لجواز ان يكون ما يصرف عنه وهو عصمة الرسول عن الخيانة فى الوحى والتقية فى التبليغ هاهنا- قلت وبهذا يندفع ما قيل ان لعل من الله واجبة الوقوع وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ الضمير فى به مبهم تفسيره أَنْ يَقُولُوا لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ «1» على محمّد كَنْزٌ ينفقه فى الاستتباع كالملوك أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه قاله عبد الله بن امية المخزومي- يعنى يضيق صدرك وتغتم بقولهم هذا- وجاز ان يكون المعنى لعلّك تارك بعض ما يوحى إليك اى تترك تبليغه إياهم لتهاونهم به وضائق به اى يضيق بذلك الترك صدرك فان ترك ما امر الله به يوجب ضيق الصدر كما ان إتيان ما امر الله به يوجب انشراح الصدر- ان يقولوا اى تترك التبليغ مخافة ردهم واستهزائهم بان يقولوا وضائق صدرك لاجل أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ان كان رسولا فقال الله تعالى إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ يعنى ليس عليك الا الانذار بما يوحى إليك ولا عليك شيء ان ردوا او اقترحوا او قالوا ايت بقرآن غير هذا- فما بالك تترك بقولهم او بمخافة ردهم او يضيق صدرك بقولهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) يحفظ ما يقولون فيجازيهم عليه-
أَمْ يَقُولُونَ أم منقطعة والاستفهام فيه للانكار يعنى بل أيقولون افْتَراهُ اى اختلقه من عند نفسه الضمير المنصوب عائد الى ما يوحى قُلْ يا محمّد فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فان قيل قد قال فى سورة يونس فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وقد عجزوا عنه فكيف قال فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ فهو كرجل يقول لاخر أعطني درهما فيعجز فيقول أعطني عشرة- أجيب بان سورة هود نزلت اولا فلما عجزوا عن إتيان العشرة انزل بعد ذلك فاتوا بسورة- وأنكر المبرد هذا الجواب وقال بل نزلت سورة يونس اولا وأجاب بان معنى قوله فى سورة يونس فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فى الاخبار عن الغيب والاحكام والوعد والوعيد على طبق الكتب المنزلة المتقدمة فعجزوا عن ذلك فقال لهم فى سورة هود فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ فى مجرد البلاغة وحسن النظم- قلت ثم قال فى سورة البقرة فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ- وتوحيد المثل باعتبار كل واحد مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم ان صح انى اختلقته فانكم عرب فصحاء مثلى تقدرون على ما اقدر عليه بل
__________
(1) فى الأصل الى محمّد-(5/72)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
أنتم اقدر لتعلمكم وكثرة مما رستكم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ليعينكم على إتيان سور مثله إِنْ كُنْتُمْ ايها الكافرون صادِقِينَ (13) فى قولكم انه مفترى وهذا شرط مستغن عن الجزاء بما مضى
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بإتيان ما دعوتم اليه وجمع الضمير فى لكم اما لتعظيم الرسول- او لان المؤمنين ايضا كانوا يتحدّونهم- وكان امر الرسول متناولا لهم من حيث انه يجب اتباعه عليهم فى كل امر الا ما خصه الدليل- او للتنبيه على ان التحدي مما يوجب قوة يقينهم ورسوخ ايمانهم فلا يغفلون عنه ولذلك رتب عليه قوله فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ اى متلبسا «1» بما لا يعلمه الا الله ولا يقدر عليه سواه وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لانه العالم القادر بما لا يعلم ولا يقدر عليه غيره ولظهور عجز الهتهم ولتنصيص هذا الكلام الثابت صدقه باعجازه عليه- وفيه تهديد واقناط من ان يجيرهم من بأس الله الهتهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذا تحقق عندكم اعجازه مطلقا ويجوز ان يكون الكل خطابا للمشركين والضمير المرفوع فى لم يستجيبوا لمن استطعتم والمعنى فان لم يستجب لكم ايها الكفار من استطعتم دعوتهم الى المعاونة على المعارضة لعجزهم وقد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة فاعلموا انه نظم لا يعلمه الا الله وانه منزل من عنده وان ما دعاكم اليه من التوحيد حق فهل أنتم داخلون فى الإسلام بعد قيام الحجة القاطعة وفى هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر-
مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله وإحسانه الْحَياةَ الدُّنْيا اى طول البقاء فى الدار الدنيا والصحة وَزِينَتَها من الأموال والأولاد والأزواج والخدم والحشم نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ اى نوصل إليهم جزاء أعمالهم الحسنة وافيا فِيها اى فى الدنيا وَهُمْ فِيها فى الدنيا لا يُبْخَسُونَ (15) اى لا ينقصون شيئا من أجورهم
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ شيء من الجزاء إِلَّا النَّارُ لانهم استوفوا جزاء أعمالهم الحسنة فى الدنيا وبقيت لهم أوزار الأعمال السيئة وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها من الحسنات يعنى لم يبق لهم ثواب فى الاخرة- اولم يكن لانهم لم يريدوا بها وجه الله تعالى حتّى يكون اجره على الله- والظرف اما متعلق بحبط والضمير يعود الى الاخرة- واما بصنعوا والضمير يعود الى الدنيا وَباطِلٌ فى نفسه
__________
(1) فى الأصل ملبسا-(5/73)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) من الحسنات فى الدنيا لانه لم يعمل على ما ينبغى وكانّ كلّ واحدة من الجملتين علة لما قبلها- والظاهر ان هذه الاية فى حق الكفار- روى البخاري عن عمر بن الخطاب فى حديث طويل انه قال رفعت بصرى فى بيته صلى الله عليه وسلم فو الله ما رايت فيه شيئا يرد البصر غير اهبة ثلاثة فقلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فان فارس والروم قد وسع عليهم واعطوا من الدنيا وهم لا يعبدون الله فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكيا فقال او فى هذا أنت يا ابن الخطاب ان أولئك قوم عجلوا طيباتهم فى الحيوة الدنيا واما المؤمن فيريد الدنيا والاخرة- وإرادته الاخرة غالبة فيجازى بحسناته فى الدنيا ويثاب عليها فى الاخرة- عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى عليها فى الدنيا ويثاب عليها فى الاخرة واما الكافر فيطعم بحسناته فى الدنيا حتّى إذا افضى الى الاخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا رواه مسلم واحمد- قلت وقوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ قرينة دلت على ان الاية فى حق الكفار للاجماع على ان مال المؤمن الى الجنة البتة- وقيل هذه الاية فى حق اهل الرياء عن ابى سعيد بن فضالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك فى عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فان الله اغنى الشركاء عن الشرك رواه احمد وعن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من كانت نيته طلب الاخرة جعل الله غناه فى قلبه وجمع الله شمله وأتته الدنيا وهى راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه امره ولا يأتيه منها الا ما كتب له رواه الترمذي ورواه احمد والدارمي عن ابان عن زيد بن ثابت- وقوله تعالى نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ «1» فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينافى قوله عليه السلام لا يأتيه منها الا ما كتب له لان إيفاء أعمالهم فى الدنيا بحيث لا يبخسون مكتوب لهم ويأتيهم البتة ولا يأتيه ما يزيد عليه وان كان طالب الدنيا يطلب ما لا نهاية له فانه لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثا- قلت وان كانت هذه الاية فى اهل الرياء فمعنى قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ انه ليس لهم جزاء ما يراءون فيه الا النار-
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ برهان مِنْ رَبِّهِ يدله على الحق والصواب فيختار عبادة الله على عبادة الأوثان والدار الاخرة الباقية ونعيمها على الدار الدنيا الفانية ولذاتها- الموصول
__________
(1) فى الأصل أعمالهم وهم فيها-(5/74)
مبتدا حذف خبره والفاء للتعقيب والهمزة لانكار الحكم بمشابهة من هذا شأنه بهؤلاء المقصرين هممهم وافكارهم على الدنيا بعد العلم بان المقصرين ليس لهم فى الاخرة الّا النّار وهو الّذي اغنى عن ذكر الخبر- والتقدير أفمن كان على بيّنة من ربّه كمن كان يريد الحيوة الدنيا- والمراد بالموصول المؤمنون المخلصون ومن قال المراد به النبي صلى الله عليه وسلم عنى به الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه للعموم وجمعية اسم الاشارة اليه فى قوله أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ- اخرج ابو الشيخ عن ابى العالية وابراهيم النخعي فى قوله أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ قال ذلك محمّد صلى الله عليه وسلم وكذا اخرج ابن ابى حاتم وابن مردوية وابو نعيم فى المعرفة عن على بن ابى طالب- والمراد بالبينة القران وَيَتْلُوهُ اى يقرأ ذلك البرهان شاهِدٌ مِنْهُ اى من الله تعالى وَمِنْ قَبْلِهِ اى من قبل نزوله كِتابُ مُوسى يعنى التورية شاهد من الله يصدق القران إِماماً كتابا مؤتما به فى الدين وَرَحْمَةً على المنزل عليهم وهما حالان من كتاب موسى- والمراد بالشاهد جبرئيل عليه السلام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية من طرق عن ابن عباس أفمن كان على بيّنة من ربّه ويتلوه شاهد منه قال جبرئيل- فهو شاهد من الله يتلو من كتاب الله الّذي انزل على محمّد صلى الله عليه وسلم- ومن قبله تلا التورية على موسى كما تلا القران على محمّد صلى الله عليه وسلم- وكذا ذكر البغوي قول ابن عباس وعلقمة وابراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك واكثر اهل التفسير انه جبرئيل عليه السلام- وقال الحسن وقتادة هو لسان محمّد صلى الله عليه وسلم- يعنى يقرا ذلك البرهان الّذي عليه المؤمنون شاهد من الله وهو محمّد صلى الله عليه وسلم- ومن قبله كتاب موسى شاهد له- اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني فى الأوسط وابو الشيخ عن محمّد بن على بن ابى طالب قال قلت لابى ان الناس يزعمون فى قول الله تعالى وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ انك أنت الشاهد- فقال وددت انى انا هو ولكنه لسان محمّد صلى الله عليه وسلم- وأخرجه ابو الشيخ من طريق ابى نجيح عن مجاهد- وقيل يتلو من التلو بمعنى التبعية والشاهد ملك يحفظه والضمير فى يتلوه اما لمن او للبينة باعتبار المعنى- ومن قبله كتاب موسى جملة مبتدئة- اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن مجاهد أفمن كان على بيّنة من ربّه قال هو محمّد(5/75)
صلى الله عليه وسلم والشاهد منه قال ملك يحفظه- وقيل الشاهد هو على بن ابى طالب قال البغوي قال على رضى الله عنه ما من رجل من قريش الا وقد نزلت فيه اية من القران فقال له رجل وأنت اىّ شيء نزل فيك- قال وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ- فان قيل فما وجه تسمية على بالشاهد- قلت لعل وجه ذلك انه أول من اسلم من الناس فهو أول من شهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم- والاوجه عندى ان يقال ان عليّا رضى الله عنه كان قطب كمالات الولاية وسائر الأولياء حتّى الصحابة رضوان الله عليهم اتباع له فى مقام الولاية- وافضلية الخلفاء الثلاثة بوجه اخر كذا حقق المجدد رضى الله عنه فى مكتوب من اواخر مكتوباته فكانّ معنى الاية أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعنى على حجة واضحة وبرهان قاطع وهو محمّد صلى الله عليه وسلم- فانه كان على حجة واضحة من ربه وبرهان قاطع يفيد العلم بالقطع انه رسول الله- وذلك معجزاته وأفضلها القران وعلومه المستندة الى الوحى- ويتلوه اى يتبعه شاهد من الله على صدقه وهو علىّ ومن شاكله من الأولياء- فان كرامات الأولياء معجزات للنبى صلى الله عليه وسلم وعلومهم المستندة الى الإلهام والكشف ظلال لعلوم النبي صلى الله عليه وسلم- المستندة الى الوحى فتلك الكرامات والعلوم شاهدة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم- فقوله صلى الله عليه وسلم انا دار الحكمة وعلىّ بابها رواه الترمذي بسند صحيح عن على- وانا مدينة العلم وعلىّ بابها فمن أراد
العلم فليأت الباب رواه ابن عدى فى الكامل والعقيلي فى الضعفاء والطبراني والحاكم عن ابن عباس وابن عدى والحاكم عن جابر- اشارة الى علوم الأولياء دون علوم الفقهاء فان أخذ علوم الفقهاء لم ينحصر على علىّ رضى الله عنه بل قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم- وقيل شاهد منه هو الإنجيل- وقبله كتاب موسى التورية شاهد له- وقيل البينة البرهان العقلي والشاهد القران- قال الحسين بن الفضل الشاهد هو القران ونظمه واعجازه- والمعنى أفمن كان قائما على وفق البرهان العقلي ويتبع ذلك البرهان شاهد من الله يعنى القران يشهد بصحة البرهان ومن قبل القران كتاب موسى يعنى التورية ايضا يشهد للبرهان والمراد بالموصول المسلم المخلص أُولئِكَ اشارة الى من كان على بينة بناء على ان المراد به جماعة المسلمين وجاز ان يكون اشارة الى شاهد من حيث المعنى ان كان المراد به علىّ رضى الله عنه ومن(5/76)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
شاكله من الأولياء يُؤْمِنُونَ بِهِ حقيقة الايمان وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ اى محمّد صلى الله عليه وسلم او بالقران مِنَ الْأَحْزابِ من اهل الملل كلها فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والّذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الامة ولا يهودى ولا نصرانى ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به الا كان من اصحاب النار رواه مسلم فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ فى شك مِنْهُ اى من الموعد او من القران إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) لقلة نظرهم واختلال فكرهم-
وَمَنْ أَظْلَمُ يعنى لا أحد «1» اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان زعم ان له ولدا او شريكا- او أسند اليه ما لم ينزله ونفى عنه ما أنزله- وأسند اليه تحريم ما لم يحرّم وتحليل ما حرم أُولئِكَ المفترون يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة فيسئلهم عن أعمالهم وَيَقُولُ الْأَشْهادُ يعنى الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم كذا اخرج ابو الشيخ عن مجاهد وعن ابن عباس انهم الأنبياء والرسل وهو قول الضحاك ويؤيده قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً- واخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيب قال ليس من يوم الا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم- وقال قتادة الخلائق كلهم- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه ويستره فيقول أتعرف ذنب كذا فيقول نعم اى رب حتّى قرره بذنوبه وراى فى نفسه انه قد هلك قال سترتها عليك فى الدنيا وانا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته واما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) فيه تهويل عظيم مما يحيق بهم حينئذ بظلمهم على الله بكذبهم عليه- قلت وليست الاشهاد منحصرة فى من ذكر بل من الاشهاد أعضاء المكلف قال الله تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ- وقال الله تعالى قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا الاية- وقال الله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ الاية وسنذكر- وفى حديث انس عند مسلم يقول الله كفى بنفسك اليوم عليك
__________
(1) فى الأصل لا اظلم-(5/77)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
شهيدا- وبالكرام الكاتبين شهيدا فتحتم على فيه ويقال لاركانه انطقى الحديث- وسنذكر أحاديث الباب فى تفسير الآيات المذكورة ان شاء الله تعالى- ومن الاشهاد الامكنة والازمنة وغير ذلك وقد ذكرنا بعض ما ورد فيها فى سورة العاديات فى تفسير قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها- قوله عليه السلام اخبارها ان تشهد يعنى الأرض على كل عبد وامة بما عمل على ظهرها- وروى البخاري عن ابى سعيد الخدري انه قال لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا انس الا شهد له يوم القيامة ورواه ابن خزيمة بلفظ لا يسمع صوته حجر ولا مدر ولا شجر ولا جن ولا انس الا شهد له- وفى حديث ابى هريرة مرفوعا عند ابى داود وابن خزيمة للمؤذن يغفر له مدى صوته وشهد له كل رطب ويابس- واخرج ابن المبارك عن عمر من سجد عند موضع عند شجر او حجر شهد له يوم القيامة- وعن عطاء الخراسانى نحوه- واخرج ابو نعيم عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس من يوم يأتى على ابن آدم الا ينادى فيه يا ابن آدم انا خلق جديد وانا فيما تعمل عليك غدا شهيد- فاعمل فىّ خيرا شهد لك به غدا- فانى لو قد مضيت لم ترنى ابدا- ويقول الليل مثل ذلك- واخرج مسلم عن ابى سعيد الخدري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان هذا المال خضر حلو ونعم صاحب لمسلم وهو لمن اعطى منه الأسير واليتيم وابن السبيل شهيد- وانه من يأخذ بغير حق كالذى يأكل ولا يشبع فيكون عليه شهيدا يوم القيامة واخرج ابو نعيم عن طاءوس قال يجاء يوم القيامة بالمال وصاحبه فيتحاجان الحديث-
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى يمنعون الناس عن دينه وَيَبْغُونَها عِوَجاً اى يصفونها بالانصراف عن الحق والصواب- او يبغون أهلها ان يعوجوا بالردة وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) يعنى والحال انهم كافرون بالاخرة وتكرير كلمة هم لتأكيد كفرهم واختصاصهم
