وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
ايها النبي وَرَحْمَتُهُ
اى عصمته ولطفه من الاطلاع على سرّهم لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
اى بنوا ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ
فى القضاء بالتزوير ويلبسوا عليك الأمر حتى تدافع عن ابن أبيرق والجملة جواب لولا وليس القصد فيه الى نفى همّهم بل الى نفى تأثيره فيه كانّه نزل وجود الهمّ منزلة العدم لعدم تأثيره وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
فان ضرر اضلالهم انما يعود إليهم وَما يَضُرُّونَكَ
بعصمة الله مِنْ شَيْءٍ
منصوب المحل على المصدرية اى شيئا من الضرر كان مقتضى الظاهر وما أضلوا الا أنفسهم وما أضرّوك من شىء عدل الى المضارع لحكاية الحال وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
اى القران وَالْحِكْمَةَ
اى العلوم الحقة بالوحى الغير المتلوّ وَعَلَّمَكَ
العلوم بالاسرار والمغيبات قال قتادة علمه الله بيان الدنيا والاخرة من حلاله وحرامه ليحتج بذلك على صحة ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
جملة وانزل الله وعلّمك جملة حالية بتقدير قد متعلق بنفي الإضلال ونفى الضرر على سبيل التنازع وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
(113) إذ لا فضل أعظم من النبوة والله اعلم.
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ النجوى السرّ كذا فى القاموس وناجيته ساررته قال فى الصحاح أصله ان تخلو به فى نجوة من الأرض يعنى ما ارتفع منها وقيل أصله من النجاة وهو ان يعاونه على ما فيه خلاصة قال البغوي النجوى هو الاسرار فى التدبير وقيل النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سرّا كان او جهارا ويؤيّده قوله تعالى وَأَسَرُّوا النَّجْوى ومعنى الاية لا خير فى كثير ممّا يزور به بينهم وجاز ان يكون المصدر بمعنى الفاعل والمراد به الرجال المتناجون كما فى قوله تعالى وَإِذْ هُمْ نَجْوى والضمير المجرور عائد الى قوم ابن أبيرق الذين يستخفون من الناس إذ هم يبيون ما لا يرضى الله من القول وقال مجاهد الاية عامّة فى حق جميع الناس فعلى تقدير عوده الى قوم ابن أبيرق قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ الاستثناء منقطع لان من امر بصدقة غير داخلين فيهم وعلى تقدير عود الضمير الى جميع الناس استثناء متصل من الضمير المذكور وقيل هذا استثناء من قوله كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ فان كان النجوى بمعنى الفاعل فلا خفاء فيه وان كان بمعنى المصدر يقدر المضاف فى المستثنى يعنى لا خير فى كثير من نجويهم الّا نجوى من امر بصدقة ويرد عليه ان هذا الاستثناء لا يجوز لانه مثل جاءنى كثير من الرجال الّا ... ...(2 ق 2/234)
زيد لعدم الجزم بدخول زيد فى كثير ولا فى خروجه فلا يصح المتصل ولا المنقطع وأجيب بان المراد لا خير فى كثير من نجوى واحد منهم الا نجوى من امر وهذا الجواب لا يتأتى إذا كان النجوى بمعنى المتناجى إذ لا معنى لان يقال لا خير فى كثير من متناجى كل واحد منهم والظاهر ان الّا هاهنا بمعنى غير صفة كما فى قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أَوْ مَعْرُوفٍ اى ما يعرف حسنها شرعا من اعمال البر قيل المراد القرض واعانة الملهوف وصدقة التطوع وبالصدقة الزكوة المفروضة أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ عطف على معروف تخصيص بعد تعميم لمزيد الاهتمام او يقال قد يباح لاجل الإصلاح بين الناس ما ليس بمعروف فى غيره كالكذب عن أم كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط وكانت من المهاجرات الاول قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرا او نمى خيرا متفق عليه عن ابى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة قال قلنا بلى قال إصلاح ذات البين وإفساد ذات البين هى الحالقة رواه ابو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح وعن اسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل الكذب الّا فى ثلاث كذب الرجل امرأته ليرضيها والكذب فى الحرب والكذب ليصلح بين الناس رواه احمد والترمذي وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى الأمر بأحد هذه الأشياء او أحد هذه الأشياء المذكورة يعنى الصدقة وأختيه والظاهر هو الاول واختار البيضاوي الثاني وقال بنى الكلام على الأمر ورتّب الجزاء على الفعل ليدل على انه لما دخل الأمر فى زمرة الخيّرين كان الفاعل ادخل فيهم وان العمدة والغرض هو الفعل والأمر وصلة اليه ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قيد الفعل به لان من فعل رياءا وسمعة لم يستحق الاجر انما الأعمال بالنيات متفق عليه من حديث عمر مرفوعا فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ قرا حمزة وابو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء «1» على الخطاب أَجْراً عَظِيماً (114) يستحقر فى جنبه اعراض الدنيا روى الشيخان فى الصحيحين واحمد عن ابى شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرا او ليصمت وروى البيهقي عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله امرأ تكلم فغنم او سكت فسلم
__________
(1) الصحيح بالنون على التكلم(2 ق 2/235)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
ولما ذكر الله سبحانه جزاء المستثنيين الخيار عقبه جزاء من بقوا بعد الاستثناء «1» من الشرار فقال.
وَمَنْ يُشاقِقِ اى يخالف مشتق من الشق كانّ كلا من المتخالفين فى شق غير شق الاخر الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى اى بعد ما ثبت عنده بدليل قطعىّ وظهر ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم قيد بهذا احترازا عمّن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يبلغه الخبر بما حكم به الرسول او بلغه بطريق اتهم بعض رواته او اخطأ المجتهد فى فهم مراده بعد بذل الجهد وقيل معنى خالف الرسول انه ارتد عن الدّين بعد ظهور التوحيد وصدق الرسول بالمعجزات كما حكى عن طعمة وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ اى غير ما هم عليه أجمعون من اعتقاد او عمل ولا بأس بمخالفة البعض إذا وافق البعض لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى اى نجعله فى الدنيا واليا لما تولى من الضلال وو نخلى بينه وبين ما اختاره من الكفر وقيل معناه نكله فى الاخرة الى ما اتكل عليه فى الدنيا كما فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري وعن عبد الله بن عمرو بن العاص فى حديث طويل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة اذن مؤذن ليتبع كل امة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب الا يتساقطون فى النار وَنُصْلِهِ اى ندخله جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) جهنم «2» او التولية عن الحق قال البغوي نزلت هذه الاية فى طعمة ابن أبيرق وذلك انه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة هرب الى مكة وارتد عن الدين فقال الله تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ الاية وهذه الاية دليل على حرمة مخالفة الإجماع لانه تعالى رتّب الوعيد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ولا وجه لكون أحدهما سببا له دون الاخر والا للغا ذكر الاخر ولا لكون مجموعهما سببا لان المشاقة محرمة بانفرادها بالنصوص القطعية فظهر ان كل واحد منهما سبب للوعيد فثبت ان اتباع غير سبيلهم محرم فثبت ان اتباع سبيلهم واجب لان الإنسان لا محالة سالك سبيلا روى البيهقي والترمذي عن ابن عمرو ابن عباس قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجمع الله هذه الامة على الضلالة
__________
(1) فى الأصل بعد الثنيا
(2) عن مالك قال كان عمر بن عبد العزيز يقول من رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاه الأمر من بعدة سننا الاخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال بطاعته وقوة على دين الله ليس لاحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر فيها خالفها من اقتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن يخالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا منه رحمه الله.(2 ق 2/236)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
ابدا ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ فى النار والله اعلم قال البغوي روى ان طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بنى سليم من اهل مكة يقال له الحجاج بن علاظ فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع ان يدخله ولا ان يخرج حتى أصبح فاخذ ليقتل فقال بعضهم دعوه فانه قد لجا إليكم فتركوه فاخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فنزلوا منزلا فسرق بعض مطاعهم فهرب فطلبوه فاخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه فصار قبره تلك الحجارة وقيل انه ركب سفينة الى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فاخذ فالقى فى البحر وقيل انه نزل فى حرة بنى سليم فكان يعبد صنما لهم الى ان مات فانزل الله تعالى فيه.
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ من الصغائر والكبائر بالتوبة وبلا توبة لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فى وجوب الوجود وتاصله او فى العبادة شيئا فَقَدْ ضَلَّ عن سبيل الحق ضَلالًا بَعِيداً (116) لا يمكن وصوله الى النجاة والمغفرة وقال البغوي قال الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما ان هذه الاية السابقة نزلت فى شيخ من الاعراب جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبى الله انى شيخ منهمك فى الذنوب الا انى لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وامنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم اواقع المعاصي جرءة على الله وما توهمت انى أعجز الله هربا وانى لنادم تائب مستغفر فماذا حالى، وكذا اخرج الثعلبي عنه والله اعلم قال البغوي ونزل فى اهل مكة قوله تعالى.
إِنْ يَدْعُونَ اى ما يعبدون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء هو العبادة ثم قال وقال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي الاية رواه احمد واصحاب السنن الاربعة، ولان من عبد شيئا دعاه لحوائجه ومصالحه مِنْ دُونِهِ تعالى إِلَّا إِناثاً قال اكثر المفسرين معناه الّا أوثانا ووجه تسميتها بالإناث اما لان العرب كانوا يزعمونها إناثا ويسمونها بأسماء الإناث اللات والعزى ومناة ونحوها ويقولون ربة بنى فلان وأنثى بنى فلان لما روى عبد الله بن احمد فى زوائد المسند وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابى بن كعب انه قال الّا إناثا قال مع صنم جنية وامّا لانه لا حقيقة لها الا اسماءها قال الله تعالى ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها فاعتبرت إناثا باعتبار تأنيث أسمائها وامّا لانها كانت ... ...(2 ق 2/237)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
جمادات والإناث يطلق على الجمادات لغة فى القاموس الإناث جمع الأنثى كالاناثى والموات كالشجر والحجر وصغار النجوم فهذا اطلاق لغوى أصلي من غير تجوّز كما قيل فى كتب النحو الضمير بالألف والتاء ونون الجماعة لغير العقلاء فى الأصل يقال سفن جاريات ونخل باسقات وصرن الأيام ليالى وانما جعل ضمير جماعة النساء بها لتنزيلهن منزلة غير العقلاء لنقصان عقلهن وقال الحسن وقتادة الّا إناثا اى مواتا لا روح فيه سماها إناثا لانها تخبر عن الموات كما تخبر عن الإناث او لان الإناث أدون الجنسين كما ان الموات أرذل من الحيوان وعلى هذين الوجهين الإطلاق مجازى وقرأ ابن عباس الّا اثنا جمع الأوثان جمع وثن قلبت الواو همزة وقال الضحاك أراد بالإناث الملائكة فانهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله قال الله تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً وذلك انه كان فى كل وثن شيطانا يتزا اى للسدنة والكهنة ويكلمهم كما ذكرنا فيما سبق وقيل المراد به إبليس فانه هو الذي أمرهم بعبادتها فعبادتها طاعته وعبادته مَرِيداً (117) المارد والمريد الذي لا يعلق بخير واصل التركيب للملاسة ومنه صرح ممرد وغلام امرد والمراد هاهنا العاتي الخارج عن طاعة الله.
لَعَنَهُ اللَّهُ صفة ثانية للشيطان وَقالَ عطف على لعن اى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس والتوصيف بهذا القول يدل على ان المراد بالشيطان إبليس فانه إذا ابى عن سجود آدم ولعنه الله قال وعزتك وجلالك لا أبرح اغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم كذا فى الصحيح من الحديث وهو المعنى من قوله تعالى لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) اى مقدرا قدر لى قال الحسن من كل الف تسعمائة وتسعا وتسعين الى النار وواحدا الى الجنة قلت كذا ورد فى حديث بعث النار او المعنى نصيبا مقطوعا عمن عداه يعنى جماعة أشقياء ممتازة من السعداء.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق بإلقاء الوسوسة فى قلوبهم وتزيين الشهوات عندهم فنسبة الإضلال اليه انما هو بالمجاز عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربّك فاذا بلغه فليستعذ بالله ولينته متفق عليه وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة ان ... ...(2 ق 2/238)
لا بعث ولا عذاب وطول الحيوة وادراك الاخرة مع ارتكاب المعاصي عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم متفق عليه وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمة فاما لمة الشيطان فايعاد بالشر وتكذيب بالحق وامّا لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من الله فليحمد الله ومن وجد الاخرى فليستعذ بالله من الشيطان الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ رواه الترمذي وقال حديث غريب وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ البتك القطع والشق والتبتيك للتكثير والتكرير اى ليقطعن ويشققن آذانَ الْأَنْعامِ وهى عبارة عما كانت تفعل بالبحائر قال قتادة والسدى كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم قال فى القاموس البحر الشق وشق الاذن ومنه البحيرة كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة ابطن بحروها اى شقوا اذنها وتركوها ترعى وحرموا لحمها إذا ماتت على نسائهم وأكلها الرجال وفيه اشارة الى تحريم كل ما أحل الله وتنقيص كل ما خلق كاملا بالفعل او بالقوة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ عن وجهه صورة «1» او صفة «2» ويندرج فيه فقوعين الحامى وخصاء العبيد والوشيم «3» والوشير «4» والمثلة واللواطة والسحق وعبادة الشمس والقمر والحجارة لانها ما وضعت لها واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا وتغيير فطرة الله التي هى الإسلام، عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء «5» هل تحسون فيها من جدعاء «6» ثم يقول فِطْرَتَ اللَّهِ
__________
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلحات للحسن المغيرات خلق الله رواه احمد والشيخان عن ابن مسعود وروى احمد والشيخان عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وروى احمد عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن القاشرة والمقشورة والواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة منه رحمه الله
(2) عن ابن عمر ان عمر بن الخطاب كان ينهى عن اختصاء البهائم ويقول هل النماء الا فى الذكور وامّا خصاء البهائم فلا يأس به عند ابى حنيفة كذا فى الهداية كذا روى عبد الرزاق وعبد بن حميد عن الحسن وروى ابن ابى شيبة وابن المنذر عن محمد بن سيرين والحسن لكن روى ابن ابى شيبة والبيهقي وابن المنذر ان عمر بن الخطاب كان ينهى عن خصاء البهائم وروى ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح واخصاء البهائم واخرج ابن ابى شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل والبهائم وروى ابن ابى شيبة وغيره عن ابن عباس انه قال فيه نزلت وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وروى ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس ولامرنهم ليغيرن خلق الله قال دين الله منه رحمه الله
(3) الوشم غرز الابرة فى البدن وذر النيلج عليه منه رح
(4) الوشر تحديد المرأة أسنانها وترقيقها منه رح
(5) جمعاء اى سليمة من العيوب مجتمعة الأعضاء كاملتها نهاية
(6) جدعاء اى مقطوعة الأطراف او أحدها والجدع قطع الانف او الاذن او الشفة نهاية منه رح(2 ق 2/239)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ متفق عليه يعنى لا تبدلوا خلق الله وجاز ان تكون هذه الجمل الخمس حكاية عمّا يأتيه الشيطان فعلا فحينئذ لا يختص هذا القول بإبليس، برهن الله سبحانه على ان الشرك ضلال غاية الضلال بان ما تشركون به تعالى جمادات لا تضر ولا تنفع بل هى اسماء سميتموها بأسماء الإناث لا حقيقة لها وبان الإشراك طاعة للشيطان المريد المنهمك فى الشر والضلال لا يعلق بشىء من الخير والهدى وبانه ملعون لضلالته فلا يستجلب مطاوعته الا اللعن والضلال وبانه فى غاية العداوة للانسان والسعى فى إهلاكهم فموالات من هذا شأنه بعيد عن العقل ضلال غايته فضلا عن عبادته ثم حكم بما هو كالنتيجة لما سبق من البرهان فقال وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا ربّا يطيعه مِنْ دُونِ اللَّهِ بايثاره ما يدعوه اليه على ما امر الله تعالى فيه اشارة الى ان عبادة الله بالاشراك غير مقبول عند الله تعالى بل هو عبادة لغير الله فقط ولا يجتمع عبادة الله مع عبادة غيره عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه وفى رواية فانا منه برئ وهو للذى عمله رواه مسلم فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) حيث ضيع رأس ماله واشترى النار بالجنة.
يَعِدُهُمْ بالخواطر الفاسدة او بلسان أولياءه ما لا ينجزه ويحتمل ان يتصور بصورة انسان ويعدهم كما فعل يوم بدر إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ الاية وَيُمَنِّيهِمْ الأماني الباطلة التي لا ينالونها من طول العمر ونيل الدنيا ونحو ذلك وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (120) باطلا وهو اظهار النفع فيما فيه الضرر واظهار الضرر فيما فيه النفع قال الله تعالى الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يعنى بالإنفاق فى سبيل الله وصلة الرحم ويأمركم بالفحشاء.
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) اى هربا او مهربا فى القاموس حاص عنه يحيص حيصا وحيصة ومحيصا عدل وحاد وكلمة عنها حال منه وليس صلة لانه اسم مكان او مصدر فلا يعمل فيما قبله.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اى تحت قصورها وغرفها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا اى ... ...(2 ق 2/240)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
وعد الله وعدا وحق ذلك حقا فالمصدر الاول مؤكد لنفسه لان مضمون الجملة الاسمية وعد التي قبلها والثاني مؤكد لغيره ويجوز نصب الموصول بفعل يفسره ما بعده ووعد الله بقوله سندخلهم لانه بمعنى نعدهم ادخالهم الجنة وعدا حقا على انه حال من المصدر وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) اى لا أحد جملة مؤكدة بليغة فى التأكيد والمقصود من الاية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لاوليائه وجاز ان يكون جملة معترضة بالواو وفائدتها التأكيد او معطوفة على محذوف اى صدق الله ومن اصدق من الله وجاز ان يكون عطفا على خالدين بتقدير القول اى وقائلين من اصدق والله اعلم اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قالت اليهود والنصارى لا يدخل الجنة غيرنا وقالت قريش انا لا نبعث فانزل الله تعالى.
لَيْسَ الأمر منوطا بِأَمانِيِّكُمْ يا اهل مكة حيث تقولون لا بعث ولا نشور وتقولون هؤلاء الأصنام شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وتقولون ان كان الأمر كما يزعم اصحاب محمد لنكونن خيرا منهم واحسن حالا ويدل على كون الخطاب لاهل مكة سياق الاية وبه قال مجاهد وَلا الأمر منوطا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود والنصارى حيث يقولون نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ويقولون لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى، ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ بل امر النجاة والثواب وضدهما منوط بالايمان والأعمال الصالحة وضدّها ثم فصّل الجملة فقال مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً من الكفر والمعاصي يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يوصل اليه خيرا وَلا نَصِيراً (123) يدفع عنه شرا، كلمة من عامة شاملة للمؤمن والكافر وان كان سبب النزول خاصا اعنى أماني الكفار من اهل مكة واهل الكتاب فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كذا ذكر البغوي قول ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم ان الاية عامة فى حق كل عامل وقوله تعالى يجز به مقيد بعدم المغفرة كغيره من آيات الوعيد والجزاء يعم ما يصيبه فى الدنيا وما يصيبه فى الاخرة ان لم يغفر الله تعالى عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه بايعونى على ان لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين ايديكم وأرجلكم ولا تعصوا فى معروف فمن وفى منكم فاجره على الله ومن أصاب من ذلك ... ...(2 ق 2/241)
شيئا فعوقب على ذلك فى الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو الى الله ان شاء عفا عنه وان شاء عاقبه فبايعناه على ذلك متفق عليه وقوله تعالى لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً لا يدل على ان هذا الحكم خاص بالكفار ولا يضر ذلك بالمؤمنين فان مولاهم الله تعالى كفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا فيغفرهم الله تعالى ان شاء يشفع لهم الملائكة والأنبياء والصالحون بإذن الله تعالى ولا يطلبون من دون الله وليا ولا نصيرا وامّا الكفار فيطلبون الولاية والنصرة ممّا عبدوها دون الله تعالى فلا يجدونها لهم اولياء ولا أنصارا ويدل على عموم هذه الاية المؤمنين والكفار حديث ابى بكر الصديق رضى الله عنه قال كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزلت هذه الاية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر الا اقرئك اية أنزلت عليّ قال قلت بلى قال فاقرانيها قال ولا اعلم انى وجدت انفصاما فى ظهرى حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ما لك يا أبا بكر فقلت يا رسول الله بابى أنت وامّى أينا لم يعمل سوءا وانا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اما أنت وأصحابك المؤمنون فيجزون بذلك فى الدنيا حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب وامّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة رواه البغوي بسنده والترمذي وعبد ابن حميد وابن المنذر وأخرجه احمد وابن حبان والحاكم بلفظ قال ابو بكر فمن ينجو مع هذا فقال عليه السلام اما تحزن اما تمرض اما يصيبك البلاء قال بلى يا رسول الله قال هو ذلك وروى احمد والبخاري فى تاريخه وابو يعلى والبيهقي نحوه عن عائشة وقال البغوي قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما لما نزلت هذه الاية شقت «1» على المسلمين وقالوا يا رسول الله وايّنا لم يعمل سوءا غيرك فكيف الجزاء قال منه ما يكون فى الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزى بالسيئة نقصت واحدة من عشر وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت احاده أعشاره وامّا ما كان جزاء فى الاخرة فيقابل من حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر فى الفضل فيعطى الجزاء فى الجنة فيؤتى كل ذى فضل
__________
(1) وعن محمد بن المنتشر قال قال عمر لبثنا حين نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ما ينفعنا طعام ولا شراب حتى انزل الله بعد ذلك ورخص وقال وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
منه رحمه الله(2 ق 2/242)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
فضله «1» والله اعلم قلت ما ذكرنا تخريج ابن ابى حاتم عن ابن عباس فى سبب نزول قوله تعالى ليس بامانيّكم هو الظاهر من حيث الرواية والدراية ولكن روى له سبب اخر ايضا أخرجه ابن جرير عن مسروق مرسلا ونحوه عن قتادة والضحاك والسدىّ وعن ابن عباس من طريق العوفى ان قوله تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت فى تفاخر النصارى واهل الإسلام وفى لفظ تفاخر اهل الأديان جلس ناس من اليهود وناس من النصارى وناس من المسلمين فقال هؤلاء نحن أفضل وقال هؤلاء نحن أفضل قال البغوي قال اهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن اولى بالله منكم وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضى على الكتب وقد أمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن اولى وعلى هذا الخطاب فى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ مع المؤمنين ولا خفاء حينئذ فى عموم قوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً- واخرج ابن جرير ايضا عن مسروق وكذا ذكر البغوي عن الأعمش عن ابن الضحى عنه انه قال لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال اهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الاية.
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ يعنى بعضها وشيئا منها بدليل قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فى موضع الحال من المستكن فى يعمل ومن لتبيين الإبهام او فى موضع الحال من الصّالحات اى كائنة من ذكر او أنثى ومن للابتداء واو على التأويلين فيه تأكيد بشمول الحكم فى مَنْ يَعْمَلْ قال بعض الأفاضل فى تبيين العامل بالذكر والأنثى توبيخ للمشركين فى إهلاكهم إناثهم وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال من المستكن فى يعمل قيد جزاء الحسنات بشرط الايمان ولم يقيد جزاء السيئات بشرط الكفر لان كل سيئة صغيرة كانت او كبيرة غير مرضية لله منهية فاتيانها يقتضى العقاب ان لم يتداركه المغفرة
__________
(1) واخرج ابن ابى شيبة واحمد والبخاري ومسلم عن ابى هريرة وابى سعيد انهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم بهم الا كفر الله به من سيئاته وفى الصحيحين وغيرهما عن عائشة نحوه واخرج ابن الى الدنيا والبيهقي عن بريدة الأسلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أصاب رجلا من المسلمين نكبة فما فوقها حتى ذكر الشوكة الا لاحد خصلتين الا ليغفر الله من الذنوب ذنبا لم يكن يغفر له الا بمثل ذلك او يبلغ به من الكرامة كرامة لم يبلغها الّا بمثل ذلك، واخرج ابن سعد والبيهقي عن ابى فاطمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسى بيده ان الله ليبتلى المؤمن وما يبتليه الّا لكرامة عليه وان العبد لتكون له الدرجة فى الجنة لا يبلغها بشىء من عمله حتى يبتليه بالبلاء ليبلغ به تلك الدرجة وروى البيهقي عن ابى هريرة نحوه منه رحمه الله-[.....](2 ق 2/243)
ولذلك عمّ الوعيد على السيئات للفريقين المؤمنين والكفار وامّا الحسنات فلا يعتد بشىء منها ما لم يقترن بالايمان لان اعمال الكفار ليست خالصة لله تعالى وما ليس بخالص له تعالى فهو شرك ومعصية وليست بحسنة فان قيل فعلى هذا لا حاجة الى هذا القيد لان عنوانها بالصالحات يغنى عنه فان اعمال الكفار ليست من الصالحات فى شىء قلنا نعم لكن قيد بذلك للتصريح ودفع توهم الكفار ان من أعمالهم ما هو حسنة كالنفقات وصلة الأرحام ونحو ذلك فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وان كانوا فساقا ماتوا بلا توبة امّا بمغفرة ذنوبهم او بعد جزاء سيئاتهم قرا ابن كثير وابو جعفر وابو عمرو وابو بكر يدخلون بضم الياء وفتح الخاء على البناء للمفعول هاهنا وفى سورة مريم وحم المؤمن وزاد ابو عمرو يدخلونها فى سورة فاطر والباقون على البناء للفاعل، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) اى مقدار النقير وهو النقرة التي تكون فى ظهر النواة وهذه الاية بعبارته تدل على عدم تنقيص ثواب المطيع وبالدلالة بالطريق الاولى على عدم الزيادة فى عذاب العاصي لان الأذى فى زيادة العذاب أشد منه فى تنقيص الثواب فاذا لم يرض ارحم الراحمين بهذا فكيف يرضى باشد منه وقال بعض الأفاضل لترك هذا القيد فى قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
وجه «1» اخر وهو ان مقام تهديد الكافر لتنفيره عن الشرك يقتضى تركه هناك ومقام ترغيب المؤمن بالعمل الصالح والمواظبة على الانقياد يقتضى ذكره هاهنا قلت وعندى ان معنى قوله تعالى وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً انه لا ينقص أحد من ثواب طاعاته ولا يزاد أحد على عقاب سيئاته ولما كان قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ شاملا لجميع المؤمنين الصلحاء والفساق لان الفاسق ايضا لا يخلو عن إتيان عمل صالح أدناه شهادة ان لا اله الا الله وهو أعلى شعاب الايمان ففى هذه الاية بشارة للفريقين من المؤمنين المطيعين والعصاة بالأمرين حميعا عدم تنقيص الثواب وعدم زيادة العذاب وامّا قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
وان كان شاملا للفريقين المؤمنين والكفار وكان الفساق من المؤمنين داخلين فى كلا الآيتين لكن لما كان جزاء سيئات الكفار غير متناه لعدم تناهى قبح الكفر بالله فكان زيادة العذاب على سيئات الكفار غير متصور لاستحالة الزيادة على ما لا تناهى له او يقال يجوز الزيادة فى عذاب الكفار على سيئاتهم قال الله تعالى زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ فلذلك لم يذكر هذه الجملة هناك كيلا
__________
(1) فى الأصل وجها اخر-(2 ق 2/244)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
يكون بشارة للكفار فان قيل الظلم قبيح وان كان فى حق الكفار والله سبحانه منزه عن القبائح فكيف يجوز الزيادة على عذاب الكافر قلنا الظلم عبارة عن التصرّف فى غير ملكه والله سبحانه مالك الملك يتصرّف فى ملكه كيف يشاء فلو عذب العالمين بغير جرم لا يكون منه تعالى ظلما وقوله تعالى لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً وأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ مبنى على التجوز معناه ان الله سبحانه لا يفعل بالمؤمنين ما لو فعله بهم غيره تعالى يعد ظلما والله اعلم ذكر البغوي عن مسروق انه قال لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الاية قال اهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ كما ذكر سابقا ونزلت ايضا.
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعنى أخلص نفسه لله بحيث لا يكون لقلبه تعلقا علميا ولا حبيا بغيره تعالى ويكون نفسه وقلبه وقالبه منقادا لاوامره تعالى منتهيا عن مناهيه لا يثبت لنفسه ولا لغيره فى دائرة الإمكان لشىء من الأشياء وجودا متاصلا فضلا من اتخاذه معبودا او محبوبا او موجودا بوجود مستقل بنفسه وفى هذا الاستفهام اشارة الى ان ذلك غاية مبلغ الكمال وَهُوَ مُحْسِنٌ ات بالحسنات تارك للسيئات متصف بدوام الحضور والإخلاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حديث سوال جبرئيل ما الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك متفق عليه من حديث عمر رضى الله عنه وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ خصّ ابراهيم عليه السّلام بالذكر مع ان دين الأنبياء كلهم واحد وهو صرف نفسه وأعضائه وقواه ظاهرا وباطنا فى مرضات الله تعالى مشتغلا به تعالى معرضا عن غيره تعالى لاتفاق جميع الأمم على كونه نبيا حقا حميدا فى كل دين ولكون دين الإسلام موافقا لشريعة ابراهيم عليه السلام فى كثير من فروع الأعمال كالصلوة الى الكعبة والطواف بها ومناسك الحج والختان وحسن الضيافة وغير ذلك من كلمات ابتلاه الله تعالى بها فاتمهن حَنِيفاً حال من ابراهيم او من الملة او من المستكن فى واتبع يعنى مستقيما على الطريق الحق مائلا عن الطرق الباطلة وصف ابراهيم به لانه استقام على الإسلام واعتزل عن عبادة الأصنام مع ما كان أبوه وقومه عاكفين على عبادتهن وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125) صديقا صافى المحبة والخلة مشتق من الخلال فانه ودّ يخلل النفس ويخالطها وقيل من الخلل فان كل واحد من الخليلين يسد ... ...(2 ق 2/245)
خلل الاخر وقال الزجاج الخليل الذي ليس فى محبته خلل او من الخل وهو الطريق فى الرمل فانهما يتوافقان فى الطريق او من الخلة بمعنى الخصلة فانهما يتوافقان فى الخصال وقيل هو من الخلة بمعنى الحاجة فان كل واحد من الخليلين يحتاج اليه صاحبه قيل سمى ابراهيم خليلا اى فقيرا الى الله لانه لم يجعل فقره وفاقته الّا الى «1» الله تعالى روى عنه عليه السّلام انه لما القى الى النار جاءه جبرئيل فقال هل لك حاجة قال امّا إليك فلا فقال سل ربك قال حسبى عن سوالى عمله بحالي فان قيل لا يستقيم هذا المعنى فان قوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يقتضى الخلة من الجانبين ولا يتصور الحاجة من الجانبين قلنا قد عرفت فى مبدا الكتاب ان اسماء الله تعالى وصفاته يؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي فانه تعالى رحمن رحيم وهما مشتقان من الرحمة بمعنى رقة القلب المقتضى للتفضل والإحسان فاطلاقهما عليه سبحانه باعتبار التفضل والإحسان لا باعتبار رقة القلب إذ هو منزه عن القلب ورقته فكذا اطلاق الخلة عليه سبحانه باعتبار صفاء المحبة المبنى على الحاجة فى غيره تعالى لا باعتبار الحاجة تعالى عن ذلك علوّا كبيرا وقوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا جملة معترضة لا محل لها من الاعراب وفائدتها التأكيد فى وجوب اتباع ملته لان من بلغ من الله منزلة اتخذه الله خليلا كان جديرا بالاتباع قال المجدّد رضى الله عنه الخليل هو النديم الذي يعرض المرء عليه اسرار محبّه ومحبوبه اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم فى تفاسيرهم عن زيد بن اسلم قال ان اوّل جبار كان فى الأرض نمرود وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام فخرج ابراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار فاذا مرّ به ناس قال من ربّكم قالوا أنت حتى مرّ ابراهيم فقال من ربّك قال رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ ... فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فرده بغير طعام فرجع ابراهيم
__________
(1) فكان يعطى ولا يأخذ ولا يتوجه الى أحد غيره تعالى اخرج البيهقي فى الشعب عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبرئيل لم اتخذ الله ابراهيم خليلا قال لا طعامه الطعام يا محمد واخرج ابن المنذر عن ابن أبزى انه سال ابراهيم ملك الموت باىّ شىء اتخذني ربى خليلا قال بانك تحب ان تعطى ولا تأخذ واخرج الديلمي عن ابى هريرة نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنده واه وعن زبير بن بكار قال اوحى الله الى ابراهيم أتدري لم اتخذتك خليلا قال لا يا رب قال لانى اطلعت على قلبك فوجدتك تحبّ ان ترزا ولا ترزا يعنى تعطى ولا تعطى منه رحمه الله(2 ق 2/246)
الى اهله فمرّ على كثيب من رمل اعفر فقال الا أخذ من هذا فاتى به أهلي تطيب نفوسهم حين ادخل عليهم فاخذ منه فاتى اهله فوضع أشياءه ثم نام فقامت امرأته ففتحته فاذا هى بأجود طعام راه أحد فصنعت له منه فقربته اليه وكان عهده باهله انه ليس عندهم طعام فقال من اين هذا قالت من الطعام الذي جئت به فعرف ان الله رزقه فحمد الله واخرج ابن ابى شيبة فى المصنف عن ابى صالح قال انطلق ابراهيم عليه السّلام يمتار فلم يقدر على الطعام فمر بسهلة حمراء و «1» أخذ منها ثم رجع الى اهله فقالوا ما هذا قال حنطة حمراء ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء فكان إذا زرع منها شىء خرج سنبلة من أصلها الى فرعها متراكما وذكر البغوي انه قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس كان ابراهيم عليه السلام أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فاصاب الناس سنة فحشروا الى باب ابراهيم عليه السلام يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل الى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه لو كان ابراهيم انما يريده لنفسه لاحتملنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة فرجع رسل ابراهيم عليه السّلام فمروا ببطحاء فقالوا لو انا حملنا من هذه البطحاء لبزى الناس انا قد جئنا بميرة فانا نستحيى ان نمر بهم وإبلنا فارغة فملئوا تلك الغرائر سهلة ثم أتوا ابراهيم فاعلموه وسارة نائمة فاهتم ابراهيم لمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا بلى قالت فما جاءوا بشىء قالوا بلى فقامت الى الغرائر ففتحتها فاذا هو أجود خوارى تكون فامرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ ابراهيم عليه السلام فوجد ريح الطعام فقال يا سارة من اين هذا قالت من عند خليلك المصري فقال هذا من عند خليلى الله قال فيومئذ اتخذ الله ابراهيم- (فائدة:) ولما كان نبينا سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم ارفع درجة من مقام الخلة حيث كان مستقرا فى مقام المحبوبية الصرفة وكان مروره صلى الله عليه وسلم على مقام الخلة كعابر سبيل سمى نفسه لذلك العبور والمرور خليلا حيث قال لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبى وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا رواه مسلم من حديث ابن مسعود
__________
(1) فى الأصل إذا أخذ(2 ق 2/247)
وقال لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا متفق عليه من حديث ابى سعيد الخدري وقال الا وصاحبكم خليل الله رواه الترمذي عن ابى هريرة واخرج الحاكم وصححه عن جندب انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل ان يتوفى ان الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا واخرج الطبراني عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله اتخذ ابراهيم خليلا وان صاحبكم خليل الله وان محمّدا سيد بنى آدم يوم القيامة ثم قرا عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً «1» لكن لاجل غدم استقراره فى هذا المقام لعلو شأنه وعدم اقتضاء المحبوبية بعد ما ارتفع عن هذا المقام غير انه كان طالبا لحصول ذلك المقام بالتفصيل لبعض اتباعه حتى يكون ذلك التفصيل معدودا فى كماله بناء على ان كمالات الاتباع بنذ من كمال المتبوع قال العلماء من اهل السنة بالإجماع فى كتب اصول الدين كرامات الأولياء معجزات لنبيه وقال عليه السلام من سنّ سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء وقال عليه الصلاة والسلام الدال على الخير كفاعله ويرشدك ما روينا ان اعمال الامة وكمالاتهم داخلة فى اعمال النبي صلى الله عليه وسلم وكماله ولطلب ذلك التفصيل له ولاتباعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصلاة المأثورة اللهم صل على محمّد وال محمّد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم فاستجاب الله تعالى هذا الدعاء واعطى بعد الف سنة ذلك للمجدد رضى الله عنه فاستقر فى مقام الخلة واتصف بتفصيله ولم يتيسر ذلك قبله رضى الله عنه لاحد اما لرفعة شأن بعض السّابقين من أكابر الصحابة وائمة اهل البيت الذين رسخوا فى مقام المحبوبية الصرفة بتبعية النبي صلى الله عليه وسلم واما لعدم وصولهم الى تلك المقام ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى اوله خير أم آخره او كحديقة اطعم فوجا منها عاما وفوجا منها عاما لعل آخرها فوجا هى اعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا رواه رزين
__________
(1) اخرج الترمذي وابن مردوية عن ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم قال ابراهيم خليل الله وهو كذلك الأواني حبيب الله ولا فخر وانى اوّل شافع واوّل مشفّع ولا فخر وانا اوّل من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر وانا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر واخرج ابن جرير والطبراني عن ابن عباس قال ان الله اصطفى ابراهيم بالخلة واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمّدا بالرؤية منه رحمه الله(2 ق 2/248)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
من حديث جعفر بن محمّد وهذا امر ثبت بالكشف الصحيح ولا علينا لو أنكره أحد وانما كلامنا مع من يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ «1» وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وانما ذكرت هذا الكلام لان بعض قاصرى الافهام كانوا يعترضون على كلام المجدد رضى الله عنه فى هذا المقال ويزعمونه مستحيلا وكفرا والإنسان عدو لما جهل وبما ذكرنا لك اتضح ان هذا القول دعوى امر ممكن يقتضى الحسن الظنّ بالاكابر قبوله او السكوت عنه وكان من الناس من يقول لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فقال الله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ وكان من الناس من يقول اانزل «2» عليه الذّكر مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ قال الله تعالى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ولا يلزم من رسوخ بعض أكابر الصحابة وائمة اهل البيت فى مقام المحبوبية الصرفة فضلهم على ابراهيم عليه السلام لان وصول الصحابة والائمة الى مقام المحبوبية كان بالتبعية والوراثة وما كان لابراهيم عليه السلام كان بالاصالة وشتان ما بينهما وما ذكرنا من استقرار المجدد رضى الله عنه فى مقام الخلة لا ينافى ترقياته «3» من ذلك المقام وسيره وعبوره بالتبعية والوراثة الى مقام المحبوبية الصّرفة فان السير والعبور غير الاستقرار والمقام والله اعلم.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا تقديم الظرف لقصد الحصر يعنى ليس لاحد غيره تعالى دخل فى خلق شىء من الممكنات وملكه وانما خص ذكر ما فى السموات وما فى الأرض لظهورهما وهذه الجملة متصلة بقوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ تعليل له يعنى إذا كان جميع الأشياء خالصا لله تعالى فالواجب على كل أحد تخليص وجهه لله تعالى او هى متصلة بقوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يعنى انه له تعالى ما فى السموات وما فى الأرض يختار منها ما يشاء ومن يشاء او هى متصلة بذكر الأعمال مقرر بوجوب طاعته على اهل السموات والأرض وكمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) احاطة لا كيف لها يعنى ليس شىء من الأشياء مستقلا بنفسه بل كل شىء موجود بوجوده محتاج اليه فى ذاته
__________
(1) فى الأصل هدى الله.
(2) وفى القران أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ إلخ فى سورة القمر.
(3) ومى تواند كه گفته شود كه ترقى در مقام خلّت كه حاصل بود خواسته باشند پس فرمودند طلب صلوة رحمت وخلت كه حضرت ابراهيم عليه السلام بان امتياز دارند بخواهيد وامة مامور شده بدعاء ترقى در مرتبه خلت وظاهر است كه حصول آن از بعضى كم هست از بعضى زياده و پيداست كه درجات قرب حضرت حق سبحانه يا بجذب فضل او سبحانه هست يا باعمال مرضيه خودشان يا باعمال مرضيه صالحان امت است الدال على الخير كفاعله وگفته اند كه بعضى معانى بر دلهاء عارفان مى آيند ألفاظ وعبارت از ان قاصر مى بود پس سكوت اولى منه رحمه الله.(2 ق 2/249)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
وصفاته وأفعاله مشمول بعواطفه وافضاله فلا يجوز لاحد الا ان يسلم وجهه خالصا له وقيل محيط احاطة علم وقدرة فيجازيهم على حسب أعمالهم ان خيرا فخيرا وان شرّا فشرّا والله اعلم اخرج الحاكم فى المستدرك عن ابن عباس قال كان اهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة فلما كان الإسلام قال الله تعالى.
وَيَسْتَفْتُونَكَ اى يستخبرونك فى الصحاح الفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام فِي النِّساءِ اخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال كان الرجل الذي قد بلغ لا يورث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا يرث الصغير والمرأة كما يرث الرجل فسالوا النبي صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الاية وكذا اخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد وقال البغوي قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس نزلت هذه الاية فى بنات أم كحة وميراثهن عن ابيهن وقد مضت القصة فى اوّل السورة «1» وروى البخاري عن عائشة فى هذه الاية قال هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته فى ماله فيعضلها قال البغوي فيرغب عنها ان يتزوجها لدمامتها ويكره ان يزوج غيره فيدخل عليه فى ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها فنهاهم الله عن ذلك وفى رواية عنها قالت هى اليتيمة فى حجر الرجل وهو وليها فيرغب فى نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال باقل من سنة صداقها وإذا كانت مرغوبا عنها فى قلة المال والجمال تركها قُلِ يا محمد اللَّهُ يُفْتِيكُمْ يبيّن لكم حكمه فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الموصول معطوف على اسم الله او ضميره المستكن فى يفتيكم وجاز للفصل يعنى يفتيكم الله فيهن ويفتيكم فيهن كتابه «2» يعنى اية الميراث او قوله تعالى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ونحو ذلك وجاز ان يكون الجملة معترضة لتعظيم المتلوّ عليهم على ان الموصول مبتدا وفى الكتاب خبره والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ ويجوز ان ينصب الموصول بفعل محذوف على معنى ويبيّن لكم ما يتلى عليكم او يخفض على القسم كانه قيل واقسم بما يتلى عليكم فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق بيتلى ان عطف الموصول على ما قبله او كان الموصول منصوبا او مجرورا اى يتلى عليكم
__________
(1) اخرج القاضي إسماعيل فى احكام القران عن عبد الملك بن محمد بن حزم ان عمرة بنت حزم كانت تحت سعد بن الربيع فقتل عنها بأحد وكانت له منها ابنة فانت النبي صلى الله عليه وسلم تطلب ميراث أبيها ففيها نزلت ويستفتونك فى النّساء منه رحمه الله
(2) وروى البخاري ومسلم عن عائشة انها قالت الذي ذكر الله اية يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الاية الاولى التي قال الله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ الاية منه رحمه الله(2 ق 2/250)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
فى شأنهن والا فبدل من فيهن او صلة اخرى ليفتيكم على معنى يفتيكم فيهن بسبب يتامى النساء كما فى قوله عليه السلام «1» دخلت امراة النار فى هرة والاضافة بيانية لان المضاف اليه جنس المضاف اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ اى ما فرض من الميراث والصداق وغير ذلك من الحقوق وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعنى فى ان تنكحوهن إذا كن جميلات او عن ان تنكحوهن إذا كن دميمات روى ابن المنذر عن الحسن وابن سيرين فى هذه الاية قال أحدهما ان ترغبوا فيهن وقال الاخر ان ترغبوا عنهن واخرج ابن ابى شيبة عن الحسن ان ترغبوا عنهن والواو اما للعطف او للحال وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يتامى النساء فانهم كانوا لا يورثونهم كما ذكرنا ويأكلون أموالهم اى ما يتلى عليكم فى اليتامى وذلك قوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ- وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ بالعدل فى ميراثهم وأموالهم ايضا عطف على يتامى النساء يعنى يتلى عليكم فى ان تقوموا لليتامى بالقسط هذا إذا جعل فى يتامى النساء متعلقا بيتلى وان جعلته بدلا فالوجه نصبها عطفا على موضع فيهن ويجوز نصب ان تقوموا بإضمار فعل اى ويأمركم ايها الائمة او ايها الأولياء ان تقوموا لليتامى بالعدل والانصاف وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فى حق النساء واليتامى وغير ذلك فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) فيثيبكم عليه روى البخاري وابو داود والحاكم عن عائشة والترمذي مثله عن ابن عباس انه توقعت سودة ان يفارقها النبي صلى الله عليه وسلم فسالت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسنت فقالت يومى لعائشة فانزل الله تعالى.
وَإِنِ امْرَأَةٌ مرفوع بفعل مضمر يفسّره ما بعده اى خافَتْ وجاز ان يكون خافت صفة والمقدر كانت تقديره وان كانت امراة خافت يعنى توقعت مِنْ بَعْلِها مكروها يعنى نُشُوزاً اى ترفعا عن صحبتها كراهة لها يعنى خافت ان يطلقها لما ظهر لها ذلك بالأمارات أَوْ إِعْراضاً بوجهه عنها بان يقل مجالستها ومحادثتها ويمنعها عن حقوقها وهى تريد ان لا يطلقها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا أصله ان يتصالحا أبدلت التاء صادا وأدغمت كذا قرا أكثرهم وقرا الكوفيون يصلحا بضم الياء وسكون الصاد من أصلح بَيْنَهُما بان تحطّ المرأة بعض المهر او كله او النفقة او نصيبها من القسم او تهب له شيئا
__________
(1) فى الأصل وفى النقول كما فى قوله تعالى دخلت امراة إلخ وهو وهم لعله من الناسخ 2 بو محمد عفا الله عنه(2 ق 2/251)
تستميله به إليها قال البغوي يقول الزوج انك قد دخلت فى السن وانى أريد ان أتزوج امراة شابة جميلة اوثرها عليك فى القسم ليلا ونهارا فان رضيت بهذا فاقيمى وان كرهت خلّيت سبيلك فان رضيت كانت هى المحسنة ولا تجبر على ذلك وان لم ترض بدون حقها كان على الزوج ان يوفيها حقها من القسم والنفقة او يسرحها بإحسان فان أمسكها ووفاها حقها مع كراهة فهو المحسن وقال مقاتل بن حبان هو ان الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة فيقول للكبيرة أعطيك من مالى نصيبا على ان اقسم لهذه الشابة اكثر مما اقسم لك فترضى بما اصطلحا عليه فان أبت ان ترضى فعليه ان يعدل بينهما فى القسم وعن على رضى الله عنه فى هذه الاية قال تكون المرأة عند الرجل فتبنو عينه عنها من دمامة او كبر فتكره المرأة فرقته فان أعطته من مالها فهو له حل وان «1» أعطته من أيامها فهو حل له وفى كلمة بينهما اشارة الى ان الأحب ان يتصالحا من غير مدخلية ثالث لئلا يطلع غيرهما على ما بينهما ممّا يعاب صُلْحاً منصوب على المصدرية والمفعول به بينهما او هو محذوف قيل انما يتم نصبه على المصدرية لو جاء الصلح بمعنى الإصلاح والتصالح قلنا كون الصلح فردا للاصلاح يكفى فى جعله مصدرا على انه جاز ان يكون المصدر من غير بابه كما فى قوله تعالى أنبته «2» الله نباتا وعلى القراءة الثانية جاز ان ينتصب صلحا على المفعول به على ارادة ان يوقعا بينهما صلحا خاليا عن الفساد ويستفاد من هذه الاية بالدلالة انه لو خاف الرجل نشوز المرأة لا جناح عليهما فى الإصلاح ايضا ويحتمل ان يجعل هذا الحكم تحت قوله تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة او من الخصومة او من سوء المعاشرة او المعنى الصلح خير من الخيرات يعنى من جملتها كما ان الخصومة شر من جملة الشرور وهذه الجملة معترضة لدفع توهم الكراهة التي تستفاد من قوله لا جناح فانه لنفى الإثم ولان إعطاء المرأة شيئا من حقها تشابه الرشوة وهذه الاية وان كانت واردة فى المصالحة بين الزوجين لدفع الخصومة الواقعة لحقوق النكاح لكن اللفظ عام يشتمل كل صلح واقع بعد دعوى صحيح وذلك على ثلاثة اضرب صلح مع اقرار وصلح مع سكوت وصلح مع انكار وكل ذلك جائز عند الائمة الثلاثة لاطلاق هذه الاية وقال الشافعي لا يجوز الصلح مع انكار وسكوت لقوله صلى الله عليه وسلم كل صلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما او حرم حلالا والمسلمون على شروطهم الا شرطا حرم حلالا رواه الحاكم عن كثير بن عبد الله بن عوف
__________
(1) ليس فى الأصل وان أعطته من أيامها فهو حل له-
(2) وفى القران وأنبتها نباتا حسنا-(2 ق 2/252)
عن أبيه عن جده وجه الاستدلال ان البدل كان حلالا على الدافع حراما على الاخذ فينقلب الأمر ولان المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة وهذا رشوة قال الائمة الثلاثة هذا الحديث حجة لنا لا علينا لاطلاق قوله صلى الله عليه وسلم كل صلح جائز ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم الا صلحا أحل حراما بعينه كالخمر او حرم حلالا بعينه كما ان يصالح امرأته على ان لا يطأ ضرتها الا ترى ان الرجل إذا أراد ان يطلق امرأته والمرأة صالحته على ان لا يطلقها وتترك قسمها لضرتها جاز اجماعا حيث أسقطت حقها مع ان ترجيح بعض النساء فى القسم كان حراما ثم صار حلالا بعد رضائها والصلح بعد السكوت او الإنكار صلح بعد دعوى صحيح فيقتضى بجوازه لان المدعى يأخذ عوضا عن حقه فى زعمه وهذا مشروع والمدعى عليه يدفع لدفع الخصومة عن نفسه وهذا مشروع ايضا إذ المال وقاية للانفس ودفع الرشوة لدفع الظلم امر جائز غير ان من علم ان عليه حقا للمدعى ولم يقر له فعجز المدعى عن اثبات حقه فصالح على بعض حقه لا يحل للمدعى عليه ذلك عند الله تعالى اجماعا لانه هضم الحق وامّا إذا لم يعلم ذلك وادعى عليه فالصلح جائز عند الثلاثة ومنعه الشافعي- مسئلة: - فان وقع الصلح عن اقرار اعتبر فيه ما يعتبر فى البياعات ان وقع عن مال بمال فيجرى فيه الشفعة ويردّ بالعيب ويثبت فيه خيار الروية والشرط ويفسده جهالة البدل لا جهالة المصالح عنه لانه يسقط فلا يفضى الى المنازعة ويشترط القدرة على تسليم البدل وان وقع عن مال بمنافع يعتبر بالاجارة فيشترط التوقيت فيها ويبطل الصلح بموت أحدهما فى المدة، مسئلة والصلح عن السكوت والإنكار فى حق المدعى عليه لافتداء اليمين وفى حق المدعى بمعنى المعاوضة فان صالح عن دار لا يجب فيه الشفعة بخلاف ما إذا صالح على دار مسئلة ولو ادعى دارا فصالح على قطعة منها لم يصح الصلح لان ما قبضه من عين حقه وهو على دعواه فى الباقي الّا ان يزيد درهما فى بدل الصلح او يلحق به ذكر البراءة عن دعوى الباقي مسئلة: - ويصح الصلح عن جناية العمد والخطأ لانه حق من الحقوق وقد قال الله تعالى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ، وعن دعوى النكاح من الرجل فكان دفع المال من جانبها بمنزلة الخلع وعن دعوى الرق وكان بمنزلة الاعتاق على مال مسئلة: - وإذا وقع الصلح عن دين يحمل ... ...(2 ق 2/253)
على انه استوفى بعض حقه وأسقط باقيه فمن صالح عن الف جياد حال على خمسمائة زيوف مؤجل جاز لانه أسقط بعض حقه قدرا ووصفا واجّل الباقي وعن الف زيوف على خمسمائة جياد لم يجز لان الجياد غير مستحق له وهى زائد وصفا فصار معاوضة الف بخمسمائة وزيادة وصف وهو ربوا ولو صالح عن الدراهم بالدنانير يشترط قبض الدنانير قبل الافتراق لانه صرف والله اعلم واخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب ان ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها امرا امّا كبرا او غيره فاراد طلاقها فقالت لا تطلقنى واقسم لى ما بدأ لك فانزل الله تعالى وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ الاية وله شواهد موصول أخرجه الحاكم من طريق سعيد بن المسيّب عن رافع بن خديج قال البغوي نزلت فى غمرة، ويقال خويلة ابنة محمد بن مسلمة وفى زوجها اسعد بن الربيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهى شابة فلما علا الكبر تزوج عليها امراة شابة واثر عليها وجفا ابنة محمد بن مسلمة فاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت اليه فنزلت هذه الاية واخرج الحاكم عن عائشة قالت نزلت هذه الاية والصلح خير فى رجل كانت تحته امراة قد ولدت أولادا فاراد ان يستبدلها فراضته على ان تقر عنده ولا يقسم لها وقال البغوي قال سعيد بن جبير كان رجل له امراة قد كبرت وله أولاد فاراد ان يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقنى ودعنى على ولدي واقسم لى فى كل شهرين ان شئت وان شئت فلا تقسم لى، فقال ان كان تصلح على ذلك فهو احبّ الىّ فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فانزل الله تعالى وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ
واخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال جاءت المرأة حين أنزلت هذه الاية وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فقالت انى أريد ان تقسم لى من نفقتك وقد كانت رضيت ان تدعها فلا يطلقها ولا يأتيها فانزل الله تعالى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ اى جعل الشح حاضرا لها مطبوعة عليها «1» لا يغيب عنها ابدا، والشح البخل مع الحرص كذا فى الصحاح والقاموس يعنى الشح لا يذهب عن أحد غالبا فلا تكاد المرأة ان تسمح بالاعراض عنها والتقصير فى حقها ولا الرجل يسمح بان يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغى إذا كرهها او احبّ غيرها وهذه الجملة ايضا معترضة كانت الجملة الاولى للترغيب فى المصالحة وهذه الجملة لتمهيد العذر فى المماكسة ولكونهما معترضتين اغتقر عدم
__________
(1) فى الأصل عليه(2 ق 2/254)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
مجانستهما فان الاولى اسمية والثانية فعلية وَإِنْ تُحْسِنُوا فى المعاشرة اى يحسن الأزواج بأداء حقوق الزوجات والاقامة معهن بالعدل ولو مع الكراهة وتحسن الزوجات بأداء حقوق الأزواج ولو على خلاف ما تشتهى انفسهن وَتَتَّقُوا النشوز والاعراض وتنفيص الحق فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والإضرار خَبِيراً (128) فيجازيكم عليه اقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثابته إياهم عليها الذي هو جواب الشرط حقيقة اقامة السبب مقام المسبب-.
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا ايها الناس أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يعنى العدل بين النساء وعدم الميل الى واحدة منهن بوجه من الوجوه مع كونها محبوبة اليه متعذر «1» جدّا وتمام العدل ان يسوى بينهن فى القسم والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة وغيرها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهم هذه قسمى فيما املك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا املك يعنى المحبة أخرجه احمد والاربعة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث ابى هريرة ورواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي عن عائشة وَلَوْ حَرَصْتُمْ اى بالغتم فى تحرى ذلك فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ يعنى فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فى القسم والنفقة اى لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم فَتَذَرُوها اى المرغوبة عنها كَالْمُعَلَّقَةِ وهى التي ليست بمطلقة ولا ذات بعل عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من كانت له امرأتان فمال الى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل رواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من امورهن- وَتَتَّقُوا فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) يغفر لكم ما مضى من ميلكم.
وَإِنْ يَتَفَرَّقا اى الزوج والزوجة بالطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا اى كل واحد منهما عن الاخر مِنْ سَعَتِهِ من غناه وقدرته المرأة بزوج اخر والزوج بامراة اخرى وَكانَ اللَّهُ واسِعاً مقتدرا على كل شىء او واسع الفضل والرحمة او واسعا وسعة لا كيف لها كل خير ووجود ظل لوسعة خيراته ووجوده حَكِيماً (130) متقنا فى أفعاله وأحكامه
__________
(1) قال ابن مسعود يعنى فى الجماع رواه ابن المنذر وعن مجاهد وعبيدة يعنى فى الحب رواه البيهقي وغيره منه رحمه الله [.....](2 ق 2/255)
(مسئلة:) بمقتضى هذه الاية والسنة يجب على الزوج التسوية بين نسائه فى القسم فان ترك التسوية بينهن فى فعل القسم عصى الله تعالى وعليه قضاؤه للمظلومة والتسوية شرط فى البيتوتة دون الجماع لانه يدور على النشاط وليس ذلك فى وسعه ولو كانت فى نكاحه حرة وامة فللحرة الثلثان من القسم وللامة الثلث بذلك ورد الأثر قال ابن همام قضى به ابو بكر وعلى رضى الله عنهما وبالقضاء عن على احتج احمد وتضعيف ابن حزم إياه بالمنهال ابن عمر وبابن ابى ليلى ليس بشىء لانهما ثقتان حافظان وإذا تزوج جديدة على قديمات فالقديمة والجديدة فى القسم سواء عند ابى حنيفة رحمه الله لاطلاق الحديث المذكور وعند الائمة الثلاثة يبيت عند الجديدة سبع ليال على التوالي ان كانت بكرا وان كانت ثيبا فثلاث ليال ثم يسوى بعد ذلك بين الكل- ولا يجب قضاء هذه الليالى للقديمات لحديث ابى قلابة عن انس رضى الله عنه قال من السنة إذا تزوج البكر على الثيب اقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب اقام عندها ثلاثا ثم قسم قال ابو قلابة لو شئت لقلت ان أنسا رفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه وإذا أراد الرجل السفر فعند ابى حنيفة رحمه الله لا حق لهن فى القسم حالة السفر يسافر بمن شاء منهن والاولى ان يقرع بينهن فيسافر بمن خرجت قرعتها وعند الشافعي واحمد لا يجوز له الخروج بإحداهن الا برضائهن او بالقرعة وعن مالك روايتان كالمذهبين فان سافر من غير قرعة ولا تراض وجب عليه القضاء لهن عند الشافعي واحمد وعند ابى حنيفة ومالك لا يجب احتج الشافعي واحمد بحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فايتهن خرج سهمها خرج بها متفق عليه قال ابو حنيفة كان هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لتطيّب قلوبهن فكان مستحبا ولم يكن واجبا لانه لا حق للمرءة عند مسافرة الزوج الا ترى ان له ان لا يستصحب واحدة منهنّ اجماعا فكذا له ان يسافر بواحدة منهن ويرد عليه ان تركهن كلهن لا يستوجب الغيرة والإيذاء بخلاف إيثار إحداهن على سائرهن وان رضيت احدى الزوجات بترك قسمها لصاحبتها جاز لحديث عائشة ان سودة لما كبرت قالت يا رسول الله قد جعلت يومى منك لعائشة فكان ... ...(2 ق 2/256)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة متفق عليه ولها ان ترجع فى ذلك لانها أسقطت حقا لم يجب بعد فلا يسقط قال البغوي قال سليمان بن يسار عن ابن عباس فى قوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما انه قال فان صالحته عن بعض حقّها من القسم، او النفقة فذلك جائز ما رضيت وان أنكرت بعد الصلح فذلك لها ولها حقها (مسئلة) ولا يجوز ترك القسم لاجل المرض الا برضائهن لحديث عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسئل فى مرضه الذي مات فيه اين انا غدا يريد يوم عائشة فاذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان فى بيت عائشة حتى مات عندها رواه البخاري-.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا تنبيه على كمال وسعته وقدرته وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم والكتاب للجنس مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بوصينا او باوتوا وَإِيَّاكُمْ عطف على الذين أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ان مفسرة لوصينا فانه بمعنى القول وجاز ان يكون مصدرية بحذف حرف الجرّ والمراد بالتقوى التقوى عن الشرك بدليل قوله تعالى وَإِنْ تَكْفُرُوا وجاز ان يكون التقوى عبارة عن ترك المعاصي وبالكفر الكفران بترك طاعته وعدم امتثال أوامره او التقوى عبارة عن وقاية قلبه عن الاشتغال بغير الله والكفر الاشتغال بغيره وقوله وان تكفروا عطف على وصينا بتقدير القول يعنى وقلنا لهم ولكم ان تكفروا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فهو قادر على عقوبتكم بما يشاء لا منجى عن عقوبته لكم او يقال فان لله ملائكة السّموات والأرض وهم أطوع له منكم او يقال معناه انه تعالى غنى عنكم لا ينتفع بعبادتكم ولا يتضرر بكفركم والنفع والضرر انما يعود إليكم بما يأمركم وينهاكم تفضلا عليكم وعلى هذا فقوله تعالى وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا يعنى عن الخلق وطاعتهم كانه بيان وتأكيد لما سبق حَمِيداً (131) فى ذاته حمده الخلق اولم يحمد.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كرره ثالثا للدلالة على كونه مستأهلا لان يتوكل عليه فهو تمهيد لقوله تعالى وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) جاز ان يكون هذا راجعا الى قوله يغنى الله كلّا من سعته فان ذلك القول يدل على انه تعالى توكل بكفايتهما وكفى به وكيلا.(2 ق 2/257)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
إِنْ يَشَأْ اذهابكم يُذْهِبْكُمْ اى يفنيكم يا أَيُّهَا النَّاسُ فان مجرد مشيته تعالى كافية فى اعدامكم وَيَأْتِ بِآخَرِينَ اى يوجد قوما آخرين أطوع منكم مكانكم او خلقا اخر مكان الانس وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ الاعدام والإيجاد قَدِيراً (133) كامل القدرة لا يعجزه شىء هذه الاية ايضا تقرير لغنائه وقدرته وتهديد لمن كفر به وخالف امره، اخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن ابى حاتم من حديث ابى هريرة انه لما نزلت هذه الاية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ظهر سلمان وقال انهم قوم هذا فهذه الاية حينئذ بمعنى قوله تعالى إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ الاية وفى الصحيحين عن ابى هريرة قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فلما نزلت وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قيل من هؤلاء يا رسول الله وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال لو كان الايمان عند الثريا لنا له رجال من هؤلاء وعنه عند الترمذي انه صلى الله عليه وسلم تلا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا من هؤلاء يا رسول الله فضرب على فخذ سلمان ثم قال هذا وقومه ولو كان الدين «1» عند الثريا لتناوله رجال من الفرس وعنه عند الترمذي قال ذكرت الأعاجم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لانابهم او ببعضهم أوثق منى بكم او ببعضكم قلت لعل فى هذه الأحاديث اشارة الى مشائخ ما وراء النهر بهاء الدين النقشبندي وأمثاله فان هؤلاء الكرام من الأعاجم توطنا وان كان أكثرهم من ال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نسبا قد أحيوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أميتت وما رضوا بالبدعة وان كانت حسنة ولنعم ما قال الجامى شعر سكة كه در يثرب وبطحا زدند نوبت آخر ببخارا زدند- وايضا الى علماء ماوراء النهر مثل ابى عبد الله البخاري وأمثاله من المحدثين والفقهاء والله اعلم.
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمرائى بالأعمال والمجاهد لاجل الملك او الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تقديره فقد خسروا خطأ فى الطلب إذ عند الله ثواب الدارين فليطلبهما وليقل رَبَّنا
__________
(1) قال الشيخ محمد بن يوسف الصالحي انه قال الشيخ يعنى جلال الدين السيوطي رحمه الله ان المراد بهذا الحديث ابو حنيفة وأصحابه رحمهم الله لا شك فيه لانه لم يبلغ من أبناء فارس فى العلم مبلغه ولا مبلغ أصحابه وانه كان جد الامام ابى حنيفة منهم منه رحمه الله-(2 ق 2/258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً او ليطلب الأشرف منهما فان من جاهد خالصا لله لم يخطئه الغنيمة وله فى الاخرة ما هى فى جنبه كالعدم وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) عارفا بالأغراض فيجازى كلا على حسب نيته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امراة ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه والله اعلم اخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال اختصم الى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان غنى وفقير فكان ضلعه مع الفقير يرى ان الفقير لا يظلم الغنى فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ بالغين فى بذل الجهد فى اقامة العدل مواظبين على القيام به فالواجب على القاضي التسوية بين الخصمين فى الجلوس والإقبال عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتلى أحدكم بالقضاء فليساو بينهم فى المجلس والاشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين اكثر من الاخر رواه إسحاق ابن راهويه فى مسنده والدارقطني نحوه شُهَداءَ خبر بعد خبر او حال لِلَّهِ تقيمون شهاداتكم خالصا لوجه الله وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ اى ولو كانت الشهادة على نفسه وهو الإقرار على نفسه أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يعنى ولو كانت الشهادة على والديكم وأقربيكم فلا تكتموها وقولوا الحق ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره كذا اخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تمتنعوا عن الشهادة ولا تجوروا فيها ميلا او ترحما فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما منكم فلو لم يكن الشهادة عليهما او لهما صلاحا لما شرعت أقيمت علة الجواب مقامه وكان حقه اولى به لان المذكور أحد الامرين من الغنى والفقير بكلمة او لكن ثنى الضمير نظرا الى ان المرجع ما دل عليه المذكور وهو جنس الغنى والفقير والوجه للعدول عن الظاهر تعميم الاولوية ودفع توهم الاختصاص بأحدهما كذا ذكر التفتازانيّ ويرد عليه ان الواحد غير متعين فلا توهم قال الرضى الضمير الراجع الى المذكور الذي عطف بعضه على بعض يجوز فيه ان يوحد الضمير وان يطابق المتعدد وذلك يدور على القصد قلت جاز ان يكون مرجع الضمير المشهود له والمشهود عليه الذين دل عليهما الكلام ... ...(2 ق 2/259)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
يعنى مشروعية الشهادة مصلحة لكليهما للمشهود له مصلحة عاجلة وللمشهور عليه مصلحة اجلة كى تفرغ ذمته عن حقوق الناس وجاز ان يكون معنى الاية كونوا شهداء لله تشهدون بوحدانيته وصفات كماله وحقيّة كتبه ورسله وأحكامه ولو كانت الشهادة مضرة على أنفسكم او والديكم وأقاربكم بان تقتلوا ويسلب أموالكم ان يكن الشاهد غنيا يضر تلك الشهادة غناه او فقيرا يسدّ شهادته دفع حاجته فالله اولى بهما من أنفسهما فينبغى ان يرجحا الله على أنفسهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا اى لان تعدلوا عن الحق او كراهة ان تعدلوا عن العدل او المعنى لا تتبعوا الهوى لتكونوا عادلين وَإِنْ تَلْوُوا قرا ابن عامر وحمزة وان تلوا بضم اللام واسكان الواو يعنى تلوا القيام بأداء الشهادة من الولاية وقيل أصله تلووا كما قرا الجمهور حذفت أحد الواوين تخفيفا وألقيت حركتها على اللام يعنى ان تحرفوا الشهادة وتلووا السنتكم عن شهادة الحق وقيل معناه تدافعوا فى أداء الشهادة الى غيركم، وقيل هذا خطاب مع الحكام من لهم الأشداق اى ان تميلوا الى أحد الخصمين أَوْ تُعْرِضُوا عن شهادة الحق وحكومة العدل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) فيجازيكم عليه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ حقيقة الايمان وكمال الايمان ان يعرف ببصيرته انه تعالى هو المتأصل فى الوجود خالقا لكل شىء من الاعراض والجواهر نافعا ضارا وليس شىء ممّا سواه موصوفا بحسن وكمال الا مستعارا منه تعالى فلا يبقى لقلبه علاقة علمى ولا حبى الا به تعالى ويكون نفسه بعلاقة الحبّ به تعالى مجبولا على إتيان ما امره الله وانتهاء ما نهى عنه حتى يكره صدور المعصية منه أشدّ ممّا يكره ان يقع فى النار قال البغوي قال ابو العالية وجماعة هذا خطاب للمؤمنين فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا اى اقيموا واثبتوا على الايمان ومرجع هذا التفسير الى ما قلت ان شاء الله تعالى وقال الضحاك أراد بالخطاب اليهود والنصارى يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بموسى وعيسى آمَنُوا بمحمد والقران وقال مجاهد أراد به المنافقين يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان آمَنُوا بالقلب وقيل المراد به اهل الشرك يعنى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللات والعزى آمَنُوا بالله ورسوله وهذه الأقوال واهية إذ الكفار اليهود والنصارى والمشركون لا يخاطبون بعنوان الذين أمنوا وكذا المنافقون فان الايمان ... ...(2 ق 2/260)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
ليس من صفات اللسان الا مجازا والحمل على الحقيقة ما أمكن اولى- وقال البغوي قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس وكذا اخرج الثعلبي عنه انه قال نزلت هذه الاية فى عبد الله بن سلام واسد وأسيدا بنى كعب وثعلبة بن قيس وسلام بن اخت عبد الله بن سلام وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنوا اهل الكتاب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا انا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتورية وعزير ونكفر بمن سواه من الكتب والرسل فقال الله تعالى أمنوا بالله ورسوله يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعنى القران وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ اى قبل القران من التورية والإنجيل والزبور وسائر الكتب والصحف قال ابن عباس فامنوا بكلّهم قرا الكوفيون ونافع الفعلين بفتح النون والهمزة والزاء على البناء للفاعل والباقون الفعلين بضم النون والهمزة وكسر الزاء على البناء للمفعول وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى بشىء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (136) من المقصد بحيث لا يكاد يعود الى طريقة الصواب فان الايمان بكل واحد منها ملازم للاخر فالكفر بواحد منها بعد من الله وضل «1» عن سواء السبيل وبالكفر بجميع ذلك بالطريق الاولى- قلت بل بالكفر بشىء من صفاته كما ان المعتزلة كفروا بكونه تعالى متكلما او خالقا لافعال العباد وبقولهم انه تعالى يريد شيئا ولا يوجد ذلك الشيء يلزم عجزه تعالى عن إتيان مراده فيلزمهم الكفر بالله تعالى بما هو عليه قال بعض الأكابر المعتزلة يقولون بان العباد خالقون لافعالهم والله تعالى خالق للعباد فينسبون خلق افعال العباد الى الله تعالى بالواسطة وامّا العوام فهم أسوأ حالا من المعتزلة لغفلتهم عن نسبة الافعال الى الله تعالى مطلقا لا يزعمون النفع والضرر الا عن السلاطين او اللصوص او السموم او الترياقات فلا بد لقطع مادة الغفلة من التشبث «2» بأذيال الصوفية حتى يسقط عن البصائر كل ما عدا الله تعالى.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال قتادة هم اليهود أمنوا بموسى ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ثم أمنوا بالتورية ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله تعالى وسلم عليه وعلى جميع الأنبياء وقيل هم جميع اهل الكتاب
__________
(1) فى الأصل وضل سواء السبيل-
(2) فى الأصل التشبث(2 ق 2/261)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
أمنوا بنبيهم ثم كفروا به وأمنوا بالكتاب الذي نزل عليه ثم كفروا به وكفرهم تركهم العمل عليه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل هذا فى قوم مرتدين أمنوا ثم ارتدوا ثم أمنوا ثم ارتدوا ثم أمنوا ثم ارتدوا- حكى عن على رضى الله عنه انه لا يقبل توبة مثل هذا لقوله تعالى لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لكن الإجماع انعقد على قبول توبته قال مجاهد معنى قوله تعالى ثم ازدادوا كفرا اى ماتوا عليه وقيل معنى قوله تعالى لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) انه يستبعد منهم ان يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الايمان فانه ران على قلوبهم بكفرهم وعميت أبصارهم عن الحق واللام فى ليغفر لهم وليهديهم للجحود اى لتأكيد النفي والفعل بتأويل المصدر بان المصدرية المقدرة بمعنى الفاعل يعنى لم يكن الله غافرا لهم ولا هاديهم سبيلا وقيل خبر كان محذوف تعلق به اللام يعنى لم يكن الله مريدا ليغفر لهم والله اعلم- ويؤيد قول من قال الاية السابقة فى المرتدين تعقيب تلك الاية بقوله تعالى.
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ الذين يؤمنون فى الظاهر كلما لقوك او لقوا أحدا من المخلصين وكفروا فى السرّ كلّما خلوا الى شياطينهم ثم ازدادوا كفرا بالإصرار على النفاق والعزم على الإفساد ووضع بشّر مكان انذرتهكما بهم كذا قال الزجاج وقيل البشارة كل خبر يتغير بشرة الوجه سارا كان او غير سار بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) .
الَّذِينَ منصوب او مرفوع على الذم بمعنى أريد الذين أو هم الذين او بدل او نعت للمنافقين يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ يعنى اليهود أَوْلِياءَ أنصارا و؟؟؟ لما يتوهمون فيهم القوة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ يطلبون عِنْدَهُمُ عند الكفار الْعِزَّةَ القوة والغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم بمعونتهم وموالاتهم والاستفهام للانكار او التهكم او التعجب ووجه الإنكار وأخويه قوله تعالى فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) لا يتعزز الّا من أعزه الله وقد كتب العزة لاوليائه فقال وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ-.
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ اى فى القران- قرا عاصم بفتح النون والزاء على البناء للفاعل يعنى قد نزل الله عليكم والباقون بضم النون وكسر الزاء على البناء للمفعول والقائم مقام الفاعل أَنْ مخفة من المثقلة يعنى انه إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ ... ...(2 ق 2/262)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها
حالان من الآيات جىء بهما لتقييد النهى عن المجالسة فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ اى مع الذين يكفرون ويستهزءون حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ اى غير الاستهزاء فحينئذ لا بأس بمجالستهم لضرورة دعت ومن غير ضرورة يكره مجالستهم مطلقا وقال الحسن لا يجوز مجالستهم وان خاضوا فى حديث غيره وفى هذه الاية اشارة الى ما نزل سابقا بمكة فى سورة الانعام وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ- قال الضحاك عن ابن عباس دخل فى هذه الاية كل محدث فى الدين وكل متبدع الى يوم القيامة إِنَّكُمْ ايها المؤمنون إِذا يعنى إذا قعدتم عند من يكفرون ويستهزءون بالآيات ورضيتم به كفار مِثْلُهُمْ غير ان الرضاء بالكفر من غير تفوه نفاق أفرد كلمة مثل لانه كالمصدر او للاستغناء بالاضافة الى الجمع إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ القاعدين عند الكفار الراضين بالكفر والاستهزاء وَالْكافِرِينَ المستهزئين الخائضين فى القران فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) كما اجتمعوا فى الدنيا على الكفر والمجالسة.
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ الدوائر والأحداث بدل من الذين يتخذون او ذم منصوب او مرفوع او مبتدا خبره فَإِنْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ يعنى ظفرا «1» وغنيمة قالُوا لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دينكم وفى الجهاد فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ من الحرب وظهور على المسلمين قالُوا للكافرين أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الاستحواذ الاستيلاء يعنى الم نغلبكم مع المؤمنين قبل ذلك فابقيناكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اى ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم اخبارهم وأمورهم وقال المبرد معناه الم نغلبكم على رأيكم ونمنعكم من المؤمنين اى عن الدخول فى جملتهم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبين المنافقين يَوْمَ الْقِيامَةِ فيدخل المؤمنين الجنة والمنافقين النار، روى الشيخان فى الصحيحين والحاكم فى حديث طويل عن ابى سعيد الخدري إذا كان يوم القيامة ينادى مناد ليذهب كل قوم الى ما كانوا يعبدون الحديث فيقول الله تعالى ايها الناس لحقت كل امة بما يعبد وبقيتم فيقولون نحن ننتظر ربنا فيكشف عن ساق فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد له رياء وسمعة فيذهب
__________
(1) فى الأصل ظفر وغنيمة(2 ق 2/263)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
كما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا- زاد الحاكم كلما أراد ان يسجد خرّ على قفاه الحديث بطوله وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) قال علىّ فى الاخرة رواه ابن جرير وكذا روى عن ابن عباس وهو الظاهر وقال عكرمة عن ابن عباس اى حجة كذا روى ابن جرير وعبد بن حميد عن السدى وقيل ظهورا على اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وامّا ظهور الكافرين على المؤمنين فى هذا الزمان فلضعف ايمانهم وكثرة عصيانهم وقيل يعنى سبيلا الى استيصالهم احتج الشافعي بهذه الاية على فساد اشتراء الكافر العبد المسلم، وقال ابو حنيفة الشراء صحيح لصدور العقد من اهله مضافا الى محله لكن يجبر الكافر ان يبيع العبد بحكم هذه الاية نظرا للجانبين واحتج ابو حنيفة بهذه الاية على حصول البينونة بنفس الارتداد إذا كانت تحته مسلمة والله اعلم-.
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
سبق الكلام فيه فى اوّل سورة البقرة وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ
مع المؤمنين قامُوا كُسالى
متثاقلين كالمكره كراهة على الفعل لا يرجون بها ثوابا ولا يخافون على تركها عذابا بل يُراؤُنَ النَّاسَ
صلاتهم ليخالوهم مؤمنين وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
(142) يعنى ذكرا قليلا او فى زمان قليل والمراد بالذكر الصلاة ووجه التقليل ان المرائى لا يفعل الا بحضرة من يراه «1» وهو اقل أحواله وجملة يراءون حال من فاعل قاموا كقوله كسالى ولا يذكرون الله معطوف على يراءون او حال من فاعل يراءون.
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل لا يذكرون او من فاعل يراءون اى يراءونهم غير ذاكرين او منهما على سبيل التنازع او منصوب على الذم والمعنى مترددين بين الايمان والكفر مشتق من الذبذبة بمعنى جعل الشيء مضطربا واصله الذب بمعنى الطرد والدفع والمذبذب الذي يدفع من كلا الجانبين فلا يتقرر فى جانب واحد لا مستقرين مطمئنين إِلى هؤُلاءِ المؤمنين ظاهرا وباطنا حتى يؤفى معهم أجورهم فى الاخرة وَلا إِلى هؤُلاءِ الكفار بالكلية حتى يعامل بهم فى الدنيا ما يعامل بالكافرين وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ إياه عن طريق الحق فَلَنْ تَجِدَ ايها المخاطب لَهُ سَبِيلًا (143)
__________
(1) اخرج ابو يعلى عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن الصلاة حين يراه الناس وأساءها حيث لم يرها فتلك استهانة استهان بها ربّه منه رحمه الله-(2 ق 2/264)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
الى الحق والصواب نظيره قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ- عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير الى هذه مرة والى هذه اخرى رواه مسلم،.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فان موالاتهم أهلك المنافقين وصيرهم الى النفاق فاحذروهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بموالاتهم لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (143) حجة «1» بنية فى تعذيبكم.
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ قرا اهل الكوفة الدّرك بسكون الراء والباقون بفتحها وهما لغتان- قال السيوطي الدركات الطبقات والمنازل ويختص بما يستافل ويقال فيما علا درجات الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ اخرج ابن المبارك عن ابن مسعود فى هذه الاية قال توابيت من حديد تضمت عليهم أسفل النار وذكر البغوي بلفظ فى توابيت من حديد مقفلة فى النار وقال البغوي قال ابو هريرة توابيت يقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم واخرج ابن وهب عن كعب الاخبار قال ان فى النار لبيرا لما فتحت ابوابها بعد مغلقها ما جاء على جهنم يوم منذ خلقها الله تعالى الّا يستعيذ بالله من حرّها وهى الدرك الأسفل من النار وانما استحق المنافقون الدرك الأسفل من النار لانهم أخبث الكفرة حيث ضمّوا الى الكفر الاستهزاء بالله والرسول والإسلام والخداع للمسلمين ولانهم أمنوا من السيف والجزية فى الدنيا فاستحقوا الدرك الأسفل تعديلا وَلَنْ تَجِدَ ايها المخاطب لَهُمْ نَصِيراً (145) يخرجهم من النار ويمنعهم من عذاب الله.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق وأمنوا وَأَصْلَحُوا أعمالهم وَاعْتَصَمُوا وثقوا بِاللَّهِ وتمسّكوا بدينه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ من الرياء- لا يريدون بالايمان والأعمال الا وجه الله تعالى خالصا، اخرج ابن عساكر عن ابى إدريس قال ما يبلغ عند حقيقة الإخلاص حتى لا يجب ان يحمده أحد على شىء من عمل عمل لله عزّ وجلّ وروى ابن ابى شيبة واحمد عن ابى ثمامة قال قال الحواريون لعيسى عليه السلام يا روح الله من المخلص لله قال الذي يعمل لله لا يحب ان يحمده الناس عليه واخرج الحكيم الترمذي فى نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال لا اله الا الله
__________
(1) روى ابن ابى حاتم وابن مردوية وغيرهما عن ابن عباس قال كل سلطان فى القران فهو حجة منه رحمه الله(2 ق 2/265)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
مخلصا دخل الجنة قيل يا رسول الله ما إخلاصها قال ان تحجزه عن المحارم واخرج الحاكم وصححه والبيهقي فى الشعب عن معاذ بن جبل انه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الى اليمن أوصني قال أخلص دينك يكفيك القليل من العمل واخرج ابن ابى الدنيا فى الإخلاص والبيهقي فى الشعب عن ثوبان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى ينجلى عنهم كل فتنة ظلماء فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الذين سبقوهم بالايمان والإخلاص فى الجنة قال الفراء اى من المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ حذفت الياء فى الخط تبعا للفظ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين فى الاخرة أَجْراً عَظِيماً (146) الجنة ورضوان الله ومراتب القرب.
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ نعمة الله وَآمَنْتُمْ به استفهام للانكار والتقرير معناه انه تعالى لا يعذب المؤمن الشاكر لان تعذيبه عباده لا يزيد فى ملكه وتركه عقابهم لا ينقص من سلطانه وليس تعذيبه تعالى لاستجلاب نفع او دفع ضرر عنه وهو الغنى المتعالي عن النفع والضرر وانما يعذب العباد جريا على عادته فى ترتيب المسبب العادي على السبب العادي كسوء مزاج يؤدى الى المرض فاذا زال مرضه القلبي من الكفر والنفاق فى الدنيا بالايمان والشكر ونقّى نفسه عنه يخلص من تبعته قال البغوي فى الاية تقديم وتأخير تقديره ان أمنتم وشكرتم قلت لا حاجة الى هذا القول فان الواو للجمع المطلق دون الترتيب وقيل انما قدم الشكر لان الناظر يدرك النعمة اوّلا فيشكر شكرا مبهما ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به قلت لعل المراد بالشكر ضد الكفر اعنى الايمان المجازى العامي وبالايمان الايمان الحقيقي وَكانَ اللَّهُ شاكِراً مثيبا على الشكر يقبل اليسير ويعطى الجزيل عَلِيماً (147) بحقيقة ايمانكم.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ يعنى يبغض الجهر بالسوء وغير الجهر ايضا لكن الجهر افحش وانما حصّ الجهر بالذكر لمطابقة الحادثة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ «1» الّا جهر من
__________
(1) اخرج ابن جرير عن ابن زيد قال كان ابى يقرا لا يحبّ الله الجهر بالسّوء الّا من ظلم قال ابن زيد يقول من حلم على جملك النوق فجهر له بالسوء حتى ينزع واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عبّاس قال لا يحبّ الله ان يدعو أحد على أحد الّا ان يكون مظلوما فانه رخص له ان يدعو على من ظلمه وان يصبر فهو خير له واخرج ابن ابى شيبة والترمذي عن عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دعا على من ظلمه فقد انتصف واخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسين قال الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل اللهم اعنى عليه اللهم استخرج لى حقى وحل بينه وبين ما يريد ونحو هذا منه رحمه(2 ق 2/266)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه وقيل الجهر بالسوء من القول هو الشتم الّا من ظلم فانه ان ردّ عليه مثله فلا حرج عليه لقوله تعالى وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ الاية عن انس وابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم رواه مسلم وقال البغوي قال مجاهد هدا فى الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله ان يشكو ويذكر ما صنع به اخرج هناد فى كتاب الزهد عن مجاهد ان رجلا أضاف بالمدينة فاساءه قراه فتحول عنه فجعل ثينى عليه بما أولاه فرخص له ان يثنى عليه بما أولاه ونزلت هذه الاية وكذا اخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه ان رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوقب عليه فنزلت هذه الاية وعن عقبة بن عامر انه قال قلنا يا رسول الله انك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نزلتم بقوم فامروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا فان لم يأمروا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم متفق عليه وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لشكوى المظلوم ودعائه عَلِيماً (148) بما فعل الظالم.
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً يعنى طاعة وبرّا وقيل معناه تبدوا خيرا بالظالم مكان الجهر بالسوء فتمحوا السيئة بالحسنة أَوْ تُخْفُوهُ اى تفعلوا ذلك الخير سرا وقيل المراد بالخير المال يعنى ان تبدوا صدقة او تخفوها أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ يعنى عن مظلمة وتمحوه عن قلوبكم وان لم تفعلوا بالظالم خيرا قال البيضاوي وغيره والعفو عن المظلوم هو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفاءه توطية وتمهيدا بدليل قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) اى يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فانتم اولى بذلك لانه تجارة فى حقكم فهذه الاية حث المظلوم على العفو بعد ما رخص له فى الانتصار حملا على مكارم الأخلاق- عن ابن عمر انه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم كم اعفوا عن الخادم قال كل يوم سبعين مرة رواه ابو داود والترمذي وابو يعلى والله اعلم.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قال البغوي نزلت فى اليهود فانهم لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران وبعيسى والإنجيل فكانهم كفروا بجميع الأنبياء لان بعضهم مصدق لبعض وكفروا بالله حيث جحدوا باياته وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ... ...(2 ق 2/267)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
وَرُسُلِهِ
بان يؤمنوا بالله دون الرسل كاهل الشرك وكاليهود حيث أمنوا بالله وبموسى على زعمهم وكفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وعليهم وغيرهما من الرسل والقران والإنجيل وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الأنبياء وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ منهم وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ اى بين الايمان والكفر سَبِيلًا (150) دينا وطريقا.
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ الكاملون فى الكفر إذ لا واسطة بين الايمان والكفر فان الايمان بالله انما يتم بالايمان برسله أجمعين وتصديقهم فيما بلغوا عنه اجمالا وتفصيلا والحق واحد مشترك بين أديان الأنبياء كلهم فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ حَقًّا مصدر مؤكد بغيره اى حق ذلك الأمر حقا او صفة لمصدر الكافرين بمعنى هم الذين كفروا كفرا حقّا اى يقينا محققا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أجمعين ومنهم اليهود عَذاباً مُهِيناً (151) .
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ كلهم أجمعين وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ الموصول مبتدا والظاهر ان خبره أولئك سنؤتيهم أجورهم «1» وقيل خبره محذوف تقديره أولئك هم المؤمنون حقا او تقديره أضدادهم ومقابلوهم ووجه هذا القول ان يكون هذه الاية على وتيرة ما سبق وانما دخل بين على أحد مع اقتضائه المتعدد لعمومه من حيث انه وقع فى سياق النفي أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ قرا حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم أُجُورَهُمْ الموعود لهم وتصديرهم بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على انه كائن لا محالة وان تأخر وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم رَحِيماً (152) عليهم يضاعف حسناتهم اخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظي قال جاء ناس من اليهود الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ان موسى جاءنا بالالواح من عند الله فأتنا بالالواح حتى نصدّقك، وسمى البغوي ذلك اليهود كعب بن الأشرف وفخاص بن عازورا فقالا ذلك فانزل الله تعالى.
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ وكان هذا السؤال منهم سوال تحكم واقتراح لا سوال الانقياد والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد اخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي انه لما نزل قوله تعالى يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ الى قوله بُهْتاناً عَظِيماً جثا رجل من اليهود فقال ما انزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى
__________
(1) والصحيح سوف يؤتيهم ابو محمد عفا الله عنه(2 ق 2/268)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
ولا على أحد شيئا فانزل الله تعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فَقَدْ سَأَلُوا الضمير عائد الى اهل الكتاب أضاف الحكم إليهم باعتبار ان السؤال صدر عن بعضهم وهم السبعون الذين خرج بهم موسى عليه السلام الى الجبل والفاء للسببية والتقدير لا تستكبر منهم هذا السؤال لانهم قد سالوا الاية وقيل الفاء جواب شرط مقدر اى ان استكبرت ما سال هؤلاء عنك فقد سال أسلافهم مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعنى ما اقترحوا عليك ليس باول جهالاتهم فَقالُوا تفسير للسوال أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً اى اراءة جهرة او رؤية جهرة على انه مصدر من غير لفظه يعنى عيانا او مجاهرين يعنى معاينين له وقال ابو عبيدة معناه قالوا جهرة أرنا الله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ اى أهلكتهم نار جاءت من السماء بِظُلْمِهِمْ بسبب ظلمهم على أنفسهم وهو تعنتهم وسوالهم بما كان خلاف العادة والحكمة وذلك لا يقتضى امتناع الرؤية مطلقا ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ الها هذه جناية اخرى ارتكبها اوائلهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعنى المعجزات الواضحات فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم هذا استدعاء الى التوبة يعنى عفونا عن اوائلكم حين تابوا فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) اى تسلّطا ظاهرا حتى أمرهم بان يقتلوا أنفسهم او حجة ظاهرة وهى الآيات التسع على من خالفه.
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ اى بسبب ميثاقهم حتى يقبلوه وَقُلْنا لَهُمُ على لسان موسى والطور مظل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ يعنى باب ايليا سُجَّداً مطاطئين رءوسكم وَقُلْنا لَهُمُ على لسان داؤد، ويحتمل ان يكون هذا القول ايضا على لسان موسى حين ظلل عليهم الجبل فانه شرع السبت لكن الاعتداء والمسخ كان فى زمن داؤد عليه السلام لا تَعْدُوا قرا ورش بفتح العين وتشديد الدال وقالون بإخفاء حركة العين وتشديد الدال أصله تعتدوا أدغمت التاء فى الدال والنص عن قالون بالإسكان والباقون بإسكان العين وتخفيف الدال يعنى لا تظلموا أنفسكم بقتل الحيتان فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) على قبول حكم التورية وعدم الاعتداء فى السبت حتى قالوا سمعنا واطعنا.
فَبِما نَقْضِهِمْ ما زائدة لتأكيد مضمون الكلام والباء متعلق بمحذوف تقديره ... ...(2 ق 2/269)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
فخالفوا حكم التورية ونقضوا الميثاق ففعلنابهم ما فعلنا ولعناهم بسبب نقضهم ويجوز ان يكون متعلقا بحرّمنا عليهم طيّبت احلّت لهم وقوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا بدل من قوله فَبِما نَقْضِهِمْ لكن يلزم حينئذ تكرار الفاء وجاز ان يكون الفاء للعطف فحينئذ لم يحتج الى جعله بدلا، ويمكن ان يقال قوله فبما نقضهم ظرف مستقر خبر للمبتدا المحذوف والباء بمعنى فى تقديره فهم فى نقضهم مِيثاقَهُمْ الذي واثقوا بموسى عليه السلام وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ الواردة فى التورية فى نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبالقران والإنجيل وغيرهما وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ للنبى صلى الله عليه وسلم قُلُوبُنا غُلْفٌ اوعية للعلوم او فى اكنة مما تدعونا اليه وليس الأمر كذلك بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها اى ختم على قلوبهم بِكُفْرِهِمْ فجعلها محجوبة عن العلم او خذلها ومنعها التوفيق للتدبر فى الآيات فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) اى ايمانا قليلا لا يعتد به وهو الايمان ببعض الكتب وبعض الرسل او الا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وقيل معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا وَبِكُفْرِهِمْ ثانيا بعيسى وهو معطوف على بكفرهم وكرر الباء للفصل بينه وبين ما عطف عليه والكفر المطلق من اسباب الطبع كالكفر بعيسى وليس هذا من قبيل عطف الشيء على نفسه للعموم والخصوص او يقال عطف مجموع الكفر وما عطف عليه على الكفر كما يقال قال الامام وسائر الناس او هو معطوف على قوله فَبِما نَقْضِهِمْ ويكون تكرير ذكر الكفر إيذانا لتكرر كفرهم، فانهم كفروا بموسى ثم بعيسى وداود وسليمان ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، او يقال مجموع هذا مع ما عطف عليه معطوف على مجموع قبله فلا تكرار.
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) يعنى نسبتها الى الزنى.
وَقَوْلِهِمْ مفتخرين إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ اى بزعمه ويحتمل انهم قالوا ذلك استهزاء- وجاز ان يكون رسول الله منصوبا على المدح استينافا من الله تعالى او وضع الله سبحانه الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح حتى يستحق القائلون الذم وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ روى ان رهطا من اليهود سبوه وامه فدعا عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فاخبره الله بانه يرفعه الى السماء كما مر القصة فى ال عمران ووقع فى بعض الروايات انه ... ...(2 ق 2/270)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
قال عيسى لاصحابه أيكم يرضى ان يلقى عليه شبهى فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقام رجل منهم فالقى الله عليه شبهه فقتل وصلب كذا اخرج النسائي عن ابن عباس- وفى رواية ذكره البغوي ان الله تعالى القى شبه عيسى عليه السلام على الذي دل اليهود عليه وذكرنا فى سورة ال عمران من رواية الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس انه امر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطانوس ان يدخل بيتا كان عيسى فيه ليقتله فرفعه الله الى السماء والقى الله شبهه على طيطانوس فلما خرج ظنوا انه عيسى فاخذ وصلب وقيل انهم حبسوا عيسى عليه السلام فى بيت وجعلوا عليه رقيبا فالقى الله شبهه على الرقيب فقتلوه والله اعلم، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ اى فى قتله لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى تردد من قتله قال الكلبي اختلافهم فيه هو ان اليهود قالت نحن قتلناه وقالت طائفة من النصارى نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله الى السماء ونحن ننظر اليه وقيل كان الله القى شبه عيسى عليه السلام على وجه طيطانوس ولم يلقه على جسده فاختلفوا فيه فقال بعضهم قتلنا عيسى فان الوجه وجه عيسى وقال بعضهم لم نقتله لان جسده ليس بجسد عيسى وقال السدى اختلافهم من حيث انهم قالوا ان كان هذا عيسى فاين صاحبنا وان كان صاحبنا فاين عيسى وقيل الضمير فى قوله الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ راجع الى عيسى اختلفوا فى شأن عيسى فقال بعضهم انه كان كاذبا فقتلناه حقّا وتردد آخرون وقال من سمع منه ان الله يرفعنى الى السماء انه رفع الى السماء ما لَهُمْ بِهِ اى بقتله مِنْ عِلْمٍ انه قتل او لم يقتل إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع اى ولكنهم يتبعون الظن فى قولهم انا قتلنا وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) يعنى ما قتلوا عيسى متيقن هذا الأمر يقينا وقيل معناه ما قتلوا عيسى قتلا يقينا عندهم كما زعموه انا قتلنا المسيح او ما قتلوه متيقنين انه عيسى كذا قال الفراء.
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ رد وانكار لقتله واثبات لرفعه وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً منيعا بالنقمة على اليهود ولا يغلبه أحد على ما يريده حَكِيماً (158) حكم باللعنة والغضب على اليهود فسلط عليهم صطيونس بن استسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة او حكيما فيما دبر بعيسى عليه السلام-.(2 ق 2/271)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أحد إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ يعنى الا من ليؤمنن جملة خبرية مؤكدة لجمله انشائية قسمية صفة لمستثنى مفرغ مقدر بِهِ اى بعيسى عليه السلام كذا قال اكثر المفسرين وعامة اهل العلم وروى عن عكرمة ان الهاء كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هى راجعة الى الله عز وجل والمال واحد فان الايمان بالله لا يعتد ما لم يؤمن بجميع رسله والايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم يستلزم الايمان بعيسى عليه السلام وبالعكس، قَبْلَ مَوْتِهِ اى قبل موت ذلك الأحد من اهل الكتاب عند معانية ملائكة العذاب عند الموت حين لا ينفعه إيمانه- هذا رواية على بن طلحة عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال فقيل لابن عباس ارايت ان خرمن فوق بيت قال يتكلم به فى الهواء فقيل ارايت ان ضرب عنقه قال تلجلج لسانه والحاصل انه لا يموت كتابىّ حتى يؤمن بالله عز وجل وحده لا شريك له وان محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله وان عيسى عبد الله ورسوله قيل يؤمن الكتابي فى حين من الأحيان ولو عند معاينة العذاب قلت لعل ذلك لان الكتابي يعرف نبوة موسى والتورية وكلاهما ناطق بحقية عيسى والإنجيل وداود وزبور ومحمد صلى الله عليه وسلم والقران وانما يكفر عنادا وتعصّبا فقد ينصف فيعتقد فى نفسه ان محمدا صلى الله عليه وسلم حق شهد به موسى والتورية من قبل ولو لم يخطر ذلك الخطرة فى باله فلا شك انه حين يرى ملائكة العذاب يزعم حينئذ ان ما كان يقول محمد صلى الله عليه وسلم كان حقّا فهذه الاية كالوعيد والتحريض على معاجلة الايمان به قبل ان يضطروا اليه ولا ينفعهم ايمانهم وقيل الضميران لعيسى والمعنى انه إذا نزل عيسى من السماء أمن به اهل الملل أجمعون ولا يبقى أحد من اهل الأديان الا يؤمن به حتى يكون الملة واحدة ملة الإسلام وهذا التأويل مروى عن ابى هريرة رضى الله عنه روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسى بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها قال ابو هريرة فاقرءوا ان شئتم وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ اى قبل موت عيسى بن مريم وفى بعض الروايات كان ابو هريرة يعيدها ثلاثة مرات وعنه ... ...(2 ق 2/272)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
عن النبي صلى الله عليه وسلم فى نزول عيسى قال ويهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام الحديث روى ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفا فلا يبقى أحد من اهل الكتاب الا يؤمن به قلت نزول عيسى قبل يوم القيامة حق وان يهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام حق ثابت بالصحاح من الأحاديث المرفوعة لكن كونه مستفادا من هذه الاية وتأويل الاية بإرجاع الضمير الثاني الى عيسى ممنوع انما هو زعم من ابى هريرة ليس ذلك فى شىء من الأحاديث المرفوعة وكيف يصح هذا التأويل مع ان كلمة ان من اهل الكتب شامل للموجودين فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم البتة سواء كان هذا الحكم خاصا بهم اولا فان حقيقة الكلام للحال ولا وجه لان يراد به فريق من اهل الكتاب يوجدون حين نزول عيسى عليه السلام فالتأويل الصحيح هو الاول ويؤيده قراءة أبيّ بن كعب اخرج ابن المنذر عن ابى هاشم وعروة قالا فى مصحف ابى بن كعب وان من اهل الكتب الّا ليؤمننّ به قبل موتهم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عيسى او محمد صلى الله عليهما وسلم او الله عز وجل على حسب إرجاع الضمير فى ليؤمننّ به عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فان الله سبحانه يشهد على عباده وكفى بالله شهيدا والأنبياء يشهدون على أممهم ومحمد صلى الله عليه وسلم يكون عليهم شهيدا-.
فَبِظُلْمٍ عظيم مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بايات الله وقتلهم الأنبياء وبهتانهم على مريم وقولهم تفاخرا قتلنا المسيح حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ قبل ذلك وهى ما ذكر فى سورة الانعام وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الى قوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ويحتمل ان يراد طيبات الجنة ويلائم هذا قوله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ الاية ويحتمل ان يراد الأرزاق الطيبة فى الدنيا والمراد بالتحريم جعلهم محرومين مصروفين عنها بالأمر التكويني يعنى انهم مع كثرة الرزق الحلال الطيب فى الدنيا جعلهم الله تعالى محرومين عنها فلا يأكلون الا رزقا حراما خبيثا حتى تكون النار اولى بهم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل لحم نبت من الحرام فالنار اولى به وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن الايمان والاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم كَثِيراً (160) اى كثيرا من الناس او صدا كثيرا.
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ ... ...(2 ق 2/273)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قَدْ نُهُوا عَنْهُ فى التورية وفيه دليل على ان النهى يوجب التحريم وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة والخداع والغصب وغير ذلك من الوجوه المحرمة قوله بصدّهم مع ما عطف عليه معطوف على بظلمهم متعلق بقوله حرّمنا ومعطوف على قوله حرّمنا قوله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) فى نار جهنم ثم لما كان الكلام السابق منشأ لتوهم شمول الحكم لجميع اهل الكتاب استدرك وقال.
لكِنِ «1» الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ اى من اهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه مؤمنى اهل الكتاب الثابتون على ما هو مقتضى العلم بالكتاب وَالْمُؤْمِنُونَ يعنى اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار او المعنى والمؤمنون منهم والمراد بهم وبالراسخون واحد والراسخون مبتدأ خبره يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ اى القران وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعنى سائر الكتب المنزلة على الرسل وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال البغوي حكى عن عائشة وابان بن عثمان انه غلط من الكاتب ينبغى ان يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله تعالى فى سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وقوله تعالى إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قالوا ذلك خطأ من الكاتب وقال عثمان ان فى المصحف لحنا سيقيمه العرب بألسنتها فقيل له الا تغيره فقال دعوه فانه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا، والصحيح انّ هذا القول سهو من القائلين عفا الله تعالى عنهم وانعقد الإجماع على انه هو الحق الصحيح فاختلفوا فى توجيهه فقيل هو نصب على المدح لبيان فضل الصلاة تقديره امدح المقيمين وقيل منصوب بتقدير اعنى المقيمين الصلاة- وهم المؤتون الزكوة وقيل انه منصوب على التوهم لان السابق كان مقام لكن المثقلة وضع موضعه المخففة وقيل موضعه خفض معطوف على ما انزل إليك معناه يؤمنون بما انزل إليك وبالمقيمين الصلاة يعنى الأنبياء وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ عطف على الراسخون او مبتدا خبره أولئك وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عطف على المؤتون قدم عليه الايمان بالأنبياء
__________
(1) اخرج ابن إسحاق والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال نزلت فى عبد الله بن سلام وأسيد بن شعبة وثعلبة بن شعبة حين فارقوا يهودا واسلموا منه رحمه الله-(2 ق 2/274)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
والكتب وما يصدقه من الصلاة والزكوة لانه المقصود بسوق الاية فان اهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر فى زعمهم وانما المقصود هاهنا تحريضهم على ما ليس لهم من الايمان وهو الايمان بالأنبياء والكتب كلهم وجاز ان يكون المراد بالأول الايمان المجازى وبالثاني الايمان الحقيقي المترتب عليه وعلى إتيان الشرائع أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) قرا حمزة سيؤتيهم يعنى الله تعالى بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم- روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال قال عدى بن زيد ما نعلم ان الله انزل على بشر من شىء من بعد موسى فانزل الله تعالى.
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ بدا بذكره عليه السلام لانه كان أبا البشر مثل آدم قال الله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ولانه أول نبى من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك اهل الأرض بدعائه وكان أطول الأنبياء عمرا وجعل معجزته فى نفسه فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ولم يسقط له سن ولم يشب له شعر ولم ينقص له قوة وصبر على أذى قومه على طول عمره وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إدريس وهود وصالح وشعيب وغيرهم وَكما أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب اما ابناؤه اثنا عشر او أنبياء بنى إسرائيل من ذريتهم- وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ خص هؤلاء من الأسباط لمزيد الفضل وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) عطف على أوحينا قرا الأعمش وحمزة زبورا بضم الزاء وهو اسم للكتاب الذي انزل عليه قال البغوي كان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل وكان داود يخرج الى البرية فيقوم ويقرا الزبور ويقوم معه علماء بنى إسرائيل فيقومون خلفه ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الانس الأعظم فالاعظم ويجىء الدواب التي فى الجبال فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن منه والطير ترفرف «1» على رءوسهم عن ابى موسى الأشعري قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رايتنى البارحة وانا اسمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مزامير ال داود قال اما والله يا رسول الله لو علمت
__________
(1) يقال رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط الى شىء يحوم عليه ليقع فوقه- نهايه منه رحمه الله(2 ق 2/275)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
انك تسمع لحبرّته «1» تحبيرا وكان عمر رضى الله عنه إذ أراه يقول ذكرنا يا أبا موسى فيقرا عنده.
وَرُسُلًا منصوب بمضمر دلّ عليه أوحينا تقديره وأرسلنا رسلا، قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ هذا اليوم مثل آدم عليه السلام وشيث وإدريس وزكريا ويحيى وذا الكفل وغيرهم وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ عن ابى ذرّ قال قلت يا رسول الله اى الأنبياء كان اوّل قال آدم قلت ونبى كان قال نعم نبى مكلم قلت يا رسول الله كم المرسلون قال ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا وعن ابى امامة عنه صلى الله عليه وسلم قال قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء قال مائة الف واربعة وعشرون الفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّا غفيرا رواه احمد وابن ابى حاتم وروى الحاكم بسند ضعيف وابو يعلى وابو نعيم فى الحلية عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انه تعالى بعث ثمانية آلاف نبى اربعة آلاف من بنى إسرائيل واربعة آلاف من سائر «2» الناس وهذه الاية تدل على ان معرفة الأنبياء بأعيانهم لا يشترط لصحة الايمان بل من شرطه ان يؤمن بهم جميعا ولو كان معرفة كل شرطا لقصّ الله علينا جميعهم وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) وهو منتهى مراتب الوحى خص به موسى عليه السلام من بينهم وقد فضل الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورفعه درجات. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ... «3» وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى وأعطاه مثل ما اعطى كل واحد من الأنبياء مع مزيد فضل قال الفراء العرب تسمى ما يوصل الى الإنسان كلاما باىّ طريق وصل ولكن لا يحققه بالمصدر فاذا حقق بالمصدر لم يكن الا حقيقة الكلام يقال على سبيل المجاز أراد الجدار ان ينقض ولا يقال أراد الجدار ارادة
__________
(1) يقال حبرت الشيء تحبيرا إذا احسنته نهاية منه رحمه الله-
(2) روى ابن حبان فى صحيحه والحاكم وابن عساكر والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول وعبد بن حميد عن ابى ذرّ قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة الف نبى واربعة وعشرون الفا قلت يا رسول الله كم الرسل منهم قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا ثم قال يا أبا ذرّ اربعة بانيون آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس وهو اوّل من خط بالقلم واربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك واوّل نبىّ من بنى إسرائيل موسى وآخرهم عيسى واوّل نبىّ آدم وآخرهم نبيّك منه رحمه الله
(3) وبين هذين الآيتين فى القران أفتمارونه على ما يرى(2 ق 2/276)
رُسُلًا منصوب على المدح او بإضمار أرسلنا او على الحال ويكون رسلا هذا تمهيدا لقوله.
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا اللام متعلق بأرسلنا او بقوله مبشرين ومنذرين، يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ إرسال الرُّسُلِ إليهم حجة اسم كان وخبره للناس او على الله والاخر حال ولا يجوز تعلقه بحجة لانه مصدر وبعد ظرف لها او صفة حجة يعنى لئلا يقول الناس رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فنتبعه، عن المغيرة قال قال سعد ابن عبادة لو رايت رجلا مع امراتى لضربته بالسيف غير مصفح «1» فبلغ ذلك رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقال تعجبون من غيرة سعد والله لانا أغير منه والله أغير منى ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب اليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب اليه المدحة من الله تعالى ومن أجل ذلك وعد الله الجنة رواه البخاري وغيره قال البغوي فى هذه الاية دليل على ان الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال الله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وقالت الحنفية لا يعذب الله على الشرائع من المأمورات والمنهيات الّا بعد بعثة الرسل وامّا وجوب نفس التوحيد فغير متوقف عليه لدلالة الآيات الآفاقية والانفسية عليه وكفاية ادراك العقل فيه والله اعلم وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب فيما يريد حَكِيماً (165) فيما دبر من امر النبوة وخصّ كل نبى بنوع من الوحى والاعجاز والفضل واعطى خاتم النبيين لاجل بعثته الى كافة الخلق الموجودين الى يوم القيامة ما اعطى كل نبى- روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم والله انكم تعلمون انى رسول الله فقالوا ما نعلم ذلك، وقال البغوي ان رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد انا سالنا عنك اليهود وعن صفتك فى كتابهم فزعموا انهم لا يعرفونك فانزل الله تعالى.
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ على نبوتك بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القران المعجز بالنظم والمعنى الدال على نبوتك أَنْزَلَهُ متلبسا «2» بِعِلْمِهِ الخاص به تعالى وهو العلم بالمغيبات الماضية والمستقبلة والعلم بتأليفه بحيث يعجز عن إتيان مثل اقصر سورة منه غيره او العلم بمن هو اهل للنبوة ونزول
__________
(1) قال فى النهاية يقال اصفحه بالسيف إذا ضربه بعرضه دون حده وهو مصفّح والسيف مصفح- منه رح [.....]
(2) فى الأصل ملتبسا(2 ق 2/277)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
الكتاب عليه وبعلمه الذي يحتاج اليه الناس فى إصلاح معاشهم ومعادهم، فالجار والمجرور على الاوّلين حال عن الفاعل وعلى الثالث عن المفعول وجاز ان يكون مفعولا مطلقا اى انزالا متلبسا «1» بعلمه والجملة كالتفسير لما قبلها وَالْمَلائِكَةُ ايضا يَشْهَدُونَ على نبوتك حيث يأتونك لا عانتك فى القتال ظاهرين كما كان فى غزوة بدر وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) يعنى كفى بما اقام من الحجج على نبوتك عن الاستشهاد بغيره او يقال جزاء المؤمنين والكافرين فى الاخرة بيد الله تعالى فكفى به شهيدا إذ الحاكم بالعدل إذا كان عالما شهيدا لا يحتاج الى شهادة غيره..
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن الايمان بالنبي صلى الله عليه وسلم بكتمان ما ورد نعته فى التورية وتحريفه ومنع الناس عن اتباعه وهم اليهود قَدْ ضَلُّوا عن الحق ضَلالًا بَعِيداً (167) لانهم جمعوا بين الضلال والإضلال.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسله وَظَلَمُوا محمّدا صلى الله عليه وسلم بانكار نبوته بعد العلم بها او ظلموا الناس بصدهم عما فيه صلاحهم يعنى اليهود لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ فى الاخرة طَرِيقاً (168) .
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ اى الطريق المؤدى إليها خالِدِينَ فِيها أَبَداً اى مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها حال مقدرة وَكانَ ذلِكَ اى ادخالهم النار عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) لا يصعب عليه شىء هذه الاية فى حق من سبق حكمه فيهم انهم يموتون على الكفر والله اعلم ولما قرر الله سبحانه امر النبوة وبين الطريق الموصل الى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس بالدعوة عامة فقال.
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ محمد صلى الله عليه وسلم بِالْحَقِّ بالقران والدين الحق مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا به خَيْراً لَكُمْ اى ايمانا خيرا لكم او وائتوا امرا خيرا لكم ممّا أنتم عليه وقال البغوي تقديره يكن الايمان خيرا لكم ومنعه البصريون قالوا كان لا يحذف مع اسمه الا فيما لا بد منه ولانه يؤدى الى حذف الشرط وجوابه ويرد على عدم تجويز حذف كان مع اسمه قولهم الناس مجزيون بأعمالهم «2» ان خيرا فخيرا وَإِنْ تَكْفُرُوا فالله غنى عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بايمانكم وانما يعود نفع ايمانكم وضرر كفركم إليكم،
__________
(1) فى الأصل ملتبسا-
(2) فى الأصل بأعمالكم(2 ق 2/278)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
ونبه على غنائه تعالى بقوله فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن يؤمن ومن لا يؤمن حَكِيماً (170) لا يسوى بينهما فى الجزاء-.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ قيل الخطاب للفريقين اليهود والنصارى فاليهود غلت فى تنقيص عيسى حتى كذبوه وسبوا امه والنصارى فى رفعه حتى اتخذوه الها واصل الغلو مجاوزة الحد وقال البغوي نزلت فى النصارى وهم اصناف اربعة اليعقوبية والملكائية والنسطورية والمرقوسية فقالت اليعقوبية والملكائية ان عيسى هو الله وقالت النسطورية عيسى ابن الله وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة ويقال الملكائية يقولون عيسى هو الله واليعقوبية يقولون ابن الله والنسطورية يقولون ثالث ثلاثة علمهم رجل من اليهود يقال له بولس سيأتى فى سورة التوبة ان شاء الله تعالى وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعنى نزهوه عن الشريك والصاحبة والولد وكونه جسما محتاجا الى الاكل وغير ذلك إِنَّمَا الْمَسِيحُ مبتدا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عطف بيان من المسيح رَسُولُ اللَّهِ خبر مبتدا يعنى ليس كما قالت النصارى انه ابن الله ولا كما قالت اليهود انه كذاب بل هو رسول الله وَكَلِمَتُهُ يعنى اثر قوله كن فكان بشرا من غير اب أَلْقاها حال بتقدير قد يعنى أوصلها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ عطف على الخبر اى ذو روح صادر منه تعالى بخلقه كسائر الحيوانات لا يمكن ان يكون الها واستد الى نفسه تشريفا وقيل سمى روحا لانه كان يحيى الموتى او القلوب الميتة وقيل الروح هو النفخ الذي نفخه جبرئيل فى درع مريم فحملت بإذن الله سمى النفخ روحا لانه ريح تخرج من الروح واضافه اليه تعالى لانه كان بامره من غير مادة وقيل وروح منه يعنى رحمة منه وقد كان رحمة لمن اتبعه وأمن به وقيل الروح الوحى الى مريم بالبشارة والى جبرئيل بالنفخ والى عيسى ان كن فكان وقيل أراد بالروح جبرئيل وهو معطوف على الضمير المستتر فى القاها ويجوز العطف للفصل يعنى القاها الله سبحانه الى مريم وألقاه جبرئيل بامره، أسند الإلقاء الى الله سبحانه لكونه امرا والى جبرئيل لكونه فاعلا او الى الله لكونه خالقا والى جبرئيل لكونه كاسبا، عن عبادة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من شهد ان لا اله الا الله وان ... ...(2 ق 2/279)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق ادخله الجنة على ما كان من عمل متفق عليه فَآمِنُوا بِاللَّهِ كما يليق بتنزيهاته وَرُسُلِهِ ومنهم عيسى وَلا تَقُولُوا الالهة ثَلاثَةٌ الله والمسيح ومريم كما يدل عليه قوله تعالى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقيل كانوا يقولون بالأقانيم الثلاثة الله وعيسى وجبرئيل ويسمونهم بالأب والابن وروح القدس قالوا كانت ذات لها العلم والحيوة فانتقلت صفة العلم واستعلت وصارت جسما وسميت بعيسى وصفة الحيوة فسميت جبرئيل انْتَهُوا عن التثليث وائتوا امرا خَيْراً لَكُمْ مما أنتم عليه او انتهاء خيرا لكم او يكن الانتهاء خيرا لكم إِنَّمَا اللَّهُ مبتدا إِلهٌ خبره واحِدٌ صفة للتأكيد يعنى لا تعدّد فيه بوجه ما سُبْحانَهُ اى أسبحه سبحانا من أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ فانه انما يكون لمن يتصور له مثل ويتطرق اليه فناء ولذلك سمى الله سبحانه ذلك القول شتما فى حقه، عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى ولم يكن له ذلك وامّا تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون عليّ من إعادته وامّا شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وانا الأحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد وفى رواية ابن عباس فقوله لى ولد وسبحانى ان اتخذ صاحبة او ولدا رواه البخاري لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعنى جميع من عداه ملكا وخلقا فمن يماثله حتى يتصور كونه ولدا له فهذه الجملة كانه تعليل لما سبق وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) حافظا ومدبرا لكل من سواه فهو تعالى غنى عن الولد فان الحاجة الى الولد ليكون وكيلا لابيه قائما مقامه والله اعلم، - قال البغوي (وعزاه الواحدي فى اسباب النزول الى الكلبي) انه قال وفد نجران يا محمد انك تعيب صاحبنا قال واىّ شىء أقول قال تقول انه عبد الله
ورسوله قال انه ليس بعار لعيسى ان يكون عبد الله فنزلت.
ْ يَسْتَنْكِفَ
اى لن يأنف ولن يتعظم الاستنكاف التكبر مع الانفة من نكفت الدمع إذا نحيّته بإصبعك كيلا يرى اثره عليك ... ...(2 ق 2/280)
ْمَسِيحُ
من نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
فان عبوديته تعالى شرف وكمال يباهى به فانه اصل كل كمال فان الممكن لا يوجد ولا يتصف بشىء من الكمالات ما لم ينتسب الى الله تعالى ولا نسبة له اليه تعالى الا بالعبودية وانما المذلة والاستنكاف من عبودية غيره تعالى فانه ممكن مثله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
عطف على المسيح يعنى ولا يستنكف الملائكة المقربون من ان يكونوا عبيدا لله تعالى احتج بالآية من زعم بتفضيل الملائكة على البشر لان الترقي يكون من الأدنى الى الأعلى يقال فلان لا يستنكف من هذا ولا من هو أعلى منه ولا يقال لا يستنكف منه زيد ولا عبده وأجيب بانه تعالى لم يقل ذلك للترقى من الأدنى الى الأعلى رفعا لمنزلتهم بل ردّا على عبدة الملائكة كما هو رد على عبدة المسيح او يقال لعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون اعتبار التكبير كقولك أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس قال البيضاوي وان أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش او من هو أعلى منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الاخر مطلقا والنزاع فيه وقال بعض الأفاضل ان الأظهر فى الدفع ان الترقي بنفي استنكاف الملائكة لانهم اولى بالاستنكاف لا لفضلهم بمعنى كثرة الثواب بل لانهم لا يرون فيما بينهم عبادا بخلاف البشر فان فى بنى نوعهم كثرة العبودية وشيوع الرقية قلت والاولى عندى ان يقال ان الترقي ليس لفضل الملائكة على الأنبياء فضلا كليا بل لشرفهم من وجه وفضلهم فضلا جزئيا ولا نزاع فيه والمعنى ان البشر مع احتياجه لبقاء شخصه ونوعه الى الاكل والشرب والجماع وغير ذلك وقرب زمان حدوثه وقصر عمره وقرب فنائه كيف يستنكف عن عبودية الله ومخلوقيته وكيف يدعى الالوهية لنفسه مع ان الملائكة مع تجردهم وعدم احتياجهم وطول أعمارهم وشدة بطشهم وعدم ابتلائهم بالامراض والمصائب والشدائد لا يدعون الالوهية ولا يستنكفون عن عبادة الله والله اعلم وايضا ان النصارى افرطوا فى شأن عيسى عليه السلام وبرءوه من العبودية لما راوا انه ولد بغير اب وانه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى، وكان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم فيقال لهم هذه الأوصاف فى ... ...(2 ق 2/281)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
الملائكة أتم منها فى عيسى وهم لا يستكبرون عن العبودية وايضا الاشارة الى افضلية الملائكة على عيسى ولو من وجه خرج مخرج جواب النصارى حين افرطوا فى شأن عيسى حتى أنزلوه منزلة لم تكن له كما ان الله تعالى اعتبر فضل خضر على موسى حين سئل هل أحد اعلم منك فقال لا فقال الله تعالى بلى عبدنا الخضر حتى قال موسى لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً وقال له هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً- مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
الاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وانما يستعمل الاستكبار حيث لا استحقاق بخلاف التكبر فانه قد يكون باستحقاق سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
(172) فيجازيهم-.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كالمسيح والملائكة والمؤمنين فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ على حسب وعده إياهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما شاء من التضعيفات والمعاملات فى مقام القرب والروية ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر ببال أحد واخرج الطبراني وغيره بسند ضعيف عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف فى الدنيا وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) فان قلت التفصيل غير مطابق للاجمال فان الضمير المنصوب فى قوله تعالى فسيحشرهم عائد الى من يستنكف فالمجمل كان ذكر المستنكفين وفى التفصيل ذكر الفريقين وأجيب بانه ليس هذا تفصيلا للمنطوق بل لما دل عليه فحوى الكلام كانه قال فسيحشر المستنكفين اليه جميعا فيجازيهم يوم يحشر العباد كلهم للجزاء فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ او يقال جزاء مقابليهم بالإحسان تعذيب لهم بالغم والحسرة فكانّه فصل تعذيبهم بوجهين، قال التفتازانيّ هذا الجواب ليس بمستقيم لدخول امّا على الفريقين لا على الجزاء للمستنكفين وقدر صاحب الكشاف فى المجمل فسيحشرهم والمؤمنين لاقتضاء التفصيل ذلك، او لان أحد المتقابلين يدل على ذكر الاخر قلت بل ذكر الفريقين فيما سبق غير المستنكفين فى ضمن قوله تعالى نْ يَسْتَنْكِفَ ... ...(2 ق 2/282)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
والمستنكفون فى ضمن قوله تعالى مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فبين الله جزاء الفريقين-.
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم او المعنى قد جاءكم حجة عليكم من ربكم وهو النبي صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) يعنى القران فانه ينكشف به الحق كما ينكشف الأشياء بالنور.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعنى جنة وثوابا قدر له بإزاء إيمانه وعمله رحمة منه تعالى لا قضاء لحق وجب عليه خلافا للمعتزلة وَفَضْلٍ احسان زائد على ما وعد له فى الرؤية ودرجات القرب وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ اى الى صراط الله سبحانه الموصل الى الذات البحت المتعالي عن الشيون والاعتبارات صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) وهو الإسلام والطاعة وسلوك طريق الصوفية فى الدنيا وطريق الجنة ومقام الرؤية والقرب فى الاخرة وصراطا حال من المضاف المحذوف فى اليه او يقال تقديره يهديهم مقربين اليه او مقربا إياهم اليه فهو حال من الفاعل او المفعول وصراطا مفعول ثان او يقال صراطا مستقيما بدل من اليه والله اعلم- اخرج ابن مردوية عن عمر انه سال النبي صلى الله عليه وسلم كيف يورث الكلالة فانزل الله تعالى.
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ومر معنى الكلالة فى اوّل السورة وروى النسائي من طريق ابى الزبير عن جابر قال اشتكيت فدخل علىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله اوصى لاخواتى بالثلث قال احسن قلت بالشطر قال احسن- ثم خرج ثم دخل علىّ فقال لا أراك تموت فى وجعك هذا ان الله انزل وبين ما لاخواتك وهو الثلثان فكان جابر يقول نزلت هذه الاية فىّ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني هذه قصّة اخرى لجابر غير التي تقدمت فى اوّل السورة- فائدة: - اجمع العلماء على ان هذه الاية فى بيان ميراث الاخوة والأخوات لاب وأم كما ذكرنا فى اوّل السورة عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه وقيس عليهم بالإجماع الاخوة والأخوات لاب ... ...(2 ق 2/283)
عند فقد بنى الأعيان إِنِ امْرُؤٌ مرفوع بفعل مضمر يفسره ما بعده هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ صفة لامرئ او حال من المستكن فى هلك والولد يعم الذكر والأنثى يعنى ليس له ولد ذكر ولا أنثى وَلَهُ أُخْتٌ واحدة لاب وأم يحتمل العطف والحال فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ اى المرء يَرِثُها اى يرث جميع مال أخته ان هلكت عن أخ لها لاب وأم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها اى للمتوفاة وَلَدٌ ذكر ولا أنثى وعدم كون الأب والجد للميت مفهوم من الكلالة فَإِنْ كانَتَا اى من ترث بالاختية اثْنَتَيْنِ فصاعدا بدون الذكر، اجمعوا على ان حكم الزائد على اثنتين حكم الثنتين فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ الأخ وَإِنْ كانُوا اى من يرث بالاخوة إِخْوَةً اى جماعة وحكم الاثنين فى الباب حكم الجماعة بالإجماع رِجالًا وَنِساءً مختلطين كان حق الكلام وان كانوا اخوة وأخوات رجالا ونساء لكن غلّب المذكر فَلِلذَّكَرِ اى فالواجب للذكر منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى ان كان مع الأنثيين او اكثر ذكر واحد او اكثر يعطى لكل واحد منهم مثل ما يعطى للانثيين ويعلم بدلالة النص انه ان كان ذكر واحد او اكثر مع أنثى واحدة يعطى للانثى نصف ما يعطى لذكر واحد منهم والحاصل انه يجعل لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم- (مسئلة) اجمعوا على انه كما يشترط عدم الولد لكون نصيب الاخت النصف ونصيب الأختين فصاعدا الثلثين «1» كذلك يشترط لذلك الحكم عدم ولد الابن وان سفل وعلى انه لا نصيب للاخوة والأخوات أصلا مع ذكر من الأولاد او أولاد الابن وان كان واحدا ومع أنثى واحدة او اكثر منهم للاخوة والأخوات ذكرا كان او أنثى واحدا كان او اكثر الباقي بعد فرض الإناث من الأولاد وأولاد الابن اعنى بعد النصف للواحدة والثلثين للاكثر منهن اما للاخوة فلقوله صلى الله عليه وسلم الحقوا الفرائض باهلها وما أبقت فلاولى رجل ذكر متفق عليه من حديث ابن عباس- وكذا للاخت واحدة كانت او اكثر مع البنت واحدة كانت او اكثر لقوله صلى الله عليه وسلم اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة ولحديث الهذيل عن شرحبيل قال جاء رجل الى ابى موسى وسليمان بن ربيعة فسالهما عن رجل مات عن ابنة وابنة ابن واخت لاب
__________
(1) فى الأصل الثلثان(2 ق 2/284)
وأم فقالا للبنت النصف وللاخت النصف وائت ابن مسعود فانه سيتا بعنا فاتى ابن مسعود فقال ل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ساقضى بما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة للثلثين وما بقي فللاخت «1» رواه البخاري- (مسئلة) واجمعوا على انه لا يرث الاخوة والأخوات لاب مع أخ واحد ذكر لاب وأم لحديث على رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اعيان بنى الام يتوارثون دون بنى العلات يرث الرجل اخوه لابيه وامه دون أخيه لابيه رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث الحرث عن على والحرث ضعيف وقد قال الترمذي لا يعرف الا من حديثه لكن العمل عليه وكان عالما بالفرائض وقد قال النسائي لا بأس به وقول الترمذي العمل عليه حكاية عن الإجماع (مسئلة) واجمعوا على ان للاخت لاب واحدة كانت او اكثر مع اخت واحدة لاب وأم السدس تكملة للثلثين قياسا على بنت الابن واحدة كانت او اكثر مع بنت واحدة صلبية ولا يرثن مع الثنتين من الأخوات لاب وأم لاحرازهما تمام الثلثين الا ان يكون معهن ذكر فيعصبهن فيقسم الثلث الباقي بعد حظ الأختين لاب وأم او النصف الباقي بعد حظ اخت واحدة من الأعيان بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين (مسئلة:) واجمعوا على ان بنى العلات لهم حكم بنى الأعيان عند عدم واحد منهم امّا لهذه الاية ان قيل ان لفظ الأخ والاخت يشملهم وترجيح بنى الأعيان على بنى العلات بالسنة لكن يلزم على هذا الجمع بين معينى المشترك، واما بالنقل المستفيض فلاخت واحدة منهم النصف وللثنتين فصاعدا الثلثان ويجوز الذكر منفردا جميع المال وعند الاختلاط للذكر مثل حظ الأنثيين ويحجبهم الابن وابن الابن والأب والجد ولهم مع الإناث من الأولاد مثل ما لبنى الأعيان معهن والله اعلم يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا اى يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتخيروا خلافه او يبين لكم الحق والصواب كراهة ان تضلوا
__________
(1) وكان ابن عباس يقول ليس للاخت شىء مع البنت ما بقي فللعصبة ويقول لا تجدونه فى كتاب الله وفى قضاء رسول الله وقال الله تعالى إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ لكن ما قلنا ثبت بالسنة وعليه انعقد الإجماع منه رحمه الله-(2 ق 2/285)
وقال الكوفيون لئلا تضلوا فحذف لا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) فهو يعلم مصالح العباد فى المحيا والممات والله اعلم- عن البراء بن عازب قال اخر سورة نزلت كاملة براءة واخر اية نزلت خاتمة سورة النساء يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ متفق عليه وقال البغوي عن ابن عباس اخر اية نزلت اية الربوا واخر سورة نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وروى عنه ان اخر اية نزلت قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ويروى انه بعد ما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عامّا ونزلت بعدها سورة براءة وهى اخر سورة نزلت كاملة فعاش بعدها ستة أشهر ثم نزلت فى طريق حجة الوداع يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ فسميت اية الصيف ثم نزلت بعدها وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما ثم نزلت اية الربوا ثم نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فعاش بعدها أحد «1» او عشرين يوما والله اعلم- وفى قوله وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد سورة براءة سنة أشهر نظر لانها نزلت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه أميرا للحج سنة تسع من الهجرة بعد خروج ابى بكر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليّا رضى الله عنه بأربعين اية من اوّل سورة براءة يقرا على الناس فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزوله خمسة عشر شهرا وأياما فلعل الراوي قال ستة عشر تكميلا للايام شهرا فسقط لفظ عشر وكذا فى قوله بعد ما نزلت النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عاما نظر فان النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة عام الفتح كان يقرا سورة النصر كما ذكر فى تفسير سورة النصر وكان الفتح قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلثين شهرا والله اعلم «2» - تمّ تفسير سورة النساء من تفسير المظهرى حادى عشر شهر رجب سنة الف ومائة وثمان وتسعين من الهجرة على صاحبها صلى الله عليه وسلم بتصحيح: مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى
__________
(1) فى الأصل أحد
(2) عن عمر بن الخطاب قال من قرا البقرة والنساء وال عمران كتب عند الله من الحكماء منه رحمه الله
. ... ...(2 ق 2/286)
فهرست سورة النساء
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتّفسير المظهرى منه النّساء تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمد ثناء الله العثماني الحنفي المظهرى النقشبندي الفاني فتى رضى الله عنه وعن ابائه ومشائخه ولد رحمه الله فى سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة او قبله بسنة او سنتين بفانى فت ونشابها فحفظ القران وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتبحر فيها ثم ارتحل الى الدهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا الشاه ولىّ الله المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه- وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمد عابد السنامى ثم انسلك بخدمت الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع الى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف فى نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عديدة فى التفسير والفقه وغيرها تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها الى الله وازديادا مجتهدا فى الخيرات الى ان أدركته المنية فتوفى فى غرة الرجب المرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة على صاحبها التحية مكتبه رشيديّه سركى رود كوئه ... ...(2 ق 2/287)
(فهرس للتفسير المظهرى سورة النساء) مضمون/ صفحه سورة النساء- 2 حديث استوصوا بالنساء خيرا فانها خلقت من ضلع آدم- 2 ما ورد فى صلة الرحم وقطعه- 3 حديث لا يتم بعد الاحتلام 4 مسئلة للخاطب ان ينظر الى وجه المخطوبة- 6 مسئلة لا يجوز التزوج ما فوق الأربع من النساء 7 مسئلة إذا اسلم وتحته اكثر من اربع نسوة او أختين- 8 مسئلة لا يجوز للعبد اكثر من امرأتين 9 الأفضل كثرة النكاح وفرضيته على التائق- 9 مسئلة نكاح الشغار باطل- 11 مسئلة لا يجوز دفع ماله الى امرأته ونبيه 12 فيحتاج إليهم- مسئلة بلوغ الغلام والجارية- 13 مسئلة حجر السفيه- 14 مسئلة الرشيد صار سفيها- 15 مسئلة الحجر للدين- 15 مسئلة المفلس المديون هل يجوز إجارته 16 لقضاء الدين- مسئلة هل يجوز للولى الاكل من مال اليتيم- 17 وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى الاية 20 ما ورد فى حرمة أكل مال اليتيم 21 مسائل الفرائض 23 حكم الأولاد وأولاد الابن- 24 حكم الوالدين- مسئلة الاخوة يحجبن الام من الثلث 26 مسئلة الجد الصحيح مع الاخوة- 26 مسئلة الجدة الصحيحة- 28 مسئلة ترتيب الحقوق يتعلق بالتركة- 30 مسئلة تنفيذ الوصايا من الثلث 30 حديث إذا دخل الرجل الجنة سال عن أبويه 30 وزوجته وولده- حديث لا وصية لوارث- 31 حكم الأزواج والزوجات وحكم امرأة الفار- 31 حكم أولاد الام- 33 ما ورد فى المقدار فى الوصية وقطع ميراث الورثة- 35 فصل اقسام الوصية- 35 مسئلة العول- 36 مسئلة العصبات بنفسه وبغيره ومولى العتاقة 37 مسئلة الرد- 38 مسئلة إذا اجتمع جهتى فرض وتعصيب- 39 مسئلة ميراث ذوى الأرحام- 39 مسئلة اصناف ذوى الأرحام- 41 مسئلة القتل مانع من الإرث- 42 مسئلة المسلم لا يرث الكافر وبالعكس- 43 مسئلة يرث النصرانىّ اليهودىّ وبالعكس- 43 مسئلة الأنبياء لا يورثون- 43 مسئلة اللواطة وما يجب فيه- 45 أحاديث قبول توبة العبد ما لم يغرغوا وتطلع الشمس من مغربها 48 ما ورد فى مغالات المهر ومقدار مهر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه- 51 ... ...(2 ق 2/288)
مسئلة هل يستقر المهر بالوطى او بالخلوة الصحيحة 52 مسئلة حرمة منكوحات الآباء- 53 مسئلة حرمة المصاهرة بالزنى وبالمس بشهوة 55 او النظر الى فرجها- مسائل المحرمات بالنسب وبالرضاع- 56 مسئلة الرضاع وان قلّ يحرّم 57 مسئلة الرضاع بعد مدة الرضاع لا يحرم- 58 مسئلة مدة الرضاع سنتان- 59 مسئلة المحرمات بالمصاهرة- 60 مسئلة الجمع بين الأختين ونحوهما 62 حديث إكرام المرضعة وحرمة قطع وصلة الرضاع 63 مسئلة وقوع الفرقة بين الزوجين بالسبي او باختلاف الدارين حقيقة او حكما- 65 مسئلة المهر من لوازم النكاح وليس من 67 شرائطه ذكره- مسئلة إذا تزوج بشرط ان لا مهر لها- 67 مسائل ما يصلح مهرا وما لا يصلح 68 مسئلة تقدير اقل المهر- 72 مسئلة المتعة حرام- 75 مسئلة هل يستحق المرأة المهر بالعقد او بالدخول 78 مسئلة الزيادة فى المهر والحط عنه يلحق بأصل العقد 79 مسئلة هل يجوز للحر نكاح الامة عند طول الحرة 80 وهل يجوز للحر المسلم نكاح الامة الكتابية وكراهة نكاح الإماء- مسئلة نكاح الرقيق بغير اذن السيد- 81 مسئلة هل يجوز النكاح مع الزانية- 82 مسئلة حد الزنى فى الحر والرقيق- 83 مسئلة نكاح الإماء ضرورى فهل يجوز فوق الواحدة او يجوز مطلقا 85 مسئلة لا يجوز نكاح الامة فوق الحرة- 85 حديث اىّ الكسب أطيب
87 مسئلة خيار المجلس فى البيع- 88 مسئلة قتل الرجل نفسه او غيره وقوله تعالى ولا تقتلوا 89 أنفسكم- مسئلة بيان الكبائر من الذنوب ومراتبها- 90 فائدة مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم فى التهديد 92 فى الكذب- فائدة أساس المعاصي قساوة القلب- 94 فائدة تأويل ما قيل ان العبد يبلغ درجة لا يضره ذنب عمله 94 مسئلة ارث مولى الموالاة- 97 مسئلة للاسفل ان يسقط ولاءه عن الأعلى وللاعلى التبري عنه- 97 ما ورد فى المرأة الصالحة- 98 مسئلة جواز ضرب المرأة الناشزة 100 مسئلة حقوق المرأة على زوجها- 100 حديث خيركم خيركم لاهله- 100 مسئلة بعث الحكمين للاصلاح بين الزوجين 101 وما يجوز للحكمين- مسئلة عبادة الله وعدم الإشراك- 102 مسئلة الإحسان بالوالدين والأقربين 103 واليتامى والمساكين والجار والمصاحب وابن السبيل والمملوك- ما ورد فى التواضع والنهى عن التكبر والعقوق 105 وقطع الرحم- ما ورد فى السخاء والبخل- 105 ما ورد فى الرياء- 106 ... ...(2 ق 2/289)
حديث لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق فى الدنيا ويجزى بها فى الاخرة- واما الكافر فيطعم فى الدنيا ولم تكن له حسنة فى الاخرة- أحاديث شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض وسعة رحمة الله- 108 حديث مؤاخذة حقوق الناس وتضعيف الحسنات 109 حديث ليس من يوم الا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وسعية- 110 حديث سمع النبي صلى الله عليه وسلم سورة النساء 110 حتى بلغ فكيف إذا جئنا من كلّ امّة بشهيد وجئنا بك الاية فقال حسبك فاذا عيناه تذرفان- 110 مسئلة النهى عن السكر عند الصلاة- 112 حديث إذا نعس أحدكم فى الصلاة فليرقد 112 مسئلة وجوب الغسل بالجماع وان لم ينزل 113 وبالمنى- وروية المستيقظ المنى او المذي- مسئلة التيمم لا يرفع الحدث بل يستر- 115 مسئلة هل يجوز المرور فى المسجد للجنب- 116 مسئلة لا يجوز المكث فى المسجد للجنب- 116 مسئلة لا يجوز للجنب الطواف ولا قراءة القران ولا مسه- 116 مسئلة من لم يجد الماء وهو صحيح مقيم يتمم وهل يعيد الصلاة ان كان بموضع لا يعدم فيها الماء غالبا- 117 مسائل نواقض الوضوء- الخارج من السبيلين ومس المرأة والنوم والإغماء والجنون والقهقهة فى الصلاة وأكل دم الجزور ومس الذكر 118 مسئلة ما يشترط للتيمم عدم القدوة على استعمال الماء باى سبب كان 125 مسئلة هل يشترط للمسافر طلب الماء من رفيقه او رحله 126 مسئلة يشترط النية فى التيمم- 126 مسئلة الصعيد اسم لوجه الأرض- 126 مسئلة الطهارة فى الصعيد شرط- 127 مسئلة الواجب فى التيمم المسح الى المرفقين- 129 ما ورد فى كيفية التيمم- 129 مسئلة هل يجوز التيمم لخوف فوت العيد والجنازة او لخوف فوت الوقت او الجمعة وهل يجب الاعادة- 130 مسئلة إذا وجد الماء بعد الصلاة بالتيمم فى الوقت هل يعيد- 131 مسئلة من كان بعض أعضائه صحيحا وبعضه جريحا 131 مسئلة هل يجوز بالتيمم صلوات كثيرة ما لم يحدث 131 او يجد الماء- مسئلة فاقد الطهورين- 132 مسئلة بطلان مذهب المرجئة فى القطع بالمغفرة 138 ومذهب الخوارج بتكفير المذنب- حديث ثنتان موجبتان- 139 حديث من قال لا اله الا الله دخل الجنة- 139 مسئلة لا يجوز تزكية نفسه ولا الحكم على الغير 140 بالطهارة قطعا الا على حسن الظن- مسئلة يجوز بيان فضل نفسه بالوحى او الإلهام 140 بشرط عدم البطر والتكبر- قصة خروج كعب بن الأشرف الى مكة لجمع الأحزاب ناقضا لعهد كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده للصنم وقوله للمشركين هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا- 141 حديث هدم خالد العزى وخروج الشيطانة منها 143 ... ...(2 ق 2/290)
ما ورد فى قوله تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ وما ورد فى عظم جثة الكافر فى النار 145 قصة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان ثم إعطائه إياه بامر الله تعالى- 146 ما ورد فى أداء الامانة- 147 فائدة ومن أداء الامانة الفناء والبقاء 149 المصطلح المستلزمان لتزكية النفس من تزكيتها- الامارة والقضاء امانة وما ورد فى التجنب عنهما- 150 ما ورد فى إطاعة اولى الأمر من امام العامة 151 والزوج والسيد والوالد والعلماء والمشائخ- مسئلة وجوب إطاعة الأمير مقيد بما لم يخالف امره الشرع- 152 مسئلة إذا قال القاضي قضيت بالرجم على وسعك ان تفعل- 152 مسئلة إذا رفع الى القاضي حكم حاكم أمضاه 153 مسئلة إذا افتى المجتهد وظهر ان فتواه مخالف للكتاب او السنة- 153 قصة مخاصمة اليهودي والمنافق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم رضاء المنافق بقضائه صلى الله عليه وسلم ورفعهما الأمر الى عمر وقتل عمر المنافق
وتسميته بالفاروق- 154 حديث من اتى كاهنا فصدقه او اتى امرأت حائضا او فى دبرها فقد برئ مما نزل على محمد- 155 قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ- 158 الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اربعة اصناف ويلحق بهم من يحبهم- 161 حديث المرء مع من أحب- 162 حديث لا ينجو أحد منكم بعمله ولا انا الا ان يتغمدنى الله برحمته- 162 ما ورد فى المجاهدين فى سبيل الله- 164 ما ورد فى انه ما من مصيبة أصاب المسلم الا بذنبه ويكفر بها عنه خطاياه- 168 حديث وزيراى فى الأرض ابو بكر وعمر- 170 حديث اقتدوا بالذين من بعدي- 170 حديث اشفعوا تؤجروا- 172 مسئلة ومن الشفاعة الحسنة الدعاء لمسلم والإصلاح بين الناس- 172 حديث من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة- 172 مسائل وجوب رد السلام وكونه على الكفاية وما يتعلق بذلك- 173 ما ورد فى تشميت العاطس والعيادة والمصافحة وغير ذلك- 176 قصة قتل عياش بن ربيعة الحارث بن زيد خطأ 181 مسئلة هل يجب الكفارة فى القتل عمدا- 183 انواع القتل خطأ وحكمها- 183 مسئلة لا كفارة فى شبه العمد فى رواية لابى حنيفة عاقلا بالغا- 185 مسئلة ما يشترط لجواز العتق من الكفارة- 185 مسائل الدية ومن يجب عليه- 185 فصل فى مقدارها فى النفس وما دونها- 187 مسئلة دية المرأة والرقيق- 190 مسئلة جناية العبد- 191 حديث كل معروف صدقة- 192 ... ...(2 ق 2/291)
مسئلة دية مسلم لم يهاجر ومسلم ليس له وارث مسلم- 192 مسئلة مقدار دية الكافر- 193 مسئلة الكفارة بالصوم- 195 مسئلة شبه العمد فى الإثم كالعمد 196 مسئلة هل تقبل توبة القاتل عمدا- 196 مسئلة مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مخلد فى النار 197 فصل فيما ورد فى القاتل عمدا- 198 قوله تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا 199 مسئلة المجتهد قد يخطئ وخطاؤه مغفور ويجب عليه التثبت والتبيين- 201 مسئلة إذا راى الغزاة فى قرية شعار الإسلام كفوا عنه- 201 ما ورد فى فضل المجاهدين على القاعدين من غير عذر والقاعدين بعذر- 202 قد يبلغ القاعد بعذر درجة المجاهد- 202 مسئلة حرمة الفرار عند التقاء الصفين- 204 مسئلة يشترط للجهاد الزاد والراحلة- 204 مسئلة إذا هجم العدو يكون الجهاد فرض عين- 204 حديث حضور ملائكة الرحمة للمؤمن وملائكة العذاب للكافر عند الموت- 206 مسئلة الهجرة من دار الكفر على من قدر عليها فريضة محكمة 207 مسئلة يجب الهجرة على العبد بغير اذن سيده- 209 حديث من خرج إلينا من العبيد فهو حر- 209 مسائل قصر الصلاة فى السفر من غير خوف مسائل صلوة الخوف وانحائها- 218 مسئلة الواجب التشبث بالأسباب والمحافظة على التيقظ والتدبر فى الجهاد مع التوكل على الله تعالى 224 حديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل احيانه والظاهر ان المراد به دوام الحضور- 224 مسئلة اوقات الصلاة- 225 قصة سرقة طعمة بن أبيرق من مشربة رفاعة بن زيد- 229 مسئلة حجية الإجماع وحرمة مخالفته- 236 حديث الدعاء هو العبادة- 237 ما ورد فى الوسوسة وان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم- وفى لمة الشيطان ولمة الملك- 238 حديث ما من مولود الا يولد على الفطرة 239 حديث قدسى انا اغنى الشركاء من الشرك- 240 حديث بايعونى على ان لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا إلخ- 241 ما ورد فى ان المؤمنين يجزون فى الدنيا بذنوبهم حتى يلاقوا الله وليس لهم ذنوب والكفار يجزون بذلك يوم القيامة 242 حديث من يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوى بالسيئة نقصت واحدة من عشر- 242 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه- 245 حديث لما القى ابراهيم فى النار قال له جبرئيل 246 هل لك حاجة قال اما إليك فلا إلخ- تحقيق مقام الخلة وإعطاء ذلك المقام للمجدد بعد الف سنة لدعائه صلى الله عليه وسلم اللهم صل على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم- 248 حديث مثل أمتي كمثل المطر- 248 ... ...(2 ق 2/292)
حديث جعلت سودة يومها من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة- 251 مسئلة الصلح بين الزوجين- 252 مسائل الصلح عن اقرار وسكوت وانكار وما يتعلق به 253 حديث من كانت له امرأتان فمال الى إحداهما- 255 مسئلة القسم بين الأزواج الجديدة والقديمة والحرة والامة فى الحضر وحكم السفر- 257 مسئلة ترك احدى الزوجات قسمها لضرتها كما فعلت سودة وجواز الرجوع فى القسم ولا يجوز ترك القسم للمرض- 257 ما ورد فى فضل اهل الفارس وقوله صلى الله عليه وسلم لو كان الدين عند الثريا لنا له رجال من الفرس قلت لعل هذا فى مشائخ ما وراء النهر مثل بهاء الدين النقشبندي- 258 حديث من كانت هجرته الى دنيا إلخ 259 مسئلة الواجب على القاضي التسوية بين الخصمين 259 مسئلة وجوب كمال
الايمان وهو الايمان الحقيقي بعد ايمان المجازى- 260 حديث الفصل بين المؤمن والمنافق يوم القيامة- 263 مسئلة هل يجوز اشتراء الكافر عبدا مسلما- 264 مسئلة المرتد تبين امرأته المسلمة بنفس الارتداد 264 حديث مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين- 265 ما ورد فى انّ المنفقين فى الدّرك الأسفل من النّار- 265 حديث المستبان ما قالا فعلى البادي منهما ما لم يعتد المظلوم- 267 حديث قيل كم أعفو عن الخادم قال صلى الله عليه وسلم كل يوم سبعين مرة- 267 قصة رفع عيسى عليه السلام الى السماء واشتباه ذلك على اليهود واختلافهم- 271 قوله تعالى وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ- 272 ما ورد فى نزول عيسى عليه السلام- 273 كان داود يخرج الى البرية فيقوم ويقرا الزبور- 275 قوله عليه السلام لابى موسى الأشعري لقد أعطيت مزمارا من مزامير ال داود- 275 ما ورد فى عدد الأنبياء عليهم السلام 276 مسئلة معرفة الأنبياء بأعيانهم لا يشترط لصحة الايمان 276 حديث من أجل غيرة الله حرم الفواحش ولا أحد أحب اليه العذر من الله ولا أحد أحب اليه المدحة من الله إلخ 276 مسئلة هل يعذب الخلق قبل بعثة الرسل- 276 حديث من شهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد الله ورسوله- 280 حديث قدسى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى- 280 مسئلة ميراث الاخوة والأخوات لاب وأم- او لاب عند عدم الولد- وما لهم مع البنات- الاختلاف فى اخر سورة نزلت- واخر اية نزلت 286 تمت فهرس سورة النساء.(2 ق 2/293)
الجزء الثالث
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرس التّفسير المظهرى
فهرس تفسير سورة المائدة من التّفسير المظهرى
مضمون صفحه قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وحديث من 13 آيات المنافق إذا عاهد غدر 14 مسئله حل أكل الجنين إذا خرج ميتابعه زكاة أمه- 15 مسئله الاشعار فى الهدايا سنة 17 مسئله يكره ان يذكر مع اسم الله تعالى عند الذبح شيئا غيره موصولا لا معطوفا واما معطوفا فيحرم الذبيحة 20 مسئله إذا جرح السبع وأدركته حيا فذبحته يحل أكله 21 مسئله يجوز الذبح بكل ما ينهر الدم 21 مسئله يستحب للذابح ان يحد شفرته 22 مسئله لو رمى الى صيد فى الهواء فسقط ومات 22 مسئله ان كسر الكلب عضو صيد هل يوكل 27 حديث ما أصاب بعرضه فقتله فلا تأكل وغير ذلك من مسائل الصيد 27 مسئله ترك التسمية عند الذبح والرمي وإرسال الكلب 30 مسائل ما يحل أكله من الحيوانات وما يحرم 32 فائدة أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجاج والجنادى 238 مضمون صفحه مسئله ذبيحة الكافر 38 مسئله ذبيحة اليهودي على اسم عزير ع 39 مسئله نكاح الكتابيات والمشركات والصابيات 41 مسائل الوضوء 43 مسائل الغسل 57 مسئلة التيمم 60 ما ورد فى الطهارة عن الذنوب بالوضوء 61 وحديث يدعون أمتي غرا محجلين- 61 قصة بعث المنذر بن عمرو الساعدي 63 ثلثين ركبا الى بنى عامر وغدد بنى عامر وشهادة المنذر ومن معه الا ثلاثة نفر أحدهم عمرو بن امية الضمري وقتل عمرو بن امية رجلين من بنى عامر وبين قومهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم موادعة وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم الى بنى النضير ليستعين فى الدية وغدرهم به عن ابن مسعود الرجل ينسى العلم بالخطيئة 66 العفو عن الكافر الخائن احسان فضلا عن غيره 67 حديث انا اولى الناس بعيسى 71 الأنبياء اخوة من علات- 71(3/3)
قصة مسير موسى مع بنى إسرائيل لقتال 72 الجبارين وبعثه اثنتي عشر نقيبا- وقصة عوج بن عنق- 73 ومعصية بنى إسرائيل وقعودهم عن الحرب 73 قصة مبعث يوشع وقتاله مع الجبابرة ورد الشمس عليه- 75 حديث ان الشمس لم تحبس على بشر الا ليوشع وذكر موت يوشع- 75 قصة احتباس بنى إسرائيل فى التيه- 76 قصة وفات هارون ع- 76 قصة وفات موسى ع- 77 قصة هابيل وقابيل- 78 ان الطاعة انما يتقبل من مؤمن متقى- 79 حديث كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل- 80 حديث أن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتى قد شتم هذا وأكل ما لهذا الحديث- 80 حديث لا يقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها لانه أول من سن القتل 83 ما ورد فى قتل مؤمن بغير حق- 84 قوله تعالى انما جزاء الذين يحاربون الله- 85 وقصة العرنيّين- 85 وقصة هلال بن عويمر- 286 مسائل قطاع الطريق- 86 مسئله الوسيلة درجة مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم جاز حصولها لبعض الكمل من افراد أمته 92 مسئلة الترقي الى الوسيلة منوط بالمحبة وهى 92 مرتبة اللاتعين على اصطلاح المجددية- المحبة ثمرة اتباع السنة- 92 حديث يقول الله لا هون اهل النار عذابا لوان 93 لك ما فى الأرض من شيء أكنت تفتدى به- مسائل السرقة- 93 مسائل الرشوة وحرمتها على الاخذ وما يحل منها للمعطى وما لا يحل- 113 مسئله إذا ترافع الكفار من اهل الحرب او الذمة قضية الى القاضي هل يجوز له الاعراض عن الحكم 115 وإذا ترافع اهل الإسلام او الكفر الى رجل من عوام المسلمين ليحكم بينهم- 116 ما ورد فى فضل الحكم بالعدل- 116 مسئله يجب علينا العمل بشرائع من قبلنا ما لم يظهر نسخه- 117 حديث انا اولى الناس بعيسى- 117 مسائل القصاص فى الأطراف والجروح وما لا قصاص فيه- 119 قصة إعطاء علىّ كرم الله وجهه خاتمه فى الصلاة للفقير- 132 مسئله العمل القليل فى الصلاة لا يبطلها- 132(3/4)
مسئله صدقة التطوع تسمى زكاة- 132 استدلال الروافض على انحصار الخلافة فى علىّ رضى الله عنه وابطال قولهم- 134 مسئله صرف الحواس والعقل ليست علة موجبة للعلم كما زعمت الفلاسفة- 137 حديث ان الإسلام يهدم ما كان قبله والهجرة والحج- 142 حديث والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي يهودى ولا نصرانى ثم يموت ولم يومن الحديث 142 حديث ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه الحديث 150 حديث كان فيمن قبلكم إذا عمل عامل خطيئه ونهاه فاذا كانوا من الغد جالسه وأكله فجعلهم الله قردة وخنازير ولعنهم الحديث- 151 قصة هجرة الصحابة الى الحبشة واسلام النجاشي ومن اسلم من الحبشة- 153 قصة نكاح أم المؤمنين أم حبيبة- 154 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه- 156 قصة اتفاق بعض الصحابة وعزمهم على الترحب ومنعه
صلى الله عليه وسلم إياهم عنه- 157 ما ورد فى النهى عن التشدد على أنفسهم وقوله عليه السلام من رغب عن سنتى فليس منى- 158 حديث كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلو والعسل- 2159 حديث الطاعم الشاكر كالصائم الصابر 160 مسائل اليمين المنعقدة وكفارته 160 حديث من قال انى برئ من الإسلام ان كان كذا فان كان كاذبا فهو كما قال الحديث- 161 فصل فى النذر وما يجب فيه الكفارة من النذر 170 مسئله الاستثناء بعد الحلف- 170 حديث شارب الخمر كعابد الوثن- 172 ما ورد فى ان الصلاة فارق بين الايمان والكفر 173 ما ورد فى حرمة الخمر ووعيد شاربها- 173 ما ورد فى النهى عن قتل الصيد للمحرم وما يحل له قتله- 175 مسئله يحرم على المحرم الاشارة الى الصيد 177 والدلالة عليه لمن يصيد- 177 مسئلة ما صاد المحرم فهو ميتة 177 مسئلة ما صاد الحلال بامر المحرم او إشارته او دلالته يحرم على المحرم فقط- 177 مسائل جزاء الصيد على المحرم- 178 وقصة ما اهدى الى النبي صلى الله عليه وسلم من حمار الوحش وهو محرم- 186 مسئلة ما اصطاد الحلال لاجل المحرم 187 حديث من تصدق بعدل تمرة ولا يقبل الله الا الطيب- 190 حديث هذا «1» خير من ملأ الأرض مثل هذا «2» 191
__________
(1) يعنى المؤمن الفقير 12.
(2) يعنى الكافر الخبيث 12.(3/5)
مسئله الأمر المطلق لا يقتضى التكرار 191 حديث انما شفاء العي السؤال 192 حديث الولاء لمن أعتق 194 حديث رايت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ 194 قصبه فى النار كان أول من سيب السوائب حديث إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله بعقاب الحديث ونحوه- 196 قال ابن عباس مروا بالمعروف وانهوا عن 196 المنكر ما قبل منكم فان رد عليكم فعليكم أنفسكم تاويل قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم- 196 حديث ايتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر 196 حتى إذا رأيت شحا مطاعا وديتا موثرة الحديث الى قوله فعليك نفسك فان ورائكم ايام الصبر الحديث- حديث ليردنّ علىّ ناس من أصحابي على الحوض حتى 202 عرفتهم اختلجوا دونى فاقول أصيحابي الحديث قصة سوال عيسى عليه السلام المائدة- 204 قصة نزول المائدة 205 حديث ان النبي صلى الله عليه وسلم تلى قوله تعالى فى ابراهيم رب انهن اضللن كثيرا من الناس الاية وفى عيسى ان تعذبهم فانهم عبادك الاية فقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى انا سنرضيك فى أمتك- 210 تمّ فهرس تفسير سورة المائدة.
فهرس تفسير سورة الانعام من التفسير المظهرى
حديث خطلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا الحديث- 213 حديث ان الله خلق الخلق فى ظلمة فالقى عليهم من نوره الحديث- 213 حديث خلق الله آدم من تواب وجعله طينا الحديث- 2218 حديث ان الله خلق آدم من قبضة إلخ 214 حديث ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة إلخ 214 حديث ستة لعنتهم ولعنهم الله إلخ 215 مسئله الرسول برزخ لا بد له من المناسبة بين الخلائق وبين الخالق وذكر مبادى تعينات 218(3/6)
الرسل عليهم السّلام حديث قدسى رحمتى سبقت غضبى إلخ 219 حديث ان لله مائة رحمة انزل منها واحدة 219 حديث قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبى فاذا امرأت وجدت صبيا فالصقته ببطنها وارضعته فقال عليه السلام هل ترون هذه طارحة ولدها فى النار لله ارحم من هذه بولدها إلخ 219 حديث احفظ الله يحفظك وفيه لو جهد الخلائق ان ينفعوك او يضروك بما لم يقضه الله ما قدروا عليه إلخ 224 نزول قوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ- 224 حديث بلغوا عنى ولو اية إلخ 224 حديث من حدث عنى بحديث وهو يرى انه كذب إلخ 224 حديث نصر الله عبد اسمع مقالتى فحفظها وأذاها إلخ 224 حديث ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار- 225 حديث كيف بكم إذ جمعكم الله كما يجمع النبل فى الكنانة خمسين الف سنة لا ينظر إليكم إلخ 226 حديث ليعذرن الله الى آدم يوم القيمة ثلث معاذير إلخ 229 حديث قدسى انا عند ظن عبدى بي إلخ 230 من مات فقد قامت قيامته- 231 حديث والمؤمن إذا خرج من قبره استقبله 231 عمله فى احسن صورة وفيه يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا والكافر إذا خرج من قبره استقبله عمله فى أقبح صورة وفيه ويحملون أوزارهم على ظهورهم حديث لا الفين أحدكم يوم القيمة على رقبته بعير بقر شاة وصامت إلخ 231 حديث من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف ان يجمل على عاتقه- 241 حديث من ظلم قيد شبر أرضا طوق إلخ 241 أحاديث القصاص بين البهائم- 245 حديث إذا رايت يعطى العبد فى الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فانما هو استدراج 236 الذين نزل فيهم لا تطرد الذين يدعون ربهم الاية مسئله الاستعداد يسبق الوجود- 241 الذين نزل فيهم إذا جاءك الذين يومنون باياتنا فقل سلام عليكم الاية 242 حديث مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا الله إلخ 245 قوله تعالى توفته رسلنا وما ورد فى ملك 246 الموت وأعوانه وملئكة الرحمة والعذاب حديث صعود روح المؤمن والكافر الى السماء وفتح باب السماء للمومن دون الكافر- 247 أحاديث تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نزول العذاب من الفوق ومن التحت وقال ان يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض هذا أهون- 251 حديث سال الله ثلثة فاعطاه اثنين ومنعه واحدة- 251 أحاديث الصور وملك الصور ذكرا زر 254(3/7)
وهل كان هو عم ابراهيم او أبوه- حديث يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيمة إلخ 256 ما ورد فى روية ابراهيم ملكوت السموات والأرض- 257 استدلال ابراهيم بالكوكب والقمر والشمس لالزام الكفار- 258 وقصة نمرود 258 وقصة ولادة ابراهيم وبلوغه الى الرشد 259 حديث الظلم انما هو الشرك- 263 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه إلخ 264 قوله تعالى فبهداهم اقتده- 265 مسئلة التعبد بالشرائع السابقة- 266 مسئله لا يجوز أخذ الاجرة على القران والفقه- 266 ذكر مسيلمة الكذاب واسود العنسي- 268 بحث روية الله تعالى فى الجنة وجواب استدلال المعتزلة بقوله تعالى لا تدركه الابصار 273 مسئلة الكفر والايمان كل منهما بارادة الله تعالى ومراده تعالى واجب وقوعه- 276 الأصلح ليس بواجب- 277 حديث شياطين الانس شر من شياطين الجنّ- 279 مسئله متروك التسمية عند الذبح عامدا او ناسيا- 2282 مسئله تحقيق مبادى تعينات الأنبياء والملئكة وغيرهم وافضلية ولاية الملئكة على ولاية الأنبياء وفضلهم بالنبوة 286 مسئله شرح الصدر وامارته 286 ذكر الرسل من الجن وذكر مذهب اهل الهند- 289 مسئله هل فى الزرع حق لله تعالى سوى زكوة الزرع- 294 حديث نفى الوجوب فى المال سوى الزكوة 294 حديث ان فى المال حقا سوى الزكوة 295 مسئله الإسراف ما هو- 295 الأحاديث الواردة فى الانفاق فى سبيل الله وعدم الإمساك شيئا- 296 قوله تعالى قل لا أجد فيما اوحى الىّ إلخ 298 مسئله هل ينحصر التحريم فى الثلاثة اولا- 298 حديث تحريم بيع الخمر والميتة ونحو ذلك 301 حديث لعن الله اليهود لما حرم عليهم 301 الشحوم جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه حديث لا تشرك بالله شيئا وان قتلت ولا تعقن والديك إلخ 303 حديث
اى الذنب اكبر- 304 حديث لا يحل دم امرأ مسلم الا بإحدى ثلث- 304 ما ورد من الأحاديث فى إعطاء من له الحق اكثر من حقه- 305(3/8)
حديث رحم الله رجلا سمحا إلخ 306 حديث عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله- 306 حديث القضاة ثلث واحد في الجنة إلخ حديث الحلال بين والحرام بين إلخ- 306 حديث خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا إلخ 307 حديث لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواة تبعا لما جئت به- 307 فصل فى اشراط الساعة الدجال وغيره 310 فصل فى المهدى- 312 الأحاديث الواردة فى عدم قبول ايمان الكافر وتوبة الفاسق بعد مشاهدة اشراط الساعة- 313 حديث ينزل عيسى عليه السّلام فيتزوج ويولد له ويمكث إلخ- 314 الأحاديث الواردة فى تفرق الامة الى ثلث وسبعين فرقة وفى اهل البدع والأهواء والمنع عن البدعة وإيجاب اتباع السنة والجماعة وانه لا يجتمع الامة على الضلال يد الله على الجماعة- 314 وذكر منشأ الأهواء الباطلة- 316 حديث فى القدرية والمرجئة- 316 حديث ستة لعنتهم ولعنهم الله إلخ 316 ذم الروافض وما ورد من الأحاديث فى الروافض- 317 ما ورد فى ان الحسنة تضاعف ثوابها الى عشرة أمثالها وما فوق ذلك- 318 وتحقيق هذا التضعيف فى الصدقات وغيرها- 318 ولا تضاعف فى السيئات- 318 حديث عملت اليهود الى نصف النهار والنصارى الى العصر كل على قيراط والمسلمون الى المغرب على قيراطين- 319 حديث كل تسبيحة صدقة إلخ 320 حديث الا أخبركم بخير أعمالكم يعنى ذكر الله- 320 ما ورد فى نزول سورة الانعام جملة وفضلها- 322 تمّ فهرس تفسير سورة الانعام من التّفسير المظهرى.(3/9)
فهرس تفسير سورة الأعراف من التفسير المظهرى
بسم الله الرّحمن الرّحيم ما ورد فى السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم 325 ما ورد فى الميزان وكيفية وزن الأعمال 326 قصة خلق آدم وإبليس وامره بالسجود 331 ما ورد فى التكبر- 333 اجابة الدعاء قد يكون استدراجا- 334 مسئلة إذا حضرت الصلاة وأنتم عند 339 مسجد فصلوا فيه ولا تقولوا صلى فى مسجدى ما ورد فى ان الناس يبعثون من قبورهم 340 حفاة عراة وما ورد فى انهم يبعثون فى ثيابهم مسئلة الجهل ليس بعذر- 341 خذوا زينتكم عند كل مسجد- 341 مسئلة اشتراط ستر العورة فى الصلاة- 343 مسئلة عورة الرجل- 343 مسئلة الركبة عورة 345 مسئلة عورة الحرة 345 مسئلة نغمة المرأة عورة فاذا جهرت القراءة فسدت صلوتها- 345 مسئلة عورة الامة 345 مسئلة يجب عند احمد ستر المنكبين فى الفرض- 346 مسئلة يستحب ان يصلى الرجل فى ثياب الزينة- 2346 حديث كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيلة 347 مسئلة الأصل فى المطاعم والمشارب الحل- 347 حديث لا أحدا غير من الله الحديث- 348 حديث قبض روح الكافر- 350 حديث يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة فيقتص لبعضهم من بعض مظالم- 351 واختلف فى القنطرة 352 نزع الغل من الصدور قد يكون بغير قصاص- 352 حديث ينادى مناد ان لكم ان تصحوا فلا تسقموا ابدا إلخ 353 حديث ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار- 353 ما ورد فى الأعراف وأصحابه- 354 حديث التأنى من الرحمن والعجلة من الشيطان- 359 بحث الاستواء على العرش 359 ما ورد فى ذكر الجهر والخفي- 361 فصل فى اقسام الذكر- 362(3/10)
ما ورد فى الاعتداء فى الدعاء 363 ما ورد فى ما يمنع من اجابة الدعاء 364 ما ورد فى ما بين النفختين 365 قصة نوح عليه السلام ونسبه ووجه تسميته 366 حديث اوحى الله لنبى قل لاهل طاعتى لا يتكلوا على اعماله ولاهل معصيتى لا تقنطوا- 368 ذكر هود عليه السلام- ونسبه 369 قصة عاد- 371 ذكر صالح عليه السلام- 374 حديث أشقى الأولين عاقر ناقة صالح ع وأشقى الآخرين قاتل على رض- 376 قصة ثمود- 376 حديث نزوله صلى الله عليه واله وسلم الحجر فى غزوة تبوك وذكر ابى رغال- 381 قصة لوط عليه السلام- 381 قصة مدين وشعيب عليه السلام- 383 حديث ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة فيسبق عليه الكتاب إلخ 385 حديث قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن- 385 قصة موسى عليه السلام وفرعون- 389 قصة نزول الآيات من الطوفان وغيره- 396 ما ورد فى الطاعون- 399 قصة إتيان موسى عليه السلام على 2401 قوم يعكفون على أصنام وقول بنى إسرائيل اجعل لنا الها- حديث قول بعض الصحابة فى غزوة حنين اجعل لنا ذات أنواط- 402 قصة ميعاد موسى ثلثين ليلة وإتمامها 402 قصة تكليم موسى عليه السلام وطلبه الروية- 403 قوله تعالى تجلى ربه للجبل- 406 معنى التجلي عند الصوفية- 406 فى القصة ان موسى بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد ان ينظر اليه لما غشى وجهه النور- 407 ما روى البخاري عن كعب الأحبار فى فضائل امة محمد صلى الله عليه واله وسلم وقول موسى يا ليتنى من اصحاب محمد صلى الله عليه واله وسلم- 407 ما ورد فى كتابة التورية- 408 قصة اتخاذ بنى إسرائيل العجل- 410 قصة غضب موسى على عبادة العجل والقائه التورية- 411 حديث ليس الخبر كالمعاينة- 412 حديث كل أمتي يدخلون الجنة الا من ابى 415 حديث انا امة امية- 416 حديث انا اكثر الأنبياء تبعا- 416(3/11)
ما ورد فى نعوت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى التورية- حديث فضلت على الأنبياء بست- قصة من اعتدى فى السبت فصاروا قردا 424 قصة إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم 427 قصة بلعم بن باعور- 430 قصة ملك بلقاء وبلعام- 432 قصة امية بن ابى الصلت الثقفي 432 قصة بسوس رجل من بنى إسرائيل- 433 حب الدنيا راس كل خطيئة 434 ما ورد فى ان الله تعالى خلق خلقا للجنة وخلقا للنار- 435 اسماء الله الحسنى وانها توقيفية- 436 حديث لا يزال من أمتي امة قائمة بامر الله إلخ 439 ما ورد فى إتيان القيامة بغتة- 440 ما ورد فى فضيلة العفو- 445 ما ورد فى ان يصل من قطعه ويعطى من حرمه ويعفو عمن ظلمه- 445 ما ورد فى الأمر بالمعروف- 446 ما ورد فى مكارم الأخلاق- 446 بحث الكلام فى الصلاة واختلافهم فى الكلام ساهيا او جاهلا او مكرها او ناسيا- 448 مسئلة الإنصات لاستماع الخطبة واستماع كل واعظ- 2450 ما ورد فى رفع الصوت خلف الامام وفى القراءة مطلقا خلقه 450 مسئلة استماع التلميذ وإنصاته عند قراءة المقري 450 فصل اختلف العلماء فى وجوب الاستماع والإنصات على من هو خارج الصلاة يبلغه صوت من
يقرأ فى الصلاة او خارجها 451 مسئلة هل يأثم من يقرأ جمرا وبجنبه نائم او رجل يكتب الفقه ولا يمكنه الاستماع- 451 أحاديث كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم 451 يصلى بالليل فيسمع قراءته من وراء الحجرة وكانت الصحابة يقرءون رافعى أصواتهم فصل لا يجوز الدعاء والتعوذ للسامع إذا 452 قرأ القاري فى القران ذكر الجنة والنار الامام والمنفرد لا يشتغل بغير القراءة فى الفرض وفى النفل يسأل الجنة ويتعوذ من النار- 452 فصل كيف يستحب القراءة فى الصلاة ليلا وخارج الصلاة جهرا او سرا- 452 ما ورد فى تحسين الصوت والتغني بالقران 453 مسئلة التفرع والاستكانة وترك رفع الصوت بالدعاء- 454 ما ورد فى فضائل السجود وفى سجدة التلاوة 456 تمّ فهرس سورة الأعراف.(3/12)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
سورة المائدة
«1» مدنيّة وهى مائة وعشرون اية وستّ عشر ركوعا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ العقد العهد الموثق وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال قال الزجاج هو أوكد العهود والوقاع والإيفاء القيام بمقتضى العهد وفى الإيفاء مبالغة ليس فى الوفاء كذا قال التفتازانيّ والحكم عام يشتمل العقود التي عقدها الله تعالى على عباده عامة من يوم الميثاق الى يومنا هذا من التكاليف وتحليل حلاله وتحريم حرامه وما أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتب فى الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته وما يعقد الناس بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها
__________
(1) عن عائشة رض قالت المائدة اخر القرآن نزولا فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه رواه احمد والنسائي وغيرهما وعن عبد الله بن عمر قال اخر سورة المائدة والفتح رواه احمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه واخرج ابو عبد عن محمد بن كعب القرظي قال نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته تصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا اخرج ابن جرير عن الربيع ابن انس وعطية بن قيس قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المائدة من اخر القران تنزيلا فاحلوا حلالها وحرموا حرامها واخرج ابو داود والنحاس عن ابى ميسرة عن عمرو بن شرحبيل واخرج ابو داود فى ناسخه وابن المنذر عن الحسن انه لم ينسخ من المائدة شىء واخرج عبد بن حميد وابو داود فى ناسخه عن الشعبي قال لم ينسخ من المائدة الا هذه الآية يا ايها الذين أمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد- بقية بر ص 14.