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس سابقين- وقال قتادة هاربين- وقال مقاتل فائتين- والمعنى واحد يعنى ما كانوا يعجزون الله فى الدنيا ان يعاقبهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يعنى أنصارا يحفظهم من عذاب الله ولكن الله اخر عذابهم الى يوم القيامة ليكون أشد ودوم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ استيناف قرا ابن كثير وابن عامر وابو جعفر- ابو محمّد ويعقوب يضعّف بالتشديد من التفعيل(5/78)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
والباقون من المفاعلة- قيل تضعيف العذاب لاضلالهم الغير واقتداء الاتباع بهم ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يعنى استماع الحق فان الله تعالى لم يخلق «1» فيهم استعداد سماع للحق فهم صم لا يسمعونه وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) الهدى لتعاميهم عن آيات الله لعدم خلق الله تعالى البصيرة فى قلوبهم
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
حيث اشتروا عبادة الحجارة بعبادة الله تعالى واشتروا النار بالجنة وَضَلَ
اى فات عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
(21) ان الأصنام يشفع لهم عند الله
لا جَرَمَ فيه اقوال أحدها انّ لا- ردّ لكلام سابق يعنى ليس الأمر كما زعموا افتراء- وجرم كلام مبتدا معناه كسب وفاعله مضمر وقوله تعالى أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) فى محل النصب على المفعولية يعنى كسب الحكم بخسرانهم- وقيل معنى جرم وجب وحق فعلى هذا انهم فى الاخرة فى محل الرفع على الفاعلية- ثانيها ان لا جرم كلمتان ركبتا فصار معناهما حقا وانهم فى الاخرة فى محل الرفع على انه فاعل يعنى حق حقا انهم خاسرون- ثالثها ان معناه لا محالة- وفى القاموس لا جرم ولا ذا جرم ولا ان جرم ولا ان ذا جرم ولا جرم ككرم بالضم اى لا بد او حقا او لا محالة- وهذا أصله ثم تحول الى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام يقال لا جرم لاتينّك- وكونهم من الأخسرين لان خسران غيرهم بالكفر او المعاصي وخسرانهم بالكفر وصد غيرهم عن الايمان
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ قال ابن عباس خافوا- وقال قتادة انابوا وقال مجاهد اطمأنوا- وفى القاموس اخبت خشع وتواضع والخبيت الشيء الحقير أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) دائمون
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين والكافرين كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ فانه مثل الكافر فان الكفار لا يستطيعون السمع يعنى سماع الحق سماع قبول وما كانوا يبصرون الهدى وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ وذلك مثل المؤمن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ويبصرون بنور الله فى قلوبهم- فالكافر مشبه بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضديهما- والعاطف لعطف الصفة على الصفة ولذلك قال هَلْ يَسْتَوِيانِ ولم يقل هل يستوون كذا قال الفراء مَثَلًا اى تمثيلا او صفة او حالا
__________
(1) فى الأصل لم يخلق استعداد سماع-(5/79)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) اى تتعظون بضرب الأمثال والتأمل فيها- فيه أدغمت التاء فى الذال-
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي قرا ابن كثير وابو عمرو والكسائي بفتح الهمزة اى بانّى والمعنى أرسلناه متلبسا «1» بهذا الكلام وهو قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح كانّى والمعنى على الكسر- والباقون بالكسر اى فقال انّى لان فى الإرسال معنى القول مُبِينٌ (25) ابيّن لكم موجبات العذاب والثواب
أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من انّى لكم او مفعول مبين ويجوز ان يكون مفسرة متعلقة بأرسلنا او بنذير إِنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) ان تشركوا به شيئا- واليم بمعنى مؤلم فى الحقيقة صفة للمعذب يوصف به العذاب وزمانه على طريقة جدّ جدّه ونهارك صائم للمبالغة
فَقالَ الْمَلَأُ يعنى الاشراف والرؤساء لانهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس ابهة الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً آدميّا مِثْلَنا لا مزية لك علينا حتّى تكون نبيّا واجب الطاعة- كانهم أرادوا ان يكون ملكا او ملكا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا اى سفلتنا والرذل الدون من كل شيء وجمعه أرذل ثم جمع على اراذل مثل كلب وأكلب وأكالب لانه بالغلبة صار مثل الاسم قال عكرمة يعنى الحاكة والاساكفة بادِيَ الرَّأْيِ الرأى النظر بالعين والقلب. وايضا الرأى الاعتقاد كذا فى القاموس- وبادى الرأى معناه ظاهر النظر من غير تعمق من البدو- او أول الرأى من البدء- والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها- وقرا ابو عمرو بهمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بالياء- وانتصابه بالظرف على حذف المضاف اى وقت حدوث بادى الرأى- والعامل فيه اتّبعك وانما استرذلوه لذلك او لفقرهم فانهم لمّا لم يعلموا الا ظاهرا من الحيوة الدنيا كان ذا حظ بها اشرف عندهم والمحروم فيها أرذل وَما نَرى لَكُمْ يا نوح مع من تبعك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فى مال او غير ذلك يوهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) أنت فى دعوى النبوة واتباعك فى دعوى العلم بصدقك فغلّب المخاطبين على الغائبين
قالَ نوح يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي حجة واضحة شاهدة بصحة دعوى وَآتانِي رَحْمَةً اى بينة او هدى ونبوة مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
__________
(1) فى الأصل ملتبسا-[.....](5/80)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
قرا حمزة والكسائي وحفص بضم العين وتشديد الميم من التفعيل بمعنى أخفيت والباقون بفتح العين وتخفيف الميم من المجرد بمعنى خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها «1» بالحجة- يقال بصيرة ومبصرة إذا يهتدى بها- ويقال عمياء إذا لا يهتدى بها- وتوحيد الضمير لان البينة فى نفسها هى الرحمة- او لان خفاءها يوجب خفاء النبوة او على تقدير فعميت به النبوة وحذفها للاختصار او لانه لكل واحد منهما أَنُلْزِمُكُمُوها اى نلزمكم على الاهتداء بها اى بالبينة او الرحمة ونجبركم على قبولها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) لا تريدونها قال قتادة لو قدر الأنبياء ان يلزموا قومهم الايمان لالزموا ولكن لم يقدروا-
وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على التبليغ فهو وان لم يذكر لكنه معلوم مما ذكر مالًا اى جعلا يثقل عليكم ان أديتم او علىّ ان لم تؤدوا إِنْ أَجرِيَ قرا نافع وابن عامر وابو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها- يعنى ليس ثوابى إِلَّا عَلَى اللَّهِ بناء على وعده تفضلا وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا جواب لهم حين سالوا طردهم ليؤمنوا به انفة من المجالسة معهم إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصمون طاردهم عنده- او انهم يلاقونه ويفوزون بقربه- فكيف اطرد اولياء الله ومقربيه وَلكِنِّي قرا نافع والبزي وابو عمر بفتح الياء والباقون بإسكانها أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) بلقائهم ربهم او بمراتب قربهم من الله او فى التماس طردهم او تتسفهون عليهم بان تدعوهم اراذل او تجهلون عاقبة أمركم
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ يدفع انتقامه منى إِنْ طَرَدْتُهُمْ وهم بتلك الصفة والمثابة أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) بإدغام التاء فى الذال يعنى أفلا تتعظون وتعقلون لتعرفوا ان التماس طردهم ليس بصواب
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ اى خزائن رزقه وأمواله يعنى لست مدعيا فضلى عليكم بالمال حتّى تنكرونه وتقولون ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ ولا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عندى خزائن الله ولا أقول انا اعلم الغيب حتّى تكذبونى استبعادا- او حتّى اعلم ان هؤلاء الذين اتبعونى بادى الرأى من غير بصيرة وعقد قلب- وعلى الثاني يجوز عطفه على أقول وَلا أَقُولُ لَكُمْ «2» إِنِّي مَلَكٌ حتّى تنكرونه وتقولون ما أنت الا بشر مثلنا وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ
__________
(1) فى الأصل اليه الحجة-
(2) فى الأصل كلمة لكم داخا(5/81)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
اى تحتقره وتستصغره أعينكم يعنى الذين قلتم فيهم أراذلنا لاجل فقرهم- افتعال من زرا عليه إذا عابه- قلبت تاؤه دالّا لتجانس الراء فى الجهر- واسناده الى العين للمبالغة والتنبيه على انهم استرذلوهم بادى الرأي من غير رؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة مالهم دون تأمل فى معانيهم وكمالاتهم وخصالهم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً بل ما أعطاهم فى الدنيا من الايمان والهداية- وفى الاخرة من الجنة والدرجات خير مما اعطاكم الله فى الدنيا من المال اللَّهُ أَعْلَمُ منى ومنكم بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من محبة الله ومحاسن الأخلاق والعقائد إِنِّي قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها إِذاً اى إذا طردتهم وقلت فيهم لن يؤتيهم الله خيرا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) .
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فاطلته إذ أتيت بانواعه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) فى دعوى النبوة والوعيد على ترك الايمان فان مناظرتك لا تؤثر فينا.
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ ليس ذلك فى وسعى لا إتيانه ولا تعجيله إِنْ شاءَ عاجلا او أجلا وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) الله بدفع العذاب او الهرب منه إذا جاء عذابه.
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي قرا نافع بفتح الياء وكذا ابو عمرو والباقون بإسكانها إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط ودليل جواب والجملة دليل جواب لقوله إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وتقدير الكلام ان كان الله يريد ان يغويكم فاردت ان انصح لكم لا ينفعكم نصحى فيه دليل على ان ارادة الله يصح تعلقها بالإغواء وان خلاف مراده تعالى محال وقيل معنى ان يغويكم ان يهلككم من غوى الفصيل إذا هلك هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم والمتصرف فيكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) فيجازيكم بأعمالكم.
أَمْ يَقُولُونَ يعنى بل أيقولون افْتَراهُ قال ابن عباس يعنى يقولون افترى نوح وقال مقاتل معناه تقولون افترى محمّد صلى الله عليه وسلم قُلْ يا نوح او يا محمّد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي اى وبال اجرامى والاجرام كسب الذنب وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) من اجرامكم فى اسناد الافتراء الىّ- قال البغوي روى الضحاك عن ابن عباس ان قوم نوح كانوا يضربون نوحا عليه السلام(5/82)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
حتّى يسقط فيلقونه فى لبدو يبقونه فى بيت يزعمون انه قد مات فيخرج فى اليوم الثاني ويدعوهم الى الله سبحانه وتعالى- وروى ان شيخا منهم كان يتوكا على عصا ومعه ابنه فقال يا بنى لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكنني من العصا فاخذ العصا من أبيه حتّى شج شجة منكرة فاوحى الله تعالى اليه ما ذكر فى كتابه.
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ افتعال من البؤس وهو الحزن ومعناه لا تحزن بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) من التكذيب والإيذاء- اقنطه الله من ايمانهم حتّى لا يتعب نفسه فى دعوتهم ونهاه ان يغتم حيث وعده بانى مهلكهم ومنقذك منهم- فحينئذ دعا نوح عليهم بقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- وحكى محمّد بن إسحاق عن عبيد ابن عمير الليثي انه بلغه انهم كانوا يبطشون بنوح فيخنقونه حتّى يغشى عليه وإذا أفاق قال رب اغفر لقومى فانهم لا يعلمون- حتّى إذا عادوا فى المعصية واشتد عليه منهم البلاء انتظر النجل بعد النجل- فلا يأتى قرن الا أخبث من الّذي قبله- حتّى كان الاخر منهم ليقولون قد كان هذا مع ابائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا- فشكى الى الله عز وجل وقال رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً حتّى قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فاوحى الله اليه.
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا حال اى متلبسا بأعيننا- قال ابن عباس بمراء منا- وقال مقاتل بعلمنا- وقيل بحفظنا- عبر عن المبالغة فى الحفظ بالأعين لكونها اكثر آلات الحفظ والمراعات عن الاختلال من سائر الحواس وَوَحْيِنا إليك كيف تصنع او بامرنا بصنعه وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى لا تدعنى باستدفاع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) بالطوفان حكمت عليهم فى الأزل بالاغراق فلا سبيل الى كفّه- قال البغوي فى القصة ان جبرئيل عليه السلام اتى نوحا- فقال ان ربك يأمرك ان تصنع الفلك- قال كيف اصنع ولست بنجار- فقال ان ربك يقول اصنع فانك بعيني فاخذ القدوم وجعل يصنع ولا يخطئ- وقيل اوحى اليه ان يصنعها مثل جوء جوء الطائر.
وَيَصْنَعُ نوح الْفُلْكَ حكاية حال ماضية- قال البغوي اقبل نوح على عمل الفلك ولهى عن قومه- واعقم الله أرحام نسائهم فلم يولد لهم ولد- وجعل نوح يقطع الخشب ويضرب الحديد(5/83)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره- وجعل قومه يمرون عليه وهو فى عمله وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا به بعمله السفينة- فانه كان يعملها فى برية لم يكن بقربها ماء او ان عزّته- وكانوا يضحكون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجارا بعد ما كنت نبيّا- وروى انهم كانوا يقولون له يا نوح ماذا تصنع فيقول اصنع بيتا يمشى على الماء فيضحكون منه قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ إذا عاينتم عذاب الله فى الدنيا بالغرق وفى الاخرة بالحرق- قيل هذا على سبيل المشاكلة- والمعنى ان تستجهلونى فانى استجهلكم إذا نزل العذاب- وقيل معناه ان تسخروا منا فسترون عاقبة سخريتكم كَما تَسْخَرُونَ (38) يعنى سخرية مثل سخريتكم منا عند رؤية الفلك.
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ الموصول فى محل النصب بتعلمون اى فسوف تعلمون الّذي يأتيه عَذابٌ يُخْزِيهِ يهينه وَيَحِلُّ عَلَيْهِ اى ينزل عليه او يحل حلول الدين الّذي لا انفكاك عنه عَذابٌ مُقِيمٌ (39) دائم فحل بهم عذاب الغرق حتّى ماتوا وصاروا معذّبين فى البرزخ الى يوم القيامة ثم مردّهم الى عذاب النار وبئس المصير- قال البغوي زعم اهل التورية ان الله امره ان يصنع الفلك من خشب الساج وان يصنعه اعوج ازور وان يطليه القار من داخله وخارجه- وان يجعل طوله ثمانين ذراعا وعرضه خمسين ذراعا وطوله فى السماء ثلاثين ذراعا- والذراع الى المنكب- وان يجعله ثلاث أطباق سفلا ووسطا وعلوا ويجعل فيه كوى- ففعله نوح كما امره الله تعالى- واخرج إسحاق ابن بشر وابن عساكر عن ابن عباس بلفظ ان نوحا لمّا امر ان يصنع الفلك- قال يا رب واين الخشب قال اغرس الشجر فغرس الساج عشرين سنة- وكف عن الدعاء وكفوا عن الاستهزاء- فلما أدرك الشجر امره ربه فقطعها وجفّها- وقال يا رب كيف اجعل هذا البيت- قال اجعله على ثلاث صور راسه كرأس الديك وجؤجؤه كجؤجؤ الطير وذنبه كذنب الديك- واجعلها مطبقة- واجعل لها أبوابا فى جنبها وشدها بدسر يعنى مسامير الحديد وبعث الله جبرئيل فعلمه صنعة السفينة وكذا اخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب- وقال البغوي قال ابن عباس اتخذ نوح السفينة فى سنتين وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها(5/84)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
خمسين ذراعا وطولها فى السماء ثلاثين ذراعا وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون- فحمل فى البطن الأسفل الوحوش والسباع والبهائم- وفى البطن الأوسط الدواب والانعام وركب هو ومن معه البطن الا على مع ما يحتاج اليه من الزاد- واخرج ابن مردوية عن سمرة بن جندب قال طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وسمكها ثلاثين ذراعا- وأخرجه ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردوية عن ابن عباس من غير ذكر العرض- واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابو الشيخ عن قتادة قال ذكر لنا ان طول السفينة ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعا وطولها فى السماء ثلاثون ذراعا- وزاد انّ بابها فى عرضها- واخرج ابن جرير عن ابن عباس بلفظ كانت ثلاث طبقات فطبقة فيها الدواب والوحش وطبقة فيها الطير وفى شرح خلاصة السير ان الطبقة السفلى للطيور والبهائم والوحوش وغيرهم من الحيوانات والوسطى للطعام والشراب والثياب والعليا للناس- وقال الشامي كان طول السفينة ثمانين ذراعا وعرضها خمسين وسمكها الى السماء ثلاثين ذراعا والذراع الى المنكب- وعن ابن عباس ان طولها ستمائة ذراع- قال البغوي وروى عن الحسن قال كان طولها الفا ومائتى ذراع وعرضها ستمائة ذراع والمعروف هو الاول ان طولها ثلاثمائة ذراع- وعن زيد بن اسلم قال مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يعمل الفلك- وقيل غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة وعن كعب الأحبار ان نوحا عمل السفينة ثلاثين سنة وروى انها كانت ثلاث طبقات الطبقة السفلى للدواب والوحوش والطبقة الوسطى فيها الانس. الطبقة العليا فيها الطير فلما كثرت أرواث الدواب اوحى الى نوح ان اغمر ذنب الفيل- فوقع منه خنزير وخنزيرة فاقبلا على الروث- فلما وقع الفار تخرب السفينة تقرضها وحبالها فاوحى الله اليه ان اضرب بين عينى الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فاقبلا على الفار-.