واخرج ابو داود فى ناسخه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال نسخ من هذه السورة آيتان اية القلائد وقوله تعالى فان جاؤك فاحكم بينهم او اعرض عنهم اخرج البيهقي فى شعب الايمان عن مقاتل بن حبان قال بلغنا فى قوله تعالى يا ايها الذين أمنوا أوفوا بالعقود يعنى العهد الذي كان عهدهم فى القرآن فيما أمرهم من طاعته ان يعملوا بها ونهيه الذي نهاهم عنه بالعهد الذي بينهم وبين المشركين وفيما يكون من العهود بين الناس 12 منه وبهذه الآية استدلت الحنفية على ان البيع إذا تم بالإيجاب والقبول ليس لاحد من المتعاقدين حق الفسخ إلا بخيار شرط او روية او عيب وبه قال مالك وقال الشافعي رحمه الله تعالى المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا او يكون البيع خيارا لما روى البخاري هذا اللفظ بعينه من حديث ابن عمر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا من حديث حكيم بن حزام وإذا ثبت خيار المجلس بالحديث الصحيح قالوا تمام العقد قبل التفرق وبطلان الخيار ممنوع كما ان عند اشتراط الخيار لا يتم العقد قبل انقضاء مدة الخيار والله اعلم 12 منه(3/13)
مما يجب الوفاء به وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من آيات المنافق إذا عاهد غدر متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو ولما كان مما عقد الله سبحانه تحليل حلاله وتحريم حرامه عقبه بقوله عز وجل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والبهيمة كل حى لا يميز والانعام ذات القوائم الأربع وقيل البهيمة ذات اربع قوائم والانعام الإبل والبقر والغنم والاضافة على التقديرين اضافة العام المطلق الى الخاص وهذه الاضافة عند النحويين بمعنى اللام وانما جعلوا الاضافة بمعنى من إذا كان المضاف اليه جنس المضاف وفسروا الجنس بما يكون بينه وبين المضاف عموم من وجه نحو خاتم فضة وكلام البيضاوي والكشاف يشعران هذه الاضافة بمعنى من والله اعلم ومقتضى هذين التأويلين انه تعالى أراد تحليل ما حرم اهل الجاهلية على أنفسهم من الانعام كالبحيرة والسائبة وقال الكلبي بهيمة الانعام وحشيتها كالظباء وبقر الوحش ونحوهما مما يماثل الانعام فى اجترار العلف من الكرش الى الفم وعدم الأنياب والاضافة حينئذ الى الانعام لملابسة الشبه من قبيل سجين الماء قال البغوي وروى ابو ظبيان عن ابن عباس قال بهيمة الانعام الاجنة ومثله عن الشعبي فالآية على هذا التأويل يدل على حل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد زكوة امه وقد تم خلقه وبه قال الشافعي رح واحمد رح وابو يوسف رح ومحمد رح وشرط مالك الاشعار قال البغوي قال ابن عمر زكوة ما فى بطنها فى زكوتها إذا تم خلقه ونبت شعره ومثله عن سعيد بن المسيب وقال ابو حنيفة رح لا يحل أكل الجنين من غير ذبح مستقل أشعر او لم يشعر احتج(3/14)
الشافعي رح ومن معه بحديث ابى سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد فى بطنها الجنين أنلقيه أم ناكله فقال كلوه ان شئتم فان زكوته زكوة امه رواه احمد وابو داود وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال زكوة الجنين زكوة امه رواه ابو داود والدارمي وروى الدار قطنى عن ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى الجنين زكوته زكوة امه أشعر او لم يشعر قال الدار قطنى الصواب انه من قول ابن عمر وقال الشافعي رح ومن معه ان الجنين جزء من الام حقيقة لانه متصل بها حتى يفصل بالمقراض وقد يتغذى بغذائها ويتنفس بنفسها فاذا كان جزأ منها فالجرح فى الام زكوة له عند العجز عن زكوته كالصيد وقال ابو حنيفة رح الجنين مستقل فى الحيوة يتصور حيوته بعد موتها وهو حيوان دموى وما هو المقصود من الزكوة وهو الميز بين الدم واللحم لا يحصل بجرح الام فيه إذ هو ليس بسبب لخروج الدم من الجنين أصلا بخلاف الجرح فى الصيد لانه سبب لخروج الدم ناقصا فيقام مقام الكامل عند التعذر وإذا لم يحصل الميز فالجنين ميتة وقد ثبت حرمة الميتة بدليل قطعى من الكتاب فلا يثبت حله بحديث الآحاد وتاويل بهيمة الانعام فى هذه الاية بالجنين غير ظاهر ولا يلائمه الاستثناء بقوله تعالى إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ المراد بالموصول الميتة وما اهل لغير الله به وما ذبح على النصب والمنخنقة والموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وهذه الأشياء كانت داخلة فى بهيمة الانعام والتحريم لما عرض من الموت حتف انفه ونحو ذلك من العوارض فالاستثناء متصل وقيل المراد بهيمة الانعام المذكورة والاستثناء منقطع واسناد التلاوة الى الميتة وأخواتها مجازى او بتقدير المضاف اى يتلى عليكم اية تحريمه فالمجاز حينئذ فى الظرف وجازان يراد بالموصول الآية ويقدر المضاف على الموصول يعنى الّا محرم ما يتلى عليكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ الصيد يحتمل المصدر والمفعول وغير حال من الضمير فى لكم اى أحلت لكم بهيمة الانعام حال كونكم غير معتقدين حل الصيد فى حالة الإحرام ولما كان تقئيد إحلال الانعام بحال عدم اعتقاد حل الصيد غير ظاهر قال صاحب الكشاف غير محلى الصيد عبارة عن الامتناع عن الصيد كانه قال أحلت لكم بعض الانعام فى حال امتناعكم عن الصيد لئلا يضيق عليكم الأمر ويرد عليه ان حل الانعام غير مقيد بحالة الإحرام حالة الامتناع عن الصيد بل هى حلال فى جميع الأحوال فهذا التقييد انما يصح
لو جعل بهيمة الانعام ما يعم الوحشي والأهلي وهو التأويل الاوّل او يخص بالوحشى وهو التأويل الثالث فجعل حل الصيد مقيدا بحالة عدم الإحرام والتقدير أحلت لكم(3/15)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
بهيمة الانعام كلها وحشيا كان او أهليا الا ما يتلى عليكم من الميتة وأخواتها حال كونكم غير معتقدين حل الصيد فى الإحرام يعنى ما أحلت لكم الصيد فى الإحرام حتى تعتقد وأحلها وجاز ان يكون فاعل غير محلى الصيد الشارع جلّ وعلى والجمع للتعظيم كانه قال أحللنا لكم بهيمة الانعام حال كوننا غير محلى الصيد لكم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الحرم جمع حرام والجملة حال من المستكن فى محلى الصيد ان كان المستكن ضمير المخاطبين وكذا ان كان المستكن فيه ضمير الشارع المتكلم ويكفى للجملة الحالية الواو ولا يجب الضمير او من الضمير المحذوف اعنى لكم على تقدير كون المستكن ضمير الشارع فقط إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (ط) فى التحليل والتحريم وغير ذلك لا اعتراض عليه اخرج ابن جرير عن عكرمة وعن السدى نحوه انه قدم الحكم بن هند البكري المدينة فى عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النّبى صلى الله عليه وسلم فبايعه واسلم فلما ولى خارجا نظر اليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن عنده لقد دخل علىّ بوجه فاجر وولى بقضاء غادر فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام وخرج فى عير له يحمل الطعام فى ذى القعدة يريد مكة فلما سمع به اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تهيأ للخروج اليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه فى عيره فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الاية فانتهى القوم وقال البغوي نزلت فى الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري اتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة وحده على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الى ما تدعو الناس فقال الى شهادة ان لا اله الا الله وانا محمد رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة فقال حسن الا ان لى أمراء لا اقطع امرا دونهم ولعلى اسلم واتى بهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان ثم خرج شريح من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد دخل بوجه كافر وخرج بقناء غادر ومر الرجل فمر بسرح «1» المدينة فاستاقه وانطلق فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام المقبل خرج حاجا فى حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلد الهدى فقال المسلمون للنبى صلى الله عليه وسلم هذا الحطم خرج حاجا فخل بيننا وبينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم انه قد قلد الهدى فقالوا يا رسول الله هذا شىء كنا نفعله فى الجاهلية فابى النبي صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الآية
__________
(1) شرح اسم جمع وليس بتكسير سارح الماشية 12(3/16)
وذكر الواحدي اتى الحطم النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة الى المدينة فعرض عليه الإسلام فلم يقبل فلما خرج مر بسرح المدينة فاستاقها فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضية سمع تلبيته بحجاج اليمامة فقال لاصحابه هذا الحطم وأصحابه وقد كان قلد ما نهب من السرح وأهداه الى الكعبة فانزل الله تعالى هذه الاية قال ابن عباس رض ومجاهد المراد بشعائر الله مناسك الحج ومواقفه من المطاف والمسعى والموقف بعرفة والمزدلفة والرمي للجمار والافعال التي تعرف بها الحاج من الإحرام والطواف والحلق والنحر وغيرها وإحلالها التهاون بحرمتها وان يحال بينها وبين المتناسكين بها كان المشركون يحجون ويهدون فاراد المسلمون ان يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك والشعائر جمع شعيرة وهى فى الأصل اسم لما أشعر به انما سمى اعمال الحج ومواقفه شعائر لانها علامات الحج واعلام النسك وقال ابو عبيدة شعائر الله هى الهدايا والاشعار من الشعار اى العلامة والاشعار ان يطعن فى صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم فيكون ذلك علامة انه هدى- قلت وعلى هذا يلزم التكرار بذكر الهدايا والقلائد- (مسئلة:) الاشعار فى الهدايا سنة إذا كانت الهدى من الإبل عند الائمة الثلاثة وبه قال ابو يوسف ومحمد رح وقال ابو حنيفة رح مكروه والحجة للجمهور ما فى الصحيحين من حديث عائشة رض قالت فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها وأشعرها واهديها فما حرم عليه شىء كان أحل له وقال عطية عن ابن عباس لا تحلوا شعائر الله هى ان تصيد وأنت محرم بدليل قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قلت لعل المراد من قول ابن عباس هذا والذي ذكرنا عنه سابقا واحدا- فان الاجتناب عن الاصطياد فى الإحرام داخل فى الاجتناب عن إحلال مناسك الحج وقيل المراد من قوله لا تحلوا شعائر الله النهى عن القتل فى الحرم وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وإحلال القتال فيه وقال ابن زيد هو النسى وذلك انهم كانوا يحلونه عاما ويحرمونه عاما وَلَا الْهَدْيَ جمع هداية وهى ما يهدى به الى الكعبة من الإبل والبقر والغنم ذكر البخاري عن ابن عباس انه سئل عن الهدى فقال فيها جزورا وبقرا وشاة وانما ذكر الهدى مع انه من الشعائر تخصيصا بعد تعميم لان المنع عن تحليله أهم لان فيه إتلاف حق الفقراء ولانه اقرب بان يقع الناس فيه لان فيه أخذ مال جبل الطبائع على حبها وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة وهى ما قلد به الهدى من نعل او لحاء شجرا وغيرهما ليعلم به(3/17)
انه هدى فلا يتعرض له والمراد به الهدايا المقلدة وعطفها على الهدى للاختصاص فانه اشرف الهدى وقال عطاء أراد اصحاب القلائد وذلك انهم كانوا فى الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم بشئ من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم وقال مطرف بن الشخير هى القلائد أنفسها وذلك ان المشركين كانوا يأخذون لحاء من شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها وقيل النهى عن إحلال القلائد مبالغة فى النهى عن التعرض للهدى نظيره قوله تعالى ولا يبدين زينتهن وإحلال الهدى والقلائد أخذها او منعها عن البلوغ الى الحرم وَلَا آمِّينَ قاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ لزيارته واحلالهم التعرض لهم بالقتل والنهب يَبْتَغُونَ يطلبون فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ فى الدنيا بالرزق فى التجارة وفى الاخرة بالثواب وَرِضْواناً يرضى عنهم والجملة فى موضع الحال من المستكن فى أمين او صفة موصوفة المقدر تقديره ولا قوما آمّين البيت الحرام يبتغون ولا يجوز ان يكون صفة لآمين لانه عامل والمختار ان اسم الفاعل الموصوف لا يكون عاملا وفائدة هذا التقييد استنكارا حلال من هذا شأنه والتنبيه على المانع وكلمة أمين البيت الحرام يعم المؤمنين والمشركين من حيث الصيغة ومن حيث سوق الكلام فان الآية نزلت فى عام القضاء وسيق الكلام للنهى عن تعرض البكري وهداياه وأمثاله فالآية منسوخة باعتبار قصر حكمها بالمؤمنين بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله تعالى انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلا يجوزان يحج مشرك ولا يأمن كافر بالهدى والقلائد وابتغاء الفضل والرضوان فى المشركين قيل مبنى على
زعمهم لان الكافر لا نصيب له فى الرضوان وقال قتادة هو ان يصلح الله معايشهم فى الدنيا وان لا يعجل لهم العقوبة فيها وقيل ابتغاء الفضل اى الرزق بالتجارة عام للمؤمنين والمشركين وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام فَاصْطادُوا اذن فى الاصطياد بعد تحريمه بقوله تعالى لا تحلوا شعائر الله فان الصيد فى الإحرام تحليل للشعائر وقيل بعد المنهي لقوله تعالى غير محلى الصيد وهذا بعيد وهذا الأمر للاباحة بقرينة الإجماع كما فى قوله تعالى فاذا قضيت الصلاة فانتشروا ولا دليل فيه على ان الأمر بعد الحظر يكون للاباحة مطلقا فان مقتضى الأمر المطلق الخالي عن القرائن هو الإيجاب كما برهن عليه فى الأصول قال الله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم وقال الله تعالى ما منعك ان تسجد إذ امرتك واخرج ابن ابى حاتم عن زيد بن اسلم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون(3/18)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من اهل المشرق يريدون العمرة فقال اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا فانزل الله تعالى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ قال البغوي قال ابن عباس وقتادة لا يحملنكم وقال الفراء لا يكسبنكم شنأن قوم اى قومكم من اهل مكة والشنآن مصدر بمعنى شدة البغض والعداوة أضيف الى المفعول او الفاعل قرأ ابن عامر وابو بكر بسكون النون الاولى والآخرون بفتحها وهما لغتان فى المصدر وجاز ان يكون نعتا على تقدير سكون النون بمعنى بغيض قوم فان المصادر أكثرها فعلان بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان وبالسكون فى النعت اكثر مثل السكران والندمان والرحمن أَنْ صَدُّوكُمْ قرأ ابن كثير وابو عمرو بكسر الهمزة على انه شرط معترض اغنى عن جوابه لا يجر منكم والباقون بفتح الهمزة بتقدير اللام اى لان صدوكم عن البيت عام الحديبية متعلق بشنأن قال البغوي قال محمد بن جرير هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية وكان الصدقة قد تقدم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا عليهم بالقتال وأخذ الأموال وهذا ثانى مفعولى يجر منكم فانه يتعدى الى واحد والى اثنين ككسب وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ اى على امتثال امر الله تعالى وَالتَّقْوى اى الانتهاء عما نهى عنه كى يتقى نفسه عن عذاب الله وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعنى لا تعاونوا على ارتكاب المنهيات ولا على الظلم لتشفى صدوركم بالانتقام عن النواس بن سمعان الأنصاري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم قال البر حسن الخلق والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت ان يطلع عليه الناس رواه مسلم فى صحيحه والبخاري فى الأدب والترمذي وعن ابى ثعلب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البر ما سكنت اليه النفس واطمأن اليه القلب وان أفتاك المفتون رواه احمد قلت هذا الحديث خطاب لارباب النفوس المطمئنة والقلوب الزاكية وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد وخوف.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ هذا بيان لما يتلى عليكم والميتة ما فارقه الروح على حتف انفه اخرج ابن مندة فى كتاب الصحابة من طريق عبد الله بن جبلة بن حيان بن ابجر عن أبيه عن جده حيان بن الجر قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة فانزل الله تحريم الميتة فاكفأت القدر قلت انما ذكرت هذا الحديث فى هذا المقام تبعا(3/19)
الباب «1» النقول فى اسباب النزول والصحيح ان كون هذه القصة عند نزول هذه الاية اية المائدة محال لان هذه الاية اخر اية الاحكام نزولا كما سنذكر وحرمة الميتة كانت قبل الهجرة نزلت بمكة فى سورة الانعام فلا يمكن من الصحابي طبخ لحم الميتة بعد ذلك فالظاهر ان القصّة عند نزول اية التحريم فى الانعام قل لا أجد فيما اوحى الى والله اعلم وَالدَّمُ اى المسفوح منه بالإجماع وهو السائل وكان اهل الجاهلية يصيونها فى الأمعاء ويشربونها وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ انما خص اللّحم بالذكر مع كونه نجسا بجميع اجزائه بالنص والإجماع لانه معظم المقصود من الحيوان وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والإهلال رفع الصوت وهو قولهم عند الذبح باسم اللّات والعزّى عن ابى الطفيل قال سئل على رضى الله عنه هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ قال ما خصنا بشئ لم يعم به الناس الا ما فى قراب «2» سيفى هذا فاخرج صحيفة فيها لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من سرق «3» منار الأرض وفى رواية بلفظ من غيّر منار الأرض ولعن الله من لعن والده ولعن الله من آوى محدثا رواه مسلم (مسئلة:) يكره ان يذكر مع اسم الله عند الذبح شيئا غيره موصولا لا معطوفا مثل ان يقول عند الذبح بسم الله اللهم تقبل من فلان لكن لا يحرم ونظيره بسم الله محمد رسول الله بالرفع وان ذكر موصولا على وجه العطف والشركة نحو ان يقول بسم الله واسم فلان او بسم الله ومحمد رسول الله بالجرّ يحرم الذبيحة لانه اهل بها لغير الله ولا بأس بان يقول قبل التسمية قبل ان يضجع الذبيحة او بعد الذبح كما روى انه صلى الله عليه وسلم قال بعد الذبح اللهم تقبل هذا عن امة محمّد عليه السلام ممن شهد لك بالوحدانية ولى بالبلاغ قد ذكر حرمة هذا الاربعة وما يتصل بها من المسائل فى سورة البقرة وَالْمُنْخَنِقَةُ التي ماتت بالخنق وَالْمَوْقُوذَةُ الوقذ الضرب الشديد وكانوا فى الجاهلية يقتلون البهيمة ضربا بعصا او حجر وَالْمُتَرَدِّيَةُ التي تردت اى سقطت من علو او فى بير فماتت بلا ذبح وَالنَّطِيحَةُ وهى التي نطحتها اخرى اى أصابتها بقرنها فماتت والتاء فيها للنقل من الوصفية الى الاسمية وَما أَكَلَ السَّبُعُ يعنى ما بقي «4» من أكل السبع وماتت باكله بعضها وهذا يدل
__________
(1) اسم كتاب فى اسباب النزول 12
(2) القراب شبه الجواب يطرح فيه الراكب سيفه بغمده وسوطه وقد يطرح فيه زاده من تمر وغيره 12 نهايه
(3) المنار جمع منارة وهى العلامة 12 نهايه [.....]
(4) ويمكن ان يقال ان ما أكله السبع المعلم الذي ذكر اسم الله عند إرساله فهو داخل فى المستثنى لانه ذكوة ضرورى 12(3/20)
على ان جوارح الصيد كالكلب والفهد والباز والصقر إذا أكلت مما اصطادته لا يحل أكله إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعنى ما أدركتم ذكوته من هذه الأشياء واصل التذكية الإتمام يقال ذكت النار إذا تمت اشتعالها والمراد هاهنا الذبح فانه إتمام للحيوة قال فى الصحاح ذكيت الشاة اى ذبحتها وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية لكن خصّ فى الشرع بابطال الحيوة على وجه دون وجه انتهى كلامه قلت يعنى ابطال الحيوة بالذبح او النحر فى الخلق واللبة فى حالة الاختيار مع ذكر اسم الله تعالى وحده عليه عن ابى هريرة قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن ورقا الخزاعي على جمل أورق يصيح فى فجاج منى الا ان الذكوة فى الحلق واللبة رواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني- (مسئلة:) فاذا جرح السبع او أكل شيئا منه وأدركته حيا فذبحته يحل أكله وهو المراد بقوله تعالى الا ما ذكيتم واماما صار بجرح السبع الى حالة المذبوح فهو فى حكم الميتة فلا يكون حلالا وان ذبحته وكذلك المتردية والنطيحة والموقوذة إذا أدركتها حية قبل ان يصير الى حالة المذبوح فذبحتها يكون حلالا والاستثناء إذا وقع بعد امور متعاطفة يرجع الى الاخيرة فقط عند ابى حنيفة رح وانما عرف حكم ما أدركته حيا بعد الخنق والوقذ والنطح والتردي وذبحته بالمقايسة ولا يمكن إرجاع الاستثناء الى الجميع لان المنخنقة اسم لما مات بالخنق وكذا أخواتها فلا يشتمل ذلك ما أدركته حيا وذبحته فلا يجوز الاستثناء- (مسئلة:) عروق الذبح الحلقوم اعنى مجرى النفس والمري اعنى مجرى العلف والماء والودجان وهما مجرى الدم فقال مالك رح يجب قطع هذه الاربعة وهو أحد قولى احمد رح وقال الشافعي رح واحمد رح يجزى فى الذكوة قطع الحلقوم والمري وقال ابو حنيفة رح ان قطع ثلثا منها اى ثلث كان يحل الاكل وبه كان يقول ابو يوسف رح اولا ثم رجع فقال لا بد من قطع الحلقوم والمري واحد الودجين وبه قال محمد رح فى رواية وعنه انه يعتبر اكثر كل من الأربع وهو رواية عن ابى حنيفة رح لان كل فرد منها اصل بنفسه وللاكثر حكم الكل ولابى يوسف رح ان المقصود من قطع الودجين انهار الدم فينوب أحدهما عن الاخر واما الحلقوم فيخالف المري فلابد من قطعهما وقال ابو حنيفة رح الأكثر يقوم مقام الكل فى كثير من الاحكام واى ثلث قطع فقد قطع الأكثر منها وحصل ما هو المقصود وهو انهار الدم المسفوح- (مسئلة:) يجوز الذبح بكل ما ينهر الدم ويحصل القطع من زجاج او حجر او قصب او(3/21)
غير ذلك إذا كان له حدة وكذا يجوز بالسن والظفر والقرن إذا كان منزوعا ذى حدة عند ابى حنيفة رح الا انه يكره كذا فى الهداية وقالت الأئمة الثلاثة لا يجوز بالسنّ والظفر والقرن ويكون ميتة عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم انا لاقوا العدو غدا وليست معنا مدى افنذبح بالقصب قال ما انهر الدم وذكر اسم الله فكل ليس السن والظفر وساحدثك عنه اما السن فعظم واما الظفر فمدى الحبشة متفق عليه وعن كعب بن مالك انه كانت لنا غنم يرعى بسلع فابصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها فسال النبي صلى الله عليه وسلم فامره بأكلها رواه البخاري وعن عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ارايت أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة «1» وشقة العصى قال امرر الدم بما شئت واذكر اسم الله رواه ابو داود والنسائي وعن عطاء بن يسار عن رجل من بنى حارثة انه كان يرعى لقحه بشعب من شعاب أحد فراى بها الموت فلم يجد ما ينحرها به فاخذ وتدا فوجأ به من لبتها حتى اهراق دمها ثم اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فامره بأكلها رواه ابو داود ومالك وفى رواية فذكاها بشظاظ «2» احتج ابو حنيفة رح فى الخلافية بعموم قوله صلى الله عليه وسلم ما انهر فكل وقوله صلى الله عليه وسلم امرر الدم بما شئت واحتج الائمة الثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم ليس السن والظفر حيث استثنى مما انهر الدم
وأجاب ابو حنيفة رح بانه محمول على غير المنزوع فان الحبشة كانوا يذبحون بظفر غير منزوع والظاهر ان المراد بالسن فى الاستثناء ما ليس فيه حدة يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم اما السن فعظم ولا يجوز بسن وظفر غير منزوعين اجماعا لانه يقتل بالثقل فيكون فى معنى المنخنقة- (مسئلة:) يستحب للذابح ان يحد شفرته لقوله صلى الله عليه وسلم ان الله كتب الإحسان على كل شىء فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته رواه مسلم عن شداد بن أوس- (مسئلة:) لو رمى الى صيد فى الهواء فاصابه فسقط على الأرض ومات كان حلالا لان الوقوع على الأرض من ضرورته وان سقط فى الماء او على جبل او شجر ثم تردى منه فمات لا يحل أكله وهو من المتردية والذي مات بالغرق الا ان يكون السهم أصاب مذبحه
__________
(1) الشظاظ خشبة محددة الطرف تدخل فى عروقى الجو القين لتجمع بينهما عند حملها على البعير 12
(2) بالمروة الحجر الأبيض والمراد هاهنا كل حجر له حد 12(3/22)
فى الهواء فيحل كيف ما وقع لان الذبح قد حصل بأصابة السهم المذبح وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قيل النصب جمع واحدها نصاب ككتب وكتاب وقيل هو واحد وجمعها أنصاب كعنق وأعناق وهو الشيء المنصوب قال مجاهد وقتادة كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة كان اهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون بها وليست هى بأصنام انما الأصنام هى الصورة المنقوشة وقال الآخرون هى الأصنام المنصوبة وقال قطرب على بمعنى اللام ومعناه ما ذبح لاجل النصب وقال ابن زيد ما ذبح على النصب وما اهل لغير الله به واحد قلت العطف يقتضى التغاير فالظاهر ما قيل انها كانت حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة وحرم عليكم وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ اى الاستسقام اى طلب معرفة ما قسم لهم مما لم يقسم لهم بالأزلام وهى القداح التي لا ريش لها ولا نصل واحدها زلم بفتح الزاء وضمها وكانت ازلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط تكون عند «1» سادن الكعبة مكتوب على واحد منها نعم وعلى واحد لا وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وواحد غفل ليس عليه شىء فكانوا إذا أرادوا امرا من سفر او نكاح او ختان او غيره او اختلفوا فى نسب او اختلفوا فى تحمل عقل جاؤا الى هبل وكانت أعظم أصنام قريش بمكة وجاؤا بمائة درهم أعطوها صاحب القداح حتى يحيل القداح وو يقولون يا الهنا انا أردنا كذا كذا فان خرج نعم فعلوا وان خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا الى القداح ثانية وإذا جالوا على نسب فان خرج منكم كان وسيطا منهم وان خرج من غيركم كان حليفا وان خرج ملصق كان على منزلة لا نسب له ولا حلف وإذا اختلفوا فى عقل فمن خرج قدح العقل حمله وان خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج مكتوب فنهى الله عن ذلك وحرمه وقال ذلِكُمْ فِسْقٌ قال سعيد بن جبير الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها وقال مجاهد كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها وقال الشعبي وغيره الأزلام للعرب والكعاب للعجم وقال سفيان بن وكيع هى الشطرنج قلت وكل شىء يطلب به علم الغيب على نحو هذا الطريق كعلم الرمل بضرب الكعاب واستخراج إشكال النقاط وما يقال بالفارسية فال نامه وكل ما يقامر بها فهو داخل فى الاستقسام بالأزلام عبارة او دلالة جلية او خفية والله اعلم وعن ابى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تكهن او
__________
(1) اى خادم الكعبة ومتولى أمرها من فتح الباب والاغلاق 12(3/23)
استقسم او تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر الى الدرجات العلى من الجنة يوم القيمة رواه البغوي وعن قبيصة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» العيافة والطيرة «2» والطرق من الجبت رواه ابو داود بسند صحيح والطرق الضرب بالحصى الْيَوْمَ لم يرد يوما بعينه وانما أراد الحاضر وما يتصل به من الازمنة الآتية وقيل أراد يوم نزولها يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ان يبطلوه او ان يغلبوا على اهله او ان يرجع عنه اهله بتحليل الخبائث وغيرها فَلا تَخْشَوْهُمْ ان يظهروا عليكم ويبطلوا دينكم وَاخْشَوْنِ اثبت الياء فى الوصل خاصة ابو عمرو وحذفها الباقون فى الحالين يعنى أخلصوا الخشية لى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على اصول الشرائع من الفرائض والواجبات والسنن والآداب والحلال والحرام والمكروه وموجبات الفساد لما له وجود شرعى كالصلوة والصوم والبيع ونحوها وقوانين الاجتهاد فيما لا نص فيه وجاز ان يكون المراد بإكمال الدّين بلوغه صلى الله عليه وسلم فى معارج القرب الى مرتبة يغبطه الأولون والآخرون حتى غفر لكمال محبوبيته جميع ذنوب أمته حتى الدماء والمظالم عن عباس بن مرداس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لامته عشية عرفة بالمغفرة فاجيب انى قد غفرت لهم ما خلا المظالم فانى أخذ للمظلوم منه قال اى رب ان شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم فلم يجب عشيته فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فاجيب الى ما سأل قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم او قال تبسم فقال ابو بكر وعمران هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي اضحكك اضحك الله سنّك قال ان عدو الله إبليس لما علم ان الله قد استجاب دعائى وغفر لامتى أخذ التراب فجعل يحثوه على راسه ويدعو بالويل والثبور فاضحكنى ما رأيت من جزعه رواه ابن ماجة والبيهقي فى كتاب البعث قال ابن عباس لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شىء من الفرائض والسنن والحدود والاحكام فان قيل يروى عن ابن عباس ان آية الربوا نزلت بعدها قلنا ان صح هذا فالمراد ان قوله تعالى فى اخر البقرة الذين يأكلون الربوا لا يقومون الى قوله تعالى يايها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا الآية نزلت بعد ذلك ولا شك ان حرمة الربوا كانت قبل نزول تلك الآية
__________
(1) العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها ومهرها 12 نهاية
(2) الطيرة التشاؤم بالشيء 12 نهايه(3/24)
وانما نزلت تلك الاية للتوبيخ وقد ورد فى حديث جابر عند مسلم فى قصة حجة الوداع قوله صلى الله عليه وسلم وربوا الجاهلية موضوع وأول ربوا أضع من ربانا ربوا عباس بن عبد المطلب فانه موضوع كله وقال سعيد بن جبير وقتادة أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك وقيل أظهرت دينكم على الأديان كلها وامنتكم من الأعداء- (فائدة) نزلت هذه الاية يوم الجمعة عرفة بعد العصر فى حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندقّ من ثقلها فنزلت روى الشيخان فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب ان رجلا من اليهود قال له يا امير المؤمنين اية فى كتابكم تقرءونها لو نزلت علينا معشر اليهود ما نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال ايّة اية قال اليوم أكملت لكم دينكم الاية قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة أشار عمر الى ان ذلك اليوم كان عيد النابل عيدين الجمعة وعرفة قال البغوي روى هارون بن عنترة عن أبيه قال لما نزلت هذه الآية بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عمر قال أبكاني انا كنا فى زيادة من ديننا فاما إذ أكمل فانه لم يكمل شىء الا نقص قال صدقت وكان هذه الاية نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحد وثمانين يوما ومات يوم الاثنين بعد ما زاغت الشمس لليتين خلتا من شهر ربيع الاول سنة أحد عشر وكانت هجرته فى الثاني عشر منه وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعنى أنجزت وعدي بقولي ولاتم نعمتى عليكم وإتمام النعمة بالهداية والتوفيق وإكمال الدين وفتح مكة وهدم منار الجاهلية حتى حجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين وَرَضِيتُ اى اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ من بين الأديان دِيناً وهو الدين الصحيح عند الله لا غير روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال جبرئيل قال الله تعالى هذا دين ارتضيه لنفسى ولن يصلحه الا السخاء وحسن الخلق فاكرموه بهما ما صحبتموه والله اعلم فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها من تعظيم الدين وذكر المنة على المؤمنين باكماله وكون ارتكابها فسقا يعنى من اضطر الى أكل شىء مما ذكر فِي مَخْمَصَةٍ وهى خلو البطن من الغذاء يقال رجل خميص البطن اى جائع غَيْرَ مُتَجانِفٍ اى مائل لِإِثْمٍ اى الى اثم بان يأكلها تلذذا او عجاوزا عن(3/25)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
حد الرخصة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقديره فاكله فان الله غفور رحيم يغفره قد ذكرنا هذا البحث وما يناسبه فى سورة البقرة روى البغوي بسنده عن ابى واقد الليثي ان رجلا قال يا رسول الله انا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى يحل لنا الميتة فقال ما لم تصطبحوا او تغتبقوا او تحتفؤا بها بقلا فشانكم بها الغبوق شراب اخر النهار مقابل الصبوح كذا فى النهاية واحتفى البقل اقتلعه من الأرض كذا فى القاموس والله اعلم روى الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن ابى رافع قال جاء جبرئيل الى النبي صلى الله عليه وسلم فاستاذن عليه فاذن له فابطأ فاخذ ردائه فخرج اليه وهو قائم بالباب فقال قد اذنّا لك فقال أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فاذا فى بعض بيوتهم جرؤا فأمر أبا رافع لا يدع كلبا بالمدينة الا قتله فاتاه ناس فقالوا يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الامّة التي أمرت بقتلها فنزلت.
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة وروى ابن جرير عن عكرمة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع فى قتل الكلاب حتى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عدى وسعد بن حتم وعويمر بن ساعدة فقالوا ماذا أحل لنا يا رسول الله فنزلت هذه الآية واخرج عن محمد بن كعب القرظي قال امر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فقالوا يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الامّة فنزلت واخرج من طريق الشعبي ان عدى بن حاتم الطائي قال اتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب فلم يدرعا يقول حتى نزلت هذه الآية واخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير ان عدى بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا انا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وان كلاب آل دريح تصيد البقر والحمير والظباء وقد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت يسالونك ماذا أحل لهم يعنى من الانتفاع بالكلاب ومن الصيد الذي تصيدها الكلاب قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هذا زائد على قدر الجواب وسنذكر شرحه فيما بعد إنشاء الله تعالى والجواب قوله تعالى وَما عَلَّمْتُمْ عطف على الطيبات ان كانت ما موصولة والعائد محذوف والتقدير أحل لكم صيد ما علمتموه والجملة شرطية ان كانت ما شرطية وجواب الشرط فيما سيأتى اعنى فكلوا مِنَ الْجَوارِحِ بيان لما والمراد بها السباع من البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر وغيرها والبازي والصقر والشاهين وغيرها والجرح اما من الكسب يقال فلان جارحة اهله اى كاسبهم ومنه يقال للاعضاء الجوارح لانها(3/26)
كاسبة للافعال وهذه السباع كاسبة لاربابها أقواتهم من الصيد واما من الجراحة فانها تجرح فى الصيد وبناء على هذا التأويل قال ابو حنيفة رح واحمد رح واكثر العلماء رح لا بد فى الصيد من الجرح فلو قتل الكلب الصيد من غير جرح بان صدمه او خنقه فمات لا يحل أكله وقال الشافعي رح فى أحد قوليه يحل ولا يشترط الجرح نظرا الى التأويل الاوّل قال صاحب الهداية لا تنافى بين التأويلين فى الاية وفى الجمع بين التأويلين أخذ باليقين فلا بد من اشتراط الجرح وفى الكفاية النهى إذا ورد فيه اختلاف المعاني فانكان بينهما تناف يثبت أحدهما بدليل توجب ترجيحه وان لم يكن بينهما تتاف يثبت الجميع أخذا باليقين كذا ذكر فخر الإسلام فان قيل فعلى هذا يلزم القول بعموم المشترك وهو خلاف مذهب ابى حنيفة رح قلنا عموم المشترك ان يريد المتكلم من لفظ مشترك كلا المعنيين جميعا كما يراد بالعام وان يحكم السامع بشمول الحكم لكلا المعنيين جميعا كما فى العام وهاهنا ليس كذلك بل نقول ان المراد عند الله تعالى من الجوارح أحدهما لكن لما لم يقم دليل قاطع على تعيين أحدهما ولا منافاة بينهما أخذنا بهما احتياطا واحتج الحنفية ايضا على اشتراط الجرح انه لا بد من الذكوة والذكوة الاضطراري الجرح فى اى موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة اليه بالاستعمال وان كسر عضوا فقتله ففى رواية عن ابى حنيفة رح انه لا بأس باكله لانه جراحة باطنة فهى كالجراحة الظاهرة والصحيح من مذهبه انه لا يؤكل لان المعتبر جرح ينتهض سببا لانهار الدم ولا يحصل ذلك بالكسر فاشبه التخنيق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انهر الدم وذكر اسم الله فكل وكذا يشترط الجرح فى الرمي اجماعا لحديث عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله انا نرمى بالمعراض قال كل ما خزق «1» وما أصاب بعرضه فقتله فانه وقيذ فلا تأكل متفق عليه (مسئلة:) يجوز الاصطياد بكل جارح من البهائم والطيور وعن ابى يوسف رح انه استثنى من ذلك الأسد والذئب لانها لا يعملان لغيرهما الأسد لعلو همته والذئب لخساسته والحق بهما البعض الحداءة لخساسة والخنزير مستثنى اجماعا لانه نجس العين لا يجوز الانتفاع به بوجه قلت لا وجه لاستثناء الأسد والذئب والحدأة من الجوارح والقول بانهما لا يعملان لغيرهما لا يضر فانهما حينئذ يخرجان من قوله تعالى ما علمتم وقال احمد لا يحل صيد الكلب الأسود البهيم لحديث عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم
__________
(1) خزق السهم وخسق إذا أصاب الرمية ونفذ فيها 12 نهايه(3/27)
لولا ان الكلب امّة من الأمم لامرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم رواه ابو داود والترمذي والدارمي وعن جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فانه شيطان رواه مسلم والجمهور على انه يحل صيده لعموم الآية والله اعلم- مُكَلِّبِينَ حال من الضمير المرفوع فى علمتم وفائدتها المبالغة فى التعليم والإغراء والمكلب الذي يغرى الكلاب على الصيد ويعلمها ويودبها مشتق من الكلب لان التأديب يكون فيه اكثر واثر او لان كل سبع يسمى كلبا فى القاموس الكلب كل سبع عقور وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عتبة بن ابى لهب وقد كان يسبّ النبي صلى الله عليه وسلم اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك فخرج فى قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فقال انى أخاف دعوة محمّد فحطّوا متاعهم حوله وقعدوا يحرسونه فجاء الأسد فانتزعه فذهب به أخرجه الحاكم فى المستدرك من حديث ابى نوفل بن ابى عقرب عن أبيه وقال صحيح الاسناد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية او استيناف مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من طرق التأديب او مما علمكم ان تعلموها من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وان يمسك الصيد ولا يأكل منه ويعلم كونه معلما بتكرر ظهور اثار التعليم هذه منها ثلث مرات أسند الله سبحانه التعليم الى نفسه لان العلوم كلها التصورية والتصديقية البديهية والنظرية ملهمة من الله تعالى والعقل والفكر فى بعض الأمور سبب عادى والعلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين انما يحصل بفيضان من الله تعالى على مقتضى جرى العادة فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ اى الجوارح عَلَيْكُمْ يعنى مما لم تأكل منه وهذا التفسير مستفاد من حديث عدى بن حاتم قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فان امسك فادركته حيا فاذبحه وان أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله وان أكل فلا تأكله فانما امسك على نفسه الحديث متفق عليه وفى رواية بلفظ ما علمت من كلب او باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل مما اسكن عليك قلت وان قتل قال ان قتله ولم يأكل منه فكله وان أكل فلا تأكله فانما امسكه على نفسه رواه ابو داود والبيهقي من رواية مجالد عن الشعبي عنه وقال البيهقي تفرد مجالد بذكر الباز فيه وخالفه الحفاظ فهذه الآية بهذا التفسير المستفاد من الحديث حجة لابى حنيفة رح واحمد رح والشافعي رح فى أصح قوليه ان الكلب إذا أكل من الصيد لا يباح أكله قال البغوي وهو المروي(3/28)
عن ابن عباس وهو قول عطاء وطاؤس والشعبي والثوري وابن المبارك قالوا اية كون الكلب معلّما ان لا يأكل ثلث مرات فاذا ترك الاكل ثلث مرات حل صيده فى الرابعة وفى رواية عن ابى حنيفة رح حل صيده فى الثالثة وقال مالك رح لا بأس بأكل الكلب من الصيد ويحل أكله وهو أحد قولى الشافعي رح قال البغوي وهو المروي عن ابن عمر وسلمان الفارسي وسعد بن ابى وقاص لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له ابو ثعلبة فقال يا رسول الله ان لى كلابا مكلبة فافتنى فى صيدها فقال ان كانت لك كلابا مكلبة فكل مما أمسكن عليك قال ذكىّ وغير ذكىّ قال ذكىّ وغير ذكىّ قال وان أكل منه قال وان كل منه رواه ابو داود قلت هذا الحديث أعله البيهقي وحديث عدى بن حاتم متفق على صحته والله اعلم قلت وهذه الاية بهذا التأويل وما رواه ابو داود برواية مجالد عن الشعبي من الحديث يقتضى اشتراط ترك الاكل فى سباع الطيور ايضا واليه ذهب بعض الفقهاء وقال ابو حنيفة رح لا يشترط ذلك فى السباع الطيور لان بدن الطيور لا يتحمل الضرب وبدن الكلاب يتحمله فيضرب ليتركه اخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل لان الكلب يستطيع ان تضربه والصقر لا يستطيع ان تضربه فان قيل هذا استدلال فى مقابلة نص الكتاب والسنة قلنا الكتاب ليس بظاهر الدلالة على اشتراط عدم الاكل فان الإمساك ضد الإرسال لا ضد الاكل
وانما اشترطنا عدم الاكل فى الكلب بحديث الصحيحين وما تفرد به مجالد لا يعتد به لمخالفة الحفاظ ومخالفة القياس والله اعلم وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير عايد الى ما علمتم يعنى سموا عليه عند إرساله فيشترط التسمية عند إرسال الكلب والباز ونحوهما وكذا عند الرمي كما يشترط عند الذبح غير ان التسمية عند الذبح انما هو على المذبوح وفى الصيد على الآلة لان المقدور فى الاوّل الذبح وفى الثاني الرمي والإرسال دون الاصابة فيشترط عند فعل يقتدر عليه حتى لو اضجع شأة وسمّى وذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز ولو رمى الى صيد وسمى وأصاب صيدا غيره حل ولو اضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة وذبح بأخرى أكل وان سمى على سهم ثم رمى بغيره لا يؤكل والتسمية على المذبوح هو الأصل وجواز التسمية على الآلة انما هو عند العجز عن الأصل فان أدرك مرسل للباز او الكلب بالتسمية او الرامي بالتسمية الصيد حيا وجب عليه ان يذكّيه ويذكر اسم الله عند الذبح ثانيا وان ترك تذكية حتى مات لم يؤكل وهذا إذا تمكن من ذبحه واما إذا وقع فى يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من(3/29)
الحيوة فوق ما يكون فى المذبوح لم يؤكل عند ابى حنيفة رح وفى رواية عنه وعن ابى يوسف رح انه يحل وهو قول الشافعي رح لانه لم يقدر على الأصل وقال بعضهم ان لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل وان لم يتمكن لضيق الوقت أكل عند ابى حنيفة رح خلافا للشافعى رح- (مسئلة:) ان ترك التسمية عامدا عند إرسال الكلب او السهم او عند الذبح او شاركه كلب غير معلم او كلب مجوسى او كلب لم يذكر اسم الله عليه عمدا لا يحل أكله لفوات شرط الحل فى هذه الاية ولقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ولحديث عدى بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرسل كلبى فاجد معه كلب اخر قال فلا تأكل فانما سميت على كلبك ولم تسم على كلب اخر متفق عليه وعنه قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فان امسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وان أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله وان أكل فلا تأكل فانما امسك على نفسه فان وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فانك لا تدرى أيهما قتل وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله فان غاب عنك يوما فلم تجد فيه الا اثر سهمك فكل ان شئت وان وجدته غريقا فى الماء فلا تأكل متفق عليه وعن ابى ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك غير معلم فادركت ذكوته فكل متفق عليه (مسئلة:) وكذا ان ترك التسمية ناسيا عند احمد ويحل عند ابى حنيفة رح وهو رواية عن احمد رح وبه قال مالك رح كذا فى كتب المالكية وعن احمد ان نسيها على الذبيحة حلت واما على الصيد فلا وعنه ان نسيها على السهم حلت واما على الكلب والفهد فلا وقال الشافعي رح وهو رواية عن مالك يحل مطلقا وبه قال ابو القاسم من المالكية سواء ترك التسمية عامدا او ناسيا على الذبيحة او على الصيد بالكلب او بالسهم بعد ان كان الكلب معلما والمكلب مسلما او كتابيا ويحرم بمشاركة الكلب غير المعلم وكلب المجوسي والحجة على حل متروك التسمية مطلقا حديث عائشة رض ان قوما قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم ان قوما يأتونا باللحم لا يدرى اذكر اسم الله أم لا فقال سموا أنتم وكلوا قالت وكانوا حديثى العهد بالكفر رواه البخاري وعن ابى هريرة قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ارايت الرجل منا يذبح وينسى ان يسمى الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله فى فم كل مسلم رواه الدار قطنى وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال المسلم(3/30)
ان نسى ان يسمى حين يذبح فليسم وليذكر اسم الله ثم لياكل رواه الدار قطنى وعن الصلت قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله او لم يذكر رواه ابو داود فى المراسيل ورواه البيهقي من حديث ابن عباس موصولا وفى اسناده ضعف وقال البيهقي الأصح وقفه على ابن عباس والجواب ان الحديث الاوّل لا يدل على ترك التسمية والظاهر تسميتهم واما الثاني ففيه مروان بن سالم قال احمد ليس ثقة وقال النسائي والدار قطنى متروك واما الثالث ففيه معقل مجهول واما الرابع فمرسل ثم الحديث الثاني والثالث فى متروك التسمية ناسيا فليس فيهما حجة للشافعى رح والحديث الرابع نحمله على حالة النسيان قال صاحب الهداية وهذا القول من الشافعي رح يعنى يحل متروك التسمية عامدا مخالف للاجماع فانه لا خلاف فيمن كان قبله فى حرمة متروك التسمية عامدا وانما الخلاف بينهم فى متروك التسمية ناسيا فمن مذهب ابن عمر انه يحرم ومن مذهب على وابن عباس يحل بخلاف متروك التسمية عامدا ولهذا فأل ابو يوسف رح متروك التسمية عامد الا يسع فيه الاجتهاد ولو قصى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للاجماع- (مسئلة:) ما استأنس من الصيد فذكوته الذبح وما توحش من الإبل والبقر فذكوته العقر والجرح واما الشاة فاذا ندت فى الصحراء فذكوته العقر وان ندت فى المصر لا تحل بالعقر لانه يمكن أخذها فى المصر ومبنى الحكم على ان ذكوة الاضطرار انما يصار اليه عند العجز عن ذكوة الاختيار والعجز متحقق فيما توحش من النعم دون ما استأنس من الصيد وكذا ما تردى من النعم فى بير ووقع العجز عن ذكوته الاختيارية جاز فيه الذكوة الاضطرارية عند الجمهور وقال مالك لا يجوز ذكوة النعم الا فى الحلق واللبة لان توحشها نادر فلا عبرة به لنا حديث رافع بن خديج قال أصابنا نهب ابل فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فاذا غلبكم منها شىء فافعلوا به هكذا متفق عليه وعن ابى العشراء عن أبيه انه قال يا رسول الله اما يكون الذكوة الا فى الحلق واللبة فقال لو طعنت فى فخذها لاجزأ عنك رواه احمد واصحاب السنن الاربعة والدارمي وقال ابو داؤد هكذا ذكوة المتردى وقال الترمذي هذا فى الضرورة ورواه الحافظ ابو موسى فى مسند ابى العشراء بلفظ لو طعنت فى فخذها او شأكلتها وذكرت اسم الله لاجزأ عنك وقال الشافعي رح(3/31)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
تردى بعير فى بير فطعن فى شاكلته فسأل ابن عمر عن أكله فأمر به- (مسئلة:) إذا رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد ولا يؤكل العضو وقال الشافعي رح أكلا وان مات الصيد منه لانه مبان بذكاة اضطراري فيحل المبان والمبان منه ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم ما أبين من الحي فميت وَاتَّقُوا اللَّهَ فى محرماته إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيؤاخذكم بما جل ودق.
الْيَوْمَ يعنى الان عند كمال الدين الى يوم القيامة إذ لا نسخ بعد الإكمال أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ كرره للتأكيد ولفظ الطيبات ضد الخبائث مجمل التحق الأحاديث النبوية البينة للطيبات والخبائث بيانا له ثم قيس على موارد النصوص أشباهها والأصل فيه ان ما ورد النص بكونه حلالا ظهرانه طيب وما ورد النص بكونه حراما ظهر كونه خبيثا وما ورد الأمر بقتله وسماه خبيثا فاسقا فهو خبيث حرام كما روى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس لا جناح على من قتلهن فى الحرم والإحرام الفارة والغراب والحداة والعقرب والكلب العقور متفق عليه وعن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم قال خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفارة والكلب العقور والحدأة متفق عليه وعن ابى هريرة فى الحية ما سالمنا هم منذ حاربناهم ومن ترك شيئا منهم خيفة فليس منا رواه ابو داود وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثارهن فليس منى رواه ابو داود والنسائي وما لم يرد النص فيه يقاس اما على الطيّبات بجامع استطابة الطبائع السليمة من العرب واما على الخبائث بجامع استقذار الطبائع السليمة منهم وكانت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعون يكرهون ما يأكل الجيف أخرجه ابن ابى شيبة من طريق ابراهيم النخعي ولذا قال جمهور العلماء لا يؤكل من الدواب والطيور ما يأكل الجيف والنهى عن قتل حيوان لا يدل على حرمته ولا على كراهته ما لم يدل عليه دليل اخر عند الائمة الثلاثة وعند الشافعي رح يدل على تحريمه فلا يحرم الهدهد والطاووس عند الثلاثة خلافا للشافعى رح- (مسئلة:) كل حيوان ذى ناب من السباع كالاسد والذئب والنمر والفهد والكلب والهرة وذى مخلب من الطير كالصقر والباز والحدأة ونحوها فاكله حرام عند الائمة الثلاثة وقال مالك رح يكره ولا يحرم شىء من ذلك لقوله تعالى قل لا أجد فيما اوحى الى محرما على طاعم يطعمه الآية وهذا هو الأصل لمالك فى جميع مسائل الباب قلنا هذه الآية تدل على عدم وجدان الحرمة(3/32)
حالة نزول هذه الاية لا بعد ذلك وسنذكر البحث عن الآية فى موضعها إنشاء الله تعالى وقد ظهر حرمة غير المذكورات فى الآية بعد ذلك بنصوص صحيحة تلقته الامة بالقبول منها حديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذى ناب من السباع فاكله حرام رواه مسلم وعن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذى ناب من السباع وذى مخلب من الطير رواه مسلم قال ابن عبد البر مجمع على صحته وكذا روى عبد الله بن احمد فى زيادات المسند من حديث على وفى اسناده علة وروى احمد نحوه من حديث جابر وعن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها رواه ابو داود والترمذي (مسئلة:) الضبع والثعلب حرام عند ابى حنيفة رح مكروه عند مالك رح كسائر السباع وقال الشافعي رح واحمد رح يحلهما وفى رواية عن احمد رح لا يحل الثعلب قال صاحب الهداية هما من السباع وفى الكفاية ان لهما نابان يقاتلان بانيا بهما فلا يؤكلان كالذئب احتج الشافعي رح بحديث جابر انه سئل عن الضبع اصيد هى قال نعم قيل أيؤكل قال نعم قيل أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم رواه الشافعي رح واصحاب السنن غير ابى داود والبيهقي وصححه البخاري والترمذي وغيرهما وأعله ابن عبد البر بعبد الرحمن بن ابى عمارة ووثقه ابو ذرعة والنسائي وقال الشافعي رح وما يباع لحم الضباع الّا بين الصفا والمروة ورواه ابو داود بلفظ سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم قلت كونه صيدا وجزائه بكبش فى الإحرام لا يقتضى حله فانه يجب على المحرم الجزاء بقتل صيد حرم لحمه والصيد هو الحيوان المتوحش الممتنع بالطبع وحديث حل الضبع لا يقوى قوة حديث حرمة السباع وعند التعارض الترجيح للمحرم على المبيح احتياطا ولئلا يلزم تكرار النسخ كما بين فى الأصول واماما رواه
الترمذي من حديث خزيمة بن جرير او يأكل الضبع أحد فضعيف لا تفاقهم على ضعف عبد الكريم بن امية والراوي عنه امية بن مسلم- (مسئلة:) يحرم حشرات الأرض مثل الفار والوزغ وغيرها عند الائمة الثلاثة وقال مالك رح يكره ولا يحرم لما ذكرنا لنا حديث أم شريك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر بقتل الوزغ وقال كان ينفخ على ابراهيم متفق عليه وعن سعد رض بن ابى وقاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر بقتل الوزغ وسماه فويسقا رواه مسلم وعن ابى هريرة رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل وزغا فى أول ضربة كتبت له مائة حسنة(3/33)
وفى الثانية دون ذلك وفى الثالثة دون ذلك رواه مسلم وسبق فى الحديث الأمر بقتل الفارة فى الحل والحرم وتسميته فاسقة فيحرم الحشرات كلها استدلالا بالوزغ والفارة ومنها القنفذ وهو حلال عند مالك رح والشافعي رح وقال ابو حنيفة رح بتحريمه لانه من الحشرات ولما روى ابو داود من حديث عيسى بن نميلة عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن القنفذ فقرأ هذه الآية قل لا أجد فيما اوحى الىّ الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة رضى الله عنه يقول ذكر القنفذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر ان كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قاله قال البيهقي فيه ضعف ولم يرو الا بهذا الاسناد- (مسئلة:) يحرم الضب واليربوع عند ابى حنيفة رح وعند مالك رح والشافعي رح هما حلالان وقال احمد الضبّ حلال وفى اليربوع عنه روايتان احتجوا على حل الضب بحديث ابن عمر رض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الضب لست أكله ولا احرمه متفق عليه وعن ابن عباس رض ان خالد بن الوليد أخبره انه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة وهى خالته وخالة ابن عباس فوجد عندها ضبا محنوذا «1» فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضب فقال خالد احرام الضب يا رسول الله قال لا ولكن لم يكن بأرض قومى فاجدنى إعافة قال خالد فاجتررته فاكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر الى متفق عليه قال ابو حنيفة رح الضب من الحشرات وهذا استدلال فى مقابلة النصّ الصحيح الصريح وذكر فى الهداية ان النّبى صلى الله عليه وسلم نهى «2» عائشة حين سألت عن أكل الضب ولا اعرف ذلك الحديث- (مسئلة:) يحلّ أكل الجراد ميتا على كل حال وقال مالك رح لا يؤكل منه ما مات على حتف انفه من غير سبب يضع به يعنى يكره احتج الجمهور بحديث ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان والدمان فاما الميتتان فالجراد والحوت
__________
(1) محنوذا بالحاء المهملة والنون والذال المعجمة اى مشويا 12
(2) حديث عائشة رضى الله عنها أورده صاحب المشكوة فى باب ما يحل أكله وما لا يحل أكله من حديث عبد الرحمن بن شبل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الضب رواه ابو داود هكذا وجدت فى اصل النسخة فليحقق(3/34)
واما الدمان فالكبد والطحال رواه الشافعي واحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم عن أبيه عنه وعبد الرحمن بن زيد ضعيف متروك ورواه الدارقطني عن زيد بن اسلم موقوفا على ابن عمر فقال وهو أصح وكذا صحح الموقوف ابو ذرعة وابو حاتم وأخرجه الخطيب من رواية مسور بن الصلت عن زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار عن ابى سعيد الخدري والمسور قد كذبه احمد بن حنبل وقال ابن حبان يروى عن الثقات الموضوعات (مسئلة:) يحرم أكل لحوم الحمر الاهلية والبغال عند الائمة الثلاثة وقال مالك رح يكره لنا حديث ابى ثعلبة قال حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الاهلية متفق عليه وفى رواية عن احمد رح امر عبد الرحمن بن عوف ينادى بالناس ان لحوم الحمر الانسية لا تحل لمن شهد انى رسول الله وعن جابر انه صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الاهلية وأذن فى الخيل متفق عليه وعنه قال حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحمر الانسية ولحوم البغال وكل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير رواه الترمذي وقال حديث غريب ورواه احمد بلفظ حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الانسية ولحوم الثعالب وكل ذى ناب من السباع وذى مخلب من الطير وعنه قال أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر رواه الترمذي وصححه والنسائي وعن ابى هريرة رض ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم يوم خيبر كل ذى ناب من السباع والحمر الانسية رواه احمد وعن البراء بن عازب قال أصبنا يوم خيبر حمرا فاذا ينادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اكفئوا القدور متفق عليه وعن على رضى الله عنه ان النبىّ صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية متفق عليه وفى الباب حديث ابى سليط وانس وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن ابى اوفى وخالد بن الوليد وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والمقدام بن معد يكرب وعمرو بن دينار- (مسئلة:) يحل أكل لحوم الخيل عند الجمهور وبه قال ابو يوسف ومحمد رحمهما الله وقال ابو حنيفة ومالك رحمهما الله يكره ثم قيل الكراهة عند ابى حنيفة رح كراهة تحريم وقيل كراهة تنزيه قال صاحب الهداية الاول أصح احتج الجمهور لما مر من حديث جابر اذن فى الخيل وحديث اسماء «1» قال نحرنا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فاكلناه ونحن بالمدينة متفق عليه
__________
(1) اسماء لم نقف على اسمه- مصحح.(3/35)
زاد احمد فيه نحن واهل بيته احتج ابو حنيفة رح بقوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة قال خرج مخرج الامتنان والاكل من أعلى منافعها والحكيم لا يترك الامتنان بالأعلى ويمن بالأدنى وبحديث خالد بن الوليد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم انه قال حرام لحوم الحمر الاهلية وخيلها وفى لفظ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير رواه احمد برواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام عن خالد قال احمد هذا حديث منكر وقال موسى ابن هارون لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه الا بجده وقال الدارقطني هذا حديث ضعيف قال ابن الجوزي وفى بعض ألفاظ هذا الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر قال الواقدي انما اسلم خالد بعد خيبر والله اعلم- (مسئلة:) يكره عند ابى حنيفة رح ابن عرس فانه من سباع الهوام- (مسئلة:) يكره عند الائمة الثلاثة أكل الرخم والبغاث لانهما يأكلان الجيف والأبقع الذي يأكل الجيف وكذا الغراب وكذا النسر وكذا كل ما يأكل الجيف ولا ياس بغراب الزرع لانه يأكل الحب وليس من سباع الطير ولا بأس بأكل العقعق لانه يخلط فاشبه الدجاجة وعن ابى يوسف رح انه يكره لان غالب أكله الجيف- (مسئلة:) يحرم أكل الجلّالة وبيضها ولبنها عند احمد رح ما لم يحبس فانكان طائرا فثلثة ايام وان كان من الإبل فاربعين يوما والبقر ثلثين والغنم سبعة والدجاجة ثلثة وفى رواية كلها ثلثة وعند الائمة الثلاثة يكره تحريما ان ظهر النتن فى لحمها او لبنها وتحبس حتى تزول رائحة النجاسة عن ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى لبن الشاة الجلالة رواه احمد وعن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة «1» وألبانها رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة وعن عبد الله بن عمر وقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة ان يؤكل لحمها ولا يشرب ألبانها ولا يركبها الناس حتى ينقضه أربعين ليلة رواه البيهقي والدارقطني وفيه إسماعيل بن ابراهيم ابن مهاجر عن أبيه قال ابن الجوزي هو وأبوه ضعيفان ورواه احمد وابو داود والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ نهى عن لحوم الحمر الاهلية وعن الجلالة وعن ركوبها-
__________
(1) الجلالة من الحيوان ما يأكل العذرة والجلة البعرة فوضع موضع العذرة 12 نهاية(3/36)
(مسئلة:) لا يؤكل من حيوان البحر الا السمك عند ابى حنيفة رحمه الله وقال مالك رحمه الله يؤكل كلها حتى السرطان والضفدع وكلب الماء وخنزيره لكنه كره الخنزير وحكى انه توقف فيه وقال احمد كلما يعيش ويولد فى البحر يحل أكله الا الضفدع والتمساح والكوسج ويحتاج عنده غير السمك الى الذبح كخنزير البحر وكلبه وانسانه واختلف اصحاب الشافعي رح فمنهم من قال مثل قول مالك ومنهم من قال مثل قول ابى حنيفة رحمه الله ومنهم من قال كل ما له شبه فى البر لا يوكل فلا يوكل كلب الماء وخنزيره وانسانه وحيته وفارته وعقربه ويوكل ما سوى ذلك ومنهم من قال يؤكل غير التمساح والضفدع والحية والعقرب والسرطان والسلحفاة احتج مالك رحمه الله ومن معه بعموم قوله تعالى أحل لكم صيد البحر من غير فصل وقوله صلى الله عليه وسلم فى البحر هو الطهور مائه والحل ميتته وأجيب بان المراد بالصيد الاصطياد بدليل قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فان المحرم هو اصطياد صيد البر فأما إذا صاد الحلال صيد البر بلا اعانة من المحرم ولا دلالة حل للمحرم أكله والمراد بالميتة هو السمك وقوله صلى الله عليه وسلم ما من دابة فى البحر الا قد ذكاه الله عز وجل لبنى آدم رواه الدارقطني من حديث جابر وروى عن عبد الله بن سرجس قوله صلى الله عليه وسلم ذبح كل نون لبنى آدم قلنا النون هو السمكة وسوق الحديث لعدم الاحتياج الى ذبح السمكة لا لعموم حل ما فى البحر ويدل على حل بعض ما فى البحر سوى السمكة حديث جابر قال غزوت جيش الخبط وامر ابو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فالقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر فاكلنا منه نصف شهر فاخذ ابو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته فلما قد منا ذكرنا للنبى صلى الله عليه وسلم فقال كلوا رزقا أخرجه الله إليكم وأطعمونا ان كان معكم قال فارسلنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فاكله متفق عليه وقالت الحنفية لعل ذلك الحيوان من اقسام السمك كما يدل عليه لفظ الحوت والحجة على حرمة الضفدع ونحوه مما يستقذر الطبع السليم قوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث وحديث عبد الرحمن بن عثمان قال ذكر طبيب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دواء وذكر الضفدع يجعل فيه فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع رواه احمد وابو داود والنسائي والبيهقي قال البيهقي هو أقوى ما ورد فى النهى-(3/37)
(مسئلة:) ويكره أكل الطافي من السمك عند ابى حنيفة رحمه الله ولا يكره عنه الجمهور احتجوا بما ذكرنا من حديث جابر فى العنبر وقوله صلى الله عليه وسلم هو الحل ميتة قلنا ورد فى حديث جابر انه القى البحر حوتا ميتا ومعناه القى البحر حوتا فماتت بإلقائه وذلك حلال اتفاقا وميتة البحر ما لفظه البحر حتى يكون موته مضافا الى البحر لا ما مات فيه بلا آفة احتج الحنفية بحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا طفا فلا تأكله وإذا جزر عنه فكله وما كان على حافته فكله رواه الدارقطني من طريق ابى احمد الزبيري عن سفيان الثوري عن ابى الزبير عن جابر قال الدارقطني لم يسنده عن الثوري غير ابى احمد ورواه وكيع وعبد الرزاق ومومل وغيرهم موقوفا وكذلك روى ابو أيوب السجستاني وعبد الله بن عمرو ابن جريح وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن ابى الزبير موقوفا ولا يصح رفعه ورواه الدارقطني من طريق اخر بلفظ كلوا ما حسر عنه البحر وما القى وما وجدتموه ميتا او طافيا فوق الماء فلا تأكلوه قال الدارقطني تفرد به عبد العزيز عن وهب وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به قال احمد هو ضعيف والحديث ليس بصحيح وقال النسائي هو متروك وله طريق اخر رواه ابو داود عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما القى البحر او جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفى فلا تأكلوه وفى هذا الطريق اسمعيل بن امية وهو متروك قال ابو داود
رواه سفيان وأيوب وحماد عن ابى الزبير فوقفوه على جابر والله اعلم- (مسئلة:) حل أكل الأرنب اجماعا لحديث انس قال انفجنا أرنبا بمر الظهران فأخذتها فاتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله متفق عليه- (فائدة) أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم الدجاج متفق عليه عن ابى موسى (فائدة) عن سفينة أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم الحبارى رواه ابو داود- وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ المراد بالطعام الذبائح لان سائر الاطعمة لا يختص حلها بالميتة وقوله تعالى الذين أوتوا الكتاب يشتمل اليهود والنصارى والصابئين ان كانوا يؤمنون بدين نبى ويقرءون بكتاب لا ان كانوا يعبدون الكواكب ولا كتاب لهم حربيا كان الكتابي او ذميا عجميا كان او عربيا او تغلبيا به قال ابو حنيفة رحمه الله(3/38)
وقالت الائمة الثلاثة لا يحل ذبيحة نصارى العرب من بنى تغلب قال ابن الجوزي روى أصحابنا حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبايح نصارى العرب وروى ابن الجوزي بسنده عن على رضى الله عنه قال لا تأكلوا من ذبايح نصارى بنى تغلب فانهم لم يتمسكوا من النصرانية بشئ الا شربهم الخمر ورواه الشافعي رحمه الله بسند صحيح عنه واخرج عبد الرزاق من طريق ابراهيم النخعي ان عليّا كان يكره ذبايح نصارى بنى تغلب ونسائهم قلت ولم يظهر لى صحة الحديث المرفوع فى الباب ولو صح فهو حديث احاد لا يصلح ناسخا للكتاب قال البغوي يريد الله سبحانه ذبايح اليهود والنصارى ومن دخل فى دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبىّ صلى الله عليه وسلم واما من دخل فى دينهم بعد مبعث النبىّ صلى الله عليه وسلم يعنى من غير اهل الإسلام فلا تحل ذبيحته قلت وهذا التقييد ليس بشئ عندنا قال صاحب الهداية لا يؤكل ذبيحة المرتد يعنى من كان مسلما ثم ارتد نعوذ بالله منها فصار يهوديا او نصرانيا او مجوسيا او وثنيا لا يوكل ذبيحته لانه لا ملة له لانه لا يقر على ما انتقل اليه بخلاف الكتابي إذا انتقل الى غير دينه لانه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله قال فى الكفاية حتى لو تمجس يهودى او نصرانى لا يحل صيده ولا ذبيحته بمنزلة ما لو كان مجوسيا فى الأصل وان تهود مجوسى او تنصر يوكل ذبيحته وصيده كما لو كان عليه فى الأصل لانه يقر على ما اعتقد عندنا- (مسئلة:) لو ذبح يهودى على اسم عزير ونصرانى على اسم عيسى لا يحل أكله عندنا قال فى الكفاية انما يحل ذبيحة الكتابي فيما إذا لم يذكر وقت الذبح اسم عزير او اسم المسيح واما إذا ذكر فلا يحل كما لا يحل ذبيحة المسلم إذا ذكر وقت الذبح اسم غير الله تعالى لقوله تعالى وما اهل به لغير الله فحال الكتابي فى ذلك لا يكون أعلى من حال المسلم وقال البغوي اختلف العلماء فى هذه المسألة قال ابن عمر لا يحل وذهب اكثر اهل العلم الى انه يحل وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا يحل فان الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وقال الحسن إذا ذبح اليهودي او النصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكله وإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله لك قلت والصحيح المختار عندنا هو القول الاوّل يعنى ذبايح الكتابي تاركا للتسمية عامدا او على غير اسم الله تعالى لا يؤكل ان علم ذلك يقينا او كان غالب(3/39)
حالهم ذلك وهو محمل النهى عن أكل ذبايح نصارى العرب ومحمل قول على رضى الله عنه لا تأكلوا من ذبايح نصارى بنى تغلب فانهم لم يتمسكوا من النصرانية بشئ الا بشربهم الخمر فلعل عليا رضى الله عنه علم من حالهم انهم لا يسمون الله عند الذبح او يذبحون على غير اسم الله تعالى فكذا حكم نصارى العجم ان كان عادتهم الذبح على غير اسم الله تعالى غالبا لا يؤكل ذبيحتهم ولا شك ان النصارى فى هذا الزمان لا يذبحون بل يقتلون بالوقد غالبا فلا يحل طعامهم وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فان قيل النبىّ صلى الله عليه وسلم مبعوث الى كافة الناس بشريعة واحدة فما معنى لاختلاف الحل والحرمة بالنسبة
الى هؤلاء وهؤلاء- قلت معناه ان من الأشياء ما هو حلال على كافة الناس من غير شرط كحل ماء البحر ومنها ما هو مشروط حلها بشرائط كالصلوة مشروط جوازها بالوضوء وسائر العبادات مشروط إتيانها بالايمان بالله ورسوله واخلاص النية وأكل الأموال مشروط حلها بالملك او اذن من المالك فذبايح المؤمنين حلال على الكفار حتى لا يعذبون فى الاخرة بأكلها كما لا يعذبون بإتيان امور مباحة للعالمين إتيانها من غير شرط الايمان بخلاف ذبايح المجوس فانها كالميتة يحرم أكلها على سائر الناس فيعذب الكفّار بأكلها كما يعذبون بترك الايمان وترك سائر الواجبات المتوقفة على الايمان وإتيان المنهيات قال الله تعالى ما سلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين الآية وفائدة هذا القول التفرقة بين ذبايح المسلمين ونسائهم فان ذبايح المسلمين حلال على كافة الناس من غير اشتراط الايمان بخلاف نسائهم فانه يشترط لحل مناكحتهم الايمان- قال الزجاج معناه حلال لكم ان تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين وعبّر البيضاوي ما قال الزجاج بعبارة أصح واصرح فقال فلا عليكم ان تطعموهم وتبيعوا منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك والسر فى هذا المقام ما ذكرنا ان حل أكل ذبايح المؤمنين غير مشروط بالايمان بخلاف حل نسائهم والله اعلم وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عطف على الطيبات او مبتدا خبره محذوف يعنى حل لكم والجملة معطوفة على قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وما بينهما اعتراض قال البغوي اختلفوا فى معنى المحصنات فذهب اكثر العلماء الى ان المراد منهن الحرائر وأجاز وإنكاح كل حرة مؤمنة كانت او كتابية فاجرة كانت او عفيفة وهو قول مجاهد وقال(3/40)
هؤلاء لا يجوز نكاح الامة الكتابية لقوله تعالى فمما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات جوز نكاح الامة بشرط الايمان وذهب قوم الى ان المراد من المحصنات العفائف من الفريقين حرائركن او إماء وأجازوا نكاح الامة الكتابية وحرم البغايا من المؤمنات والكتابيات وهو قول الحسن وقال الشعبي إحصان الكتابية ان تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة قلت وقول البغوي هذا مبنى على اعتبار المفهوم المخالف وهو غير معتبر عند ابى حنيفة رحمه الله ويقول بجواز نكاح الامة الكتابية الغير العفيفة ايضا لعموم قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وعند الشافعي رح المفهوم وان كان معتبرا لكنه غير معتبر فى قوله تعالى والمحصنات من المؤمنات حيث يجوز نكاح الامة المؤمنة الفاجرة ولذلك قال البيضاوي تخصيصهن بعث على ما هو اولى وإذا لم يعتبر فيه المفهوم فلا وجه لاعتباره فى قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب والله اعلم وعموم «1» هذه الاية يقتضى جواز نكاح الكتابية الحربية وعليه انعقد الإجماع وكان ابن عباس يقول لا يجوز نكاح الحربية والله اعلم وكان ابن عمر يمنع نكاح الكتابية مطلقا حرة كانت او امة ذمية او حربية لاندراجها فى المشركات قال الله تعالى قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال الله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وفسّر ابن عمر المحصنات فى الآية بالمسلمات وهذا التفسير غير صحيح فان تفسير المحصنات بالمسلمات ليس من اللغة وقد انعقد الإجماع على حل نكاح الحرة الكتابية وانما الخلاف فى الامة الكتابية كما ذكرنا فى سورة النساء لكنه يكره نكاح الكتابية مطلقا اجماعا لاستلزام النكاح مصاحبة الكافرة وموالاتها وتعريض الولد على التخلق بأخلاق الكفار لاجل مصاحبة الام وموانستها قال ابن همام نكح حذيفة وطلحة وكعب بن مالك كتابيات فغضب عمر رضى الله عنه فقالوا انطلق يا امير المؤمنين وهذه القصة تدل على جواز النكاح حتى يترتب عليه الطلاق وعلى كراهته- (فائدة) روى الخلاف بين ابى حنيفة رحمه الله وصاحبيه رحمهما الله فى نكاح الصابيات جوزه ابو حنيفة رحمه الله زعما منه انهم يؤمنون بزبور داود عليه السلام فهم من اهل الكتاب وكذا من أمن بصحف ابراهيم وشيث عليهما السلام ولم يجوزه صاحباه زعما منهما انهم
__________
(1) وعن عمر رضى الله عنه انه قال المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج المسلمة نصرانى 12(3/41)
يعبدون الكواكب فهم من المشركين قال فى الهداية وهذا الخلاف محمول على اشتباه مذهبهم فكل أجاب على ما وقع عنده ولا خلاف فى الحقيقة- (مسئلة:) قال فى المستصفى قالوا هذا يعنى الحل إذا لم يعتقد النصراني المسيح الها واما إذا اعتقده فلا وفى مبسوط شيخ الإسلام ويجب ان لا يؤكل ذبايح اهل الكتاب إذا اعتقدوا ان المسيح اله وان عزيرا اله ولا يتزوج نسائهم قيل وعليه الفتوى ولكن بالنظر الى الدلائل ينبغى ان يحل الاكل والتزوج انتهى كلامه قال ابن همام وهو موافق لما فى رضاع مبسوط شيخ الإسلام فى ذبحة النصراني انه حلال مطلقا سواء قال بثالث ثلثه اولا وموافق لاطلاق الكتاب هنا قلت الظاهر ان المراد باهل الكتاب فى الاية موحد وهم بدليل قوله تعالى لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن والقول بان حكم حرمة نكاح المشركة منسوخ فى حق اهل الكتاب خاصة بهذه الاية بعيد جدا إذ لا فرق بين شرك وشرك وقوله تعالى قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصري المسيح ابن الله قد قيل ان القائل بذلك طائفتان من اليهود والنصارى انقرضوا كلهم قال ابن همام ويهود ديارنا مصرحون بالتنزيه عن ذلك والتوحيد واما النصارى فلم ار الا من يصرح بالابنية لعنهم الله وما ذكرنا من قول على رضى الله عنه فى منع أكل ذبيحة بنى تغلب ومناكحة نسائهم يؤيد ما قلنا والله اعلم إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى مهورهن وتقييد الحل بإتيانها لتاكيد وجوبها والحث على الاولى وقيل المراد بإتيانها التزامها وذلك بالنكاح فكانه قال إذا نكحتموهن مُحْصِنِينَ اى مريدين تحصين الفروج بالنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ اى غير مضيعين الماء بالزنا باى مزنية كانت بلا تعيين مزنية وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ صديقات معينات تزنون بهن والخدن يقع على الذكر والأنثى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ اى بشرائع الإسلام فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ لان الايمان شرط لقبول الأعمال وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ قال ابن عباس خسر الثواب روى البخاري من طريق عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت سقطت قلادة لى بالبيداء ونحن داخلون المدينة فاناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى راسه فى حجرى راقداوا قبل ابو بكر فلكزنى لكزة «1» شديدة وقال حبست
__________
(1) الكز الدفع بالكف 12 نهايه(3/42)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
الناس فى قلادة ثم ان النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الاية فقال أسيد ابن حضير لقد بارك الله للناس فيكم يا ال ابى بكر وهذه الرواية مصرحة بان النازل فى قصة قلادة عائشة هذه الاية فى المائدة دون اية النساء ويعلم ان هذه الاية اسبق نزولا من اية النساء والا لما عاتب ابو بكر عائشة بقوله انها حبست الناس لا على ماء ولا ماء معهم وما شكرها أسيد بن حضير وروى الطبراني عنها نحوه وفيه فانزل الله رخصة التيمم فقال ابو بكر انك لمباركة ومعنى إذا قمتم الى الصلاة اى إذا أردتم القيام الى الصلاة كقوله تعالى وإذا قرأت القران فاستعذ بالله عبر عن ارادة الفعل بالفعل المسبب عنها للايجاز والتنبيه على ان من أراد العبادة فليبادر إليها بحيث لا ينفك الارادة عن الفعل وظاهر الاية يوجب الوضوء على كل قائم الى الصلاة وان لم يكن محدثا والإجماع على خلافه وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه صلى يوم الفتح الصلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه وكان يتوضأ عند كل صلوة فقال له عمر لقد صنعت شيئا اليوم لم تكن تصنعه قال عمد اصنعته يا عمر رواه مسلم واصحاب السنن الاربعة من حديث بريدة فاختلف العلماء فى تاويل هذه الاية فقال بعضهم الأمر فيه للوجوب وكان ذلك اوّل الأمر ثم نسخ ويدل عليه حديث عبد الله بن حنظلة بن عامر غسيل الملائكة ان النبي صلى الله عليه وسلم امر بالوضوء عند كل صلوة طاهرا او غير طاهر فلما شق ذلك عليه امر بالسواك لكل صلوة رواه احمد وابو داود وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحهما والحاكم فى المستدرك وقال بعضهم الأمر للندب والإجماع منعقد على كون الوضوء مسنونا مندوبا عند كل صلوة وان كان المصلى طاهرا ويدل على كونه مسنونا حديث انس قال كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلوة الحديث رواه النسائي وصححه ويدل على كونه مندوبا حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات رواه النسائي بإسناد ضعيف وقيل هذا الحكم وان كان مطلقا لفظا لكنه أريد به التقييد ومعناه إذا قمتم الى الصلاة محدثين يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلوة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ رواه الشيخان فى الصحيحين وابو داود والترمذي عن ابى هريرة وقال زيد بن اسلم(3/43)
معنى الاية إذا قمتم الى الصلاة من النوم وقال بعضهم هذا اعلام من الله تعالى رسوله ان لا وضوء عليه الا إذا قام الى الصلاة دون غيرها من الأعمال فأذن له ان يفعل بعد الحدث ما شاء من الافعال غير الصلاة عن ابن عباس قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط فأتى بطعام فقيل له الا تتوضأ فقال أريد ان أصلي فاتوضأ رواه البغوي- (فائدة) الوضوء كان واجبا قبل نزول هذه الاية كما يدل عليه ما روى البخاري فى شأن نزول الاية من قصة فقد قلادة عائشة ولذا استعظموا نزولهم على غير ماء وقال ابن عبد البر معلوم عند جميع اهل المغازي انه صلى الله عليه وسلم لم يصل منذ فرضت الصلاة الا بوضوء وكان فرض الوضوء مع فرض الصلاة والحكمة فى نزول اية الوضوء مع ما تقدم من العمل ليكون فرضه متلوا بالتنزيل قلت ولتمهيد التيمم والله اعلم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الغسل إمرار الماء عليه ولا يشترط فيه الدلك عند الائمة الثلاثة خلافا لمالك رح وهو محجوج بإطلاق الكتاب والوجه اسم لعضو معلوم مشتق من المواجهة وحده من منأبت الشعر الى منتهى الذقن طولا وما بين الأذنين عرضا فمن ترك غسل ما بين اللحية والاذن لم يجز وضوئه عند الائمة الثلاثة خلافا لمالك رحمه الله ويجب إيصال الماء الى ما تحت الحاجبين واهداب العينين والشارب واماما تحت اللحية فانكانت خفيفة يرى ما تحتها يجب غسله وان كانت كثيفة لا يرى البشرة من تحتها يسقط غسل البشرة فى الوضوء كما يسقط مسح الراس بالشعر النابت عليه- والدليل عليه اجماع الامة وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم انه صلى الله عليه وسلم كان يغسل وجهه بغرفة واحدة رواه البخاري من حديث ابن عباس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كث اللحية
ذكره القاضي عياض وقرر ذلك فى أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة وفى مسلم من حديث جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية قلت ولا يمكن إيصال الماء بغرفة واحدة الى تحت كل شعرة لمن كان كث اللحية ويجب غسل ظاهر اللحية كلها عوضا عن البشرة عند الجمهور كما فى مسح شعر الراس وبه قال ابو حنيفة رحمه الله فى رواية قال فى الظهيرية وعليه الفتوى وقال فى البدائع ان ما عدا هذه الرواية مرجوع عنه وفى رواية عنه يجب مسح ربع اللحية وفى رواية مسح ثلث اللحية وفى رواية لا يجب مسح اللحية ولا غسلها والحجة على وجوب غسل ظاهر اللحية كلها ان غسل البشرة(3/44)
سقط بالإجماع وسند الإجماع اما فعل النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يغسل وجهه بغرفة واما القياس على سقوط مسح الراس بالشعر النابت عليه ولا شك ان مستند الإجماع نصا كان او قياسا يدل على ان غسل ما تحت اللحية انما سقط لقيام الشعر مقامه ووجوب غسله بدلا عنه اما القياس فلان حكم الأصل ليس الا سقوط مسح الراس الى بدل وهو وجوب مسح الشعر فلابد ان يكون سقوط وظيفة الوجه اعنى الغسل ايضا الى بدل وهو وجوب غسل ما يستره من اللحية كيلا يلزم مزية الفرع على الأصل واما الحديث فايضا يدل على انه صلى الله عليه وسلم كان يغسل وجهه بغرفة ولا شك انه كان يغسل اللحية فظهر ان الإجماع منعقد على قيام اللحية مقام الوجه وسقوط وظيفة الوجه الى بدل لا بلا بدل فثبت بذلك ان وظيفة الوجه وهو غسل تمامه ثابت فى بدله وهو اللحية والله اعلم- وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ اليد اسم لعضو معلوم من الأنامل الى الآباط ولما جعل المرافق غاية الغسل سقط ما ورائه اى العضد وبقي غسل المرافق واجبا عند الائمة الاربعة وجمهور العلماء وحكى عن الشعبي ومحمد بن جرير عدم وجوب غسل المرافق وبه قال زفر رحمه الله لان كلمة الى للغاية والغاية تكون خارجة عن حكم المغيا كما فى أتموا الصيام الى الليل او لان مذهب المحققين من علمآء العربية انها موضوعة لمطلق الغاية واما دخولها فى الحكم او خروجها فلا دلالة لها عليه وانما يعلم من خارج ولا دليل هاهنا فلا يدخل بالشك قلنا بل هاهنا دليل على كون الغاية داخلا فى حكم المغيا وهو الإجماع قال الشافعي رحمه الله فى الام لا اعلم مخالفا فى إيجاب دخول المرفقين فى الوضوء وما حكى عن الشعبي ومحمد بن جرير ان صح الرواية عنهما وكذا قول زفر رحمه الله لا يرفع اجماع من قبلهم ومن بعدهم ولم يثبت عن مالك رحمه الله خروج المرفقين صريحا وانما حكى عنه اشهب كلاما محتملا وسند الإجماع فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين لمجمل الكتاب روى الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان فى الوضوء فغسل يديه الى المرفقين حتى مس أطراف العضدين وقال هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى ايضا من حديث جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه لكن اسناده ضعيف وروى البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر مرفوعا وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفقين وروى الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد(3/45)
عن أبيه مرفوعا ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة انهم تركوا غسل المرافق والكعاب فى الوضوء وذلك دليل واضح لمعرفة معنى الكتاب ومن ثم قال بعض المفسرين الى هاهنا فى الموضعين بمعنى مع كما فى قوله تعالى ويزدكم قوة الى قوتكم وقوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم الى أموالكم وقوله تعالى من انصارى الى الله اى مع الله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف العلماء فى القدر الواجب من مسح الراس بهذه الاية فقال مالك واحمد رحمه الله يجب مسح جميع الراس لان الراس اسم لعضو معلوم والباء زائدة فاذا أمرنا بالمسح يجب استيعابها كما يجب استيعاب الوجه بالمسح فى التيمم ويدل عليه استيعابه صلى الله عليه وسلم روى عبد الله بن زيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح راسه بيديه
فاقبل بهما وأدبر بمقدم راسه ثم ذهب بهما الى قفاه ثم ردّهما الى المكان الذي بدأ منه متفق عليه وقال ابو حنيفة رحمه الله والشافعي رحمه الله الباء للالصاق لانه هو المعنى الحقيقي للباء اجمع عليه علماء العربية لا يصار عنه الا بدليل وهى تدخل على الوسائط غالبا والوسائط لا تقصد استيعابها ولذلك إذا دخلت على المحل دلت على ان الاستيعاب غير مراد ويدل على ذلك فعله صلى الله عليه وسلم عن المغيرة بن شعبة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة رواه مسلم وروى الشافعي رحمه الله عن عطاء مرسلا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم راسه وهو مرسل اعتضد من وجه اخر روى موصولا أخرجه ابو داود من حديث انس وفى اسناده ابو معقل لا يعرف حاله واخرج سعيد بن منصور عن عثمان صفة الوضوء قال ومسح مقدم راسه وفيه خالد بن يزيد بن ابى مالك مختلف فيه قال الحافظ ابن حجر وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الراس قاله ابن المنذر وغيره ولم يصح عن أحد من الصحابة انكار ذلك قاله ابن حزم وأحاديث الاستيعاب محمولة على الاستحباب لا ينفى عدم جواز الاكتفاء على البعض ولما ثبت ان مسح جميع الراس غير مراد فقال الشافعي رحمه الله فالمعنى وامسحوا بعض رءوسكم فالاية مطلق فيكفى من الرأس مسح شعرة او ثلث شعرات وقال ابو حنيفة رحمه الله بل الآية مجملة لان جميع الراس غير مراد بدلالة كلمة الباء وأحاديث المسح على مقدم الراس ولا مطلق البعض من الراس(3/46)
اى بعض كان لان ذلك يحصل فى ضمن غسل الوجه ضرورة استيعاب الوجه وإذا كانت الآية مجملة التحق حديث المغيرة وما فى معناه بيانا لها فقلنا بوجوب مسح ربع الراس لان للراس اربعة جوانب مقدم الراس واحد منها وَأَرْجُلَكُمْ قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص بالنصب معطوف على ايديكم بقرينة ضرب الغاية لقوله تعالى إِلَى الْكَعْبَيْنِ فان الغاية لا يضرب فى الممسوح كالراس وأعضاء التيمم انما يضرب للمغسولات وقرأ الباقون بالجر لاجل الجوار كما فى قوله تعالى انى أخاف عليكم عذاب يوم اليم بالجر فى اليم على الجوار مع انه صفة لعذاب وهو منصوب والقول بان جر الجوار أنكره اكثر النحاة ومن جوزه جوزه بشرط ان لا يتوسط حرف العطف وبشرط الا من من اللبس مدفوع إذا لا من من اللبس حاصل بذكر الغاية وانكار اكثر النحاة ممنوع وإنكاره مكابرة لوقوعه كثيرا فى القران وكلام البلغاء وذكر الامثلة يقتضى تطويلا لكن اختلف النحاة فى مجئ جر الجوار بتوسط حرف العطف فقيل لا يجئ لان العاطف يمنع التجاوز والحق انه يجوز بتوسط العاطف فان العاطف موضوع لتوكيد الوصل دون القطع قال ابن مالك وخالد الأزهري ان الواو يختص من بين سائر حروف العطف بأحد وعشرين حكما منها جواز جر الجوار فى المعطوف بها قلت ولو لم يكن على جواز جر الجوار بتوسط المعطوف بالواو دليل اخر فهذه الآية الدالة على وجوب غسل الرجلين بما ذكرنا من وجوه العطف على الأيدي وعدم جواز عطف الأرجل على الرؤوس وبما لحقه البيان من الأحاديث والإجماع كافية لاثبات جواز جر الجوار بتوسط الواو العاطفة والله اعلم وايضا المراد بالكعبين هو المرتفع من العظم عند ملتقى الساق والقدم كما سيجئ تحقيقه وفرضية مسح القدم الى الكعبين لم يقل به أحد وما قيل ان الكلام حينئذ يصير من قبيل ضربت زيدا وعمرا وأكرمت بكرا وخالدا على ارادة كون خالدا مضروبا عطفا على عمر الا مكرما باطل إذ لا قرينة هناك ولا مانع لعطف خالد على بكر والقول بان النصب مبنى على انه معطوف على محل الرؤوس او بنزع الخافض ساقط إذا الأصل فى المعرب العطف على اللفظ دون المحل وذكر الخافض ولا بد للعدول من الأصل وجه وقرينة وكذا لا يجوز القول بتقدير امسحوا فان تقدير الفعل الخاص لا يجوز من غير قرينة تدل على تعيينه ويشترط فى جميع تلك التأويلات الا من عن التباس المعنى المقصود بما يناقضه وكذا القول بان الواو بمعنى مع باطل لان المصاحبة فى اصل الفعل غير كافية فى المفعول معه(3/47)
بل لا بد من المعية فى الزمان او
المكان والمعية فى الزمان غير متصور فان الواجب اما الترتيب واما مطلق الفعل وبوجوب المسحين فى مكان واحد لم يقل أحد ولو فرض كونه معطوفا على الرءوس بتلك التوجيهات الركيكة فالباء الداخلة على الرءوس تدخل على الآلات غالبا وإذا تدخل على المحل لا يراد بها الاستيعاب تشبيها له بالآلة بل يكون للتبعيض ومن ثم ذهب اكثر الفقهاء الى فرضية مسح بعض الراس وتغير اسلوب الكلام فى المعطوف يقتضى ارادة الاستيعاب فى المعطوف والقائلون بمسح الرجلين لم يقل منهم أحد بفرضية استيعاب مسح الرجلين فوظيفة الأرجل الغسل وقالت الامامية وهو معطوف على رءوسكم وحقه الجر وللنصب ذكروا توجيهات ركيكة لنا ما روى ابن خزيمة وغيره من حديث عمرو بن عنبسة عنه صلى الله عليه وسلم مطولا فى فضل الوضوء وذكر فيه ثم يغسل قدميه كما امره الله تعالى فهذه الحديث يدل على ان الله تعالى انما امر بالغسل وقد تواتر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى أحاديث غسل الرجلين رجال لا يمكن حصرهم ولا يحتمل تواطؤهم على الكذب ولم يرو عنه صلى الله عليه وسلم المسح أصلا واجمع عليه الصحابة ولم يثبت عن أحد منهم خلاف ذلك الا ما روى عن علىّ وابن عباس وانس وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك هكذا قال الحافظ ابن حجر عن على رضى الله عنه انه قرأ وأرجلكم قال عاد الى الغسل رواه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن ابى حاتم وعن ابى عبد الرحمن السلمى قال قرأ الحسن والحسين وأرجلكم الى الكعبين فسمع على ذلك وكان يقضى بين الناس فقال وأرجلكم هذا من المقدم والمؤخر من الكلام أخرجه ابن جرير عن ابى عبد الرحمن وقال قال عبد الرحمن بن ابى ليلى اجمع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين رواه سعيد بن منصور واخرج ابن ابى شيبة عن الحكم قال مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بغسل القدمين واخرج ابن جرير عن عطاء قال لم يجز أحد المسح على القدمين وادعى الطحاوي وابن حزم ان المسح منسوخ روى ابن جرير عن انس انه قال نزل القران بالمسح والسنة بالغسل وهذا القول يدل على ان ظاهر القران يدل على المسح لكن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الغسل ولا يمكن ذلك الا ان يكون المراد بالقران هو الغسل او كان حكم القران منسوخا ولنا ايضا حديث عبد الله بن عمر قال تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/48)
فى سفرة سافرناها فادركنا وقد راهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته ويل للاعقاب من النار متفق عليه وروى عن ابى هريرة انه مر بقوم يتوضأون فقال اسبغوا الوضوء فانى سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول ويل للاعقاب من النار متفق عليه وقد روى ويل للاعقاب من النار جابر وعايشة واحتجوا بما رواه اويس بن ابى اويس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام الى الصلاة ورواه ابو داود وقال على نعليه وقدميه قلنا معناه مسح على نعليه اللتين عمت على قدميه فمسح عليهما كما يمسح على الخفين فان قيل قد رواه هيثم عن يعلى وقال فيه توضأ ومسح على رجليه قلنا قال احمد لم يسمع هيثم من يعلى وقد كان يدلس فلعله سمع عن بعض السفهاء ثم أسقط من البين او يقال معناه مسح على رجليه وهما فى الخفين والكلام فى الكعبين كالكلام فى المرافق وقد مر والكعب هو المرتفع من العظم عند ملتقى الساق والقدم هو الذي يعرفه اهل اللغة دون معقد الشراك ويدل على هذا إيراد لفظ التثنية فقال الكعبين ولم يقل الى الكعاب لان انقسام الآحاد على الآحاد انما يتصور عند مقابلة الجمع بالجمع دون التثنية بالجمع وإذا لم يمكن الانقسام وجب ان يكون فى كل رجل كعبان ومعقد الشراك فى كل رجل واحد- (مسئلة:) يجزى المسح على الخفين عن غسل الرجلين عند الجمهور إذا لبسهما على طهارة كاملة فى الحضر والسفر خلافا لمالك رحمه الله فى الحضر واما السفر فالروايات الصحيحة عنه انه يجوز المسح ومنعت الامامية وابو بكر
بن داود المسح على الخفين مطلقا قال بعض المفسرين قراءة النصب يوجب غسل الرجلين عطفا على الأيدي وقراءة الجر يوجب مسحهما عطفا على رءوسكم ويحمل تلك القراءة على حالة كونهما فى الخفين «1» والقراءتان بمنزلة
__________
(1) يقال كلما دخلت على الأمير قبلت على رجليه وقد كان يقبل على رجليه ان كانتا مكشوفتين وعلى خفيه إن كانتا فى الخفين والقول بانه لم يجز ذكر الخفين وما دلت عليه قرينة ليس بمغنئ لان الآيتين او القراءتين إذا تعارضتا يجب الجمع بينهما ومن وجوه الجمع حملهما على الحالين ولا يشترط ذكر الحالين فى الكلام ولا قيام القرينة الا ترى انهم حملوا قراءة التشديد فى قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن فيما إذا كان انقطاع الدم قبل العشرة وقراءة التخفيف على كون الانقطاع لتمام العشرة وكون لبس الخفين فى زمن النبىّ صلى الله عليه وسلم نادرا ممنوع 12 منه دام بركاته [.....](3/49)
الآيتين يجوز ان يحمل أحدهما على المعنى الحقيقي والاخرى على المعنى المجازى الا ترى ان التركيب والتقدير فى احدى القرائتين يغائر التركيب والتقدير فى الاخرى ولولا هذا التأويل فالحجة للجمهور ان حديث جواز المسح على الخفين متواتر بالمعنى يجوز به نسخ الكتاب صرّح جمع من الحفاظ بان المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته فجاوز الثمانين منهم العشرة المبشرة وروى ابن ابى شيبة وغيره عن الحسن البصري حدثنى سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين قال ابو حنيفة رحمه الله ما قلت بالمسح حتى جاءنى فيه مثل ضوء النهار وعنه أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين وقال احمد ليس فى قلبى من المسح شىء فيه أربعون حديثا عن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفعوا وما وقفوا وذكر منها حديثين أحدهما حديث المغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فى سفر فقال يا مغيرة خذ الاداوة فاخذتها فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توارى عينى فقضى حاجته فصببت عليه فتوضأ وضوئه للصلوة ومسح على خفيه ثم صلى متفق عليه ولهذا الحديث طرق كثيرة روى عنه من نحو ستين طريقا وذكر ابن مندة منها خمسة وأربعين ثانيهما حديث جرير قال رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على الخفين قال ابراهيم وكان يعجبهم هذا الحديث لان اسلام جرير كان بعد نزول المائدة متفق عليه وقال ابن عبد البر المالكي لا اعلم روى عن أحد من الفقهاء إنكاره الا عن مالك مع ان الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكاره الا عن ابن عباس وعائشة وابى هريرة فاما ابن عباس وابو هريرة فقد جاء عنهما بالأسانيد الحسان خلاف ذلك وموافقة ساير الصحابة واما عائشة ففى صحيح مسلم عن شريح بن هانى قال سالت عائشة عن المسح على الخفين قالت عليك بابن ابى طالب فاساله فانه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسالناه فقال جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثة ايّام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم رواه ابو داؤد والترمذي وابن حبان وروى الدارقطني عن عائشة اثبات المسح على الخفين وما قيل ان عليا عليه السلام قال ما أبالي مسحت على الخفين او على ظهر حمارى باطل لا اصل له وما قيل ان عائشة قالت لان اقطع الرجل بالموسى أحب الىّ من ان امسح(3/50)
على الخفين باطل نص عليه الحفاظ.
(مسئلة:) مدة المسح على الخفين للمسافر ثلثة ايام ولياليها وللمقيم يوم وليلة لحديث ابى بكر أرخص للمسافر ثلثة ايّام وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه رواه الترمذي وصححه ورواه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والشافعي رحمه الله وابن ابى شيبة والبيهقي والدارقطني ونقل البيهقي ان الشافعي رحمه الله صححه وفى حديث المغيرة كما مرّ وفيه قلت يا رسول الله الا انزع خفيك قال دعهما فانى أدخلتهما وهما طاهرتان وثبت مدة المسح فى حديث على وصفوان بن عسال وعمرو بن الخطاب وعمرو بن ابى امية الضميري وابى هريرة وخزيمة بن ثابت ذكرها ابن الجوزي فى التحقيق وسردناها فى منار الاحكام فهى حجة على مالك حيث لا يوقت للمسافر ويمنع المقيم كما روى عنه (مسئلة:) ولا يشترط فى الوضوء الترتيب ولا الموالاة عند ابى حنيفة رحمه الله ويشترط الترتيب عند الائمة الثلاثة وكذا الموالاة عند مالك واحمد رحمه الله والقول القديم للشافعى رحمه الله لنا ان فى الاية ورد العطف بالواو وهى لمطلق الجمع دون الترتيب فهى لا تدل على الترتيب ولا على الموالاة وروى ان على بن ابى طالب قال ما أبالي باى أعضائي بدأت احتجوا بحديث ابى بن كعب وابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بوضوء فتوضأ مرة مرة فقال هذا وضوء من لم يتوضأ لم يقبل الله له صلوة ثم توضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من توضأ أعطاه الله كفلين من الاجر ثم توضأ ثلثا ثلثا فقال هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلى رواهما الدارقطني وجه الاحتجاج انه صلى الله عليه وسلم لا يخلو من انه توضأ مرتبا متواليا اولا لا جايز انه لم يرتب ولم يوال والا لافترض ترك الترتيب والموالاة ولم يقل به أحد فثبت انه رتب ووالى فثبت انه لا يقبل الله الصلاة الا بهما والجواب عنه بوجوه أحدها من حيث السند ان الحديثين ضعيفان فى حديث ابى بن كعب زيد بن ابى الجواري قال يحيى ليس بشئ وقال ابو ذرعة واهي الحديث وعبد الله بن عوادة قال يحيى ليس بشئ وقال البخاري منكر الحديث وفى حديث ابن عمر المسيب بن واضح ضعيف ثانيها من حيث المتن بالنقض وذلك بان يقال لو صح الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الترتيب لوجب بهذا الحديث اما التيامن او عدمه والسواك او عدمه والاستنثار او عدمه لان فعله صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن أحد الضدين من هذه الأمور وثالثها وهو الحلّ(3/51)
ان المراد به الاكتفاء على مرة مرة ادنى مراتب الامتثال لا يقبل الله الصلاة الا به وقد يحتج على وجوب الترتيب بحديث عمرو بن عنبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما منكم أحد يقرب وضوئه ثم يمضمض ويستنشق ويستنثر إلا خرت خطايا فمه وخياشيمه مع الماء ثم يغسل وجهه إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه الى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء ثم يمسح راسه كما امره الله تعالى إلا خرت خطايا راسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه الى الكعبين كما امره الله تعالى إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء رواه مسلم وكذا روى عن ابى هريرة بلفظ ثم وهى للترتيب قلنا هذا الحديث حكاية عما يفعل المتوضي غالبا وبشارة له بالمغفرة ولا يدل على عدم جواز الصلاة عند فوات الترتيب بل لا يدل على عدم المغفرة عند فواته واحتجوا على وجوب الموالاة بان رجلا توضأ للصلوة فترك موضع ظفر على ظهر قدمه فابصر النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فاحسن وضوءك فرجع فتوضأ ثم صلى رواه من حديث عمر بن الخطاب واحمد وابو داود وغيرهما من حديث انس ولا حجة فيه لان معنى قوله صلى الله عليه وسلم احسن وضوءك اى أتمم وضوءك بغسل هذا الموضع ولا يدل على الأمر باعادة الوضوء فان قيل روى احمد حديث عمر بلفظ امره ان يعيد الوضوء قلنا فيه ابن لهيعة ضعيف وكذا ما روى عن بعض ازواج النبي صلى الله عليه وسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلى وفى بعض ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم
يصيها الماء فامره عليه السلام ان يعيد الوضوء ضعيف فيه بقية مدلس لا يصح حديثه ما لم يتابع عليه أحد ويدل على عدم اشتراط الموالاة ما رواه البخاري عن ميمونة فى صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه وروى مالك عن نافع عن ابن عمر والشافعي رحمه الله فى الام عن مالك ان ابن عمر توضأ فى سوق المدينة فدعى الى جنازة وقد بقي من وضوئه فرض الرجلين فذهب معهم الى المصلّى ثم مسح على الخفين ويذكر عن ابن عمر غسل القدمين بعد ما جف وضوئه والله اعلم- (مسئلة:) ولا يشترط فى الوضوء النية عند ابى حنيفة رحمه الله ويشترط عند الائمة الثلاثة لانه عبادة بالإجماع وكل عبادة يشترط له النية بالنصوص والإجماع(3/52)
قال الله تعالى وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقال عليه السلام انما الأعمال بالنيات قلنا الوضوء له اعتباران فباعتبار انه عبادة مكفرة للسيئات لا بد له من نية لما ذكرتم فان ثواب الأعمال انما هو بالنية وباعتبار انه مفتاح للصلوة وشرط من شروطها لا يشترط له النية كما لا يشترط لسائر شرائط الصلاة من ستر العورة وطهارة الاخباث وغيرها.
(مسئلة:) لا يشترط للوضوء التسمية ولا المضمضة ولا الاستنشاق عند الجمهور وقال احمد كل ذلك واجب ركن للوضوء اما التسمية فلقوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه رواه احمد وجماعة من الائمة من حديث كثير بن زيد عن رميح بن عبد الرحمن بن ابى سعيد الخدري عن أبيه عن جده ورواه الترمذي وجماعة من حديث سعيد بن زيد من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن ابى ثقال عن رباح عن جدته عن أبيها وروى احمد واصحاب السنن من حديث ابى هريرة من طريق يعقوب ابن سلمة عن أبيه عنه وفى بعض ألفاظه من توضأ وذكر اسم الله فانه طهر جسده كله ومن توضأ ولم يذكر اسم الله لم يطهر الا موضع الوضوء رواه الدارقطني عنه وعن ابن مسعود وابن عمر ولحديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الى الوضوء فيسمى الله عز وجل رواه الترمذي وابن ابى شيبة وابن عدى وحديث خصيف قال توضأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسم فقال أعد وضوءك ثم توضأ ولم يسم فقال أعد وضوءك ثلث مرات ثم توضأ وسمى فقال الان خيرا أصبت وضوءك والجواب ان حديث خصيف موضوع لا اصل له وباقى الأحاديث كلها ضعاف قال ابو بكر الأثرم سمعت احمد بن حنبل يقول ليس فى هذا شىء يثبت وأحسنها حديث كثير بن زيد وكثير ضعيف وكذا عبد الرحمن بن حرملة قال ابو حاتم لا يحتج به ولينه البخاري وابو ثقال ورباح مجهولان وجدة رباح راوية هذا الحديث عن سعيد بن زيد لا يعرف اسمها ولا حالها وكذا قال ابو حاتم وابو ذرعة ويعقوب بن سلمة هو الليثي قال البخاري لا يعرف له سماع من أبيه ولا لابيه من ابى هريرة واما حديث عائشة ففى اسناده حارثة عن محمد وهو ضعيف قال الحافظ ابن حجر وفى الباب حديث على رواه ابن عدى وقال اسناده ليس بمستقيم وحديث انس رواه عبد الملك وهو شديد الضعف(3/53)
وحديث ابن عمر وفيه ابو بكر الداهر وهو متروك وحديث ابن مسعود وفيه يحيى بن هاشم الشمشاد متروك وروى مرسلا عن ابان وهو مرسل ضعيف فالحاصل ليس فى الباب حديث صحيح ومن ثم قال احمد لا امره بالاعادة فارجوا ان يجزيه الوضوء لكن احمد يقدم الحديث الضعيف على القياس لا سيما هذه الأحاديث بالاجتماع والاعتضاد تدل على ان لها أصلا واستدلوا ايضا على وجوب البسملة بحديث ابى هريرة مرفوعا كل امر ذى بال لم يبدأ ببسم الله فهو اجزم قلنا هذا الحديث لا يدل على الوجوب والا لكان الحمد ايضا واجبا لورود الحديث فيه ايضا بمعناه ثم هذه الأحاديث معارض بحديث ابى جهيم قال اقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بيرجمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى اقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه متفق عليه فان هذا الحديث يدل على انه صلى الله عليه وسلم كره ان يذكر لفظ السلام وهو من اسماء الله تعالى على غير طهر فذكر الله تعالى بالتسمية قبل الوضوء اولى بالكراهة ولو سلمنا أحاديث الأمر بالتسمية فهى محمولة على الندب والمراد نفى الوضوء على وجه الكمال واما المضمضة والاستنشاق فدليل وجوبهما حديث عائشة رضى الله عنها وابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه او لا يتم الوضوء الا بهما وحديث ابى هريرة امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني والجواب ان حديث عائشة فيه سليمان بن موسى قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي ليس بالقوى وحديث ابن عباس فيه جابر الجعفي كذبه أيوب السجستاني وزائدة وقال النسائي متروك واما حديث ابى هريرة فقال الدارقطني لم يسنده غير هدبة وداؤة بن المحبر عن حماد عن عمار بن ابى عمار عنه وغيرهما يرويه عن عمار مرسلا وأجاب ابن الجوزي بان هدبة ثقة اخرج عنه فى الصحيحين والرفع زيادة ومن الثقة مقبولة ثم المرسل ايضا حجة وقد يحتج على وجوب الاستنشاق بحديث ابى هريرة قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم ليستنثر رواه مسلم وفى بعض طرقه فليجعل فى انفه ماء ثم ليستنثر متفق عليه قال ابن الجوزي قد روى نحوه عن عثمان بن عفان وسلمان بن قيس ومقدام بن معد يكرب(3/54)
وروى احمد وابو داؤد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا استنثروا مرتين بالغتين او ثلثا ولابى داؤد الطيالسي إذا توضأ أحدكم فليستنثر وليفعل ذلك مرتين او ثلثا واسناده حسن قلنا الأمر بالمضمضة والاستنشاق والاستنثار محمول على الاستحباب لا سيما عند اقترانه بالاستنثار الذي هو ليس بواجب اجماعا وقد روى عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال من توضأ فليستنثر من فعل فقد احسن ومن لا فلا حرج ثم على اصل ابى حنيفة رحمه الله الأحاديث التي تدل على وجوب التسمية او المضمضة او الاستنشاق او غير ذلك فى الوضوء لو فرضنا صحتها لا يجوز بها الزيادة على الكتاب لان الزيادة على الكتاب عنده فى حكم النسخ لان مقتضى الآية صحة الصلاة عند الاقتصار على الأركان الاربعة ولا يجوز نسخ الكتاب بحديث الآحاد فلا يجوز الزيادة على الكتاب بحديث الآحاد والله اعلم- (فصل) وسنن الوضوء النية والبداية بغسل اليدين الى الرسغين ثلثا والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلثا ثلثا وتثليث غسل المغسولات ومسح كل الراس مرة والترتيب والموالاة لحديث عبد الله بن زيد قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا باناء فاكفأ منه على يديه فغسلهما ثلثا فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلثا فغسل وجهه ثلثا فغسل يديه الى المرفقين مرتين مرتين فمسح برأسه فاقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه الى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وفى رواية فمضمض واستنشق واستنثر ثلثا بثلث غرفات وفى حديث على تمضمض ثلاثا واستنشق ثلثا وغسل وجهه ثلثا وذراعيه ثلثا ومسح برأسه مرة ثم غسل قدميه الى الكعبين ثم قام فاخذ فضل طهوره فشرب وهو قائم ثم قال أحببت ان أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي والنسائي قال الدارقطني لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه توضأ وضوء لم يدع فيه أحدا من هذه الثلاثة يعنى النية والترتيب والموالاة وقال الشافعي رحمه الله فى أحد قوليه واحمد رحمه الله ان السنة مسح الراس ثلثا وقد صح من حديث عثمان وعلى وعبد الله بن زيد وسلمة ابن الأكوع وانس ومعاذ بن جبل وبراء بن عازب وعبد الله بن عمرو ابن عبّاس انه(3/55)
مسح راسه مرة احتجوا بحديث عثمان انه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلثا ثلثا رواه البخاري وحديث على مثله رواه الترمذي قلنا قوله توضأ ثلثا يعود الى تثليث ما يحصل به الوضاءة وهو الغسل قال ابو داؤد أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على ان مسح الراس مرة واحدة وما ورد فى بعض ألفاظ حديث على توضأ ومسح برأسه واذنيه ثلثا فنحمله على تثليث إمرار اليد من غير أخذ ماء جديد لكل مرة جمعا بين الأحاديث وحينئذ يعد المسح مرة واحدة كما ورد فى حديث عبد الله بن زيد مسح راسه بيديه فاقبل بهما وأدبر بمقدم راسه ثم ذهب بهما الى قفاه ثم ردهما الى المكان الذي بدأ منه والله اعلم- ومنها مسح الأذنين لحديث ابى امامة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأذنان من الراس وكان يمسح راسه مرة............ وكان يمسح الماقين رواه احمد واصحاب السنن والحديث يدل على المواظبة وحديث مقدام بن معد يكرب مرفوعا توضأ فادخل إصبعيه فى حجرى اذنيه رواه النسائي وابن ماجة وحديث على توضأ ومسح برأسه واذنيه ثلثا وقال هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فان قيل ليس فى كثير من الأحاديث ذكر الأذنين قلنا إذا ثبت المواظبة بحديث ابى امامة وعلى فعدم ذكر غيرهما لا ينتهض دليلا على النفي ولعل من لم يذكر مسح الأذنين اكتفى بذكر مسح الرأس بناء على قوله صلى الله عليه وسلم الأذنان من الراس ومنها تخليل اللحية لحديث عثمان ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل
لحيته رواه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وابن حبان وفى الباب حديث ابن عمر رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن ومنها ان يدلك عارضيه بعض الدلك لحديث ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عرك عارضيه بعض العرك رواه ابن ماجة والدارقطني وصححه ابن السكن والحديث حسن- (فصل) ويستحب البداية بالتسمية لما ذكرنا من الأحاديث وحملناه على الندب والتيامن وكان القياس كونها سنة ولم يقل العلماء بسنيته لان مواظبته صلى الله عليه وسلم كان على سبيل العادة دون العبادة لحديث عايشة قالت كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يحب التيامن ما استطاع فى شانه كله فى طهوره وترجله وتنعّله متفق عليه وقال عليه السّلام إذا توضأوا فابدءوا بميامنكم رواه احمد وابو داود(3/56)
وغيرهما وإذا فرغ من الوضوء يستحب ان يقول اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلنى من التوابين واجعلنى من المتطهرين- روى مسلم من حديث عقبة بن عامر عن عمر من توضأ فقال اشهد ان لا اله الا الله الى قوله رسوله فتحت له أبواب الجنة يدخلها من ايها شاء ورواه الترمذي من وجه اخر وزاد فيه اللهم اجعلنى إلخ او يقول سبحانك الله وبحمدك اشهد ان لا اله الّا أنت استغفرك وأتوب إليك ويصلى ركعتين رواه ابن ماجة من حديث انس والنسائي والحاكم من حديث ابى سعيد بلفظ من توضأ فقال سبحانك إلخ كتب فى رق ثم طبع بطابع فلم يكسر الى يوم القيامة وصحح النسائي الموقوف والمرفوع ضعيف لكن الموقوف له حكم الرفع- (مسئلة) السواك سنة مؤكدة فى نفسه روى البخاري من حديث انس مرفوعا أكثرت عليكم فى السواك ومسلم من حديث عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته يبدأ بالسواك والطبراني والبيهقي من حديث امّ سلمة ما زال جبرئيل يوصينى بالسواك حتى خشيت ان يدردنى «1» وورد نحوه من حديث سهل بن سعد وابى امامة وجبير بن مطعم وابى الطفيل وابن عبّاس والمطلب وعائشة وانس فى كتب الحديث وهذا يدل على كمال المواظبة خصوصا للمستيقظ فانه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من النوم استاك متفق عليه ويستحب السواك عند كل صلوة قال عليه السلام لولا ان أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلوة رواه مسلم وابو داود وعن عائشة مرفوعا فضل الصلاة التي يستاك بها على الصلاة التي لا يستاك بها سبعين ضعفا رواه احمد وابن خزيمة والحاكم وغيره وليست السواك من سنن الوضوء لانه روى عن عثمان وعلى وعبد الله ابن زيد وغيرهم فى صفة الوضوء أحاديث كثيرة لم يرو عنهم السواك كما روى المضمضة والاستنشاق والله اعلم وَإِنْ كُنْتُمْ وقت قيامكم الى الصلاة جُنُباً قد مر تفسيره فى سورة النساء فَاطَّهَّرُوا امر بالمبالغة فى التطهير فيجب غسل سائر البدن ويجب المضمضة والاستنشاق ايضا امتثالا للمبالغة بالتطهير فان باطن الفم والخيشوم ظاهر البدن من وجه إذا انفتح وباطنه إذا انضم فالحقنا فى الغسل
__________
(1) الادراد إسقاط الأسنان 12(3/57)
بالظاهر رعاية للمبالغة وقال مالك والشافعي رحمهما الله هما سنتان فى الغسل ايضا كما فى الوضوء لحديث أم سلمة قالت قلت يا رسول الله انى امراة أشد ضفر راسى فانقضه لغسل «1» الجنابة قال لا انما يكفيك ان تحثى على راسك ثلث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين رواه مسلم قلنا انها سالت عن كيفية غسل الراس هل ينقض شعرها أم لا فورد جوابها من غير تعرض للمضمضة والاستنشاق نفيا ولا اثباتا فلا حجة فيه- (مسئلة:) ويجب ايضا إيصال الماء فى الغسل الى اصول شعر الراس على الرجل والمرأة وكذا غسل باطن اللحية خلافا لمالك والشافعي رحمهما الله فى رواية له القياس على الوضوء وجه الفرق عندنا الأمر بالمبالغة فى التطهير فى الغسل دون الوضوء وقوله صلى الله عليه وسلم انقوا البشر وحديث على سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار قال على فمن ثم عاديت شعرى رواه ابو داؤد وابن ماجة واسناده صحيح وما قيل الصواب وقفه قلنا الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ثم الموقوف فى الباب له حكم الرفع لان عذاب الاخرة لا يدرك بالرأي وعن ابى ايّوب مرفوعا أداء الامانة غسل الجنابة فان تحت كل شعرة جنابة رواه ابن ماجه واسناده ضعيف وفى الصحيحين عن عائشة فى صفة غسله صلى الله عليه وسلم ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها اصول شعره وعن عائشة ان اسماء سالت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض فذكر الحديث وفيه فيدلك دلكا شديدا حتى يبلغ شؤن راسها رواه مسلم وفى الباب حديث ابى ذر إذا وجدت الماء فامسس بشرتك رواه احمد- (مسئلة:) ولا يجب الدلك عند الجمهور خلافا لمالك رحمه الله لنا قوله تعالى
__________
(1) اخرج ابن ابى شيبة عن ابن عمر قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتاه رجل جيد الثياب طيب الريح حسن الوجه فقال يا رسول الله ما الإسلام قال تقيم الصلاة وتوتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت وتغتسل من الجنابة قال صدقت واخرج عبد بن حميد عن وهب الزمارى قال مكتوب فى الزبور من اغتسل من الجنابة فانه عبدى حقا ومن لم يغتسل من الجنابة فانه عدوى حقا 12 منه(3/58)
حتى تغتسلوا والاغتسال اسالة الماء والدلك امر خارج من مفهومه وحديث جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امّا انا فاخذ ملأ كفى من الماء فاصب على راسى ثم أفيض بعد على سائر جسدى متفق عليه وليس فى شىء من أحاديث الغسل ما يدل على وجوب الدلك- (مسئلة:) ولا يجب على المرأة نقض الظفائر وغسل فروع الشعر اجماعا واما على الرجل فنقض الظفائر وغسل فروع الشعر من الرأس واللحية واجب بالإجماع وكان القياس وجوب غسل فروع الشعر بنقض الظفائر على الفريقين نظرا للامر بالمبالغة فى التطهير لكن سقط غسل فروع الشعر عن المرأة للحرج اللازم لها دونه كما دل عليه حديث أم سلمة المذكور وروى مسلم عن عبيد بن عمير قال بلغت عائشة ان عبد الله بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن ان ينقضين رؤسهن قالت أفلا يأمرهن ان يحلقن رؤسهن لقد كنت اغتسل انا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من اناء واحد فما أزيد على ان افرغ على راسى ثلث فرغات ولم يسقط غسل فروع الشعر للرجال عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وانقوا البشر رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي لكنه ضعيف مداره على الحارث بن دحية وهو ضعيف جدا قال الدارقطني انما يروى هذا عن مالك بن دينار مرسلا وكذا رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا وقال ابن الجوزي انما يروى هذا من قول ابى هريرة فهو مرسل صحيح وحديث موقوف صحيح والحديث المتصل المرفوع ضعيف والمرسل حجة لا سيما عند الاعتضاد بالمسند والأثر- (فصل) والسنة فى الغسل النية والموالاة وان يتوضأ الا رجليه ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه لا فى المستنقع اما النية فالخلاف فيه كما فى الوضوء وقد مر واما الموالاة فلمواظبته عليه السلام واما باقى السنن فلحديث ميمونة قالت وضعت للنبىّ صلى الله عليه وسلم غسلا فاغتسل من الجنابة فاكفأ الإناء بشماله على يمينه فغسل كفيه ثلثا ثم أفاض على فرجه ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ثلثا وذراعيه ثلثا ثم أفاض على راسه ثلثا ثم أفاض على سائر جسده الماء ثم تنحى فغسل رجليه متفق عليه وعن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم(3/59)
إذا غسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلوة ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها اصول شعره ثم يفيض الماء على جلده كله متفق عليه- (فائدة) وازالة النجاسة الحقيقية عن بدنه انكانت فواجبة ولذا لم تذكر من سنن الغسل كما لم تذكر الاستنجاء من سنن الوضوء وتثليث غسل سائر البدن لم يظهر لى عليه دليل والله اعلم وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ قد مر تفسيره فى سورة النساء زاد الله تعالى فى هذه السورة قوله مِنْهُ اى من الصعيد قال البغوي فيه دليل على انه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب قلت هذا مبنى على ان كلمة من للتبعيض ومن هاهنا قال ابو يوسف وغيره لا يجوز التيمم على شىء من جلس الأرض بلا نقع عليه وعن محمد رح روايتان قلنا المحققون من اهل العربية على ان أصلها لابتداء الغاية وكونها للتبعيض او البيان موقوف على القرينة قال المحقق التفتازانيّ وهو من الشافعية ذهب بعض الفقهاء يعنى من الشافعية ان من اصل وضعها للتبعيض دفعا للاشتراك وهذا ليس بسديد لاطباق ائمة اللغة على انها حقيقة فى ابتداء الغاية انتهى كلامه قلت ومعنى التبعيض هاهنا لا يصح لان ضابطة التبعيض جواز وضع لفظ البعض موضعها وذالا يتصور لان المسح إمرار اليد فمعنى قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم الاية امرروا ايديكم ملصقا بوجوهكم وايديكم وهذا كلام تام لا يستدعى مفعولا به اخر حتى تجعل بعض الأرض مفعولا به فان قيل قال صاحب الكشاف قولهم انها لابتداء الغاية تعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسي من الدهن او من الماء او من التراب الا معنى التبعيض قلنا فى الامثلة التي ذكر صاحب الكشاف انما يفهم التبعيض بالقرينة العقلية لا من كلمة من فان إمرار اليد ملصقا بالرأس مبتديا امراره عن الدهن او
الماء او التراب يقتضى عند العقل تلطخ اليد ببعض هذه الأشياء لا باللفظ واما لو قيل مسحت برأسي من الصخرة لا يفهم منه معنى التبعيض البتة بل يفهم معنى الابتداء كما لا يخفى وإذا ثبت ان من لابتداء الغاية ثبت جواز التيمم على الصخرة بلا نقع والله اعلم ما يُرِيدُ اللَّهُ بالأمر بالوضوء والغسل والتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ من ضيق وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ(3/60)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
من الأحداث ومن الذنوب كما روينا من حديث عمرو بن عنبسة قوله صلى الله عليه وسلم ما منكم أحد يقرب وضوئه ثم يمضمض ويستنشق إلا خرت خطايا فمه وخياشيمه مع الماء الحديث وروى البغوي عن عثمان انه توضأ ثلثا ثلثا ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ وضوئي هذا خرجت خطايا من وجهه ويديه ورجليه وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بشرعية ما هو مطهر لا بد انكم ومكفر لذنوبكم ومفتاح لصلوتكم التي هو معراج لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار رواه احمد وابن ابى شيبة والترمذي من حديث معاذ بن جبل وعن ابى هريرة قال انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من اثار الوضوء فمن استطاع منكم ان يطيل غرّته فليفعل رواه البخاري واللام فى المواضع الثلاثة مزيدة وان بعدها مقدرة والمصدر مفعول به ليريد وضعّف البيضاوي هذا التأويل مع كونه اظهر أخذا من عبارة الكافية حيث قال يقدر ان بعد لام كى ولام الجحود وقال البيضاوي ان لا يقدر بعد المزيدة وقد صرح الرضى وصاحب الكشاف بالتقدير فى أمثاله مع كونها زائدة وفى التسهيل ويظهر ان ويضمر بعد لام الجر الغير الجحودية وقال البيضاوي فى تاويل الاية ان مفعول يريد فى الموضعين محذوف واللام للعلة والمعنى ما يريد الله الأمر بالطهارة تضييقا عليكم ولكن يريد الأمر المذكور ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولا شك ان بعد ورود الأمر بيان علة ارادة الأمر دون الأمر مستبعد جدا والله اعلم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته.
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بإرسال الرسول وإنزال الكتاب والتوفيق للاسلام وسائر النعم ليذكركم المنعم ويرغبكم فى شكره عز وجلّ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ الذي اخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت او ميثاق ليلة العقبة الذي اخذه من الأنصار رواه البخاري وغيره او ميثاق بيعة الرضوان فى الحديبية كما نطق به القران وقال مجاهد ومقاتل يعنى الميثاق الذي أخذ على العلمين حين أخرجهم من صلبادم(3/61)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
عليه السّلام إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا بيان للميثاق وَاتَّقُوا اللَّهَ فى نسيان العامة ونقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ من خطراتكم من الخير والشر فضلا عن ظواهر أعمالكم فيه وعد ووعيد والله اعلم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ على أنفسكم واحبتكم بِالْقِسْطِ بالعدل والصدق وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا جرم يجرم بمعنى كسب كاجترم يقال جرم لاهله كذا فى القاموس وعدى بعلى بتضمين فعل يتعدى به كانه قيل ولا يحملنكم شدة بغضكم لقوم مشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بكسب ما لا يحل لكم منهم كالمثلة والقذف وقتل النساء ونقض العهد تشفيا لما فى قلوبكم على مقتضى اهوائكم اعْدِلُوا امر بالعدل وهو ضد الجور بعد النهى عن تركه تأكيدا هُوَ اى العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى اى اقرب الى التقوى من غيره فان التقوى عبارة عن وقاية نفسه وقواه الظاهرة والباطنة عن إتيان ما كره الله فى الدنيا حتى يكون ذلك وقاية لنفسه عن عذاب الله وسخطه فى الاخرة ومرجع العدل والجور الى حقوق الناس ورعاية حقوق الناس أهم وادخل فى التقوى ولذلك قال هو اقرب للتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما امر ونهى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم به فيه وعد ووعيد وتكرير هذا الحكم اما لاختلاف السبب كما قيل الاولى نزلت فى المشركين وهذه فى اليهود او لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة فى اطفاء نائرة العقب.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الجملة فى موضع المفعول الثاني من وعد لان الوعد نوع من القول فيقع على الجملة او هى مستانفة والمفعول الثاني لوعد محذوف يدل عليه هذه الجملة وجاز ان يكون الصالحات ثانى مفعولى وعد اى وعد المثوبات الصالحات ومفعول عملوا محذوف لظهور ان اعمال المؤمن انما هو ما آمن بحسنه.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يعنى لا يفارقونها هذا من قبيل عطف المعمولين على المعمولين السابقين على تقدير كون جملة لهم مغفرة فى موضع النصب على المفعولية والمعنى وعد الله المؤمنين بهذا القول والكافرين بهذا القول وجاز ان يكون الموصول مبتدأ خبره أولئك اصحاب الجحيم(3/62)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
والجملة معطوفة على الجملة الاسمية السابقة وكلاهما مفعول ثان لوعد يعنى ان الله وعد المؤمنين بمغفرتهم وإهلاك أعدائهم وجاز ان يكون الذين كفروا معطوفا على الذين أمنوا وموعودهم محذوف يدل عليه أولئك اصحب الجحيم على تقدير حذف مفعول وعد فى الاول وجعل جملة لهم مغفرة مستانفة دليلا على المحذوف ويجوز ان يكون هذا كلاما مستانفا والواو للاستيناف ومن عادته سبحانه ذكر حال أحد الفريقين بعد ذكر الفريق الاخر لا تمام مقام الدعوة والله اعلم- قال البغوي قال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن بشار عن رجاله انه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمر والساعدي وهو أحد نقباء ليلة العقبة فى ثلثين ركبا من المهاجرين والأنصار الى بنى عامر بن صعصعة فخرجوا ولقوا عامر بن الطفيل على بيرمعونة وهى من مياه بنى عامر واقتتلوا فقتل المنذر وأصحابه الا ثلثة نفر كانوا فى طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن امية الضميري فلم يرعهم الا والطير تحوم فى السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقى رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع راسه الى السماء وفتح عينيه وقال الله اكبر الجنة ورب العلمين ورجع صاحباه فلقيا رجلين من بنى سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة فانتسبا لهما ال بنى عامر فقتلاهما وقدم قومهما الى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وابو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب ابن الأشرف وبنى النضير يستعينهم فى عقلهما وكانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى ان يعينوا فى الديات فقالوا نعم يا أبا القاسم قد ان لك ان تأتينا وتسالنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تسالنا فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلا بعضهم ببعض فقالوا انكم لم تجدوا محمدا اقرب منه الان فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا فقال عمرو بن جحش انا فجاء الى رحا عظيمة ليطرحها عليه فامسك الله أيديهم وجاء جبرئيل وأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا الى المدينة ثم دعا عليّا وقال لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنى فقل توجه الى المدينة ففعل ذلك على حتى تناثلوا اليه ثم اتبعوه فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ(3/63)
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
الآية ذكر القصة بطولها ابن إسحاق وابن عمرو وابن سعد وذكروا فيها ان سلام بن مشكم نهاهم عن ذلك وقال لئن فعلتم ليخبرن بانا قد غدرنا به وان هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه فلا تفعلوا واخرج ابن جرير عن عكرمة ويزيد بن زياد ونحوه عن عبد الله بن ابى بكر وعاصم بن عمر بن قتادة ومجاهد وعبد الله بن كثير وابى مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم خرج ومعه ابو بكر الحديث كما ذكر البغوي ولم يذكر قصة قتل المنذر أصحابه واخرج ابو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس وابن إسحاق والبيهقي فى الدلائل عن يزيد بن رومان والذي فى روايتهم ان المقتولين عبدان الا انهما كانا مسلمين واخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا ان هذه الاية نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل فى الغزوة السابعة فاراد بنو ثعلبة وبنو محارب ان «1» يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلوة فاطلعه الله تعالى على ذلك وانزل صلوة الخوف واخرج ابو نعيم فى دلائل النبوة من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله ان رجلا من محارب يقال له الغويرث بن الحارث قال لقومه اقتل لكم محمدا فاقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه فى حجره فقال يا محمد انظر الى سيفك هذا قال نعم فاخذه فاستله فجعل يهزه ويهم به فيكبته «2» الله تعالى فقال يا محمد اما تخافنى قال لا قال اما تخافنى والسيف فى يدى قال لا يمنعنى الله منك ثم غمد السيف ورده الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الاية وذكر هذه الرواية عن الحسن وقال كان النبىّ صلى الله عليه وسلم حينئذ محاصر غطفان بنخل واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس فى هذه الاية ان قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولاصحابه طعاما ليقتلوه فاوحى الله عز وجل بشانهم فلم يأت الطعام وامر أصحابه فلم يأتوه واخرج الشيخان من حديث جابر نحو هذه القصة وليس عندهما ذكر نزول الاية واخرج البيهقي فى الدلائل عن قتادة انها نزلت فى قوم من العرب أرادوا ان يفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فارسلوا اليه الاعرابى يعنى الذي جاءه وهو نائم فى بعض المنازل فاخذ سلاحه وقال من
__________
(1) الفتك ان يأتى الرجل صاحبه وهو غافل فيقتل 12 نهايه
(2) اى يذله الله ويصرفه عنه 12(3/64)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
يحوله بينى وبينك فقال له الله فشام السيف ولم يعاقبه إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الظرف متعلق بنعمة ومفعول هم قوله أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والإهلاك يقال بسط اليه يده إذا بطش وبسط اليه لسانه إذا شتم فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ اى منع ورد مضرتها عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فانه الكافي لا يصال الخير ودفع الشر.
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ حين انزل عليهم التورية بعد الفراغ من امر فرعون وقد مرّ قصة أخذ الميثاق فى سورة البقرة حيث قال وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً والمراد به رئيس كل سبط يكون شاهدا ينقب عن احوال قومه ويفتش عنها ويكفل عنهم بالوفاء بما أمروا به ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر على حسب امر نبيهم ونهيه وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ يعنى ما دمتم مريدين الوفاء بالميثاق معية بلا كيف يوجب التوفيق لامتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي وشرح الصدر والاطمينان وتم الكلام للابتداء بالشرط الداخل عليه اللام الموطّئة للقسم فى قوله تعالى لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي اى بموسى ومن يأتي بعده مصدقا لما جاء به موسى من غير تفريق بين أحد منهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ اى عظمتموهم وقويتموهم ونصرتموهم فى القاموس العزر اللوم والتفخيم والتعظيم ضد والاعانة والتقوية والنصر وفى الصحاح التعزير النصرة مع التعظيم وأصله الذب والرد وفى النصرة رد الأعداء وسمى الزاجر ما دون الحد تعزيرا لان فيه منعه عن شنائع الأعمال ودفع الشنائع عنه والله اعلم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ بالإنفاق فى سبيل الخير وقيل هو كل حسنة وجاز ان يكون معناه أقرضتم عباد الله بحذف المضاف او أقرضتم الناس لله قَرْضاً حَسَناً يحتمل المصدر والمفعول والقرض الحسن ما يكون بلا منّ وعجب ورياء وغير ذلك مما يبطل العمل لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ اى بعد ذلك الميثاق والوعد المؤكد المعلق بالوفاء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اضافة الصفة الى الموصوف يعنى ضل سبيلا مستويا واخطأ(3/65)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
طريق الحق والمراد به ضلالا بينا لا شبهة فيه ولا عذر معه يدل عليه التعبير عن المستقبل بالماضي وتأكيده بقد بخلاف من كفر قبل ذلك فانه يحتمل ان يكون له شبهة ويتوهم له معذرة.
فَبِما نَقْضِهِمْ ما زائدة أفاد التفخيم مِيثاقَهُمْ حيث كذب النصارى محمدا صلى الله عليه وسلم واليهود إياه وعيسى وغيرهما من الأنبياء ونبذوا كتب الله وضيعوا فرائضه لَعَنَّاهُمْ قال عطاء بعد ناهم عن رحمتنا وقال الحسن ومقاتل مسخناهم وقيل معناه ضربنا عليهم الجزية وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً غليظة لا تلين بذكر الله ولا تنفعل بالآيات والنذر من القسوة بمعنى غلظ القلب وأصله من حجر قاس كذا فى الصحاح وهو المراد بما فسر ابن عباس باليابسة قرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير الف قال البغوي هما لغتان كالزاكية والزكية ومعناهما واحد وقال البيضاوي وهى اما مبالغة قاسية او بمعنى ردية من قولهم درهم قسى إذا كان مغشوشا قلت وهو ايضا من القسوة بمعنى الغلظ فان المغشوش فيه يبس وصلابة وقيل معناه ان قلوبهم ليست بخالصة للايمان بل ايمانهم مشوب بالكفر والنفاق كالدرهم المغشوش يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يعنى كلمات الله التي فى التورية عَنْ مَواضِعِهِ قيل هو تبديل نعت النبي صلى الله عليه وسلم وقيل تحريفهم بسوء التأويل والجملة مستأنفة لبيان قسوة قلوبهم فان تحريف كلام الله والافتراء عليه مقتضى كمال القسوة وجاز ان يكون حالا من مفعول لعناهم لا عن القلوب إذ لا ضمير وَنَسُوا تركوا حَظًّا نصيبا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فى التورية وعلى لسان الأنبياء من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم او المعنى تركوا حظهم مما انزل إليهم لان حظ ابائهم كان اتباع موسى عليه السلام وحظ هؤلاء الموجودين فى زمان النبي صلى الله عليه وسلم كان اتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلم ينالوه ذكر التحريف بلفظ المضارع والنسيان بلفظ الماضي لان الاول مترتب على الثاني فى الوجود وقيل معناه انهم حرفوا فنسو بشوم التحريف علوما كانوا يحفظونها مما ذكروا به روى احمد بن حنبل فى الزهد عن ابن مسعود لا حسب الرجل ينسى العلم كان يعلمها بالخطية يعملها وتلا هذه الاية وَلا تَزالُ يا محمّد تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ الخائنة فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاعنة يعنى على خيانة او هى بمعناها والمعنى(3/66)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
فرقة خائنة او نفس خائنة او فعلة ذات خيانة او معناه خائن والهاء للمبالغة مِنْهُمْ الضمير عائد الى بنى إسرائيل أجمعين الموجودين فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلافهم والاطلاع أعم منه بالمشاهدة او بالأخبار يعنى ان الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم كان أسلافهم يخولون الرسل الماضين وهؤلاء يخونونك وكانت خيانة هؤلاء نقض ما عهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمّه ونحو ذلك إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا وهم الصالحون من امة موسى وعيسى عليهما السّلام والذين أمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه وقيل الاستثناء من قوله وجعلنا قلوبهم قاسية وهذا ليس بسديد لان جعل قلوبهم قاسية متفرع على نقضهم ميثاقهم ونقض الميثاق يستلزم القساوة البتة فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ اى اعرض عنهم ولا تتعرض ولا تواخذهم بما اذوك ولا تعامل معهم الا ما أمرك الله به والعفو عما فعلوا فى شانه صلى الله عليه وسلم لا ينافى القتال بامر الله تعالى وقيل معناه اعف واصفح عنهم ان تابوا وأمنوا او عاهدوا والتزموا الجزية وقيل هذا الحكم منسوخ باية السيف إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للامر بالصفح وحث عليه وتنبيه على ان العفو عن الكافر الخائن احسان فضلا عن العفو عن غيره.
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ الجار والمجرور متعلق باخذنا وهو معطوف على قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وضمير ميثاقهم اما راجع الى الموصول يعنى وأخذنا من النصارى فى الإنجيل وعلى لسان عيسى عليه السّلام ميثاق النصارى بامتثال ما أمروا فى الإنجيل مصدقا لما بين يديه من التورية ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد واما راجع الى بنى إسرائيل المذكورين من قبل يعنى أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى اى ميثاقا مثل ميثاقهم قال الحسن فيه دليل على انهم نصارى بتسميتهم أنفسهم لا بتسمية الله تعالى والاولى ان يقال انه تعالى انما لم يقل ومن النصارى أخذنا ميثاقهم ليدل على انهم يسمّون أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة الله تعالى وليسوا كذلك وليس هذا الا للتعريض على الموجودين فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا على أسلافهم فان منهم من كانوا أنصار الله تعالى(3/67)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
على الحقيقة وأخذ الميثاق على هؤلاء الموجودين انما كان تبعا لاخذ الميثاق على ابائهم فَنَسُوا يعنى اكثر هؤلاء الموجودين وبعض من قبلهم حَظًّا اى حظا وافيا او حظهم مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فى الإنجيل فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم بعد البشارة بمبعثه واتبعوا اهوائهم قبل ذلك فافترقوا فرقا منهم الملكائية والنسطورية واليعقوبية قال بعضهم ان الله ثالث ثلثة وبعضهم عيسى ابن الله وبعضهم ان الله هو المسيح فَأَغْرَيْنا يعنى الصقنا والزمنا من غرى الشيء إذا لصق به ولزمه بَيْنَهُمُ قال مجاهد وقتادة يعنى بين اليهود والنصارى وقال الربيع بين فرق النصارى وهو الأظهر الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ لاجل اختلاف اهوائهم فى الدين إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بالجزاء والعقاب فى الاخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فى الدنيا من الكفر والمعاصي وترك الاقتداء بالكتب السماوية التي مآلها واحد والله اعلم اخرج ابن جرير عن عكرمة قال ان نبى الله صلى الله عليه وسلم أتاه اليهود يسالونه عن الرجم فقال أيكم اعلم فاشاروا الى ابن صوريا فناشده بالذي انزل التورية على موسى والذي رفع الطور بالمواثيق الذي أخذت عليهم فقال انه لما كثر الزنا فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فانزل الله تعالى.
يا أَهْلَ الْكِتابِ الى قوله صراط مستقيم والمراد باهل الكتاب اليهود والنصارى ووحد الكتاب لانه للجنس قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ اى التورية والإنجيل مثل اية الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم فى التورية وبشارة عيسى بأحمد فى الإنجيل وَيَعْفُوا اى يعرض عَنْ كَثِيرٍ مما يخفونه لا يخبر به إذا لم يتوقف عليه امر دينى او عن كثير منكم فلا يؤاخذ بجرمه قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعنى محمد صلى الله عليه وسلم او الإسلام وَكِتابٌ مُبِينٌ للاحكام او بين الاعجاز وهو القران وجاز ان يكون العطف تفسيريا وسمى محمدا صلى الله عليه وسلم والقران نورا لكونهما كاشفين لظلمات الكفر.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحد الضمير لان المراد بهما اما واحد او كواحد فى الحكم مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ اى رضاه بالايمان منهم سُبُلَ السَّلامِ اى طرق السلامة من عذاب الله وقيل السلام هو الله تعالى وسبله شرائعه الموصلة اليه وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ(3/68)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
الظُّلُماتِ اى ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ نور الايمان بِإِذْنِهِ بإرادته وتوفيقه وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ اى طريق موصل الى الله تعالى البتة وهو الإسلام.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ والقائلون بهذا القول اليعقوبية من النصارى فانهم قائلون بالاتحاد وقيل لم يصرح به أحد ولكن لما زعموا ان فيه لاهوتا وقالوا لا اله الّا واحد لزمهم ان يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ اى يقدر ان يدفع مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى ان المسيح وامه عبدان مخلوقان من جنس سائر الممكنات فان عطف من فى الأرض عليهما يفيد انهما من جنسهم متصفان بالحدوث واماراته من الابنيّة والامومية قابلان للهلاك والغناء مقدوران لله تعالى وحده إنشاء الله تعالى هلاكهما لا يستطيعان دفع الهلاك عن أنفسهما كسائر الممكنات وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ بغير مادة سبقت عليه كالسموات والأرض او من مادة من غير جنسه كما خلق آدم من الطين او من ذكر وحده كما خلق حواء من آدم او من أنثى وحدها كما خلق عيسى بن مريم او من ذكر وأنثى كاكثر الحيوانات وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الاحياء والاماتة فكيف يتصور اتحاد من ذلك شانه وظهر احتياجه وإمكانه بمن هذا سلطانه وعزّ برهانه روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن احيى وبحرى بن عمرو وشاس بن عدى فكلموه وكلمهم ودعاهم الى الله وحذرهم نقمته فقالوا ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله واحباؤه كقول النصارى فانزل الله تعالى.
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الاية قيل أرادوا ان الله تعالى كالاب لنا فى الحنو والعطف ونحن كالابناء له فى القرب والمنزلة وقال ابراهيم النخعي ان اليهود وجدوا فى التورية يا أبناء احبارى فبدّلوا يا أبناء ابكارى فمن ذلك قالوا نحن أبناء الله وقيل معناه نحن أبناء رسل الله وقيل أرادوا انهم أشياع ابنيه عزير والمسيح كما قال لاشياع ابى الجنيب عبد الله بن الزبير الجنيبيون قُلْ يا محمد ان صح ما زعمتم فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فان الأب(3/69)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
لا يعذب ولده والحبيب حبيبه وقد عذبكم الله فى الدنيا بالقتل والاسر والمسح وأنتم مقرون انه سيعذبكم بالنار أياما معدودات فليس الأمر كما زعمتم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر بنى آدم يحزون بالاساءة والإحسان يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ما دون الكفر فضلا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مدلا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كلها سواء فى المملوكية والمخلوقية والمملوكية تنافى البنوة فيه تنبيه على نفى بنوة عزير وعيسى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لكل مخلوق فيجازى على حسب اعماله فيه وعد ووعيد روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودا الى الإسلام ورغبهم فيه فقال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة يا معشر يهود اتقوا الله فو الله انكم لتعلمون انه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهود اما قلنا لكم هذا وما انزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشرا بعده فانزل الله تعالى.
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لَكُمْ اعلام الهدى وشرائع الدين وحذف لظهوره او ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز ان لا يقدر مفعول والمعنى يبذل لكم البيان والجملة فى موضع الحال اى جاءكم رسولنا مبينا لكم عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق بجاء اى جاءكم على حين فتور من المرسلين وانقطاع من الوحى او حال من الضمير فى يبين أَنْ تَقُولُوا يعنى كراهة ان تقولوا او لئلا تقولوا معتذرين ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يعنى فلا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى وكان بينهما الف وسبعمائة او خمسمائة سنة والف نبى اخرج ابن سعد والزبير بن بكار وابن عساكر عن الكلبي انه كان بين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى الف وسبعمائة سنة وليسا من سبط واحد واخرج الحاكم عن ابن عبّاس بلفظ بين موسى وعيسى الف وخمسمائة سنة واخرج ابن ابى حاتم عن الأعمش قال كان بين موسى وعيسى الف نبى ويقدر على الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وكان بينهما ستمائة سنة أخرجه ابن عساكر وابن ابى حاتم عن قتادة او خمسمائة وستون سنة أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير من طريق(3/70)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
معمر عن قتادة ولم يكن بعد عيسى رسول سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم وفى الاية امتنان عليهم بان بعث إليهم حين انطمست اثار الوحى وكانوا أحوج ما يكونون اليه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم فى الاولى والاخرة الأنبياء اخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبى متفق عليه.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بنى إسرائيل يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فارشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث فى امة ما بعث فى بنى إسرائيل من الأنبياء وَجَعَلَكُمْ اى جعل منكم او فيكم مُلُوكاً وقد تكاثر فيهم الملوك بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهمّوا بقتل عيسى عليهما السلام وقال ابن عباس أراد بالملوك اصحاب خدم وحشم قال قتادة كانوا اوّل من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروى ابن ابى حاتم عن ابى سعيد الخدري رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان بنو إسرائيل إذا كان لاحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا وله شاهد من مرسل زيد بن اسلم وقال عبد الرحمن الحبلى سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال السنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد الله ألك امرأة تأوي إليها قال نعم قال ألك مسكن تسكنه قال نعم قال فانت من الأغنياء قال فان لى خادما قال فانت من الملوك وقال السدى معناه وجعلكم أحرارا تملكون امر أنفسكم بعد ما كنتم فى أيدي القبط يستعبدونكم وقال الضحاك كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا فيها ماء جار فهو ملك وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فى زمانهم لشرف صحبة الأنبياء من مراتب القرب عند الله مع الرفعة فى الدنيا والكرامات مثل فلق البحر وإنزال انواع الرجز على أعدائهم دونهم.
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قال مجاهد هى الطور وما حوله وقال الضحاك ايليا وبيت المقدس وقال عكرمة والسدى هى أريحا وقال الكلبي هى دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقال قتادة هى الشام كلها وقال كعب وجدت فى كتاب الله المنزل ان الشام كنز الله من ارضه وبها كنز من عباده سميت بالمقدسة لانها مقر الأنبياء ومسكن المؤمنين الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ اى كتب وفرض عليكم دخولها كما كتب الصوم والصّلوة كذا قال قتادة والسدى وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ الى مصر او الى خلاف ما أمركم الله جبتا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدارين يجوز فى(3/71)
فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب وقيل معنى كتب الله فى اللوح المحفوظ انها يكون مسكنا لكم ولا بد على هذا التأويل ان يقيد بشرط مقدر وهو ان أمنتم وأطعتم لقوله تعالى بعد ما عصوا انها محرمة عليهم وجاز ان يكون ضمير لكم عائدا الى بنى إسرائيل بالنسبة الى بعضهم يعنى المطيعين وضمير محرمة عليهم بالنسبة الى بعض اخر يعنى العاصين او يقال التحريم مقيد بأربعين سنة ثم يكون مسكنا لهم وقال ابن إسحاق معنى كتب الله لكم وهب الله لكم وجعلها لكم قال الكلبي صعد ابراهيم جبل لبنان فقال له انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك قال البغوي ان الله عز وجل وعد موسى ان يورثه وقومه الأرض المقدسة وهى الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون فلما استقرت لبنى إسرائيل الديار بمصر يعنى بعد الفراغ من امر فرعون أمرهم الله بالمصير الى أريحا من ارض الشام وهى الأرض المقدسة وكانت بها الف قرية فى كل قرية الف بستان قلت لعل المراد بالألف الكثرة جدا دون العدد والله اعلم وقال الله تعالى يا موسى انى كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فانى ناصرك عليهم وخذ من قومك اثنا عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء وسار ببني إسرائيل حتى إذا قربوا من أريحا بعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الاخبار ويعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلثة وثلثون ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجر بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه يعنى بالشمس يرفعه إليها ثم يأكله ويروى ان الماء طبق على ما على الأرض من جبل وما جاوز من ركبتى عوج وعاش ثلثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدى موسى وذلك ان جاء وقور «1» صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السّلام وكان فرسخا فى فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فنقر الصخرة بمنقاره فوقعت فى عنقه فصرعته فاقبل موسى عليه السّلام وهو مصروع فقتله وكانت امه عنق احدى بنات آدم عليه السّلام وكان مجلسها جريبا من الأرض قال فلما لقى عوج النقباء وعلى راسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم فى حجزته وانطلق بهم الى امرأته
__________
(1) وقور فعول من الوقر بمعنى الثقل 12(3/72)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
وقال انظري الى هؤلاء الذين يزعمون انهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال الا اطحنهم برجلي فقالت امرأته لا بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما راوا ففعل ذلك وروى انه جعلهم فى كمه واتى بهم الى الملك فنشرهم بين يديه فقال الملك ارجعوا فاخبروهم بما رايتم وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم إلا خمسة انفس منهم فى خشبة ويدخل فى شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة انفس قلت كذا ذكر البغوي فى عوج بن عنق وفيه مبالغات لا يقبلها العقل وينكرها المحدثون غير انه أعظم جثة وأقوى قوة من الجبارين وكانوا اجراما عظيمة اولى بأس شديد فلما رجع النقباء الى موسى واخبروه بما عاينوا قال لهم موسى اكتموا شانهم ولا تخبروا به أحدا من اهل العسكر فيفشلوا فاخبر كل رجل منهم قريبه وابن عمه الا رجلان وفيا بما قال لهم موسى أحدهما يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف فتى موسى والاخر كالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران وكان من سبط يهود افعمت جماعة بنى إسرائيل ذلك ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا يا ليتنا متنا بمصر وليتنا نموت ولا يدخلنا الله ارضهم فتكون نساءنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم وجعل الرجل يقول لصاحبه تعال نجعل علينا راسا وننصرف الى مصر.
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها اى فى تلك الأرض قَوْماً جَبَّارِينَ الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العالي الذي يجبر الناس على ما يريد وقال البغوي الجبار المتعظم الممتنع عن القهر بحيث لا يتاتى مقاومته يقال نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها قلت كان امتناعهم اما بطولهم وقوة أجسادهم كما يدل عليه القصة او لكثرة جنودهم وأموالهم وآلات الحرب معهم قال البغوي كانوا من العمالقة وبقية قوم عاد وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة لنا بهم فلما قال بنو إسرائيل ذلك وهموا بالانصراف الى معه وخر موسى وهارون ساجدين وخرق كالب ويوشع ثيابهما وهما الذين اخبر الله تعالى عنهما فى قوله.
قالَ رَجُلانِ يعنى كالب ويوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ الله تعالى ويتقونه وقيل كانا رجلين من الجبابرة أسلما وصارا الى موسى فعلى هذا الواو لبنى إسرائيل والراجع الى الموصول محذوف اى من الذين يخافهم بنو إسرائيل ويشهده قراءة سعيد ابن جبير يخافون بضم الياء أخرجه ابن جرير عنه والحاكم وصححه عن ابن عباس(3/73)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالايمان والتثبت صفة ثانية لرجلين او اعتراض ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم اى باغتوا وضاغطوهم فى المضيق وامنعوهم عن الخروج الى الصحارى فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ 5 لتعذر الكر عليهم فى المضايق ولان الله منجز وعده وانا رايناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به مصدقين بوعده قال البغوي فاراد بنو إسرائيل ان يرجموهما بالحجارة وغضبوهما و.
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم على التأكيد والتأبيد وقوله ما دامُوا فِيها بدل من ابدا بدل البعض فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قيل قالوا ذلك استهانة بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما وهذا مستبعد جدا لانه يستلزم الكفر فلا يتصور بعد ذلك مصاحبة موسى وقد كانوا فى مصاحبته ونزل عليهم المن والسلوى وظلل عليهم الغمام وانفجرت من الحجر عيونا لشربهم فالمعنى اذهب أنت وربك يعينك والله اعلم عن ابن مسعود قال شهدت من المقداد بن اسود مشهد الان أكون صاحبه لاحب الى مما عدل به اتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعوه على المشركين قال لا نقول كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرايت النبىّ صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره رواه البخاري وغيره فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفة امر الله ورسوله وهموا بيوشع وكالب غضب موسى ودعا عليهم.
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعنى وأخي لا يملك الا نفسه فاخى اما منصوب عطفا على اسم ان او مرفوع عطفا على الضمير المرفوع فى املك او مبتدأ خبره محذوف يعنى كذلك وجاز ان يكون معناه لا يطيعنى الا نفسى وأخي وحينئذ أخي اما منصوب عطفا على نفسى او مجرور عند الكوفيين عطفا على ياء المتكلم فى نفسى والحصر إضافي بالنسبة الى القوم العاصين اخرج الكلام شكاية عنهم ولا يلزم منه عدم إطاعة الرجلين يوشع وكالب فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بان تحكم لكل ما يستحقه من المدح والثواب والذم والعقاب او المعنى فافرق بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم.
قالَ الله تعالى فَإِنَّها اى الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ تحريم منع لا تحريم تعبد يعنى انها ممنوعة منهم لا يدخلونها ولا يسكنونها بسبب(3/74)
عصيانهم أَرْبَعِينَ سَنَةً الظاهر انه متعلق بقوله محرمة فيكون التحريم موقتا غير موبد ولا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى التي كتب الله لكم على تاويل كتب الله فى اللوح المحفوظ كونها مسكنا لكم ويؤيد ذلك ما روى ان موسى فتح أريحا بمن بقي من بنى إسرائيل وكان يوشع على مقدمته وقاتل الجبابرة واقام موسى فيها ما شاء الله ثم قبض كما سيجئ قصته ولا يعلم قبره أحد قال البغوي وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء ان عوج بن عنق قتله موسى قلت ولقوله تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض الى قوله تعالى اهبطوا مصرا فان لكم ما سالتم فانه يدل على ان موسى كان حيا حين اهبطوا مصرا بعد خروجهم من التيه وذلك يعد أربعين سنة وقيل الظرف متعلق بما بعده يعنى يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ اى يسيرون فيها يتحيرون لا يرون الطريق فيكون التحريم حينئذ مطلقا ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال لا ندخلها بل هلكوا فى التيه كلهم وانما قاتل الجبابرة أولادهم مع يوشع لما هلكوا كلهم وانقضت أربعون سنة ونشات النواشي من ذراريهم ولم يسر إليهم يوشع الا بعد موت موسى ومات موسى وهارون عليهما السلام فى التيه كذا اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال البغوي على هذه الرواية فلما مات موسى وانقضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبيا فامرهم ان الله تعالى قد امر بقتال الجبابرة فصدقوه وبايعوه فتوجه بنوا إسرائيل الى أريحا ومعه تابوت الميثاق فاحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا فى القرن وضجّ «1» الشغب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ودخلوا فقاتلوا الجبارين فهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة من بنى إسرائيل يجتمعون على عنق رجل يضربونها لا يقطعونها فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منه بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال اللهم اردد الشمس علىّ وقال للشمس انك فى طاعة الله وانا فى طاعته فسال الشمس ان تقف حتى ينتقم من اعداء الله قبل دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد فى النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين روى احمد فى مسنده مرفوعا ان الشمس لم تحبس على بشر الا ليوشع ليالى سار الى بيت المقدس قال البغوي وتتبع
__________
(1) الضجع الضياح عند المكروه والمشقة والجزع والشغب بسكون الغين تهيج الشر والفتنة والخصام 12 نهاية(3/75)
ملوك الشام فقتل منهم واحد او ثلثين ملكا حتى غلب على جميع ارض الشام وفرق العمال فى نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فاوحى الله الى يوشع ان فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصق يد رجل منهم بيده فقال هلم ما عندك فاتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالجواهر واليواقيت كان قد غله فجعله فى القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فاكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن فى جبل افرائيم وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة وتدبيره امر بنى إسرائيل بعد موسى ستا وعشرين سنة فَلا تَأْسَ اى لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ خاطب به موسى لما ندم على الدعاء عليهم وبين انهم احقّاء بذلك لفسقهم روى انهم لبثوا أربعين سنة فى ستة فراسخ وكانوا يسيرون كل يوم جادين فاذا امسوا كانوا فى الموضع الذي ارتحلوا عنه كذا اخرج ابن جرير وابو الشيخ فى العظمة عن وهب بن منبه بدون ستة فراسخ قال البغوي كانوا ستمائة الف مقاتل قيل ان موسى وهارون لم يكونا فيهم والأصح انهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة بل كان روحا لهما وزيادة لدرجتهما وانما كانت العقوبة لهؤلاء القوم وكان الغمام يظللهم من الشمس فى التيه قدر خمسة فراسخ او ستة كذا اخرج ابن جرير عن الربيع ابن انس وكان يطلع بالليل عمود من النور فيضئ لهم وكان طعامهم المن والسلوى ومائهم من الحجر الذي يحملونه حتى انقضت مدة التيه وأمروا بان يهبطوا مصرا ثم قاتل موسى الجبابرة وفتح أريحا وأمروا ان يدخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة (قصّة وفات هارون عليه الصلاة والسلام) قال السدى اوحى الله الى موسى انى متوفى هارون عليه السلام فآت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فاذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا بيت مبنى وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون الى ذلك أعجبه قال يا موسى انى أحب ان أنام على هذا السرير قال فنم عليه فقال انى أخاف ان يأتي رب هذا البيت فيغضب على قال موسى لا ترهب انى أكفيك رب هذا البيت قال يا موسى فنم أنت معى فان جاء رب البيت غضب علىّ وعليك جميعا فلما ناما أخذ هارون عليه السلام الموت فلما وجد معه قال يا موسى خذ عينى فلما قبض رفع البيت وذهب تلك الشجرة ورفع السرير الى السماء فلما رجع موسى الى بنى اسراءيل وليس معه هارون قالوا ان موسى قتل هارون وحسده لحب بنى إسرائيل له فقال موسى ويحكم كان(3/76)
أخي أفترونني اقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا اليه بين السماء والأرض فصدقوه وعن على بن ابى طالب رضى الله عنه قال صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فامر الله تعالى الملئكة فحملته حتى مروا به على بنى إسرائيل فكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنوا إسرائيل انه قد مات فبراه الله مما قالوا ثم ان الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره الا الرخم فجعله الله أصم ابكم وقال عمرو بن ميمون مات هارون وموسى عليهما السّلام فى التيه مات هارون قبل موسى وكانا قد خرجا الى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف الى بنى إسرائيل فقالوا قتلته لحبنا إياه وكان محبا فى بنى إسرائيل فتضرع موسى عليه السلام الى ربه عز وجل فاوحى الله اليه انطلق بهم الى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض راسه فقال انا قتلتك قال لا ولكنى مت قال فعد الى مضجعك وانصرفوا- (قصّة وفات موسى عليه السّلام) قال ابن إسحاق كان صفى الله موسى يكره الموت فاراد الله ان يحبب اليه الموت فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى يا نبى الله ما أحدث الله إليك فيقول له يوشع يا نبى الله الم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت اسألك عن شىء ما أحدث إليك حتى تكون أنت الذي تبتدى به وتذكره ولا يذكر له شيئا فلما رأى موسى ذلك كره الحيوة وحبب الموت وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ملك الموت الى موسى فقال له أجب ربك قال فلطم
موسى عليه السّلام عين ملك الموت ففقأها قال فرجع الملك الى الله سبحانه وتعالى فقال انك أرسلتني الى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عينى قال فرد الله اليه عينه وقال ارجع الى عبدى فقل له الحيوة تريد فان كنت تريد الحيوة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فانك تعيش بها سنة قال ثم مه قال ثم تموت قال فالآن من قريب قال رب أدنني من الأرض المقدسة رمية الحجر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو انى عنده لاريتكم قبره الى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر متفق عليه وقال وهب خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبر الم ير شيئا احسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر قالوا لعبد كريم على ربه قال ان هذا العبد(3/77)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
من الله بمنزل ما رايت كاليوم مضجعا فقال الملائكة يا صفى الله أتحب ان يكون لك قال وددت قالوا فانزل واضطجع فيه وتوجه الى ربّك قال فاضطجع وتوجه الى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك وتعالى روحه ثم سوت عليه الملائكة وقيل ان ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها وقبض روحه وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة والله اعلم-.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل بِالْحَقِّ صفة مصدر محذوف اى تلاوة متلبسة بالحق او حال من الضمير فى اتل او من نبأ اى متلبسا بالصدق موافقا لما فى كتب الأولين إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ او حال منه او بدل على حذف مضاف اى اتل نبأهم نبا ذاك الوقت والقربان اسم ما يتقرب بها الى الله تعالى من ذبيحة او غيرها كما ان الحلوان اسم لما يحلى اى يعطى وهو فى الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كلو أحد منهما قربانا وكان سبب قربانهم على ما ذكر اهل العلم ان حواء كانت تلد لآدم عليه السلام فى بطن غلاما وجارية وكان جميع ما ولد أربعين ولدا فى عشرين بطنا أولهم قابيل وتوامته إقليما وثانيهم هابيل وتوامته لبودا وآخرهم ابو المغيث وتوامته أم المغيث قال ابن عباس لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين الفا قال محمد بن اسحق عن بعض اهل العلم بالكتاب الاوّل انه ولد قابيل وأخته فى الجنة فلم تجد حواء عليهما وجعا ولا وصبا ولا طلقا ولم تر معهما دما فلما هبطا الى الأرض حملت بهابيل وأخته فوجدت عليهما الوجع والوصب والطلق والدم وقال غيره غشى آدم حواء بعد مهبطهما الى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وأخته فى بطن ثم هابيل وأخته فى بطن وكان بينهما سنتان فى قول الكلبي وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن اخرى فكان الرجل منهم يتزوج اية أخواته شاء الا توامته فلما بلغ قابيل وهابيل النكاح اوحى الله تعالى الى آدم ان يزوج كلواحد منهما توامة الاخر فرضى هابيل وسخط قابيل لان توامته كانت أجمل وقال انا أحق بها ونحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض فقال له أبوه انها لا تحل لك فابى ان يقبل ذلك وقال ان الله لم يأمره بهذا وانما هو برأيه فقال آدم فقربا قربانا فمن يقبل قربانه فهو احقّ بها وكانت القربان إذا قبلت نزلت نار من السماء بيضاء فاكلته وإذا لم تقبل لم تنزل النار وأكله الطير والسباع فخرجا ليقربا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردى زرعه وأضمر(3/78)
فى نفسه لا أبالي أيقبل قربانى أم لم يقبل لا يتزوج أختي ابدا وكان هابيل صاحب غنم فعمد الى احسن كبش من غنمه فقرب به وأضمر رضوان الله تعالى فوضعا قربانهما على الجبل ثم دعا آدم عليه السّلام فنزلت نار من السماء فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما يعنى هابيل أكلت النار قربانه وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ يعنى من قابيل قربانه فغضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد فى نفسه الى ان اتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم اتى قابيل هابيل قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ هابيل لم قال لان الله تعالى قبل قربانك ورد قربانى وتنكح أختي الحسناء وانكح أختك الذميمة فيتحدث الناس انك خير منى ويفتخر ولدك على ولدي فقال هابيل وما ذنبى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ القربان مِنَ الْمُتَّقِينَ وفيه اشارة الى ان الحاسد ينبغى ان يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد فى تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا فى ازالة حظه فان ذلك مما يضره ولا ينفعه وان الطاعة انما يتقبل من مومن متق عن الرذائل والمناهي عند اخلاص النية اخرج ابن ابى شيبة عن الضحاك فى قوله تعالى انما يتقبل الله من المتقين قال الذين يتقون الشرك قلت لعل المراد بقوله تعالى انما يتقبل الله من المتقين ان القربان لا يتقبل الا ممن كان محقا من الخصمين لا من المبطل والله اعلم وسئل موسى بن أعين عن قوله تعالى انما يتقبل الله من المتّقين قال تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة الحرام واخرج ابن ابى الدنيا عن على بن ابى طالب قال لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبّل واخرج ابن ابى الدنيا عن عمر بن عبد العزيز انه كتب الى رجل أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها ولا يرحم الا أهلها ولا يثاب الا عليها فان الواعظون بها كثير والعاملون بها قليل واخرج ابن ابى حاتم عن ابى الدرداء قال لان استقر انّ الله قد تقبل منى صلوة واحدة أحب الى من الدنيا وما فيها ان الله يقول انما
يتقبل الله من المتقين واخرج ابن عساكر عن هشام بن يحيى عن أبيه قال دخل سائل الى ابن عمر فقال لابنه أعطه درهما فاعطاه فلما انصرف قال ابنه تقبل منك يا أبتاه قال لو علمت ان الله يقبل سجدة واحدة او صدقة درهم لم يكن غائب أحب الى من الموت تدرى ممن يتقبل الله انما يتقبل الله من المتقين واخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال لان أكون اعلم ان الله يتقبل منى عملا أحب الى من ان أكون لى ملأ الأرض ذهبا وعن عامر بن عبد الله انه بكى حين حضره الوفاة(3/79)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
فقيل له وما يبكيك وقد كنت وكنت يعنى كنت كثير العبادة قال انى اسمع الله يقول انما يتقبل الله من المتقين وقال هابيل فى جوابه.
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ قرأ نافع وابو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بالإسكان إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ قال عبد الله بن عمرو وايم الله ان كان المقتول لاشد الرجلين ولكن منعه التحرج ان يبسط يده الى أخيه يعنى استلم له خوفا من الله تعالى اما لان الدفع لم يبح بعد قال مجاهد كتب عليهم فى ذلك الوقت إذا أراد الرجل قتل رجل ان لا يمتنع ويصبر واما تحريا لما هو الأفضل قال عليه السّلام كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل أخرجه ابن سعد فى الطبقات من حديث عبد الله وهذا جائز فى شريعتنا ان ينقاد ويستسلم كما فعل عثمان رضى الله عنه اخرج ابن سعد عن ابى هريرة قال دخلت على عثمان يوم الدار فقلت جئت لانصرك فقال يا أبا هريرة أيسرك ان تقتل الناس جميعا وإياي معهم قلت لا قال فان قتلت رجلا واحدا فكانما قتلت الناس جميعا واخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ابني آدم ضربا مثلا لهذه الامة فخذوا بالخير منهما واخرج عبد بن حميد عنه بلفظ فتشبهوا بخيرهما ولا تشبهوا بشرهما وانما قال ما انا بباسط فى جواب لئن بسطت للتبرى عن هذا الفعل الشنيع راسا والتحرز من ان يوصف به ويطلق عليه ولذا أكد النفي بالباء.
إِنِّي فتح الياء نافع واسكن غيره أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ الى ربك بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ كلاهما فى موضع الحال من فاعل تبوء اى ترجع متلبسا بالاثمين حاملا لهما يعنى إذا قتلتنى ترجع حاملا اثم خطاياى التي عملتها واثم خطاياك التي عملتها من قتلى وغير ذلك كذا روى ابن نجيح عن مجاهد فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فان المظلوم يعطى من حسنات الظالم يوم القيمة جزاء لظلمه وان لم يكن للظالم حسنات او كانت ولكن فنيت قبل أداء جميع حقوق الناس يطرح على الظالم اثم خطايا المظلوم ويلقى فى النار عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلوة وصيام وزكوة ويأتى قد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته(3/80)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
وهذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل ان يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النّار رواه مسلم فان قيل لا يجوز لمسلم ارادة معصية أخيه وشقاوته فكيف أراد هابيل هكذا قلنا ليس الكلام على حقيقته ولم يكن مراد هابيل ان يقتله اخوه البتة ويكون اخوه قاتلا عاصيا بل انه لما علم انه يكون قاتلا او مقتولا لا محالة أراد نفى كونه قاتلا عن نفسه لا كون أخيه قاتلا فالمراد بالذات ان لا يكون عليه اثم.
فَطَوَّعَتْ اى أسمعت وانقادت لَهُ نَفْسُهُ وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله قَتْلَ أَخِيهِ كانه دعا نفسه اليه فطاوعته واطاعته قال فى الصحاح طوعت ابلغ من اطاعت فلما قصد قابيل قتله لم يدر كيف يقتله قال ابن جريح فتمثل له إبليس فاخذ طيرا فوضع راسه على حجر ثم شدخ راسه بحجر اخر وقابيل ينظر اليه فعلمه القتل فرضخ قابيل راس هابيل بين حجرين قيل وهو مستسلم وقيل اغتاله فى النوم فشدخ راسه فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فى الدنيا حيث بقي مدة عمره مطرودا محزونا وفى الاخرة حيث بدل جنته بالنار وكان هابيل يوم قتل ابن عشرين سنة قال ابن عباس قتله على جبل نود وقيل عند عقبة حراء فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لانه كان أول ميت على وجه الأرض من بنى آدم وقصده السباع فجعله فى جراب على ظهره أربعين يوما وقال ابن عبّاس سنة حتى تعير وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتاكله فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه فى الحفرة وواراه وقابيل ينظر اليه وذلك قوله تعالى.
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ الضمير المرفوع راجع الى الله سبحانه او الى الغراب كَيْفَ حال من الضمير فى يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قدم عليه لاقتضائه صدر الكلام والجملة ثانى مفعولى ليريه والروية هاهنا بمعنى العلم دون الابصار إذ الابصار لم يتحقق بمواراة سوأة أخيه بل بمواراة الغراب ولا بد هاهنا من مفعول ثالث لتعديته بهمزة الافعال فتقول جملة كيف يوارى قائم مقام المفعولين كما فى قولك علمت ان زيدا قائم ومعنى الكلام ليريه توارى سوأة أخيه متكيفا بتلك الكيفية والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فانه مما يستقبح ان يرى وقيل المراد به عورته وما لا يجوز ان ينكشف من جسده ولم يلهم الله سبحانه قابيل ما الهم الغراب ازدراء به وتنبيها على انك أهون على الله(3/81)
من الغراب وابعد منزلة منه حتى جعلك تلميذا له يدل عليه قوله قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسر والالف منه بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتى احضرى هذا أوانك ونجنى من الم العجز والويل الهلاك وهو منادى مستغاث او كلمة ندبة مثل يا حسرتا أَعَجَزْتُ والاستفهام للتعجب أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ عطف على ان أكون وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى لو عجزت لو اريت سَوْأَةَ أَخِي يعنى لست انا اهتدى الى ما اهتدى اليه الغراب فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على حمله على عاتقه سنة وقيل ندم على فراق أخيه وقيل ندم على القتل لانه أسخط والديه وما انتفع بقتله شيئا ولم يكن ندم على القتل من حيث ركوب الذنب قال المطلب بن عبد الله بن حنطب لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء فناداه الله اين أخوك هابيل قال ما أدرى ما كنت عليه رقيبا فقال ان دم أخيك لينادينى من الأرض فلم قتلت أخاك قال فاين دمه ان كنت قتلته فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ ان يشرب دما بعده ابدا وروى انه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ عنه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وقال مقاتل ابن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الاطعمة وحمضت الفواكه وامرّ الماء واغبرت الأرض فقال آدم قد حدث فى الأرض حدث فاتى الهند فاذا قابيل قتل هابيل فانشا يقول وهو أول من قال شعرا
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذى طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
وروى عن ميمون بن مهران عن ابن عبّاس قال من قال ان آدم قال شعرا فقد كذب على الله ورسوله فان محمدا والأنبياء كلهم فى الشعر سواء لكنه لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سريانى فلما قال آدم مرثية قال لشيث يا بنى انك وصيي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه فلم يزل ينقل حتى وصل الى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية وكان يقول الشعر فرد المقدم(3/82)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
الى المؤخر والمؤخر الى المقدم وجعله موزونا وزيد فيه أبيات منها
ومالى لا أجود بسكب دمع ... وهابيل تضمنه الضريح
ارى طول الحياة علىّ غما ... فهل انا من حياتى مستريح
فلما مضى من عمر آدم مائة وثلثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا واسمه هبة الله يعنى انه خلف من هابيل علمه الله ساعات الليل والنهار وعلمه عبادة الحق فى كل ساعة منها وانزل عليه خمسين صحيفة فصار وصى آدم وولى عهده فاما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فاخذ بيد أخته إقليما وهرب بها الى عدن من ارض اليمن فاتاه إبليس فقال له انما أكلت النّار قربان هابيل لانه كان يعبد النار فانصب أنت ايضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيتا للنار فهو اوّل من عبد النار واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا فى اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى غرقهم الله بالطوفان ايام نوح وبقي نسل شيث عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الاوّل كفل من دمها لانه اوّل من سن القتل رواه البخاري وغيره وروى البيهقي فى شعب الايمان عن ابن عمر وابن آدم القاتل يقاسم اهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم واخرج ابن عساكر عن ابى هريرة عن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال من هجر أخاه سنة لقى الله بخطية قابيل لا يفكه شىء دون ولوج النار.
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قرأ ابو جعفر من أجل بكسر النون موصولا وإلقاء الهمزة والعامة بسكون النون وفتح الهمزة مقطوعا اى بسبب وقوع ذلك الجناية العظيمة من ابن آدم وسد باب القتل وأجل فى الأصل مصدر أجل شرا بأجل إذا اجناه اى جره اليه فى القاموس أجل للشر عليهم ياجله جناه إذا ثاره وهيجه ثم استعمل فى تعليل الجنايات ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تعليل ومن ابتدائية متعلقة بقوله كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ اى ابتداء الكتب وانشأه من أجل ذلك أَنَّهُ الضمير للشان مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ اى بغير قتل نفس يوجب القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ وهو يشتمل فساد اهل الحرب واهل البغي وقطاع الطريق وزنا يعنى بغير هذه الأشياء الموجبة للقتل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ «1» جَمِيعاً قال البغوي اختلفوا فى تأويلها
__________
(1) اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد فى قوله تعالى فكانما قتل الناس جميعا قال هذه مثل التي فى سورة النساء ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعدله عذابا عظيما يقول لو قتل الناس لم يزد على مثل ذلك 12 منه(3/83)
فقال ابن عباس فى رواية عن عكرمة من قتل نبيا او امام عدل فكانما قتل الناس جميعا ومن شد على عضد نبىّ او امام عدل فكانما أحيا الناس جميعا وقال مجاهد من قتل نفسا محرمة يصل النار بقتلها كما يصل لو قتل الناس جميعا ومن أحياها يعنى من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا وقال قتادة عظم الله أجرها وعظم وزرها معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكانما قتل الناس جميعا فى الإثم لانهم لا يسلمون منه وَمَنْ أَحْياها اى تورع عن قتلها او استنقذها من بعض اسباب الهلاك كالقتل بغير حق او غرق او حرق او هدم او نحو ذلك فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً فى الثواب لسلامتهم منه وقال الحسن فكانما قتل الناس جميعا يعنى انه يجب عليه القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل النّاس جميعا ومن أحياها اى عفا عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكانما احيى الناس جميعا والمقصود من هذه الاية تعظيم قتل النفس وإحياءها فى القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا فى المحاماة عليها عن البراء بن عازب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق رواه ابن ماجة بسند حسن والبيهقي وزاد ولو ان اهل سموته واهل ارضه اشتركوا فى دم مؤمن لادخلهم النار وفى رواية له من سفك دم بغير حق ولمسلم من حديث عبد الله بن عمر مثل الاول والنسائي من حديث بريدة قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ولابن ماجة من حديث عبد الله بن عمر ورايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما اطيبك وما أطيب ريحك وما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفسى بيده لحرمة المؤمن أعظم من حرمتك وماله ودمه قال سليمان بن على قلت للحسن فى هذه الآية يا أبا سعيد أهي لنا كما كانت لبنى إسرائيل قال اى والذي لا اله غيره ما كان دماء بنى إسرائيل أكرم على الله من دمائنا وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ يعنى بنى إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ اى بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحات تأكيدا للامر وتجديدا للعهد كى يتحاموا عنها كثير منهم فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ(3/84)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
بالقتل لا يبالون به والإسراف التباعد عن حد الاعتدال فى الأمر.