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب غاية لقوله ويصنع وما بينهما حال من الضمير فيه- او حتّى هى الّتي يبتدا بعدها الكلام وَفارَ التَّنُّورُ واختلفوا فى التنور- اخرج ابو الشيخ عن عكرمة والزهري هو وجه الأرض كذا ذكر البغوي عنه- وكذا اخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن ابن عباس- وذلك انه قيل لنوح عليه السلام إذا رايت الماء-(5/85)
فار على وجه الأرض فاركب السفينة- واخرج عبد بن حميد وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن قتادة فى قوله تعالى وَفارَ التَّنُّورُ قال أعلى الأرض وأشرفها- واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى وفار التّنّور قال العين الّتي بالجزيرة عين الوردة- وروى عن علىّ قال فار التّنّور يعنى طلع الفجر ونور الصبح- وقال الحسن ومجاهد والشعبي انه التنور الّذي تخبز فيه- وهو قول اكثر المفسرين ورواية عطية عن ابن عباس اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس بلفظ إذا رايت تنور أهلك تخرج منه الماء فانه هلاك قومك- قال الحسن كان تنورا من حجارة كانت حواء تخبز فيه فصارت الى نوح فقيل لنوح إذا رايت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا فى موضعه قال مجاهد والشعبي كان فى ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور الا من ناحية الكوفة- وقال اتخذ نوح السفينة فى جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلى باب كندة- وكان فوران الماء منه علما لنوح- اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن علىّ بن ابى طالب قال فار التنور من مسجد الكوفة من قبل باب كندة- وأخرجه عنه ايضا ابو الشيخ من طريق الشعبي بلفظ والّذي فلق الحبة وبرئ النسمة ان مسجدكم هذا الرابع من اربعة مساجد المسلمين والركعتان فيه أحب الىّ من عشرهما سواها الا المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وان من جانبه الايمن مستقبل القبلة فار التنور- وقال مقاتل كان ذلك تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة- وروى عن ابن عباس انه كان بالهند- اخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ والحاكم وصححه- والفور ان الغليان قُلْنَا احْمِلْ فِيها اى فى السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ الزوجان كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الاخر فيقال لواحد من خف او نعل زوج خف وزوج نعل والمراد بالزوجين هاهنا الذكر والأنثى- يعنى من كل ذكر وأنثى اثْنَيْنِ منصوب على المفعولية لاحمل يعنى احمل اثنين من كل ذكر وأنثى اى من مجموعهما من كل واحد منهما واحدا- هذا على قراءة الجمهور باضافة كل الى زوجين- وقرأ حفص هاهنا وفى سورة المؤمنين من كلّ بالتنوين يعنى من كل نوع من الحيوان زوجين يعنى ذكرا وأنثى- فهو منصوب على المفعولية واثنين على هذا تأكيد- قال البغوي وفى القصة ان نوحا(5/86)
عليه السلام قال يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين فحشر الله اليه السباع والطير فجعل يضرب بيديه فى كل جنس فيقع الذكر فى يده اليمنى والأنثى فى يده اليسرى فيحملهما فى السفينة وَأَهْلَكَ عطف على المفعول به اعنى اثنين او زوجين والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من الله تعالى فى الأزل بالهلاك يعنى امرأته واعلة وابنه منها كنعان فانهما كانا كافرين وَمَنْ آمَنَ من الناس غيرهم وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) واختلفوا فى عددهم فقال قتادة وابن جريج ومحمّد بن كعب القرظي لم يكن فى السفينة إلا ثمانية نفر- نوح وامرأته وثلاثة بنين له سام وحام ويافث ونساؤهم- اخرج ابن جرير وابو الشيخ عن ابن جريج قال حدثت ان نوحا حمل معه بنيه الثلاثة وثلاث نسوة لبنيه- وأصاب حام زوجته فى السفينة فدعا ان يغير نطفته- فجاءت بالسّودان وقال الأعمش كانوا سبعة نوح وثلاث بنين له وثلاث كنائن- وهذان القولان يأباهما القران فان عطف قوله ومن أمن على أهلك يدل على المغائرة والسبعة المذكورون كانوا من اهله وقال ابن إسحاق كانوا عشرة نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة أناس ممن كان أمن
به سواهم وأزواجهم جميعا يعنى كانوا عشرة من الرجال وعشرا من النساء- وقال مقاتل كانوا اثنين وسبعين نفرا رجلا وامراة- وبنيه الثلاثة ونساءهم- فجميعهم ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء- وعن ابن عباس قال كان فى سفينة نوح ثمانين رجلا أحدهم جرهم- اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن ابن عباس قال حمل نوح معه فى السفينة ثمانين إنسانا وكان لسانه عربيّا- قال ابن عباس أول ما حمل نوح الدرة واخر ما حمل الحمار- فلما دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح عليه السلام يقول ويحك ادخل فنهض فلا يستطيع حتّى قال ويحك ادخل وان كان الشيطان معك- كلمة زلت عن لسانه فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله فدخل ودخل الشيطان فقال نوح ما أدخلك علىّ يا عدو الله- قال الم تقل ادخل وان كان الشيطان معك- قال اخرج عنى يا عدو الله- قال مالك بد من ان تحملني معك وكان فيما يزعمون فى ظهر الفلك- وروى عن بعضهم ان الحيّة والعقرب أتيا نوحا فقالتا احملنا- فقال انكما سبب الضر والبلاء فلا احملكما(5/87)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
قالتا احملنا فنحن نضمن لك ان نضر أحد أذكرك- فمن قال حين خاف مضرتهما سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ما ضرتاه- قال الحسن لم يحمل نوح فى السفينة الا ما يلد ويبيض فاما ما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئا-.
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها اى صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لانها فى الماء كالمركوب فى الأرض بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها حال من الضمير المرفوع فى اركبوا يعنى اركبوا فيها مسمين الله او قائلين بسم الله وقت إجرائها وارسائها- او مكانهما على ان المجرى والمرسى للوقت او للمكان او للمصدر والمضاف محذوف كقولهم اتيك خفوق النجم وانتصابهما بما قدرنا حالا ويجوز رفعهما ببسم الله على ان المراد بهما المصدر او جملة من مبتدا وخبر اى اجراؤها بسم الله فبسم الله خبره او صلته والخبر محذوف وهى اما جملة لا تعلق لها بما قبلها كانّ نوحا أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بان مجرها ومرسها بذكر اسم الله اى باسم الله اجراؤها وارساؤها ولفظ الاسم مقحم- واما حال مقدرة من الضمير المرفوع فى اركبوا او من الضمير المجرور فى فيها قرا حمزة والكسائي وحفص مجرها بفتح الميم من جرى- وقرا محمّد بن محيصن مجرها ومرسها بفتح الميمين من جرت ورست وكلّا يحتمل الثلاثة الزمان والمكان والمصدر- والباقون بضم الميمين من أجريت وأرسيت وامال حفص مجرها خاصة فى القران لا غير إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) اى لولا مغفرته لسيئاتكم ورحمته إياكم لما نجيتم- قال البغوي قال الضحاك كان نوح إذا أراد ان تجرى السفينة فقال بسم الله جرت- وإذا أراد ان ترسو قال بسم الله رست-.
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف دل عليه اركبوا يعنى فركبوا مسمين وهى تجرى بهم وهم فيها فِي مَوْجٍ جمع موجة كتمر وتمرة وهى ما ارتفع من الماء عند اضطرابه إذا اشتدت الريح كَالْجِبالِ يعنى كل موجة منها كجبل فى ترالمها وارتفاعها وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وقال عبيد بن عمير يام وكان كافرا وَكانَ فِي مَعْزِلٍ عزل فيه نفسه عن أبيه او عن دينه مفعل للمكان من عزله عنه إذا بعده يا بُنَيَّ قرا عاصم بفتح الياء اقتصارا عليه بالألف المبدلة من ياء الاضافة من قولك يا بنيا والباقون بكسرها اقتصارا عليه من ياء الاضافة ارْكَبْ مَعَنا فى السفينة-(5/88)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قرأ «1» ابن عامر وحمزة ويعقوب وابو بكر عن عاصم بإظهار الباء والآخرون يدغمونها فى الميم وفى التيسير اظهر ورش وابن عامر وحمزة واختلف عن قالون وعن اليزيدي وعن خلاد- والتقدير يا بنى اسلم واركب معنا- فان الركوب يدل على الإسلام لتوقفه عليه وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) فى الدين والانعزال فتهلك.
قالَ له ابنه كنعان لا اسلم ولا اركب معك ولكن سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ يمنعنى من الغرق قالَ له نوح لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ اى من عذابه المأمور به إِلَّا مَنْ رَحِمَ قيل من فى محل الرفع يعنى لا مانع من عذاب الله الا الله الراحم- او الإمكان من رحمهم الله وهم المؤمنون- رد بذلك ان يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللائذ به الا معتصم المؤمنين وهو السفينة- وقيل من فى محل النصب معناه لا معصوم الا من رحمه الله كقوله تعالى عِيشَةٍ راضِيَةٍ وقيل الاستثناء منقطع يعنى ولكن من رحمه الله يعصمه وَحالَ بَيْنَهُمَا اى بين نوح وابنه او بينه وبين الجبل الْمَوْجُ فَكانَ اى فصار او كان فى علم الله مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) يروى ان الماء علا على رءوس الجبال أربعين ذراعا وقيل خمسة عشر ذراعا- قال البغوي ويروى انه لما كثر الماء فى السكك وخشيت أم صبى عليه كانت تحبه حبّا شديدا- فخرجت الى الجبل حتّى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء ارتفعت حتّى بلغت ثلثيه فلمّا بلغها ذهبت حتّى استوت على رأس الجبل- فلمّا بلغ الماء رقبتها رفعت الصبى بيديها حتّى ذهب بها الماء فلو رحم الله منهم أحد الرحم أم الصبى- قلت لكن هذه القصة ينافى ما روى ان الله سبحانه اعقم أرحام نساء قوم نوح قبل غرقهم سنين حتّى لم يكن فيهم صبى حين اغرقوا-.
وَقِيلَ يعنى قال الله تعالى بعد ما تناهى امر الطوفان يا أَرْضُ ابْلَعِي اشربى ماءَكِ اى الماء الّذي نبع منك فشربته دون ما نزل من السماء فصار أنهارا وبحارا
__________
(1) والصحيح من طرق النشر قرا ورش وابن عامر وخلف عن حمزة فى اختياره وابو جعفر بإظهار الباء واختلف ابن كثير وعاصم وقالون وخلاد والوجهان صحيحان عن كل منهم والباقون اى ابو عمرو والكسائي ويعقوب بالإدغام فعداد يعقوب فى المظهرين وعداد أبو بكر وخلاد بوجه واحد منهم وإخراج ابن كثير وقالون منهم تسامح ومن طرق التيسير والشاطبية اظهر قالون والبزي وخلاد بخلاف عنهم وورش وابن عامر وخلف وادغم الباقون- روى ابن مجاهد عن قنبل ويحيى عن ابى بكر وعبيد عن حفص الإدغام- وابو جعفر وخلف مع ورش ومن معه ويعقوب مع ابو عمرو- والله اعلم- ابو محمّد عفا الله عنه-(5/89)
وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أمسكي عن المطر يعنى لا تمطرى فامسكت وَغِيضَ الْماءُ يعنى غاضه الله اى انقصه الله وهو لازم ومتعد وَقُضِيَ الْأَمْرُ اى أنجز ما وعد الله من إهلاك الكافرين وإنجاء المؤمنين وَاسْتَوَتْ اى استقرت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل وقيل بالشام وَقِيلَ يعنى قال الله تعالى بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) اى بعد القوم الظالمون بعدا من رحمة الله وهلكوا هلاكا ثم حذف الفعل وجعل للقوم الظّالمين وصفا للمصدر- قال البغوي روى ان نوحا عليه السلام بعث الغراب «1» ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع- فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون فى منقارها ولطخت رجلها بالطين فعلم نوح ان الماء قد نضب- فقيل انه دعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت- وطوق الحمامة الخضرة الّتي فى عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم يألف بالبيوت- واخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابو الشيخ عن قتادة قال وذكر لنا انها استقلت بهم فى عشر خلون من رجب وكانت فى الماء خمسين ومائة يوما ثم استقرت بهم على الجودي واهبطوا الى الأرض فى عشر ليال خلون من المحرم- واخرج ابن عساكر عن خالد الزيات بزيادة قال فى آخره فارست السفينة يوم عاشوراء فقال نوح لمن معه من الجن والانس صوموا هذا اليوم- وكذا قال البغوي انه روى ان نوحا ركب السفينة لعشر مضت من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت فطافت به سبعا وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه- وهبطوا يوم عاشوراء فصام نوح وامر من معه بالصوم شكرا لله عز وجل- وقيل ما نجى من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق كان فى الماء الى حجرته- وكان سبب نجاته ان نوحا احتاج الى خشب الساج للسفينة فلم يمكنه نقلها فحملها عوج اليه من الشام- فنجاه الله من الغرق لذلك قلت وقصة عوج ذلك يخالف ظاهر النصوص حيث قال الله تعالى قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- وقال قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- وقال لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ
__________
(1) وعن عمر بن الخطاب انه قال لما استقرت السفينة على الجودي لبث ما شاء الله ثم انه اذن له فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال ايتني بخبر الأرض فانحدر الغراب على الأرض وفيه الغرقى من قوم نوح فابطأ عليه فلعنه- فدعا الحمامة فوقف على كف نوح فقال اهبطى فتأتى الخبر فلم يلبث الا قليلا حتّى جاءت بنقص ريشة فى منقارها فقالت اهبط فقد أثبتت الماء الأرض قال نوح بارك الله فيك وفى بيت يؤويك وحبّبك الى الناس لولا ان يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله ان يجعل رأسك من ذهب 12 ازالة الخفا- منه رحمه الله تعالى(5/90)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
فتخصيص عوج من العمومات القاطعة لا يجوز الا بقاطع ولم يوجد والقصة يأبى عنه العقل والنقل-.
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ الفاء لتفسير النداء رَبِّ إِنَّ ابْنِي يعنى كنعان مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ لا خلف فيه وعدت ان تنجى أهلي فماله لم ينج- ويجوز ان يكون هذا النداء قبل الغرق وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) لانك أعلمهم واعدلهم ولا يجوز خلف فى حكمك وقد حكمت بهلاك قوم ونجاة أهلي- او المعنى انك اكثر حكمة من ذوى الحكم والحكمة.
قالَ الله تعالى يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لقطع الولاية بين المؤمنين والكفار إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تعليل لنفى كونه من اهله- قرا الكسائي ويعقوب عمل بكسر الميم على الفعل الماضي وغير بالنصب على المفعولية اى عمل الشرك والتكذيب- والباقون بفتح الميم والتنوين على انه مصدر مرفوع وهو خبران على حذف المضاف ونقل إعرابه الى المضاف اليه- تقديره انه ذو عمل غير صالح وفيه مبالغة حيث جعل ذاته ذات العمل- او المعنى ان سوالك إياي بانجائه عمل غير صالح فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح- قرا نافع وابن عامر بفتح اللام وكسر النون المشددة على ان أصله تسئلنّنى بالنون المشددة ونون الوقاية فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت المشددة الياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة- وقرا ابن كثير كذلك الا انه يفتح النون المشددة وليس فى هذه القراءة نون الوقاية ولا ياء المتكلم الضمير المنصوب- وقرا الباقون بإسكان اللام وكسر نون الوقاية وتخفيفها وحذف الياء واثبت ابو جعفر وابو عمرو وورش ويعقوب الياء فى الوصل فقط ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اصواب هو أم خطاء سمى نداءه سوالا لتضمنه ذكر الموعد بنجاة اهله المشعر باستنجازه فى شأن ابنه او استفسارا لمانع للانجاز فى حقه وسماه جهلا وزجر عنه بقوله إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو جعفر- ابو محمّد ابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) لان استثناء من سبق عليه القول من اهله قد دل على الحال وأغناه عن السؤال- قال البغوي اختلفوا فى هذا الابن- قال مجاهد والحسن كان ولد خبث من غير نوح ولم يعلم بذلك نوح ولذلك قال ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ- وقرا الحسن فخانتاهما- وقال ابو جعفر الباقر عليه السلام كان ابن امرأته ولذلك قال من أهلي ولم يقل منى- وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرون(5/91)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
انه كان ابن نوح من صلبه- قال ابن عباس ما بغت امراة نبى قط وقوله إِنَّهُ، لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ اى من اهل دينك لانه كان كافرا- وقوله فَخانَتاهُما اى فى الدين والعمل لا فى الفراش- وقوله إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ يعنى ان تدعو بهلاك الكفار ثم تسئل نجاة كافر- وقال الشيخ ابو منصور كان ابن نوح منافقا لا يعلم نوح بكفره والا لا يحتمل ان يقول نوح إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ويسئل نجاته وقد سبق من الله النهى عن سوال مثله- بقوله. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ- فاعلمه الله تعالى إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ- وفى قول ابى منصور هذا نظر فان قوله تعالى يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ صريح فى كونه مجاهرا بالكفر والله اعلم.
قالَ نوح رَبِّ إِنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فيما يستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ اى ما لا علم لى بصحته وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي سوالى بنجاة الكافر بعد النهى عنه بخطاء فى الاجتهاد وَتَرْحَمْنِي بالتوبة والعصمة والتفضل علىّ أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) أعمالا-.
قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ اى انزل من السفينة بِسَلامٍ مِنَّا اى مسلّما من المكاره من جهتنا- او مسلّما عليك وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ البركة الخير النامي- والمراد بالبركات مراتب قرب الله تعالى ورحمته وفضله وكثرة ذريته وبقاؤهم الى يوم القيامة وكون الأنبياء منهم والصالحين وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ من للبيان والمراد بالأمم الذين كانوا معه فى السفينة لانهم كانوا جماعات او لتشعّب الأمم منهم- او لابتداء الغاية اى على امم ناشية من معك قال محمّد بن كعب دخل فيه كل مؤمن الى قيام الساعة- فان قيل قوله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ يدل على حصر البقاء فى ذرية نوح دون من معه فى الفلك- قلنا كان معه فى الفلك بنوه «1» الثلاثة فالمعنى على امم تنشا ممّن معك من ابنائك وَأُمَمٌ مبتدا حذف خبره يعنى وممّن معك امم لا بركة عليهم بل سَنُمَتِّعُهُمْ فى الدنيا بما كتبنا لهم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) فى الاخرة لاجل كفرهم وقيل المراد بهم قوم هود وصالح ولوط وشعيب والعذاب عذاب الدنيا.
تِلْكَ يعنى قصة نوح مرفوع على الابتداء خبره مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى ما غاب عنك يعنى بعضها
__________
(1) فى الأصل بنيه-(5/92)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
نُوحِيها الضمير للانباء خبر ثان أو حال من الانباء او هو الخبر ومن انباء متعلق به او حال من الضمير المنصوب فيه إِلَيْكَ يا محمّد ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا هذا خبر اخر اى مجهولة عندك وعند قومك من قبل ايحائنا إليك او حال من الضمير المنصوب فى نوحيها- او من الضمير المجرور فى إليك اى جاهلا أنت وقومك بها- تنبيه على كونه معجزة فانه لم يتعلمه الا من الله تعالى- فانه لم يخالط غير قومه وقومه مع كثرتهم لما لم يسمعوه فكيف بواحد منهم فمطابقة هذا النبا بالكتب المنزلة المتقدمة دليل واضح على نبوته صلى الله عليه وسلم فَاصْبِرْ بعد ظهور أمرك على تبليغ الرسالة وما يلقاك أذى من الكفار كما صبر نوح إِنَّ الْعاقِبَةَ فى الدنيا بالظفر وفى الاخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ (49) عن الشرك والمعاصي الجملة تعليل للصبر وعدم الجزع والاستعجال-.
وَإِلى عادٍ عطف على قوله الى نوح يعنى وأرسلنا الى عاد أَخاهُمْ فى النسب هُوداً عطف بيان قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) على الله باتخاذ الأوثان شركاء له فى العبادة وجعلها شفعاء.
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغ الرسالة أَجْراً يمنعكم ثقل ادائه عن قبول الرسالة- او يبعثنى طمعه على الكذب إِنْ أَجْرِيَ قرا نافع وابن عامر وابو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها- يعنى ما ثوابى إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي اى خلقنى قرا نافع والبزىّ بفتح الياء والباقون بإسكانها أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) اى أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا ان من هذا شأنه يجب تصديقه.
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ يعنى اطلبوا منه تعالى مغفرة ما سلف منكم من الشرك والمعاصي. وذلك بالإسلام فان الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم عن عمرو بن العاص فى حديث مرفوع ثُمَّ تُوبُوا اى ارجعوا إِلَيْهِ اى الى ربكم بطاعته وترك عبادة غيره يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر أي السيلان وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ اى يضاعف قوتكم وذلك ان الله حبس عنهم المطر ثلاث سنين- واعقم أرحام نسائهم كما ذكرنا القصة فى سورة الأعراف- فقال لهم هو دان تستغفروا ربكم وتوبوا اليه يرسل «1» الله
__________
(1) فى الأصل أرسل-(5/93)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
عليكم المطر فتزدادون مالا- ويعيد أرحام النساء فيلدن أولادا فتزدادون قوة بالأموال والأولاد- وقيل تزدادون قوة الى قوة بدنكم وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) عطف على استغفروا- يعنى لا تعرضوا عما دعوتكم اليه مصرين على جرائمكم-.
قالُوا يعنى قومه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ اى بحجة تدل على صحة دعواك- وذلك لفرط عنادهم بعد ما جاءهم به من المعجزات وَما نَحْنُ بِتارِكِي عبادة آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ اى بقولك فهو صلة- او صادرين عن قولك فهو حال من الضمير فى تاركي وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) اى بمصدقين اقناط من الاجابة والتصديق.
إِنْ نَقُولُ اى ما نقول قولا إِلَّا قولنا هذا اعْتَراكَ من عراه يعروه إذا أصابه يعنى أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ اى بجنون وخبل حتّى تتكلم بالخرافات- وذلك انك تسبّ الهتنا وتمنع عن عبادتهم فانتقم بعضهم منك بالتخبيل- وجاز ان يكون معناه ما نقول فى حقك قولا الا قولنا اعتراك يعنى سيعتريك بعض الهتنا لاجل سبك إياهم بسوء اى باضرار وإهلاك- عبر عن المستقبل بالماضي مبالغة فى التحقيق والتهديد يعنى انه واقع لا محالة كانه وقع- وهذا التأويل يناسب قول هود فى الجواب حيث قالَ إِنِّي قرا نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أُشْهِدُ اللَّهَ على وَاشْهَدُوا أنتم يا قوم أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) به.
مِنْ دُونِهِ يعنى من الأوثان لا أعبدهم ولا أخاف منهم أصلا فَكِيدُونِي فاحتالوا فى اضرارى وإهلاكي أنتم وشركاؤكم جَمِيعاً مجتمعين يعين بعضكم بعضا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) اى لا تمهلونى- فيه استهانة لهم وثقة بالله تعالى واظهار لعجز الهتهم- فانها حجارة لا تضرو لا تنفع وفيه معجزة فانهم بعد هذه المقالة عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء الجبابرة العطّاش الى اراقة دمه من ان يضروه.
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ اى اعتمدت عليه ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ يعنى الله سبحانه آخِذٌ بِناصِيَتِها الاخذ بالناصية تمثيل لقهر القاهر على المقهور وذل المقهور بين يديه يتصرف فيه كيف يشاء- قال البغوي خص الناصية بالذكر لان العرب يستعمل ذلك إذا وصف(5/94)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
إنسانا بالذلة فيقول ناصية فلان بيد فلان- قال الضحاك يعنى يميتها ويحييها- وقال الفراء مالكها والقادر عليها وقال القتيبي يقهرها لان من أخذت بناصية فقد قهّرته إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) يعنى انه على الحق والعدل فيجازى المحسن على إحسانه والمسيء على عصيانه ولا يضيع عنده معتصم به ولا يفوته.
فَإِنْ تَوَلَّوْا حذفت احدى التاءين يعنى ان تعرضوا عمّا دعوتكم اليه فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يعنى ان أعرضتم يهلككم الله- ويستبدل بكم قوما غيركم أطوع منكم يوحدونه ويعبدونه- حيث لم يبق لكم عذر بعد ما أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ولا بأس به علىّ فانى قد ادّيت ما علىّ من البلاغ وَلا تَضُرُّونَهُ تعالى باعراضكم شَيْئاً من الضرر انما تضرون أنفسكم- وقيل معناه لا تنقصونه شيئا إذا أهلككم لان وجودكم وعدمكم عنده سواء إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) رقيب لا يخفى عليه ما تصنعون ولا يغفل عن مجازاتكم او حافظ مستول على كل شيء فلا يمكن ان يضره شيء-.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب او عذابنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وكانوا اربعة آلاف بِرَحْمَةٍ بنعمة مِنَّا اى بفضل منا لا بعملهم او بالايمان الّذي أنعمنا عليهم وَنَجَّيْناهُمْ كرر نجينا للتأكيد والتعظيم والتهويل مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وهو الريح الّتي أهلك بها عادا- وقد مر قصتها فى سورة الأعراف.
وَتِلْكَ عادٌ انث اسم الاشارة باعتبار القبيلة- وقيل اشارة الى اثار عاد يعنى فسيحوا فى الأرض وانظروا إليها ثم وصف إليها أحوالهم فقال جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كفروا بها وَعَصَوْا رُسُلَهُ يعنى هودا وغيره من المرسلين فان كلهم يدعون الى التوحيد ويصدق بعضهم بعضا فعصيان واحد منهم عصيان بجميعهم وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ متكبر عَنِيدٍ (59) لا يقبل الحق يقال عند الرجل يعنه عنودا إذا ابى ان يقبل الشيء وان عرفه- وقال ابو عبيد العنيد والعنود والمعاند المعارض لك بالخلاف- يعنى اتبعوا كبراءهم الطاغين يعنى عصوا من دعاهم الى الايمان وتركوا ما(5/95)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
ينجيهم وأطاعوا من دعاهم الى الكفر وأتوا بما يهلكهم.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً اى دعاء باللعنة من الناس والملائكة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ايضا يتبعون باللعن من الله تعالى اى جعلت اللعنة تابعة لهم فى الدارين واللعنة هى الابعاد والطرد عن الرحمة أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ اى جحدوه او كفروا نعمه فحذف الجار أَلا بُعْداً لِعادٍ قيل بعدا من رحمة الله وقيل هلاكا- قال البغوي للبعد معنيان أحدهما ضد القرب والاخر بمعنى الهلاك- وكذا فى القاموس والجملة دعاء عليهم باللعن والهلاك والمراد به الدلالة على انهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكى عنهم- وانما كرر الا وأعاد ذكرهم تفظيعا لامرهم وحثّا على الاعتبار بحالهم قَوْمِ هُودٍ (60) عطف بيان وفائدته الإيماء الى ان استحقاقهم البعد بما جرى بينهم وبين هود عليه السلام-.
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ اى بدا خلقكم مِنَ الْأَرْضِ يعنى خلقكم من آدم وآدم من التراب وَاسْتَعْمَرَكُمْ يعنى عمّركم واستبقاكم من العمر- وقال الضحاك أطال عمركم حتّى كان الواحد منهم يعيش ثلاثمائة سنة الى الف سنة- وكذلك قوم عاد فِيها اى فى الأرض- وقيل معناه قدركم على عمارتها وجعلكم عمّارها وسكانها وقال مجاهد استعمركم من العمرى اى جعلها لكم ما عشتم ويرثها منكم بعد انصرام اعماركم- او جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لغيركم فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ من عباده قربا لا كيف له حتّى أفاض عليهم الوجود- او قريب بالذات بلا كيف او بالرحمة لاوليائه مُجِيبٌ (61) لدعائهم.
قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا اى كنا نرجوا ان تكون سيدا فينا- وقيل اى كنا نرجوا ان توافقنا فى الدين وتعود الى ديننا قَبْلَ هذا القول يعنى دعائك ايّانا الى ترك عبادة الأوثان- فلمّا سمعنا منك هذا القول انقطع رجاءنا عنك أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على حكاية الحال الماضية وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد والتبرّى عن الأوثان مُرِيبٍ (62) اى ذى ريبة على الاسناد المجازى(5/96)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
من اراب فى الأمور- او موقع فى الريبة من ارابه إذا أوقعه فى الريبة وهى قلق النفس وانتفاء الطمأنينة.
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ اى بيان وبصيرة مِنْ رَبِّي ادخل حرف الشك باعتبار المخاطبين- وجاز ان يكون ان مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشان او ضمير المتكلم محذوفا يعنى انّى كنت او انّه اى الشأن كنت على بيّنة من ربّى وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً اى نبوة وحكمة فَمَنْ يَنْصُرُنِي يمنعنى مِنْ عذاب اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فى تبليغ رسالته والمنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) اى غير ان تخسرونى بابطال ما منحنى الله به والتعريض لعذابه- وقال الحسين بن الفضل لم يكن صالح فى خسارة حتّى قال فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ- وانما المعنى ما تزيدوننى بما تقولون الا نسبتى ايّاكم الى الخسارة فان التفسيق والتفجير فى اللغة النسبة الى الفسق والفجور فكذلك التخسير النسبة الى الخسران- وقال ابن عباس معناه ما تزيدوننى غير بصارة فى خسارتكم-.
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً انتصبت اية على الحال وعاملها معنى الاشارة ولكم حال منها تقدمت عليها لتنكيرها- وذلك ان قومه طلبوا منه ان يخرج من صخرة معينة ناقة عشراء اية لنبوته- فدعا صالح فخرجت منها ناقة وولدت فى الحال مثلها وقد مرت القصة فى سورة الأعراف فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ترع نباتها وتشرب ماءها ليس عليكم مؤنتها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ ان مسّستموها بسوء عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فى ثلاثة ايام.
فَعَقَرُوها يعنى عقر بامرهم قذار بن سالف فَقالَ لهم صالح تَمَتَّعُوا عيشوا فِي دارِكُمْ اى فى الدنيا او فى بلدكم ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة تصبحون اليوم الاول ووجوهكم مصفرة وفى اليوم الثاني محمرة وفى الثالث مسودة ثم تهلكون ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) اى غير مكذوب فيه- اجرى الظرف مجرى المفعول به مجازا- او وعد غير كذب على انه مصدر كالمجلود والمعقول- او غير مكذوب على المجاز على ان الواعد كانّه قال له أفي بك فان وفى به صدقه والا كذبه- فكان كما وعد- وأتاهم العذاب فى اليوم الرابع.
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا(5/97)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ
يعنى ونجيناهم من خزى يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة بغضب الله- قرا ابو جعفر ونافع والكسائي هاهنا وفى المعارج من عذاب يومئذ بفتح يوم على اكتساب المضاف البناء من المضاف اليه والباقون بالكسر جرّا إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) القادر على كل شيء والقاهر عليه.
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا اى كفروا الصَّيْحَةُ وذلك ان جبرئيل صاح صيحة واحدة- وقيل أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء فى الأرض- فتقطعت قلوبهم فى صدورهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) صرعى هلكى.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا اى لم يقيموا فِيها اى فى ديارهم أَلا إِنَّ ثَمُودَ قرا حفص ويعقوب وحمزة هنا والفرقان والنجم بفتح الدال من غير تنوين ووقفوا بغير الف والباقون بالتنوين ووقفوا بالألف عوضا عنه كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) قرا الكسائي ثمود بكسر الدال مع التنوين والباقون بفتح الدال من غير تنوين-.
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا من الملائكة قال ابن عباس وعطاء كانوا ثلاثة جبرئيل وميكائيل واسرافيل- وقال محمّد بن كعب كان جبرئيل ومعه سبعة- وقال الضحاك كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا- وقال السدى كانوا أحد عشر ملكا على صورة الغلمان الوضاء وجوههم إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى اى بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل باهلاك قوم لوط قالُوا سَلاماً اى نسلم عليك سلاما- ويجوز نصبه بقالوا على معنى ذكروا سلاما قالَ سَلامٌ اى «1» أمركم او جوابى سلام- او عليكم سلام رفعه اجابة بأحسن من تحيتهم- فانه جملة اسمية يدل على الدوام والاستمرار بخلاف الفعلية- قرا حمزة والكسائي هاهنا وفى الذاريات سلم بكسر السين بلا الف وهما لغتان نحو حلّ وحلال وحرم وحرام- وقيل المراد به الصلح اى نحن صلح لكم غير حرب فَما لَبِثَ اى فما ابطا ابراهيم أَنْ جاءَ اى فى ان- او ما تأخر عن المجيء والجار مقدر او محذوف- وجاز ان يكون ان جاء فى محل الرفع على الفاعلية يعنى فما ابطا مجيء ابراهيم بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) اى مشوى على الحجارة- فى القاموس الشاة يحنذها حنذا او تحناذا شواها وجعل فوقها حجارة محماة لتنضجها فهى حنيذ- وقيل الحنيذ ما تقطر ودكا من حنذت الفرس إذ عرقته بالجلال- وفى القاموس الفرس إذا ركضه وأعداه شوطا او
__________
(1) فى الأصل أمرك-(5/98)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
شوطين ثم ظاهر عليه الجلال فى الشمس ليعرق فهو حنيذ- فعلى هذا معناه السمين مجازا فيوافق قوله تعالى فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ قال قتادة كان عامة مال ابراهيم البقر.
فَلَمَّا رَأى ابراهيم أَيْدِيَهُمْ اى الرسل لا تَصِلُ إِلَيْهِ يعنى لا يمدون اليه أيديهم ولا يأكلون نَكِرَهُمْ يعنى انكرهم قال البيضاوي نكر وأنكر واستنكر بمعنى- وفى القاموس التّنكّر التّغيّر عن حال تسرك الى حال تكرهها وَأَوْجَسَ يعنى أحس وأضمر كذا فى القاموس- وقال مقاتل وقع فى قلبه وقال البغوي اصل الوجوس الدخول كانّ الخوف دخل قلبه مِنْهُمْ اى من الأضياف حين لم يأكلوا خِيفَةً خوفا قال قتادة وذلك انهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا انه لم يأت بخير وانما جاء بشر- قيل وذلك لانه كان عادتهم انه إذا مس من يطرقهم طعامهم امنوه والا خافوه- فخاف ان يريدوا به مكروها وظنهم لصوصا- والظاهر انه أحس بانهم ملائكة وخاف ان يكون نزولهم لامر أنكره الله عليه- او لتعذيب قومه قالُوا يا ابراهيم لا تَخَفْ إِنَّا ملائكة الله أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) بالعذاب.
وَامْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناخور وهى ابنة عم ابراهيم عليه السلام قائِمَةٌ من وراء الستر تسمع كلامهم وقيل كانت قائمة تخدم الأضياف وابراهيم جالس معهم فَضَحِكَتْ قال مجاهد وعكرمة اى حاضت فى الوقت- تقول العرب ضحكت الأرنب اى حاضت وكذا فى القاموس ويقال ضحكت السمرة إذا سال صمغها- والأكثرون على ان المراد منه الضحك المعروف واختلفوا فى سبب ضحكها- قيل ضحكت سرورا بزوال الخوف عنها وعن ابراهيم حين قالوا لا تخف- وقال السدى لمّا قرب ابراهيم الطعام إليهم فلم يأكلوا فخاف ابراهيم وظنهم لصوصا- فقال أَلا تَأْكُلُونَ- قالوا انا لا نأكل الطعام الا بثمن- قال ابراهيم فان له ثمنا- قالوا وما ثمنه- قال تذكرون اسم الله على اوله وتحمدونه على آخره- فنظر جبرئيل الى ميكائيل عليهما السلام وقال حق لهذا ان يتخذه ربه خليلا- فلما راى ابراهيم وسارة أيديهم لا تصل اليه ضحكت سارة- وقالت يا عجبا لاضيافنا انا نخدمهم بانفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا- وقال قتادة ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم- وقيل ضحكت لاصابة رأيها فانها كانت تقول لابراهيم اضمم إليك لوطا فانى اعلم(5/99)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
ان العذاب ينزل بهذا القوم- وقال مقاتل والكلبي ضحكت من خوف ابراهيم من ثلاثة وهو فيما بين خدمه وحشمه- وقيل ضحكت سرورا بالبشارة بالولد وولد الولد او بهلاك اهل الفساد وقال ابن عباس ووهب ضحكت تعجبا من ان يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها- وعلى هذا القول يكون فى الاية تقديم وتأخير تقديره وامرأته قائمة فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) فضحكت- قرا ابن عامر وحمزة وحفص يعقوب «1» بالنصب بفعل مضمر يفسره ما دل عليه الكلام- وتقديره ووهبناها من وراء اسحق يعقوب- وقيل انه معطوف على موضع بإسحاق او على لفظ إسحاق وفتحته للجر فانه غير منصرف- ورد للفصل بينه وبين ما عطف عليه بالظرف- والباقون بالرفع على انه مبتدا خبره الظرف اى ويعقوب مولود من بعد إسحاق- وقيل تقديره ومن بعد إسحاق يولد يعقوب- وقيل الوراء ولد المولد ولعله سمى به لانه بعد الولد- وعلى هذا إضافته الى إسحاق ليس من حيث ان يعقوب وراءه بل وراء ابراهيم من جهته- قال البيضاوي فيه نظر والاسمان يحتمل وقوعهما فى البشارة كيحيى- ويحتمل وقوعهما فى الحكاية بعد ان ولدا فسميا به- وتوجيه البشارة إليها وتخصيصها بها للدلالة على ان الولد المبشر به يكون منها- ولان النساء تكون أعظم سرورا بالولد من الرجال- ولانها كانت عقيمة حريصة على الولد فبشرت بالولد وولد الولد «2» وعلى انها يعيش ولدها حتّى يولد له وتعيش هى حتّى ترى ولد ولدها- فلما بشرت بالولد صكت وجهها اى ضربت تعجبا و.
قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجبا أصله كلمة ندبة يقال فى الشر- فاطلق فى امر فظيع وعند رؤية ما يتعجب منه والالف مبدلة من ياء الاضافة يدل عليه قراءة الحسن يويلتى بالياء على الأصل- وقيل الالف الف الندبة أصله يا ويلتاه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ كانت ابنة تسعين سنة فى قول ابن إسحاق وتسع وتسعين سنة فى قول مجاهد وَهذا بَعْلِي زوجى وأصله القائم بالأمر شَيْخاً ابن مائة وعشرين سنة فى قول ابن إسحاق ومائة سنة فى قول مجاهد- وكان بين البشارة والولادة سنة- ونصبه على الحال والعامل فيها معنى الاشارة إِنَّ هذا يعنى الولد من الهرمين لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) يعنى خلاف العادة.