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» اى يحاربون عباد الله ويحاربون رسوله فانه صلى الله عليه وسلم هو الحافظ للطرق والخلفاء والملوك بعده نوابه او المعنى يحاربون الله ورسوله انهم يخالفون أمرها ويهتكون حرمة دماء واموال ثبت باثباتهما قال البيضاوي اصل الحرب السلب وفى القاموس الحرب معروف والسلب وهذا يدل على كونه مشتركا وكلام البيضاوي يدل على كونه منقولا وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً اى مفسدين او للفساد وجاز ان يكون منصوبا على المصدرية لان سعيهم كان فسادا وقيل يفسدون فى الأرض فسادا واختلفوا فى نزول هذه الاية اخرج ابن جرير عن يزيد بن ابى حبيب ان عبد الملك بن مردان كتب الى انس يسأله عن هذه الاية فكتب اليه انس ان هذه الاية نزلت فى العرنيين ارتدّوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل الحديث ثم اخرج عن جرير مثله واخرج عبد الرزاق نحوه عن ابى هريرة وكذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير روى البخاري وغيره عن انس قال لما قدم على النبىّ صلى الله عليه وسلم نفر عن عكل فاسلموا فاجتوت «2» المدينة فامرهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يأتوا ابل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا
__________
(1) اخرج الخرابطى فى مكارم الأخلاق عن ابن عباس ان قوما من عرينة جاؤا الى النبي صلى الله عليه وسلم فاسلموا وكان قد شلت أعضائهم واصفرت وجوههم وعظمت بطونهم فامر بهم النبىّ صلى الله عليه وسلم الى ابل الصدقة يشربون من ألبانها وأبوالها فشربوا حتى صحوا وسمنوا فعمدوا الى راعى النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا واستاقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام وجاء جبرئيل فقال يا محمد ابعث فى اثارهم فبعث ثم قال ادع بهذا الدعاء اللهم ان السماء سماءك والأرض أرضك والمشرق مشرقك والمغرب مغربك اللهم ضيق عليهم الأرض برحبها حتى تجعلها عليهم أضيق من سك جمل حتى تقدرنى عليهم فجاؤا بهم فانزل الله تعالى انما جزاؤ الذين الاية فامر جبرئيل من أخذ المال وقتل يصلب ومن قتل ولم يأخذ يقتل ومن أخذ المال ولم يقتل يقطع يده ورجله من خلاف قال ابن عباس هذا الدعاء لكل ابق ولكل من ضلت له ضالة من انسان او غيره يدعو بهذا الدعاء ويكتب فى شىء ويدفن فى مكان نظيف الا قدره الله عليه 12
(2) اى أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول وذلك إذا لم يوافقهم هواء المدينة 12 نهايه(3/85)
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فى اثارهم فاتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمرهم بمسامير فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا قال ابو قلابة قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا فى الأرض فسادا واختلفوا فيما فعل بالعرنيين فقال بعضهم منسوخ بهذه الاية لان المثلة لا يجوز وقال بعضهم حكم ثابت الا السمل والمثلة وهذا القول لا يتصور الا إذا كان الامام مخيرا بين الاحكام الاربعة المذكورة فى هذه الاية وروى قتادة عن ابن سيرين ان ذلك كان قبل ان ينزل الحدود وقال ابو الزناد لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم انزل الله الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعدو عن قتادة قال بلغنا ان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة وقال سليمان التيمي عن انس انما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم لانهم سملوا أعين الرعاة وقال الليث بن سعد نزلت هذه الاية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما منه إياه عقوبتهم وقال انما جزاؤهم هذه لا المثلة وقال الضحاك نزلت هذه الاية فى قوم من اهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا فى الأرض وقال الكلبي نزلت فى قوم هلال بن عويمر وذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو ابو برزة الأسلمي على ان لا يعينه ولا يعين عليه ومن مر بهلال بن عويمر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهوا من لا يهاج فمر قوم من بنى كنانة يريدون الإسلام بناس من اسلم من قوم هلال ابن عويمر ولم يكن هلال شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبرئيل عليه السلام بالقضية فيهم والله اعلم- (فائدة) اجمعوا على ان المراد بالمحاربين المفسدين فى هذه الاية قطاع الطريق سواء كانوا مسلمين او من اهل الذمة واتفقوا على ان من برزو شهر السلاح مخيفا مغيرا خارج المصر بحيث لا يدركه الغوث فهو محارب قاطع للطريق جارية عليه احكام هذه الاية واختلفوا فيمن قطع الطريق ليلا او نهارا فى المصر او بين الكوفة والحيرة مثلا فقال مالك رح والشافعي رح واحمد رح هو قاطع محارب وقال ابو حنيفة رح لا يثبت هذا الحكم الا فيمن يكون خارج المصر بعيدا منه بحيث لا يلحقه الغوث كذا ذكر صاحب رحمة الامة وقال البغوي المكابرون فى الأمصار داخلون فى حكم هذه الاية وهو قول مالك والأوزاعي والليث(3/86)
ابن سعد والشافعي رح وقال ابن همام هذا مذهب الشافعي رح فان فى وجيزهم من أخذ فى البلد مالا مغالبة فهو قاطع طريق وعلى ظاهر الرواية من مذهب ابى حنيفة رح يشترط ان يكون بين مكان القطع وبين المصر مسيرة سفر وعن ابى يوسف رح انه إذا كان خارج المصر ولم يقرب منه يجب الحد لانه لا يلحقه الغوث لانه محارب بل مجاهرته هاهنا اغلظ من مجاهرته فى المفازة ولا تفصيل فى النصّ فى مكان القطع وعن مالك كل من أخذ المال على وجه لا يمكن لصاحبه الاستعانة فهو محارب وعنه لا محاربة الا على قدر ثلثة أميال من العمران وتوقف احمد مرة وعند اكثر أصحابه ان يكون بموضع لا يلحقه الغوث وعن ابى يوسف رح فى رواية اخرى ان قصد بالسلاح نهارا فى المصر فهو قاطع وان قصد بخشب ونحوه فليس بقاطع وفى الليل يكون قاطعا بالخشب والحجر لان السلاح لا يلبث فيتحقق القطع قبل الغوث والغوث يبطى بالليل فيتحقق القطع فيها بلا سلاح وفى شرح الطحاوي الفتوى على قول ابى يوسف رح يعنى هذا قال فى الهداية قول ابى حنيفة رح استحسان والقياس قول الشافعي رح لوجود قطع الطريق حقيقة ووجه الاستحسان ان قطع الطريق بقطع المادة ولا يتحقق ذلك فى المصر ويقرب منه لان الظاهر لحوق الغوث انتهى كلامه وقال ابن همام وأنت تعلم ان الحد المذكور فى الاية لم ينط بمسمى قطع الطريق وانما هو اسم من الناس وانما ينط بمحاربة عباد الله على ما ذكرنا من تقدير المضاف وذلك يتحقق فى خارجه ثم هذا الدليل المذكور لا يفيد تعيين مسيرة ثلثة ايّام بين
المصر وبين القاطع قلت وحديث العرنيين يابى عن اشتراط هذه المسافة بين المصر ومكان القطع والله اعلم- (مسئلة:) ويشترط كونهم ذا منعة جماعة تمنعين او واحد يقدر على الامتناع لا مختلسون يتعرضون لاخر القافلة يعتمدون المهرب والذين يغلبون شرذمة بقوتهم فهم قطاع فى حقهم وان لم يكونوا قطاعا فى حق قافلة عظيمة وهذا الشرط يستفاد من الاية فان المحاربة والفساد فى الأرض لا يتحقق بدون المنعة والقدرة على الامتناع أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ يعنى أيديهم الايمان وأرجلهم الإيسار بإجماع الامة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذهب قوم الى ان الامام بالخيار فى امر المحاربين بين القتل والصلب والقطع والنفي كما هو المستفاد(3/87)
من ظاهر الاية بكلمة او فانها للتخيير ولا يحتاج حينئذ الى تقدير تقييد وهو قول سعيد ابن المسيب وعطاء وداود والحسن والضحاك والنخعي ومجاهد وابو ثور وقال مالك انه يفعل فيهم الامام على ما يراه ويجتهد فمن كان منهم ذا راى وقوة قتله فان راى زيادة سياسة صلب ومن كان ذا قوة وجلدة بلا رأى قطعه من خلاف ومن كان لا راى له ولا قوة نفاه والمراد بالنفي عنده ان يخرج من البلد الذي كان فيه الى غيره ويحبس فيه كما سنذكر قول محمد بن جبير ويشترط عند مالك فى المال المأخوذ ان يكون جملتها نصابا ولا يشترط عنده ان يكون نصيب كلواحد من المحاربين نصابا وقال ابو حنيفة رح والشافعي رح واحمد رح والأوزاعي وقتادة كلمة او للتوزيع على احوال القاطع ان قصدوا قطع الطريق وأخافوا فاخذوا قبل ان يأخذوا مالا او يقتلوا نفسا ينفوا من الأرض والمراد بالنفي عند ابى حنيفة رح ان يحبس حتى يظهر منه التوبة لانه نفى عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها قال مكحول ان عمر بن الخطاب أول من حبس فى السجون وقال احبسه حتى اعلم منه التوبة ولا انفيه الى بلد فيوذيهم وقال محمد بن جبير ينفى من بلده الى غيره ويحبس فى السجن فى البلد الذي نفى اليه حتى يظهر توبته وعلى هذا القول يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وقال اكثر العلماء هو ان يطلبه الامام ففى كل بلد يوجد ينفى عنه ولا يتمكنون من القرار فى موضع وان أخذوا مال مسلم او ذمى ولم يقتلوا والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد نصاب السرقة وهو عشرة دراهم عند ابى حنيفة رح وربع دينار عند الشافعي رح واحمد رح او ثلثة دراهم كما سنذكره إن شاء الله تعالى اقطع الامام أيديهم وأرجلهم من خلاف وان قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم الامام حدا ولا يلتفت الى عفو الأولياء وان باشر القتل او الاخذ أحدهم اجرى الحد على جميعهم عند ابى حنيفة رح ومالك واحمد رح لانه جزاء المحاربة وهى يستحقق بان يكون البعض ردا للبعض حتى لو زالت أقدامهم انحازوا إليهم وانما الشرط القتل من واحد منهم والتشديد فى قوله تعالى ان يقتّلوا او يصلّبوا او تقطع يفيدان يجرى الحد بمباشرة بعضهم على كلهم واحدا بعد واحد فان التفعيل للتكثير وايضا يفيد المبالغة فلا يجوز عفوه وقال الشافعي رح لا يجب على الرد أغير التعزير بالحبس والتغريب وغير ذلك وان قتلوا وأخذوا المال فعند ابى حنيفة رح وابى يوسف الامام بالخيار ان شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وان شاء قتلهم و(3/88)
ان شاء صلبهم وعنه الشافعي رح واحمد رح قتلوا وصلبوا ولا قطع فيه وهو الظاهر من الاية وقال محمد يقتل او يصلب ولا يقطع لانه جناية واحدة فلا توجب حدين ولان ما دون النفس يدخل فى النفس فى باب الحد كحد السرقة والرجم وجه قول ابى حنيفة رح ان هذه عقوبة واحدة تغلظت لتغلظ سببها وهو تفويت الا من على التناهى بالقتل وأخذ المال ولهذا كان قطع اليد والرجل فى السرقة الكبرى حدا واحدا وان كان فى الصغرى حدين والتداخل انما يكون فى حدين لا فى حد واحد وعن ابى يوسف رح انه يقتل ويصلب البتة ولا يترك الصلب لانه منصوص عليه والمقصود
به التشهير ليعتبر به غيره وقال ابو حنيفة رح اصل التشهير بالقتل والمبالغة فى الصلب فيخير فيه وصفة الصلب عند الشافعي رح انه يقتل ثم يصلب وقيل عنده يصلب حيا ثم يطعن برمح حتى يموت وكلا الروايتين عن ابى حنيفة رح الاولى مختار الطحاوي رح توقيا عن المثلة والثانية مروى عن الكرخي رح وهو الأصح لدخول كلمة او بين القتل والصلب ولا يصلب فوق ثلثة ايّام عند ابى حنيفة رح لانه يتغير بعدها فيتاذى به الناس وعن ابى يوسف رح انه يترك على خشبة حتى ينقطع فيسقط ليعتبر به غيره قلنا يحصل الاعتبار بالصلب والنهاية غير مطلوبة وهذا التفسير الذي اختاره الجمهور رواه الشافعي رح عن ابن عباس قال فى قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض ورواه البيهقي من طريق محمد بن سعد العوفى عن ابائه الى ابن عبّاس فى هذه الاية قال إذا حارب وقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته وإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب وان لم يقتل فعليه قطع اليد والرجل من خلاف وان حارب وأخاف السبيل فعليه النفي وروى محمد عن ابى يوسف رح عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم اصحاب ابى بردة الطريق فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحدان من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه فى الشرك وفى رواية عطية عن ابن عباس(3/89)
ومن أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفى رواه احمد بن حنبل فى تفسيره عن ابى معاوية عن عطية وايضا القول بالتوزيع موافق لقواعد الشرع دون التخيير لان هذه الجناية يتفاوت خفة وغلظا والقول بالتخيير يقتضى جوازان يترتب على اغلظ الجنايات أخف الاجزية وبالعكس والقتل بالقتل والقطع بالأخذ والجمع بين الصلب والقتل بالجمع امر معقول وانما أجاز ابو حنيفة رح الاكتفاء بالقتل وترك الصلب بحديث العرينين حيث لم يصلبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
(مسئلة:) وان لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا وقد جرح اقتص منه مما فيه القصاص وأخذ الأرش مما فيه الأرش وذلك الى المجنى عليه فيجوز عفوه قال فى الهداية لانه لا حد فى هذه الجناية فظهر حق العبد وهو ما ذكرناه ويرد عليه ان حد هذه الجناية النفي بسبب الاخافة فقوله لاحد فى هذه الجناية ممنوع.
(مسئلة:) وان أخذ ما لا ثم جرح قطعت يده ورجله وبطلت الجراحات لانه لما وجب الحد حقا لله تعالى سقطت عصمة النفس حقا للعبد كما يسقط عصمة المال عند ابى حنيفة رح وقال الشافعي رح لا يسقط حق العبد بالحد فيستوفى الجراحات مع الحد وعلى هذا الخلاف إذا قتل القاطع حدا او قطعت يده ورجله لا ضمان عليه فى مال أخذ وهلك عنده او استهلك عند ابى حنيفة رح وعند الشافعي رح واحمد رح عليه الضمان وان كان المال موجودا يرد على المالك اجماعا وسنذكر هذا الخلاف فى حد السرقة ان شاء الله تعالى.
(مسئلة:) ان كان فى قطاع الطريق امرأة فوافقتهم فقتلت وأخذت قال مالك رح والشافعي رح واحمد رح تقتل حدا وقال ابو حنيفة رح تقتل قصاصا وتضمن المال.
(مسئلة:) وان كان من قطاع الطريق صبى او مجنون يحد الباقون عند الائمة الثلاثة وقال ابو حنيفة وزفر يسقط الحد عن الباقين وعن ابى يوسف رح لو باشر العقلاء يحد الباقون وكذا الخلاف لو كان من قطاع الطريق ذو رحم محرم من بعض اهل القافلة لابى حنيفة رح انه جناية واحدة قامت بالكل فاورثت شبهة فى الباقين وعند الجمهور لا عبرة بهذه الشبهة إذ حينه عن ينسد باب الحد.
(مسئلة:) إذا قطع بعض القافلة على البعض لا يجب الحد لان القافلة حرز واحد(3/90)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
فصار كسارق سرق متاع غيره وهو معه فى دار واحدة وإذا لم يجب الحد وجب القصاص والضمان ذلِكَ الذي ذكر لَهُمْ من الحد خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنبهم.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قال البغوي من ذهب ان الاية نزلت فى الكفار قال معناه الا الذين تابوا من الشرك واسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشئ من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا فى حال الكفر من دم او مال قلت وكذا ان تاب الكافر الحربي عن الشرك بعد القدرة ويثبت هذا الحكم من غير هذه الاية واما قطاع الطريق من المسلمين واهل الذمة فمن تاب منهم من قطع الطريق قبل القدرة عليه اى قبل ان يظفر به الامام فبمقتضى هذا الاستثناء يسقط عنه الحد المذكور حقا لله تعالى اجماعا كما يدل عليه قوله تعالى فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واما حقوق العباد فقال بعضهم يسقط ولا يكون لاحد عليه تبعة فى دم او مال الا ان يوجد معه مال بعينه فيرده الى صاحبه وهو المروي عن على فى حارثة بن بدر كان خرج محاربا فسفك الدماء وأخذ الأموال ثم جاء تائبا قبل ان يقدر عليه فلم يجعل عليه على عليه السّلام تبعة كذا روى ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن ابى الدنيا وابن جرير وابن ابى حاتم عن الشعبي عن على واخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد عن اشعث عن رجل عن ابى موسى الأشعري نحوه وعند الجمهور لا يسقط عنه حقوق العباد فان كان قد قتل وأخذ المال وتاب قبل ان يظفر به يستوفى الولي القصاص او يعفو ويجب ضمان المال إذا هلك فى يده او استهلكه قال ابو حنيفة سقوط القصاص والضمان انما كان مبنيا على وجوب الحد وكونه خالص حق الله تعالى فاذا ظهر بالاستثناء ان الحد لم يجب ظهر حق العبد فى النفس والمال ويجب القصاص فى النفس والأطراف والضمان فى الأموال تغير هذه الاية والله اعلم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ اى التقرب رواه الحاكم عن حذيفة وكذا روى الفرياني وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس قلت يعنى تقربا ذاتيا بلا كيف فى القاموس الوسيلة المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والواسل الراغب وفى الصحاح الوسيلة التوصل الى شىء برغبة وهى أخص من الوصيلة لتضمنها(3/91)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
معنى الرغبة وفى الحديث الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله ان يوتينى الوسيلة رواه احمد بسند صحيح عن ابى سعيد الخدري مرفوعا وروى مسلم عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علىّ فانه من صلى علىّ صلوة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لى الوسيلة فانها منزلة فى الجنة لا ينبغى الا لعبد من عباد الله وأرجو ان أكون انا هو فمن سال لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة فان قيل هذه الأحاديث تدل على ان الوسيلة درجة ليست فوقها درجة ولا جرم انها مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يدل عليه النصوص والإجماع وقوله تعالى وابتغوا اليه الوسيلة امر بطلبه ويظهر بذلك جواز حصوله لغيره فما الوجه لتخصيصه قلت المرتبة المختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن حصولها لاحد من الناس بالاصالة ولكن جاز حصولها لكمل افراد أمته بالتبعية والوراثة ومن طلب زيادة شرح هذا المقام فليرجع الى مكاتيب سيدى وامامى القيوم الرباني المجدد للالف الثاني ومن هاهنا يتلاشى كثير من اعتراضات المعاندين المتعصبين الغافلين عن حقيقة الأمر عن كلامه ويمكن ان يقال الوسيلة تعم درجات قربه تعالى وما طلبه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه هو أعلى افرادها والله اعلم- (فائدة) وكون الرغبة والمحبة داخلة فى مفهوم الوسيلة كما ذكره الجوهري فى الصحاح يفيدك ان الترقي الى هنالك منوط بالمحبة لا بشئ اخر ويؤيده ما قال المجدد رض ان السير يعنى النظري فى مرتبة اللاتعين التي هى أعلى مراتب القرب التي ليس فوقها درجة وهى المكنى عنها بقوله صلى الله عليه وسلم لى مع الله وقت لا يسعنى فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل منوط بالمحبة لا غير والله اعلم والمحبة ثمرة اتباع السنة قال الله تعالى فاتبعونى يحببكم الله فكمال متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا يفيد حصول تلك المرتبة لمن يشاء الله تعالى تبعا ووراثة وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مع اعداء الله سبحانه عن النفس والشياطين والكفار لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون الى ما هو مقصودكم من الخلوص لعبودية الله تعالى وكمال التقوى وابتغاء الوسيلة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ ثبت أَنَّ لَهُمْ فى الاخرة ما فِي الْأَرْضِ من صنوف المحبوبين عنده جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ وبذلوه يدل عليه سياق الكلام لِيَفْتَدُوا بِهِ ووحد الضمير والمذكور شيئان(3/92)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
اما لاجرائه مجرى اسم الاشارة فى نحو قوله تعالى عوان بين ذلك او لان الواو فى ومثله بمعنى مع من قبيل كل رجل وضيعة معطوف على اسم ان وكلمة معه للتاكيد والتنبيه على ان الواو بمعنى مع فان قيل الواو بمعنى مع يفيد المعية فى الثبوت لا المعية فى الافتداء قلنا رجوع الضمير الى ما معه الشيء يفيد تعلق الحكم الذي تعلق به بما معه التزاما مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ المترتب على كمال بعدهم من الله وكونهم ملعونين مطرودين عن رحمته ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ جواب لو ولو بما فى حيّزه خبر ان والمعنى ان الكافرين الذين اختاروا فى الدنيا محبوبين غير الله سبحانه من الأنفس والأولاد والأموال وغيرها وما بذلوها فى الدنيا رغبة فى الله تعالى لو بذلوها فى الاخرة ما تقبل منهم لذهاب وقته فان قيل هذا المعنى يحصل فى القول بان الذين كفروا لو افتدوا بما فى الأرض ومثله معه ما تقبل منهم مع كونه اخصر قلنا فى هذا الأسلوب فائدتان جليلتان أحدهما انهم لو حصلوا ما فى الأرض ومثله للبذل والافتداء وكانوا خائفين من الله وحفظوا الفدية له وتفكروا فى الافتداء ورعاية أسبابه كما هو شان من يصدر منه امر بهم ما تقبل منه فضلا عند كونه غافلين عن تحصيل الفدية ثانيهما ان لا يتوهم ان عدم قبول الفدية لانها ليست عندهم ما يفتدوا به والله اعلم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعنى انه كما لا يندفع به عذابهم لا يخفف عنهم عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله لاهون اهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الأرض من شىء أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم ان لا تشرك بي شيئا فابيت ان لا تشرك بي متفق عليه.
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ اى يقصدون الخروج كما فى قوله تعالى كلما أرادوا ان يخرجوا منها أعيدوا فيها او يتمنون ويطلبون من الله كما فى قوله تعالى اخبارا عنهم ربنا أخرجنا منها وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها أورد الجملة الاسمية بدل وما يخرجون للمبالغة والجملة حال من فاعل يريدون وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ اى دائم فيه تصريح لما علم ضمنا من الجملة السابقة وفيها إفادة انه كما لا يندفع ولا يخفف عذابهم لا يندفع دوامه ولا يزول عنهم.
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما كان المختار عند النحاة فى مثل هذا الموضع اعنى فى اسم يقع بعده فعل مشتغل عنه بضميره وكان الفعل إنشاء النصب بإضمار الفعل على شريطة التفسير(3/93)
لان الإنشاء لا يقع خبرا الا بإضمار وتاويل وقد اتفق القراء هاهنا على الرفع فاحتاج النحاة هاهنا الى تكلف فقال سيبويه الاية جملتان السارق والسارقة مبتدأ خبره محذوف تقديره حكمهما فيما يتلى عليكم وقوله فاقطعوا جزاء شرط محذوف اى ان ثبت سرقتهما فاقطعوا وقال المبرد هى جملة واحدة وكون الفعل إنشاء وان كان يقتضى النصب لكن يعارضه ان الفاء يمنع عن المنع فيما قبله فقوله تعالى السارق والسارقة مبتدأ تضمن معنى الشرط ولذا دخل الفاء على خبره اى الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا قال المحقق التفتازانيّ الإنشاء فى مثل هذا الموضع يقع خبر مبتدأ بلا تكلف لكونه فى الحقيقة جزاء للشرط اى ان سرق أحد فاقطعوه ولم يدرج الله سبحانه الإناث هاهنا وكذا فى حد الزنا فى التعبير عن الذكور كما هو داب القران فى كثير من المواضع لان الحدود تندرئ بالشبهات فلابد فيه من التصريح وبدأ بذكر الرجل هاهنا واخر فى الزانية والزاني لان فى السرقة لا بد من الجرأة وهى فى الرجال اكثر وفى الزنا من الشهوة وهى فى النساء أوفر وقطعت اليد لانها فمعز الدولة السرقة ولم يقطع فمعز الدولة الزنا تعاديا عن قتل النسل واليد اسم للعضو الى المنكب ولذلك ذهب الخوارج الى ان المقطع هو المنكب لكن توارث العمل وانعقد الإجماع على ان القطع من الرسغ ومثله لا يطلب له سند بخصوصه وقد روى فيه خصوص متون امر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع السارق من المفصل رواه الدارقطني فى حديث رداء صفوان وضعف بالعذرى ورواه ابن عدى فى الكامل عن عبد الله بن عمر وفيه عبد الرحمن بن سلمة قال ابن القطان لا اعرف له حالا واخرج ابن ابى شيبة عن رجاء بن حيوة ان النّبى صلى الله عليه وسلم قطع رجلا من المفصل وانما فيه الإرسال واخرج عن عمر وعلى انهما قطعا من المفصل وقيل اليد اسم مشترك يطلق على ما الى المنكب وما الى الرسغ بل الإطلاق الثاني أشهر من الاول حتى يتبادر عند الإطلاق وإذا كان مشتركا فالقطع من الرسغ عملا بالمتيقن ودرأ للزائد عند احتمال عدمه والمراد بايديهما إيمانهما اجماعا عملا بقراءة ابن مسعود فاقطعوا إيمانهما وهى مشهورة يجوز به تقييد المطلق إذا كانا فى الحكم واتحدت الحادثة وليس هذا من بيان المجمل إذ لا إجمال فيه وقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الصحابة اليمين فلو كان الإطلاق مرادا دون التقييد باليمين لقطع اليسار البتة طلبا لليسر للناس ما أمكن فان اليمين انفع من اليسار والله اعلم ولما كان المراد إيمانهما(3/94)
جاز وضع الجمع موضع المثنى كما فى قوله تعالى صغت قلوبكما اكتفاء بتثنية المضاف اليه واحترازا عن تكرير التثنية وذلك انما يجوز عند عدم اللبس فلا يقال عند ارادة التثنية افراسكما وغلمانكما ولو كان الإطلاق مرادا لم يجز ذلك لاجل اللبس فان أيدي الشخصين اربعة جاز ارادة الجمع ايضا والله اعلم والسرقة أخذ مال الغير من حرز مختفيا قال فى القاموس سرق منه الشيء واسترقه جاء مستترا الى حرز فاخذ مال غيره فالاخذ مال الغير على وجه الخفية من حرز داخل فى مفهومه فلهذا يشترط فى السرقة كون المال مملوكا لغيره لا يكون للسارق فيه ملك ولا شبهة ملك وكون المال فى حرز لا شبهة فيه وما كان حرز الشيء من الأموال فهو حرز لجميعها عند ابى حنيفة رح وعند الائمة الثلاثة الحرز يختلف باختلاف الأموال ومبناه على العرف فلو سرق لؤلؤا من إصطبل او حظيرة غنم يقطع عند ابى حنيفة لا عندهم والحرز قد يكون بالمكان المعدلة وقد يكون بالحافظ كمن جلس فى الطريق او المسجد وعنده متاعه فهو محرز به وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سرق رداء سفيان من تحت راسه وهو نائم فى المسجد رواه مالك فى المؤطا واحمد من غير وجه والحاكم وابو داؤد والنسائي وابن ماجة قال صاحب التنقيح حديث صحيح وله طرق كثيرة وألفاظه مختلفة وان كان فى بعضها انقطاع
وفى بعضها ضعف وكون الاخذ مختفيا اما ابتداء وانتهاء ان كان السرقة بالنهارا وابتداء فقط ان كانت بالليل فانه إذا نقب الجدار ليلا على الاستسرار أو أخذ المال من المالك جهارا مكابرة فهو سرقة وهذه الشروط مراعى بالإجماع لكونها ماخوذة فى مفهوم السرقة وما قيدنا من عدم الشبهة فى الملك او الحرز فمستفاد من الأحاديث المرفوعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فان الامام لان يخطى فى العفو خير من ان يخطى فى العقوبة رواه الشافعي رح والترمذي والحاكم والبيهقي وصححه من حديث عائشة وروى ابن ماجة من حديث ابى هريرة مرفوعا بسند حسن ادفعوا الحدود عن عباد الله ما وجدتم له مدفعا وعن على مرفوعا ادرءوا الحدود ولا ينبغى للامام تعطيل الحدود رواه الدارقطني والبيهقي بسند حسن وروى ابن عدى فى جزء له من حديث اهل المصر بسند ضعيف والجربزة عن ابن عباس مرفوعا ادرءوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم الا فى حد من حدود الله وروى صدره ابو مسلم الكحى وابن السمعاني(3/95)
فى الذيل عن عمر بن عبد العزيز مرسلا ومسدد عن ابن مسعود موقوفا وقد انعقد الإجماع على درء الحدود بالشبهات وإذا تمهد ما ذكرنا من الشروط فى السرقة فليتفرع عليها مسائل منها انه لا قطع على منتهب ولا مختلس لانه يجاهر بفعله فليس بسرقة ولا على خائن وجاحد وديعة لقصور فى الحرز لانه قد كان فى يد الخائن وحرزه لا حرز المالك باعتبار انه احرزه بايداعه عنده لكنه حرز ماذون للسارق فيه الدخول فيه وفى ما ذكرنا حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس على المنتهب قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا رواه ابو داود وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع رواه احمد والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجة والدارمي وله شاهد من حديث عبد الرحمان بن عوف رواه ابن ماجة بإسناد صحيح واخر من رواية الزهري عن انس أخرجه الطبراني فى الأوسط ورواه ابن الجوزي فى العلل من حديث ابن عباس وضعفه وقال احمد يجب القطع على جاحد العارية لحديث عائشة قالت كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فامر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فاتى أهلها اسامة بن زيد فكلموه فكلم اسامة النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا اسامة لا أراك تكلمنى فى حد من حدود الله ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال انما هلك من كان قبلكم بانه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسى بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها فقطع يد المخزومية رواه مسلم وعن ابن عمر قال كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده فامر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بان المرأة كانت متصفة مشهورة بجحد العارية فعرفتها عائشة بوصفها المشهور والمعنى امرأة كانت وصفها جحد العارية سرقت فامرت بقطعها ولو سلمنا حملها على الظاهر فهذا الحديث يعارضه ما ذكرنا من حديث جابر لا قطع على الخائن وقد تلقته الامة بالقبول والعمل به فيحمل هذا الحديث على كونه منسوخا درا للحد ومنها انه لا قطع على النباش بشبهة فى الملك والحرز وبه قال ابو حنيفة ومحمد لان الكفن ليس ملكا للورثة لتاخر تعلق حقهم بالتركة من التجهيز بل من الديون والوصايا ايضا ولا ملكا للميت فانه فى احكام الدنيا ملحق بالجمادات ليس أهلا للملك والقبر حفرة من الصحراء مامور(3/96)
للعموم المرور به ليلا ونهارا ولا غلق عليه ولا حارس فلا حرز وقالت الائمة الثلاثة وابو يوسف بقطع النباش لقوله صلى الله عليه وسلم من نبش قطعناه وهو حديث منكر رواه البيهقي فى المعرفة من حديث البراء بن عازب وقال فى اسناده بعض من يجهل حاله وقال البخاري فى التاريخ قال هشيم حدثنا سهل شهدت ابن الزبير قطع نباشا وسهل ضعيف قال عطاء نتهمه بالكذب وروى احمد بن حنبل بسنده عن هشيم عن يونس عن الحسن وابن سيرين قالا النباش يقطع وروى ايضا عن معاوية بن فروة
قال يقطع النباش ولم يصح فى الباب حديث مرفوع ومنها انه لا يقطع السارق من بيت المال عند ابى حنيفة والشافعي واحمد والنخعي والشعبي وقال مالك يقطع قلنا انه مال عامة والسارق منهم واخرج ابن ابى شيبة عن عمر انه قال لا قطع عليه يعنى على سارق من بيت المال ما من أحد الا وله فيه حق وروى البيهقي عن على ليس على من سرق من بيت المال قطع واخرج ابن ماجة عن ابن عبّاس ان عبدا من رقيق الخمس سرق من المغنم فرفع الى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه وقال مال الله سرق بعضه بعضا وعن ابن مسعود فيمن سرق من بيت المال قال أرسله فما من أحد إلا وله فى هذا المال حق ومنها انه لا يقطع السارق إذا كان للسارق فيه شركة بان سرق أحد الشريكين من حرز الاخر مالا مشتركا بينهما ومنها انه من له على اخر دراهم فسرق مثلها لم يقطع لانه استوفى حقه وكذا لو سرق اكثر من حقه لان فى الزيادة يكون شريكا بحقه ومنها انه لا يقطع الآباء والأمهات وان علوا فيما سرقوا من مال أولادهم لقوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لابيك وكذا ان سرق الفرع مال أصله عند الثلاثة للبسوطة فى المال وفى الدخول فى الحرز وقال مالك يقطع وكذا من سرق من ذى رحم محرم كالاخ والعم عند ابى حنيفة للبسوطة فى الدخول فى الحرز ولذا أباح الشرع النظر الى مواضع الزينة الظاهرة وعند الائمة الثلاثة يقطع الحاقا لها بالقرابة البعيدة ومما يدل على نقصان الحرز فى المحارم من ذوى الأرحام قوله تعالى ولا على أنفسكم ان تأكلوا من بيوتكم او بيوت ابائكم او بيوت أمهاتكم او بيوت إخوانكم او بيوت أخواتكم او بيوت أعمامكم او بيوت عماتكم او بيوت أخوالكم او بيوت خالاتكم او ما ملكتم مفاتحه او صديقكم فانه يفيد اطلاق الدخول وجواز الاكل او يورث شبهة عند قيام دليل المنع كما فى قوله عليه السلام أنت ومالك لابيك فان قيل فعلى هذا ينبغى ان لا يجب القطع من بيت الصديق ايضا(3/97)
قلنا لما سرق من ماله فقد عاداه فلم يبق صديقا وقت السرقة ومنها انه لو سرق من بيت ذى الرحم مال غيره لا يقطع ولو سرق من بيت غير ذى الرحم مال ذى رحمه يقطع عند ابى حنيفة رح اعتبارا للحرز وعدمه ومنها انه لا يقطع أحد الزوجين بسرقة مال الاخر سواء سرق من بيت خاص لاحدهما او من البيت الذي هما فيه عند ابى حنيفة رح وهى رواية عن احمد رح وقول للشافعى وقال مالك رح والشافعي رح وهى رواية عن احمد اخرى ان سرق من بيت خاص قطع ومن بيت سكناها لا يقطع وفى قول للشافعى يقطع الزوج خاصة دون الزوجة لقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة ابى سفيان خذ من ماله ما يكفيك وولدك ووجه قول ابى حنيفة الاذن فى الدخول عادة فاختل الحرز وفى موطأ مالك عن عمر انه اتى بغلام سرق مراة امرأة سيده فقال ليس عليه شىء خادمكم سرق متاعكم فاذا لم يقطع خادم الزوج فالزوج اولى ومنها انه لا يقطع العبد بسرقة مال سيده او زوجة سيده او زوج سيدتها للاذن فى الدخول ولا الضيف إذا سرق ممن اضافه لوجود الاذن فى الدخول ولا من سرق من بيت اذن فى الدخول منه كحوانيت التجار نهارا ومنها انه إذا سرق نصابا ثم ملكه بشراء او هبة مع القبض او ارث او غيره قبل الترافع او بعده وبعد القضاء لا يقطع عند ابى حنيفة ومحمد وعند الائمة الثلاثة وابى يوسف يقطع لان السرقة قد تمت انعقادا وظهورا فلا شبهة ولحديث صفوان بن امية قال بينا أنارا قد إذ جاء السارق فاخذ ثوبى من تحت راسى فادركته فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ان هذا السرق ثوبى فامر به النبي صلى الله عليه وسلم ان يقطع فقلت يا رسول الله ليس هذا أردت هو عليه صدقة قال هلا قبل ان تأتيني به رواه مالك واحمد وابو داؤد وابن ماجة زاد النسائي فى روايته فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى ابو داؤد من حديث عبد الله بن عمرو
بن العاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وأجاب ابن همام بان حديث صفوان المذكور فى رواية كما ذكر وفى رواية الحاكم فى المستدرك انا أبيعه وانسئه ثمنه وسكت عليه وفى كثير من الروايات لم يذكر هذا بل قال ما كنت أريد هذا او قال أيقطع رجل من العرب فى ثلثين درهما فكان فى هذه الزيادة اضطرابا والاضطراب موجب للضعف واستيفاء الحدود من تمام القضاء وملك السارق قبل القضاء توجب شبهة البتة.(3/98)
(فصل) ويشترط للقطع ان يكون المال المسروق نصابا بإجماع اهل السنة وعند الخوارج لا يشترط ذلك وبه قال ابن بنت الشافعي وداؤد وهو المروي عن الحسن البصري لاطلاق الاية ولقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق الحبل فيقطع يده ويسرق البيضة ويقطع يده متفق عليه من حديث ابى هريرة قلنا الاية ليست على إطلاقه اجماعا وقول الخوارج لا عبرة بها وكذا قول داؤد والحسن لا يصلحان خارقا للاجماع (مسئلة:) لو سرق جماعة نصابا واحدا او اكثر وأصاب كل واحد منهم اقل قال احمد يقطع أيديهم أجمعين وهو محمل حديث ابى هريرة عنده وقال مالك ان كانوا أخذوا نصابا واحدا وأخرجوه معا وكان المأخوذ مما يحتاج اليه المعاونة فيه قطعوا جميعا والا لا يقطع ما لم يصب كلواحد نصابا وعند ابى حنيفة والشافعي لا قطع على واحد من الجماعة بحال ما لم يصب كلواحد منهم نصابا.
(مسئلة:) نصاب السرقة عشرة دراهم او دينارا وما يبلغ قيمة أحدهما عند ابى حنيفة رحمه الله وعند مالك واحمد فى اظهر الروايات عنه ربع دينار او ثلثة دراهم او ما يبلغ قيمة أحدهما وعند الشافعي ربع دينار من الدراهم وغيرها لحديث عائشة مرفوعا يقطع اليد فى ربع دينار فصاعدا ويروى لا يقطع اليد الا فى ربع دينار متفق عليه باللفظين معا وفى لفظ لن يقطع يد السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ادنى من ثمن المجن وفى لفظ لمسلم لا يقطع اليد الا فى ربع دينار فما فوقه وفى مسند احمد فى حديثها اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو ادنى من ذلك وفى حديث ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا فى مجن قيمته ثلثة دراهم متفق عليه وروى مالك فى المؤطا عن عمرة بنت عبد الرحمن ان سارقا سرق فى زمن عثمان اترجة فامر بها عثمان فقومت بثلاثة دراهم من ضرب اثنا عشر بدينار فقطع عثمان يده وجه قول ابى حنيفة ان الاخذ بالأكثر فى هذا الباب اولى احتيالا للدرء وقد روى فى ثمن المجن اكثر مما ذكر روى الحاكم فى المستدرك عن مجاهد عن ايمن قال لم يقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا فى ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار وروى احمد والشافعي عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان قيمة المجن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم واخرج الدار قطنى واحمد من طريق سالم بن قتيبة حدثنا زفر بن(3/99)
هذيل حدثنا الحجاج بن ارطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع السارق الا فى عشرة دراهم وروى ابن ابى شيبة فى مصنفه فى كتاب اللقطة عن سعيد ابن المسيب عن رجل من مزينة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما بلغ ثمن المجن قطعت يد صاحبه وكان ثمن المجن عشرة دراهم وروى عبد الرزاق والطبراني عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود موقوفا لا قطع الا فى دينار او عشرة دراهم وهو موقوف منقطع فان القاسم لم يسمع من ابن مسعود والحق ان الأحاديث التي احتج بها الجمهور صحاح غاية الصحة وهذه الأحاديث ضعاف ولا ترجيح ولا أخذ بالأحوط الا عند المعارضة فان ابن إسحاق وسالم وزفر والحجاج من رواة حديث عمرو بن شعيب كلهم ضعاف وايضا قول الراوي قيمة المجن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ظن وتخمين من الراوي ولا شك ان ثمن المجن قد يكون ثلثة دراهم وقد يكون عشرة وقد يكون اكثر من ذلك على اختلاف كيفية المجن فعلى هذا حديث لن يقطع يد السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ادنى من ثمن المجن كان مجملا وو الحديث بلفظ يقطع فى ربع دينار وبلفظ لا يقطع الا فى ربع دينار وبلفظ اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو ادنى من ذلك محكم لا يعارضه الا لفظ لا يقطع السارق الا فى عشرة دراهم ان صح لكن بهذا اللفظ لا يصح مرفوعا والموقوف فى الخلافيات لا يكون حجة اجماعا نقل عن الشافعي انه قال لمحمد بن الحسن هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقطع فى ربع دينار فصاعدا فكيف قلت لا يقطع الا فى عشرة دراهم فصاعدا فاحتج محمد بحديث مجاهد عن ايمن بن أم ايمن أخي اسامة بن زيد لامه فاجاب الشافعي ان ايمن ابن أم ايمن قتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبل ان يولد مجاهد وقد ذكر ابو حاتم ان ايمن راوى هذا الحديث غير ايمن الذي قتل يوم حنين وهذا تابعي لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن أحد من الخلفاء الاربعة قلت ومن لم يدرك زمن الخلفاء كيف تلده أم ايمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى كانت حاضنة للنبى صلى الله عليه وسلم اكبر سنا منه وقيل ايمن كان اسما لرجلين من التابعين أحدهما مولى ابن الزبير وثانيهما مولى ابن ابى عمر وابن ابى حاتم وابن حبان جعلاهما
واحدا والحاصل ان هذا الحديث لا يصلح كونه معارضا لحديث عائشة وابن عمر.(3/100)
(مسئله) ولا قطع عند ابى حنيفة رحمه الله فيما يوجد تافها مباحا فى تلك الديار كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد والجص والنورة ولا فيما يتسارع اليه الفساد من الاطعمة كاللبن واللحم والفواكه والثمار الرطبة والرطاب وعند الائمة الثلاثة يقطع فى كل ذلك انكانت محرزة لعموم الاية وجه قول ابى حنيفة ان الاية ليست على عمومها اجماعا حيث خص منها ما دون النصاب فيختص هذه الأشياء ايضا بحديث عائشة لم يكن السارق يقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشيء التافه رواه ابن ابى شيبة فى مصنفه من حديث عبد الرحمن بن سليمان عن هشام بن عروة عنها ورواه مرسلا ايضا عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه ورواه عبد الرزاق فى مصنفه أخبرنا ابن جريح عن هشام به وكذا اسحق بن راهويه قال أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام ورواه ابن عدى فى الكامل مسندا عن عبد الله بن قبيصة الفزاري عن هشام بن عروة عن عائشة ولم يقل فى عبد الله هذا شيئا الا انه قال لم يتابع عليه ولم ار للمتقدمين فيه كلاما قال ابن همام لا يخفى ان هذه المرسلات كلها حجة وقد وصله ابن ابى شيبة وما روى عبد الرزاق بسند فيه جابر الجعفي عن عبد الله بن يسار قال اتى عمر بن عبد العزيز برجل سرق دجاجة فاراد ان يقطعه فقال له سلمة بن عبد الرحمن قال عثمان لا قطع فى الطير وروى ابن ابى شيبة عن عبد الرحمن بن مهدى عن زهير بن محمد عن يزيد بن حفصة قال اتى عمر بن عبد العزيز برجل قد سرق طيرا فاستفتى فى ذلك السائب بن يزيد فقال ما رايت أحدا قطع فى الطير وما عليه فى ذلك قطع فتركه عمر واخرج ابو داود فى المراسيل عن جرير بن حازم عن الحسن البصري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال انى لا اقطع فى الطعام وذكره عبد الحق ولم يعله بغير الإرسال والمرسل عندنا حجة وحديث رافع ابن خديج قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع فى ثمر ولا كنز رواه الترمذي عن ليث بن سعد والنسائي وابن ماجة عن سفيان بن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع ورواه ابن حبان فى صحيحه وعند تعارض الانقطاع والوصل الوصل اولى لانه زيادة ومن الثقة مقبولة قال الطحاوي هذا الحديث تلقته الامة بالقبول قالوا المراد بالثمر فى هذا الحديث الثمر المعلق بالشجر لعدم الحرز بدليل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو انه عليه الصلاة والسلام سئل(3/101)
عن الثمر المعلق فقال من أصاب بفيه من ذى حاجة غير متخذ خبنة «1» فلا شىء عليه ومن خرج بشئ منه فعليه غرامة مثليه ومن سرق منه شيئا بعد ان يوويه الجرين «2» فبلغ تمن المجن فعليه القطع رواه ابو داود عن ابن عجلان والوليد بن كثير وعبيد الله بن الأخنس ومحمد بن اسحق اربعتهم عن عمرو بن شعيب ورواه النسائي من طريق وهب عن عمرو بن الحارث وهشام بن سعد عن عمرو بن شعيب وفى روايته ان رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحريسة «3» التي تؤخذ فى مراتعها فقال فيها ثمنها مرتين وضرب ونكال وما أخذ من عطته ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قالوا يا رسول الله فالثمار وما أخذ منها فى أكمامها فقال من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شىء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال وما أخذ من اجرانه ففيه القطع رواه احمد والنسائي وفى لفظ ما ترى فى الثمر المعلق فقال ليس فى شىء من الثمر المعلق قطع الا ما اواه الجرين فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع وما لم يبلغ ثمن المجن غرامة مثليه وجلدات نكال ورواه الحاكم بهذا المتن وقال قال اما منا اسحق بن راهويه إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كايوب عن نافع عن ابن عمر ورواه ابن ابى شيبة ووقفه على عبد الله بن
عمرو وقال ليس فى شىء من الثمار قطع حتى يأوي الجرين وأخرجه عن ابن عمر مثله سواء وهذا الحديث حجة للائمة الثلاثة حيث أوجبوا القطع فى الثمار بعد الاحراز وايضا يؤيد مذهبهم ما رواه مالك فى المؤطأ ان سارقا سرق اترجة فى عهد عثمان فامر بها عثمان فقومت ثلثة دراهم من ضرب اثنى عشر درهما بدينار فقطع يده قال مالك وهى الا ترجة التي يأكلها الناس وقال ابن كنانة كانت اترجة من ذهب قدر الحمصة يجعل فيها الطيب ورد عليه بانه لو كانت من ذهب لم يقوم وأجاب عنه الحنفية بوجوه أحدها ان هذا الحديث متروك الظاهر بنص الكتاب حيث وجب الحديث فى الثمر غرامة مثليه وفى الحريسة ثمنها مرتين وقد قال الله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا انقطاع معنوى فى الحديث يوجب ترك العمل به ثانيها ان الحديث معارض بإطلاق ما روينا لا قطع فى ثمر ولا كنز وهو يشمل ما يوويه الجرين وغيره فالسبيل فى دفع التعارض اما التوزيع فيحمل عدم القطع على الرطب والقطع على اليابس واما ترجيح مالا يوجب القطع درأ للحد والله اعلم والمراد بالطعام فى الحديث الذي يوجب عدم القطع ما يتسارع اليه الفساد للاجماع
__________
(1) يعطف الإزار وطرف الثوب اى لا يأخذ منه فى ثوبه 12 نهاية
(2) موضع بخفيف التثمر
(3) الحريسة يقال للشاة التي يدركها الليل قبل ان يصل الى مراحها وفلان يأكل الحرساة إذا سرق أغنام الناس وأكلها 12 نهاية(3/102)
على انه يقطع فى الحنطة وغيرها من الحبوب والسكر الا فى عام سنة فانه لا يقطع فيها لانه عن ضرورة ظاهرا وهى تبيح التناول وعنه صلى الله عليه وسلم انه لا قطع فى مجاعة مضطر وعن عمر رضى الله تعالى عنه لا قطع فى عام سنة.
(مسئلة:) وإذا سرق ثانيا بعد القطع فى الاولى او سرق اولا وهو مقطوع اليد اليمنى يقطع رجله اليسرى اجماعا لا بهذه الاية لان المأمور بالآية قطع اليد والمراد به قطع اليد اليمنى خاصة بدليل قراءة ابن مسعود والإجماع فلا يجب القطع لفوات المحل بل بالسنة والإجماع وان كان السارق مقطوع اليد اليمنى والرجل اليسرى او سرق ثالثا بعد القطع لا يقطع عند ابى حنيفة واحمد رحمهما الله بل يسجن ويعزر وقال مالك والشافعي يقطع رجله اليسرى ثانيا ثم ان سرق ثالثا يقطع يده اليسرى ثم ان سرق رابعا يقطع رجله اليمنى وهو رواية عن احمد ثم ان سرق خامسا يعزر ويحبس عندهما ايضا كقولنا فى الثالثة وحكى عن عطاء وعمرو بن العاص وعثمان وعمرو بن عبد العزيز يقتل فى الخامسة احتج مالك والشافعي بحديث جابر بن عبد الله قال اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده ثم اتى به قد سرق فقطع رجله ثم اتى به قد سرق فقطع يده ثم اتى به قد سرق فقطع ثم اتى به قد سرق فامر به فقتل رواه الدارقطني وفى اسناده محمد بن يزيد بن سنان وهو ضعيف ورواه ابو داود والنسائي بغير هذا السياق بلفظ جئ بسارق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله انما سرق قال اقطعوه فقطع به ثم جئ به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله انما سرق قال اقطعوه ثم جئ به الثالثة فقال اقتلوه فقالوا انما سرق قال اقطعوه فقطع ثم جئ به الرابعة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله انما سرق فقال اقطعوه فقطع ثم جئ به الخامسة فقال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به الى مربد النعم فاستلقى على ظهره فقتلناه ثم اجتررناه فالقيناه فى بير ورمينا عليه الحجارة وفى اسناده مصعب بن ثابت قال النسائي ليس بالقوى والحديث منكر لا اعلم فيه حديثا صحيحا وفى الباب عن الحارث بن حاطب الحجبي عند النسائي والحاكم وعن عبد الله بن زيد عند ابى نعيم فى الحلية وقال ابن عبد البر حديث القتل منكر لا اصل له وقد قال الشافعي هذا الحديث منسوخ لا خلاف فيه عند اهل العلم قال ابن عبد البر هذا يدل على ان ما حكاه ابو مصعب عن عثمان وعمرو بن عبد العزيز انه يقتل لا اصل له لانهم لا يخالفون الإجماع وبحديث ابى هريرة عن النبي صلى الله(3/103)
عليه وسلم إذا سرق السارق فاقطعوا يده فان عاد فاقطعوا رجله فان عاد فاقطعوا يده فان عاد فاقطعوا رجله رواه الدارقطني وفى اسناده الواقدي قال احمد كذاب ورواه الشافعي عن بعض أصحابه عن ابن ابى ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن ابى مسلمة عن ابى هريرة مرفوعا نحوه وفى الباب عن عصمة بن مالك رواه الطبراني والبيهقي واسناده ضعيف وروى الدارقطني عن ابن عباس قال شهدت عمر بن الخطاب فقطع بعد يد ورجل يدا وروى مالك فى المؤطا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ان رجلا من اليمن اقطع اليد والرجل قدم فنزل على ابى بكر فشكا اليه ان عامل اليمن ظلمه فكان يصلى بالليل ويقول ابو بكر وأبيك وما ليلك بليل سارق ثم انهم فقدوا عقد الأسماء بنت عميس فجعل الرجل يطوف معهم ويقول اللهم عليك بمن بيت اهل هذا البيت الصالح فوجد الحلي عند صائغ زعم ان الأقطع جاء به فاعترف الأقطع وشهد عليه فامر به ابو بكر فقطعت يده اليسرى قال ابو بكر لدعائه على نفسه أشد عليه من سرقته وفى سنده انقطاع ورواه عبد الرزاق نحوه وقال محمد بن الحسن فى مؤطاه قال الزهري ويروى عن عائشة رض قالت انما كان الذي سرق حلى اسماء اقطع اليد اليمنى فقطع ابو بكر رجله اليسرى قال وكان ابن شهاب اعلم بهذا الحديث من غيره ولنا ما رواه محمد فى كتاب الآثار انا ابو حنيفة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن على رض قال إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى فان عاد قطعت رجله اليسرى فان عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا انى لاستحيى من الله ان ادعه ليس له يد يأكل بها ويستنجى بها ورجل يمشى عليها وروى عبد الرزاق فى مصنفه أخبرنا معمر عن جابر عن الشعبي قال
كان على لا يقطع الا اليد والرجل وان سرق بعد ذلك سجنه ويقول انى لاستحيى من الله الحديث واخرج ابن ابى شيبة فى مصنفه حدثنا حاتم بن اسمعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على مثل ما قال الشعبي عنه واخرج البيهقي عن عبد الله بن سلمة عن على انه اتى بسارق فقطع يده ثم اتى به فقطع رجله ثم اتى به فقال اقطع يده باى شىء يتمسح وباى شىء يأكل اقطع رجله على اى شىء يمشى انى لاستحيى من الله ثم ضربه وخلده فى السجن وفى تنقيح عبد الهادي قال سعيد بن منصور حدثنا ابو معشر عن سعيد بن ابى سعيد المقبري عن أبيه قال حضرت على بن ابى طالب اتى برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق(3/104)
قال لاصحابه ما ترون فى هذا قالوا اقطعه يا امير المؤمنين قال قتلته إذا وما عليه القتل باى شىء يأكل الطعام باى شىء يتوضأ للصلوة باى شىء يغتسل من جنابته باى شىء يقوم على حاجته فرده الى السجن أياما ثم استخرجه فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الاوّل وقال لهم مثل ما قال اوّل مرّة فجلده جلدا شديدا ثم أرسله وقال سعيد ايضا حدثنا ابو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عامر قال اتى عمر بن الخطاب باقطع اليد والرجل قد سرق فامر به ان يقطع رجله فقال على قال الله تعالى انما جزاؤا الذين يحاربون الله ورسوله الاية فقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغى ان يقطع رجلا فتدعه ليس له قائمة يمشى عليها اما ان تعزره واما ان تودعه السجن فاستودعه السجن وروى هذا البيهقي واخرج ابن ابى شيبة عن سماك ان عمر استشارهم فى سارق فاجمعوا على مثل قول علىّ واخرج عن مكحول ان عمر قال إذا سرق فاقطعوا يده ثم ان عاد فاقطعوا رجله ولا تقطعوا يده الاخرى وذروه يأكل بها ويستنجى بها ولكن احبسوه عن المسلمين وروى ابن ابى شيبة عن ابن عباس مثل قول على فظهران ما قال علىّ انعقد عليه الإجماع ورجع اليه عمر وما احتج به الشافعي اما لا اصل له واما منسوخ ولو كان عند الصحابة علم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لاحتجوا به على علىّ ولم يجز لعلى القول بانى لاستحيى الله الى آخره قال الله تعالى لا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله والله اعلم وبما استدل به على يستفاد ان من كان يده اليسرى او إبهامه او رجله اليمنى اقطع او شلاء وسرق اوّل مرة لا يقطع يمناه لانه إهلاك معنى وما عليه القتل والله اعلم- (مسئلة:) ويجب ان يحسم بعد القطع كيلا يودى الى التلف وعن الشافعي واحمد انه مستحب وروى الحاكم من حديث ابى هريرة انه صلى الله عليه وسلم اتى بسارق سرق شملة فقال عليه السّلام ما إخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول الله فقال اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ايتوني فقطع ثم حسم ثم اتى به فقال تب الى الله فقال تبت الى الله فقال تاب الله عليك وقال صحيح على شرط مسلم ورواه ابو داؤد فى المراسيل ورواه القاسم ابن سلام فى غريب الحديث واخرج الدارقطني عن على موقوفا انه قطع أيديهم من المفصل ثم حسمهم-(3/105)
(مسئلة:) يجب القطع بإقراره مرة عند ابى حنيفة ومحمد ومالك والشافعي واكثر العلماء وقال احمد وابو يوسف وابن ابى ليلى وزفر وابن شبرمة لا يقطع الا بإقراره مرتين ويروى عن ابى يوسف اشتراط كون الإقرار مرتين فى مجلسين ليستدلوا بحديث ابى امية المخزومي انه صلى الله عليه وسلم اتى بلصّ قد اعترف فقال عليه السلام ما إخالك سرقت قال بلى يا رسول الله فاعادها عليه السلام مرتين او ثلثا فامر به فقطع فلم يقطع الا بعد تكرار إقراره وأسند الطحاوي الى على ان رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال قد شهدت على نفسك شهادتين فامر به فقطع فعلقها فى عنقه وبالقياس على الشهادة فى الزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود والجواب ان حديث ابى امية المخزومي قال الخطابي فى اسناده مقال وقال الحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به واما القياس فلا يصح لانه مع الفارق فان اعتبار العدد فى الشهادة للتهمة ولا تهمة فى الإقرار
واشتراط العدد فى الإقرار بالزنا معدول عن سنن القياس بالنص وايضا يعارضه القياس على حد القذف والقصاص والحجة لابى حنيفة ما ذكرنا من حديث ابى هريرة فى مسئلة الحسم حيث قطعه بإقراره مرة- جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ منصوبان على المفعول له او المصدرية ودل على فعلهما فاقطعوا وقال البغوي منصوبان على الحال يعنى من فاعل فاقطعوا بتأويل اسم الفاعل وفى المدارك جزاء منصوب على المفعول له ونكالا بدل منه وفى القاموس نكّل تنكيلا صنع به صنعا يحذر غيره ونحاه عن ما قبله والنكال ما نكلت به غيرك كائنا ما كان قال المحقق التفتازانيّ ترك العطف اشعارا بان القطع للجزاء والقطع على قصد الجزاء للنكال والمنع عن المعاودة ولمنع الغير عن مثله قلت فعلى هذا الاولى ان يقال جزاء مفعول له لقوله فاقطعوا ونكالا مفعول له لقوله جزاء وقال بعض المحققين لم يعطف لان العلة مجموعهما والجزاء اشارة الى ان فيه حق العبد والنكال اشارة الى ان فيه حق الله تعالى.
(مسئلة:) القطع يسقط عصمة المال المسروق عند ابى حنيفة رحمه الله ولا يجتمع القطع مع الضمان عنده وعند الائمة الثلاثة لا يسقط العصمة بالقطع ويجتمع القطع مع الضمان فان كان المال المسروق موجود أيسترد المالك من السارق اجماعا قبل لقطع وبعده وان هلك المال او استهلكه السارق لا ضمان على السارق عند ابى حنيفة(3/106)
خلافا لهم وان سرق السارق الاول المال المسروق المردود الى المالك منه ثانيا بعد القطع فى السرقة الاولى وهو كذلك لا يقطع ثانيا عند ابى حنيفة لزوال العصمة وعندهم يقطع احتج ابو حنيفة بوجوه أحدها الاستدلال بهذه الاية قالوا الجزاء إذا اطلق فى موضع العقوبة يراد به ما يجب حقا خالصا لله لا يكون فيه حق العبد وكذا النكال فكان القطع خالص حق الله تعالى فوجب ان يكون الجناية على حقه خالصا بان يكون محلها حراما لعينه كالخمر لا حراما لغيره والا كان مباحا فى ذاته بالاباحة الاصلية وهو لا يوجب الجزاء لله وايضا لو كان مباحا لذاته ينتفى القطع للشبهة وايضا الجزاء اما مشتق من جزى بمعنى قضى او من جزأ بمعنى كفى وكلواحد منهما يدل على الكمال والكمال بالحرمة لعينه وإذا كان محرما لعينه لم يبق معصوما كالخمر والميتة فلا ضمان عند الهلاك والاستهلاك ثانيها انه لو وجب الضمان بعد القطع يتملك السارق المسروق بأداء الضمان مستندا الى وقت الاخذ فتبين انه ورد السرقة على ملكه فينتفى القطع وما يؤدى الى انتفائه فهو المنتفى وثالثها بحديث عبد الرحمن ابن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غرم على السارق بعد قطع يمينه رواه الدارقطني ورواه النسائي بلفظ لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد والبزار بلفظ لا يضمن السارق سرقته بعد اقامة الحد ومدار هذا الحديث على سعيد بن ابراهيم يرويه عن أخيه مسور بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن جده عبد الرحمن بن عوف قال الدارقطني سعيد بن ابراهيم مجهول ومسور لم يذكر عبد الرحمن بن عوف وقال ويروى هذا من وجوه كلها لا يثبت وقال ابن همام سعيد بن ابراهيم انه الزهري قاضى المدينة أحد الثقات الإثبات وأجاب الشافعية عن الاستدلال بالآية بان قولكم الجزاء إذا اطلق فى معرض العقوبة يراد به ما يجب خالصا حقا لله تعالى ممنوع كيف وقد قال الله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فاجره على الله فانه صريح فى كون الجزاء حقا للعبد حتى يتصور العفو منه والظاهر ان الجزاء اشارة الى حق العبد والنكال اشارة الى حق الله تعالى كما ذكرنا والجزاء وان دل على الكمال لكن الكمال فى الجناية ان يجنى على كلا الحقين حق الله تعالى وحق العبد سلمنا ان القطع خالص حق الله تعالى لكن لا يلزم منه ان يكون المحل حراما لعينه حتى لا يترتب عليه الضمان بل القطع حق الشرع وسببه ترك الانتهاء عما نهى عنه والضمان حق العبد وسببه أخذ المال الذي تعلق به(3/107)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
حق العبد كاستهلاك صيد مملوك فى الإحرام سلمنا حرمة المحل لكن لاجل النهى لا لمعنى فيه كيف ولو حرم لعينه لم يحل للمسروق منه حال بقائه بعد القطع ولم يحل للزوج وطى المزنية بعد رجم الزاني لقوله تعالى فيه نكالا وايضا لو كانت الحرمة لعينه كالخمر والميتة يجب ان لا يجب القطع إذ لا قطع فى الخمر والميتة فينتفى القطع وما يودى الى انتفائه فهو المنتفى ولو يفرق بعصمة المسروق قبل السرقة بخلاف الخمر لقول سقوط العصمة ان لم يمنع القطع فلا اقل من ايراث الشبهة سلمنا الحرمة لعينه كالخمر لم لا يجوز ان يحرم بحرمتين او ثلث كشرب الخمر المملوكة للذمى فى صوم رمضان والزنا بامة غيره فى رمضان وأجابوا عن الاستدلال الثاني بانا لا نسلم ان السارق يملك المسروق مستندا من وقت الاخذ بل انما يجب عليه ضمان الاتلاف بالهلاك والاستهلاك وعن الثالث بان الحديث ضعيف ولو صح الحديث فلا يصادم عموم قوله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله عليه السلام على اليد ما أخذت حتى يوديه رواه احمد واصحاب السنن الاربعة بسند صحيح والحاكم عن سمرة بن جندب وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يعارض فى حكمه حَكِيمٌ فيما حكم اخرج احمد وابن جرير وابن ابى حاتم عن عبد الله بن عمر وان
امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت هل لى من توبة يا رسول الله قال نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فانزل الله تعالى.
فَمَنْ تابَ من السرقة وغيرها مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ اى معصية من السرقة وغيرها والمراد بالتوبة الندم على ما وقع منه من المعصية ورد المظلمة والاستغفار من الله تعالى والعزم على تركها وَأَصْلَحَ امره بعد ذلك فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ اى يرجع عليه بالرحمة وقبول التوبة فلا يعذبه فى الاخرة وهل يسقط عنه القطع فى الدنيا أم لا فقال احمد يسقط القطع عن السارق وكل حد بالتوبة لهذه الاية ولقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فاذوهما فان تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما ولقوله عليه السّلام التائب من الذنب كمن لا ذنب له وفى قول للشافعى يسقط الحد إذا مضى على التوبة سنة وعند ابى حنيفة ومالك وهو رواية عن احمد وقول للشافعى لا يسقط شىء من الحدود بالتوبة الأحد قاطع الطريق بالاستثناء المذكور فى الاية قالوا هذه الاية لا تدل على سقوط الحد وقوله تعالى واللذان يأتيانها كان فى اوّل الأمر ثم نسخ ونحن نقطع بان رجم ما عز والغامدية كان بعد توبتهما.(3/108)
(مسئلة:) ومن سرق سرقة ورد المسروق الى المالك قبل الارتفاع الى الحاكم لم يقطع وعن ابى يوسف يقطع اعتبارا بما إذا ردها بعد المرافعة وجه الظاهر ان الخصومة شرط الظهور السرقة فكانت شرطا فى القطع والخصومة لا تتصور بعد الرد بخلاف ما لوردها بعد المرافعة وسماع البينة والقضاء فانه يقطع وكذا بعد سماعها قبل القضاء استحسانا لظهور السرقة عند القاضي بالشهادة بعد الخصومة.
(مسئلة:) قطع السارق هل يكون له توبة اولا فقال مجاهد نعم لحديث عبادة ابن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه بايعونى على ان لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين ايديكم وأرجلكم ولا تعصوا فى معروف فمن وفى منكم فاجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب على ذلك فى الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو الى الله ان شاء عفى عنه وان شاء عاقبه فبايعناه على ذلك متفق عليه وقال البغوي الصحيح ان القطع للجزاء على الجناية كما قال الله تعالى جزاء بما كسبا ولا بد من التوبة بعده ويدل عليه حديث ابى هريرة الذي ذكرناه فى مسئلة الحسم بعد القطع حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم بعد القطع بالإقرار تب الى الله فقال تبت الى الله تعالى فقال تاب الله عليك إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ ايها النبي والمراد به الامة او المراد الم تعلم ايها الإنسان خطابا لكل واحد.
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه من العصاة سواء ارتكب صغيرة او كبيرة فانه عدل مقتضى المعصية وَيَغْفِرُ بفضله صغيرة كانت او كبيرة بالتوبة وبلا توبة لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من التعذيب والمغفرة قَدِيرٌ لا يجب عليه شىء قدم التعذيب لان استحقاق التعذيب مقدم على المغفرة ولان المقصود وصفه تعالى بالقدرة والقدرة فى تعذيب من يشاء اظهر من القدرة فى مغفرته لانه لا اباء فى المغفرة وفى التعذيب اباء والله اعلم روى احمد ومسلم وغيرهما عن البراء ابن عازب قال مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودى محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك بالله الذي انزل التورية على موسى هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم قال لا والله ولولا انك(3/109)
نشدتنى لم أخبرك نحد حد الزاني فى كتابنا الرجم ولكنه كثر فى اشرافنا فكنا إذا أخذ الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم انى أول من احيى أمرك إذا أماتوه فامر به فرجم فانزل الله تعالى يا ايها الرسول لا يحزنك الى قوله ان أوتيتم هذا فخذوه يقولون ايتوا محمدا فان افتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وان افتاكم بالرجم فاحذروا الى قوله ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون وذكر البغوي هذه القصة بان امرأة ورجلا من اشراف خيبر زنيا وكانا محصنين وكان حدهما فى التورية الرجم فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فارسلوا الى إخوانهم بنى قريظة وقالوا سلوا محمدا عن الزانيين إذا احصنا ما حدهما فان أمركم بالجلد فاقبلوا منه وان أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا منه وأرسلوا معهم الزانيين فقالت قريظة والنضير إذا والله يأمركم بما تكرهون ثم انطلق منهم كعب بن اشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الضيف ولبابة بن ابى الحقيق وغيرهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا احصنا ما حدهما فى كتابك فقال هل ترضونى بقضائي قالوا نعم فنزل جبرئيل بالرجم فاخبرهم بذلك فابوا ان يأخذوا به فقال جبرئيل جعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شابا امرد ابيض اعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم قال فاى رجل هو فيكم قالوا هو اعلم يهودى بقي على وجه الأرض بما انزل الله سبحانه على موسى فى التورية قال فارسلوا اليه فاتاهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال وأنت اعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال أتجعلونه بينى وبينكم قالوا نعم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنشدك بالله الذي لا اله الا هو الذي انزل التورية على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق ال فرعون والذي ظلل عليكم الغمام وانزل عليكم المن والسلوى وانزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون فى كتابكم الرجم على من أحصن قال ابن صوريا نعم والذي ذكرتنى لولا خشيه ان يحرقنى التورية ان كذبت وغيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هى فى كتابك يا محمد قال إذا شهد اربعة رهط عدول انه قد ادخله فيها كما يدخل الميل فى المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا والذي انزل التورية(3/110)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
على موسى هكذا انزل الله فى التورية على موسى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فماذا كان أول ما ترخصتم به امر الله قال كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزناء فى اشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل اخر فى اسرة من الناس فاراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه فقالوا والله لا ترجمه حتى ترجم فلانا لابن عم الملك فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الوضيع والشريف فوضعنا الجلد والتحميم فامر بها النبي صلى الله عليه وسلم فرجم بهما عند باب مسجده وقال اللهم انى أول من احيى أمرك إذا ماتوه فانزل الله عز وجل.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ صنيع الَّذِينَ يُسارِعُونَ يقعون سريعا فِي الْكُفْرِ اى فى انكار ما يجب فى الشرع إقراره والاعتقاد به إذا وجدوا منه فرصة روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال ان اليهود جاؤا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ان رجلا منهم وامراة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون فى التورية فى شان الرجم قال نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام كذبتم ان فيها لاية الرجم فاتوا بالتورية فنشروها فوضع أحدهم يده على اية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله ارفع يدك فرفع يده فاذا فيها اية الرجم قالوا صدق محمد فيها اية الرجم فامر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فقال عبد الله فرايت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة واخرج احمد فى مسنده عن جابر بن عبد الله قال زنى رجل من اهل فدك فكتب اهل فدك الى ناس من اليهود بالمدينة ان سألوا محمدا عن ذلك فان أمركم بالجلد فخذوه عنه وان أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه عن ذلك فذكر نحو حديث مسلم فامر به فرجم فنزلت فان جاءوك فاحكم بينهم الاية واخرج البيهقي فى الدلائل من حديث ابى هريرة نحوه وقال البغوي وقيل سبب نزول الاية القصاص وذلك ان بنى نضير كان لهم فضل على بنى قريظة فقال بنو قريظة إخواننا بنى النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد وإذا قتلوا منا قتيلا لم يقيدونا واعطون ديته سبعون وسقا من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها رجلا منا وبالرجل رجلين وبالعبد حرامنا وجراحاتنا على التضعيف من جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم فانزل الله عز وجل هذه الاية كذا روى(3/111)
احمد وابو داؤد عن ابن عباس قال أنزلها الله فى طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاخرى فى الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على ان كل قتيل قتلته العزيزة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فارسلت العزيزة ان ابعثوا الدية مائة وسق فقال الذليلة وهل كان ذلك فى حيين قط دينهما واحد ونسبتهما واحدة وبلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض انا أعطيناكم هذا ضيما «1» منكم لنا وفرقا «2» فاما إذا قدم محمد فلا تعطيكم فكادت الحرب تهيج وبينهما ثم ارتضوا على ان جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فارسلوا اليه ناسا من المنافقين ليختبروا رايه فانزل الله عز وجل يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر مِنَ الَّذِينَ قالُوا بيان لقوله الذين يسارعون آمَنَّا مقولة قالوا بِأَفْواهِهِمْ
متعلق بقالوا لا بآمنا وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فى محل النصب على الحال من فاعل قالوا ويحتمل العطف على قالوا وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على من الذين قالوا يعنى من المنافقين واليهود سَمَّاعُونَ خبر مبتدأ محذوف اى هم سماعون والضمير للفريقين او للذين يسارعون ويجوز ان يكون مبتدأ ومن الذين هادوا خبره اى من اليهود قوم سماعون لِلْكَذِبِ اللام اما مزيدة للتاكيد او لتضمين السماع معنى القبول اى قابلون لما يفتريه الأحبار او للعلة والمفعول محذوف اى سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيها بالزيادة والنقصان والتغير والتبديل وقيل اللام بمعنى الى اى سماعون الى كذب أحبارهم سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ من اليهود لَمْ يَأْتُوكَ اى لم يحضروك وتجافوا عنك تكبرا او افراطا فى البغض واللام فى لقوم اما لتضمن السماع معنى القبول اى مصغون لقوم آخرين قابلون كلامهم واما للعلة اى سماعون لاجلهم والإنهاء إليهم اى هم يعنى بنى قريظة جواسيس لقوم آخرين وهم اهل خيبر ويجوز ان يتعلق اللام بالكذب وسماعون الثاني مكرر للتاكيد اى سماعون كلامك ليكذبوا عليك لقوم آخرين أمي للانهاء إليهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ المنزلة فى التورية من اية الرجم والقصاص وغير ذلك والكلم اسم جنس او اسم جمع وليس بجمع ولذلك أفرد الضمير نظرا الى لفظه فى قوله تعالى مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ اى من بعد وضعه الله تعالى مواضعه معنى يحرفون الكلم
__________
(1) الضيم الظلم 12 قاموس
(2) الفرق بالفتحتين الخوف 12 نهاية [.....](3/112)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
عما هو فى التورية اما لفظا بان يغيروه بغيره او معنى بان يحملوه على غير ما أريد منه والجملة صفة اخرى لقوم او صفة لسماعون او حال من الضمير فيه او استيناف لا موضع من الاعراب او فى موضع الرفع خبرا عن مبتدأ محذوف اى هم يحرفون وكذلك قوله تعالى يَقُولُونَ وجاز ان يكون حالا من الضمير فى يحرفون إِنْ أُوتِيتُمْ يعنى ان أتاكم محمد صلى الله عليه وسلم حكما مثل هذا المحرف فَخُذُوهُ اى اعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ يعنى افتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بخلافه فَاحْذَرُوا قبول ما افتاكموه وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ ضلالته او هلاكه او عذابه فَلَنْ تَمْلِكَ يا محمد لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً اى لن تقدر ولن تستطيع له شيئا من الاستطاعة كائنة من الله تعالى فى دفع مراده او لن تقدر دفع شىء من مراده تعالى فقوله تعالى أمن الله اما متعلق بقوله تملك ومن ابتدائية او ظرف مستقر حال من شيئا وشيئا منصوب على المصدرية او المفعولية فيه حجة لنا على المعتزلة فى ان مراد الله لا ينفك عن إرادته أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر اية محكمة دالة على فساد قول المعتزلة ان الله يريد من كل عباده الايمان دون الكفر لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان بالقتل كما وقع فى بنى قريظة او بالجزية والخوف من المؤمنين وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود فى النار والضمير للذين هادوا على تقدير الاستيناف بقوله ومن الذين هادوا والا فللفريقين
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ كرر للتأكيد اى هم سماعون ومثله. أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي وابو جعفر فى المواضع الثلاثة بضم الحاء والباقون بإسكانها ومعناه الحرام وأصله الهلاك قال الله تعالى فيسحتكم بعذاب قال الأخفش السحت كل كسب لا يحل نزلت الاية فى حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم ويسمعون الكذب ويقبلونه من الراشي ولا يلتفتون الى خصمه وقال الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك السحت هو الرشوة فى الحكم وقال الحسن انما ذلك فى الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا او يبطل عليك حقا فاما ان يعطى الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه الظلم فلا بأس به يعنى لا بأس به على المعطى فى دفعه وقاية لنفسه وماله واما على الاخذ فحرام اخذه قلت وكذا إذا كان المدعى محقا يرى ان القاضي لا يحكم له بحقه ولا يدفع عنه ظلم(3/113)
خصمه الا بدفع الرشوة فلا بأس له فى الدفع وحرام على القاضي الاخذ لان الحكم بالحق ودفع الظلم واجب عليه لا يجوز له ان يأخذ عليه شيئا قال ابن مسعود من يشفع شفاعة ليرد بها حقا او يدفع بها ظلما فاهدى له فقبل فهو سحت فقيل له يا باعبد الرحمن ما كنا نرى ذلك الا الاخذ على الحكم فقال الاخذ على الحكم كفر قال الله عز وجل ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون وعن مسروق قال قلت لعمر بن الخطاب ارايت الرشوة فى الحكم من السحت هى قال لا ولكن كفر انما السحت ان يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ويكون للاخر الى السلطان حاجة فلا يقضى حاجته حتى يهدى اليه هدية وعن عمر قال بابان من السحت يأكلهما الناس الرشا فى الحكم ومهر الزانية وعن ليث قال تقدم الى عمر بن الخطاب خصمان فاقامهما ثم عادا فاقامهما ثم عادا ففصل بينهما فقيل له فى ذلك فقال تقدما الى فوجدت لاحدهما ما لم أجد لصاحبه فكرهت ان افصل بينهما على ذلك ثم عادا فوجدت بعض ذلك فكرهت ثم عادا قد ذهب ذلك ففصلت بينهما وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنة الله على الراشي والمرتشي فى الحكم رواه احمد والترمذي وصححه والحاكم عن ابى هريرة وروى البغوي نحوه عن عبد الله بن عمر ومرفوعا وروى احمد بإسناد ضعيف عن ثوبان مرفوعا لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يسعى بينهما.
(فائدة) قال ابن همام الرشوة على اقسام منها ما هو حرام على الاخذ والمعطى وهو الرشوة فى تقليد القضاء فلا يصير قاضيا وارتشاء القاضي ليحكم فلا ينفذ قضاؤه فى تلك الواقعة وان حكم بحق لانه واجب عليه فلا يحل أخذ المال عليه ولا إعطائه ومنها ما هو حرام على الاخذ دون المعطى كما إذا اعطى المال ليسوى امره عند السلطان دفعا للضرر او جلبا للنفع وحيلة حلها للاخذ ان يستاجر يوما الى الليل او يومين فيصير منافعه مملوكة له ثم يستعمله فى الذهاب الى السلطان للامر الفلاني وكذا إذا ما اعطى المال لدفع الخوف من المدفوع اليه على نفسه او ماله حرام على الاخذ دون المعطى لان دفع الضرر على المسلم واجب ولا يجوز أخذ المال على الفعل الواجب.
(فائدة) وفى المحيط الرشوة على انواع نوع منها ان يهدى الرجل الى رجل مالا لابتغاء التودد والتحبب وهذا حلال من جانب المهدى والمهدى اليه قلت وفى الباب قوله صلى(3/114)
الله عليه وسلم تهادوا تحابوا ونوع منها ان يهدى الرجل الى رجل ما لا بسبب ان ذلك الرجل قد خوفه فيهدى اليه ما لا ليدفع الخوف عن نفسه او يهدى الى السلطان مالا ليدفع ظلمه عن نفسه او ماله وهذا النوع لا يحل للاخذ وعامة المشايخ على انه يحل للمعطى لانه بذل ماله وقاية لنفسه وماله ونوع منها ان يهدى الرجل الى رجل مالا يسوى امره فيما بينه وبين السلطان ويعينه فى حاجته فان كان حاجته حراما لا يحل من الجانبين الاخذ والإعطاء وان كان مباحا فان كان قد اشترط انه انما يهدى اليه ليعينه عند السلطان لا يحل الاخذ وهل يحل الإعطاء تكلموا فيه فمنهم من قال يحل ومنهم من قال لا يحل والحيلة فيه ان يستاجره صاحب الحادثة يوما الى الليل ليقوم بعمله وان لم يشترط لكن انما يهدى اليه ليعينه عند السلطان فقال عامة المشايخ لا يكره اخذه وقيل يكره كذا نقل عن ابن مسعود فَإِنْ جاؤُكَ يا محمد يعنى اليهود لتحكم بينهم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً خيّر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم إذا تحاكم اليه الكفار بين الحكم والاعراض قال البغوي اختلفوا فى حكم هذه الاية اليوم هل للحاكم الخيار فى الحكم بين اهل الذمة إذا تحاكموا إلينا فقال اكثر اهل العلم هو حكم ثابت وليس فى سورة المائدة منسوخ حكام المسلمين بالخيار فى الحكم بين اهل الكتاب ان شاؤا حكموا وان شاؤا لم يحكموا وان حكموا حكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة وقال قوم يجب على حكام المسلمين ان يحكم بينهم والاية منسوخة نسخها قوله تعالى وان احكم بينهم بما انزل الله وهو قول مجاهد وعكرمة وروى ذلك عن ابن عباس وقال لم ينسخ من المائدة الا آيتان قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله نسخها قوله تعالى اقتلوا المشركين كافة وقوله تعالى فان جاؤك فاحكم بينهم او اعرض عنهم نسخها قوله تعالى وان احكم بينهم بما انزل الله قال البيضاوي قيل لو تحاكما الكتابيان الى القاضي لم يجب عليه الحكم وهو قول الشافعي والأصح وجوبه إذا كان الترافعان او أحدهما ذميا لانا التزمنا الذنب عنهم ودفع الظلم منهم والاية ليست فى اهل الذمة وعند ابى حنيفة رحمه الله يجب مطلقا قلت إذا ترافع الى القاضي كافران ذميان او حربيان يجب على القاضي الحكم بينهما بالعدل لانه التزم من السلطان القضاء بالحق وكذا إذا ترافع أحدهما والمدعى عليه(3/115)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
مسلم او ذمى لالتزامه حكم الشرع بالإسلام او الاستسلام بخلاف ما إذا كان المدعى عليه حربيا حيث لم يلتزم أحكامنا واما إذا ترافع مسلمان او ذميان او حربيان او مختلفان الى رجل من المسلمين غير الحكام ليحكم بينهم لا يجب عليه قبول التحكيم بل هو بالخيار ان شاء حكم بينهم وان شاء اعرض عنهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان المقسطين عند الله على منابر من نور رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أفضل عباد الله عند الله منزلة يوم القيامة امام عادل رفيق وان شر الناس عند الله منزلة امام جائر خرق «1» رواه البيهقي فى شعب الايمان.
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال انهم يعلمون حكم الله فان عندهم التورية فيها حكم الله وهو الرجم وهم لا يعملون به والحاصل انه ليس غرضهم من تحكيمهم إياك إصابة الحق واقامة الشرع بل انما يطلبون ما يكون أهون عليهم وان لم يكن حكم الله وقوله فيها حكم الله حال من التورية ان رفعتها بالظرف وان جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فى الظرف وتانيثها لكونها نظيرة المؤنث فى كلام العرب كرماة ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يحكمونك داخل فى التعجيب يعنى ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد تحكيمك وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ 6 بشئ من كتب الله تعالى لا بالتورية والا لعملوا بها وأمنوا بما يصدقه ويوافقه ولا بكتابك.
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً الى الحق وَنُورٌ ينكشف به احكام الله تعالى ويجتلى به القلوب الغير القاسية يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ موسى ومن بعده من الأنبياء آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم قضى عليهم بالرجم وقال الحسن والسدى أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وذكر بلفظ الجمع كما فى قوله تعالى ان ابراهيم كان امة قانتا ويحكم بصيغة المضارع يدل على ان حكم محمّد صلى الله عليه وسلم ايضا داخل فى المقصود بالآية وقيل ان المراد بالنبيين هاهنا الذين بعثوا بعد موسى قبل عيسى
__________
(1) الخرق بالضم الجهل والحمق 12(3/116)
ليحكموا بالتورية بقرينة قوله تعالى وقفينا على اثارهم بعيسى وعلى تقدير شمول كلمة النبيين المذكورة محمدا صلى الله عليه وسلم وغيره لا بد من التأويل فى قوله تعالى وقفينا على اثارهم بان الضمير راجع إليهم بالنسبة الى بعض افرادهم كما فى قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن ومن هاهنا قال ابو حنيفة يجب علينا العمل بشرائع من قبلنا ما لم يظهر نسخه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم فى الاولى والاخرة الأنبياء اخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد الحديث متفق عليه يعنى دينهم واحد وهو ما قضى الله به سبحانه وطرق ظهور ذلك الدين فى الدنيا شتى بعدد تعينات الأنبياء الَّذِينَ أَسْلَمُوا اى انقادوا الحكم الله صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها لشان المسلمين وتعريضا لليهود حيث لا يحكمون بما فى التورية ولا ينقادون لحكم الله تعالى لِلَّذِينَ هادُوا اى تابوا من الكفر متعلق بانزلنا او بالظرف المستقر أعنى فيها هدى ونورا وبيحكم اى يحكمون بها فى تحاكمهم وعلى التقدير الثالث قيل اللام بمعنى على كما فى قوله تعالى وان أسأتم فلها يعنى فعليها وقوله تعالى أولئك لهم اللعنة اى عليهم قلت وعلى هذا التأويل جاز ان يكون معنى الاية يحكم النبيون بالتورية على اليهود بكفرهم فان التورية يحكم عليهم انه إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال البيضاوي هذا القيد يعنى للذين هادوا يدل على ان المراد بالنبيين فى هذه الاية أنبياء بنى إسرائيل الذين بعثوا بعد موسى عليه السّلام ليحكموا بما فى التورية لا من لم يومر بما فى التورية ومنهم عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وكذا قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وهذا القول منه مبنى على مذهب الشافعي رح ان شرائع من قبلنا لا يكون حجة علينا قلنا قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لا يدل على نسخ جميع احكام التورية بل على بعضها او أكثرها وما لم يظهر نسخ حكم ثبت بالكتاب او السنة ان الله تعالى حكم به لا بد من العمل به لقوله تعالى فبهدئهم اقتده والله اعلم وَالرَّبَّانِيُّونَ اى الصوفية الزهاد يحكم بها المسترشدين منهم فيما يتعلق بتهذيب الأخلاق وتجلية القلوب وَالْأَحْبارُ جمع حبر بفتح الحاء وكسرها والكسر افصح هو العالم المحكم للشئ وقيل الحبر بمعنى الجمال فى الحديث يخرج من النار رجل قد ذهب حبره(3/117)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وصبره اى حسنه وهيئته ومنه التحبير للتحسين ويقال للعالم حبرا لما عليه من جمال العلم والعلماء جمال الامة بِمَا اسْتُحْفِظُوا العائد الى الموصول محذوف وبيانه من قوله تعالى مِنْ كِتابِ اللَّهِ الجار والمجرور متعلق بيحكم والباء للسببية والضمير المرفوع فى استحفظوا راجع الى النبيين والربانيين والأحبار والاستحفاظ منهم تكليفهم بحفظه والعمل به ومنعهم عن نسيانه وعن ترك العمل به وعن التضييع والتحريف يعنى يحكم بها الأنبياء ومن تبعهم بسبب أمرهم الله تعالى بان يحفظوه وَكانُوا عَلَيْهِ اى على الاستحفاظ من الله او على كتاب الله شُهَداءَ رقباء يعلمونه ويبينونه فَلا تَخْشَوُا ايها الحكام النَّاسَ فى الحكومة على خلاف مرادهم وَاخْشَوْنِ فى ترك العمل بكتابي واحكامى اثبت الياء فى الوصل فقط ابو عمرو وحذفها الجمهور فى الحالين اخرج ابن عساكر والحكيم الترمذي عن ابن عباس انه قال انما يسلط على ابن آدم من خافه ابن آدم فان لم يخف الا الله لم يسلط عليه غيره وانما وكل ابن آدم بمن رجا ابن آدم فان لم يرج ابن آدم الا الله لم يكله الى سواه وَلا تَشْتَرُوا اى لا تستبدلوا بِآياتِي باحكامى التي أنزلتها ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا على سبيل الرشوة ونحو ذلك هذا صريح فى ان حكام هذه الامة مأمورون بالحكم بما ثبت كونه فى التورية ولم يثبت نسخه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به جاحدا له كذا قال عكرمة فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ان لم يحكم بالاستهانة وقيل المراد بالكفر الفسق وجاز ان يكون المراد بالكفر ستر الحق قال ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل فهو به كفر يعنى ستر الحق وليس كمن كفر بالله واليوم الاخر.
وَكَتَبْنا اى فرضنا عَلَيْهِمْ اى على بنى إسرائيل فِيها اى فى التورية أَنَّ النَّفْسَ القاتلة حرا كانت او رقيقا ذكرا كانت او أنثى مسلما كانت او ذميا تقتل بِالنَّفْسِ المقتولة كيفما كانت وقد مرحكم هذه المسألة فى شريعتنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى الحر بالحر الاية وَالْعَيْنَ تقفأ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ تجدع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ تقطع بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ قرأ الكسائي العين والانف والاذن والسن بالرفع على انها جمل متعاطفة عطفت على ان وما فى حيزها كانه قيل كتبنا عليهم النفس بالنفس فان الكتابة والقراءة يقعان على الجمل كالقول او مستانفة ومعناها وكذلك العين مقفوة بالعين والانف(3/118)
مجدوعة بالأنف والاذن مقطوعة بالاذن والسن مقلوعة بالسن او على ان المرفوع منها معطوف على المستكن فى قوله بالنفس وانما ساغ لانه فى الأصل مفصول عنه بالظرف والجار والمجرور مبنية للمعنى والباقون بالنصب وقرأ نافع الاذن بالاذن وفى اذنيه بإسكان الذال حيث وقع والباقون بضمها وَالْجُرُوحَ ذات قِصاصٌ قرأ ابن كثير والكسائي وابو عمرو وابن عامر وابو جعفر بالرفع على انه إجمال للحكم بعد التفصيل والباقون بالنصب عطفا على اسم ان وهذا تعميم بعد التخصيص ولفظ القصاص ينبئ عن المماثلة فكل ما أمكن فيه رعاية المماثلة يجب فيه القصاص ومالا فلا فاليد ان قطع من المفصل عمدا قطعت يد الجاني من ذلك المفصل وانكانت يده اكبر من اليد المقطوعة وكذلك الرجل ومارن الانف والاذن والسن لامكان رعاية المماثلة ومن ضرب عين رجل فقلعها لا قصاص عليه لامتناع المماثلة فى القلع فان كانت العين قائمة وذهب ضوءها فعليه القصاص لا مكان المماثلة فتحمى له المرأة ويجعل على وجهه قطن رطب ويقابل عينه بالمرءاة فيذهب ضوءها وهو ماثور عن جماعة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قال فى الكفاية هذه حادثة وقعت فى زمن عثمان فسأل الصحابة عنها فلم يكن عندهم جواب فحضر على رض فاجاب بهذا فقضى عثمان بهذا ولم ينكر عليه أحد فصار اجماعا ولا قصاص فى عظم الا فى السن.