قالُوا يعنى الملائكة منكرين عليها فى الاستعجاب
__________
(1) فى الأصل ويعقوب
(2) فى الأصل على لغير واو(5/100)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ اى من قضائه وقدرته- فان الله إذا أراد شيئا كان- فان قيل العجب حالة يعترى للانسان عند رؤية امر بديع مخالف للعادة والأمر كذلك- وكونه مقدورا الله تعالى لا ينافى الاستعجاب- إذ كل شيء مقدور لله تعالى وان كان بديعا مخالفا للعادة فما وجه انكارهم عليها فى الاستعجاب- قلنا خوارق العادات باعتبار اهل بيت النبوة ومهبط المعجزات وتخصيصهم لمزيد النعم والكرامات ليس ببديع- ولا حقيق بان يستغربه عاقل فضلا عن من نشأت وشابّت فى ملاحظة الآيات رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ
قيل هذا على معنى الدعاء من الملائكة- وقيل على معنى الخبر- والرحمة النعمة او المحبة من الله عز وجل- والبركة النماء والزيادة فى كل خير- وقيل الرحمة النبوة- والبركات الأسباط من بنى إسرائيل لان أنبياء بنى إسرائيل منهم وكلهم من أولاد سارة- وجملة رحمة الله وبركاته مستأنفة فى مقام التعليل للانكار على التعجب- كانه قيل إياك والتعجب فان أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله تعالى عليكم- هذا على تقدير كونه خبرا أَهْلَ الْبَيْتِ منصوب على المدح او النداء لقصد التخصيص كقوله اللهم اغفر لنا أيتها العصابة- وفى الاية رد على الروافض حيث لا يزعمون ازواج النبي صلى الله عليه وسلم من اهل البيت مع ان اهل البيت من حيث اللغة هى الأزواج وغيرهن اتباع لهن إِنَّهُ حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد مَجِيدٌ (73) فى الصحاح المجد السعة فى الكرم والجلالة- والكرم يوصف به الله تعالى لاحسانه وانعامه المتظاهرة- ويوصف به الإنسان للاخلاق والافعال المحمودة الّتي تظهر منه- ولا يقال هو كريم حتّى يظهر ذلك منه- قال البغوي واصل المجد الرفعة- وقال البيضاوي كثير الخير والإحسان وفى القاموس المجيد الرفيع العالي والكريم والشريف الفعّال-.
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ اى الخوف والفزع وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بإسحاق ويعقوب بدل الروع يُجادِلُنا جواب للماجئ به مضارعا على حكاية الحال- او لانه فى سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو- او دليل جوابه المحذوف مثل اجترى على خطابنا او شرع فى جدالنا- او متعلق بجواب محذوف أقيم مقامه مثل أخذ او ظل او اقبل(5/101)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
يجادلنا- قيل معناه يكلمنا لان ابراهيم لا يجادل ربه وانما يسئله ويطلب- وقال عامة اهل التفسير معناه يجادل رسلنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) وكان مجادلته انه قال للملائكة ارايتم لو كان فى مدائن لوط خمسون من المؤمنين أتهلكونهم قالوا لا قال او أربعون قالوا لا قال او ثلاثون قالوا لا حتّى بلغ خمسة قالوا لا قال ارايتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها قالوا لا قال ابراهيم عليه السلام عند ذلك ان فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجّينّه وأهله الّا امرأته كانت من الغابرين.
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسيء أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس- وفى القاموس الموقن او الدّعاء او الرّحيم الرقيق او الفقيه او المؤمن بالحبشية مُنِيبٌ (75) راجع الى الله والمقصود من بيان صفاته ذلك بيان الحامل على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه وعدم ارادة الانتقام من المسيء فقالت الرسل عند ذلك المجادلة.
يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال. إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ اى حكمه بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو اعلم بحالهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) غير مصروف بجدال ولا بدعاء ولا غير ذلك.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا يعنى تلك الملائكة لُوطاً على صورة غلمان مرد حسان الوجوه سِيءَ بِهِمْ اى ساء مجيئهم لوطا- وحزن لوط بظنه ايّاهم أناسا- فخاف عليهم ان يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم- قرا نافع وابن عامر والكسائي سيء بهم وسيئت وجوه بإشمام السين الضم هنا وفى العنكبوت والملك- والباقون بإخلاص كسرة السين وَضاقَ لوط بِهِمْ اى بسببهم ذَرْعاً تميز من النسبة يعنى ضاق ذرعه قال البغوي قلبه- وقال البيضاوي ضاق بمكانهم صدره- قلت والذرع فى الأصل اليد الى المرفق او الساعد- ويطلق على القوة كاليد- والمعنى هاهنا ضاقت اى ضعفت بهم طاقته ولم يجد من المكروه مخلصا كذا فى القاموس- قال البيضاوي هو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) شديد قال قتادة والسدى خرجت الملائكة من عند ابراهيم نحو قرية لوط- فاتوا لوطا نصف النهار وهو فى ارض(5/102)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
له يعمل فيها- وقيل انه يحتطب- وقد قال الله عز وجل لهم لا تهلكوهم حتّى يشهد عليهم لوط اربع شهادات- فاستضافوه فانطلق بهم- فلما مشى ساعة قال لهم ما بلغكم امر هذه القرية قالوا وما أمرهم- قال اشهد بالله انها لشر قرية فى الأرض عملا- يقول ذلك اربع مرات فدخلوا معه منزله- وروى انه حمل الحطب وتبعته الملائكة فمر على جماعة من قومه فغمزوا فيما بينهم- فقال لوط ان قومى شر خلق الله- ثم مر على قوم آخرين فغمزوا فقال مثله- ثم مر بقوم آخرين ففعل مثله- فكان كلما قال لوط هذا القول قال جبرئيل عليه السلام للملائكة اشهدوا حتّى اتى قومه- وروى ان الملائكة جاءوا الى بيت لوط عليه السلام ولقوه فى داره ولم يعلم بذلك أحد الا اهل بيت لوط- فخرجت امرأته فاخبرت قومها وقالت ان فى بيت لوط رجالا ما رايت مثل وجوههم قط-.
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال ابن عباس وقتادة يسرعون- وقال مجاهد يهرولون وقال الحسن مشيء بين مشيئين- وقال شمر بن عطية بين الهرولة والجفر- وفى القاموس مشيء فى اضطراب وسرعة- وبناء الفعل للمفعول للدلالة على كمال الاسراع والاضطراب- فالمعنى يسرعون اليه كمال اسراع كانهم يدفعون الى الاسراع وذلك لكمال طلبهم للفاحشة وَمِنْ قَبْلُ ذلك الوقت كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ كانوا يأتون الرجال فى ادبارهم ويعملون الفواحش فتمرّنوا بها ولم يستحيوا منها حتّى جاءوا يهرعون لها مجاهرين قالَ لهم لوط حين قصدوا أضيافه وظنوا انهم غلمان يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي يعنى فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفائتهم- لا لحرمة المسلمات على الكفار فانه شرع طار- وكان فى ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزا- كما زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبه بن ابى لهب وابى العاص بن الربيع قبل الوحى وكانا كافرين- وقال الحسين بن الفضل عرض بناته عليهم بشرط الإسلام- وقال مجاهد وسعيد بن جبير قوله هؤلاء بناتي أراد به «1» نساءهم وأضاف الى نفسه لان كل نبى ابو أمته- وفى قراءة أبيّ بن كعب النّبىّ اولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امّهاتهم وهو اب لّهم- وهذا القول يرجح من حيث المعنى بان ابنتيه لا تصلحان
__________
(1) وفى الأصل أراد نساءهم(5/103)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
لنكاح جماعة من الرجال- وقيل فى جواب هذا الترجيح انه كان لقوم لوط سيدان مطاعان- فاراد لوط ان يزوجهما ابنتيه- وقيل انما قال لوط هؤلاء بناتي على سبيل الدفع مبالغة فى تناهى خبث ما يقصدونه- يعنى ان ذلك أهون عليه منه لا على التحقيق هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ يعنى أنظف لكم فعلا او اقل فاحشة كقولك الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه- وقوله هؤلاء مبتدا وبناتي عطف بيان وهن فصل واطهر خبر المبتدا او بناتي خبر هؤلاء وهنّ اطهر مبتدا وخبر فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش وَلا تُخْزُونِ قرا ابو عمرو بإثبات الياء وصلا فقط اى لا تفضحونى من الخزي او لا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء فِي ضَيْفِي قرا نافع وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان يعنى لا تخزونى فى شأن أضيافي فان إخزاء ضيف الرجل اخزاؤه أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) يهتدى الى الحق ويجتنب عن القبيح وقال ابن إسحاق رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ يعنى لسن أزواجا لنا فنستحقهن بالنكاح- وقيل معناه مالنا فيهن من حاجة وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) وهو إتيان الذكران.
قالَ لهم لوط حينئذ لَوْ ثبت أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً فى البدن على دفعكم لوقيت بنفسي أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) اى انضم الى عشيرة مانعة قوية امتنع به عنكم لامتنعت به عنكم حذف جواب لو- شبه العشيرة بركن الجبل فى شدته اى جانبه القوى قال فى القاموس الرّكن بالضم الجانب الأقوى وما تقوى به من ملك او جند وغيره والعز والمنعة- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال رحم الله أخي لوطا كان يأوى الى ركن شديد- وفى لفظ يغفر الله للوط ان كان ليأوى الى ركن شديد- اخرج إسحاق وابن عساكر من طريق جرير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس وكذا ذكر البغوي عنه انه قال اغلق لوط بابه وأضيافه يعنى الملائكة فى الدار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب وهم يعالجون تسوّر الجدار فلما رات الملائكة ما يلقى لوط منهم.
قالُوا يا لُوطُ ان ركنك لشديد إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ(5/104)
فافتح الباب ودعنا وإياهم- ففتح الباب ودخلوا فاستأذن جبرئيل عليه السلام ربه فى عقوبتهم فاذن له- فقام فى الصورة الّتي يكون فيها فنشر جناحه- وعليه وشاح «1» من در منظوم وهو براق الثنايا اجلى الجبين ورأسه حبك «2» حبك مثل المرجان كانه الثلج بياضا وقدماه الى الخضرة- فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم- فصاروا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون الى بيوتهم- فانصرفوا وهم يقولون النجا»
النجا- فان فى بيت لوط اسحر قوم فى الأرض سحرونا- وجعلوا يقولون يا لوط كما أنت حتّى تصبح ونصبح وسترى ما تلقى منا غدا- يوعّدونه فقال لهم لوط متى موعد هلاكهم- قالوا الصبح- قال أريد اسرع من ذلك فلو اهلكتموهم الان فقالوا اليس الصبح بقريب ثم قالوا فَأَسْرِ يا لوط بِأَهْلِكَ قرا الحرميان فاسر وان اسر بوصل الالف حيث وقع من المجرد والباء حينئذ للتعدية- والباقون بقطعها من الافعال والباء زائدة ومعناه السّير فى الليل بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس بطائفة من الليل- وقال الضحاك ببقيته- وقال قتادة بعد ما مضى اوله- وقيل انه السحر الاول وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ اى لا ينصرف منكم أحد من السير فيتخلف عنك- فى القاموس لفته يلفته لواه وصرفه عن «4» رأيه ومنه الالتفات والتلفّت- قلت فالمجرد منه متعد- والالتفات لازم بمعنى الانصراف- وقيل معنى لا يلتفت لا ينظر من ورائه- فالامر بالاسراء متوجه الى لوط والنهى عن الانصراف او النظر الى الوراء متوجه الى من تبعه إِلَّا امْرَأَتَكَ قرا ابن كثير وابو عمرو بالرفع على انه يدل من أحد- فهى مستثناة من النهى عن الانصراف والتخلف او من النظر الى الوراء- قال البغوي معنى الاية على هذه القراءة لا يلتفت أحد الا امرأتك فانها تلتفت فتهلك- وكان لوط قد أخرجها معه ونهى من تبعه ممن اسرى بهم ان يلتفت سوى زوجته- فانها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت يا قوماه فادركها حجر وقتلها- وقرا اكثر القراء بالنصب على الاستثناء فاختلفوا فقال البغوي وغيره استثناء من الاسراء
__________
(1) الوشاح شيء ينسج عريضا من أديم وربما يرصع بالجواهر والخرز وشدته المرأة على عاتقها وكشحيها 12 نهايه منه رح
(2) ورأسه حبك اى شعر رأسه منكسر من الجعودة مثل الماء الساكن والرمل إذا هبّت عليهما الريح فتجعدان ويطيران طرائق واصل حبك جمع حباك ومعناه الطريق ومنه قوله تعالى وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ اى طريق النجوم 17 منه رحمه الله
(3) النجا شدة النظر يقال للرجل الشديد الاصابة بالعين انه لنجو ونجى 12 نهايه منه رح
(4) ليس فى الأصل عن رأيه-[.....](5/105)
اى فاسر باهلك الا امرأتك فلا تسربها وخلفها مع قومها- فان هواها إليهم وتصدقه «1» قراءة ابن مسعود فاسر باهلك بقطع من اللّيل الّا امرأتك ولا يلتفت منكم أحد- ومقتضى هذا الكلام ان فى إخراجها مع اهله روايتان- إحداهما انه أخرجها معهم- وأمروا ان لا يلتفت منهم أحد الا هى فالتفتت وقالت يا قوماه- وثانيهما انه امر باسراء غيرها من اهله- فان هواها إليهم فلم يسربها- واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين كذا قال صاحب المدارك وهذا القول غير سديد فان الروايتين متناقضتان لا يمكن جمعهما فان خروجها وعدم خروجها نقيضان- فاحداهما باطل بيقين والقراءتان قطعيتان ولا يصح حمل القواطع على المعاني المتناقضة- ولهذا قال البيضاوي الاولى جعل الاستثناء فى القراءتين عن قوله لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ- ومثله قوله تعالى ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ والّا قليلا على القرائتين- ويرد عليه ان مختار النحويين فى كلام غير موجب البدل وان كان الجائز النصب ايضا- فحمل قراءة اكثر القراء على غير الأفصح غير ملائم- وأجاب عنه البيضاوي بانه لا بعد ان يكون اكثر القراء على غير الأفصح لكونه فصيحا ايضا- ولا يلزم من ذلك يعنى من الاستثناء من النهى عن الالتفات أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحا- ولذلك علله على طريقة الاستيناف بقوله إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ قلت وعلى ما ذكر البيضاوي محمل قراءة ابن مسعود انه من كلام ابن مسعود قاله تفسيرا للقران على رأيه- يعنى جعل الاستثناء من الأهل كما هو راى اكثر المفسرين والله اعلم- قلت وجاز ان يكون الاستثناء على قراءة النصب منقطعا- فان امراة لوط لم تكن من اهله لانها كانت كافرة على غير عمل صالح- وقد قال الله تعالى لنوح فى ابنه الكافر إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ- فلم تكن من اهله فى المخاطبين بقوله لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ- واما على قراءة الرفع فاعتبرت من اهله من زمرة المخاطبين نظرا على وصلة النكاح- ولا منافاة بين الاعتبارين- قلت ويمكن ان يقال قراءة النصب على الاستثناء من الأهل وقراءة الرفع على الاستثناء من أحد ولا منافاة بينهما- وليس بناء القراءتين على روايتى خروج امراة لوط وعدم خروجها بل يصح معنى القراءتين على كل من الروايتين فانه على تقدير الاستثناء من الأهل معنى الاية اسر باهلك الا بامراتك ومقتضاه كون لوط مأمورا
__________
(1) فى الأصل وتصديقه-(5/106)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
بحملهم جميعا على السير غير امرأته وذالا يستلزم خروجهم ولا عدم خروجهم- فكيف يقتضى خروجها وهى لم تكن مؤتمرة بلوط- ولم يكن لوط مأمورا بإخراجها- ولا يقتضى ايضا عدم خروجها وان كان لوط لم يأمرها بالخروج- وعلى تقدير الاستثناء من الالتفات النهى من الالتفات متوجه الى لوط ومن معه غير امرأته وذا ايضا لا يستدعى خروجها ولا عدم خروجها- فان المستثنى فى حكم المسكوت عنه فلعلها «1» خرجت والتفتت كما روى ولعلها «2» لم تخرج أصلا- وان كان لوط أمرها بالخروج فانها لم تكن مؤتمرة له ولعل البيضاوي نظر الى ما قلت حتّى قال والاولى جعل الاستثناء فى القراءتين عن قوله لا يلتفت ولم يقل فالواجب ذلك والله اعلم إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كانه علة للامر بالاسراء اى موعد هلاكهم وقت الصبح فقال لوط أريد اسرع من ذلك فقال أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) .
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا اى عذابنا او أمرنا به ويؤيده جعل التعذيب مسببا عنه بقوله جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها كان حقه جعلوا عاليها اى الملائكة المأمورون به- فاسند الى نفسه من حيث انه المسبب تعظيما للامر- قال البغوي وذلك ان جبرئيل عليه السلام ادخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات وهى خمس مدن- وفيها اربعة مائة الف وقيل اربعة آلاف الف- فرفع المدائن كلها حتّى سمع اهل السماء صياح الديكة ونياح الكلاب ولم يكفأ لهم اناء ولم ينتبه لهم نائم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها- وكذا اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وَأَمْطَرْنا عَلَيْها اى على المدن يعنى على شواذها ومسافريها وقيل بعد قلبها أمطر عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (5) قال ابن عباس وسعيد بن جبير معربة- سنگ گل- وقال قتادة وعكرمة السجيل الطين دليله قوله عز وجل لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ- وقال مجاهد أولها حجارة وآخرها طين- وقال الحسن كان اصل الحجارة طينا فشددت- وقال الضحاك يعنى الاجر- وقيل انه من اسجله إذا أرسله وإذا أعطيته- والمعنى من مثل شيء المرسل او من مثل العطية فى الادراد- او من السجلّ اى مما كتب الله ان
__________
(1) فى الأصل فلعله-
(2) ولعله(5/107)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
يعذبهم به- وقيل أصله من سجين اى من جهنم فابدلت نونه لاما- وقيل السجيل اسم للسماء الدنيا- وقيل هو جبال فى السماء- قال الله تعالى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ ... مَنْضُودٍ (82) قال ابن عباس متتابع مفعول من نضد وهو وضع الشيء بعضه فوق بعض.