(مسئلة:) ولا يقتص من الجراحة الا بعد الاندمال عند ابى حنيفة واحمد وقال الشافعي يقتص فى الحال لنا حديث جابر ان رجلا جرح فاراد ان يستقيد منه فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني.
(مسئلة:) من قطع يد رجل من نصف الساعد او جرحه جائفة فبرأ منها فلا قصاص عليه لانه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه إذ الاول كسر العظم ولا ضابطة فيه وكذا البرأ نادر فيفضى الثاني الى الهلاك ظاهرا وقال الشافعي لو كسر عضده وابانه قطع من المرفق وله حكومة الباقي وكذا فى كسر الساعد وغيره من العظام ان له قطع اقرب مفصل من موضع الكسر وحكومة الباقي.
(مسئلة:) لا قصاص عند ابى حنيفة فى اللسان ولا فى الذكر الا ان يقطع الحشفة(3/119)
لانهما ينقبضان وينبسطان فلا يمكن اعتبار المماثلة وعن ابى يوسف انه إذا قطع اللسان او الذكر من أصله يجب القصاص وبه قال الشافعي واحمد لانه يمكن اعتبار المساواة والشفة ان استقصاها بالقطع يجب القصاص لامكان اعتبار المماثلة بخلاف ما إذا قطع بعضها لانه يتعذر اعتبارها.
(مسئلة:) ولا يقطع اليد الصحيحة باليد الشلاء ولا يمين بيسار ولا يسار بيمين اجماعا- (مسئلة:) فى العين القائمة بلا نور واليد الشلاء ولسان الأخرس والذكر الأشل والإصبع الزائدة حكومة عدل عند الجمهور وعند احمد فيها ثلث دية العضو الصحيح لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى فى العين العوراء السادة مكانها إذا طمست ثلث ديتها وفى اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفى السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها رواه البيهقي من طريق النسائي وعن ابن عباس موقوفا فى اليد الشلاء ثلث الدية وفى العين القائمة إذا حشفت ثلث الدية رواه الدارقطني.
(مسئلة:) ان كانت يد المقطوع صحيحة ويد القاطع شلاء او ناقصة الأصابع فالمقطوع بالخيار عند ابى حنيفة رحمه الله ان شاء قطع اليد المعيبة ولا شىء غيرها وان شاء أخذ الأرش كاملا لان استيفاء الحق كملا متعذر فله ان يتجوز بدون حقه وله ان يعدل الى البدل وعند الشافعي يجب الأرش لا غير.
(مسئلة:) من شج رجلا فاستوعبت الشجة ما بين قرنيه وهى لا تستوعب ما بين قرنى الشاج فالمشجوج بالخيار ان شاء اقتص بمقدار شجته يبتدئ بها من اى الجانبين شاء وان شاء أخذ الأرش وفى عكسه يخير ايضا.
(مسئلة:) ويجرى القصاص فى كسر السن كما يجرى فى قلعها عند ابى حنيفة رحمه الله وقال الشافعية لا قصاص فى الكسر لامتناع التماثل قلنا يمكن التماثل إذا يبرد بالمبرد وفى الباب حديث انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقصاص فى السن رواه النسائي وعن انس ايضا قال كسرت الربيع وهى عمة انس بن مالك ثنية جارية من الأنصار فاتوا النبي صلى الله عليه وسلم فامر بالقصاص فقال انس بن النضر عم انس ابن مالك لا تكسر(3/120)
ثنيتها يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا انس كتاب الله القصاص فرضى القوم وقبلوا الأرش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان من عباد الله من لو اقسم على الله لا بره متفق عليه.
(مسئلة:) ليس فيما دون النفس شبهة عمد انما هو عمدا وخطاء لان شبه العمد فيما دون النفس عمد.
(مسئلة:) لا قصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس ولا بين الحر والعبد ولا بين العبدين عند ابى حنيفة رحمه الله وعند الائمة الثلاثة يجرى القصاص فى جميع ذلك الا فى الحر يقطع طرفا للعبد جريا على أصلهم من انه لا يقتص حر لعبد لقوله تعالى الحر بالحر وهذه الاية بعمومها يعنى العين بالعين حجة لهم على ابى حنيفة ووجه قول ابى حنيفة ان الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت فى القيمة وهو معلوم قطعا بتقويم الشرع فامكن اعتباره بخلاف الأنفس لان المتلف به الحيوة بازهاق الروح ولا تفاوت فيه.
(مسئلة:) يجب القصاص فى الأطراف بين المسلم والذمي عند ابى حنيفة رحمه الله للتساوى بينهما فى الأرش عنده وقال الشافعي واحمد ان قطع المسلم طرف كافر فلا قصاص لعدم جريان القصاص بينهما فى الأنفس وقد مر المسألة فى سورة البقرة فَمَنْ تَصَدَّقَ من اصحاب الحق بِهِ اى بالقصاص وعفا عن الجاني فَهُوَ اى التصدق كَفَّارَةٌ لَهُ اى للمتصدق كذا قال عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة اخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله فمن تصدق به فهو كفارة له قال هو الرجل يكسر سنه او يقطع يده او يقطع شىء منه او يجرح فى بدنه فيعفو عن ذلك فيحط عنه قدر خطاياه فان كان ربع الدية فربع خطاياه وإن كان الثلث فثلث خطاياه وانكانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك وروى الطبراني فى الكبير بسند حسن عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدق من جسده بشئ كفر الله بقدره من ذنوبه والطبراني والبيهقي عن سنجرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابتلى فصبروا عقل فشكر وظلم فغفر وظلم فاستغفر أولئك لهم الا من وهم مهتدون وروى الترمذي وابن ماجة عن ابى الدرداء(3/121)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يصاب بشئ فى جسده فتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه خطيئة وكما أصيب شيخنا «1» وامامنا بجراحة توفى بها واستشهد أرسل اليه امير «2» الأمراء وقال لاقيدن ممن جنى عليك ايها الشيخ فقال الشيخ رضى الله تعالى عنه لا تعرضوا بمن جنى علىّ فتصدق الشيخ به وقيل الضمير عائد الى الجاني المفهوم مما سبق معنى عفوه كفارة لذنب الجاني لا يوخذ به فى الاخرة كما ان القصاص كفارة له واما اجر العافي فعلى الله قال الله تعالى فمن عفا وأصلح فاجره على الله قال البغوي روى ذلك عن ابن عباس وبه قال مجاهد وابراهيم وزيد بن اسلم وجاز ان يكون معنى الاية فمن تصدق به اى انقاد للقصاص لمن وجب له القصاص فهو كفارة له من ذنوبه قال الله تعالى ولكم فى القصاص حيوة يأولى الألباب وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القصاص وغيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بالامتناع من ذلك.
وَقَفَّيْنا اى اتبعناهم يعنى النبيين حذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه اعنى عَلى آثارِهِمْ اى على اثار النبيين الذين اسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مفعول ثان عدى اليه الفعل بالباء مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ فى موضع النصب على الحال من الإنجيل وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى الإنجيل مِنَ التَّوْراةِ عطف على فيه هدى وكذا قوله وَهُدىً وَمَوْعِظَةً وجاز نصبهما على العلية عطفا على محذوف يعنى رحمة للناس وهدى وموعظة لِلْمُتَّقِينَ لانهم هم المنتفعون به او تعلقا بمحذوف تقديره واتيناه هدى وموعظة وعلى تقدير نصبهما على العلية عطفا عليهما.
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ فى قراءة حمزة بكسر اللام ونصب يحكم يعنى ولكى يحكم وعلى التأويل الاول لام كى متعلق بمحذوف تقديره واتيناه ليحكم واما على قراءة الجمهور بسكون اللام والجزم على انه صيغة امر والجملة مستانفة فان قيل الإنجيل نسخ بالقران وصيغة الأمر للحال او للاستقبال فكيف يتصور الأمر بالحكم بما فى الإنجيل قلنا لا نسلم انه منسوخ بجميع أحكامه وما نسخ منه فتركه باتباع القران محكوم فيه فالحكم بالناسخ الذي ورد فى القران حكم بما انزل الله فى الإنجيل والحكم بالمنسوخ بعد النسخ ترك العمل بالإنجيل
__________
(1) المراد به مرزاجا نجانا مظهر مرحوم 12
(2) نواب مرزا نجف خان 12(3/122)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
واهل الإنجيل هم امة عيسى عليه السّلام قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وامة محمّد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته بدليل قوله تعالى لعيسى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا الى يوم القيامة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حكمه او عن الايمان بالاستهانة.
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القران متلبسا بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ اى من جنس الكتب المنزلة فاللام الاولى للعهد والثانية للجنس وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ روى الوالبي عن ابن عباس رضى الله عنهما اى شاهدا وهو قول مجاهد وقتادة والسدى والكسائي وقال عكرمة دالا وقال سعيد بن جبير وابو عبيدة موتمنا عليه وقال الحسن أمينا وقال سعيد بن المسيّب والضحاك قاضيا وقال الخليل رقيبا وحافظا والمعنى متقاربة ومعنى الكل ان كل كتاب يشهد به القران ويصدقه فهو كتاب الله قال ابن جريح القران أمين على ما قبله من الكتب فما اخبر اهل الكتاب من كتابهم فانكان فى القران فصدقوه والا فكذبوه يعنى الكان فى القران تصديقه فصدقوه وإن كان فى القران تكذيبه فكذبوه وان كان القران ساكتا عنه فاسكتوا عنه لاحتمال الصدق والكذب من اهل الكتاب قيل اصل مهيمن ما يمن مفيعل من الامانة فقلبت الهمزة هاء فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ اى بين الناس بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فى القران فانه اما موافق لما سبق من الاحكام او ناسخ له وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ اى أهواء الناس ان أرادوا منك الحكم على خلاف ما انزل الله عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ متعلق بقوله لا تتبع لتضمنه معنى لا تنحرف او حال من فاعله اى لا تتبع أهواءهم معرضا عما جاءك من الحق لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ اى جعلنا لكل امة منكم ايها الناس شِرْعَةً اى شريعة وهى الطريق الى الماء شبه الدين لانه طريق الى ما هو سبب للحيوة الا بدية وَمِنْهاجاً طريقا واضحا فى الدين من نهج الأمر إذا وضح استدل البيضاوي بهذه الاية على انا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة ونحن نقول إذا ثبت بالقران او السنة ان الله تعالى حكم بشئ فى شىء من الكتب السابقة ولم يثبت نسخه فنحن متعبدون به بناء على انه من احكام شريعتنا والقول بترك جميع ما نزل فى الكتب السابقة لا يساعده عقل ولا نقل واختلاف الشرائع انما هو باختلاف اكثر الفروع مع اتحاد الأصول لا محالة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً(3/123)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
جماعة متفقة على جميع الفروع فى جميع الاعصار من غير نسخ وتبديل وَلكِنْ لم يشأ ذلك وجعلكم امما شتى على شرائع مختلفة لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الاحكام المناسبة لكل عصر وقرن اى ليعلم من يتبع حكم الله ممن ينقلب على عقبيه جمودا على دين ابائهم وقيل معناه ولو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لاجبركم عليه ولكن لم يجبر ليبلوكم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يعنى بادروا الى الأعمال الصالحة اغتناما للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم فانه من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استيناف فيه تعليل للاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصرين فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال قال كعب بن اسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس اذهبوا بنا الى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فاتوه فقالوا يا محمد انك قد عرفت انا أحبار اليهود واشرافهم وساداتهم وانا ان اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وان بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم ونؤمن لك فابى ذلك فانزل الله تعالى.
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ الى قوله يوقنون عطف على الكتاب اى أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك الحكم او على الحق اى أنزلناه بالحق وبان احكم وجاز ان يكون جملة بتقدير وأمرنا ان احكم بينهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عطف على احكم وكذا وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ اى ان يضلوك ويصرفوك وان مع صلته بدل اشتمال من الضمير المنصوب يعنى احذر فتنتهم او مفعول له يعنى احذرهم مخافة ان يفتنوك او لئلا يفتنوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ اى يعجل لهم الله العقوبة فى الدنيا ببعض ذنوبهم هاهنا وضع المظهر موضع المضمر والمعنى يريد الله ان يصيبهم به اى بذلك التولي فى الدنيا وهذا الإبهام لتعظيم التولي والتنبيه على ان لهم ذنوب كثيرة واحدها هذا وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى من اليهود لَفاسِقُونَ المتمردون المعتدون فى الكفر.
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ ابن عامر بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالتحتانية على الغيبة والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية وهى متابعة الهوى(3/124)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
قيل نزلت فى قريظة وبنى النضير طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يحكم بما كان يحكم به اهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى والاستفهام للانكار يعنى لا تفعل ذلك وَمَنْ أَحْسَنُ يعنى لا أحد احسن مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 4 اى عندهم واللام للبيان كما فى قولك هيئت لك اى هذا الاستفهام لقوم يوقنون فانهم هم الذين يتدبرون فى الأمور ويتحققون فى الأشياء بانظارهم فيعلمون ان لا احسن حكما من الله تعالى اخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال اسلم عبد الله بن ابى ابن سلول ثم انه قال ان بينى وبين قريظة والنضير حلف وانى أخاف الدوائر فارتد كافرا وقال عبادة بن الصامت انى ابرأ الى الله من حلف قريظة والنضير وأتولى الله ورسوله والمؤمنين فانزل الله تعالى هذه الاية الى قوله فترى الذين فى قلوبهم مرض الاية وقوله انما وليكم الله الاية وقوله لو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل اليه ما اتخذوهم اولياء واخرج ابن اسحق وابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال لما حاربت بنو قينقاع نشب بامرهم عبد الله بن ابى ابن سلول وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ الى الله ورسوله ومن حلفهم وكان أحد بنى عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبد الله بن ابى فتبرأ من حلفائه الكفار وولايتهم قال ففيه وفى عبد الله بن ابى نزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا «1» الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ اى لا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ايماء الى علة النهى يعنى انهم متفقون على خلافكم واضراركم وتوالى بعضهم بعضا لاتحادهم فى الدين وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يعنى عبد الله بن ابى فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعنى كافر منافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا الحباب ما نفست «2» من ولاية
__________
(1) عن عياض ان عمر امر أبا موسى الأشعري ان يرفع اليه ما أخذ وما اعطى فى أديم واحد وكان له كاتب نصرانى فرفع اليه ذلك فعجب عمر وقال ان هذا لحفيظ بل أنت قارى لنا كتابا فى المسجد جاء من الشام فقال انه لا يستطيع ان يدخل المسجد قال عمرا جنب قال لا بل نصرانى قال فنهزنى وضرب فخذى ثم قال أخرجه ثم قرأ لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء الاية أخرجه ابن ابى حاتم والبيهقي فى شعب الايمان 12
(2) اى ما صرت مرغوبا من ولاية اليهود على عباده 12(3/125)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه قال إذا اقبل وجاز ان يكون قوله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم مبنيا على التجوز يعنى من يتولهم فهو فاسق والفاسق يشابه الكافر والغرض منه التشديد فى وجوب مجانبتهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا برئ من كل مسلم اقام مع المشركين لا ترا انا راهما رواه الطبراني برجال ثقات عن خالد بن الوليد واخرج ابو داؤد والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد الله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار وظلموا المؤمنين بموالاة أعدائهم.
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى عبد الله ابن ابى ابن سلول وأصحابه من المنافقين يُسارِعُونَ فِيهِمْ اى فى موالاة اليهود ومعاونتهم مفعول ثان لترى إن كان من الروية بمعنى العلم والا فهو حال من فاعله يَقُولُونَ حال من فاعل يسارعون نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الزمان بان ينقلب الأمر ويكون الدولة للكفار ولا يتم امر محمّد فيدور علينا كذا قال ابن عباس وقيل معناه نخشى ان يدور الدهر علينا بمكروه فنحتاج الى نصرهم او يصيبنا جدب وقحط فلا يعطونا الميرة اخرج ابن جرير من حديث عطية وابن اسحق ان عبادة بن الصامت قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان لى موالى من اليهود كثيرا عددهم وانى ابرأ الى الله ورسوله من ولايتهم وأو الى الى الله ورسوله فقال ابن ابى انى رجل أخاف الدوائر لا ابرأ من ولاية موالى قال البغوي فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا الحباب ما نفست من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه قال إذا اقبل قال الله تعالى فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ قال قتادة ومقاتل بالقضاء الفصل من نصر محمد صلى الله عليه وسلم على من خالفه وقال الكلبي والسدى فتح مكة وقال الضحاك فتح قرى ليهود خيبر وفدك وغيرها أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ اى اظهار اسرار المنافقين وقتلهم وتفضيحهم او قتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير واستيصال اليهود من جزيرة العرب فَيُصْبِحُوا اى هؤلاء المنافقين منصوب بان مقدرة بعد فاء السببية الواقعة بعد عسى لانه بمعنى لعل وهو من ملحقات التمني كما فى قوله تعالى لعلى ابلغ الأسباب اسباب السموات فاطلع بالنصب وجاز ان يكون معطوفا على الفتح تقديره عسى الله ان يأتي بالفتح وصيرورة المنافقين نادمين وجاز ان يكون معطوفا على يأتي وهذا اما على تقدير كون ان يأتي اسم عسى بدلا من الله(3/126)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
مغنيا عن الخير بما تضمنه من الحدث واما على تنزيل عسى الله ان يأتي منزلة عسى ان يأتي الله لان كليهما بمعنى واحد فالتقدير عسى ان يأتي الله بالفتح وعسى ان يصبحوا الا على تقدير كون يأتي خبر عسى لانه حينئذ لا بد من الضمير فى خبر عسى عائدا الى اسمه وجاز ان يقال لفظة الله فى قوله اقسموا بالله مظهر فى موضع الضمير والله اعلم عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ استبطنوه من النفاق وموالاة الكفار فضلا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم نادِمِينَ خبر ليصبحوا والجار والمجرور متعلق به.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ الكوفيون بالواو ويقول بالرفع على انه كلام مبتدأ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو وهكذا فى مصاحفهم ويقول بالرفع على الاستيناف كانه فى جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ وقرأ ابو عمرو ويعقوب بالواو ويقول بالنصب على انه معطوف على يصبحوا والمعنى إذا جاء الله بالفتح يصير المنافقون نادمين ويقول المؤمنون متعجبين او على احتمالات اخر ذكرناها فى فيصبحوا والتقدير عسى ان يأتي الله بالفتح وقول المؤمنين كذلك او عسى ان يأتي الله بالفتح او عسى ان يقول المؤمنون او عسى الله ان يقول المؤمنون أهؤلاء المنافقون الذين اقسموا به تعالى كذلك أَهؤُلاءِ يعنى المنافقين الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى أغلظها مصدر قائم مقام الجملة الواقعة حالا تقديره اقسموا بالله يجتهدون جهدا ايمانهم ولذلك جاز كونه معرفة او منصوب على المصدرية من اقسموا لانه بمعناه إِنَّهُمْ اى المنافقين لَمَعَكُمْ هذه الجملة جواب للقسم يعنى يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين حيث كانوا يقسمون بانهم لمع المؤمنين وتبجّحا بما منّ الله عليهم من الإخلاص او يقولون لليهود فان المنافقين كانوا يحلفون لليهود بالمعاضدة ويقولون لهم ان أخرجتم لنخرجن معكم وان قوتلتم لننصرنكم حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ
فى الدنيا والاخرة هذه الجملة اما من مقولة المؤمنين او من مقولة الله تعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم وخسرانهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ «1» قرأ نافع
__________
(1) عن قتادة انه قال انزل الله هذه الاية وقد علم انه سيرتد مرتدون من الناس فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام الا ثلثة مساجد اهل المدينة واهل مكة واهل جواثا من عبد القيس وقال الذين ارتدوا نصلى الصلاة ولا تزكى والله لا يغصب أموالنا فكلم ابو بكر فى ذلك يتجاوز عنهم وقيل اما انهم لو قد فقهوا أدوا الزكوة فقال والله لا افرق بين شىء جمعه الله لو منعونى عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه فبعث الله بعصائب مع ابى بكر فقاتلوا حتى قتلوا وأقروا بالماعون وهو الزكوة قال قتادة فكنا نتحدث ان هذه الاية نزلت فى ابى بكر وأصحابه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابو الشيخ والبيهقي فى سننه وابن عساكر 12 منه (فائده) لم يوجد قتال مع المرتدين الا فى زمن ابى بكر وقد لامه الصحابة وكرهوا ذلك القتال فى الابتداء فلم يخف لومتهم ثم حمدوه فى الانتهاء 12 منه وعن ابى موسى الأشعري قال قلت عند النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يأتي الله بقوم يحبونه ويحبهم قال هؤلاء من اهل اليمن ثم من كندة ثم من السكون ثم من تجيب وعن القاسم ابن محمره قال أتيت عمر فرجت فى ثم تلا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ثم ضرب على منكبى وقال احلف بالله انهم لمنكم اهل اليمن ثلثا أخرجه البخاري فى تاريخه قلت وقع قتال عسكر ابى بكر مع اهل الردة بامداد اهل اليمن 12 منه(3/127)
وابن عامر يرتدد بفك الإدغام والباقون بالإدغام بفتح الدال مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يعنى عن الإسلام الى الكفر قال الحسن علم الله تبارك وتعالى ان قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فاخبر انه سياتى فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ العائد الى عن محذوف تقديره فسوف يأتي الله اى يقيم الله تعالى لمدافعتهم قوما منكم يحبهم ويحبونه واختلفوا فى ذلك القوم من هم قال على رض ابن ابى طالب والحسن والضحاك وقتادة هم ابو بكر وأصحابه الذين قاتلوا اهل الردة ومانعى الزكوة وذلك ان النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب الا اهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ومنع بعضهم الزكوة وهمّ ابو بكر بقتالهم فكره ذلك اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله فمن قاله فقد عصم منى ماله ونفسه الا بحقه وحسابه على الله عز وجل فقال ابو بكر رض والله لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكوة فان الزكوة حق المال والله لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال انس بن مالك كرهت الصحابة قتال مانعى الزكوة وقالوا(3/128)
اهل القبلة فتقلد ابو بكر رض سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على اثر قال ابن مسعود رض كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدناه عليه فى الانتهاء قال ابو بكر بن عياش سمعت أبا حفص يقول ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من ابى بكر رض قام بعد النبي صلى الله عليه وسلم فى قتال اهل الردة وقال قد ارتد فى حيوة النبي صلى الله عليه وسلم ثلث فرق منهم مذحج ورئيسهم ذو الحمار عبهلة بن كعب العنسي ويلقب بالأسود وكان كاهنا مشعبدا فتبنّى باليمن واستولى على بلاده فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم ان يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النهوض الى حرب الأسود فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر فاتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها وقال النبي صلى الله عليه وسلم قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك قيل ومن هو قال فيروز وفاز فيروز فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد واتى خبر مقتل العنسي المدينة فى اخر شهر ربيع الاول بعد مخرج اسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رض والفرقة الثانية بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان قد تنبى فى حيوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اخر سنة عشر وزعم انه أشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم فى النبوة وكتب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله الى محمد رسول الله اما بعد فان الأرض نصفها لى ونصفها لك وبعث بذلك اليه رجلين من أصحابه فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ثم أجاب من محمد رسول الله الى مسيلمة الكذاب اما بعد فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفى فبعث ابو بكر خالد بن الوليد الى مسيلمة فى جيش كثير حتى أهلكه الله على يدى وحشي غلام مطعم بن عدى الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديد وكان وحشي يقول قتلت خير الناس فى الجاهلية وشر الناس فى الإسلام والفرقة الثالثة بنو اسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة اخر من ارتد وادعى النبوة فى حيوة النبي صلى الله عليه وسلم وأول من قوتل بعد وفات النبي صلى الله عليه وسلم من اهل الردة فبعث ابو بكر خالد بن الوليد اليه فهزمهم خالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمر على(3/129)
وجهه هاربا نحو الشام ثم انه اسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وقد ارتد بعد وفات النبي صلى الله عليه وسلم فى خلافة ابى بكر رض خلق كثير سبع فرق
فزارة قوم عيينة بن حصين وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم شجاج بنت المنذر المتنبية زوجة مسيلمة وأسلمت آخرا وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم حتى كفى الله بالمسلمين أمرهم ونصر دينه على يدى ابى بكر رض قالت عائشة توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرب النفاق ونزل بابى ما لو نزل بالجبال الراسيات «1» لها ضمها «2» وارتد فى خلافة عمر غسان قوم جبلة ابن الابهم لما اجرى عليه عمر حكم القصاص تنصر وصار الى الشام وقال قوم المراد «3» بقوم يحبهم ويحبونه هم الأشعريون روى عن عياض بن غنم قال لما نزلت هذه الاية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم هذا وأشار الى ابى موسى الأشعري رواه ابن جرير فى سننه والطبراني والحاكم وكانوا من اليمن عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاكم اهل اليمن هو أضعف قلوبا وارق افئدة الايمان يمان والحكمة يمانية متفق عليه وقال الكلبي هم احياء من اليمن الفان من النخع وو خمسة آلاف من كندة وبحيلة وثلثة آلاف من إفناء الناس فجاهدوا فى سبيل الله يوم القادسية فى ايام عمر رض أَذِلَّةٍ جمع ذليل من ذل يذل ذلا وذلالة بالضم وذلة بالكسر ومذلة وذلالة بالفتح بمعنى هان كذا فى القاموس والذلة انكانت على الإنسان من نفسه فهى محمودة قال الله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة اى كن كالمقهور لهما وانكانت من غيره عليه فعليه عذاب قال الله تعالى ترهقهم ذلة وضربت عليهم الذلة والمسكنة وضد الذلة العز بمعنى الغلبة والعزيز الذي يقهر ولا يقهر وهى إن كان للانسان من نفسه لنفسه فمذموم قال الله تعالى بل الذين كفروا فى عزة وشقاق وقد يستعار
__________
(1) اى القائمات 12
(2) اى كسرها 12
(3) اخرج ابن سعد وابن ابى شيبة واحمد والطبراني والبيهقي فى الشعب عن ابى ذر قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع يحب المساكين وان ادنوا منهم وان انظر الى من هو أسفل منى ولا انظر الى من هو فوقى وان اصل رحمى وان جفانى وان اكثر من قول لا حول ولا قوة الا بالله فانها من كنز تحت العرش وان أقول الحق وان كان مرا ولا أخاف فى الله لومة لائم وان لا أسأل الناس شيئا 12 منه(3/130)
حينئذ للحمية قال الله تعالى أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وان كانت من الله تعالى فكمال ونعمة قال الله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال عز وجل من كان يريد العزة فلله العزة جميعا وقال عليه السلام كل عز ليس من الله فهو ذل قال البيضاوي هو جمع ذليل لا ذلول فان جمعه ذلل لكن قال فى القاموس جمع ذليل ذلال وأذلاء واذلة وجمع ذلول ذلل واذلة فاذلة جمع لكليهما قلت فان كان جمع ذلول فهو ضد صعب ومعناهما متقارب وحاصل المعنى انهم متواضعون لينون رحماء متعاطفون عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كان القياس للمؤمنين فاورد على هاهنا بمعنى اللام للمشاكلة التي دعى إليها المقابلة وتنبيها لاختصاص ذلهم بالمؤمنين مع علو مرتبتهم وفضلهم على من يذلون لهم أو هي بمعناها أورد لتضمن الذل معنى العطف والحنوا ويقال ذكر الاذلة فى مقابلة الاعزة تنبى عن نفى عزهم على المؤمنين كانه قيل غيرا عزة على المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ اى أشداء عليهم متغلبين ما استكانوا لهم وما ضعفوا فى مقابلتهم نظير هذه الاية قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حال من الضمير فى اعزة وجاز ان يكون صفة اخرى لقوم وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ الواو يحتمل ان يكون للحال يعنى يجاهدون وحالهم انهم لا يخافون لوم الكفار كما هو حال المنافقين كانوا يخرجون فى جيوش الإسلام اما خوفا من ظهور نفاقهم او طمعا فى الغنيمة ومع ذلك يخافون لومة اولياء هم من اليهود فلا يعملون شيئا مما يعلمون انه يلحقهم لوم من جهتهم او هى عاطفة عطف على يجاهدون بمعنى انهم هم الجامعون بين المجاهدة فى سبيل الله والتصلب فى دينهم عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وان نقوم او نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم متفق عليه واللومة المرّة من اللوم وفى تنكيرها وتنكير لائم مبالغتان كانه قال لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام ذلِكَ يعنى محبتهم ومحبوبيتهم لله تعالى وذلهم للمؤمنين وقهرهم على الكفار ومجاهدتهم فى سبيل الله وعدم خوفهم من لومة لائم بعد ارتداد قوم منهم وضعف شوكتهم فَضْلُ اللَّهِ عليهم وعطائه يُؤْتِيهِ يمنحه ويوفق به مَنْ يَشاءُ من عباده فمن راى فيه شيئا من ذلك الأوصاف يجب عليه ان يشكر الله تعالى ولا يعجب بنفسه وانى يكون العجب لمن اتصف بهذه الأوصاف(3/131)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
وَاللَّهُ واسِعٌ فضله وقدرته وقالت الصوفية واسع وسعة بلا كيف يتجلى كمالاته فى المظاهر كلها عَلِيمٌ بمواقع اعمال قدرته لا يفوته ما يقتضيه الحكمة.
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا متصل بقوله تعالى لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء وما بينهما اما لتاكيد النهى كقوله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم وقوله تعالى فترى الذين فى قلوبهم الاية واما لتوطية تعيين من هو حقيق للولاية كقوله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه الاية وهذه الاية لتعيين من هو حقيق بالولاية والنفي المستفاد بانما هو على قول البصريين لتاكيد النهى المستفاد مما سبق وانما قال وليكم ولم يقل أوليائكم للتنبيه على ان الولاية لله خاصة على الاصالة وما هو لرسوله وللمؤمنين فبالتبع الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة للذين أمنوا لانه جار مجرى الاسم ولو قدر له موصوف يكون صفة ثانية لموصوفه او بدل منه ويجوز نصه على المدح وكذا رفعه بتقدير المبتدأ يعنى هم او الاستيناف فى جواب من الذين أمنوا وَهُمْ راكِعُونَ الواو للعطف على يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة والمعنى هم مصلون صلوة ذات ركوع بخلاف صلوة اليهود والنصارى فانها لا ركوع فيها او المعنى هم خاضعون متخشعون فى صلوتهم وزكوتهم قال الجوهري يستعمل الركوع تارة فى التواضع والتذلل وجاز ان يكون الواو للحال من فاعل يؤتون اى يؤتون الزكوة فى حال ركوعهم فى الصلاة مسارعة الى الإحسان اخرج الطبراني فى الأوسط بسند فيه مجاهيل عن عمار بن ياسر قال وقف على على بن ابى طالب سائل وهو راكع فى تطوع ونزع خاتمه وأعطاه السائل فنزلت انما وليكم الله ورسوله الاية وله شواهد قال عبد الرزاق بن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس فى قوله تعالى انما وليكم الله قال نزلت فى على ابن ابى طالب وروى ابن مردويه عن وجه اخر عن ابن عباس مثله واخرج ايضا عن على مثله واخرج ابن جرير عن مجاهد وابن ابى حاتم عن سلمة بن كهيل مثله وروى الثعلبي عن ابى ذر والحاكم فى علوم الحديث عن على رض فهذه شواهد يقوى بعضها بعضا وهذه القصة تدل على ان العمل القليل فى الصلاة لا يبطلها وعليه انعقد الإجماع وعلى ان صدقة التطوع تسمى زكوة ونزول هذه الاية فى على رض لا يقتضى تخصيص الحكم به لان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص المورد كما يدل عليه صيغة الجمع ولعل ذكر(3/132)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
الركوع هاهنا على سبيل التمثيل وعلى مقتضى الحادثة الواردة فيه والمراد منه يؤتون الزكوة فورا على السؤال بلا مهلة وقال البيضاوي ان صح انه نزل فى على رض فلعله جيئى بلفظ الجمع ليرغب الناس فى مثل فعله فيندرجوا فيه قلت ولو كان المراد به على رض فالحصر المستفاد بانما على قول البصريين حصر إضافي بالنسبة الى اليهود والنصارى دون المؤمنين كما فى قوله تعالى وما محمّد الا رسول وذكر البغوي انه روى عن ابن عباس انها نزلت فى عبادة ابن الصامت رضى الله عنه وعبد الله بن ابى ابن سلول حين تبرّأ عبادة من اليهود وقال أتولى الله ورسوله والذين أمنوا فنزل فيهم من قوله يا ايها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء الى قوله انما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا الاية يعنى عبادة وسائر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال جاء عبد الله بن سلام الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا واقسموا ان لا يجالسونا فنزلت هذه الاية فقال رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين اولياء وقال جويبر عن الضحاك فى قوله تعالى انما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا قال هم المؤمنون بعضهم اولياء بعض وقال ابو جعفر محمد بن على الباقر رضى الله عنهما نزلت فى المؤمنين فقيل له ان ناسا يقولون انها نزلت فى على ابن ابى طالب رض فقال هو من المؤمنين رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو نعيم فى الحلية وروى عن عكرمة انها نزلت فى ابى بكر رض قال البغوي وعلى هذه الروايات أراد بقوله وهم راكعون مصلون صلوة التطوع باليل والنهار.
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال ابن عباس يريد المهاجرين والأنصار يعنى من يتخذهم اولياء فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ تقديره فانهم هم الغالبون وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه كانه قيل ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله وحزب الله هم الغالبون ينتج فهم هم الغالبون وتنويها بذكرهم وتعظيما لشانهم وتشريفا لهم بهذه الاسم وتعريضا لمن تولى غير هؤلاء بانهم حزب الشيطان فى القاموس الحزب بالكسر الورد والطائفة والسلاح وجند الرجل وأصحابه الذين على رايه قلت وهذا هو المراد هاهنا قال البيضاوي الحزب القوم يجتمعون لامر حزبه فى القاموس حزبه الأمر يعنى نابه واشتد عليه احتجت الروافض بهذه الاية على انحصار الخلافة فى على رض قالوا المراد(3/133)
بالولى المتولى لامور المسلمين والمستحق للتصرف فيهم فالله سبحانه كما اثبت الولاية لنفسه وللرسول اثبت لعلى رض وذكر بكلمة انما للحصر ولا شك ان ولاية الله والرسول عامة فكذلك ولاية على وهو الامام دون غيره واحتجوا بحديث البراء بن عازب وزيد ابن أرقم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بغدير خم أخذ بيد على فقال ألستم تعلمون انى اولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال ألستم تعلمون انى اولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى فقال اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن ابى طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة رواه احمد وغيره وقد بلغ هذا الحديث مبلغ التواتر رواه جمع من المحدثين فى الصحاح والسنن والمسانيد برواية نحو من ثلثين من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم على بن ابى طالب وبريدة بن حصيب وابو أيوب وعمرو ابن مرة وابو هريرة وابن عباس وعمار بن بريدة وسعد بن وقاص وابن عمر وانس وجرير بن مالك بن الحويرث وابو سعيد الخدري وطلحة وابو الطفيل وحذيفة بن أسيد وغيرهم وفى بعض الروايات من كنت اولى به من نفسه فعلى وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قالت الروافض هذا الحديث حديث غدير خم نص جلى فى خلافة على رض وعن عمران بن حصين ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ان عليا منى وانا منه وهو ولى كل مؤمن رواه الترمذي وابن ابى شيبة وهذين الحديثين اولى بالاحتجاج من الاية لانه نص محكم فى وجوب ولاية على رض غير شامل لغيره بخلاف الاية فانها على تقدير صحة نزولها فى على شاملة لجميع المؤمنين فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد لكن استدلال الروافض بالحديثين والاية على نفى خلافة غيره باطل فان الولي والمولى مشتقان من الولي بمعنى القرب والدنو قال فى القاموس الولي اسم من الولي ويقال الولي للمحب والصديق والنصير وفى الصحاح الولاء والتوالي ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد والولاية والنصرة ويطلق ايضا على تولى الأمر وفى القاموس المولى المالك والعبد والمعتق والمعتق على البناء للفاعل والمفعول والصاحب والقريب كابن العم ونحوه والجار والحليف وابن العم والنزيل والشريك وابن الاخت والولي والرب(3/134)
والناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصديق وقد ورد فى القران ونسبة المحبة والقرب التي بين العبد والله سبحانه يطلق عليه الولاية ويطلق الولي على المؤمن فيقال ولى الله وعلى الله فيقال الله ولى الذين أمنوا واطلق المولى فى القران على الله سبحانه حيث قال نعم المولى ونعم النصير وعلى العباد فيما بينهم ايضا حيث قال ان الله هو موليه وجبريل وصالح المؤمنين فهذه الاية وهذه الأحاديث لا يدل شىء منها على خلافة على فضلا عن نفى خلافة غيره بل انما يدل الاية على استحقاق محبته والحديث على وجوب محبته وحرمة عداوته كما يدل الاية على حرمة ولاية اليهود والنصارى اعنى محبتهم ومناصرتهم اخرج ابو نعيم المدائنى عن الحسن المثنى بن
الحسن المجتبى انه لما قيل له ان خبر من كنت مولاه نص فى امامة على قال اما والله لو يعنى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الامامة والسلطان لافصح لهم فانه صلى الله عليه وسلم كان افصح الناس للمسلمين وكان سبب خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا الى اليمن امير العسكر فتسرى جارية من الخمس وشكى بذلك بعض الناس فغضب النبي صلى الله عليه وسلم لاجل شكايته وقال ما تريدون من رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وخطب تلك الخطبة ليتمكن محبة على فى قلوب المؤمنين ويزول شكايتهم وقوله صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون انى اولى بكل مؤمن الغرض منه تنبيه المسلمين على وجوب امتثال امره فى محبة على رض وكذا دعائه صلى الله عليه وسلم فى اخر الحديث للتاكيد فى محبته قلت وهذه الاية تدل على ابطال مذهب الروافض بوجهين أحدهما ان قوله تعالى اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل الله ولا يخافون لومة لائم يستاصل بنيان التقية التي عليها بناء مذهبهم فان عليا رض تابع الخلفاء الثلاثة وصلى معهم وجاهد معهم الى ثلث وعشرين سنة وانكح ابنته عمر رض فان كان ذلك بالتقية خوفا من الناس لا يكون على داخلا فى حكم هذه الاية ولا مجال بهذه القول الباطل الا للروافض خذلهم الله والله اعلم وثانيهما ان قوله تعالى فان حزب الله هم الغالبون يدل على ان الفرقة الناجية ليست الا اهل السنة والجماعة دون الروافض وغيرهم من اهل الأهواء لبداهة غلبة اهل السنة فى القرون والأمصار بل الروافض يعترفون بذلك حيث قالوا ان عليا(3/135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
كان مع الخلفاء الثلاثة تقية مقهورا مغلوبا والائمة بعده لم يظهروا دينهم خوفا وعلّموا أصحابهم دينهم خفية ويأمرونهم بالإخفاء ويقولون للجدر أذان كذا رووا عن الباقر والصادق فى كتبهم وقالوا صاحب الأمر اختفى فى سرد دابة سر من راى نحوا من الف سنة والله اعلم روى ابن جرير عن ابن عباس قال كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد اظهر الإسلام نفاقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ الى قوله تكتمون هُزُواً وَلَعِباً مهزوا به وملعوبا حيث يظهرون الايمان ويضمرون الكفر رتب النهى عن موالاتهم على استهزائهم أيماء الى علة النهى من باب ترتب الحكم على العلة وتنبيها على ان هذا الوصف يوجب المعادات فكيف يجوز موالاتهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعنى اليهود وَالْكُفَّارَ يعنى المشركين يؤيده قراءة ابن مسعود ومن الذين أشركوا قرأ ابو عمرو والكسائي بالجر عطفا على الموصول الثاني والباقون بالنصب عطفا على الموصول الاول عبّر المشركين بالكفار لتضاعف كفرهم وجاز ان يكون المراد بالكفار أعم من اهل الكتاب واهل الشرك فهو تعميم بعد تخصيص على قراءة النصب تنبيها على ان الاستهزاء والكفر كلواحد منهما يقتضى المعادات ويمنع الموالاة أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك المناهي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى ان الايمان بالله وبوعده ووعيده يوجب التقوى عن المناهي المقتضية للوعيد قال الكلبي كان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى للصلوة وقام المسلمون إليها قالت اليهود قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء وضحكوا فانزل الله عز وجل.
وَإِذا نادَيْتُمْ عطف على اتخذوا دينكم يعنى لا تتخذوا الذين إذا ناديتم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها يعنى الصلاة او المناداة هُزُواً وَلَعِباً اخرج ابن ابى حاتم عن السدى ان نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول اشهد ان محمدا رسول الله قال احرق الله الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو واهله ينام فتطائرت منها شرارة فاحترق هو واهله قيل ان الكفار لما اسمعوا الاذان حسدوا المسلمين فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع به فيما مضى من الأمم فان كنت تدعى النبوة فقد خالفت فيما أحدثت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خيرا لكان(3/136)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
اولى الناس به الأنبياء فمن اين ذلك صياح كصياح العنز فما أقبح من صوت وما استبهج من امر فانزل الله تعالى ومن احسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا وانزل الله هذه الاية ذلِكَ الاستهزاء بالحق بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فان مقتضى العقل ترك الاستهزاء والتأمل فى حسن الشيء وقبحه وفى هذه الاية دليل على ان الكافرين مع كونهم عاقلين فى امور الدنيا كما يشهده البداهة لا يعقلون شيئا من امور الدين وبهذا يظهر ان صرف الحواس والعقل والنظر فى المقدمات ليست علة موجبة لحصول العلم بالمطالب كما يزعمه الفلاسفة بل هو امر عادى يخلق الله العلم بعد النظر ان شاء والله اعلم روى ابن جرير عن ابن عباس قال اتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فيهم ابو ياسر بن اخطب ورافع بن ابى رافع وعارى بن عمرو فسألوه عمن يؤمن به من الرسل قال او من بالله وما انزل الى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما اوتى موسى وعيسى وما اوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بعيسى ولا بمن أمن به وفى رواية قالوا والله ما نعلم اهل الكتاب اقل حظّا فى الدنيا والاخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فانزل الله تعالى.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ قرأ الكسائي بإدغام لام هل وبل فى التاء كما فى هذه الاية وقوله تعالى هل تعلم والثاء والسين والزاء والطا والضاد والنون نحو هل ثوب وبل سولت وبل زين وبل طبع وبل ظننتم وبل ضلوا وهل ندلكم وهل ننبئكم وهل نحن وشبهه وادغم حمزة فى التاء والثاء والسين فقط واختلف عن خلاد عند الطاء فى قوله بل طبع وادغم ابو عمرو هل ترى من فطور فهل ترى لهم فى الملك والحاقة لا غير واظهر الباقون عند اليمانية والاستفهام للانكار بمعنى النفي والنقمة العيب المنكر المكروه والأسقام مكافاته ومعنى ما تنقمون ما تنكرن وتكرهون وتعيبون مِنَّا اى من اعمالنا وصفاتنا شيئا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ يعنى الا ايمانا بالله وبكل ما انزل الله من الكتب وذلك هو الحسن البين حسنه وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ الواو للحال من فاعل هل تنقمون يعنى لا تكرهون الا أيماننا والحال ان أكثركم فاسقون اى كافرون فمالكم لا تعلمون انكم على أقبح الصفات من انكار الكتب السماوية ونحن على أحسنها ومع ذلك(3/137)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
تكرهون الحسن ولا تكرهون القبيح او هى للعطف على ان أمنا وكان المستثنى لازم الامرين وهو المخالفة يعنى لا تنكرون منا الا مخالفتكم حيث دخلنا فى الايمان وأنتم خارجون عنه او كان تقديره واعتقاد انّ أكثركم فاسقون فحذف المضاف او على علة أمنا بتقدير فعل منصوب يعنى الا ان أمنا واعتقدنا ان أكثركم فاسقون او هو معطوف على علة محذوفة والتقدير هل تنقمون منا الا ان أمنا لعدم اتصافكم ولان أكثركم فاسقون فهو منصوب بنزع اللام الخافض او منصوب بإضمار فعل دل عليه هل تنقمون اى ولا تنقمون ان أكثركم فاسقون او هى بمعنى مع يعنى هل تنقمون الا ان أمنا مع ان أكثركم فاسقون قيل لا يتم هذا على ظاهر كلام النحاة حيث يشترطون فى المفعول معه المصاحبة فى معمولية الفعل ويتم على مذهب الأخفش حيث اكتفى فى المفعول معه المقارنة فى الوجود مطلقا قلنا الاشتراط فى المفعول معه لا يوجب ان يشترط فى كل واو بمعنى مع فليكن الواو بمعنى مع للعطف ولا يكون مفعولا معه عند النحاة لانتفاء شرطه ويكون عند الأخفش وجاز ان يكون مجرورا معطوفا على ما يعنى ما تنقمون منا الا الايمان بالله وبما انزل وبان أكثركم فاسقون وجاز ان يكون مرفوعا على الابتداء والخبر محذوف تقديره ومعلوم عندكم ان أكثركم فاسقون لكن حب الرياسة والمال يمنعكم عن الانصاف وجاز ان يكون تقدير الكلام وما تنقمون منا شيئا لشئ الا لان أمنا ولان أكثركم فاسقون يعنى علة انكار شىء تنكرونه منا ليس الا المخالفة فى الدين.
قُلْ يا محمد لمعشر اليهود هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ المتقوم المكروه عندكم مَثُوبَةً جزاء وهى مختصة بالخير كالعقوبة بالشر وضعت هاهنا موضع العقوبة استهزاء بهم كقوله تعالى بشّرهم بعذاب اليم والمثوبة منصوب على التميز عن بشر قال البغوي لما كان قول اليهود لم نر اهل دين اقل خطا فى الدنيا والاخرة ولا دينا شرا من دينكم فذكر الجواب بلفظ الابتداء وان لم يكن الابتداء شراكما فى قوله تعالى أأنبئكم بشر من ذلكم النار عِنْدَ اللَّهِ متعلق بشر مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ بدل من شر على حذف المضاف هاهنا او فيما قبل تقديره بشر من ذلك دين من لعنه الله او بشر من اهل ذلك من لعنه الله او خبر مبتدأ محذوف على حذف مضاف ايضا تقديره هو دين من لعنة الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فالقردة اصحاب السبت والخنازير كفار مائدة عيسى عليه السّلام وروى عن على بن ابى طلحة(3/138)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
عن ابن عباس ان المسخين كلاهما فى اصحاب السبت فشبّانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قرأ حمزة عبد بضم الباء والطاغوت بكسر التاء على الاضافة عطفا على القردة وعبد بضم الباء قيل مفرد كعبد بسكون الباء وهما لغتان كسبع وسبع وقيل هو اسم موضوع للمبالغة كحذر وفطن للبليغ فى الحذر والفطانة وقيل هو جمع عبد ذكره فى القاموس من صيغ الجمع كندس وقيل أصله عبدة فحذف التاء للاضافة تحرزا عن اجتماع الزيادتين من التاء والاضافة مثل أخلفوك عد الأمر الذي وعدوا اى عدة الأمر وقرأ الباقون بفتح الباء على الماضي ونصب الطاغوت عطفا على صلة من والمراد بالطاغوت اما العجل استعير له من الشيطان بجامع المعبودية الباطلة او المراد الشيطان فان عبادتهم العجل كان بتزيين الشيطان وقيل المراد به الكهنة وكل من أطاعوه فى معصية الله أُولئِكَ ملعونون شَرٌّ مَكاناً من كل شرير جعل مكانهم شرا ليكون ابلغ فى الدلالة على شرارتهم وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ من كل ضال عن السبيل السوي ونزلت فى المنافقين قوله تعالى.
وَإِذا جاؤُكُمْ يعنى المنافقين قالُوا آمَنَّا بك وهم يسرّون الكفر وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ الجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلى دخلوا وخرجوا يعنى قالوا أمنا بك والحال انهم كاذبون فى هذا القول وقد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا لذلك لم يوثر فيهم ما سمعوا منك وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ فيه وعيد لهم بالفضيحة فى الدنيا والعذاب فى الاخرة.
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعنى من اليهود او من المنافقين يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قيل الإثم المعاصي والعدوان الظلم وقيل الإثم ما كتموا من التوراة والعدوان ما زادوا فيها وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ الحرام خصه بالذكر للمبالغة فى الذم فان أكلهم الرشى منعهم عن الايمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعثهم على تحريف التوراة والكذب على الله وصد غيرهم عن الايمان لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى لبئس شيئا بما يعملونه وصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم بسوء الاعتقاد ليستدل بها على نفاقهم.
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ يعنى العلماء قيل الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود تخصيص لعلمائهم عن النهى عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعنى الكذب وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ الحرام وفيه كمال توبيخ(3/139)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
عليهم حيث كان منصبهم النهى عن المنكر وهم يأمرون به ويفعلونه لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ هذا ابلغ مما سبق فان الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتعود وتحرى اجادة ولذلك ذم به خواصهم ذكر فى المدارك انه روى عن ابن عباس هى أشد اية فى القران حيث انزل تارك النهى عن المنكر منزلة مرتكب المنكر فى الوعيد بل ابلغ منه قال البيضاوي ترك الحسنة أقبح من الوقوع فى المعصية لان النفس يلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك فى ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم.
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة ان الله تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من اكثر الناس مالا واخصبهم ناحية فلما عصوا الله فى محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك نسبوه الى البخل وقال فنحاص بن عازورا راس يهود قينقاع يد الله مغلولة اى محبوسة مقبوضة عن الرزق كذا اخرج ابو الشيخ ابن حبان فى تفسيره عن ابن عباس واخرج الطبراني عن ابن عباس قال قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس ان ربك بخيل لا ينفق فانزل الله تعالى هذه الاية قيل انما قال هذه المقالة فنحاص او النباش ولكن لما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله اشركهم الله فى نسبة القول إليهم وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل او بالفقر والمسكنة او بغل الأيدي حقيقة بالأسر فى الدنيا او بالاغلال فى أعناقهم والسلاسل فى نار جهنم وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يد الله صفة من صفاته تعالى كالسمع والبصر والوجه لا يدرى كنهها الا الله تعالى ولا تذهب نفسك الى الجارحة وتكيّفها ويجب على العباد الايمان بها والتسليم قال ائمة السلف من اهل السنة فى هذه الصفات امرّوا كما جاءت بلا كيف عن عمرو بن عنبسة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين رجال ليسوا بانبياء ولا شهداء يغشى بياض وجوههم نظر الناظرين يغبطهم النبيون والشهداء بمقعدهم وقربهم من الله قيل يا رسول الله ومن هم قال جمّاع «1» من نزاع القبائل يجتمعون على ذكر الله فيبتغون
__________
(1) اى جماعات نزاع القابل جمع نازع ونزيع وهو القريب الذي نزع من اهله وعشيرته اى بعد وغاب نهاية(3/140)
اطائب الكلام كما ينبغى أكل «1» أطائبه رواه الطبراني بسند جيد والمتأخرون يؤلونه بما يليق به تعالى من القدرة ونحوها قالوا بسط اليدين كناية عن الجود وثنى اليد مبالغة فى الرد ونفى البخل عنه واثباتا لغاية الجود فان غاية ما يبذله السخي من ماله ان يعطيه بيديه وتنبيها على منح الدنيا والاخرة وعلى ما يعطى للاستدراج وما يعطى للاكرام يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يوسع تارة ويضيق اخرى على مقتضى حكمته والجملة تأكيد للجود ودفع لتوهم البخل عند التضيق وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً كما ان الغذاء الصالح يزيد للصحيح قوة وللمريض مرضا وضعفا كذلك القران لفساد بواطنهم يزيد هو طغيانا وكفرا قيل معناه انه كلما نزلت اية كفروا بها فازدادوا طغيانا وكفرا وقيل انهم عند نزول القران يحسدون ويتمادون فى الجحود فاسند الفعل الى السبب البعيد مجازا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعنى بين اليهود «2» والنصارى قال الحسن ومجاهد وقيل بين طوائف اليهود جعلهم الله مختلفين فى دينهم فلا يتوافق قلوبهم ولا يتطابق
__________
(1) المراد به الصوفية العلية اهل الخانقاهات وطلبة العلم اهل المدارس 12 منه
(2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقت امة موسى على احدى وسبعين ملة سبعون منها فى النار وواحدة فى الجنة وتفرقت امة عيسى ع على اثنتين وسبعين ملة واحدة منها فى الجنة واحدى وسبعون فى النار وستفرق أمتي على ثلث وسبعين ملة واحدة فى الجنة وثنتان وسبعون فى النار قالوا من هم يا رسول الله قال الجماعات الجماعات رواه ابن مردويه من طريق يعقوب بن زيد بن طلحه عن زيد بن اسلم عن انس وقال يعقوب بن زيد كان على ابن ابى طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا فيه قرانا قال ولو ان اهل الكتاب أمنوا واتقوا الى قوله ساء ما كانوا يعملون قال العبد الضعيف ثناء الله يعنى على رض ان الفرقة الناجية المتمسكون بكتاب الله ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال ذلك عند ذهاب العلم قال زياد بن لبيد كيف يذهب العلم ونحن نقرأ القران ونقرأه أبنائنا ويقرأه أبناء أبنائنا أبنائهم الى يوم القيامة قال ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ان كنت لاراك من افقه رجل بالمدينة او ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤن التورية والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشىء رواه عن لبيد وروى ابن جرير عن جبير بن نفير وفيه ثم قرأ ولو انهم أقاموا التورية والإنجيل الاية 12 منه(3/141)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
أقوالهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ ظرف مستقر صفة لنار او لغو متعلق باوقدوا أَطْفَأَهَا اللَّهُ قال الحسن معناه كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم واثارة شر عليه أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه وقال قتادة هذا عام فى كل حرب طلبته اليهود وذلك انهم أفسدوا وخالفوا حكم التورية فبعث الله عليهم ضطنوس الرومي ثم أفسدوا فسلطا لله عليهم المجوس ثم أفسدوا فبعث الله المسلمين فلا تلقى اليهود فى بلد الا وجدتهم اذلّ الناس وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً اى للفساد او مفسدين وهو اجتهادهم فى اثارة الحروب والفتن وجاز ان يكون يسعون بمعنى يطلبون وفسادا منصوبا على المفعولية يعنى يطلبون الفساد والكفر ويجتهدون فى محو دين الإسلام وذكر النبي صلى الله عليه وسلم من كتبهم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم الأشرار.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا محمد صلى الله عليه وسلم وبالقران وَاتَّقَوْا الكفر والمعاصي لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي فعلوها قبل ذلك وان جلت عن عمرو بن العاص قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ابسط يمينك فلا بايعك فبسط يمينه فقبضت يدى فقال مالك يا عمرو قلت أردت ان اشترط قال تشترط ماذا قلت ان يغفر لى قال اما علمت يا عمرو ان الإسلام يهدم ما كان قبله وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله رواه مسلم وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ فان دخول الجنة مشروط بالايمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي يهودى ولا نصرانى ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به الا كان من اصحاب النار رواه مسلم من حديث ابى هريرة.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعنى أقاموا حدودها وأحكامها وعملوا بما فيها ولم يحرفوها ولم يكتموها ومن جملة إقامتها ان يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبينوا ما وصفه الله تعالى فى التورية وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعنى القران والزبور وسائر الكتب السماوية فانهم مكلفون بالايمان بجميع الكتب فهى كالمنزل إليهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال الفراء أراد به كمال التوسعة فى الرزق كما يقال فلان فى الخير من القرن الى القدم وقال ابن عباس لا نزلت عليهم المطر من فوقهم(3/142)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
وأخرجت بنات الأرض من تحتهم نظيره قوله تعالى ولو ان اهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض والحاصل ان ما كف الله عنهم من الرزق بشوم كفرهم ومعاصيهم لا لبخل به تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ عادلة غير غالية ولا مقتصرة وهم عبد الله بن سلام وأشباهه مؤمنوا اهل الكتاب وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ 4 اى ساء ما يعملونه او ساء شيئا عملهم وهى المعاندة وتحريف كتاب الله عز وجل والاعراض عنه والافراط فى عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والله اعلم اخرج ابو الشيخ عن الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت ان الناس مكذبى فوعدنى لا بلغن او ليعذبنى فنزلت.
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى كل شىء انزل إليك لا يفوت منه شىء غير منتظر مضرتك ولا خائف من أحد مكروها روى عن مسروق قال قالت عائشة من حدثك ان محمدا كتم شيئا مما انزل الله فقد كذب وهو يقول يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وقيل بلغ ما انزل من الرجم والقصاص نزلت فى قصة يهود وقيل نزلت فى امر زينب بنت جحش ونكاحها «1» وقيل نزلت فى
__________
(1) واخرج ابن ابى حاتم وابن مردوية وابن عساكر عن ابى سعيد الخدري قال نزلت هذه الاية يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك يوم غدير خم فى على بن ابى طالب واخرج ابن مردوية عن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك ان عليا مولى المؤمنين وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ليكن هذه الرواية التي تدل على نزول الاية يوم غدير خم يأباه النقل والعقل وسوق هذه الاية بل سياق تمام السورة- اما النقل فاصح الروايات ما رواه البخاري عن عائشة رضى الله عنها تقول كان النبي صلى الله عليه وسلم سهرا فلما قدم المدينة الحديث ويطابقه ما اخرج الترمذي والحاكم عن عائشة وما اخرج الطبراني عن ابى سعيد الخدري فان هذه الروايات تدل على نزول الاية فى غزوة الخندق- واما اباء العقل فان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل غدير خم لم يكن شيئا من التبليغ باقيا فى ذمته بل قد تم قبل ذلك ونزل يوم عرفة فى حجة الوداع اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا فكيف يقال له بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته ولم يكن حينئذ فى جزيرة العرب مشرك فكيف يقال له والله يعصمك من الناس ان الله لا يهدى القوم الكافرين- وايضا قبل هذه الاية وبعد هذه الاية مخاطبات فى شان اليهود والنصارى من قوله تعالى يا ايها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم ان يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم الاية فالظاهر ان المراد بالتبليغ اية الرجم والقصاص التي نزلت فى قصة اليهود كما رواه ابو الشيخ عن الحسن وبعد هذه الاية قال الله تعالى يا اهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التورية والإنجيل الاية 12(3/143)
الجهاد وذلك ان المنافقين كرهوه كما قال الله تعالى فاذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رايت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت وكرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى الم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم الاية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسك من الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم فانزل الله هذه الاية واخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد قال لما نزلت يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك قال يا رب كيف اصنع وانا وحدي يجتمعون على فنزلت وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الاية قرأ نافع وابن عامر وابو بكر ويعقوب رسالاته على الجمع والباقون رسالته على التوحيد يعنى ان لم تفعل تبليغ كل شىء وتركت بعضه فكانما ما بلغت شيئا من رسالاته لان كتمان بعضها يضيع ما ادى منها كترك بعض اركان الصلاة وذلك لان ترك تبليغ البعض يستلزم كفر الناس بذلك البعض وانكارهم كونه من الله تعالى والايمان ببعض الكتاب مع الكفر بالبعض لا يعد ايمانا كقول اليهود نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض او لان كتمان البعض يستجلب العقاب مثل كتمان الكل نظيره قوله تعالى فكانما قتل الناس جميعا وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فلا تخفهم فى التبليغ وان كنت وحدك لا يستطيعون قتلك فلا يرد ان يقال انه صلى الله عليه وسلم قد شج راسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى وقيل نزلت هذه الاية بعد ماشج راسه لان سورة المائدة من اخر القران نزولا واخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الاية والله يعصمك من الناس فاخرج راسه من القبة فقال يا ايها الناس انصرفوا فقد اعصمنا الله فى هذا الحديث انها ليلية فراشية وروى البخاري عن عائشة تقول كان النبي صلى الله عليه وسلم سهرا فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسنى الليلة إذ سمعنا صوت سلاح فقال من هذا قال انا سعد بن ابى وقاص جئت لاحرسك ونام النبي صلى الله عليه وسلم(3/144)
واخرج الطبراني عن ابى سعيد الخدري قال كان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت والله يعصمك من الناس ترك الحرس واخرج ايضا عن عصمة بن مالك الحطمى قال كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت والله يعصمك من الناس فترك الحرس واخرج ابن حبان فى صحيحه عن ابى هريرة قال كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سفر تركنا أعظم شجر وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال يا محمد من يمنعك منى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله يمنعنى منك ضع السيف فوضعه فنزلت والله يعصمك من الناس قال البغوي وروى محمد بن كعب القرظي عن ابى هريرة نحوه وفيه فرعدت يد الاعرابى وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتشر دماغه فانزل الله عز وجل هذه الاية واخرج ابن ابى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى انمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على راس بير قد دلى رجليه فقال الوارث من بنى النجار لاقتلن محمدا فقال له أصحابه كيف تقتله قال أقول له أعطني سيفك فاذا أعطانيه قتلته فاتاه فقال يا محمد أعطني سيفك أشمه فاعطاه إياه فرعدت يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حال بينى وبينك ما تريد فانزل الله يا ايها الرسول بلغ الاية وروى البخاري نحو هذه القصة وليس فيها ذكر نزول الاية ومن غريب ما ورد فى سبب نزولها ما أخرجه ابن مردويه والطبراني عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس وكان يرسل معه ابو طالب كل يوم رجلا من بنى هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الاية فاراد عمه ان يرسل معه من يحرسه فقال يا عم ان الله عصمنى من الجن والانس واخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله نحوه وهذا يقتضى ان الاية مكية والظاهر خلافه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ اى لا يمكنهم ما يريدون
من قتلك ومحو دين الإسلام قال البغوي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود الى الإسلام فقالوا اسلمنا قبلك وجعلوا يستهزءون به فيقولون تريد ان نتخذك حنانا كما اتخذ النصارى عيسى حنانا فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت يا ايها الرسول بلغ الاية وامره ان يقول يا اهل الكتاب لستم على شىء الاية وروى ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال جاء رافع وسلام بن مشكم ومالك بن(3/145)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
الضيف فقالوا يا محمد الست تزعم انك على ملة ابراهيم ودينه وتؤمن بما عنده قال بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها وكتمتم ما أمرتم ان تبينوه للناس قالوا فانا ناخذ بما فى أيدينا فانا على الهدى والحق فانزل الله تعالى.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ اى على دين معتد به عند الله او يقال إذا لم يكن دينهم معتدا به عند الله تعالى والدين كالصلوة له وجود اعتباري باعتبار الشرع لا وجود له سواه كان باطلا فصدق لستم على شىء من الدين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ومن إقامتها الايمان بما فيها من اصول الدين ومنها الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران والعمل بمقتضاها من بيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وفى فروع الايمان الأعمال المأمورة فى التورية ما لم يثبت نسخها وبعد النسخ العمل بالناسخ مما انزل الله وهذه الاية تدل على وجوب العمل بالشرائع المتقدمة وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القران طُغْياناً وَكُفْراً وقد مر شرحه فَلا تَأْسَ فلا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لزيادة طغيانهم ترحّما عليهم ولا خوفا من شرهم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ قد مر تفسير هذه الاية فى سورة البقرة بقي الكلام فى رفع الصابئين وكان حقه والصابئين فذهب الكوفيون الى انه يجوز للعطف على اسم ان بالرفع نظرا الى محله من غير اشتراط مضى الخبر فان ان عندهم لا تعمل الا فى الاسم وعند الكسائي والمبرد يجوز ذلك ان كان اسم ان مبنيا لعدم ظهور عملها فيه فكانها لم تعمل فلا إشكال على مذهب هؤلاء وعند البصريين لا يجوز ذلك من غير مضى الخبر كيلا يجتمع العاملان فى الخبران ومعنى الابتداء فاحتاجوا الى تكلف فقال سيبويه هو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف والنية فيه التأخير تقديره ان الذين أمنوا والذين هادوا وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والصابئون كذلك وهذه الجملة انما قدمت من مقامها لتدل على ان الصابئين مع ظهور ضلالتهم وميلهم عن الأديان كلها يغفر لهم ويثاب عليهم ان صح ايمانهم وعملوا صالحا فغيرهم اولى بذلك وجاز ان يكون والنصارى ايضا مرفوعا عطفا على الصابئون وما بعدهما خبرهما وخبران(3/146)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
مقدرة دل عليه ما بعده كقول الشاعر نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وجاز ان يكون الصابئون معطوفا على الموصول مع الصلة بحذف الموصول وصدر الصلة تقديره والذين هم الصابئون وقيل ان بمعنى نعم وما بعدها فى موضع الرفع على الابتداء وقيل والصابئون منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز بالواو.
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ فى التورية بالتوحيد والعمل بما فيها والايمان بالأنبياء كلهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليذكروهم وليبينوا لهم امر دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فى هذا الكلام دلالة على انهم خالفوا التورية ونقضوا المواثيق فكلما جاءهم رسول بما فى التورية مخالفا لهواهم فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا ولم يقتلوه وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ بعد تكذيبهم هذا جواب الشرط والجملة الشرطية صفة رسلا والعائد محذوف اى كلما جاءهم رسول منهم وقيل الجواب محذوف والشرطية مستانفة وانما جئ بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضارا لها واستعظاما للقتل وتنبيها على ان هذا ديدنهم ماضيا ومستقبلا ومحافظة على رؤس الآي او المراد انهم يريدون قتل محمد صلى الله عليه وسلم يحاربونه ويجعلون فى طعامه سما ويسحرونه.
وَحَسِبُوا يعنى بنى إسرائيل أَلَّا تَكُونَ قرأ ابو عمرو وحمزة والكسائي بالرفع على ان هى المخففة من الثقيلة والحسبان نزل منزلة العلم لتمكنه فى قلوبهم تقديره انه لا تكون وان بما فى حيزها ساد مسد مفعوليه والباقون بالنصب على انه مصدرية وكان تامة فاعله فِتْنَةٌ اى لا تصيبهم عذاب وبلاء بقتل الأنبياء وتكذيبهم فَعَمُوا عن الدين والدلائل وَصَمُّوا عن استماع الحق لاجل حسبانهم الباطل بعد موسى عليه السلام ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا وأمنوا بعيسى عليه السلام ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كرة اخرى بعد عيسى عليه السلام وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير او فاعل والواو علامة الجمع كقولهم أكلوني البراغيث او خبر مبتدأ محذوف اى أولئك كثير منهم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على حسب أعمالهم.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ يعنى الملكائية واليعقوبية منهم زعموا بالحلول والاتحاد(3/147)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعنى مربوب مثلكم ولا يمكن اتحاد الرب مع المربوب وحلوله فيه إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ اى بمرتبة التنزيه الصرف غيره فى استحقاق العبادة او فى وجوب الوجود او فيما يختص به من الصفات والافعال فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي أعدت للموحدين المتقين يعنى جعل دخولها عليه ممتنعا بالغير وَمَأْواهُ النَّارُ التي أعدت للمشركين وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على انهم ظلموا أنفسهم ومن زائدة يعنى ما لهم ناصر وذكر الأنصار موضع ناصر مبنى على زعمهم ان لهم أنصارا كثيرة تهكما بهم وقيل فيه اشارة الى انه لا بد لهم جمع كثير ينصرهم وليس لهم ذلك وقوله انه من يشرك بالله الى آخره يحتمل ان يكون من كلام الله تعالى وان يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام اخبر الله تعالى بذلك حكاية عنه تنبيها على انهم قالوا ما قالوا تعظيما لعيسى عليه السّلام وتقربا اليه فى زعمهم وهو يخاصمهم فيه ويعاديهم بذلك فما ظنك لغيره.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ اى ثالث الهة ثلاثة يعنى المرقوسية والنسطورية القائلون بالأقانيم الثلاثة قيل المراد بالثلاثة الله يعنى مرتبة الذات وعيسى وهو عبارة عن صفة العلم على زعمهم وجبرئيل وهو عبارة عن صفة الحيوة على زعمهم وقيل الثلاثة هو الله وعيسى ومريم كما يدل عليه قوله تعالى للمسيح أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله وَما مِنْ إِلهٍ من مزيدة للاستغراق واله فى محل الرفع على انه اسم ما وخبره محذوف اى ما اله فى الوجود اى ما فى الوجود والإمكان العام اله واجب وجوده مستحق للعبادة من حيث وجوب وجوده وكونه مبدأ لوجود كل موجود يغائره إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة لا فى ذاته وماهيته ولا فى شىء من صفاته وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من كلمات الشرك ولم يوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من للبيان او للتبعيض بناء على ان الذين داموا على الكفر بعض منهم ووضع المظهر موضع المضمر تكريرا للشهادة على كفرهم وتنبيها على ان من دام على الكفر حتى مات فله عَذابٌ أَلِيمٌ ولذلك عقبه بقوله.
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ من الشرك وَيَسْتَغْفِرُونَهُ عمّا صدر منهم موحدين منزهين عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(3/148)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
يغفر لهم ويرحمهم ان تابوا وفى هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ يعنى هو منحصر فى صفة الرسالة ليست له صفة الالوهية كما زعمته النصارى خذلهم الله فالحصر إضافي بالنسبة الى ما يصفه به النصارى قَدْ خَلَتْ اى مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وهو يمضى ايضا الجملة صفة لرسول يعنى ما هو الا رسول من جنس الذين خلوا من قبله ممكن حادث جائز العدم خصه الله ببعض المعجزات كابراء الأبرص والأكمه واحياء الموتى كما خص غيره بغير ذلك فان الله احيى على يد موسى عصاه وجعلها حية تسعى وذلك اعجب من احياء الموتى وان خلقه من غير اب فقد خلق آدم من غير اب وأم وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ يعنى كانت امرأة كسائر النساء فضلت على أكثرهن بكثرة الصدق وتصديق آيات الله وأنبيائه كما ينبغى كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ويفتقران اليه كسائر الحيوانات بيّن اولا أقصى ما لهما من الكمال وبين انه لا يوجب الالوهية وان كثيرا من الناس يشاركهما فى مثله ثم بين نقصهما وما فيهما من امارة الحدوث ومنافى الربوبية وكونهما من جملة المركبات الكائنة الفاسدة ثم تعجب ممن يدعى الربوبية لهما مع هذه الادلة الظاهرة فقال انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الدالة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله وثم لتفاوت ما بين العجبين يعنى بياننا عجيب واعراضهم عنها اعجب منه فانهم مع بداهة كونه من الحوادث اليومية الممكنة المفتقرة الى علة الإيجاد والإبقاء لا يحكمون عليه بالإمكان والحدوث ومع بون بعيد بين الرب والمربوب لما نظروا الى بعض صفاته الكاملة المستعارة من الله سبحانه حكموا عليه بالالوهيّة.
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعنى عيسى عليه السّلام فان أفعاله مخلوقة لله تعالى كسائر العباد فلا يملك فى الحقيقة شيئا وان ملك بعض الأشياء بتمليك الله تعالى وصدر على يده بخلق الله تعالى وهو لا يملك مثل ما يضر الله به من البلايا والمصائب فى الدنيا والتعذيب بالنار فى الاخرة ولا مثل ما ينفع الله به من الصحة والسعة فى الدنيا والجنة فى الاخرة وعبّر بكلمة ما وهو بغير ذوى العقول توطية لنفى القدرة عنه راسا وتنبيها على انه من هذا الجنس ومن كان له مجانسة بالممكنات فهو بمعزل عن الالوهية وقدم الضرر لان دفع الضرر أهم(3/149)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
من جلب النفع وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال والعقائد فيجازى على حسبها وضمير الفصل للحصر يدل على ان عيسى ليس له فى حد ذاته سمعا ولا بصرا ولا علما ولا غير ذلك من صفات الكمال بل هى مستعارة من الله تعالى.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الغلو التجاوز عن الحد بالإفراط او التفريط فان من جملة الدين الصحيح عند الله الايمان بان عيسى عبد الله ورسوله فاليهود فرطوا فى دينهم وأنكروا رسالته وبهتوا امه والنصارى افرطوا فيه وادعوا له الالوهية وقيل الخطاب للنصارى فقط غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على المصدرية اى غلوا باطلا غير الحق وفيه تأكيد والا فالغلو لا يكون الا باطلا وجاز ان يكون حالا من دينكم يعنى لا تغلوا فى دينكم حال كونه غير الحق والغلو فى الدين الباطل الإصرار عليه وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعنى أسلافهم الذين ضلوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فى شريعتهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً ممن تابعهم على البدع والضلال وَضَلُّوا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لما كذبوه وبغوا عليه عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ 4 يعنى عن دين الإسلام الذي هو ظاهر الحقية وقيل الضلال الاول كفرهم والضلال الثاني اضلالهم غيرهم وقيل الاول اشارة الى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني اشارة الى ضلالهم عما نطق به الشرع.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ يعنى اليهود عَلى لِسانِ داوُدَ يعنى فى الزبور او المراد بهم اهل ايلة لما اعتدوا فى السبت قال داؤد عليه السلام اللهم العنهم واجعلهم اية فمسخوا قردة وَعلى لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فى الإنجيل او المراد بهم كفار اصحاب مائدة لما لم يؤمنوا قال عيسى عليه السّلام اللهم العنهم واجعلهم اية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ذلِكَ اللعن بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ اى بسبب عصيانهم واعتدائهم ثم فسر العصيان والاعتداء بقوله.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ اى لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ يعنى عن معاودة منكرا وعن مثل منكر فَعَلُوهُ او المعنى عن منكر أرادوا فعله فان جريمة ترك النهى عن المنكر يقتضى عذاب كلهم أجمعين عن ابى بكر الصديق رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الناس إذا راوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك ان يعمهم الله بعقاب رواه الاربعة قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان ولفظ النسائي القوم إذا راوا المنكر فلم يغيروه(3/150)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
وفى لفظ لابى داؤد ما من قوم يعمل فيهم المعاصي وهم يقدرون على ان يغيروا فلم يغيروا او شك ان يعمهم الله العذاب وجاز ان يكون المعنى لا ينتهون عن منكر بل يصرون عليه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تعجب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم ذمهم عن عبد الرحمن بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيمن قبلكم من بنى إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطية نهاه الناهي تعذيرا فاذا كانوا من الغد جالسه وأكله وشاربه كانه لم يره على الخطيئة بالأمس فلما راى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض وجعل منهم القردة والخنازير ولعنهم على لسان داؤد وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والذي نفسى بيده لتامرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتاخذن على يد السفيه ولتاطرن على الحق اطرا او ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم رواه البغوي ورواه الترمذي وابو داؤد من حديث عبد الله بن مسعود مرفوعا.
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعنى من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ اى يوالون الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى مشركى مكة حين خرجوا إليهم يستجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس ومجاهد والحسن فى منهم ضمير للمنافقين فانهم كانوا يتولون اليهود لَبِئْسَ اى شيئا ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ان مع صلته مخصوص بالذم والمراد بالسخط موجب سخط الله وعذابه المخلد او المخصوص محذوف وهذا علة الذم اى لبئس شيئا قدمت لهم أنفسهم ذلك لان ذلك يوجب السخط والخلود فى العذاب.
وَلَوْ كانُوا هؤلاء اليهود او المنافقون يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ يعنى نبيهم وان كانت الاية فى المنافقين فالمراد به نبينا صلى الله عليه وسلم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التورية او القران مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى ما اتخذ اليهود كفار مكة على بغض النبي صلى الله عليه وسلم او المنافقون اليهود أَوْلِياءَ إذ الايمان بالأنبياء والكتب السماوية يمنع ذلك وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن امتثال امر الله سبحانه.
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ اخرج ابو الشيخ وابن مردويه عن ابى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلا يهودى بمسلم(3/151)
الأحدث نفسه بقتله وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعنى مشركى العرب لانهما كهم فى اتباع الهوى وركونهم الى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى قال البغوي لا يريد جميع النصارى لانهم فى عداوة المسلمين كاليهود فى قتل المسلمين واسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم فلا كرامة لهم بل الاية فيمن اسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه واخرج النسائي وابن ابى حاتم والطبراني عن عبد الله بن زبير قال نزلت هذه الاية فى النجاشي وأصحابه إذا سمعوا الاية وروى ابن ابى حاتم وغيره عن مجاهد قال هم الوفد الذين جاؤا مع جعفر وأصحابه من ارض الحبشة وكذا اخرج عن عطاء انما يراد به النجاشي وأصحابه وقيل نزلت فى جميع اليهود وجميع النصارى لان اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم وكانوا اقل مظاهرة للمشركين من اليهود قلت عموم لفظ الاية يقتضى ان لا يراد بهم جماعة معينة منهم وان كان سبب النزول قصة النجاشي كيف والجماعة المعينة من اليهود يعنى الذي اسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وكعب الأحبار ايضا بهذه الصفة فلا وجه للتفرقة بين اليهود والنصارى بل الظاهر ان المراد بالنصارى هاهنا الذين هم كانوا على الدين الحق دين عيسى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منهم النجاشي وأصحابه دون القائلين بان المسيح هو الله او ثالث ثلثة فان تلك الفرق من النصارى مثل اليهود فى كونهم على الباطل قاسية قلوبهم متبعين أهواءهم كاهل نجران واما من كان منهم على الدين الحق ووصية عيسى عالمين بالإنجيل منتظرين ظهور رسول يأتي من بعد عيسى اسمه احمد صلى الله عليه وسلم مشتغلين بالعلم والعمل معرضين عن الدنيا كانت قلوبهم صافية لاجل ايمانهم بعيسى قبل مبعث سيد الرسل عليهم الصّلوة والسّلام يدل عليه قوله تعالى ذلِكَ القرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ اى بسبب ان مِنْهُمْ اى من النصارى قِسِّيسِينَ قال البغوي القس والقسيس العالم بلغة الروم وفى القاموس هو رئيس النصارى فى العلم والقس مثلثة تتبع الشيء وطلبه فى الصحاح هو العالم العابد من رؤس النصارى واصل القس تتبع الشيء وطلبه بالليل كانهم سموا بذلك لان العلماء والعباد يطلبون العلم ووحدة الوجهة الى الله سبحانه(3/152)
فى ظلمات الليالى وَرُهْباناً جمع راهب كالركبان جمع راكب وهم العباد اصحاب الصوامع فى القاموس رهب كعلم خاف والترهب التعبد وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا دعوا اليه ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود قال قتادة نزلت هذه الاية فى ناس من اهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السّلام فلما بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم صدقوه وأمنوا به فاثنى الله عز وجل عليهم بقوله ذلك بان منهم قسيسين الاية قلت وهؤلاء القوم من النصارى الذين كانوا على الدين الحق قبل البعثة وأمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعدها هم المراد باهل الكتاب فى قوله صلى الله عليه وسلم ثلثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد الحديث متفق عليه عن ابى موسى الأشعري والله اعلم قال اهل التفسير ائتمرت قريش ان يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يوذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم الله منهم من شاء ومنع الله تعالى رسوله بعمه ابى طالب فلما راى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج الى ارض الحبشة وقال ان بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا وأراد به النجاشي واسمه اصحمة وهو بالحبشة عطية وانما النجاشي اسم الملك مثل قيصر وكسرى فخرج إليها سرّا أحد عشر رجلا واربع نسوة وهم عثمان ابن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وابو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن
عمرو مصعب بن عمير وابو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت امية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت ابى حشمة وحاطب بن عمر وسهيل ابن بيضا رضى الله عنهم أجمعين فخرجوا الى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار فى رجب من السنة الخامسة من البعثة وهذه الهجرة الاولى ثم خرج جعفر بن ابى طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع المهاجرين الى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا الى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم فعصمهم الله وذكرت القصة فى تفسير(3/153)
سورة ال عمران فى تفسير قوله تعالى ان اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي الاية......... فلما انصرفا اقام المسلمين هناك بخير واحسن جوار الى ان هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا امره وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى النجاشي على يدى عمرو بن امية الضميري سنة ست من الهجرة ليزوجه أم حبيبة بنت ابى سفيان وقد هاجرت مع زوجها فمات زوجها وليبعث من عنده من المسلمين فارسل النجاشي الى أم حبيبة جارية له يقال لها ابرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعطتها اوضاحا لها سرورا بذلك فاذنت خالد بن سعيد بن العاص حتى انكحها على صداق اربعمائة دينار فانقد إليها النجاشي اربعمائة دينار على يد ابرهة فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته وقالت أمرني الملك ان لا أخذ منك شيئا وقالت انا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت ومحمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وامنت به وحاجتى منك ان تقرئيه منى السلام قالت نعم وقد امر الملك نسائه ان يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر وقالت أم حبيبة فخرجنا الى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج اليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه فكأن يسألنى عن النجاشي فقرأت عليه من ابرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى عسى الله ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم يعنى أبا سفيان مودة يعنى بتزويج أم حبيبة ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يقرع انفه وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه ارها بن اصحمة ابن الجر فى ستين رجلا من الحبشة وكتب اليه يا رسول الله اشهد انك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله رب العلمين وقد بعثت إليك بابني ارها وأنت ان شئت ان اتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله فركبوا سفينة فى اثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا فى وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من اهل الشام فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس الى آخرها فبكوا حين سمعوا القران وأمنوا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السّلام(3/154)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
فانزل الله تعالى هذه الاية ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا انا نصارى يعنى وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم سبعون وكانوا اصحاب الصوامع وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان وثلثون من الحبشة وثمانية من اهل الشام وقال عطاء كانوا ثمانين رجلا أربعون من اهل نجران من بنى الحارث واثنان وثلثون من اهل الحبشة وثمانية من اهل الشام روميون واخرج ابن ابى شيبة وابن ابى حاتم والواحدي من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وابى بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير مرسلا قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن امية الضمري وكتب معه كتابا الى النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا جعفر بن ابى طالب والمهاجرين معه وأرسل الى الرهبان والقسيسين ثم امر جعفر ابن ابى طالب فقرأ عليهم سورة
مريم فامنوا بالقران وقاضت أعينهم من الدمع فهم الذين انزل فيهم لتجدن أقربهم مودة الى قوله فاكتبنا مع الشاهدين وروى ابن جرير وابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير قال بعث النجاشي فلاس رجلا من خيار أصحابه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه سورة يس فبكوا فنزلت فيهم الاية واخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال نزلت هذه الاية فى النجاشي وأصحابه.
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه ابسط منه قلت ونزول الاية فى النجاشي او فى الذين وفدهم لا يقتضى اختصاصهم بهذا الحكم فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد قوله وإذا سمعوا عطف على لا يستكبرون وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم الى قبول الحق وعدم تابيهم عنه والفيض هو انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة او جعلت أعينهم من فرط البكاء كانها تفيض بانفسها وتفيض فى موضع النصب على الحال....
لان الروية بمعنى الابصار وقيل من للابتداء والظاهر انها للتعليل اى من أجل الدمع مِمَّا عَرَفُوا من للابتداء او للتعليل اى من أجل المعرفة وما موصولة يعنى من الذي عرفوه كائنا مِنَ الْحَقِّ من اما للبيان او للتبعيض يعنى انهم عرفوا بعض الحق فابكاهم فكيف إذا عرفوه كله قال ابن عباس فى رواية عطاء به يريد بالسامعين النجاشي وأصحابه قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة يَقُولُونَ حال من الضمير الفاعل فى عرفوا رَبَّنا آمَنَّا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما انزل عليه منك والمراد(3/155)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
إنشاء الايمان والدخول فيه وانما قالوا ربنا ليكونوا مومنين فيما بينهم وبين الله لا كالمنافقين فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعنى مع امة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون للرسل على سائر الأمم قالوا ذلك لانهم وجدوا ذكر امة فى الإنجيل كذلك او المعنى مع الشاهدين بنبوته وبان القران حق من عند الله تعالى والشهادة ما يكون عن صميم القلب ولذلك قال الله تعالى فى المنافقين والله يشهد ان المنافقين لكاذبون ففيه تنزيه لانفسهم عن النفاق ثم أظهروا الحجة على ان ايمانهم ايمان الشهداء لا المنافقين بقولهم.
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا على لسان محمّد مِنَ الْحَقِّ يعنى القران وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ اى مع مؤمنى امة محمد صلى الله عليه وسلم الذين قال الله تعالى فيهم ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر انّ الأرض يرثها عبادى الصّالحون قوله ما لنا مبتدأ وخبر ولا نؤمن حال اى غير مؤمنين كقولك مالك قائما ونطمع معطوف على نؤمن يعنى ما لنا لا نؤمن ولا نطمع او عطف على نؤمن اى ما لنا نجمع بين عدم الايمان والطمع فانهما متنافيان فان الطمع مع عدم الايمان باطل او خبر مبتدأ محذوف اى نحن والواو للحال وجملة ونحن نطمع حال من ضمير الفاعل فى نؤمن وفيه انكار واستبعاد لانتفاء الايمان مع قيام موجبه وهو الطمع فى انعام الله تعالى وقيل جواب سوال ذكر البغوي ان اليهود عيّرهم وقالوا لم أمنتم فاجابوا وقيل انهم لما رجعوا الى قومهم لاموهم فاجابوا بذلك ويرد عليه انه كيف جاء الجواب بالعاطف والجواب مبنية للفصل وغاية التوجيه ان يقال تقديره مالك لا تؤمن وما لنا لا نؤمن.