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ منصوب على الحال من حجارة ومعناه معلمة- قال ابن جريج عليها سيما لا يشاكل حجارة الأرض- وقال قتادة وعكرمة عليها خطوط حمر على هيئة الجرع- وقال الحسن والسدى كانت مختومة عليها أمثال الخواتيم ومكتوب على كل حجر اسم من رمى به وَما هِيَ اى الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ اى من مشركى مكة- وقال البغوي قال قتادة وعكرمة يعنى من ظالمى هذه الامة- وكذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابو الشيخ عن قتادة بِبَعِيدٍ (83) فانهم بظلمهم حقيق بان يمطروا حجارة- قال قتادة وعكرمة والله ما أجار الله منها ظالما بعد- قال البغوي وفى بعض الآثار ما من ظالم الا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة الى ساعة- وفى البيضاوي انه صلى الله عليه وسلم سال جبرئيل فقال يعنى ظالمى أمتك ما من ظالم الا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة الى ساعة- قال السيوطي ذكره الثعلبي بغير اسناد ولم اقف له على اسناد- وفى الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم وابو الشيخ عن الربيع فى الاية قال كل ظالم فيما سمعنا قد جعل بحذائه حجر ينتظر متى يؤمر ان يقع به- وقيل الضمير للقرى اى هى قريبة من ظالمى مكة يمرون عليها فى أسفارهم الى الشام فليعتبروا بها- وتذكير البعيد على تأويل الحجر او المكان-.
وَإِلى مَدْيَنَ أراد أولاد مدين بن ابراهيم عليه السلام او اهل مدين وهو بلد بناه فسمى باسمه أَخاهُمْ فى النسب شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أمرهم اولا بالتوحيد فانه ملاك الأمر- ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافى للعدل المخل بحكمة المعاوضة إِنِّي قرا نافع والبزي وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَراكُمْ بِخَيْرٍ قال ابن عباس يعنى مؤسرين فى نعمة وسعة ليست بكم حاجة فى ان تبخسوا حقوق الناس- او المعنى أنتم فى نعمة حقها ان تشكروا الله وتتفضّلوا على الناس لا ان تنقصوا حقوقهم- وقال(5/108)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
مجاهد حذرهم زوال النعمة وغلاء السعر وحلول النقمة ان لم يتوبوا وَإِنِّي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) يحيط بكم ويهلككم جميعا لا يشذ منه أحد منكم- وقيل عذاب مهلك من قوله واحيط بثمره- والمراد عذاب يوم القيامة او عذاب الاستيصال وصف اليوم بالاحاطة وهى صفة العذاب لاشتماله عليه.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ صرح الأمر بالإيفاء بعد النهى عن ضده مبالغة وتنبيها على انه لا يكفيهم الكف عن تعمد التطفيف بل يلزمهم السعى بالإيفاء ولو بزيادة لا يتاتى دونها- ولذلك قال ابو حنيفة من اشترى مكيلا مكائلة او موزونا موازنة لم يجز للمشترى منه ان يبيعه ولا ان يأكله حتّى يعيد الكيل والوزن- لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتّى يجرى فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشترى رواه ابن ماجة وإسحاق بن ابى شيبة من حديث جابر- وأعل بعبد الرّحمن بن ابى ليلى- ورواه البزار من حديث ابى هريرة نحوه ومن حديث انس وابن عباس من طريقين ضعيفين- قال ابن همام هذا الحديث حجة لكثرة تعدد طرقه وقبول الائمة إياه- فانه قد قال بقولنا هذا مالك والشافعي واحمد- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم زن وأرجح فانا معاشر الأنبياء هكذا نزن رواه احمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن حبان من حديث سويد بن قيس بِالْقِسْطِ اى بالعدل وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ تعميم بعد تخصيص- فانه أعم من ان يكون فى المقدار او فى غيره وكذا قوله وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ فان العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من انواع الفساد- وقيل المراد بالبخس المكس كاخذ العشور من المعاملات ومن العثو السرقة وقطع الطريق والغارة مُفْسِدِينَ (85) قيل فائدته إخراج ما يقصد به الصلاح كما فعله الخضر عليه السلام وقيل معناه لا تعثوا فى الأرض مفسدين امر دينكم ومصالح آخرتكم- والظاهر انه حال مؤكدة لمعنى عاملها لان عثى بمعنى أفسد.
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ قال ابن عباس يعنى ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف وقال مجاهد بقية الله طاعة الله خير لكم- نظيره قوله تعالى وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ ...(5/109)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (5) يعنى خيريتها مشروطة بالايمان- إذ لا اجر على الخيرات الا للمؤمنين ويحبط الله اعمال الكافرين- وقيل معناه ان كنتم مصدقين لى فى قولى لكم فافعلوا ما أمرتكم من إيفاء الكيل والوزن وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) احفظكم عن القبائح او احفظ عليكم أعمالكم فاجازيكم عليها انما انا ناصح مبلّغ وقد أعذرت حين أنذرت- او لست بحافظ عليكم نعمة الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم-.
قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ قرا حمزة والكسائي وحفص على الافراد والباقون صلوتك على الجمع- قال ابن عباس كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة لذلك قالوا هذا القول وقال الأعمش يعنى اقراءتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ عبادة ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان والمعنى أصلاتك تأمرك تكليفك إيانا ان نترك فحذف المضاف- ووجه هذا التقدير ان الرجل لا يؤمر بفعل غيره أجابوا أمرهم بالتوحيد بالاستهزاء والتهكم بصلاته والاشعار بان مثله لا يدعوا اليه داع عقلى وانما دعاك اليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه- وكان كثير الصلاة كذا قال ابن عباس ولذلك جمعوا لفظ الصلاة وخصوها بالذكر أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا عطف على الموصول يعنى او نترك ان نفعل ما نشآء وهو جواب النهى عن التطفيف والأمر بالإيفاء إِنَّكَ يا شعيب لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قال ابن عباس أرادوا السفيه الغاوي كما ان العرب يصف الشيء بضده فيقول للديغ سليم وللفلاة مفازة- وقيل قالوه على وجه الاستهزاء وقصدوا وصفه بضده والفرق بين التأويلين ان اللفظ على التأويل الاول مجاز وعلى الثاني حقيقة كناية عن الذم- وقيل معناه أنت الحليم الرّشيد بزعمك- وقيل هو على الحقيقة من غير كناية والمعنى انك أنت الحليم الرشيد فى زعمنا ما كنا نزعم بك ان تقول مثل ما قلت كما قال قوم صالح قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قبل هذا-.
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ بصيرة وبيان واضح مِنْ رَبِّي بالوحى والنبوة وَرَزَقَنِي مِنْهُ اى من الله بلا كد منى فى تحصيله حال من رزقا قدم عليه لكونه نكرة رِزْقاً حَسَناً حلالا قيل كان شعيب عليه السلام كثير المال-(5/110)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يجوز لى ان أخون فى وحيه وأخالفه فى امره ونهيه- وهو اعتذار عما أنكروا عليه من مخالفة دين القوم وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يعنى ما أريد ان ارتكب ما أنهاكم عنه فلو كان ثوابا ما تركته ولكنى أحب لكم ما أحب لنفسى واكره لكم ما كرهت لنفسى- يقال خالفت زيدا الى كذا إذا قصدت شيئا وهو تاركه- وخالفته عنه إذا تركت ما هو فاعله إِنْ أُرِيدُ بالنهى عن الإشراك والتطفيف والأمر بالتوحيد والإيفاء إِلَّا الْإِصْلاحَ يعنى إصلاحكم واخلاء العالم من الفساد مَا اسْتَطَعْتُ ما مصدرية واقعة موضع الظرف اى مدة استطاعتي للاصلاح وما دمت متمكنا منه لا آلو جهدا- او موصولة بدل من الإصلاح اى المقدار الّذي استطعته او إصلاح ما استطعته فحذف المضاف وَما تَوْفِيقِي قرا نافع وابو عمرو وابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها والتوفيق جعل الأسباب موافقا للمطلوب الخير- يعنى ما يتيسر لى إصابة الحق والصواب إِلَّا بِاللَّهِ اى بهدايته ومعونته عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فانه القادر المتمكن على كل شيء وما عداه عاجز فى حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار- وفيه اشارة الى محض التوحيد الّذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ- والتوكل من مقامات الصوفية العلية رحمهم الله وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) اى ارجع فيما ينزل بي من النوائب- وقيل فى المعاد وهو ايضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل- والانابة طلب التوفيق لاصابة الحق فيما يأتى ويذر من الله والاستعانة فى مجامع الأمور والإقبال عليه بشر أشره- وفيه قطع لاطماع الكفار واظهار لعدم المبالاة بهم وتهديد لهم بالرجوع الى الله للجزاء.
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ اى يكسبنكم شِقاقِي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها يعنى خلافى وعداوتى أَنْ يُصِيبَكُمْ من العذاب مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة والصيحة- وان يصيبكم ثانى مفعولى يجرم فانه يتعدى الى واحد والى اثنين ككسب وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) بالزمان فانهم اقرب الهالكين منكم زمانا حتّى تعلمون ما حاق بهم- او المعنى ما ديار قوم لوط منكم ببعيد بالمكان فانهم كانوا جيرانهم- او المعنى ما قوم لوط منكم ببعيد فيما تستحقون به العذاب من الكفر والمعاصي- وافراد البعيد(5/111)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
لان المراد وما إهلاكهم او ما هم بشيء بعيد او ما مكانهم ببعيد- وقيل القريب والبعيد والقليل والكثير يستوى فيها المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر الّتي هى الصّهيل والنهيق ونحوهما.
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ لما صدر منكم فى الماضي بالايمان والندامة على المعاصي وطلب المغفرة ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ اى ارجعوا اليه والى امتثال أوامره الانتهاء عن مناهيه فى المستقبل إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للمؤمنين التائبين وَدُودٌ (90) فعول من الود يجيء بمعنى الفاعل والمفعول يعنى محب للمؤمنين ومحبوبهم وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار-.
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ اى لانفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كوجوب التوحيد وحرمة البخس وما ذكرت دليلا عليهما- وذلك لقصور عقلهم وعدم تفكرهم- وقيل قالوا ذلك استهانة لكلامه او لانهم لم يلقوا اليه أذهانهم لشدة نفرتهم- قلت بل لما طبع الله على قلوبهم فان القلوب بين إصبعين من أصابع الرّحمن يطلعها على ما يشاء ويصرفها عما يشاء وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك فتمنع منا ان أردنا بك سوءا او مهينا لاعز لك فينا- قال البغوي وذلك انه كان ضرير البصر فارادوا ضعف البصر- وقيل الضعيف بلغة حمير هو الأعمى والتقييد بالظرف يابى عن هذا المعنى فائدة منع بعض المعتزلة كون الأعمى نبيّا قياسا على القضاء والشهادة- والفرق بين- وذهاب بصر يعقوب عليه السلام ثابت بالنص قال الله تعالى وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ وقال فَارْتَدَّ بَصِيراً ... وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ يعنى لولا قومك لقتلناك برمى الحجارة- قال البغوي كان شعيب فى منعة من قومه- وقال البيضاوي معناه لولا عزة قومك عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم فان الرهط من الثلاثة الى العشرة- وقيل الى السبغة قلت ويؤيد الاول قوله تعالى تِسْعَةُ رَهْطٍ- وفى الصحاح الرهط العصابة دون العشرة وقيل بل الى الأربعين وقال الجزري فى النهاية الرهط من الرجال ما دون العشرة وقيل الى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة- وفى القاموس الرهط قوم الرجل وقبيلته ومن ثلاثة الى سبعة او الى عشرة او ما دون العشرة وما فيهم امرأة ولا واحد له من لفظه- قلت وكلام البغوي يشعر انه قوم الرجل مطلقا كما فسره صاحب القاموس اولا والله اعلم وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91)(5/112)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
فيمنعنا عزتك عن الرجم وهذا دأب السفيه المحجوج يقابل الحجج والبينات بالسبّ والتهديد وفى إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على ان الكلام فيه لا فى ثبوت العزة- وان المانع لهم عن إيذائه عزة قومه ولذلك.
قالَ شعيب يا قَوْمِ أَرَهْطِي قرا نافع وابن كثير وابو عمرو وابن ذكوان بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا يعنى تركتم قتلى لاجل رهطى وما باليتم بنسبتى من الله بالرسالة وجعلتم الله كالمنسى المنبوذ وراء الظهر باشراككم به واهانة رسوله- والاستفهام يحتمل الإنكار والتوبيخ والرد والتكذيب والظّهرىّ المنسوب الى الظهر والكسر من تغيرات النسب إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) لا يخفى عليه شيء منها فيجازى عليها-.
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على تمكنكم من عداوتى مطيعين لها إِنِّي عامِلٌ على تمكنى سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ من استفهامية معلقة لفعل العلم عن عمله فيها كانّه قيل سوف تعلمون ايّنا يأتيه عذاب يخزيه انا او إياكم اى يفضحه وايّنا هو كاذب- او موصولة قد عمل فيها كانّه قيل سوف تعلمون الشقي الّذي يأتيه العذاب- وقد سبق مثل هذه الاية فى الانعام- لكن أورد الفاء هناك للتصريح بان الإصرار والتمكن فيما هم عليه سبب لذلك- وحذفها هاهنا فقال سوف تعلمون لانه جواب سائل كانه قال فماذا يكون بعد ذلك وهذا ابلغ فى التهويل وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على من يأتيه لا لانه قسيم له بل لانهم اوعدوه وكذبوه فقال سوف تعلمون من المعذب والكاذب انا او أنتم- وقيل كان قياسه ومن هو صادق لينصرف الاول إليهم والثاني اليه- لكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال ومن هو كاذب على زعمهم- وقيل محل من الرفع تقديره ومن هو كاذب يعلم سوء عاقبته وَارْتَقِبُوا وانتظروا العاقبة وما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم- او المراقب كالعشير او المرتقب كالرفيع.
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا ذكر هاهنا بالواو كما فى قصة عاد- إذ لم يسبقه ذكر وعد يجرى مجرى السبب له- بخلاف قصتى صالح ولوط فانه ذكر بعد الوعد وذلك قوله وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ولذلك جاء بفاء السببية نَجَّيْنا(5/113)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
قيل ان جبرئيل عليه السلام صاح صيحة فخرجت أرواحهم- وقيل أتاهم صيحة من السماء فاهلكتهم فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) ميتين واصل الجثوم اللزوم فى المكان.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كان لم يقيموا فيها احياء متصرفين مترددين أَلا بُعْداً هلاكا ولعنا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) شبّههم بهم لان عذابهم كان ايضا بالصيحة غير ان صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم- أصله بعدت بضم العين والكسر لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك- والبعد بضم الباء مصدر لهما وبفتح الباء والعين مصدر المكسور-.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا اى بالمعجزات وليس المراد بها آيات التورية لنزولها بعد هلاك فرعون وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) اى غلبة ظاهرة غلب بها مع كونه رجلا واحدا على فرعون وجنوده- ولم يقدر فرعون على إهلاكه مع حرصه على ذلك- قيل المراد به العصا وأفردها بالذكر لكونه ابهرها- ويجوز ان يراد بهما واحد- يعنى ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانا له على نبوته واضحا فى نفسه او موضحا إياه- فان ابان جاء لازما ومتعديا- والفرق بين الاية والسلطان ان الاية يعم الامارة والدليل القاطع- والسلطان يخص القاطع والمبين يخص بما فيه جلاء.
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فى الكفر والطغيان والانهماك فى الضلال وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) اى ذى رشد وانما هو غىّ وضلال والرشد يستعمل فى كل ما يحمد ويرتضى- ضد الغىّ فانه يستعمل فى كل ما يذم- وفيه تجهيل لمتبعيه حيث اتبعوه على امره مع كونه بديهي البطلان- حيث ادعى الالوهية مع كونه بشرا مثلهم- وجاهر بالظلم والكفر والشرك- وترك متابعة موسى الهادي الى الحق المؤيد بالعقل والنقل والمعجزات الظاهرة.
يَقْدُمُ قَوْمَهُ اى يتقدمهم يقال قدم بمعنى تقدم يَوْمَ الْقِيامَةِ الى النار كما كان يقدمهم فى الدنيا الى الضلال فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة فى تحقيقه ونزل النار لهم منزلة الماء حتّى سمى إتيانها ورودا وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) اى بئس الورد الّذي وردوه فانه يراد لتبريد الكبد وتسكين العطش- والنار بالضد والاية(5/114)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
كالدليل على قوله وما امر فرعون برشيد فان من هذا عاقبته لا يكون فى امره رشد او تفسير له على ان المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً يعنى لعنوا على السنة الأنبياء والمؤمنين فى الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يلعنون ايضا بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) اللعنة اى بئس العون المعان او العطاء المعطى- واصل الرفد ما يضاف الى غيره ليعمده وفى القاموس الإرفاد الاعانة والإعطاء-
ذلِكَ مبتدا وما بعده خبره يعنى هذا النبا الّذي انبأناك مِنْ أَنْباءِ الْقُرى اى بعض اخبار القرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص نباه عليك خبر بعد خبر مِنْها اى بعض ذلك قائِمٌ اى باق اثارها وَحَصِيدٌ (100) ومنها عافى الآثار كالزرع المحصود- قال مقاتل قائم يرى له اثر- وحصيد لا يرى له اثر- وقيل منها قائم يعنى عامر وحصيد يعنى خراب- والجملة مستأنفة وليس بحال من ضمير نقصّه لعدم الواو والضمير
وَما ظَلَمْناهُمْ الضمير عائد الى القرى والمراد بها أهلها يعنى ما ظلمناهم باهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بان عرّضوها له بارتكاب ما يوجبه من الكفر والمعاصي فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ يعنى ما نفعتهم ولا قدرت على ان يدفع عنهم العذاب آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من الإغناء لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ اى عذابه وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) غير تدمير وتخسير
وَكَذلِكَ اى مثل هذا الاخذ الّذي ذكرنا فى القصص المذكورة أَخْذُ رَبِّكَ مبتدا كذلك خبره مقدم عليه إِذا أَخَذَ الْقُرى اى أهلها وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى وهى فى الحقيقة لاهلها لكنها لما أقيمت مقامهم أجريت عليها- وفائدتها الاشعار بانهم انما أخذوا بظلمهم إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) وجيع لا يرجى الخلاص منه- عن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله ليملى الظالم حتّى إذا اخذه لم يفلته- قال ثم قرا وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الاية رواه الشيخان فى الصحيحين والترمذي وابن ماجة-
إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما نزل بالقرى الهالكة وما قصه الله عليك لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فانه يعتبر به عظمته ويعلم «1» بان ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين او المعنى ينزجر به عن المعاصي لعلمه بانها من اله مختار يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء
__________
(1) فى الأصل يعلم بغير واو(5/115)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
واما من أنكر الاخرة فهو كالانعام لا بصر له ولا بصيرة فلا يعتبر بل يحيلها الى الاتفاق ذلِكَ اشارة الى يوم القيامة دل عليه عذاب الاخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ اى يجمع له الناس اى لما فيه من المحاسبة والمجازة والتغير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم- وانه من شأنه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) اى مشهود فيه يشهد فيه الشهداء على الناس- او مشهود فيه الخلائق الموقف لا يغيب منهم أحد- واتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول
وَما نُؤَخِّرُهُ اى ذلك اليوم قرا يعقوب بالياء «1» على الغيبة اى ما يؤخر الله إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) اى الا لانتهاء مدة معدودة معلومة عند الله على حذف المضاف وأراد مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فانه لا «2» تعدد فيه
يَوْمَ يَأْتِ اى الجزاء او اليوم على ان اليوم بمعنى حين او الله عز وجل كقوله تعالى هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ- وجاء ربّك قرا ابن عامر وعاصم وحمزة يأت بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسرة ونافع وابو عمرو والكسائي بالياء أصلا فقط وابن كثير فى الحالين- والظرف متعلق باذكر او بانتهاء المحذوف او بقوله لا تَكَلَّمُ بحذف احدى التاءين اى لا تتكلم نَفْسٌ ما ينفع وينجى من جواب او شفاعة إِلَّا بِإِذْنِهِ اى الا اذن الله نظيره لا يتكلّمون الّا من اذن له الرّحمن فَمِنْهُمْ الضمير لاهل الموقف دل عليهم قوله لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ او للناس فى قوله تعالى يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ... شَقِيٌّ كتب عليه الشقاوة وَسَعِيدٌ (105) كتب له السعادة عن على بن ابى طالب رضى الله عنه قال خرجنا على جنازة- فبينا نحن بالبقيع إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده مخصرة- فجاء ثم جلس فنكت بها الأرض ساعة ثم قال ما من نفس منفوسة الا قد كتب مكانها من الجنة او النار والا قد كتب شقى وسعيد- قال فقال رجل ألا نتكل على كتابنا يا رسول الله وندع العمل- قال لا ولكن اعملوا فكل ميسر فاما اهل الشقاء فيسروا لعمل اهل الشقاوة واما اهل السعادة فيسروا لعمل اهل السعادة قال ثم تلا فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى الاية رواه البغوي وفى الصحيحين نحوه-
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) قال ابن عباس الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف- وقال الضحاك ومقاتل الزفير
__________
(1) والصحيح ان يعقوب مع الجمهور فى نون العظمة- ابو محمّد عفا الله عنه
(2) فى الأصل ان لا تعدد فيه-(5/116)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
أول نهيق الحمار والشهيق آخره إذا ردّده فى جوفه- وكذا فى القاموس- وقال ابو العالية الزفير فى الحلق والشهيق فى الصدر- وقال البيضاوي الزفير إخراج النفس والشهيق رده واستعمالهما فى أول النهيق وآخره- وفى القاموس ايضا زفر يزفر زفرا وزفيرا اخرج نفسه بعد مده إياه والجملة فى موضع الحال والعامل فيها الظرف المستقر
خالِدِينَ «1» فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ قال الضحاك اى ما دامت سموات الجنة والنار وارضهما- وكلما علاك سماء وكلما استقر عليه قدمك ارض- ولا شك ان اجتماع الناس المذكور فيما سبق يدل على ان لهم مظل ومقل- وقال اهل المعاني هذه عبارة عن التأبيد على عادة العرب يقولون لا يأتيك ما دامت السموات والأرض يعنون ابدا إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ظاهر هذه الاية يقتضى انقطاع استقرارهم فى النار- ويؤيده ما روى عن ابن مسعود قال ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا- وعن ابى هريرة مثله وبه قال من الصوفية الشيخ محى الدين «2» ابن العربي- لكن هذا القول مردود بالإجماع والنصوص قال الله تعالى فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ- اخرج الطبراني وابو نعيم وابن مردوية عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قيل لاهل النار انكم ماكثون عدد كل حصاة لفرحوا بها- ولو قيل لاهل الجنة انكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الابد- واخرج الطبراني فى الكبير والحاكم وصححه عن معاذ ابن جبل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الى اليمن فلما قدم عليهم قال يا ايها الناس انى رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم يخبركم ان المردّ الى الله الى جنة او نار خلود بلا موت واقامة بلا ظعن فى أجساد لا تموت- واخرج الشيخان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا اهل النار لا موت ويا اهل الجنة لا موت كل خالد فيما هو فيه- واخرج البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال يا اهل الجنة خلود ولا موت ويا اهل النار خلود ولا موت- وحديث ذبح الموت والنداء بقوله يا اهل الجنة لا موت ويا اهل النار لا موت- أخرجه الشيخان عن ابن عمرو ابى سعيد والحاكم وصححه عن ابى هريرة- قال البغوي معنى قول ابن مسعود وابى هريرة ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد عند اهل السنة ان ثبت ان لا يبقى فيها أحد من اهل الايمان- واما مواضع الكفار فممتلية
__________
(1) ليس فى الأصل خالدين فيها-
(2) فى الأصل محى الدين العربي-(5/117)
ابدا وقد ذكرت فى تفسير قوله تعالى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً انها فى حق اهل الأهواء من اهل القبلة وعند اكثر المفسّرين المراد بالاحقاب احقاب «1» غير متناهية- ولما كان الإجماع على خلود الكفار فى النار اختلفوا فى تفسير هذه الاية وتأويل هذين الاستثنائين- والمختار عندى ان الاستثناء فى هذه الاية محمول على انهم يخرجون من الجحيم الى الحميم ف يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ وهكذا ابدا- قال البغوي فى تفسير قوله تعالى يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ انهم يسعون بين الحميم وبين الجحيم- فاذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الانى الّذي صار كالمهل قال الله تعالى وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ او من النار الى الزمهرير روى الشيخان عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال اشتكت النار الى ربها فقالت يا رب أكل بعضى بعضا فاذن لها بنفسين نفس فى الشتاء ونفس فى الصيف- فاشد ما يجدون من الحر من حرها وأشد ما يجدون من الزمهرير من زمهريرها وكذا اخرج البزار عن ابى سعيد واخرج ابو سعيد مثله من حديث انس- وقال بعض المحققين الاستثناء فى اهل الشقاء يرجع الى قوم مؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها ثم يخرجهم منها- عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ليصيبن أقواما سفع «2» من النار بذنوب أصابوها عقوبة- ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته فيقال لهم الجهنميون رواه البخاري- وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميون رواه البخاري ونحوه عن المغيرة بن شعبة عند الطبراني وزاد فيدعون الله ان يمحو عنهم الاسم فيمحو الله عنهم- وعن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون فى النار ما شاء الله ان يكونوا- ثم يعيرهم اهل الشرك ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم- فلا يبقى موحد الا أخرجه الله- ثم قرا رسول الله صلى الله عليه وسلم رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ
- وقد روى معناه فى حديث طويل عن ابى موسى الطبراني والبيهقي وابن ابى حاتم- وعن ابى سعيد الطبراني- وفى دخول المؤمنين المذنبين النار وخروجهم منها أحاديث بلغت حد التواتر- قال البيضاوي فساق المؤمنين يخرجون من النار وذلك كاف
__________
(1) فى الأصل أحقابا-
(2) سفع من النار اى علامة تغير ألوانهم يعنى اثرا من النار 12 نهاية منه رح(5/118)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
فى صحة الاستثناء لان زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فانهم يفارقون عن الجنة ايام عذابهم فان التأبيد من مبدا معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء وهؤلاء وان شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بايمانهم- ولا يقال فعلى هذا لم يكن قوله تعالى فمنهم شقى وسعيد تقسيما صحيحا لان من شرطه ان يكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه- لان ذلك الشرط انما يكون فى الانفصال الحقيقي او مانع الجمع والمراد هاهنا منع الخلوّ- والمعنى ان اهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ولا يخرج حالهم عن الشقاوة والسعادة وذلك لا يمنع اجتماع الامرين فى شخص باعتبارين انتهى- وقيل ما شاء هاهنا بمعنى من شاء والمراد بهم ايضا عصاة المؤمنين فى الاستثنائين- ومرجع هذا القول الى القول الثاني وقيل المستثنى فى الفريقين زمان توقفهم فى الموقف للحساب لان الظاهر يقتضى ان يكونوا فى النار او فى الجنة حين يأتى اليوم- او مدة لبثهم فى الدنيا والبرزخ ان كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم- وعلى هذا التأويل يحتمل ان يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت فى كلام البيضاوي المذكور سابقا- وقيل هو استثناء من قوله تعالى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ- وقال السيوطي فى البدور السافرة أشبه الأقوال بالصواب انه ليس باستثناء وانما الا بمعنى سوى كما تقول لك علىّ الف درهم الا الألفان القديمان اى سوى الألفين- والمعنى خالدين فيها مدة دوام السموات والأرض فى الدنيا سوى ما شاء ربك من الزيادة عليها مما لا منتهى له- وذلك عبارة عن الخلود- والنكتة فى تقديم ذكر مدة السموات والأرض التقريب الى الأذهان بذكر المعهود اولا- ثم اردافه بما لا احاطة للذهن به- وقيل الا بمعنى الواو يعنى ما دامت السموات والأرض فى الدنيا وما شاء ربك من الخلود كقوله تعالى لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى ولا للذين ظلموا- وقال الفراء هذا استثناء استثناه ولا يفعله كقولك والله اضربنك الا ان ارى غير ذلك وعزيمتك ان تضربه- فالمعنى الا ما شاء ربك يعنى لو شاء ربك لاخرجهم منها ولكنه لم يشأ- وقال قتادة الله اعلم بثنياه إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا قرأ حفص وحمزة وخلف- ابو محمّد والكسائي بضم السين على البناء(5/119)
للمفعول من سعد الله بمعنى أسعده- والباقون بالفتح على البناء للفاعل فهو لازم ومتعد فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قد ذكرت الأقوال فى هذا الاستثناء فيما سبق- والمختار عندى ان اهل الجنة ينعمون فى بعض احيانهم بما هو أعلى من الجنة- وذلك هو الاستغراق فى رؤية الله تعالى- وكمال الاتصال بجنابه بلا كيف قال المفسرون فى تفسير قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ان تقديم الجار والمجرور يقتضى الحصر ويفيد انهم إذا راوا ربهم يستغرقون فى رؤيته تعالى لا ينظرون حينئذ الى غيره- وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اهل الجنة فى نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤسهم فاذا الرب تبارك وتعالى قد اشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا اهل الجنة- وذلك قوله تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ- قال فينظر إليهم وينظرون اليه- فلا يلتفتون الى شيء من النعيم ما داموا ينظرون اليه حتّى يحجب عنهم ويبقى نوره وبركته فى ديارهم- رواه ابن ماجة وابن ابى الدنيا والدار قطنى- وقال المجدد للالف الثاني رضى الله عنه فى المكتوب المائة من المجلد الثالث فى تحقيق سر اشتغال قلب يعقوب بمحبة يوسف عليهما السلام ان جنة كل رجل عبارة عن ظهور اسم من اسماء الله تعالى الّذي هو مبدا لتعيّن ذلك الرجل- وان ذلك الاسم يتجلى بصورة الأشجار والأنهار والقصور والحور والغلمان- واستحكم هذا المكشوف بقوله صلى الله عليه وسلم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها هذه يعنى سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر- ثم قال المجدد رضى الله عنه ان تلك الأشجار والأنهار قد تصير فى حين من الأحيان على هيئة الاجرام الزجاجية- فتصير وسيلة الى رؤية الله سبحانه غير متكيفة ثم تعود الى حالها الّذي كانت عليه- فيشغل المؤمن بنفسها وهكذا الى ابد الآبدين- وقد ذكرنا زيادة الكلام فى المقام فى تفسير سورة القيامة فى شرح اية الرؤية عَطاءً منصوب على انه مصدر مؤكّد يعنى اعطوا عطاء- او على الحال من الجنة- قلت ويمكن ان يكون منصوبا على انه مفعول به لقوله تعالى إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ- يعنى هم فى الجنة الا وقت مشية ربك عطاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) اى غير مقطوع يعنى الوصال والرؤية بلا حجاب- ووجه تعبير ذلك بعطاء غير مجذوذ مع ان كل نعيم فى الجنة عطاء غير مجذوذ- ان ذاته تعالى موجود متاصل بنفسه وغيره(5/120)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
موجود بوجود ظل وجوده- فالموجود بنفسه هو الله وحده وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ- كالمستعير ثوب غيره عار بالنسبة الى المالك- فعطاؤه تعالى اتصالا بذاته كانّه هو المتأصل الغير المنقطع وما عداه من النعيم مجذوذ وجوده فى نفسه بالنسبة اليه والله اعلم- قال ابن زيد أخبرنا الله بالذي يشاء لاهل الجنة فقال عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ولم يخبرنا بالذي يشأ لاهل النار بل قال هناك إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ-
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك بعد ما أخبرناك من مال الناس مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من عبادة هؤلاء المشركين فى انها ضلال مؤد الى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصته عليك سوء عبادتهم- او من حال ما يعبدونه فى انه لا يضر ولا ينفع ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما كان يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ حذف كان لدلالة قبل عليه- والجملة مستأنفة معناه تعليل النهى عن المرية فى انهم واباؤهم سواء فى الشرك اى ما يعبدون عبادة الا كعبادة ابائهم- او ما يعبدون شيئا الا مثل ما عبدوه من الأوثان- وقد بلغك ما لحق آباءهم فسيلحقهم مثله- لان التماثل فى الأسباب يقتضى التماثل فى المسببات وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ من العذاب كابائهم او من الرزق فيكون عذر التأخير العذاب عنهم مع قيام موجبه غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) من النصيب تأكيد للتوفية- فانك قد تقول وفيته حقه وتريد به وفاء بعضه ولو مجازا-
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية فَاخْتُلِفَ فِيهِ فامن به قوم وكفر به قوم كما اختلف هؤلاء فى القران تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وَلَوْلا كَلِمَةٌ الانظار الى يوم القيامة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ اى بين المحق والمبطل بانزال العذاب على المبطل ليميز به عن المحق وَإِنَّهُمْ يعنى كفار مكة لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من القران او من العذاب مُرِيبٍ (110) موقع فى الريب
وَإِنَّ قرا نافع وابن كثير وابو بكر مخففة من الثقيلة عاملة اعتبارا للاصل والباقون مشددة كُلًّا التنوين بدل من المضاف اليه يعنى ان كل واحد من المختلفين المؤمنين منهم والكافرين لَمَّا قرا عاصم وابن عامر وحمزة هاهنا وفى يس لّمّا جميع لّدينا- وفى الطارق لّمّا عليها حافظ بتشديد الميم- والباقون بتخفيفها- فمن قراها بالتخفيف فلام الاولى موطية للقسم والثانية للتأكيد او بالعكس- وما مزيدة(5/121)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
بينهما للفصل- وقيل ما بمعنى من كما فى قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ اى من طاب لكم- والمعنى والله لَيُوَفِّيَنَّهُمْ او والله لمن ليوفينهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ اى جزاء أعمالهم- ومن قراها بالتشديد فاصله لمن ما- فقلبت النون ميما للادغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت اولا عن- والمعنى لمن ليوفيهم وما مزيدة- وقيل انه من لممت لمّا اى جمعته- ثم وقف على الالف عوض التنوين فصار لمّا- ثم اجرى الوصل مجرى الوقف- وجاز ان يكون مثل الدعوى والبشرى وغيرها من المصادر الّتي فيها الف التأنيث- وقرا الزهري وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بالتنوين وهو يؤيد هذا القول- والمعنى وان كلا جميعا- وقال صاحب الإيجاز لما فيه معنى الظرف وفى الكلام اختصار تقديره وان كلا لما بعثوا ليوفينهم إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ من خير او شر خَبِيرٌ (111) فلا يفوت منه شيء وان خفى-