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ اى جزاهم الله بِما قالُوا بعد خلوص الاعتقاد المدلول عليه بقوله ترى أعينهم تفيض من الدمع بما عرفوا من الحق وقيل القول يستعمل فى قول عن اعتقاد يقال هذا قول فلان اى معتقده جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الجنات جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون الله تعالى بكمال الخشوع والحضور قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ثم ذكر جزاء الكافرين المكذبين كما هو داب المثاني والقران العظيم من الجمع بين الترغيب والترهيب ولما كان فيما مضى ذكر التصديق بالقلب ومعرفة الحق مع الإقرار باللسان عقبه بما يضاده(3/156)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
من جحود الحق والتكذيب فقال.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا اى جحدوا الحق بقلوبهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا بألسنتهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ع روى الترمذي وغيره عن ابن عباس ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انى إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتى فحرمت علىّ اللحم فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ اى ما طاب ولذّ وتشتهيها الأنفس من الحلال وفى ترتيب الآيات لطافة فانه تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات ثم عقبه النهى عن الافراط فى ذلك والاعتداء عما حد الله تعالى بجعل الحلال حراما فقال وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ويجوز ان يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم الى ما حرم عليكم فتكون الاية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية الى القصد بينهما وجاز ان يكون المعنى ولا تسرفوا فى تناول الطيبات اخرج ابن جرير من طريق العوفى انّ رجالا من الصحابة منهم عثمان بن مظعون حرموا النساء واللحم على أنفسهم وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكى ينقطع الشهوة عنهم ويتفرغوا للعبادة فنزلت هذه الاية واخرج ابن جرير نحو ذلك من مرسل عكرمة وابى قلابة ومجاهد وابى مالك والنخعي والسدى وغيرهم وفى رواية السدى انهم كانوا عشرة منهم ابن مظعون وعلى ابن ابى طالب وفى رواية عكرمة منهم ابن مظعون وعلى وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالم مولى حذيفة وفى رواية مجاهد منهم ابن مظعون وعبد الله بن عمرو واخرج ابن عساكر فى تاريخه من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى رهط من الصحابة منهم ابو بكر وعمر وعلى وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسود وسالم مولى ابى حذيفة توافقوا على ان يجبوا أنفسهم ويعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحما ولا دسما ويلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام الا قوتا وان يسيحوا فى الأرض كهيئة الرهبان فنزلت وذكر البغوي عن اهل التفسير ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الناس يوما ووصف القيامة فرق الناس له وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة فى بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم أبو بكر الصديق وعلى بن ابى طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وابو ذر الغفاري وسالم مولى ابى حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل(3/157)
ابن مقرن رضى الله عنهم أجمعين وتشاوروا واتفقوا على ان يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا فى الأرض فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت ابى امية واسمها الخولاء وكانت عطارة أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه فكرهت ان تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت ان تبدى على زوجها فقالت يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الم أنبأكم انكم اتفقتم على كذا وكذا قالوا بلى يا رسول الله وما أردنا الا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى لم اومر بذلك ثم قال لانفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فانى أقوم وأنام وأصوم وأفطروا كل اللحم والدسم واتى النساء ومن رغب عن سنتى فليس منى ثم جمع الناس وخطبهم فقال ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا اما انى لست أمركم ان تكونوا قسيسين ورهبانا فانه ليس فى دينى ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وان سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد واعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واقيموا الصلاة وأتوا الزكوة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فانما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فاولئك بقاياهم فى الديارات والصوامع فانزل الله عز وجل هذه الاية وروى البغوي بسنده عن سعد بن مسعود ان عثمان بن مظعون رض اتى النبي صلى الله عليه وسلم قال ائذن لنا فى الاختصاء فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من خصى ولا من اختصى ان خصاء أمتي الصيام فقال يا رسول الله ائذن لنا فى السياحة فقال ان سياحة أمتي الجهاد فى سبيل الله قالوا يا رسول الله ائذن لنا فى الترهب فقال ان ترهب أمتي الجلوس فى المساجد وانتظار الصلاة وفى الصحيحين عن انس قال جاء ثلثة رهط الى ازواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبىّ صلى الله عليه وسلم فلمّا أخبروا بها كانهم تقالّوها فقالوا اين نحن من النبىّ صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم اما انا فاصلى الليل ابدا وقال(3/158)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
الاخر انا أصوم النهار ولا أفطر وقال الاخر انا اعتزل النساء فلا أتزوج ابدا فجآء النبي صلى الله عليه وسلم فقال أنتم الذي قلتم كذا وكذا اما والله انى لاخشاكم لله وأتقاكم له ولكنى أصوم وأفطر وأصلي وارقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى وروى ابو داؤد عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فان قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم فى الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم وفى الصحيحين عن عائشة قالت صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء اصنعه فو الله انى لاعلمهم بالله وأشدهم خشية وروى ابن ابى حاتم عن زيد ابن اسلم ان عبد الله بن رواحة أضاف ضيفا من اهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع الى اهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له فقال لامرأته حبست ضيفى من اجلى وهو حرام على فقالت امرأته هو على حرام قال الضيف هو على حرام فلما رأى ذلك وضع يده وقال كلوا بسم الله ثم ذهب الى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ثم انزل الله يايها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين.
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً قال عبد الله بن مبارك الحلال ما أخذته من وجهه يعنى من وجه مشروع والطيب ماغذ او نما فاما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذى فمكروه الا على وجه التداوى حلالا مفعول كلوا ومما رزقكم حال منه قدمت لكون ذى الحال نكرة ومن للتبعيض وفيه تصريح ان بعض الرزق يكون حلالا دون بعض كما يقوله اهل الحق ويجوز ان يكون من ابتدائية متعلقة بكلوا ويجوز ان يكون مفعولا وحلالا حال من الموصول والعائد محذوف او صفة لمصدر محذوف يعنى أكلا حلالا وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة وَاتَّقُوا اللَّهَ توكيد للتوصية بما امر به وزاده توكيدا بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لان مقتضى الايمان التقوى فيما امر به ونهى عنه روى البغوي بسنده عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الحلوا والعسل رواه البخاري وعن ابن عباس قال كان أحب الطعام الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد من الخبز والثريد من(3/159)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
الحيس رواه ابو داؤد وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاعم الشاكر كالصائم الصابر رواه الترمذي ورواه ابن ماجة والدارمي عن سنان بن سنة عن أبيه قال البغوي قال ابن عباس لما نزلت لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم قالوا يا رسول الله فكيف نصنع بايماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما أنفقوا عليه فانزل الله تعالى.
لا يُؤاخِذُكُمُ «1» اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن ذكوان عاقدتم من المفاعلة بمعنى فعل وقرأ ابو بكر وحمزة والكسائي عقدتم بغير الف مخففا على وزن ضربتم والباقون مشددا من التفعيل وقد مر تفسير الاية فى سورة البقرة واقسام الايمان وأحكامها وان المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الاخروية وبما عقدتم الايمان ما تعلق القصد بتوثيقه والزام شىء من فعل او ترك به على نفسه صيانة لذكر اسم الله تعالى فتكون لا محالة فى الإنشاء وهذا القسم من اليمين يوجب ذلك الفعل او الترك على الحالف بقوله تعالى يا ايها الذين أمنوا أوفوا بالعقود وقوله تعالى ولكن يواخذكم بما عقدتم يعنى بنكث ما عقدتم او يواخذكم بما عقدتم ان حنثتم وحذف للعلم.
(مسئلة:) ينعقد اليمين عند جمهور العلماء والائمة الاربعة بحرف القسم ملفوظا او مقدرا مقترنا باسم من اسماء الله تعالى او ما يدل على ذاته تعالى نحو والذي نفسى بيده والذي لا اله غيره ومقلب القلوب ورب السموات والأرض ونحو ذلك وقال بعض مشائخ الحنفية كل اسم لا يسمى به غيره تعالى فهو يمين وما يسمى به غيره ايضا كالحليم والعليم والقادر والوكيل والرحيم ونحو ذلك لا يكون يمينا الا بالنية او العرف او دلالة الحال وكذا ينعقد عند الجمهور بكل صفة من صفاته وقال ابو حنيفة ينعقد بكل صفة يحلف بها عرفا كعزة الله وجلاله وعظمته وكبريائه لا بما لا يحلف عرفا كعلم الله وإرادته ومشيته ولمشايخ العراق هاهنا تفصيل اخر وهو ان الحلف بصفات الذات يكون يمينا وبصفات الفعل لا يكون يمينا وصفات الذات ما لا يوصف الله تعالى بضده كالقدرة والجلال والكبرياء والعظمة والعزة وصفات الفعل ما يوصف به وبضده كالرحمة والغضب والرضاء
__________
(1) روى ابو الشيخ وعبد بن حميد عن سعيد بن جبير ان اللغو ان تحرم ما أحل الله لكم تكفر عن يمينك ولا تحرمه لا يؤاخذكم الله به ولكن بما عقدتم الايمان فان مت عليه أخذت به 12 [.....](3/160)
والسخط والقبض والبسط.
(مسئلة) لو حلف بالقران يكون يمينا عند الائمة الثلاثة وعند ابى حنيفة لا يكون يمينا لعدم العرف وقال ابن همام ولا يخفى ان الحلف بالقران الان متعارف فيكون يمينا يعنى عنه ابى حنيفة ايضا كما هو قول الائمة الثلاثة وكذا الكلام لو حلف بالمصحف فان المراد به القران دون القراطيس وحكى ابن عبد البر فى التمهيد فى المسألة اقوال الصحابة والتابعين واتفاقهم على إيجاب الكفارة فيها قال ولم يخالف فيها الا من لا يعتد بقوله واختلفوا فى قدر الكفارة فقال مالك والشافعي يلزم كفارة واحدة وعن احمد رح روايتان إحداهما كالجمهور والثانية يلزم بكل اية كفارة ولو قال وحق الله كان يمينا عند الثلاثة خلافا لابى حنيفة ولو قال لعمر الله وايم الله قال ابو حنيفة يمين نوى او لم ينو وهى رواية عن احمد وقال بعض اصحاب الشافعي وهى رواية عن احمد ان لم ينو لا يكون يمينا.
(مسئلة) من حلف بالكعبة او بالنبي لا يكون يمينا ولا يجب عليه الكفارة عند الائمة الثلاثة وهى رواية عن احمد وفى اظهر الروايتين عنه الحلف بالنبي يكون يمينا لنا قوله صلى الله عليه وسلم من كان حالفا فليحلف بالله او ليصمت متفق عليه من حديث ابن عمر وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك رواه ابو داؤد وعن ابن مسعود موقوفا لان احلف بالله كاذبا أحب الىّ ان احلف بغير الله صادقا قال صاحب الهداية هذا إذا قال والنبي اما لو قال ان فعلت كذا فهو برئ عن النبي صلى الله عليه وسلم او عن الكعبة او هو يهودى او نصرانى او كافر يكون يمينا لانه لما جعل الشرط علما على الكفر فقد جعله واجب الامتناع وقد أمكن القول بوجوبه لغيره فجعلناه يمينا كما نقول فى تحريم الحلال فان تحريم الحلال عند نايمين وقال الشافعي رح تحريم الحلال لا يكون يمينا لنا ان النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية وشرب العسل فنزل يا ايها النبي لم تحرم ما أحل الله لك قد فرض الله لكم تحلة ايمانكم كذا فى الصحيحين وغيرهما وسنذكر فى سورة التحريم ان شاء الله تعالى.
(مسئلة) ولو قال ان فعلت كذا فهو يهودى او برئ من الإسلام او نحو ذلك فى شىء قد فعله فهو الغموس ولا يكفر عند ابى حنيفة اعتبارا بالمستقبل وقيل يكفر لانه تنجيز معنى قال صاحب الهداية والصحيح انه لا يكفر إن كان يعلم انه يمين وإن كان عنده(3/161)
انه يكفر بالحلف يكفر لانه رضى بالكفر عن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال انى برئ من الإسلام فان كان كاذبا فهو كما قال وان كان صادقا لن يرجع الى الإسلام سالما رواه ابو داؤد والنسائي وابن ماجة.
(مسئلة) لو ذكر فعل القسم على صيغة الماضي مقترنا باسم الله او صفة من صفاته فقال أقسمت بالله او حلفت بالله او شهدت بالله او عزمت بالله لا فعلن كذا فهو يمين بلا خلاف ولو قال بصيغة المضارع نحو اقسم بالله او احلف بالله او اشهد بالله او اعزم بالله فهو يمين عند ابى حنيفة واحمد وعند الشافعي لا يكون يمينا الا بالنية لاحتمال ان يريد بالمستقبل الوعد قالت الحنفية المضارع حقيقة فى الحال مجاز فى الاستقبال لا ينصرف اليه الا بقرينة السين او سوف او نحو ذلك.
(مسئلة) لو قال أقسمت او اقسم او حلفت او احلف ونحو ذلك من غير ذكر اسم الله تعالى وصفة فهو يمين عند ابى حنيفة نوى او لم ينو شيئا وان نوى غيره يصدق ديانة لا قضاء وقال مالك واحمد فى رواية وزفران نوى يكون يمينا والا فلا لاحتمال اليمين بغير الله وقال الشافعي لا يكون يمينا وان نوى قلنا الحلف بالله هو المعهود والمشروع وبغيره محظور فيصرف الى المشروع عند عدم النية واحتج فى هذه المسألة بحديث ابن عباس ان رجلا راى رويا فقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابو بكر ايذن لى فاعبرها فاذن له فعبرها ثم قال أصبت يا رسول الله قال أصبت واخطأت قال أقسمت يا رسول الله لتخبرنى قال لا تقسم هكذا رواه احمد وقد اخرج فى الصحيحين بلفظ اخر فانه قال والله لتخبرنى بالذي اخطأت قال لا تقسم والله اعلم فَكَفَّارَتُهُ اى كفارة نكثه او كفارة معقود الايمان او كفارة ما عقدتم الايمان إذا حنثتم والكفارة الفعلة التي من شانها ان يكفر الخطيئة ويذهب إثمها ويسترها إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ والإطعام جعل الغير طاعما سواء كان بالتمليك او الإباحة ومن ثم قال ابو حنيفة لو غدّاهم وعشّاهم اكلتين مشبعتين من غير تمليك جاز قليلا أكلوا او كثيرا كذا ذكر الكرخي بإسناده الى الحسن خلافا للشافعى رحمه الله فعنده يشترط التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر ولان التمليك ادفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة قلنا المنصوص عليه فى الزكوة الإيتاء وفى صدقة الفطر الأداء وهما للتمليك(3/162)
حقيقة بخلاف الإطعام لانه حقيقة فى التمكين من الطعم فان قيل لما كان الإطعام حقيقة فى التمكين ينبغى ان لا يجوز التمليك وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز قلنا فى التمليك من الطعم ايضا او يقال جواز التمليك انما هو بدلالة النص والدلالة لا يمنع العمل بالحقيقة كما فى حرمة الضرب والشتم مع التأفيف لان النص ورد فى دفع حاجة الاكل فالتمليك الذي هو لدفع كل حاجة ومنها الاكل اجوز اخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن ابى حاتم عن على بن ابى طالب رض فى قوله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين قال يغديهم ويعشيهم ان شئت خبزا ولحما او خبزا وزيتا او خبزا وسمنا او خبزا وتمرا- (مسئلة) لو كان فيمن أطعمهم صبيا فطيما لا يجزيه لانه لا يستوفى كاملا- (مسئلة) لا بد من الادام فى خبز غير الحنطة ليمكنهم الاستيفاء الى الشبع فى صورة الإباحة وفى خبز الحنطة لا يشترط ان كان اوسط طعام اهله بغير ادام.
(مسئلة) ان اعطى مسكينا واحدا عشرة ايام يجوز عند ابى حنيفة وان اطعم فى يوم واحد عشر مرات لا يجوز وقيل هذا إذا كان بالاباحة واما إذا كان بالتمليك فيجوز لان الحاجة الى التمليك يتجدد فى يوم واحد ولا يتجدد الحاجة الى الاكل فى يوم واحد عشر مرات وإذا دفع الى فقير وأحد طعام عشرة مساكين دفعة واحدة فى يوم واحد ولو بالتمليك لا يجوز هذا كله قول ابى حنيفة وجه قوله ان المقصود سدخلة المحتاج والحاجة يتجدد فى كل يوم فالدفع اليه فى اليوم الثاني كالدفع الى غيره ولا يتجدد الحاجة فى يوم الى الاكل عشر مرات وقال مالك والشافعي وهو الصحيح من مذهب احمد وبه قال اكثر اهل العلم لا يجوز اطعام مسكين واحد عشرة ايام ولو بالتمليك لانه تعالى نص على عشرة مساكين وبتكرر الحاجة فى مسكين واحد لا يصير هو عشرة مساكين والتعليل بان المقصود سدخلة المحتاج الى اخر ما ذكر مبطل لمقتضى النص فلا يجوز.
(مسئلة) وإذا ملك الطعام عشرة مساكين فالقدر الواجب لكل مسكين عند اهل العراق مدان وهو نصف صاع قال البغوي يروى ذلك عن عمرو على وقال ابو حنيفة نصف صاع من بر او صاع من شعير او تمر وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والحكم وقال مالك مد وهو رطلان بالبغدادي وقال احمد مد من حنطة او دقيق ومدان من شعير او تمر ورطلان من خبز اى خبز حنطة وقال الشافعي مد النبي صلى الله عليه وسلم وهو رطل(3/163)
وثلث رطل من غالب قوة البلد ولا يجوز عنده دفع الخبز ولا الدقيق بل إعطاء الحب قال البغوي وهو قول زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن يسار وعطاء والحسن وكذلك الخلاف فى جميع الكفارات ويجوز دفع القيمة من الدراهم والدنانير عند ابى حنيفة خلافا لغيره وذكر الكرخي بإسناده الى عمر قال صاع من تمر او شعير او نصفه من بر وبإسناده الى علىّ قال كفارة اليمين نصف صاع من حنطة وبإسناده الى مجاهد قال كل كفارة فى القران فهو نصف صاع من بر لكل مسكين وروى ابن الجوزي فى التحقيق بسنده عن سليمان بن يسار قال أدركت الناس وهم يعطون فى طعام المساكين مدا مدا ويروى ان ذلك يجزى عنهم وفى الباب حديث ابى سلمة ان سليمان بن صخر ويقال له سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته كظهر امه حتى يمضى رمضان فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلا فاتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق رقبة قال لا أجدها قال فصم شهرين متتابعين قال لا أستطيع قال اطعم ستين مسكينا قال لا أجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن عمرو أعطه ذلك الفرق وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا او ستة عشر صاعا يطعم ستين مسكينا رواه الترمذي وروى ابو داؤد وابن ماجة والدارمي عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر نحوه قال كنت أصبت من النساء ما لا يصيب غيرى وهذا الحديث حجة للشافعى وغيره من قال ان لكل مسكين هذا احتج ابو حنيفة بحديث رواه الطبراني عن أوس بن الصامت قال فاطعم ستين مسكينا ثلثين صاعا قال لا املك ذلك الا ان تعيننى فاعانه النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا وأعانه الناس حتى بلغ انتهى قلت لعل كان ذلك من الحنطة وروى ابو داؤد من طريق ابن إسحاق عن معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام فى حديث أوس بن الصامت انه قال صلى الله عليه وسلم فانى ساعينه بفرق من تمر قال يا رسول الله وانا أعينه بفرق اخر قال أحسنت قال الفرق ستون صاعا واخرج الحديث ايضا بهذا الاسناد الا انه قال والمكتل ثلثون صاعا قال ابن همام وهذا أصح لانه لو كان ستين لم يحتج الى معاونتهما ايضا بفرق اخر فى الكفارة واخرج ابو داؤد عن ابى سلمة بن عبد الرحمن قال الفرق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا واخرج ابو داؤد فى حديث سلمة بن(3/164)
صخر البياضي قال فاطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قال والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشيين ما املك لنا طعاما قال فانطلق الى صاحب صدقة بنى زريق فليدفعها إليك فاطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها الحديث أخرجه احمد وابو داؤد (مسئلة) يجوز دفع الطعام وتمليكه لصغير يقبل عنه وليه وهل يجزى بصغير لم يطعم الطعام قال الثلاثة نعم وقال احمد لا.
(مسئلة) ان ادى الى ذمى قال ابو حنيفة يجوز لاطلاق النص وقد قال الله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين الاية وعند الجمهور لا يجوز قياسا على الزكوة فانه لا يجوز صرف الزكوة الى الذمي اجماعا مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ محله النصب لانه صفة مفعول محذوف تقديره ان تطعموا عشرة مساكين طعاما من اوسط ما تطعمون او الرفع على البدل من اطعام قال البغوي اى من خير قوة عيالكم قلت والظاهر ان المراد المتوسط فى الكيفية لا أعلى ولا ادنى فمن كان غنيا يأكل اهله أطعمة لذيذة يجب فى التغدي والتعشي ان يطعم الفقراء على غالب قوة اهله وهذا الكلام يدل على ما قال ابو حنيفة بجواز عطاء الفقير على وجه الإباحة اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى من اوسط ما تطعمون قال من عسركم ويسركم وفى رواية ليس بارفعه ولا أدناه وجمع الأهل بالياء والنون شاذ لعدم العلمية أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على اطعام او على من اوسط ان جعل بدلا لان البدل هو المقصود وادنى الكسوة ما يجوز به الصلاة عند مالك واحمد وهو المروي عن محمد ففى الرجل يجزى السراويل فقط او الإزار فقط او القميص فقط وفى المرأة لا بد من ثوبين قميص وخمار وعند ابى حنيفة وابى يوسف أدناه ما يستر عامة البدن فلا يجوز السراويل وان صح صلوته فيه لان لابسه يسمى فى العرف عريانا والمأمور به جعله مكتسيا ويجوز ان يعطى قميصا سابلا للمرأة وان لم يصح صلوتها بدون الخمار لانها مكتسية عرفا لا عريانة اخرج ابن مردويه عن حذيفة قال قلنا يا رسول الله او كسوتهم ما هو قال عباءة وكذا اخرج الطبراني وابن مردوية عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عباءة لكل مسكين وعند الشافعي رح يجوز اقل ما يقع عليه اسم الكسوة فيجوز عنده العمامة فحسب والسراويل فقط والقميص فقط وفى القلنسوة لاصحابه وجهان ان اطعم(3/165)
خمسا وكسى خمسا قال ابو حنيفة واحمد يجوز وقال مالك والشافعي لا يجوز أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعنى اعتاق انسان ويجوز فى كفارة اليمين والظهار اعتاق رقبة كافرة عند ابى حنيفة لاطلاق النص وعند مالك والشافعي واحمد لا يجوز الا مؤمنا حملا للمطلق على المقيد الوارد فى كفارة القتل قلنا المطلق يجرى على إطلاقه والمقيد على تقئيده ولا وجه لحمل أحدهما على الاخر.
(مسئلة) مقتضى كلمة او إيجاب احدى الخصال الثلث مطلقا ويخير المكلف فى التعيين اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال لما نزلت اية الكفارة قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار قال أنت بالخيار ان شئت كسوت وان شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلثة ايام متتابعات فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شيئا من ذلك وعجز عنها بان لا يفضل ماله عن الديون وعن قوته وقوة عياله وحوائجه ما يطعم او يكسو او يعتق وقال بعض العلماء إذا ملك ما يمكنه الإطعام او أحد أخواته وان لم يفضل عن كفاية فليس هو بعاجز وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وروى ابو الشيخ عن قتادة ان كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وانكانت اقل فهو ممن لا يجد ويصوم واخرج ابو الشيخ عن ابراهيم النخعي قال إذا كان عنده عشرون درهما فعليه ان يطعم.
(مسئلة) العبد لا كفارة له الا الصوم لانه لا يقدر على الإطعام والاكساء والاعتاق لعدم مالكية المال ولو أعتق عنه مولاه او اطعم او اكسى لا يجزيه وكذا المكاتب والمستسعى.
(مسئلة) لو صام العبد فعتق قبل ان يفرغ ولو بساعة فاصاب مالا وجب عليه استيناف الكفارة وكذا الفقير إذا صام فاصاب مالا قبل ان يفرغ من الصيام استأنف الكفارة.
(مسئلة) المعتبر عندنا كونه واجدا عند ارادة التكفير وعند الشافعي عند الحنث لنا ان الصوم خلف عن المال كالتيمم فانما يعتبر فيه وقت الأداء فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ خبر مبتدأ محذوف والجملة جزاء للشرط يعنى فكفارته صيام ثلثة ايام.
(مسئلة) لا يجب عند مالك التتابع فى الصيام لاطلاق النص بل يستحب وعن(3/166)
الشافعي قولان الجديد الراجح انه يستحب ولا يجب وقال ابو حنيفة واحمد وهو أحد قولى الشافعي رح انه يجب وجه قول احمد ورواية الشافعي حمل المطلق على المقيد الوارد فى كفارة القتل والظهار ووجه القول الجديد للشافعى ان هذه الكفارة يحاذيها الاصلان فى التتابع وعدمه فحمله على كفارة القتل والظهار يقتضى التتابع وحمله على صوم المتعة بناء على انه دم جبر عنده يوجب التفرق فترك الحمل على كل منهما وعمل بإطلاق النص هاهنا ووجه قول ابى حنيفة العمل بقراءة ابن مسعود فانه قرأ ثلثة ايام متتابعات وهى مشهورة يجوز به تقئيد مطلق النص لانه داخل على الحكم دون السبب.
(مسئلة) يمين الكافر لا ينعقد ولا يلزمه الكفارة عند ابى حنيفة وقال الائمة الثلاثة ينعقد يمينه ويلزمه الكفارة بالحنث لنا انه ليس باهل اليمين لانها تنعقد لتعظيم اسم الله تعالى ومع الكفر لا يكون معظما ويرد عليه انه فى الدعاوى يستحلف الكافر المنكر اجماعا ولانه ليس أهلا للكفارة لكونها عبادة قلت ومقتضى هذا الدليل انه لو حلف الكافر ثم اسلم وحنث بعد الإسلام يلزمه الكفارة والله اعلم.
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم فان الكفارة لا تجب الا بعد الحنث اجماعا استدل احمد والشافعي بهذه الاية على جواز تقديم الكفارة قبل الحنث وهو أحد الروايتين عن مالك لانه أضيف الكفارة الى اليمين دون الحنث والاضافة دليل بسببية المضاف اليه للمضاف الواقع حكما شرعيا او متعلقه كما فى ما نحن فيه فان الكفارة متعلق الحكم الذي هو الوجوب وإذا ثبت سببيته جاز تقديم الكفارة على الحنث لانه حينئذ شرط والتقديم على الشرط بعد وجود السبب ثابت شرعا كما فى الزكوة جاز تقديمها على الحول بعد وجود السبب الذي هو ملك النصاب وكما فى تقديم التكفير بعد الجرح على المقتول قبل الموت وبناء على هذا الدليل لا فرق بين الكفارة بالمال والصوم وعند مالك واحمد وبه قال الشافعي فى القديم وفى القول الجديد للشافعى يجوز تقديم الكفارة بالمال قبل الحنث ولا يجوز بالصوم لان تقديم الأداء على الوجوب بعد السبب لم يعرف شرعا الا فى العبادة المالية ولا يجوز تقديم الصوم والصلاة قبل وجوبهما وعند ابى حنيفة لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث مطلقا هو يقول ان سبب الكفارة هو الحنث دون اليمين لان الكفارة انما وجبت لستر الجناية ودفع الإثم ولا جناية ولا اثم الا بالحنث واليمين(3/167)
ليست بسبب للحنث ولا للكفارة بل للبر إذا قل ما فى السبب ان يكون مفضيا اليه واليمين ليس كذلك لانه مانع عن عدم المحلوف عليه فكيف يكون مفضيا اليه نعم قد يتفق تحققه اتفاقا والاضافة قد يكون الى الشرط كما فى صدقة الفطر ولو سلم ان اليمين سبب فلا شك فى ان الحنث شرط للوجوب فلا يقع التكفير واجبا قبله فلا يسقط الوجوب قبل ثبوته ولا عند ثبوته بفعل وجد قبله ولم يكن واجبا وكان مقتضى هذا الدليل عدم جواز أداء الزكوة قبل الحول وصدقة الفطر قبل الفطر لكن ثبت جواز ادائهما قبل وجوبهما بالنص على خلاف القياس فيقتصر على موردهما اما الزكوة فلحديث على رضى الله عنه ان العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تعجيل صدقة قبل ان تحل فرخص له فى ذلك رواه ابو داؤد والترمذي وابن ماجة والدارمي واما صدقة الفطر فلما رواه البخاري عن ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر الى ان قال فى آخره وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم او يومين وهذا مما لا يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم بل لا بد من كونه بإذن سابق فان الاسقاط قبل الوجوب مما لا يعقل فلم يكونوا يقدمون الا بسمع قبله كذا قال ابن همام والصحيح عندى ان اليمين سبب للكفارة كما يدل عليه الاضافة غير ان الحنث شرط لكونه سببا كما حقق فى اصول الفقه ان التعليق بالشرط فى قوله ان دخلت الدار فانت طالق مانع عن السبب دون الحكم عند ابى حنيفة وعند الشافعي مانع عن الحكم فهذا الكلام لا يكون سببا للطلاق الا بعد دخول الدار وزوال المانع وقبل ذلك كان سببا لمنع المرأة عن الدخول كذلك الحلف بالله تعالى سبب للبر وبعد فوات البر والحنث تصير سببا للكفارة فالكفارة قبل الحنث أداء قبل السبب بخلاف الزكوة فان سببه المال وبخلاف صدقة الفطر فان سببه الراس وقد يستدل على جواز التكفير قبل الحنث بحديث ابى الأحوص عوف بن مالك عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت ابن عم لى اتيه اسأله فلا يعطينى ولا يصلنى ثم يحتاج الىّ فياتينى فيسألنى وقد حلفت ان لا أعطيه ولا أصله فامرنى ان اتى الذي هو خير واكفر عن يمينى رواه النسائي وابن ماجة وفى رواية قال قلت يا رسول الله يأتينى ابن عمى فاحلف ان لا أعطيه ولا أصله قال كفر عن يمينك وعن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى والله إنشاء الله لا احلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا كفرت عن يمينى واثبت(3/168)
الذي هو خير متفق عليه وعن عبد الرحمن بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وات الذي هو خير وفى رواية فات الذي هو خير وكفر عن يمينك متفق عليه وعن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل رواه مسلم والاحتجاج بهذه الأحاديث على جواز تقديم الكفارة على الحنث لذكر الكفارة فى بعض الروايات قبل ذكر الحنث ليس بشئ لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فان قيل قد ورد فى بعض الروايات بكلمة ثم روى ابو داؤد حديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ فكفر عن يمينك ثم ات الذي هو خير وفى المستدرك من حديث عائشة كان عليه الصلاة والسلام إذا حلف لا يحنث حتى انزل الله كفارة اليمين فقال لا احلف الى ان قال الا كفرت عن يمينى ثم أتيت الذي هو خير قلنا هى رواية شاذة مخالفة لما فى الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة وقد ذكرنا ولما فى البخاري من حديث عائشة وفيه العطف بالواو وقد شذت الرواية بثم لمخالفتهما روايات الصحيحين والسنن والمسانيد وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قيل أراد به ترك الحلف اى لا تحلفوا لكل امر والصحيح ان المراد منه حفظ اليمين عن الحنث وإيفاء ما أوجب على نفسه القيام بمقتضاه ويؤيده قوله تعالى يا ايها الذين أمنوا أوفوا بالعقود والحكم فى الباب ان المحلوف عليه ان كان طاعة لزمه الوفاء بها وهل له ان يعدل عن الوفاء الى الكفارة مع القدرة على الوفاء قال ابو حنيفة واحمد ليس له ذلك عملا بهذه النص وقال الشافعي الاولى ان لا يعدل فان عدل جاز ولزمه الكفارة وعن مالك روايتان كالمذهبين وكذا ان حلف على امر مباح ليس تركه خيرا من فعله وان كان المحلوف عليه معصية يجب عليه ان يحنث ويكفر لان اثم المعصية لازم واثم الحنث مكفر بالكفارة وان حلف على ترك امر مستحب فالاولى ان يحنث ويكفر قال الله تعالى لا نجعلوا الله عرضة لايمانكم يعنى حاجزا مانعا من الحسنات وقال عليه السلام كفر عن يمينك وات بالذي هو خير عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال انى احلف لا اعطى أقواما ثم يبدو لى ان أعطيهم فاطعم عشرة مساكين صاعا من شعير او صاعا من تمر او نصف صاع من قيح وعن عائشة قالت كان ابو بكر إذا حلف لم يحنث حتى نزلت اية الكفارة وكان بعد ذلك يقول لا احلف على يمين فارى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير وقبلت رخصة الله رواه ابن ابى شيبة وعبد الرزاق والبخاري وابن مردوية.(3/169)
(فصل فى النذر) إذا نذر شيئا معلقا بشرط يريد وجوده كما يقول ان شفى مريضى فعلىّ صوم يجب عليه الوفاء كما يجب بالنذر المنجز اجماعا وان نذر شيئا معلقا بشرط يريد عدمه كما يقول ان فعلت كذا يريد ترك ذلك الفعل فعلىّ حج فعن ابى حنيفه انه لزمه الوفاء والصحيح انه رجع عن هذا القول وقال أجزأه كفارة يمين وهو قول محمد وبه قال احمد فيخرج بالوفاء وبالكفارة يميل الى أيهما شاء وفى رواية عن احمد ان الواجب الكفارة لا غير وعن الشافعي كالروايتين الأخريين وقال مالك فى صدقة المال يلزمه الثلث وفى غيره يلزمه الوفاء احتج مالك بحديث ابى لبابة انه قال للنبى صلى الله عليه وسلم ان من توبتى ان اهجر دار قومى التي أصبت فيها الذنب وان انخلع مالى كله صدقة قال عليه السلام يجزى عنك الثلث والحجة لجواز الكفارة حديث عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم وحديث عمران بن حصين لا نذر فى غضب وكفارته كفارة اليمين رواه احمد والنسائي نحوه.
(مسئلة) من نذر نذرا لا يمكنه وفائه اما بان لا يطيقه كحج ماشيا وصوم الدهر او كان النذر بمعصية يكفر عنه كفارة يمين لان النذر إيجاب شىء على نفسه وإيجاب شىء يقتضى تحريم ضده والتحريم يمين واللام المستعمل فى النذر فى قوله لله علىّ كذا يجئى بمعنى القسم قال الله تعالى لعمرك وفى الباب حديث عائشة لا نذر فى معصية وكفارته كفارة اليمين رواه احمد وابو داؤد والترمذي والنسائي وروى النسائي عن عمران بن حصين نحوه وعن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من نذر نذر الم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا فى معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا اطاقه فليف به رواه ابو داؤد وابن ماجة ووقفه بعضهم على ابن عباس وعن عبد الله بن مالك ان عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اخت له نذرت ان تحج حافية غير مختمرة قال مروها فتخمر ولتركب ولتصم ثلثة ايام رواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي.
(مسئلة) من حلف على يمين وقال إنشاء الله متصلا بيمينه فلا حنث عليه لحديث ابن عمران رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين فقال إنشاء الله فلا حنث عليه رواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي وذكر الترمذي ان جماعة وقفوه(3/170)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
على ابن عمر كَذلِكَ اى مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ اى اعلام شرايعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على نعمة التعليم او نعمة أداء الواجب وفراغ الذمة وحصول مرضاة الله تعالى ودرجات القرب والثواب فان مثل هذا التبين يسهل الأداء.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «1» قد مر تفسيرهما وحكمهما فى تفسير سورة البقرة وَالْأَنْصابُ اى الأصنام التي نصبت للعبادة وَالْأَزْلامُ سبق تفسيرها فى أول السورة رِجْسٌ قذر يعاف عنه العقول السليمة والطباع المستقيمة وافراده لانه خبر للخمر وخبر المعطوفات محذوف او بحذف المضاف كانه قال انما تعاطى الخمر والميسر مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ اى من تسويله وتزئينه فكانه عمله فَاجْتَنِبُوهُ الضمير للرجس او لما ذكر او للتعاطى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكى تفلحوا بالاجتناب عنه ان الله سبحانه أكد تحريم الخمر والميسر فى هذه الاية بان صدر الجملة بانما وقرنهما بالانصاب والأزلام وسماهما رجسا وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على ان الاشتغال بهما شربحت او غالب وامر بالاجتناب عن أعينهما وجعله سببا يرجى منه الفلاح ثم بين ما فيهما من المفاسد الدينية والدنيوية المقتضية للاجتناب فقال.
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ
__________
(1) اخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب انه قال اللهم بين لنا فى الخمر بيان شفاع فنزلت التي فى البقرة يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس الاية فدعى عمر فقرأت عليه ثم قال اللهم بين لنا فى الخمر بيان شفاء فنزلت التي فى النساء يا ايها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الاية فدعى عمر فقرأت عليه ثم قال اللهم بين لنا فى الخمر بيان شفاء فنزلت التي فى المائدة انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر الى قوله فهل أنتم منتهون فدعى عمر فقرأت عليه فقال انتهينا انتهينا واخرج النسائي عن عبد الرحمن بن الحارث قال سمعت عثمان بن عفان رضى الله عنهما يقال اجتنبوا الخمر فانها أم الخبائث انه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد فعلقته امرأة غرية فارسلت اليه جاريتها فقالت له انا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى افضى الى امرأة وضية عندها غلام وباطية خمر فقالت انى والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع علىّ او تشرب الخمر كأسا او تقتل هذا الغلام قال فاسقينى من هذا الخمر فسقته كاسا قال رويدنى فلم يزل حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فانها والله لا يجتمع الايمان وإدمان الخمر الا ليوشك ان يخرج أحدهما صاحبه 12(3/171)
أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ كما فعل الأنصاري «1» الذي شج راس سعد بن ابى وقاص بلحى الجمل وفيه نزلت هذه الاية وقد مرت القصة فى سورة البقرة وَالْمَيْسِرُ قال قتادة كان الرجل يقاهر على الأهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظا على حرفائه خصهما باعادة الذكر وشرح ما فيهما من الفساد تنبيها على انهما هما المقصودان بالبيان هاهنا وانما ذكر الأنصاب والأزلام هاهنا للدلالة على انهما مثلهما فى الحرمة والشرارة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن أخرجه البزار من حديث عبد الله بن عمرو ورواه ابن ماجة بلفظ مد من الخمر ورواه الحارث بلفظ شارب الخمر كعابد اللات والعزى وَيَصُدَّكُمْ اى الشيطان بارتكاب الخمر والميسر عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ وذلك انه من اشتغل بالخمر والقمار الهاه عن ذكر الله وشوش عليه صلوته كما فعل باضياف عبد الرحمن بن عوف قدم رجلا ليصلى بهم صلوة المغرب بعد ما شربوا فقرأ قل يا ايها الكافرون اعبد بحذف لا كما مرت القصة فى سورة البقرة وخص الصلاة من بين الذكر للتعظيم والاشعار بان الصاد منها كالصاد من الايمان من حيث انها شعار المؤمنين وعماد الدين والفارق بين المؤمن والكافر صورة
__________
(1) عن ابن عباس ان الشّراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابو بكر لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ابو بكر جلدهم أربعين حتى توفى ثم كان عمر من بعدهم فجلدهم كذلك أربعين حتى اتى برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فامر به ان يجلد فقال لم تجلدنى بينى وبينك كتاب الله عز وجل قال وفى اى كتاب تجدان لا أجلدك قال ان الله يقول فى كتابه ليس على الذين أمنوا وعملوا الصّلحت جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وأمنوا الاية فانا من الذين أمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد قال عمر الا تردون عليه فقال ابن عباس هؤلاء آيات نزلت عذرا للماضين وحجة فى الباقين عذرا للماضين لانهم لقوا الله قبل ان يحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لان الله يقول انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام حتى بلغ الاية الاخرى فكان من الذين أمنوا وعملوا الصّلحت ثم اتقوا وأحسنوا فان الله قد نهى ان يشرب الخمر قال عمر فماذا ترون فقال على بن ابى طالب نرى انه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون جلدة فامر عمر فجلد ثمانين رواه ابو الشيخ وابن مردوية والحاكم وصححه 12(3/172)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
قال الله تعالى وما كان الله ليضيع ايمانكم يعنى صلوتكم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة رواه مسلم وابو داؤد والترمذي وابن ماجة من حديث جابر وروى احمد من حديث عبد الله بن بريدة نحوه وفيه فمن تركها فقد كفر وروى احمد من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم انه ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وابى بن خلف ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من انواع المفاسد فقال فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لفظة استفهام ومعناه امر بأبلغ الوجوه كانه قيل فهل أنتم بعد ما ذكر من المفاسد منتهون أم لا كانكم لم توعظوا.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فى الانتهاء عن الخمر والميسر وسائر المناهي وإتيان الواجبات وَاحْذَرُوا عن مخالفتهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن إطاعة الله والرسول فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فتوليكم لا يضر بالرسول وانما يضر بانفسكم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مسكر حرام وان حتما على الله ان لا يشربه عبد فى الدنيا الا سقاه الله عن طينة الخبال هل تدرون ما طينة الخبال قال عرق اهل النار رواه البغوي وعنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر فى الدنيا ثم لم يتب منها حرمها الله فى الاخرة رواه البغوي وعنه انه قال اشهد انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول اليه وأكل ثمنها رواه ابن ماجة وروى ابو داؤد وليس فيه وأكل ثمنها وفى الباب عن انس بن مالك وروى الترمذي وابن ماجة عن ابن عباس والحاكم عن ابن مسعود وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر لم يقبل الله له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب الله عليه فان عاد لم يقبل الله له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب الله عليه فان عاد لم يقبل الله له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب الله عليه فان عاد فى الرابعة لم يقبل الله له صلوة أربعين صباحا فان تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال رواه الترمذي ورواه النسائي وابن ماجة والدارمي عن عبد الله بن عمرو وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة عاق ولا قمار ولا مد من خمر رواه الدارمي وعن ابى امامة قال قال رسول(3/173)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
الله صلى الله عليه وسلم ان الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للعلمين وأمرني ربى بمحق المعازف والمزامير والأوثان والصليب وامر الجاهلية وحلف ربى عز وجل بعزتي لا يشرب عبد من عبيد جرعة من خمر إلا سقيته من الصديد مثلها ولا يتركها من مخافتى الا سقيته من حياض القدس رواه احمد وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلثة قد حرم الله عليهم الجنة مد من الخمر والعاق والديوث رواه احمد والنسائي وعن ابى موسى الأشعري مثله وفيه مد من الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر رواه احمد وقد ذكرنا فى سورة البقرة ما أخرجه احمد عن ابى هريرة قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر الحديث الى ان قال ثم نزلت اغلظ من ذلك يا ايها الذين أمنوا انما الخمر والميسر الى قوله فهل أنتم منتهون قالوا انتهينا ربنا فقال الناس ناس قتلوا فى سبيل الله وماتوا على فراشهم وكانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله الله رجسا من عمل الشيطان فانزل الله تعالى ليس على الذين أمنوا الاية وروى النسائي والبيهقي عن ابن عباس قال انما نزل تحريم الخمر فى القبيلتين من قبائل الأنصار شربوا فلما ان ثمل «1» القوم عبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر فى وجهه وراسه ولحيته فيقول صنع بي هذا أخي فلان وكانوا اخوه ليس فيهم ضغائن فيقول والله لو كان بي رءوفا رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن فى قلوبهم فانزل الله يا ايها الذين أمنوا انما الخمر والميسر الاية فقال ناس من المتكلفين هى رجس وهى فى بطن فلان وقد قتل يوم أحد فانزل الله تعالى.
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا اى شربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر قبل تحريمهما إِذا مَا اتَّقَوْا الشرك وَآمَنُوا بالله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد الايمان ثُمَّ اتَّقَوْا الخمر والميسر بعد التحريم وَآمَنُوا بتحريمهما ثُمَّ اتَّقَوْا سائر المحرمات او الاولى عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات وَأَحْسَنُوا الى الناس او المعنى أحسنوا الأعمال بان عبدوا ربهم كانهم يرونه وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ع فلا يؤاخذهم بشئ وفيه تنبيه على انه من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار لله محبوبا ونزلت عام الحديبية وكانوا محرمين بالعمرة فى ذى القعدة سنة ست.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________
(1) ثمل اى اخذه منه الشراب والسكر 12(3/174)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ اى شىء يسير ليس من العظائم التي يدحض الاقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال مِنَ الصَّيْدِ يرسله إليكم صفة لشئ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ صفة بعد صفة فكانت الوحوش «1» تغشاهم فى رحالهم بحيث يتمكنون من أخذها بايديهم وطعنها برماحهم لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ متعلق بيبلوا فان ذلك الابتلاء انما هو لينميز الخائف من عقاب الله ممن لا يخافه فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره او تعلق العلم او المعنى ليعلم خوف الخائف موجودا كما كان يعلمه قبل وجوده انه يوجد حتى ليثبه على عمله لا على علم نفسه فيه بِالْغَيْبِ اى متلبسا ذلك الخائف بالغيب يعنى غائبا من العذاب او من الله سبحانه يعنى يخافه ولم يره اخبر الله سبحانه بذلك الابتلاء ليكونوا اصبر على الانتهاء عن المعصية اعانة للمؤمنين فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء بالصيد فصاده او بعد ذلك الاخبار من الله سبحانه بالابتلاء فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فانه لم يملك نفسه فى مثل ذلك الشيء اليسير ولم يراع حكم الله فيه فكيف يملك نفسه فيما يكون النفس اليه أميل قال البغوي روى عن ابن عباس انه قال يوسع جلد ظهره وبطنه جلدا او يسلب ثيابه ذكر البغوي ان رجلا يقال له ابو اليسر شدّ على حمار وحش فقتله فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعنى الحيوان الممتنع المتوحش فى اصل الخلقة سواء كان ماكول اللحم او لا كذا فى القاموس وبه قال ابو حنيفة رحمه الله غير انه خص منه ما ورد فى الحديث جواز قتلها وهى الحية والعقرب والفارة والحداة والغراب والذئب السبع العادي دون غير العادي فيجوز قتل الكلب لا سيما العقور والظاهر انه صيد واستيناسها عارضى وقيل انه ليس بصيد فانه غير متوحش بالطبع فى الصحيحين عن ابن عمر سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب فقال لا جناح فى قتلهن على من قتلهن العقرب والفارة والغراب والحداة والكلب العقور وفيهما عن عائشة وعن حفصة نحوه قال ابن الجوزي المراد بالكلب السبع مطلقا لانه يطلق الكلب على السبع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قصة عتبة بن ابى لهب اللهم سلط عليه كلبا من كلابك وقال الله تعالى من الجوارح مكلبين قال ابو حنيفة
__________
(1) اخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن حبان قال نزلت هذه الاية فى عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم فى رحالهم لم يروا مثله قط فنهاهم الله عن قتلها وهم محرمون يعلم الله من يحافه بالغيب 12(3/175)
لو سلمنا جواز اطلاق الكلب على السبع لغة لكن فى العرف غلب استعماله فى الحيوان المخصوص وحمل الحديث على العرف العام اولى واخرج ابو عوانة فى المستخرج من طريق البخاري عن عائشة ذكر فيها ستا وزاد الحية وروى ابو داؤد من حديث ابى سعيد الخدري قال عليه السّلام يقتل المحرم الحية والعقرب والفويسقة والكلب العقور والحداة والسبع العادي ويرمى الغراب ولا يقتله ورواه الترمذي ولم يذكر السبع العادي وقال الحسن ويحمل الغراب المنهي عن قتله على غراب الزرع وروى ابن خزيمة وابن المنذر من حديث ابى هريرة زيادة ذكر الذئب والنمر على الخمس المشهورة لكن قال ابن خزيمة ذكر الذئب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور وفى مرسل سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل المحرم الحية والذئب أخرجه ابن ابى شيبة وسعيد بن منصور وابو داؤد ورجاله ثقات واخرج مسلم عن عائشة ذكر أربعا وأسقط العقرب عن الخمس المشهور فان قيل كيف يجوز تخصيص الكتاب على اصل ابى حنيفة بأحاديث الآحاد قلنا هذه الحديث تلقته الامة بالقبول فصار فى حكم الحديث المشهور جاز به تخصيص الكتاب او يقال ثبت بالإجماع ان بعض الصيد يجوز قتله للمحرم فصار العام مخصوصا بالبعض فخصصناه بالأحاديث وقال الشافعي واحمد انما يحرم على المحرم قتل ما يحل أكله دون ما لا يحل أكله لان فى الأحاديث اعيان بعضها سباع ضارة وبعضها هو أم قاتلة وبعضها طير لا يدخل فى معنى السباع بل هو حيوان مستخبث اللحم فرتبنا الحكم على استخباث اللحم وخصصنا الاية بالقياس بعد التخصيص بالحديث قلت التعليل فى اباحة القتل باستخباث اللحم غير مناسب لعدم استلزامه المصلحة فلا يجوز القياس والمختار عندى للفتوى ما قال صاحب البدائع ان الحيوان البرى ينقسم الى ماكول وغير ماكول والثاني الى ما يبتدى بالاذى غالبا وما ليس كذلك وانما يجوز فى الإحرام قتل ما يبتدى بالاذى غالبا من غير المأكول وهى رواية عن ابى يوسف كذا فى فتاوى قاضى خان ومثله عن مالك والعلة المؤثرة فى القياس البداية بالاذى قلت والإيذاء على انواع مختلفة فكان النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالعقرب على ذوات السموم كالزنبور وكل ما يلدغ وبالفارة ما يشاركها فى النقب والتقرض كابن عرس وبالغراب والحداة على ما يشاركهما فى الاختطاف كالصقر وبالكلب العقور على كل سبع عادى والسنور الأهلي ليس بصيد عند ابى حنيفة لعدم توحشها والصحيح انها متوحشة واستيناسها عارضى بخلاف المتوحش من الانعام فانها مستأنسة خلقة.(3/176)
(مسئلة) ويلتحق بقتل الصيد الاشارة اليه والدلالة عليه للذى يريد قتله اجماعا لانه فى معنى القتل إذ هو ازالة الا من عن الصيد لانه أمن بتوحشه وبعده عن الأعين روى الشيخان فى الصحيحين حديث ابى قتادة وفيه أحرموا كلهم الا أبا قتادة لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ راوا حمر وحش فحمل ابو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا فاكلوا من لحمها الحديث وفيه فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم امنكم أحد امره ان يحمل عليها او أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقي من لحمها ففى الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم علق اباحة الاكل بعدم الاشارة.
(مسئلة) ويلتحق بالصيد بيض الطائر وقال داؤد لا يضمن وسنذكر ما ورد من الحديث والآثار فى ضمان البيص.
(مسئلة) اجمعوا على ان المحرم إذا اصطاد صيدا او ذبحه كان حكمه حكم الميتة لا يجوز أكله للحلال ولا للمحرم وقال الثوري وابو ثور وطائفة يجوز أكله وهو كذبيحة السارق وهو وجه للشافعية لنا انه اثم فى ذبحه بمنزلة تارك التسمية عامدا فصار فى معنى ما ذبح فسقا اهل لغير الله بخلاف السارق فان الذبح له فى نفسه وانما المانع هناك حق العبد وهو ينجبر بالضمان.
(مسئلة) وان اصطاده حلال وكان امره بالقتل محرم او دل عليه او أشار اليه يحرم أكله للمحرم لما ذكرنا من حديث ابى قتادة حيث علق النبي صلى الله عليه وسلم اباحة الاكل للمحرم بعدم الأمر والاشارة ويجوز أكله للحلال اجماعا وَمَنْ قَتَلَهُ يعنى الصيد مِنْكُمْ يعنى من المؤمنين المحرمين مُتَعَمِّداً قال سعيد بن جبير وداؤد وابو ثور وابو منذر من الشافعية وهى رواية عن احمد بن حنبل ان هذا القيد يفيد انه لا يجب الجزاء إذا قتل مخطيا او ناسيا إحرامه او مكرها او نحو ذلك وقال مجاهد والحسن انما الجزاء انما يجب إذا قتله عامدا فى قتله ناسيا إحرامه واما إذا قتله ذاكرا إحرامه فلا حكم عليه وامره الى الله تعالى لانه أعظم من ان يكون له كفارة وجمهور العلماء والائمة الاربعة على انه يجب الجزاء سواء قتله عامدا او ناسيا إحرامه او مكرها او مخطيا او جاهلا للحرمة قال الزهري الجزاء على المتعمد بالكتاب وعلى المخطى بالسنة والمفهوم ليس بحجة عند ابى حنيفة وعند القائلين به المفهوم دليل ظنى ومنطوق الحديث(3/177)
أقوى منه والإجماع أقوى من الكل لكونه دليلا قطعيا واستدل ابن الجوزي بحديث جابر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع فقال هى صيد وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح والاستدلال بإطلاق الحكم قيل قوله تعالى متعمدا توطية لقوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه.
(مسئلة) إذا دل المحرم على صيد «1» من يريد قتله باللسان او باليد يجب عليه الجزاء كما يجب بالقتل عند ابى حنيفة واحمد وقال مالك والشافعي لا يلزم الجزاء على الدال وان كان يا ثم كمن دل صائما على امرأة فجامعها لا يلزم الكفارة على الدال ولا يفسد صومه ولكن يأثم فكذا هاهنا لان الدلالة ليس بقتل والجزاء انما هو على القتل بالنص قلنا الدلالة فى معنى القتل والنبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الاشارة والقتل كما مر فى حديث ابى قتادة ولانه محظورات الإحرام اجماعا فلو لم يجب عليه الجزاء لا يرتفع إثمه ويرتفع اثم القتل بالجزاء فيلزم مزية الدلالة على القتل فان قيل فعلى هذا يلزم ان يجب الكفارة على الدال وان لم يتعقبه القتل قلنا الدلالة فانية ان يكون كالرمى الى الصيد من اسباب القتل وذلك ليس بموجب للجزاء ما لم يتعقبه القتل فانه إذا لم يتعقبه القتل لم ينعقد سببا فَجَزاءٌ خبر مبتدأ محذوف يعنى فالواجب عليه جزاء او مبتدأ خبره ظرف مقدم عليه او فاعل ظرف مقدم عليه يعنى فعليه جزاء والجملة خبر لمن والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط قرأ الجمهور مضافا الى مِثْلُ ما قَتَلَ قيل الاضافة بيانية والظاهر انه اضافة المصدر الى مفعوله يعنى فعليه ان يجزى مثل ما قتل وقرأ الكوفيون فجزاء منونا ومثل مرفوعا بدلا منه او صفة له ومال القرائتين واحد معنى والمراد بالمثل القيمة عند ابى حنيفة وابى يوسف لان المثل المطلق صورة ومعنى هو المشارك فى النوع غير مراد هاهنا اجماعا فبقى ان يراد المثل معنى وهو القيمة ولان القيمة فى قتل بعض الصيد واجب اجماعا وهو ما لا يكون له مثل من النعم وما كان أصغر من الحمامة كالعصفور والجراد فلا بد ان يقال بوجوب القيمة فى الجميع كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز او عموم المشترك ولان المعهود فى الشرع فى اطلاق المثل ان يراد المشارك فى النوع او القيمة قال الله تعالى فى ضمان العدوان فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل اعتدى عليكم والمراد الأعم اعنى المماثل فى النوع إذا كان المتلف مثليا
__________
(1) عن الحكم ان عمر كتب ان يحكم عليه فى جزاء الصيد فى الخطاء والعمد 12(3/178)
والقيمة إذا كان قيميا بناء على انه مشترك معنوى وفى الحيوانات أهدر المماثلة الكائنة فى تمام الصورة اجماعا تغليبا للاختلاف الباطني بين افراد نوع واحد فجعل من القيميات فما ظنك إذا انتفى المشاركة فى النوع ايضا ولم يكن هناك الا مشاكلة فى العوارض كطول العنق والرجلين فى النعامة مع البدنة وان يعب ويهدر فى الحمامة مع الشاة وعند مالك والشافعي واحمد ومحمد بن الحسن المراد بالمثل حيوان من النعم الاهلية يشابهه الصيد المقتول من حيث الخلقة لان النبي صلى الله عليه وسلم قال الضبع صيد وفيه شاة رواه ابو داؤد عن عبد الله وكذا روى اصحاب السنن والحاكم فى المستدرك واحمد وابن حبان عن جابر ولفظ الحاكم الضبع صيد فاذا أصابه المحرم ففيه كبش ويوكل وقال صحيح الاسناد وروى مالك فى الموطأ والشافعي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب انه قضى فى الضبع بكبش وفى الغزال بمعز وروى الشافعي والبيهقي عن ابن مسعود قضى فى اليربوع بجفر او جفرة واخرج البيهقي عن ابن عباس قال فى حمامة الحرم شاة وفى البيضتين درهم وفى النعامة جزور وفى البقر بقرة وفى الحمار بقرة وروى الشافعي والبيهقي عن عثمان بن عفان انه قضى فى أم جنين بحلان من الغنم ولان قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ اى الإبل او البقر او الغنم صفة لمثل بيان له والقيمة لا يكون من النعم وأجاب الحنفية عن استدلالهم بان التقديرات المذكورة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة انما هى باعتبار القيمة دون المشاكلة الصورية وبانا لا نسلم ان قوله تعالى من النعم صفة لمثل بل هو حال من الضمير المنصوب المحذوف اى مثل ما قتله حال كون المقتول من النعم اى ذات قوائم الأربع والنعم يطلق على الوحشي كما يطلق على الأهلي كذا قال ابو عبيدة وكذا فى القاموس ويرد عليه ان الكلام فى جزاء الصيد مطلقا سواء كان من النعم او من الطير فجعله حالا من المقتول ينافى المقصود قلت وعندى انه صفة لمثل والمراد بالمثل حيوان من النعم الاهلية يماثل المقتول فى القيمة دون بعض العوارض لما ذكر ابو حنيفة من الدليل فعندى انه إذا اختار الجاني الهدى فعليه ان يهدى من النعم الأهلي امثلها وأقربها قيمة من الصيد المقتول ففى حمار الوحش وبقر الوحش وكل ما زاد قيمته على قيمة الشاة سواء كانت قيمته مثل قيمة البقر او دونه يهدى بقرة جيدة او ردية بشرط ان لا يكون قيمة الهدى اقل من قيمة الصيد وفيما زاد على البقر فى القيمة سواء كان مثل البدنة فى القيمة او اقل منها يهدى بدنة وفيما زاد على البدنة يهدى شاة مع بدنة او بقرة وشاة او بدنة(3/179)
وبقرة او بدنتين او بقرتين او شاتين او نحو ذلك يعنى يكون قيمة الهدى مثل قيمة الصيد او اكثر منه وما كان قيمته كقيمة الشاة جائز التضحية يهدى شاة كذلك وما يكون قيمته اقل من قيمة الشاة كالضبع والوبر واليربوع والغزال وأم جنين والحرباء والضب والثعلب يهدى عناقا او جفرة او حملا اعنى ما يكون قيمته كقيمة الصيد او اكثر منه من نوع الغنم وفى الحمامة وما دونه إذا اختار الهدى يهدى ادنى ما يطلق عليه اسم الشاة هذا على اصل الجمهور انه لا يشترط ان يكون الهدى جائز التضحية وهو المختار عندى للفتوى واما على اصل ابى حنيفة رحمه الله فلا بد ان يهدى فى كل ما يكون قيمته اقل من قيمة الشاة شاة جائز التضحية وبه قال مالك ان المقتول سواء كان صغيرا او كبيرا صحيحا او معيبا الواجب انما هو الهدى جائز التضحية الكبير الصحيح وجه قولهما ان مطلق الاسم ينصرف اليه ولذا لا يجوز فى هدى المتعة وسائر الجنايات فى الحج ان يهدى الا جائز التضحية لنا ان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أوجبوا عناقا وجفرة ولا نسلم ان المذكور فى النص مطلق اسم الهدى حتى ينصرف الى الكامل كما فى هدى المتعة ونحوه بل المذكور هاهنا مثل ما قتل من النعم هديا فالمراد الهدى المماثل بالمقتول اما صورة كما قال الشافعي او قيمة كما قلنا فلا وجه لايجاب الكبير جائز التضحية وما ذكرنا من التفسير للاية لا يزاحمه اقوال الصحابة فان الصحابة انما حكموا فى
الأرنب بعنز لأن العنز يماثل قيمة بقيمة الأرنب وفى الحمامة بشاة لان الشاة ادنى اقسام الهدى وأشبهها وأقربها بالحمامة قيمة بالنسبة الى البقرة والبدنة فلو أراد الهدى يهدى ادنى افراد الشاة ولا دليل على انهم اعتبروا المماثلة فى الخلقة فان قيل روى البيهقي بسند حسن عن ابن عباس وروى ايضا من عطاء الخراسانى عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية انهم قالوا فى النعامة يقتلها المحرم بدنة ورواه مالك من طريق ابى عبيدة بن عبد الله بن مسعود مكاتبة عن أبيه وقال مالك لم ازل اسمع ان فى النعامة بدنة ولا شك ان حكمهم فى النعامة ببدنة ليس الا لرعاية المشابهة فى طول العنق والرجلين دون القيمة قلنا فى الأثر ضعف وانقطاع وقال الشافعي هذا غير ثابت عند اهل العلم بالحديث وبالقياس قلنا ان فى النعامة بدنة او يقال لعل بعض افراد النعامة فى بعض الازمنة بلغ قيمة شىء من الإبل فحكم بعض الصحابة ان فى النعامة بدنة ثم تبعه جماعة من التابعين زعما(3/180)
منهم ان ذلك الصحابي انما حكم بالبدنة عملا بالمماثلة الصورية فشاع ذلك فيهم حتى قال مالك ثم ازل اسمع ان فى النعامة بدنة فان قيل روى البيهقي عن عكرمة قال جاء رجل الى ابن عباس فقال انى قتلت أرنبا وانا محرم فكيف ترى فقال هى تمشى على اربع والعناق تمشى على اربع وهى تجتر «1» والعناق تجتر ويأكل الشجر وكذا العناق اهد مكانها عناقا وهذا صريح فى رعاية المماثلة الصورية وروى ابن ابى شيبة من طريق عطاء ان رجلا اغلق بابه على حمامة وفرخيها ثم انطلق الى عرفات ومنى ورجع وقد ماتوا فاتى ابن عمر فجعل عليه ثلثة من الغنم وحكم معه رجل وروى الثوري وابن ابى شيبة والشافعي والبيهقي من حديث ابن عباس مثله وهذا ايضا يدل على ان وجوب الشاة فى الحمامة ليس من حيث القيمة والا لكفت شاة واحدة فى ثلث حمامات واكثر منها قلنا نعم بعض الآثار تدل على رعاية المشابهة فى الصورة وذلك عن راى لا عن رواية وليس علينا اتباع بعض الصحابة مع مخالفة الكتاب وقد قال الله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم ونحن نتيقن ان البدنة ليست مثلا للنعامة ولا الشاة للحمامة فى الصورة ولا فى المعنى والمشابهة فى بعض صفات لا يعبأ بها غير معتبرة عرفا ولغة والا فجميع الحيوانات لا يخلوا عن مشابهة ما فى صفة من الصفات البتة يَحْكُمُ بِهِ اى بالجزاء او بالمثل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ «2» جملة واقعة صفة للجزاء او للمثل لان المثل لا يتعرف بالاضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة او حالا من ضمير الجزاء فى خبره او منه إذا رفعته بظرف على الفاعلية قال
__________
(1) الاجترار كشيدن ونشخوار كردن شتر و چريدن 12
(2) عن ميمون بن مهران ان أعرابيا اتى أبا بكر فقال قتلت صيدا انا محرم فما ترى علىّ من الجزاء فقال ابو بكر وابى بن كعب وهو جالس عنده ما ترى فيها فقال الاعرابى أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم اسألك فاذا أنت تسأل غيرك فقال ابو بكر فما تنكر يقول الله عز وجل يحكم به ذوا عدل منكم فشاورت صاحبى حتى إذا اتفق على شىء امرناك به وعن ابى بكر المزني قال كان رجلان محرمين فحاش أحدهما ظبيا فقتله الاخر وأتيا عمر وعبد الرحمن بن عوف عنده فقال له عمر ما ترى قال شاة قال وانا ارى ذلك فاهديا شاة فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه مادرى امير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه فسمعها عمر فردهما واقبل على القائل ضربا بالدرة قال تقتلون الصيد وأنتم حرم وتغمصون الفتيا ان الله تعالى يقول يحكم به ذوا عدل منكم ثم قال ان الله لم يرض لعمر وحده فاستعنت لصاحبى 12 منه(3/181)
اكثر الحنفية الواحد يكفى لاعتبار المماثلة كما روى عن كثير من الصحابة انهم حكموا وحدانا والاثنان أحوط وابعد من الغلظ وقال الشافعي وجمهور العلماء انه يشترط العدد والعدالة وهو المختار للفتوى اتباعا للنص واقتداء بعمل الصحابة كما يشهد به الآثار روى مالك عن محمد بن سيرين ان عمر سأله رجل عن جزاء الظبى قال عمر لعبد الرحمن بن عوف تعال حتى احكم انا وأنت فحكما عليه بعنز فقال الرجل هذا امير المؤمنين لا يستطيع ان يحكم فى ظبى حتى دعا رجلا يحكم معه فسمع عمر قوله فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة فقال لا فقال عمر لو انك أخبرتني انك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا قال الله تعالى فى كتابه يحكم به ذوا عدل منكم.
(مسئلة:) اختلف القائلون بالمثل خلقة فقال مالك يحكم الحكمان فى كل زمان حكما مستانفا وقال أكثرهم ان الحكم فى ذلك ما حكم به السلف لا يتجاوز عنه وما لم يحكموا فيه يستانف فيه الحكم وما اختلف فيه مجتهد فيه وقال الثوري الاختيار فى ما اختلف فيه السلف الى الحكمين فى كل زمان والقران يبطل هذه الأقوال كلها فان الحكم فى كل زمان مستانفا غير مفيد عند اعتبار المماثلة خلقة إذ الخلقة لا تتفاوت والاخذ بما حكم به السلف يرده قوله تعالى يحكم به ذوا عدل منكم فانه يقتضى ان يحكم العدلان فى كل زمان مستانفا ولو كان الحكم مرة يكفى للابد لحكم النبي صلى الله عليه وسلم فى جميع الصيود او فى اكثر منه ولم يحتج الى حكم الحكمين فى كل مرة فالاية دليل على ان المراد بالمثل هو المثل من حيث القيمة حتى يتصور الاحتياج الى حكم الحكمين فى كل زمان ومكان لاختلاف القيمة باختلاف الازمنة والامكنة هَدْياً حال من الضمير الراجع الى الى الجزاء او الى المثل او من جزاء وان نوّن لتخصيصه بالصفة او بدل عن مثل باعتبار محله قال الشافعي وغيره هذا يدفع قول ابى حنيفة ان المراد بالمثل القيمة فان القيمة لا يكون هديا قلت ولا يرد ذلك على ما ذكرت من التفسير للمثل بالحيوان من النعم يماثل الصيد فى القيمة فانه يكون هديا على انه لو كان المراد بالمثل القيمة كما قاله ابو حنيفة فيجوز ان يكون هديا حالا مقدرة اى صائرا ذلك القيمة هديا بواسطة الشراء بها لا يقال حينئذ يحتاج الى التقدير بقوله صائرا من غير ضرورة قلنا الضرورة ثابتة لما ذكرنا وايضا التقدير لازم على تفسير الشافعي ايضا إذ لا يصح حكمهما بالهدى(3/182)
موصوفا ببلوغه الى الكعبة حال حكمهما به على التحقيق فالتقدير على تفسيركم انه يحكمان به مقدرا بلوغه فلزوم التقدير ثابت غير انه يختلف محله على الوجهين.
(مسئلة:) هل يجب فى الهدى السوق أم يجوز ان يشترى بمكة فقال مالك يجب فيه السوق عملا بظاهر قوله تعالى هديا بالِغَ الْكَعْبَةِ وصف به هديا لان إضافته لفظية وقال الجمهور لا يجب السوق بل انما ذكر قوله هديا بالغ الكعبة للدلالة على ان الحرم شرط لذبح الهدى وعليه انعقد الإجماع وكونه مهدى من خارج غير مقصود قلت والدليل على ان السوق ليس بشرط قصة حجة الوداع ان النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة قال للناس من كان منكم اهدى فانه لا يحل من شىء حرم منه حتى يقضى حجه ومن لم يكن منكم اهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهدو من لم يجد هديا فليصم وهذا صريح فى ان بعض الصحابة لم يسق الهدى واشتروا هديا بمكة ومن لم يجد هديا صام وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم هديا حيث قال ثم ليهل بالحج وليهدو قد قال الله تعالى فى التمتع ايضا فما استيسر من الهدى وما قاله مالك فيمن اشترى الهدى من الحرم الواجب ان يخرج به إذا حج الى عرفة امر لا دليل عليه.
(مسئلة) هل يجب التصدق بلحم الهدى على فقراء مكة فقال الجمهور يجب ذلك لان صفة بلوغ الهدى الكعبة يشعر ان ينفق اللحم على مساكين الحرم وقال ابو حنيفة لا يجب ذلك بل يتصدق على من يشاء من المساكين فى الحرم وغيره لان الذبح عبادة غير معقولة فلا بد فيه من رعاية المكان حتى انه من ذبح فى غير الحرم لا يجزيه الا ان يبلغ اللحم قيمة الصيد فينفقه بنية الإطعام واما انفاق اللحم فعبادة معقولة ولا دليل على التخصيص بمساكين الحرم وما ذكروا من الاشعار ممنوع أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء قرأ نافع وابن عامر بالاضافة الى طَعامُ مِسْكِينٍ اضافة بيانية والباقون بتنوين كفارة ورفع طعام على انه عطف بيان او بدل منه او خبر مبتدأ محذوف اى هى طعام مساكين وكلمة او للتخيير «1» تفيد ان الجاني مخير
__________
(1) والعطف بكلمة او للتخيير اى تخيير الجاني بين الخصال الثلاثة تخفيفا عليه كما فى خصال كفارة اليمين هذا عند ابى حنيفة وابى يوسف رح وقال محمد والشافعي رح الخيار فى تعيين شىء من الخصال الى الحكمين ولا دليل لهذا القول فى الاية بل الاية تدل على ان المراد بالمثل القيمة وتقدير القيمة مفوض الى الحكمين فاذا حكما بمقدار القيمة فالخيار الى الجاني ان شاء يشترى بها هديا بالغ الكعبة وان شاع يشترى بها طعاما للمساكين وان شاء صام مكان كل مسكين يوما ولا مدخل للحكمين فى التعيين فان الحاكم هو الله لا غير وانما التخيير للتخفيف رحمة من الله تعالى وذلك فى تخيير الجاني 12 منه(3/183)
بين ان يجزى مثل ما قتل من النعم وبين ان يكفر فيطعم المساكين وبين ان يصوم وقال الشعبي والنخعي جزاء الصيد على الترتيب والاية حجة لنا عليهما.
(مسئلة) اجمعوا على ان بناء الإطعام على القيمة وعلى ان الصيد إذا لم يكن له مثل من النعم فالمعتبر قيمة الصيد يشترى به طعاما واما إذا كان له مثل من النعم فعند الجمهور يعتبر قيمة مثله لا قيمته لان الواجب عندهم المثل لا قيمة الصيد والإطعام بدل عنه فمن قتل حمامة واختار الإطعام يطعم عندهم قيمة شاة لا قيمة حمامة إذا النظير هو الواجب عينا وعند ابى حنيفة رح يعتبر قيمة الصيد مطلقا لانها هو الواجب عنده واما على ما قلت ان الواجب على تقدير اختيار الهدى مثله من النعم فالمراد مثله فى القيمة فما زاد الهدى على قيمة الصيد انما التزمه تطوعا او لزمه ضرورة عدم التجزى فى الهدى ولا ضرورة ولا التزام عند اختيار الإطعام فيعتبر قيمة الحمامة لا قيمة الشاة لان المتلف هو المضمون فلا معنى لتقويم غيره لجبره ولا نسلم ان النظير هو الواجب عينا فانه من قتل حمامة لو اهدى بعيرا أجزأه البتة ولو كانت الشاة هى الواجبة عينا لم يجزه البعير على ان القول بان النظير هو الواجب عينا لا يتصور الا إذا كان الواجب على الترتيب كما قال الشعبي والنخعي فيجب اولا النظير فان لم يجد النظير يقضيه بالاطعام وان لم يجد فبالصيام قضاء غير معقول وليس كذلك بل الواجب أحد الخصال الثلاثة على التخيير كما ذكرنا فاعتبار احدى الخصال فى الاخرى بلا دليل شرعى باطل وانما اعتبر قدر الإطعام فى الصيام بقوله تعالى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ الطعام صِياماً معطوف على جزاء قال الفراء العدل بالكسر المثل من جنسه وبالفتح المثل من غير جنسه.
(مسئلة:) اختلفوا فى مقدار طعام كل مسكين فقال الشافعي ليطعم كل مسكين مدا كما هو كذلك عنده فى كفارة الصوم والظهار واليمين وقال ابو حنيفة يطعم كل(3/184)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
مسكين نصف صاع من بر او صاعا من شعير او تمر كما هو عنده فى صدقة الفطر وحمل على ذلك الكفارات كلها والاولى ان يقال نصف صاع من غالب قوت البلد للاجماع على انه هو المقدار للاطعام فى باب الجنايات إذا حلق المعذور راسه حيث امر النبي صلى الله عليه وسلم كعبا بتفريق الفرق بين ستة وقد مر الحديث فى سورة البقرة والحمل على هذا اولى من الحمل على صدقة الفطر لاتحاد جنس الجناية ويشترط عند الجمهور للاطعام مساكين الحرم كما فى انفاق لحم الهدى ولا يشترط ذلك عند ابى حنيفة لما قلنا.
(مسئلة:) ولو كان قيمة الصيد اقل من طعام مسكين واحد او فضل شىء يسير من طعام مسكين او مساكين يعطى ذلك القدر اليسير مسكينا ولا يجب عليه جبر الكسر اجماعا وان صام عنه صام يوما لان الصوم لا يتجزى وكذا لو اهدى يهدى ادنى ما يطلق عليه اسم الشاة على ما قلت وشاة جائز للتضحية عند ابى حنيفة ومالك لِيَذُوقَ متعلق بمحذوف يعنى أوجبنا ذلك الجزاء او الكفارة ليذوق الجاني وَبالَ أَمْرِهِ اى ثقل فعله وسوء عاقبته هتكه حرمة الله واصل الوبل الثقل يقال طعام وبيل اى ثقيل ومنه أخذناه أخذا وبيلا عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد محرما فى الجاهلية او قبل التحريم او فى هذه المرة وَمَنْ عادَ الى قتل الصيد بعد ذلك المرة فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه لان الفاء لا تدخل على المضارع إذا وقع جزاء ذهب ابن عباس على ظاهر هذه الاية حيث روى عنه انه إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأله هل قتلت قبله شيئا من الصيد فان قال نعم لم يحكم وقال له اذهب فينتقم الله منك وان قال لم اقتل قبله شيئا من الصيد حكم عليه فان عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا كذا قال البغوي قلت والاولى ان يقال فى تفسير الاية عفا الله عما سلف بأداء الجزاء ومن عاد فينتقم الله منه يعنى يوجب عليه الجزاء مرة ثانية فان لم يود الجزاء يعذبه فى الاخرة وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ممّن أصر على عصيانه.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ اى الاصطياد «1» من البحر لانه هو المراد من صيد «2» البر كما سنذكر وَطَعامُهُ
__________
(1) وعن انس عن ابى بكر الصديق فى الاية قال صيده ما حويت عليه وطعامه ما لفظ إليك رواه ابو الشيخ 12 منه
(2) عن الحارث بن نوفل قال حج عثمان بن عفان فاتى بلحم صيد صاده حلال فاكل منه عثمان ولم يأكل على فقال عثمان والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا فقال على وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وعن الحسن ان عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسا بلحم الصيد للمحرم إذا صيد لغيره وكرهه ابن ابى طالب رواه ابن ابى شيبة 12 منه(3/185)
اى ما يطعم منه الضمير اما عائد الى الصيد او الى البحر اى ما يطعم من صيد البحر او من البحر وقيل المراد بصيد البحر كل حيوان لا يعيش الا فى الماء وطعامه أكله واحتج به مالك على جواز أكل كل حيوان بحرى وقد مرت المسألة فى أول السورة وقال عمر رضى الله عنه صيد البحر ما اصطيد وطعامه ما رمى به وعن ابن عباس وابن عمر وابى هريرة طعامه ما قذفه الماء الى الساحل ميتا وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعكرمة وقتادة والنخعي ومجاهد صيده طريه وطعامه مالحه مَتاعاً لَكُمْ مفعول له لاحلّ يعنى أحل ذلك تمتيعا لكم اى للمقيمين منكم يأكلونه طريا وَلِلسَّيَّارَةِ اى للمسافرين منكم يتزودونه قد يدا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً قيل معنى الاية حرم صيد البر مطلقا على المحرم وان اصطاده حلال من غير امر المحرم ولا اعانته ولا إشارته ولا لاجله يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول طاووس وسفيان الثوري ويويده حديث ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي انه اهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء او بودان فرد عليه فلما رأى ما فى وجهه قال انا لم نرده عليك الا انا حرم متفق عليه وعند النسائي لا تأكل الصيد وفى رواية سعيد عن ابن عباس لولا انا محرمون لقبلناه منك وأجيب بما ترجم البخاري فى الباب انه حمل الحديث على ان الحمار كان حيا والمحرم لا يجوز له ذبح الصيد الحي كذا نقلوا التأويل عن مالك وهذا التأويل لا يصح لانه رواه إسحاق فى مسنده بسنده عن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن الزهري فقال لحم حمار واخرج الطبراني عن الزهري فقال رجل حمار وحش وفى رواية عند مسلم عجز حمار وحش تقطر دما وفى رواية عند مسلم رجل حمار وحش واخرج مسلم من طريق حبيب بن ابى ثابت عن سعيد فقال تارة حمار وحش وتارة شق حمار وحش واتفقت الروايات كلها على انه رده الا ما رواه وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن امية ان النبي صلى الله عليه وسلم اهدى له عجز حمار وحش وهو بالجحفة فاكل منه وأكل القوم والجمع بينهما بالحمل على القصتين اولى لان القصة المروية فى الصحيحين كانت بالأبواء او بودان وفى رواية وهب انه بالجحفة وبين الجحفة(3/186)
والأبواء ثلثة وعشرون ميلا وبين جحفة وودان ثمانية أميال وفى الباب حديث على قال انشد من كان هاهنا من أشجع أتعلمون ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اهدى اليه عضو صيد فلم يقبله قال انا حرم قال نعم رواه ابو داؤد والطحاوي وروى مسلم نحوه لكن اجمع المسلمون بعد القرن الاول ان ما صاده الحلال لاجل نفسه يحل للمحرمين أكله وقد صح الأحاديث ان النبي صلى الله عليه وسلم أكل من لحم الصيد وامر أصحابه باكله منها حديث ابى قتادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا ما بقي من لحمها وفى بعض الروايات الصحيحة ان النبي صلى الله عليه وسلم أكلها ومنها ما ذكرنا من حديث الصعب بن جثامة انه وقع فى بعض رواياته ان النبي صلى الله عليه وسلم أكل منها ومنها ما رواه مسلم عن معاذ ابن عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن أبيه قال كنا مع طلحة بن عبد الله ونحن حرم فاهدى له طير وطلحة راقد فمنا من أكل ومنا من تورع فلما استيقظ طلحة وافق من أكله وقال أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها حديث عمرو بن سلمة الضميري عن البهزى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحا إذا حمار وحشي عقير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه فانه يوشك ان يأتى صاحبه فجاء البهزى وهو صاحبه فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم شانكم بهذا الحمار فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق الحديث رواه مالك واصحاب السنن وصححه ابن خزيمة فتفسير الاية وحرم عليكم صيد البر أي اصطياده.
(مسئلة) ما اصطاد الحلال لاجل المحرم اختلف فيه فقال ابو حنيفة يحل أكله مطلقا حتى يحل لمن صيد لاجله ايضا وقال مالك لا يحل أكله لا للحلال ولا للمحرم وقال الشافعي واحمد ما صيد لاجل المحرم قبل إحرامه او بعده يحرم على ذلك المحرم أكله ولا يحرم أكله لغير المحرم ولا لمن لم يصد له من المحرمين ومذهب الشافعي واحمد مروى عن عثمان روى مالك فى الموطإ عن عبد الله بن ابى بكر عن عبد الله بن عامر قال رايت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم فى صائف قد غطى وجهه بقطيفة ثم اتى بلحم صيد فقال لاصحابه كلوا فقالوا اولا تأكل أنت قال لست كهيئتكم انما صيد من اجلى وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه أكل من لحم الصيد وروى انه رده ولم يأكله قال الائمة الثلاثة وجه الجمع بين الروايتين انه أكل ما صاده الحلال لاجل نفسه ولم يأكل(3/187)
ما صاد لاجل رسول الله صلى الله عليه وسلم او لغيره من المحرمين قلنا لا دليل فى شىء من الأحاديث المذكورة على هذا التفصيل ووجه الجمع عندى ان أكل لحم الصيد مطلقا إذا صاده الحلال مباح للمحرم لكن تركه أفضل فبالاكل تارة علّم النبي صلى الله عليه وسلم الجواز وبترك الاكل منه اخرى نبه على الاستحباب فان قيل إذا تعارض الأحاديث ولا ترجيح كان القياس الاخذ بالمحرم احتياطا قلنا نعم لكنا انما لم نقل هكذا حتى لا يلزمنا مخالفة الإجماع فانهم اجمعوا على ان أكل بعض الصيد للمحرم حلال احتج الائمة الثلاثة على حرمة ما صيد لاجل المحرم بحديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوا او يصاد لكم أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة واحمد نحوه قال مالك سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين ما صاده المحرم وما صيد له حالة إحرامه فثبت ان ما صيد لاجل المحرم حكمه حكم ما صاده المحرم بنفسه فهو حرام على جميع الناس كالميتة وقال الشافعي واحمد ان انقسام الآحاد على الآحاد يقتضى ان كل محرم يحرم عليه ما صاده وما صيد له واما ما صاده محرم غيره او حلال او صيد لغيره من محرم او حلال فلا يثبت من هذا الحديث فيه شىء وانما يعرف حكمه من خارج وقلنا هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج فان مداره على عمرو بن ابى عمرو فرواه احمد عنه عن رجل من الأنصار عن جابر ورواه الترمذي وغيره عنه عن المطلب عن جابر ففى رواية احمد راوى عن جابر مجهول وفى رواية الترمذي قال الترمذي لا يعرف للمطلب سماع من جابر ثم عمرو بن ابى عمرو وهو مولى المطلب قال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه وقال مرة هو وابو داؤد انه ليس بالقوى لكن قال احمد ما به بأس ثم هو استدلال بمفهوم الغاية والاستدلال بالمفهوم لا يجوز عندنا وقد يحتجون بحديث ابى قتادة قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فاحرم أصحابي ولم احرم فرايت حمارا فحملت عليه فاصطدته فذكرت شانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت انى لم أكن أحرمت وانى انما اصطدته لك فامر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فاكلوا او لم يأكل منه حين أخبرته انى اصطدته لك أخرجه إسحاق وابن خزيمة والدارقطني والجواب انه قال ابن خزيمة وابو بكر النيسابورى والدارقطني انه تفرد بهذه الزيادة معمر ولا اعلم أحدا ذكر قوله اصطدته لك وقوله ولم يأكل منه غيره فلعل هذا من اوهامه(3/188)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قال الذهبي معمر بن راشد له أوهام قلت وقد ورد فى الروايات المتفقة على صحتها ان النبي صلى الله عليه وسلم أكلها وما استدلوا برواية معمر حجة على مالك لا له حيث قال فامر أصحابه فاكلوا فان مالكا يجعل ما صيد لاجل المحرم حراما على جميع الناس.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اى صير اللَّهُ الْكَعْبَةَ سميت لتربعها والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة وقال مقاتل سميت كعبة لانفرادها من البناء وقيل سميت كعبة لارتفاعها من الأرض وأصلها الخروج والارتفاع ومنه سمى الكعب فى الرجل كعبا لارتفاعه من جانبى القدم ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها تكعبت الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح او بدل او المفعول الثاني سمى به لان الله حرمه وعظم حرمته قال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض قِياماً لِلنَّاسِ منصوب على انه مفعول ثان او حال قرأ ابن عامر قيما بلا الف والباقون بالألف اى قواما لهم وهو ما يقوم به امر دينهم ودنياهم اما الدين فلان به يقوم الحج والمناسك واما الدنيا فلانهم كانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ولا يتعرض أحد لهم فى الحرم وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يعنى جنس الأشهر الحرم وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم جعلها قياما للناس يأمنون فيه من القتال وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ سبق تفسيرها فى اوّل السورة يأمنون الناس بها من التعرض ذلِكَ اشارة الى الجعل او الى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره وقال الزجاج راجع الى ما سبق فى هذه السورة من الاخبار عن الغيوب وكشف الاسرار مثل قوله سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ومثل اخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فان شرع الاحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليهما دليل على حكمة الشارع وكمال علمه وكذا الاخبار بالغيب دليل على علمه الكامل الشامل وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد اطلاق.
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد ووعيد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها ولمن أصر عليها ولمن انقلع عليها اخرج ابو الشيخ عن الحسن ان أبا بكر الصديق(3/189)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
حين حضرته الوفاة قال الم تر ان الله ذكر اية الرخاء عند اية الشدة واية الشدة عند اية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا لا يتمنى على الله غير الحق ولا يلقى بايديه الى التهلكة.
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وقد فرغ الرسول ما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولا عذر لكم فى التفريط فيه تشديد فى إيجاب القيام بما امر به وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة اخرج الواحدي والاصبهانى فى الترغيب عن جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر تحريم الخمر فقام أعرابي فقال انى كنت رجلا كانت هذه تجارتى فاعتقيت منها ما لا فهل ينفع ذلك المال ان عملت فيه بطاعة الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله لا يقبل الا الطيب فانزل الله تصديقا لرسوله.
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ «1» وَالطَّيِّبُ لفظه عام فى نفى المساوات عند الله بين الردى من الاشخاص والأعمال وبين جيدها رغب به فى صالح العمل والحلال من المال وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فان العمل القليل الصّالح بالإخلاص خير من كثير بلا اخلاص وانفاق مال قليل حلال خير من الكثير الحرام عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة ولا يقبل الله الا الطيب فان الله يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل متفق عليه والمخلصون والصالحون من الناس خير عند الله من ملأ الأرض من الخبيثين عن سهل بن سعد قال مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك فى هذا فقال رجل من اشراف الناس هذا والله حرى ان خطب ان ينكح وان شفع ان يشفع قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيك فى هذا فقال يا رسول الله رجل من فقراء المسلمين هذا حرى ان خطب ان لا ينكح وان شفع ان لا يشفع وان قال
__________
(1) اخرج ابن ابى حاتم ثنا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب ثنى يعقوب الإسكندر انى قال كتب الى عمر بن عبد العزيز بعض عماله ان الخراج قد انكسر فكتب اليه عمر ان الله يقول لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فان استطعت ان تكون فى العدل والإحسان والإصلاح بمنزلة من كان قبلك فى الظلم والفجور والعدول فافعل ولا قوة الا بالله 12 منه(3/190)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
لا يسمع لقوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير من ملأ الأرض مثل هذا متفق عليه فَاتَّقُوا اللَّهَ حتى تكونوا عند الله من الطيبين واثروا الطيب وان قل من العمل والمال على الخبيث وان كثر قال البغوي يعنى فاتقوا الله ولا تتعرضوا للحجاج وان كانوا مشركين وقد مضت قصة شريح فى اوّل السورة يا أُولِي الْأَلْبابِ اصحاب العقول السليمة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ع اى راجين ان تبلغوا الفلاح بالتقوى روى احمد والترمذي والحاكم عن على عليه السّلام وابن جرير مثله من حديث ابى هريرة وابى امامة وابن عباس انه لما نزلت ولله على الناس حج البيت قالوا يا رسول الله فى كل عام فسكت قالوا يا رسول الله فى كل عام قال لا ولو قلت نعم لوجبت وفى رواية قال النبي صلى الله عليه وسلم ما يومنك ان أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سوالهم واختلافهم على أنبيائهم فاذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه فانزل الله تعالى عز وجل.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ والقائل عكاشة بن محصن كذا فى حديث ابى هريرة عند ابن جرير يعنى لا تسألوا عن أشياء يشق عليكم إتيانها كالحج فى كل عام قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين أصله شئياء على وزن فعلاء بهمزتين بينهما الف وهمزته الثانية للتأنيث ولذا لم ينصرف كحمراء وهى مفردة لفظا جمع معنى يعنى اسم جمع ولما استثقلت الهمزتان المجتمعان قدمت الاولى التي هى لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها لفعاء وقيل أصله أشياء على وزن افعلاء جمع لشىء على ان أصله شيئ كهيئ او شييئ كصديق فخفف وقيل افعال جمع لشئ من غير تغيير كبيت وأبيات ومنع عن الصرف على الشذوذ لعدم السببين إِنْ تُبْدَ لَكُمْ اى تظهر لكم ذلك الأشياء الشاقة بان تومروا بإتيانها تَسُؤْكُمْ اى تغمكم ويصعب عليكم إتيانها وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها عن هذه التكليفات الشاقة حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ والرسول بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ يعنى يحتمل ان تبد لكم وتومروا بما سألتم من التكاليف الشاقة الجملتان الشرطيتان المتعاطفتان صفتان لاشياء وهما كالمقدمتين المنتجتين لمنع السؤال.