فَاسْتَقِمْ استقامة كَما أُمِرْتَ اى مثل استقامة أمرت بها وَمَنْ تابَ مَعَكَ من الشرك وأمن عطف على المستكن فى استقم وان لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه- لمّا بين الله سبحانه امر المختلفين فى التوحيد والنبوة- واطنب فى شرح الوعد والوعيد- امر رسوله ومن تبعه بالاستقامة مثل ما امر بها- وهى شاملة للاستقامة فى العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل- والجبر والاختيار وغير ذلك- والأعمال من تبليغ الوحى وبيان الشرائع كما انزل- والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وافراط مفوت للحقوق ونحوها- عن سفيان ابن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لى فى الإسلام قولا لا اسئل عنه أحدا بعدك وفى رواية غيرك قال قل امنت بالله ثم استقم رواه مسلم- فالاستقامة لفظ جامع قال عمر بن الخطاب الاستقامة ان تستقيم على الأمر والنهى ولا تروغ روغان الثعلب يعنى لا تميل عن الطريق المستقيم ميلا أصلا- وهى فى غاية العسر ولذلك قالت الصوفية الاستقامة فوق الكرامة قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما ما نزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اية هى أشد عليه من هذه الاية ولذلك قال شيّبتنى سورة هود- قلت قول ابن عباس يدل على ان اشتداد هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى شيّبته- انما كان لاجل هذه الاية الآمرة بالاستقامة- فانه صلى الله عليه وسلم وان كان نفسه الشريفة مجبولة على الاستقامة مخلوقة على خلق عظيم- لكنها شاقة على من تبعه فلذلك شيّبته شفقة على أمته- والظاهر عندى(5/122)
ان قوله صلى الله عليه وسلم شيّبتنى سورة هود مبنى على اشتمالها على قصص هلاك الأمم المشعر بالوعيد بالهلاك للظالمين من أمته- وذكر يوم القيامة كما سنذكر فى اخر السورة ان شاء الله تعالى وَلا تَطْغَوْا يعنى لا تجاوزوا عن حدود الشرع- وقيل معناه لا تغلوا فتزيدوا على ما أمرت ونهيته عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الدين يسرو لن يشاد الدين أحد الا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة رواه البخاري والنسائي قلت وهذا الحديث ايضا يدل على ان تشييب السورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان لثقل الاستقامة والله اعلم- إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن عباس اى لا تميلوا والركون المحبة والميل بالقلب- وقال ابو العالية لا ترضوا بأعمالهم- وقال السدى لا تداهنوا الظلمة- وقال عكرمة لا تطيعوهم- وقيل لا تسكنوا الى الذين ظلموا قال البيضاوي لا تميلوا إليهم ادنى ميل فان الركون هو الميل اليسير كالتزين بزيّهم وتعظيم ذكرهم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بركونكم إليهم- قال البيضاوي وإذا كان الركون الى الظالمين كذلك فما ظنك بالميل كل الميل إليهم- ثم بالظلم نفسه والانهماك فيه- ولعل الاية ابلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم- روى ان رجلا صلى خلف الامام فلما قرا هذه الاية غشى عليه فلما أفاق قيل له فقال هذا فيمن ركن الى الظلم فكيف بالظالم- وعن الحسن جعل الله الدين بين لائين لا تطغوا ولا تركنوا- وعن الأوزاعي ما من شيء ابغض الى الله من عالم يزور ظالما- وعن أوس انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من مشى مع ظالم ليقويه وهو يعلم انه ظالم فقد خرج من الإسلام- وعن ابى هريرة انه سمع رجلا يقول ان الظالم لا يضر الا نفسه- فقال ابو هريرة بلى والله حتّى الحبارى لتموت فى وكرها هزلا بظلم الظالم- روى الحديثين فى شعب الايمان قال البيضاوي خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذه الاية للتثبيت على الاستقامة الّتي هى العدل فان الزوال عنها بالميل الى أحد طرفى افراط او تفريط ظلم على نفسه او غيره بل ظلم فى نفسه وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ اى من أنصار يمنعون عنكم العذاب والواو للحال من مفعول فتمسكم النّار ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) اى ثم لا ينصركم الله إذ سبق فى حكمه ان يعذبكم فيه وثم لاستبعاد النصر من الله تعالى- او لاستبعاد النصر مطلقا فانه لما ذكر(5/123)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
انهم يعذبهم الله وكل من يعذبه الله لا يقدر على نصره أحد غيره انتج انهم لا ينصرون أصلا والله اعلم
- اخرج الترمذي والنسائي عن ابى اليسر قال البغوي هو عمرو بن غزية الأنصاري- قال أتتني امراة تبتاع تمرا فقلت ان فى البيت تمرا أطيب منه فدخلت معى البيت فاهويت إليها فقبلتها ثم ندمت فاتيت أبا بكر رضى الله عنه فذكرت ذلك فقال استر على نفسك وتب- قال فاتيت عمر فقال استر على نفسك وتب- فلم اصبر فاتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له- فقال أخلفت غازيا فى سبيل الله فى اهله بمثل هذا- حتّى ظن انه من اهل النار فاطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى اوحى اليه
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ الاية فقال اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا خاصة أم للناس عامة- قال بل للناس عامة- قال صاحب لباب النقول- وورد نحو حديث ابى اليسر من حديث ابى امامة وابن عباس وبريدة وغيرهم- وانتصاب طرفى على الظرف لانه مضاف اليه ومعناه غدوة وعشية وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ اى طائفة من الليل او ساعات منه قريبة من النهار- فانه من ازلفه إذا قربه وهو جمع زلفة- قرا ابو جعفر بضم اللام- قال ابن عباس طرفا النهار يعنى صلوة الصبح والمغرب- وزلفا من الليل حينئذ العشاء- وقال الحسن طرفا النهار الصبح والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء- وقال مجاهد طرفا النهار الصبح والظهر والعصر وزلفا من الليل المغرب والعشاء- وهذا القول يشعر ان وقت الظهر والعصر واحد ولو عند الضرورة وكذا وقت المغرب والعشاء- ومن هاهنا قال مالك واحمد والشافعي إذا اسلم الكافر او طهرت الحائض او بلغ الصبى اخر وقت العصر وجبت عليه الظهر والعصر- وإذا اسلم او طهرت او بلغ اخر وقت العشاء وجبت عليه المغرب والعشاء- خلافا لابى حنيفة رحمه الله فانه لا يجب عنده الا العصر والعشاء- لنا الأحاديث الواردة فى اوقات الصلوات الّتي ذكرتها فى سوره النساء فى تفسير قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً- فانها تدل على ان وقت كل صلوة مبائن للاخرى- ولاجل ذلك لا يجوز عند ابى حنيفة رحمه الله جمع صلوة الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء بعلة سفر او مرض او مطر كما لا يجوز جمعهما بغير علة اجماعا- وقال الشافعي ومالك واحمد يجوز الجمع فى السفر- وعند مالك واحمد يجوز الجمع لاجل المطر فى العشاءين خاصة وعند الشافعي بين الظهرين ايضا- وجاز عند احمد الجمع(5/124)
لاجل المرض- احتجوا بان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر لحمنة بنت جحش حين استحاضت بالجمع وقال تؤخرين الظهر وتعجلين العصر ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين رواه احمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح- وانه صلى الله عليه وسلم جمع فى السفر بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فى الصحيحين عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين فى السفر المغرب والعشاء والظهر والعصر- وفيهما عن انس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل ان تزيغ الشمس اخر الظهر الى وقت العصر ثم ينزل فيجمع بينهما- وإذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر ثم ركب- وروى مسلم من حديث معاذ بن جبل قال جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء- قال فقلت له ما حمله على ذلك قال أراد ان لا يحرج أمته- وأجاب ابو حنيفة عن هذه الأحاديث ان المراد من هذه الأحاديث الجمع الصوري- يعنى كان يصلى الظهر فى اخر وقتها والعصر فى أول وقتها وكذا العشاءين- فيجمع بينهما صورة وكان يصلى كل صلوة فى وقتها كما هو مصرح فى حديث حمنة- ويدل عليه ما فى الصحيحين عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا سفر- وفى بعض ألفاظ مسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر- قيل لابن عباس ما أراد الى ذلك قال أراد ان لا يحرج أمته- وفى رواية للطبرانى جمع بالمدينة من غير علة- قيل ما أراد بذلك قال التوسع على أمته- فان هذا الحديث محمول على الجمع الصوري البتة للاجماع على عدم جواز الجمع من غير علة- وقد جاء صريحا فى الصحيح عن عمرو بن دينار قال قلت يا أبا الشعثا أظنه اخّر الظهر وعجّل العصر واخّر المغرب وعجّل العشاء- قال وانا أظن ذلك- فان قيل يمكن حمل ما يدل على جمع التأخير على الجمع الصوري ولكن من الروايات ما يدل على جميع التقديم ولا يمكن حملها على الجمع الصوري اما حديث ابن عباس فرواه احمد والبيهقي والدار قطنى من طريق حسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن عكرمة وكريب عن ابن عباس قال كان إذا زاغت الشمس
فى منزله جمع بين الظهر والعصر قبل ان يركب- وإذا لم تزغ له فى منزله سار حتّى إذا جاء العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر- وإذا جاءت فى منزله جمع بينها وبين العشاء- و(5/125)
إذا لم يجيء فى منزله ركب حتّى إذا جاءت العشاء نزل فجمع بينهما- واما حديث انس فرواه الإسماعيلي والبيهقي من حديث إسحاق بن راهويه بلفظ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان فى السفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل قال النووي اسناده صحيح- واما حديث معاذ فرواه احمد وابو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والدار قطنى والبيهقي من حديث قتيبة عن الليث عن يزيد بن ابى حبيب عن ابى الطفيل عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل جمع بين الظهر والعصر فان ارتحل قبل ان تزيغ اخر الظهر حتّى ينزل للعصر- وفى المغرب مثل ذلك الحديث- قلنا اما ما ذكرتم من حديث ابن عباس فحسين ضعيف كذا قال ابن معين وقال النسائي متروك واما ما ذكرتم من حديث انس فانه وان قال النووي اسناده صحيح لكن قال الذهبي ان أبا داود أنكر على إسحاق لكن له متابع رواه الحاكم فى الأربعين وفيه إذا زاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب وهذه زيادة غريبة صحيحة الاسناد رواه الطبراني فى الأوسط ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان فى سفر فزاغت الشمس قبل ان يرتحل صلى الظهر والعصر جميعا- وان ارتحل قبل ان تزيغ الشمس جمع بينهما فى أول العصر- وكان يفعل ذلك فى المغرب والعشاء- وقال تفرد به يعقوب بن محمّد الزهري واما حديث معاذ قال الترمذي تفرد به قتيبة والمعروف ما رواه مسلم- وقال ابو داود هذا حديث منكر وليس فى جمع التقديم حديث قائم- وقال ابو سعيد بن يونس لم يحدث بهذا الحديث الا قتيبة- ويقال انه غلط وعلله ابو حاتم واطنب الحاكم فى بيان علته وأعله البخاري وابن حزم- وفى الجمع فى السفر حديث علىّ رواه الدار قطنى بسند له من حديث اهل البيت وفى اسناده من لا يعرف- وفيه ايضا المنذر القابوسي وهو ضعيف- واحتج ابو حنيفة بحديث ابن مسعود فى الصحيحين قال ما رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلوة لغير وقتها الا بجمع فانه جمع بين المغرب والعشاء بجمع وصلى صلوة الصبح من الغد قبل وقتها يعنى غلس بها فكانّه أراد قبل وقتها المعتاد- وكانّه ترك ذكر جمع عرفة لشهرته- وبما روى مسلم فى حديث ليلة التعريس قوله صلى الله عليه وسلم ليس فى النوم تفريط انما التفريط فى اليقظة ان يؤخر الصلاة حتّى يدخل(5/126)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
وقت صلوة اخرى والله اعلم- إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ اى يكفرنها اخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم أر شيئا احسن طلبا ولا اسرع إدراكا من حسنة حديثة لسيئة قديمة- انّ الحسنات يذهبن السّيّئات- واخرج احمد عن ابى ذر قال قلت يا رسول الله أوصيني- قال إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها- قال قلت يا رسول الله من الحسنات لا اله الا الله- قال هى أفضل الحسنات- عن ابن مسعود ان رجلا أصاب من امراة قبلة- فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره فانزل الله تعالى وأقم الصلاة طرفى النهار الاية- فقال الرجل الى هذا قال لجميع أمتي كلهم- وفى آدابه لمن عمل بها من أمتي متفق عليه- وفى رواية لمسلم نحوه وفيه قال له عمر لقد سترك الله لو سترت على نفسك الحديث- واخرج الحاكم والبيهقي من حديث معاذ بن جبل نحوه- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنب الكبائر- رواه مسلم- وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو ان نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من دونه شيء- قالوا لا يبقى من درنه شيء- قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا- متفق عليه ذلِكَ اشارة الى قوله فاستقم فما بعده وقيل الى القران ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) اى
عظة للمتعظين
وَاصْبِرْ يا محمّد على الطاعات وعن المعاصي وعلى ما أصابك من الأذى- وقيل على الصلاة نظيره وامر أهلك بالصّلوة واصطبر عليها فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) عدل من المضمر ليكون كالبرهان على المقصود وفيه دليل على ان الصلاة والصبر اختان- وايماء بانه لا يعتدّ بهما بدون الإخلاص-
فَلَوْلا فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الّتي كانت مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ اى أولوا رأى وعقل وفضل- وانما سمى بقية لان الرجل يستبقى أفضل ما عنده- يقال فلان ذو بقية إذا كان فيه خير- ومنه ما يقال فلان من بقية القوم اى من خيارهم- ومنه قولهم فى الزوايا خبايا وفى الرجال بقايا- وقيل معناه أولوا طاعة كما ذكرنا فى(5/127)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
بقيّت الله خير لّكم- والبقيت الصّلحت خير- وقيل معناه أولوا بقية من الخير إذا كان على خصلة محمودة- ويجوز ان يكون مصدرا كالتقية- فى القاموس بقي يبقى بقاء وبقأ وبقيا يعنى ذو ابقاء على أنفسهم وصيانة لها من العذاب يَنْهَوْنَ الناس عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ويأمرون بالمعروف إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ لكن قليلا منهم أنجيناهم- وهم اتباع الأنبياء كانوا ينهون عن الفساد- ويجوز ان يكون الاستثناء متصلا إذا جعل من النفي اللازم للتحضيض- ومن فى ممّن أنجينا للبيان لا للتبعيض وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا اى التاركون للنهى عن المنكر ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما انعموا فيه من الشهوات- فاهتموا بتحصيل أسبابها واعرضوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر- وقال مقاتل بن حبان ما حولوا- وقال الفراء ما عودوا وجملة واتبع معطوف على فعل مقدر اى الا قليلا- ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا شهواتهم وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) كافرين
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اللام لتأكيد النفي وان المصدرية مقدرة يعنى ما كان صفة ربك إهلاك الْقُرى او ما كان ربك مهلكها بِظُلْمٍ حال من ضمير الفاعل فى يهلك اى ما كان الله مهلكهم ظالما لهم وَأَهْلُها قوم مُصْلِحُونَ (117) مسلمون تنزيه لذاته تعالى عن الظلم- وقيل الظلم الشرك والمعنى وما كان الله مهلك القرى بسبب شركهم فى حال يكون أهلها مصلحون فيما بينهم يتعاطون الانصاف ولا يظلم بعضهم بعضا- اخرج الطبراني وابو الشيخ عن جرير بن عبد الله قال لما نزلت هذه الاية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلها ينصف بعضهم بعضا- وذلك لفرط رحمة ومسامحة فى حقوقه ولذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد- ومن هاهنا قيل الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم-
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ كلهم أُمَّةً واحِدَةً مسلمين صالحين وهو دليل ظاهر على ان الأمر غير الارادة- وانه تعالى لم يرد الايمان من كل واحد وان ما أراد يجب وقوعه وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) عن الحق تاركيه «1» الى الباطل على أنحاء شتى- فمنهم يهودى ونصرانى ومجوسى ووثنى- ومنهم جبرى
__________
(1) فى الأصل تاركوه-(5/128)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
وقدرى وروافض وخوارج وغير ذلك
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ هداهم الله من فضله الى صراط مستقيم- فهم متفقون على اصول العقائد الصحيحة وامتثال أوامر الله والانتهاء عن المناهي- عن ابن مسعود قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مستقيما- ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه عن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه- وقرا وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
رواه احمد والنسائي والدارمي وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك يعنى للرحمة خلقهم- فالضمير راجع الى من رحمهم والاشارة الى الرحمة- وقال الحسن وعطاء وللاختلاف خلقهم- قال اشهب سالت مالكا عن هذه الاية- فقال خلقهم ليكون فريق فى الجنة وفريق فى السعير- وقال ابو عبيدة الّذي اختاره قول من قال خلق فريقا لرحمته وفريقا لعذابه وقال الفراء خلق اهل الرحمة للرحمة واهل الاختلاف للاختلاف- فالضمير راجع الى الناس والاشارة الى الاختلاف والرحمة جميعا- واللام للمعاقبة ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى حكم ربك القديم او قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ اى عصاتهما أَجْمَعِينَ (119) او المعنى منهما جميعا لا من أحدهما-
وَكُلًّا اى كل نبا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ اى من اخبارهم ومن اخبار أممهم ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان لكلّا او بدل منه- وفائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص- وهو زيادة يقينه وتقوية قلبه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار- او مفعول وكلّا منصوب على المصدر او الظرف- اى كل نوع من انواع الاقتصاص او كل وقت من الأوقات نقص عليك ما نثبت به فؤادك من انباء الرسل والأمم وَجاءَكَ فِي هذِهِ قال الحسن وقتادة فى هذه الدنيا- وقال غيرهما فى هذه السورة والظاهر ان الاشارة الى الانباء- يعنى جاءك فى هذه الانباء المقتصة عليك الْحَقُّ اى ما هو حق وَمَوْعِظَةٌ(5/129)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ
(120) اشارة الى سائر فوائده التامة العامة
وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى حالكم وجهتكم الّتي أنتم عليها وعلى قدرتكم فيه تهديد ووعيد إِنَّا عامِلُونَ (121) على حالنا وقوتنا
وَانْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) ان ينزل بكم نحو ما نزل على أمثالكم ان لم تؤمنوا
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى له تعالى خاصة علم ما غاب عن العباد فيهما- لا يخفى عليه خافية مما بينهما فلا يخفى عليه أعمالكم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ قرا نافع وحفص بضم الياء وفتح الجيم على البناء للمفعول- والباقون بفتح الياء وكسر الجيم على البناء للفاعل الْأَمْرُ كُلُّهُ فى العباد يعنى يرجع اليه تعالى لا محالة أمرك وأمرهم فينتقم لك منهم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وفى تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على انه انما ينفع التوكل مع العبادة وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) قرا نافع وابن عامر وحفص ويعقوب هنا وفى اخر النمل بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالياء التحتانية على الغيبة فيهما- قال البغوي قال كعب خاتمة التورية خاتمة سورة هود- عن ابن عباس قال قال ابو بكر يا رسول الله قد شبت- قال صلى الله عليه وسلم شيّبتنى هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت- رواه الترمذي والحاكم وصححه والبغوي- ورواه الحاكم عن ابى بكر وابن مردوية عن سعد ورواه ابن مردوية عن ابى بكر بلفظ شيّبتنى هود وأخواتها قبل المشيب «1» - ورواه ابو يعلى بسند ضعيف عن انس وابن مردوية عن عمران بلفظ شيّبتنى هود وأخواتها من المفصل- ورواه ابن مردوية عن انس بلفظ شيّبتنى سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسال سائل- وروى الطبراني
__________
(1) وعن ابى سعيد الخدري قال عمر بن الخطاب يا رسول الله اسرع إليك الشيب قال شيّبتنى هود وأخواتها الواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت فقط ازالة الخفا 12 منه رحمه الله(5/130)