(مسئلة) الأمر المطلق لا يقتضى التكرار على اصل ابى حنيفة ولا يحتمله فمعنى(3/191)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
قوله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت وقوله تعالى ان تبد لكم تسؤكم انه لو قال النبي صلى الله عليه وسلم نعم يجب الحج كل عام ويظهر ذلك الأمر لكان ناسخا للامر المطلق لا بيانا له ويدل عليه قوله تعالى وان تسألوا عنها حين ينزل القران تبد لكم فانه لو كان بيانا لامتنع تاخره عن وقت الحاجة من غير سؤال ولان البيان قد يكون بالعقل والتأمل وتتبع اللغة وبما ذكرنا ظهر ان السؤال والاستفسار للمجمل او المشكل او الخفي لا بأس به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما شفاء العي السؤال وانما الممنوع السؤال عن تكليف لم يرد الشرع به كالحج فى كل عام وكالسؤال عن لون البقرة المامورة ذبحها لبنى إسرائيل ونحو ذلك عَفَا اللَّهُ عَنْها اى عن الأشياء الشاقة المذكورة حيث لم يأمر بإتيانها صفة اخرى لاشياء وجاز ان يكون استينافا اى عفا الله عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا الى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بتفريط وافراط منكم ويعفوا.
قَدْ سَأَلَها «1» الضمير راجع الى الأشياء بحذف الجار اى عنها او الى المسألة التي دل عليها لا تسألوا «2» فلم يعد بعن قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ قال البيضاوي الظرف متعلق بسألها وليس صفة لقوم لان ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها وقيل فيه نظر لان الظرف يسند الى الجثة التي لا يتعين وجودها فيه نحو الهلال يوم الجمعة فيصح كونه صفة لقوم سأل بنو إسرائيل حين أمروا بذبح البقرة بما هى وما لونها وما هى فشق ذلك عليهم وسأل ثمود صالحا الناقة وقوم عيسى المائدة وسأل بنو إسرائيل بعد موسى ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله مع جالوت ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها اى بمسبها كافِرِينَ حيث لم يأتمروا بما أمروا بعد سوالهم قال ابو ثعلبة الخشني ان الله فرض فرايض فلا تسبقوها يعنى بالسؤال ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدود أفلا تعتدوها
__________
(1) قال قتادة فى قراءة ابى بن كعب قد سألها قوم بنيت لهم فاصبحوا بها كافرين أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما 12 منه
(2) عن ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام اليه رجل فقال اين ابائى قال فى النار فقام اخر فقال من ابى فقال أبوك فلان فقام عمر بن الخطاب فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقران اماما انا يا رسول الله حديث عهد بالجاهلية والشرك والله اعلم من آبائنا فسكن غضبه ونزلت يا ايها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء الاية 12 منه(3/192)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
وعفا عن أشياء بغير نسيان فلا تبحثوا عنها وروى البخاري عن قتادة عن انس بن مالك قال سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احفوه بالمسألة فغضب فصعد المنبر فقال لا تسألونى اليوم عن شىء إلا بينته لكم فجعلت انظر يمينا وشمالا فاذا كل رجل لان راسه فى ثوبه يبكى فاذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال يا رسول الله من ابى قال حذافة ثم انشأ عمر فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا نعوذ بالله من الفتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رايت فى الخير والشر كاليوم قط انه صورت لى الجنة والنار حتى رايتهما وراء الحائط وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الاية يا ايها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء الاية وقال يونس عن ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبد الله قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة ما سمعت بابن قط اعق منك امنت ان تكون أمك قد فارقت بعض ما تقارف نساء اهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس قال عبد الله بن حذافة والله لو الحقنى بعبد اسود للحقته وروى ان عمر قال يا رسول الله انا حديث العهد بالجاهلية فاعف عنا يعف الله سبحانه عنك فسكن غضبه وروى البخاري ايضا عن ابن عباس قال كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل من ابى ويقول الرجل ضلت ناقة اين ناقتى فانزل الله تعالى هذه الاية قال الحافظ ابن حجر لا مانع ان تكون نزلت فى الامرين وحديث ابن عباس فى ذلك أصح اسنادا قلت وقصة السؤال عن الحج فى كل عام أوفق بسياق الكتاب وانكانت الاية نزلت فى السؤال عن أبيه فمعنى لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم انه ان تبد لكم نسبكم الى غير أبيكم تفضحوا وتسؤكم وقال مجاهد هذه الاية نزلت حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام الا تراه ذكرها.
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ كلمة من زائدة يعنى ما شرع هذه الأشياء ووضع لها احكاما قال ابن عباس البحيرة الناقة التي ولدت خمسة ابطن كانوا بحروا اذنها اى شقوها وتركوا الحمل عليها ولم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلاء فان كان خامس ولدها ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء وان كان أنثى بحروا اذنها اى شقوها قال ابو عبيدة السائبة البعير الذي يسيب وذلك ان الرجل(3/193)
من اهل الجاهلية إذا مرض او غاب له قريب نذر فقال ان شفانى الله او شفى مريضى أورد غائبى فناقتى هذه سائبة ثم تسيب فلا تحبس عن رعى وماء ولا يركبها أحد فكانت بمنزلة البحيرة وقيل الناقة إذا نتجت ثنتى عشرة إناثا سيبت ولم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها الا ضيف فما نتجت بعد ذلك شق اذنها ثم خلى مع أمها فهى البحيرة بنت السائبة فعل بها كما فعل بامها وقال علقمة العبد يسيب على ان لا ولاء عليه ولا عقل ولا ميراث وقال عليه السلام الولاء لمن أعتق والسائبة الفاعلة بمعنى المفعولة وهى المسيبة نحو عيشة راضية اى مرضية واما الوصيلة فمن الغنم كان الشاة إذا ولدت سبعة ابطن نظروا فان كان السابع ذكرا ذبحوه فاكله الرجال والنساء وان كانت أنثى تركوها فى الغنم وانكانت ذكرا مع أنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى وقالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه وكان لبن الأنثى حراما على النساء فان مات منها شىء أكله الرجال والنساء جميعا واما الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال إذ انتج من صلبه عشرة ابطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من كلأ ولا ماء فاذا مات أكله الرجال والنساء روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لالهتهم لا يحمل عليها شىء والوصيلة الناقة البكر تبكر فى أول نتاج الإبل ثم تثنى بعده بالأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ان وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فاذا قضى ضرابه دعوه للطواغيت واعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شىء وسموه بالحام قال ابو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رايت عمرو بن عامر الخزاعي يجز قصبه فى النار كان أول من سيب السوائب قال البغوي روى عن محمد بن إسحاق عن محمد بن ابراهيم التيمي عن ابى صالح السمان عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاكثم بن جون الخزاعي يا أكثم رايت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار فما رايت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك انه أول من غير دين اسمعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامى فلقد رأيته فى النار يؤذى اهل النار بريح قصبه فقال أكثم أيضرني شبهه يا رسول الله فقال لا انك مؤمن وهو كافر وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى(3/194)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
اللَّهِ الْكَذِبَ
فى قولهم ان الله أمرنا بها وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وجه التحليل والتحريم بل يقلدون كبارهم الجهال وفيه اشارة ان بعضهم يعرفون بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء ان يعترفوا به.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ فى التحليل والتحريم قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا حسبنا مبتدأ والخبر ما وجدنا يعنى الذي وجدنا عليه آباءنا بيان «1» لقصور عقلهم وان لا استدلال لهم سوى التقليد أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ الواو للحال والهمزة دخلت عليها لانكار التقليد على هذا الحال يعنى ايحسبهم ما وجدوا عليه اباؤهم ولو كانوا جهلة ضالين يعنى اى يحسبهم الجهل والضلال الذي كان عليه اباؤهم والحاصل ان الاقتداء لا يليق الا بالعلماء المهتدين.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الجار والمجرور اسم فعل جعلا اسما لالزموا فلذلك نصب أنفسكم يعنى الزموا إصلاحها واحفظوها لا يَضُرُّكُمْ يحتمل الرفع على انه مستانف والجزم على انه جواب امر او على انه نهى ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قيل نزلت الاية لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفار ويتمنون ايمانهم اخرج احمد والطبراني وغيرهما عن ابى عامر الأشعري قال سالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية فقال لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم وقال مجاهد وسعيد بن جبير الاية فى اليهود والنصارى يعنى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من اهل الكتاب إذا اهتديتم فخذوا منهم الجزية واتركوهم وقيل كان الرجل إذا اسلم يقال سفهت أباك اخرج ابن ابى حاتم عن عمر مولى عفرة قال انما نزلت هذه يا ايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لان الرجل كان ليسلم ويكفر أبوه او اخوه فلما دخل فى قلوبهم حلاوة الايمان دعوا ابائهم وإخوانهم الى الإسلام فقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فانزل الله هذه الاية وليست الاية فى ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لان من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على حسب طاقته عن ابى بكر
__________
(1) اخرج ابن ابى حاتم عن عمر مولى عفرة قال انما نزلت هذه الاية يايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لان الرجل كان يسلم ويكفر أبوه او اخوه فلما دخل فى قلوبهم حلاوة الايمان دعوا آباءهم وإخوانهم الى الإسلام فقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فانزل الله هذه الاية 12 [.....](3/195)
الصديق رضى الله عنه قال يا ايها الناس انكم تقرءون هذه الاية يا ايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وانكم تضعون على غير موضعها فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله بعقابه رواه ابن ماجة والترمذي وصححه وفى رواية ابى داؤد إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك ان يعمهم الله بعقاب وفى اخرى له ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على ان يغيروا ثم لا يغيرون الا يوشك ان يعمهم الله بعقاب وفى اخرى له ما من قوم يعمل فيهم المعاصي وهم اكثر ممن يعمله الحديث وفى رواية ليأمرون بالمعروف ولينهن عن المنكر او ليسلطن سبحانه عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب ثم ليدعن الله عز وجل خياركم فلا يستجاب لكم وقال البغوي روى عن ابن عباس انه قال فى هذه الاية مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فان رد عليكم فعليكم أنفسكم ثم قال ان القران نزل منه اى قد مضى تأويلهن قبل ان ينزلن ومنه اى وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه اى وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه اى يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه اى يقع تأويلهن فى اخر الزمان ومنه اى يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم واهوائكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فامروا وانهوا وإذا اختلفت القلوب والأهواء والبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرأ ونفسه فعند ذلك جاء تاويل هذه الاية وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن ابى حاتم وابو الشيخ والبيهقي فى الشعب عن ابى العالية هذه القصة عن عبد الله بن مسعود وروى الترمذي وابن ماجة عن ابى ثعلبة الخشني فى قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال اما والله لقد سالت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رايت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى راى برايه ورايت امر الابد لك منه فعليك نفسك ودع امر العوام فان ورائكم ايام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن اجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قالوا يا رسول الله اجر خمسين منهم قال اجر خمسين منكم وقيل نزلت الاية فى اهل الأهواء قال ابو جعفر الرازي دخل على صفوان بن محرز شاب من اهل(3/196)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
الأهواء فذكر شيئا من امره فقال صفوان الا ادلك على خاصة الله تعالى خص بها أوليائه يا ايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً الضال والمهتدى فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجزى كل على حسب عمله ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره فيه وعد ووعيد للفريقين ذكر البغوي واخرج نحوه البخاري وابو داؤد والترمذي عن ابن عباس رضى الله عنهما ان تميما الداري وعدى بن بدا خرجا الى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل ودوّن ما معه فى صحيفة وطرحها فى متاعه ولم يخبرهما به واوصى إليهما ان يدفعها متاعه الى اهله ومات بديل ففتّشا متاعه وأخذا منه اناء فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما فانصرفا الى المدينة فدفعا الى اهل الميت ففتّشوا فاصابوا صحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاؤا تميما وعديا فقالوا هل باع صاحبنا شيئا من متاعه قالا لا قالوا فهل اتجر تجارة قالا لا قالوا فهل طال مرضه فانفق على نفسه قالا لا فقالوا انا وجدنا فى متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وانا قد فقدنا منها اناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال من فضة قالا لا ندرى انما اوصى لنا بشئ فامرنا ان ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا من علم بالاناء فجحدوا فترافعوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ شهادة بينكم مبتدأ خبره اثنان بحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه تقديره شهادة بينكم شهادة اثنين لفظه خبر ومعناه امر اى ليشهد اثنان وجاز ان يكون اثنان فاعل المصدر يعنى شهادة بينكم والمصدر مبتدا خبره محذوف مقدم عليه تقديره فيما أمرتم شهادة اثنين اى ان يشهد اثنان واتسع فى بين فاضيف اليه المصدر والمراد بالشهادة الاشهاد بمعنى الإحضار للايصاء إليهما يدل عليه سياق القصة المنزلة فيها كما فى قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وعدد الاثنان مبنى على الأحوط والواحد يكفى للوصية اجماعا وإذا حضر ظرف الشهادة اى الاشهاد ومعنى إذا حضر أحدكم الموت إذا ظهرت اماراته وقوله حين الوصية ظرف لحضر او بدل من إذا حضر وفى إبداله تنبيه على ان الوصية مما ينبغى ان لا يتهاون فيه(3/197)
يعنى وقت حضور الموت وقت الوصية ضرورة ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ اى من اهل دينكم يا معشر المؤمنين صفتان للاثنان فان المسلمين العدول اولى للاستيمان أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ مرفوع بفعل مضمر يفسره ما بعده ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ اى سافرتم فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فاوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما لكم فاتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة وأنكر الخيانة يدل على هذا التقدير سبب النزول حيث أصاب اهل بديل الصحيفة فطالبوهما الإناء فجحد الوصيان تَحْبِسُونَهُما صفة لاثنان او آخران يعنى لكل اثنين عادلين من الحاضرين للايصاء سواء كان منكم او من غيركم ولا وجه لجعله صفة لاخرين فقط والمعنى تقفون الوصيين المنكرين للخيانة مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من زائدة والمراد بالصلوة صلوة العصر لانه وقت اجتماع الناس وتصادم ملئكة الليل وملئكة النهار وقيل اى صلوة كان فَيُقْسِمانِ اى الوصيان بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى ان ارتاب الوارث منكم ويتهم الوصيين بالخيانة وينكر انها يستحلف الوصيين الحاكم فيقسمان بالله وان لم يرتابوا ولم يتهموا فلا حاجة الى تحليفهما فقوله ان ارتبتم اعتراض وجواب القسم لا نَشْتَرِي بِهِ اى لا نستبدل بالقسم او بالله ثَمَناً عرضا من الدنيا اى لا نحلف بالله كاذبا لطمع وَلَوْ كانَ الوصي ذا قُرْبى من الميت وادعى الورثة عليه الخيانة يعنى الاستخلاف لا يختص بالاجنبى عند انكار الخيانة والله اعلم وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ اى الشهادة التي امر الله بإقامتها والمراد بالشهادة هاهنا اظهار الحق والاخبار بالصدق ولو على أنفسهم قرأ يعقوب شهادة الله ممدودا جعل همزة الاستفهام عوضا عن حرف القسم اى والله إِنَّا إِذاً اى إذا كتمنا الحق لَمِنَ الْآثِمِينَ فلما نزلت هذه الاية فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوة العصر دعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا اله الا هو انهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم وجد الإناء فى أيديهما بعد ما طال الزمان وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس انه وجد بمكة فقالوا اشترينا عن تميم وعدى فبلغ ذلك بنى سهم فاتوهم فى ذلك فقالا انا كنا اشترينا منه هذا فقالوا الم تزعما ان صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه قالا لم يكن(3/198)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
عندنا بينة فكرهنا ان نقر لكم به فكتمنا لذلك فرفعوهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
فَإِنْ عُثِرَ اى اطلع واصل العثر الوقوع على الشيء عَلى أَنَّهُمَا يعنى الوصين اسْتَحَقَّا اى استوجبا وفعلا ما أوجب إِثْماً بخيانتهما وإيمانهما الكاذبة وادعيا دعوى بالشراء او نحو ذلك ليدفع عنهما تهمة الخيانة فَآخَرانِ فشاهدان اخر ان يَقُومانِ ليحلفا مَقامَهُما مقام الوصيين سمى الاثنان من الورثة شاهدين لانهما بدعوى حقهما وتصديق الشرع لهما فى ان الحق لهما يظهر ان اثم الشاهدين السابقين كانهما شاهدان على إثمهما وتخصيص الحلف باثنين من أقارب الميت لخصوص الواقعة التي نزلت لها فانكان وارث الميت واحد أيحلف هو او اكثر من الاثنين يحلفوا جميعا حيث أنكروا ما ادعيا الوصيان من الشراء من الميت او نحو ذلك مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ قرأ حفص على البناء للفاعل يعنى من اهل الميت الذين استحق عَلَيْهِمُ اى على الورثة الْأَوْلَيانِ من بين الورثة بالشهادة وذلك بسبب كونهما اقرب الى الميت غير محجوبين بغيرهما من الورثة استحقا على سائر الورثة بان يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الوصيين وعلى هذه القراءة الاوليان فاعل لاستحق والجار والمجرور متعلق به وقرأ الباقون استحقّ على البناء للمفعول أسند الى عليهم وعلى حينئذ بمعنى فى كما فى قوله تعالى على ملك سليمان اى فى ملكه يعنى استحق الحالفان الإثم فيهم اى بسببهم والاوليان صفة للاخرين وانما جاز ذلك مع ان الاوليان معرفة وآخران نكرة لانه لما وصف الآخران بقوله تعالى من الذين صار معرفة والظاهران أوليان بدل من آخران او من الضمير فى يقومان ولا يلزم خلو الصفة عن الضمير لان المبدل منه موجود وان كان فى حكم المطروح ولكون البدل عين المبدل منه فهو يسد مسده كالظاهر موضع الضمير او خبر مبتدأ محذوف اى هما الاوليان والمراد بالاوليان الاقربان الى الميت الذين لم يحجبهما غيرهما وقرأ ابو بكر عن عاصم وحمزة ويعقوب الأولين على انه صفة الذين او بدل منه او من الأولين الذين استحق عليهم وسموا أولين لانهم كانوا أولين فى الذكر فى قوله شهادة بينكم فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ على خيانة الوصيين وكذبهما فى دعوى الشراء ونحو ذلك ويقولان لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما يعنى يميننا أحق بالقبول من يمينهما كما فى قوله تعالى(3/199)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
فشهادة أحدهم اربع شهادات بالله انه لمن الصادقين وَمَا اعْتَدَيْنا اى ما تجاوزنا الحق فى أيماننا إِنَّا إِذاً اى إذا اعتدينا لَمِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين الباطل موضع الحق فلما نزلت هذه الاية قام رجلان من اولياء السهمي فحلفا هكذا فى رواية البخاري وفى رواية الترمذي فقام عمرو بن العاص ورجل اخر منهم فحلفا وسمى البغوي الاخر المطلب بن وداعة السهمي حلفا بالله بعد العصر ولعل حلف السهميان على عدم علمهما ببيع بديل الإناء من الوصيين وروى الترمذي وضعفه غيره من حديث ابن عباس عن تميم الداري فى هذه الاية قال يرى الناس منها غيرى وغير عدى بن بدا كنا نصرانيين يختلفان الى الشام قبل الإسلام فاتينا الشام لتجارتنا وقدم علينا مولى لبنى سهم يقال له بديل بن ابى مريم بتجارة ومعه جام من فضة فمرض فاوصى إلينا وأمرنا ان تبلغا ما ترك اهله فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه انا وعدى بن بدا فلما قدمنا الى اهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا غير هذا ما دفع إلينا فلما أسلمت وتاثمت من ذلك فاتيت اهله فاخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم ان عند صاحبى مثلها فاتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فامرهم ان يستحلفوه فحلف فانزل الله تعالى يا ايها الذين أمنوا شهادة بينكم الى قوله ان ترد ايمان بعد ايمانهم فقام عمرو بن العاص ورجل اخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدى بن بدا.
ذلِكَ الحكم بتحليف الوصيين عند ارتياب الورثة وتحليف الورثة عند دعوى الوصيين بالشراء ونحوه. أَدْنى اى اقرب من أَنْ يَأْتُوا اى يأتي الأوصياء بِالشَّهادَةِ اى بإظهار الحق وبيان ما اوصى إليهم الميت عَلى وَجْهِها على نحو ما حملوها من غير خيانة فيها أَوْ يَخافُوا عطف على يأتوا اى او ادنى ان يخافوا أَنْ تُرَدَّ على الورثة أَيْمانٌ على انكار ما ادعاه الوصي بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على محذوف اى احفظوا احكام الله واتقوا الله وَاسْمَعُوا ما أمركم الله سماع اجابة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعنى ان لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين والله لا يهدى القوم الفاسقين الى حجة او الى طريق الجنة وعلى هذا التفسير الذي ذكرت تطابق الاية(3/200)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
سبب نزولها ولا يلزم النسخ لان يمين الوصي عند إنكاره الخيانة ويمين الوارث عند إنكاره دعوى الوصي الشراء ونحوه حكم ثابت محكم وقد تقرر عند القوم ان شيئا من سورة المائدة لم ينسخ وقيل معنى الاية ليستشهد الميت عند احتضاره إذا اوصى لاحد رجلين ليوديا الشهادة عند القاضي للموصى له ويدل عليه ظاهر قوله تعالى لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى يعنى ولو كان الموصى له ذا قربى منا لا نشهد له بالزيادة على الوصية طمعا وعلى هذا التأويل قيل معنى ذوا عدل منكم اى من حى الموصى او آخران من غيركم اى من غير حيكم وعشيرتكم وهو قول الحسن والزهري وعكرمة.
(مسئلة:) ولا يجوز شهادة كافر على مسلم فى شىء من الاحكام وقال اكثر المفسرين معنى قوله تعالى منكم اى من اهل دينكم وملتكم ومن غيركم اى من غير ملتكم وبه قال ابن عباس وابو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابراهيم النخعي وسعيد ابن جبير ومجاهد وعبيدة فقال النخعي وجماعة هى منسوخة وكانت شهادة اهل الذمة مقبولة فى الابتداء ثم نسخت فان شهادة الكافر على المسلم لا يسمع وذهب قوم الى انها ثابتة وقالوا إذا لم يجد مسلمين ليشهد كافرين قال شريح من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهد على وصية فاشهد كافرين فشهادتهما جائزة ولا يجوز شهادة كافر على مسلم الا على وصية وعن الشعبي ان رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصية فاشهد رجلين من اهل الكتاب فقدما الكوفة بتركته وأتيا الأشعري فاخبراه وقد ما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا امر لم يكن بعد الذي كان فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فاحلفهما وامضى شهادتهما قلت ولو كان حكم هذه الاية ثابتة يجب ان يرد اليمين على الورثة ان ظهر كذب الشاهدين فى الشهادة على الوصية بوجه.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يعنى يوم القيامة ظرف متعلق بلا يهدى يعنى لا يهدى الى طريق الجنة يوم يجمع او بدل من مفعول اتقوا بدل اشتمال او مفعول لا سمعوا على حذف مضاف يعنى واسمعوا خبر يوم يجمع او منصوب بإضمار اذكروا او احذروا فَيَقُولُ الله تعالى للرسل ماذا أُجِبْتُمْ ماذا منصوب بأجبتم نصب المصدر او بنزع الخافض اى اىّ اجابة اجابتكم أمتكم او باى شى مما دعوتم قومكم اجابتكم قومكم وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما يسئل الموؤدة باى ذنب(3/201)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قتلت لتوبيخ الوائدة قالُوا يعنى الرسل لا عِلْمَ لَنا قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدى ان للقيامة اهو الا وزلازل يزول فيها القلوب عن مواضعها فيفزعون من هول ذلك اليوم ويذهلون عن الجواب ويقولون لا علم لنا ثم بعد ما ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم وقال ابن جريج معناه لا علم لنا بعاقبة أمرهم وبما أحدثوا بعدنا وبما اضمروا فى قلوبهم إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تعلم ما غاب عنا ونحن لا نعلم الا ما نشاهده قرأ ابو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع والباقون بضمها عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليردن علىّ ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دونى فاقول أصيحابي أصيحابي فيقول لا تدرى ما أحدثوا بعدك رواه البخاري وغيره ونظيره قوله تعالى حكاية عن عيسى كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وروى عن ابن عباس انه قال معناه لا علم لنا الا علما أنت اعلم به منا وقيل المعنى لا علم لنا الى جنب علمك وقيل لا علم لنا بوجه الحكمة عن سوالك إيانا عن امر أنت اعلم به منا.
إِذْ قالَ اللَّهُ بدل من يوم يجمع يعنى يوبخ الكفرة يومئذ بسوال الرسل عن اجابتهم وتعديد ما اظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة وغلا آخرون فاتخذوهم الهة او منصوب بإضمار اذكر يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي لفظه واحد ومعناه جمع إذ المراد به الجنس عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ مريم حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العلمين قال الحسن ذكر النعمة شكرها إِذْ أَيَّدْتُكَ اى قويتك ظرف لنعمتى او حال منه بِرُوحِ الْقُدُسِ اى جبريل عليه السّلام او بالكلام الذي يحيى به النفوس حيوة ابدية ويطهرها من الآثام ولذا أضاف الروح الى القدس لانه سبب الطهر والذي يحيى به المولى تُكَلِّمُ النَّاسَ حال من مفعول أيدتك فِي الْمَهْدِ اى كائنا فى المهد صبيا وَكَهْلًا نبيّا يعنى يكلمهم فى الطفولية والكهولة على سواء الحق حاله فى الطفولية بحال الكهولة فى كمال العقل والتكلم بالحكمة وبه يستدل على انه سينزل فانه رفع قبل الكهولة قال ابن عباس أرسله الله وهو ابن ثلثين سنة فمكث فى رسالته ثلثين شهرا ثم رفعه الله اليه قال بعض الأفاضل لا دلالة فى النظم على التسوية بين كلام الطفولية والكهولة والاولى ان يجعل وكهلا تشبيها بليغا اى يكلمهم كائنا فى المهد وكائنا كالكهل(3/202)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
وحينئذ لا دلالة فيه على انه سينزل وَإِذْ عَلَّمْتُكَ عطف على إذ أيدتك الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً قرأ نافع ويعقوب طائرا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي سبق تفسيره فى سورة ال عمران وَإِذْ كَفَفْتُ عطف على إذ علمتك يعنى إذ منعت وصرفت بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعنى اليهود حين هموا بقتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعنى المعجزات المذكورات الدالة على نبوته ظرف لكففت فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا يعنى ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قرأ حمزة والكسائي هاهنا وفى سورة هود والصف الا ساحر فالاشارة الى عيسى عليه السّلام وفى هود الى محمد صلى الله عليه وسلم.
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ عطف على إذ كففت ومعنى أوحيت ألهمتهم وقذفت فى قلوبهم كذا روى عبد بن حميد عن قتادة وابو الشيخ عن السدى وقيل معناه امرتهم على لسان عيسى أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ان مصدرية ويجوز ان يكون مفسرة لاوحيت قالُوا حين امرتهم ووفقتهم آمَنَّا بالله وبرسوله وَاشْهَدْ يا عيسى بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون.
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب باذكر او ظرف لقالوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرأ الجمهور يستطيع على الغيبة وربّك مرفوعا على الفاعلية يعنى هل يطيعك ربك ان سألته فاستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب اخرج ابن ابى حاتم عن عامر الشعبي ان عليا كان يقرأ هل يستطيع ربك قال هل يطيعك ربك وفى الآثار من أطاع الله أطاعه ويؤيده قراءة الكسائي هل تستطيع بصيغة الخطاب لعيسى وربك منصوبا على المفعولية بحذف المضاف وهى قراءة على وعائشة وابن عباس ومجاهد ورواه الحاكم من معاذ بن جبل يعنى هل تستطيع سوال ربك من غير صارف يصرفك عن سواله فيفعل ربك اجابة سوالك قالت عائشة كان الحواريون اعلم بالله من ان يقولوا هل يستطيع ان تدعوه رواه ابن ابى شيبة وابو الشيخ وغيرهما وقيل هذه الاستطاعة على ما يقتضيه الحكمة والارادة لا على ما يقتضيه القدرة فلم يقولوا شاكين فى قدرة الله بل كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع ان تنهض معى وهو يعلم انه يستطيع(3/203)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
وهو يريد هل تفعل ذلك واجرى بعضهم على الظاهر فقالوا كان ذلك قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا حديث عهد بالجاهلية ومن ثم قال عيسى استعظاما لقولهم اتقوا الله ان كنتم مؤمنين يعنى لا تشكوا فى قدرته تعالى أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ المائدة الخوان إذا كان عليه الطعام فاعلة من ماده يميده إذا أعطاه وأطعمه كانها تميد اى تطعم من يقدم عليه فالمائدة بمعنى المعطية المطعمة للاكلين الطعام وسمى الطعام ايضا مائدة على التجوز كما يقال جرى النهر وقال اهل الكوفة سميت مائدة لانها تميد بالاكلين اى تتحرك وقال اهل البصرة فاعلة بمعنى المفعولة يعنى مميدة بالاكلين قالَ عيسى اتَّقُوا اللَّهَ عن أمثال هذا السؤال الذي لم يسأل مثله الأمم السابقة نهاهم عن اقتراح الآيات إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فانه لا يجوز للمؤمنين اقتراح الآيات او المعنى اتقوا ولا تشكوا فى قدرته ان كنتم مؤمنين بكمال قدرته وصحة نبوتى أو ان كنتم صدقتم فى ادعاء الايمان اخرج الحكيم الترمذي فى نوادر الأصول وابن ابى حاتم وابو الشيخ فى العظمة وابو بكر الشافعي فى الفيلانيات عن سلمان الفارسي قال لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جدا وقال اقنعوا بما رزقكم الله تعالى فى الأرض ولا تسألوا المائدة فانها ان نزلت عليكم كانت اية من ربكم وانما هلكت ثمود حين سألوا نبيّهم اية فابتلوا بها قابوا الا ان يأتيهم بها فلذلك.
قالُوا اى الحواريون انما سألنا لانا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة الى علم الاستدلال بكمال قدرته وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا فى ادعاء النبوة اى نزداد ايمانا او يقينا قيل ان عيسى أمرهم ان يصوموا ثلثين يوما فاذا أفطروا لا يسألون الله شيئا الا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا ونعلم ان قد صدقتنا بمعنى صدقتنا ان الله يجيب دعوتنا بعد ما صمنا ثلثين يوما وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ لله بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة بعد ما أمنا بذلك بالغيب او من الشاهدين لك عند بنى إسرائيل إذا رجعنا إليهم قيل ان عيسى حينئذ اغتسل ولبس المسيح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى.
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا نداء ثان لا صفة ولا بدل لان اللهم لا يوصف ولا يبدل منه كذا قال التفتازانيّ أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً قال السدى معناه تتخذ ذلك اليوم عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا(3/204)
والعيد السرور بعد الغم وقيل يوم السرور سمى به للعود من الترح الى الفرح قيل كان هو يوم الأحد ولذا اتخذه النصارى عيدا وقيل عيدا اى عائدة من الله حجة وبرهانا لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً بدل من لنا باعادة الجار اى يكون عيدا لمتقدمنا ومتاخرنا يعنى اهل زماننا ومن جاء بعدنا على ملتنا قال ابن عباس يأكل منها اخر الناس كما أكل أولهم والظاهر ان لنا خبر كان وعيدا خبر ثان ولاولنا وآخرنا صفة ليعد او اية عطف على عيدا مِنْكَ صفة لاية اى دلالة وحجة كائنة منك على كمال قدرتك وصحة نبوتى وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللَّهُ تعالى مجيبا لعيسى عليه السّلام.
إِنِّي مُنَزِّلُها يعنى المائدة قرأ نافع وابن عامر وعاصم مشدّدا من التفعيل والتفعيل يدل على التكثير مرة بعد اخرى والباقون مخففا من الافعال عَلَيْكُمْ اجابة الى سوالكم فَمَنْ يَكْفُرْ بعد نزول المائدة بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً اى تعذيبا مصدر للجنس ويجوز ان يجعل مفعولا به على السعة اى أعذبه بعذاب ويراد بالعذاب ما يعذب به لا أُعَذِّبُهُ صفة لعذابا والضمير للمصدر او للعذاب بمعنى ما يعذب به على حذف حرف الجر أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ع اى من عالمى زمانهم او العلمين مطلقا فانهم مسخوا قردة وخنازير لما كفروا بعد نزول المائدة ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم وتمام حديث سلمان الفارسي المذكور انه لما سأل عيسى ذلك ربه نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهى تهوى منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال اللهم اجعلنى من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة واليهود ينظرون الى شىء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه فقال عيسى عليه السّلام ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله تعالى فقال شمعون الصفار راس الحواريين أنت اولى بذلك منا يا رسول الله فقام عيسى عليه السّلام فتوضأ وصلى صلوة طويلة وبكى كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال بسم الله خير الرازقين فاذا هو سمكة مشوية ليس عليها قلوسا ولا شوك عليها يسيل من الدسم وعند راسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة ارغفة على واحد زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال(3/205)
شمعون يا روح الله أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الاخرة فقال ليس شىء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الاخرة ولكنه شىء افتعله الله تعالى بالقدرة الغالبة كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله قالوا يا روح الله كن أول من يأكل منها فقال عيسى عليه السّلام معاذ الله ان أكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا ان يأكلوا منها فدعا لها عيسى اهل الفاقة والمرض واهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين وقال كلوا من رزق الله ولكم المهناء ولغيركم البلاء فاكلوا وصدر عنها الف وثلاثمائة رجل وامراة من فقير ومريض وزمن ومبتلى كلهم الشبعان وإذا السمكة كهيئتها حين نزلت ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى الا عوفى ولا فقير الا استغنى وندم من لم يأكل منها فلبث أربعين صباحا ينزل ضحى فاذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ولا تزال منصوبة توكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها فى ظلها حتى توارت عنهم وكانت تنزل غبا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود فاوحى الله الى عيسى عليه السّلام اجعل مائدتى ورزقى للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها وقالوا ترون المائدة حقا ينزل من السماء فاوحى الله تعالى الى عيسى انى شرطت ان من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى عليه السّلام ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم فمسخ منهم ثلاثمائة وثلثة وثلثون رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فاصبحوا خنازير يسعون فى الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة فى الحشوس فلما رأى الناس ذلك فزعوا الى عيسى عليه السّلام وبكوا فلما أبصرت خنازير عيسى بكت وجعلت تطيف بعيسى عليه السّلام فجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم فيشيرون برؤسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلثة ايام ثم هلكوا وقال البغوي روى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انها نزلت خبزا ولحما وقيل لهم انها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبئوا فما مضى(3/206)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
يومهم حتى خانوا وخبئوا فمسخوا قردة وخنازير وقال ابن عباس ان عيسى عليه السّلام قال لهم صوموا ثلثين يوما ثم سلوا الله ما شئتم يعطكموه فصاموا فلما فرغوا قالوا يا عيسى لو عملنا لاحد فقضينا عمله لاطعمنا وسألوا المائدة فاقبلت
الملئكة بمائدة يحملونها عليها سبعة ارغفة وسبعة أخوات حتى وضعتها بين أيديهم فأكل اخر الناس كما أكل أولهم وقال كعب الأحبار نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملئكة بين السماء والأرض عليها كل الطعام الا اللحم وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس انزل على المائدة كل شىء الا الخبز واللحم وقال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة وقال عطية العوفى نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شىء وقال الكلبي كان عليها خبز رز وقال وهب بن منبه انزل الله أقرصة من شعير وحيتانا وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجئى آخرون فياكلون حتى أكلوا بأجمعهم وفضل وعن الكلبي ومقاتل انزل الله خبزا وسمكا وارغفة فاكلوا ما شاء الله سبحانه وتعالى والناس الف ونيف فلما رجعوا الى قراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد وقالوا ويحكم انما سحرا عينكم فمن أراد الله به الخير ثبته على بصيرة ومن أراد فتنة رجع الى كفره فمسخوا خنازير ليس فيهم صبى ولا امرأة فمكثوا بذلك ثلثة ايام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ وقال قتادة كانت المائدة تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبنى إسرائيل هكذا اقوال اكثر العلماء وقال مجاهد والحسن لم تنزل المائدة فان الله عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا ان يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا لا نريدها فلم ينزل ومعنى قوله تعالى انى منزلها عليكم يعنى ان سألتم والصحيح هو الذي عليه الأكثرون انها نزلت لقوله تبارك وتعالى انى منزلها عليكم ولا خلف فى خبره تعالى ولتواتر الاخبار به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين.
وَإِذْ قالَ اللَّهُ قال البغوي اختلفوا فى هذا القول متى يكون فقال السدى قاله الله تعالى ذلك حين رفعه الى السماء يدل عليه كلمة إذ فانها للماضى وصيغة قال وقال سائر المفسرين انما يقول الله تعالى له ذلك يوم القيامة يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم بدليل قوله تعالى يوم يجمع(3/207)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
الله الرسل وقوله تعالى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم وأراد بها يوم القيامة وقد يجئى إذ مع صيغة الماضي فى المستقبل للدلالة على إتيانها لا محالة كانها كائنة نظيره قوله تعالى ولو ترى إذ فزعوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ توبيخ للكفرة قدمت المسند اليه على المسند الفعلى لتقوية النسبة لان نسبة هذا القول الى عيسى كانت مستبعدة فاحتاجت الى التقوية ففيه توبيخ للكفرة قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ لم يقل ومريم مكان أمي للتوبيخ بانك مع كونك مولودا وهى والدة كيف وسعك دعوى الالوهية مع وجوب تنزه الإله عن التوالد والتماثل مِنْ دُونِ اللَّهِ صفة لالهين او صلة اتخذوني او حال من فاعل اتخذوني او من مفعوله يعنى حال كونكم متجاوزين الله فى الاتخاذ او حال كونى الهادون الله ومعنى دون المغايرة فيكون فيه تنبيها على ان عبادة الله مع عبادة غيره بمنزلة العدم فمن عبد الله مع عيسى ومريم فكانه لم يعبد الله وجاز ان يكون دون للقصور فانهم لم يعتقدوا عيسى ومريم مستقلين باستحقاق العبادة بل زعموا ان عبادتهما توصل الى عبادة الله قال ابو روق إذا يسمع عيسى هذا الخطاب ترعد مفاصله وتتفجر من اصل كل شعر على جسده عين من دم ثم يقول كما حكى الله تعالى عنه قالَ عيسى سُبْحانَكَ يعنى أسبحك سبحانا وأنزهك تنزيها من ان يكون لك شريك او تنزيها من ان تكون فى العلم بالحقيقة محتاجا الى الاستفهام والبيان ما يَكُونُ لِي اى ما ينبغى لى أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ اى قولا لا يحق لى إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ يعنى لا حاجة لى الى الاعتذار لانك تعلم انى لم اقله ولو قلته لعلمته لانك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ يعنى تعلم ما اخفيه فى نفسى ولا اعلم ما تخفيه من المعلومات والمراد بالنفس الذات وتعبيره بالنفس للمشاكلة إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مر اختلاف القراءة فى الغيوب ما كان منها وما يكون الجملة خبر وأنت تأكيد لاسم ان تقرير للجملتين السابقين بالمنطوق والمفهوم.
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعنى وحدوه(3/208)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
ولا تشركوا به شيئا وهو خالقى كما هو خالقكم ان مع صلته عطف بيان للضمير فى به او بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا حتى يلزم بقاء الموصول بلا عائد أو خبر مبتدأ محذوف اعنى هو او منصوب بتقدير اعنى ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فان المصدر لا يكون مقول القول ولا ان يكون ان مفسرة لان الأمر مسند الى الله وهو لا يقول اعبدوا الله ربى وربكم والقول لا يفسر بان اللهم الا ان يقال القول مأول بالأمر تقديره ما امرتهم الا ما أمرتني به ثم فسر عيسى امر نفسه بقوله ان اعبدوا الله وفى وضع قلت موضع أمرت نكتة جليلة وهى التحاشى عن ان يجعل نفسه كالرب فى كونه امرا وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً رقيبا ومشاهدا لاحوالهم من الكفر والايمان مرشدهم الى الحق مانعهم من القول والاعتقاد الباطل ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يعنى قبضتنى ورفعتنى إليك والتوفى أخذ الشيء وافيا والموت نوع منه قال الله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت فى منامها كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المحافظ بأعمالهم والمراقب لاحوالهم فتمنع من أردت عصمته بالإرشاد الى الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ من قولى وفعلى وقولهم وفعلهم.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ «1» فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ولا اعتراض على المالك المطلق بما فعل بملكه كيف وقد عبدوا غيرك وأنت خلقتهم وشكروا سواك وأنت أنعمت عليهم وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الغالب القوى على الثواب والعقاب فمغفرتك ليست عن عجز حتى يستقبح الْحَكِيمُ لا تفعل الا بمقتضى الحكمة يعنى ان عذبت
__________
(1) اخرج ابن مردوية عن ابى ذر قال قلت يا رسول الله بابى أنت وأمي قمت الليلة باية من القران لو فعل هذا بعضنا وجدنا عليه قال دعوت لامتى قال فماذا أجبت قال أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه لتركوا الصلاة قال أفلا ابشر الناس قال بلى قال عمر يا رسول الله انك ان تبعث الى الناس بهذا اتكلوا عن العبادة فناداه ان ارجع فرجع وتلا الاية التي يتلوها ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم واخرج مسلم والنسائي عن عبد الله ابن عمرو بن العاص نحوه 12 منه(3/209)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
فعدل وان غفرت ففضل وعدم غفران المشرك بمقتضى الوعيد لا ينافى جواز المغفرة لذاته حتى يمتنع الترديد والتعلق بان وليس فيه طلب المغفرة للكفار ومن ثم لم يقل فانك أنت الغفور الرحيم بل فيه تسليم الأمر وتفويضه الى ارادة الله تعالى وحكمته وكان ابن مسعود يقرأ ان تغفر لهم فانهم عبادك وان تعذبهم فانك أنت العزيز الحكيم وكانّ هذه القراءة كان نظرا الى مناسبة العزيز الحكيم بالتعذيب دون المغفرة ولذلك قيل فى الاية تقديم وتأخير وقد عرفت ان المستحسن المناسب هو الذي فى القراءة المتواترة عن عبد الله بن عمرو بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم تلى قوله تعالى فى ابراهيم عليه السّلام رب انهن اضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه منى ومن عصانى فانك غفور رحيم وفى عيسى قال ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم فقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله سبحانه يا جبرئيل اذهب الى محمد وربك اعلم فاسئله ما يبكيك فاتاه جبرئيل فسأله فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال فقال الله تعالى يا جبرئيل اذهب الى محمد فقل انا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك.
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قرأ نافع يوم بالفتح اما على انه منصوب ظرفا لقال اى قال الله هذا الكلام لعيسى يوم ينفع وجاز ان يكون خبر هذا محذوف يعنى قال الله هذا حق يعنى ما قال عيسى حق قال ذلك يوم ينفع تصديقا لعيسى ومزيد توبيخ لامة او ظرفا مستقرا واقعا خبرا لهذا يعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع فالجملة تأكيد لما سبق واما على انه مرفوع خبرا لهذا لكنه بنى على الفتح لاضافته الى المبنى لا يقال انه مضاف الى المضارع وهو معرب لانا نقول المضاف اليه هو.......
الجملة الفعلية لا المضارع فحسب وقرأ الجمهور بالرفع بالضم على انه خبر هذا وفيه رد لما يفهم من الاستغفار فى حق الكفار يعنى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم دون الكاذبين الكفار حيث لا مغفرة لهم ويحتمل ان يراد به ازالة خوف عيسى من صورة هذا السؤال والمعنى هذا يوم ينفع الصادقين فى الدنيا صدقهم فى الاخرة واما الكاذبون فى الدنيا لو صدقوا فى الاخرة وقالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وقال(3/210)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
الشيطان ان الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم الاية لا ينفعهم صدقهم وكذا لا ينفعهم كذبهم بل لو كذبوا وقالوا والله ربنا ما كنا مشركين يختم على أفواههم ونطقت جوارحهم فافتضحوا قيل أراد بالصادقين النبيين وقال الكلبي ينفع المؤمنين ايمانهم وقال عطاء يوم من ايام الدنيا لان الاخرة دار جزاء لا دار عمل ثم بين الله نفعهم وثوابهم فقال لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ لاجل المحبة من الجانبين كذا قالت الصوفية وقال العامة رضى الله عنهم بالسعي المشكور ورضوا عنه بالجزاء الموفور ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لانه باق بخلاف الفوز فى الدنيا ثم عظم الله نفسه ونبه على كذب النصارى وبطلان دعويهم فى عيسى وامه فقال.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ لم يقل من فيهن تغليبا للعقلاء وقال ما فيهن اتباعا لهم غير العقلاء تنبيها لغاية قصورهم عن مرتبة الالوهية بسبب مجالستهم لغير العقلاء فى الإمكان والقصور فى العلم والارادة ونحو ذلك بل الصفات الكاملة فى الممكن بمنزلة العدم قال الله تعالى انك ميت وانهم ميتون يعنى فى حد ذواتكم ولان كلمة ما تطلق على الأجناس كلها فهى اولى لارادة العموم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من المنع والإعطاء والإيجاد والافناء.
تمّت سورة المائدة وعمت الفائدة ونرجوا العائدة إنشاء الله تعالى فى السادس عشر من ذى القعدة سنة الف ومائة وثمان وتسعين.(3/211)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
سورة الانعام
مكيّة وهى مائة وخمس او ست وستون اية وعشرون ركوعا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ تعليم للعباد بالتحميد فى ضمن الاخبار بثبوت جميع المحامد له تعالى والتعريض بانه سبحانه مستغن عن تحميد العباد فله الحمد وان لم يحمد الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعنى قدرهما وأوجدهما من غير مثال سبق وفى التوصيف به تنبيه على ظهور ثبوت الحمد لله تعالى من غير احتياج الى الاستدلال خص الله سبحانه السموات والأرض بالذكر لانهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبر والمنافع للناس ولان خلق غيرهما وحدوثهما مما يراه الناس من الحوادث اليومية ظاهر ومن ثم زعم بعض الجهلة قدمهما بالزمان وذكر السموات بلفظ الجمع دون الأرض وهى مثلهن اشعارا باختلاف ماهيات السموات وأشكالها دون الأرضين قال كعب الأحبار هذه الاية اوّل اية فى التورية واخر اية فى التورية قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الاية قال ابن عباس فتح الله الخلق بالحمد فقال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وختمهم بالحمد فقال وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العلمين وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فى القاموس الجعل بمعنى الخلق وقال البيضاوي الفرق بينهما ان الخلق بمعنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين اى جعل الشيء فى ضمن الشيء اى تحصيل منه او تصير إياه او ينقل منه اليه بالجملة فيه اعتبار الشيئين وارتباط بينهما ولذلك عبر عن احداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على انهما لا يقومان بانفسهما كما زعمت الثنوية قلت ولاجل عدم قيامهما(3/212)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
بانفسهما أسند الجعل الى الظلمة مع كونها عدميا والعدم لا يتعلق به الجعل نظرا الى كونها منتزعا من محل مخلوق وجمع الظلمات لكثرة اجرام حاملة لها بالنسبة الى الاجرام النورانية فالنور بالنسبة الى الظلمة كل واحد بالنسبة الى المتعدد وقال الحسن جعل الظلمات والنور يعنى الكفر والايمان فعلى هذا أورد الظلمات بلفظ الجمع دون النور لتعدد طرق الكفر واتحاد طريقة الايمان عن ابن مسعود رض قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا اليه ثم قرأ ان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله رواه احمد والنسائي والدارمي وقدم الظلمات فى الذكر لتقدمها فى الوجود عن عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ان الله خلق الخلق فى ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله رواه احمد والترمذي ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عطف على قوله الحمد لله يعنى انه تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته او على قوله خلق يعنى انه خلق ما لا يقدر عليه أحد غيره ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شىء أصلا ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد هذا البيان والباء فى بربهم متعلق بكفروا وصلة يعدلون محذوف ليقع الإنكار على الفعل يعنى يعدلون عنه وعلى الثاني متعلق بيعدلون يعنى ان الكفار يعدلون اى يسوون بربهم الأوثان وقال النضر بن شميل الباء بمعنى عن اى عن ربهم يعدلون اى يميلون وينحرفون الى غيره من العدول.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعنى ابتدأ خلقكم منه حيث خلق منه أصلكم آدم عليه السّلام او المعنى خلق أباكم آدم بحذف المضاف قال السدى بعث الله تعالى جبرئيل الى الأرض لياتيه طائفة منها فقالت الأرض انى أعوذ بالله منك ان تنقص منى فرجع ولم يأخذ وقال يا رب انها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال وانا أعوذ بالله ان أخالف امره فاخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلف ألوان بنى آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر كذلك(3/213)
ولذا اختلف اخلاقهم فقال الله تعالى رحم جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من اخلق من هذا الطين بيدك روى عن ابى هريرة رضى الله عنه خلق الله آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا ثم تركه حتى كان حماء مسنون ثم خلقه وصوره وتركه حتى صار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه روحه كذا قال البغوي وعن ابى موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب رواه احمد والترمذي وابو داؤد وعن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم خلق الله آدم من تراب الجابية «1» وعجنه بماء الجنة رواه الحكيم وابن عدى بسند حسن ثُمَّ قَضى أَجَلًا والمراد به والله اعلم انه يكتب الملك اجله بإذن ربه بعد تمام خلقه كما يدل عليه كلمة ثم والجملة الفعلية عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله اليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى او سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها متفق عليه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ اى أجل مثبت معين عند الله فى علمه القديم لا يقبل التغير ولا مدخل فيه لغيره تعالى ولذا عبر عنه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والاستمرار والاستيناف به لتعظيمه ولذلك نكر وكونه مخصوصة بالصفة اغنى عن تقديم الخبر وقال الحسن وقتادة والضحاك الاجل الاول من الولادة الى الموت والاجل الثاني من الموت الى البعث وهو البرزخ روى ذلك عن ابن عباس وقال لكل واحد أجلان أجل من الولادة الى الموت وأجل من الموت الى البعث فان كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث فى أجل العمر وان كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد فى أجل البعث وقال مجاهد وسعيد بن جبير الاجل الاول أجل الدنيا
و
__________
(1) الجبا بالكسر ما جمعت فيه الماء 12(3/214)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
أجل الثاني أجل الاخرة وقال عطية عن ابن عباس ثم قضى أجلا يعنى النوم يقبض فيه الروح ثم يرجع عند اليقظة وأجل مسمى عنده أجل الموت ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ اى تشكون من المرية او تجادلون من المراء فى قضائه وقدره تعالى او فى البعث بعد الموت وكلمة ثم لاستبعاد المرية والمراء بعد ظهور انه تعالى خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم الى اجالهم فمن كان هذا شانه لا يخرج من قضائه وعلمه شىء ويقدر هو على اعادتهم كما خلق أول مرة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبى مجاب الزائد فى كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من اذله الله ويذل من أعزه الله والمستحل لحرمة الله والمستحل من عزتى ما حرم الله والتارك لسنتى رواه البيهقي فى المدخل ورزين فى كتابه قلت الزائد فى كتاب الله الروافض يزيدون فى كتاب الله عشرة اجزاء فوق ثلثين جزء ويزعمون ان عثمان أسقطها من القران ويزعمون ان سورة الأحزاب مثل سورة البقرة والمستحل من عترة النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج والمكذب بقدر الله المعتزلة وهم المشار إليهم بهذه الاية والمستحل لحرمة الله المرجئة القائلين بالجبر والمتسلط بالجبروت السلاطين الظلمة والتارك للسنة جميع اهل الأهواء والفساق.
وَهُوَ اللَّهُ الضمير راجع الى الله الموصوف بما ذكروا الله خبره او بدل منه وجاز ان يكون الضمير للشان والله مبتدا نظيره قوله تعالى قل هو الله أحد فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق باسم الله على تقدير كونه مشتقا بمعنى المعبود يعنى هو المعبود على الاستحقاق فيهما لا غيره نظيره قوله تعالى وهو الذي فى السماء اله وفى الأرض اله او على تاويل المشتق يعنى هو المعرف بذلك الاسم او المذكور به فيهما او ظرف مستقر وقع خبرا على التجوز فان الخلائق كلها مظاهر صفاته ومجالى كمالاته وقال البيضاوي انه تعالى لكمال علمه بما فيهما كانه فيهما وقوله تعالى يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الجملة خبر ثان او هى الخبر والظرف متعلق به ويكفى لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما يقال رميت الصيد فى المفازة من العمران والمعنى يعلم ما تكتمون فى أنفسكم وما تبدون منها وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ بالجوارح من خيرا وشر فيجازيكم عليها وجاز ان يكون المعنى يعلم ما أسررتم من افعال القلوب(3/215)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
والجوارح وما أعلنتم منها وما تكسبونها فى الاستقبال ولم تعملوا بعد فانه من خصائص معلومات الله تعالى.
وَما تَأْتِيهِمْ يعنى اهل مكة مِنْ آيَةٍ من زايدة للاستغراق مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مثل انشقاق القمر ونطق الحصيات وغير ذلك وقال عطاء من آيات القران ومن للتبعيض إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين النظر فيه.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ بالقران وقيل بمحمد عليه السّلام لَمَّا جاءَهُمْ الفاء للتفريع على ما سبق فانهم لما اعرضوا عن الآيات كلها كذبوا بالحق الذي جاءهم فانه من الآيات او للسببية يعنى انهم لما كذبوا بالقران الذي هو أعظم المعجزات باهر الاعجاز لفظا ومعنى فى كل حين وزمان وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم مع ظهور اعجاز وجوده الشريف حيث كان مولودا فيهم اميا لم يقرء ولم يكتب فى زمان الجاهلية وفترة العلم والحكمة وقد تفجر منه ينابيع العلم والحكمة والآداب على ما تساعده الكتب القيمة المتقدمة وأقر بنبوته القسيسين والأحبار والرهبان فكيف لا يعرضون عن افراد المعجزات فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ يوم القيمة او عند ظهور الإسلام وارتفاع امره أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعنى يظهر لهم قبحه عند نزول العذاب بهم فى الاخرة او فى الدنيا.
أَلَمْ يَرَوْا فى أسفارهم الى الشام كَمْ خبرية بمعنى كثيرا أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ من زائدة وكذا فى قوله تعالى مِنْ قَرْنٍ القرن القوم المقترنون فى زمان واحد وجمعه قرون ومنه قوله صلى الله عليه وسلم خير القرون قرنى يعنى من اقترن معى او طائفة من الزمان يقترن فيها الناس فقيل هو أربعون سنة او عشرة او عشرون او ثلثون او خمسون او ستون او سبعون او ثمانون او مائة او مائة وعشرون والأصح انه مائة سنة لانه صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن بشر المازني انك تعيش قرنا فعاش مائة سنة كذا ذكر البغوي وفى نهاية الجزري انه صلى الله عليه وسلم مسح راس غلام وقال عش قرنا فعاش مائة سنة وعلى تقدير كونه للزمان معناه اهل قرن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ يعنى قررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والأسباب والعدد ما تمكنوا بها على ما أرادوا والجملة فى موضع الجر صفة لقرن وجمع نظرا للمعنى ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نعطكم من القوى والمال والأسباب والعدد ما موصوفة بمعنى شيئا منصوب اما على انه مفعول ثان(3/216)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
لمكناهم بتضمين أعطيناهم او على المصدرية يعنى مكناهم شيئا من التمكين لم نمكن لكم مثلهم قال ابن عباس امهلناهم فى العمر ما لم نعمركم مثل قوم نوح وعاد وثمود فيه التفات من الغيبة الى الخطاب وقال البصريون اخبر عن اهل مكة بلفظ الغيبة فقال الم يروا ولما كان فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أورد بلفظ الخطاب وَأَرْسَلْنَا عطف على مكنا السَّماءَ يعنى المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً مفعال من الدر والدر اللبن وفى اللبن خير كثير للعرب حال من السماء يعنى حال كونه كثير النفع فى اوقات حاجاتهم وقال ابن عباس يعنى متتابعا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ اى من تحت مساكنهم فعاشوا مترفهين بين الثمار والأنهار فَأَهْلَكْناهُمْ إذا جاءتهم الرسل وكذبوهم بِذُنُوبِهِمْ بسبب عصيانهم الرسل ولم يغن مكنتهم فى الدنيا ورفاهيتهم فيها عنهم شيئا فكيف يغنى هؤلاء الكفار أسبابهم فى الدنيا إذا كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم القران وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فكما أهلكنا من قبلكم وأنشأنا مكانهم آخرين نفعل بكم يا اهل مكة ان لم تؤمنوا قال الكلبي ومقاتل ان النضر بن الحارث وعبد الله بن ابى امية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه اربعة من الملئكة يشهدون عليه انه من عند الله وانك رسوله فانزل الله تعالى.
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ اى مسوا ذلك القرطاس بِأَيْدِيهِمْ بحيث لا يحتمل التزوير بوجه فان السحر لا يجرى فى الملموس فلا يمكنهم ان يقولوا سكرت أبصارنا لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا تعنتا وعنادا إِنْ هذا المكتوب إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لانه سبق علمه تعالى فيهم انهم لا يؤمنون.
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعنى على محمد اى معه مَلَكٌ يكلمنا انه نبى كما فى قوله تعالى لولا انزل معه ملك فيكون معه نذيرا وَلَوْ أَنْزَلْنا معه مَلَكاً كما اقترحوا لَقُضِيَ الْأَمْرُ باهلاكهم بجريان سنة الله تعالى باهلاك الأمم عند نزول الآيات على اقتراحهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ اى لا يهملون بعد نزوله طرفة عين وقال مجاهد لقضى الأمر اى لقامت القيامة وقال الضحاك لو أتاهم ملك فى صورته لماتوا من هوله وكلمة ثم لبعد ما بين الامرين قضاء الأمر وعدم الانظار فان عدم الانظار بمعنى فجاءد العذاب أشد من نفس العذاب.
وَلَوْ جَعَلْناهُ الضمير للمطلوب او للرسول مَلَكاً يعنى لو جعلنا(3/217)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قرينا لك ملكا يعاينوه او جعلنا الرسول ملكا فانهم تارة يقولون لولا انزل معه ملكا فيكون معه نذيرا وتارة يقولون لو شاء ربنا لانزل ملئكة لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعنى لمثلناه رجلا كما كان جبرئيل يتمثل للنبى صلى الله عليه وسلم غالبا فى صورة دحية لان القوة البشرية لا يقوى على روية الملك فى صورته وانما رأهم كذلك الافراد من الأنبياء أحيانا لقوتهم القدسية ولان الرسول برزخ بين الخالق والخلق ولا بد فى البرزخ من المناسبتين مناسبة بالخالق كى يتلقى الفيوض من جنابه المقدس ومناسبة بالخلق كى يفيض عليهم ما استفاض من الجناب المقدس فان الافادة والاستفادة لا يتصور من غير مناسبة فالرسول له مناسبة باطنية بالخالق فان مبدأ تعينه صفة من صفات الله تعالى بخلاف سائر الخلائق سوى الأنبياء والملائكة فان مبادى تعيناتهم ظلال الصفات فلا بد ان يكون للرسول مناسبة صورية بالناس المرسل إليهم ولان بناء التكليف على الايمان بالغيب فلابد من التلبيس والتخليط لبقاء التكليف ومن ثم قال الله تعالى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ اى لخلطنا واشكلنا عليهم فلا يدرون انه ملك بل يقولون ما هذا الا بشر مثلكم ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم من امر الرّسول بعد ظهور رسالته بالآيات ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزئك يا محمد فلا تهتم فَحاقَ قال الضحاك أحاط وكذا فى القاموس وقال الربيع بن انس نزل وقال عطاء حل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فكذا يحيق بهؤلاء ما يستهزءون بك وما موصولة او مصدرية والمضاف على التقديرين محذوف يعنى أحاط بهم وبال الذي كانوا يستهزءون به او وبال كونهم مستهزئين.
قُلْ يا محمد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بالاقدام او بالعقول والقوى الفكرية معتبرين ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ اى جزاء أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك والخسران فان قيل جاء فى موضع اخر قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين بكلمة الفاء وهاهنا بكلمة ثم والفاء للتعقيب بلا مهلة وثم للتراخى فكيف التوفيق قلنا السير ممتد والنظر على مساكن المكذبين من الأمم السابقة يقع متراخيا بالنسبة الى ابتداء السير غالبا ويترتب على بعض اجزاء السير بلا مهلة فايراد الفاء نظرا الى بعض اجزاء(3/218)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
السير وإيراد ثم نظرا الى بداية السير قال البيضاوي والفرق بين هذه وبين قوله تعالى سيروا فى الأرض فانظروا ان السير ثمه لاجل النظر ولا كذلك هاهنا ولذلك قيل معنى هذه الاية اباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر فى اثار الهالكين وكذا قال صاحب المدارك وزاد انه تعالى نبه على إيجاب النظر فى اثار الهالكين بثم للتباعد بين الواجب والمباح قلت بناء قول الشيخين على ان الفاء للسببية دون ثم ومقتضى السببية كون السير سببا للنظر فى الواقع سواء كان السير لاجل النظر قصدا اولا فمفاد الآيتين ان المطلوب شيئان.....
السير مطلقا والنظر فى اثار الهالكين غير ان هذا الاية بكلمة ثم لا يفيد سببية أحدهما للاخر وتلك الاية تفيدها وسياق كلتا الآيتين يقتضى ان المأمور به قصدا انما هو النظر والسير انما امر به لكونه وسيلة الى النظر وكانّ فى كلمة ثم اشارة الى التباعد بين ما هو المطلوب قصدا وبالذات وما هو المطلوب ليكون وسيلة الى غيره وعلى هذا التحقيق لا حاجة فى التوفيق بين الآيتين الواردتين إحداهما بالفاء والاخرى بثم الى ملاحظة بداية السير ونهايته.
قُلْ يا محمد تبكيت للخصم لِمَنْ من استفهامية والظرف خبر والمبتدأ ما يعنى الأشياء التي هى كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعم العقلاء وغيرهم ولذلك أورد بكلمة ما قُلْ لِلَّهِ تقرير لهم اى هو الله لا خلاف بيننا وبينكم فيه وتنبيه على انه لا يمكن لاحد ان يجيب بغيره كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ يعنى التزم ووعد وعدا مؤكدا لا يمكن خلفه الرَّحْمَةَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش ان رحمتى غلبت غضبى وفى رواية بلفظ ان رحمتى سبقت غضبى رواه البغوي من حديث ابى هريرة وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لله مائة رحمة انزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يتعاطف الوحوش على أولادها واخّر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيمة رواه مسلم قلت لعل المراد بعدد المائة تمثيل التكثير دون تعيين العدد فان ما عندكم ينفد وما عند الله باق كيف وصفات الممكنات متناهية وصفاته تعالى غير متناهية وما انزل الله من الرحمة فى خلقه وخلقها فى قلوبهم انما هى ظل من ظلال رحمة الله تعالى وعن عمر بن الخطاب قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبى فاذا امراة من السبي قد تحلب ثديها تسعى إذا وجدت صبيا فى السبي(3/219)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
أخذته فالصقته ببطنها وارضعته فقال النبي صلى الله عليه وسلم ترون هذه طارحة ولدها فى النار قلنا لا وهى تقدر على ان لا تطرحه فقال لله ارحم بعباده من هذه بولدها واعلم ان رحمة الله تعالى منها ما يترتب عليها نعماء الدنيا ومنها ما يترتب عليها نعماء الاخرة لارسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الادلة الدالة على التوحيد والموت والبعث بعدها المفضى الى نعيم الجنان ولقاء الرحمن والعمدة فى الباب والمقصود بالذكر انما هى التي تعلقت بالاخرة كما يدل عليه ما ذكرنا من الأحاديث ويدل عليه قوله تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ يعنى ليجمعن اجزاءكم مبعوثين إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الظاهر ان الى هاهنا بمعنى فى او المعنى ليجمعنكم فى القبور ميتين الى يوم القيمة ويفهم منه التزاما انه ثم يبعثكم فتصدرون أشتاتا لتروا أعمالكم والجملة جواب قسم محذوف وهو بدل من الرحمة بدل البعض وبهذا يظهر ان المقصود انما هى الرحمة الاخروية ولما كان الكفار مبالغين فى انكار البعث أكده سبحانه بالقسم بعد الانذار على تكذيب المبلغ الصادق وبيان قدرته عليه بقوله لمن ما فى السموات والأرض وبيان الحكمة فى البعث بقوله كتب على نفسه الرحمة لا رَيْبَ فِيهِ اى فى الجمع او فى اليوم ولما كان مقتضى الاية عموم رحمة الله تعالى موهما شمولها للكفار قال الله تعالى لدفع ذلك التوهم وبيان ان حرماتهم من رحمة الله تعالى بسوء اختيارهم وخسرانهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالاشراك حيث ضيعوا رأس ما لهم وهو الفطرة السليمة والعقل السليم وفوتوا حظهم من الرحمة واشتروا به العذاب والنقمة الموصول مبتدأ وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الفاء للدلالة على ان خسرانهم فى علم الله تعالى سبب لعدم ايمانهم وكان القياس العطف على لا ريب فيه ووجه الفصل تقدير السؤال كانه قيل فلم يرتاب الكافرون فاجيب بان خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الايمان وجاز ان يكون الموصول منصوبا على الذم وكما يدل هذه الاية على شمول رحمة الله تعالى وحرمان الكفار بسوء اختيارهم وخسرانهم يدل عليه حديث ابى امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلكم يدخل الجنة الا من شرد على الله شرد «1» البعير على اهله رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح.
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من السكنى
__________
(1) اى اخرج عن طاعته وفارق الجماعة يقال شرد البعير إذا نفر وذهب فى الأرض 12 نهايه(3/220)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
وتعديته الى المكان بفي كما فى قوله تعالى وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وعدى هاهنا الى الزمان اتساعا والمراد كل ما يمر عليه الليل والنهار او من السكون والمعنى كل ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الاخر كما فى قوله تعالى سرابيل تقيكم الحر يعنى الحر والبرد وَهُوَ السَّمِيعُ لاصواتهم الْعَلِيمُ بأحوالهم وعيد للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ناصرا ومعبودا استفهام لانكار اتخاذ غير الله وليالا لاتخاذ الولي ولذلك قدم المفعول الاول لاتخذ عليه وذكره متصلا بالهمزة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى خالقهما ومبدعهما والاضافة معنوية لان فاطر بمعنى فطر ولذلك قرأ فطر فهو مجرور صفة لله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ اى يرزق المرزوقين ولا يرزق وتخصيص الطعام لشدة احتياج الناس اليه والجملة حال من الله والاية نزلت حين دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى دين ابائه قُلْ إِنِّي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لان النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته فى الدين وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معطوف على قل او على أمرت بتقدير وقيل لى ان لا تكونن من المشركين قُلْ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان.
أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بان عبدت غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مبالغة فى قطع اطماعهم وتعريض بهم باستيجابهم العذاب بالكفر والعصيان اعترض الشرط بين الفعل والمفعول به وحذف جزاء الشرط لدلالة الجملة عليه يعنى انى أخاف عذاب يوم عظيم اى يوم القيمة ان عصيت ربى عذبنى يومئذ.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ قرأ حمزة والكسائي وابو بكر عن عاصم ويعقوب يصرف بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل والضمير عائد الى ربى والمفعول به محذوف او يومئذ بحذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه يعنى من يصرف ربى العذاب يومئذ او عذاب يومئذ يعنى يوم القيامة والباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول والضمير عائد الى العذاب يعنى من يصرف عنه العذاب يومئذ او يكون مسندا الى يومئذ بحذف المضاف اى عذاب يومئذ وحينئذ ويومئيذ «1» مبنى على الفتح فَقَدْ رَحِمَهُ الله حيث نجاه من العذاب
و
__________
(1) لاكتسابه البناء من المضاف اليه 12 منه(3/221)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
ادخله الجنة رحمة منه لا لاداء حق عليه وَذلِكَ الصرف الْفَوْزُ الْمُبِينُ فى القاموس الفوز النجاة والظفر بالخير والهلاك فالمراد هاهنا الظفر بالخير لان الهلاك ليس بمراد البتة لدلالة السياق وكذا النجاة غير مراد إذ المراد باسم الاشارة هو الصرف وهو عين النجاة فيكون الحمل غير مفيد وبهذا يظهر ان دخول الجنة لازم لصرف العذاب عنه فيمكن بهذه الاية الاستدلال على نفى المنزلة بين المنزلتين كما قالت بها المعتزلة.
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ بشدة كفقر او مرض او عذاب فَلا كاشِفَ لَهُ يعنى لا قادر على كشفه أحد إِلَّا هُوَ والا يلزم عجزه تعالى وهو محال مناف للالوهية ووجوب الوجود وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بعافية ونعمة من صحة وغنى وغيرهما فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكان قادرا على ادامته وحفظه وكذا على إزالته ولا يستطيع أحد غيره إزالته روى البغوي بسنده عن ابن عباس رض قال اهدى للنبى صلى الله عليه وسلم بغلة اهديها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي مليا ثم التفت الى فقال يا غلام قلت لبيك يا رسول الله قال احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده امامك تعرف الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة فاذا سالت فاسال الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق ان ينفعوك بما لم يقضه الله تبارك وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا ان يضروك بما لم يكتبه الله سبحانه وتعالى عليك ما قدروا عليه فان استطعت ان تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فان لم تستطع فاصبر فان فى الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم ان النصر مع الصبر وان مع الكرب الفرج وان مع العسر يسرا وروى احمد والترمذي نحوه وقال الترمذي حديث حسن صحيح وليس فى روايتهما من قوله فان استطعت ان تعمل بالصبر إلخ.
وَهُوَ الْقاهِرُ مبتدأ وخبر والقهر الغلبة والتذليل معا وفيه زيادة معنى على القدرة وهى منع غيره عن بلوغ المراد من غير إرادته فَوْقَ عِبادِهِ خبر بعد خبر تصوير لقهره وعلوه وَهُوَ الْحَكِيمُ فى امره الْخَبِيرُ بكل شىء لا يخفى عليه شى قال الكلبي اتى اهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أرنا من يشهد انك رسول الله فانا لا نرى أحدا يصدقك ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى فزعموا انه ليس لك عندهم ذكر فانزل الله تعالى.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ الشيء يقع(3/222)
على كل موجود وقد مر الكلام فيه فى سورة البقرة والمعنى اى شاهد أَكْبَرُ اى أعظم شَهادَةً اى شىء مبتدأ واكبر خبره وشهادة تميز عن النسبة يعنى شهادة اى شاهد اكبر فان أجابوك والا قُلْ أنت اللَّهُ اكبر شهادة حذف الخبر لقرينة السؤال وتم الكلام وقوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ خبر مبتدأ محذوف يعنى هو شهيد بينى وبينكم وجاز ان يكون الله شهيد هو الجواب لانه تعالى إذا كان شهيدا كان اكبر شىء شهادة وجاز ان يكون تاويل الاية انه اى مشهود اكبر شهادة يعنى مشهودية رسالتى او عدمها والجواب الله شهيد على رسالتى ومعلوم انه ما كان الله عليه شهيدا فهو اكبر شهادة وحينئذ لا حاجة الى تكلف وشهادة الله تعالى على الرسالة اظهار المعجزات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم ولما كان أعظم المعجزات القران بين الشهادة بقوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ المعجز المخبر بأخبار المبدأ والمعاد على ما نطق به الكتب السابقة لِأُنْذِرَكُمْ أخوفكم من عذاب الله ان لم تؤمنوا بِهِ اى بالقران اكتفى بالإنذار عن ذكر البشارة لدلالة الحال والمقال ولمزيد الاهتمام بالإنذار فان دفع المضرة اولى من جلب المنفعة وَمَنْ بَلَغَ منصوب بالعطف على ضمير المخاطبين يعنى لانذركم يا اهل مكة ومن بلغه القران من الموجودين فى ذلك الزمان وبعد ذلك الزمان الى يوم القيامة من الجن والانس عن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغوا عنى ولو اية وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار متفق عليه والمراد ببني إسرائيل فى هذا الحديث المؤمنين الصادقين منهم إذ لا وثوق برواية الكفرة الكذابين بدليل حديث سمرة بن جندب والمغيرة ابن شعبة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدث عنى بحديث يرى انه كذب فهو أحد الكاذبين رواه مسلم وعن ابن مسعود ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نضر الله عبد اسمع مقالتى فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه الى من هو افقه منه ثلث لا يغل عليهن قلب مسلم اخلاص العمل لله تعالى ونصيحة المسلمين ولزوم جماعتهم فان دعوتهم تحيط من ورائهم رواه الشافعي والبيهقي فى المدخل ورواه احمد والترمذي وابو داؤد وابن ماجة والدارمي عن زيد بن ثابت الا ان الترمذي وأبا داؤد لم يذكرا ثلاث لا يغل إلخ قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القران فكانما رأى(3/223)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ يا اهل مكة أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى تقرير لهم مع انكار واستبعاد وتعجب حيث يشهدون على امر ظاهر بطلانه بالادلة القطعية النقلية والعقلية على التوحيد هذه الاية تدل على ان اهل مكة طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم شاهدا على التوحيد ومعنى الاية ان الله يشهد على التوحيد بنصب الادلة عليه وإنزال القران المعجز وهو اكبر شهادة اأنتم تشهدون على خلافه قلت لعلهم طلبوا شاهدا على التوحيد والرسالة جميعا واقتصر الكلبي فى ذكر شان النزول على طلب الشهادة على الرسالة فان الشهادة على الرسالة يستلزم الشهادة على التوحيد من غير عكس قُلْ لا أَشْهَدُ بما تشهدون قُلْ إِنَّما هُوَ اى الله إِلهٌ واحِدٌ متوحد فى استحقاق العبودية ووجوب الوجود والتخليق والترزيق وغير ذلك من صفات الكمال لا شريك له فى شىء منها منزه عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزمه أحدهما من الجسمية والتحيز والمشاركة لشئ من الأشياء فى صفة من صفات الكمال فلا يرد ما يقال ان الحمل غير مفيد فان الله جزئى حقيقى والجزئى الحقيقي لا يحتمل التعدد هذا على تقدير كون ما كافة وضمير هو راجعا الى الله تعالى وجاز ان يكون ما موصولة مبتدأ وضمير هو راجعا الى الموصولة وجملة هو اله صلة وواحد خبر للموصول مع الصلة فلا إشكال يعنى ما هو اله مستحق للعبادة لاجل كونه واجبا وجوده وصفات كماله مقتضيا لوجود من عداه وتوابعه واحد لا شريك له والمعنى لا اشهد ما تشهدون بل على التوحيد وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ بالله تعالى إياه فى استحقاق العبادة من الأصنام او من اشراككم.
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم موصوفا بالرسالة من الله تعالى لتطابق حليته وأخلاقه وأوصافه بما نعت فى التورية والإنجيل كَما يَعْرِفُونَ اى معرفة كمعرفة أَبْناءَهُمُ من بين الصبيان بحلاهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من اهل الكتاب بكتمان نعته صلى الله عليه وسلم حيث قدر الله تعالى عليهم بالخسران فى علمه القديم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالنبي صلى الله عليه وسلم ويجحدون بنبوته بعد ما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا وتعنتا وعنادا هذه الاية جواب لقولهم لقد سالنا عنك اليهود والنصارى(3/224)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
فزعموا انه ليس لك عندهم ذكر يعنى انهم كذبوا وخسروا أنفسهم حيث بدلوا منازلهم من الجنة ان أمنوا بمنازلهم من النار اخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون قال البغوي إذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل اهل النار فى الجنة ولاهل النار منازل اهل الجنة فى النار وذلك الخسران قلت كان مقتضى سياق الكلام الذين لا يؤمنون خسروا أنفسهم قلب الحمل مبالغة.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعنى ادعى الرسالة كاذبا وقال اوحى الى ولم يوح اليه شىء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة فى القران والمعجزات الدالة على التوحيد وصدق الرسول يعنى لا أحد اظلم منه فهذه الاية بهذا التأويل لتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الكذب وتنبيه الكافرين على كونهم اظلم الناس وجاز ان يكون المعنى من اظلم ممن افترى على الله كذبا وقال فيه ما لا يليق به من نسبة الولد او الشريك وقال للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند الله او كذب باياته وكان المناسب على هذا التأويل العطف بالواو مكان او لانهم قد جمعوا بين الامرين لكن ذكر كلمة او تنبيها على ان كل واحد من الامرين بالغ غاية الافراط فى الظلم فكيف إذا اجتمعا وجاز ان يكون فى كلمة او اشعارا بكون الامرين متناقضين مع كونهما قبيحا ومع ذلك جمع الكفار بين الامرين المتناقضين لفرط حماقتهم وجه التناقض ان الافتراء على الله ودعوى انه تعالى حرم كذا وأحل كذا واتخذ صاحبة وولدا ويقبل شفاعة الأصنام مثل دعوى الرسالة يزعمون وجوب قبوله بلا دليل وتكذيبهم الآيات والمعجزات وقولهم الرسول لا يكون بشرا بل لا بد ان يكون ملكا يشعر وجوب عدم قبول دعوى الرسالة مع قيام الادلة القاطعة إِنَّهُ اى الشان لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فضلا عمن هو اظلم الناس لا أحد اظلم منه «1» .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ يعنى الكفار وما عبدوه جَمِيعاً يعنى يوم القيمة قرأ يعقوب بالياء على الغيبة والضمير عائد الى الله تعالى ووافقه حفص فى سبا والباقون بالنون على التكلم فى الموضعين والظرف معمول بفعل
__________
(1) شعر
واى بر قومى كه بت را سجده بي حجت كنند ... با رسل گويند ايتونا بسلطن مبين
. 12 منه(3/225)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
محذوف حذف الفعل لينتقل الذهن الى احوال كثيرة واهوال متعددة تلحق الناس فى ذلك اليوم كانه قال يدهشون دهشة لا يحيط به العبارة وتدنو الشمس منهم ويلجمهم العرق ويذهب عرقهم فى الأرض سبعين باعا كما ورد فى الصحاح من الأحاديث ويفعل بهم كيت كيت يوم يحشرهم وجاز ان يكون مفعولا به لا ذكر ثُمَّ نَقُولُ معطوف على نحشر وفى كلمة ثم اشارة الى انتظارهم بعد الحشر الى السؤال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل فى الكنانة خمسين الف سنة لا ينظر إليكم رواه الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر وقال تمكثون الف عام فى الظلمة يوم القيامة لا تكلمون رواه البيهقي عن ابن عمر لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ اى الهتكم التي جعلتموها شركاء الله فى العبادة الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ اى تزعمونها شركاء فى استحقاق العبادة او تزعمونها شفعاء عند الله حذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالياء على التذكير وفِتْنَتُهُمْ بالنصب على انه خبر كان واسمها إِلَّا أَنْ قالُوا وقرأ نافع وابو عمرو وابو بكر وابو جعفر لم تكن بالتاء على التأنيث لتانيث الخبر وفتنتهم بالنصب وابن كثير وابن عامر وحفص لم تكن بالتاء على التأنيث وفتنتهم بالرفع على انه اسم كان والمستثنى حبره وكلمة ثم تدل على طول التأمل فى الجواب والمراد بالفتنة الكفر يعنى يكون عاقبة كفرهم هذا القول بعد طول التأمل والندامة وقال ابن عباس وقتادة معذرتهم وانما سمى المعذرة فتنة لانهم يتوهمون بها خلاص أنفسهم من فتنت الذهب إذا أخلصته وقيل معنى فتنتهم جوابهم وانما سماه فتنة لانه كذبا ولانهم قصدوا بها الخلاص وقيل معناه التجربة ولما كان سوالهم تجربة لاظهار ما فى قلوبهم سمى الجواب فتنة قال الرجاج فى قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتن بحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنة الا هذا كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام قلت بل بتقليد الآباء ثم لما رأوا العذاب تبرأوا منها وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ مقولة قالوا قرأ حمزة ربنا بالنصب على النداء او المدح والباقون بالجر على انه نعت لله روى البخاري وغيره عن ابن عباس فى قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثا وقوله تعالى والله ربنا ما كنا مشركين انه قال ان المشركين لما راوا يوم القيامة ان الله يغفر لاهل الإسلام ويغفر الذنوب و(3/226)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
لا يغفر الشرك جحدوا رجاء ان يغفر لهم فقالوا والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا فقال الله تعالى.
انْظُرْ ايها المخاطب كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ اى زال وذهب عنهم افترائهم بان الله حرم هذا وهؤلاء شفعاءنا عند الله عطف على كذبوا وكيف حال من فاعل كذبوا قدم لاقتضاء الاستفهام الصدارة ومضمون الجملة مفعول انظر يعنى انظر كذبهم على أنفسهم متكيفين باى كيفية حيث لا يفيدهم قال الكلبي اجتمع ابو سفيان بن حرب وابو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعه وامية وابى ابنا خلف والحرث بن عامر يستمعون القران فقالوا للنضر يا با قتيلة ما يقول محمد قال ما أدرى ما يقول الا انه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون واخبارها فقال ابو سفيان انى ارى بعض ما يقول حقا فقال ابو جهل كلا لا تقر بشئ من هذا وفى رواية الموت أهون علينا من هذا فانزل الله تعالى.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلو القران وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً جمع كنان وهو ما يستر الشيء أَنْ يَفْقَهُوهُ اى لئلا يفقهوه او كراهة ان يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا يمنع أسماعهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من المعجزات لا يُؤْمِنُوا بِها لانه تعالى جعل على أبصارهم غشاوة وعلى قلوبهم اكنة وتلك الاكنة موجبة لفرط عنادهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واستحكام تقليدهم بالآباء حيث لا يرون الحسن حسنا ولا القبيح قبيحا حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا حتى عاطفة تدخل على الجمل عطف على لا يؤمنون وإذا ظرف تضمن معنى الشرط جوابه يجادلونك ويقول تفسير له او يقال يجادلونك منصوب المحل على انه حال من فاعل جاؤا وجواب الشرط يقول والمعنى بلغ عدم ايمانهم وتكذيبهم الى مرتبة المجادلة وجعل اصدق الحديث خرافات الأولين والمجيء لاجل المجادلة وهذا غاية التكذيب وجاز ان يكون حتى جارة وإذا فى محل الجر متعلقا بقوله تعالى لا يؤمنون على مذهب سيبويه حيث يقول بجواز وقوع إذا غير ظرف خلافا لجمهور النحاة وعلى هذا التأويل(3/227)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
يجادلونك حال ويقول تفسير له وفى يقول الذين كفروا وضع المظهر موضع المضمر إِنْ هذا يعنى ما هذا القران إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مقولة يقول فى القاموس السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر والخط والجمع اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع أساطير والأساطير الأحاديث التي لا نظام لها وقال البيضاوي الأساطير الأباطيل قلت هذا لازم معناه الحقيقي فان المكتوب فى كتب قصص الأولين غالبا يكون أباطيل لعدم الاطلاع على ما سبق وعدم الاحتياط فى الرواية ويكون قصص الأولين غالبا لا نظام لها لاجل اختلاف الروايات ثم استعمل لفظ أساطير الأولين فى الأحاديث الباطلة الكاذبة حتى صار هو معناه الحقيقي المنقول اليه.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ قال ابن عباس نزلت الاية فى ابى طالب كان ينهى المشركين ان يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به فلا يؤمن به كذا اخرج الحاكم وغيره عنه وعلى هذا ضمير الجمع راجع الى ابى طالب ومن يساعده وكذا اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن ابى هلال حيث قال نزلت فى عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه فى العلانية وأشد الناس عليه فى السر فمعنى الاية ينهون الناس عن إيذائه صلى الله عليه وسلم وينئون اى يتباعدون عن اتباعه قال البغوي انه روى انه اجتمع رؤس المشركين الى ابى طالب وقالوا خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم فقال ابو طالب ما أنصفتموني ادفع إليكم ولدي لتقتلوه واربى ولدكم وروى ان النبي صلى الله عليه وسلم دعاه الى الإسلام فقال لولا ان يعيرنى قريش لا قررت به عينك ولكن أذب عنك ما حييت وقال فيه أبياتا شعر
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى اوسّد فى التراب دفينا
فاصدع بامرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك عنك عيونا
دعوتنى وعرفت انك ناصحى ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بانه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة او حذار مسبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
غضاضة الشباب نضارته وطراوته وقال محمد بن الحنفية والضحاك وقتادة نزلت فى كفار مكة ومعناه ينهون الناس(3/228)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم او القران ويتباعدون عنه وَإِنْ اى ما يُهْلِكُونَ بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ان ضرره يعود إليهم ولا يعود الى النبي صلى الله عليه وسلم منه شىء.
وَلَوْ تَرى الكفار إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يعنى حين يوقفون على النار حتى يعاينوها ويطلعوا عليها او يدخلوها فيعرفوا عذابها وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا عجيبا فزيعا فَقالُوا عطف على وقفوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ الى الدنيا دار العمل وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قرأ حفص وحمزة الفعلين منصوبين على جواب التمني بإضمار ان بعد الواو وقرأ ابن عامر برفع الاول عطفا على نرد او حالا من الضمير فيه ونصب الثاني على الجواب والباقون بالرفع فيهما عطفا على نرد او حالا من فاعله او استينافا وقال المحقق التفتازانيّ هو عطف الخبر على الإنشاء وهو جائز إذا اقتضاه المقام.
بَلْ إعجاب عن ارادة الايمان والعزم عليه المفهوم من التمني يعنى انما قالوا ذلك ضجرا على كفرهم لا عزما على الايمان بَدا لَهُمْ اى ظهر لهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ فى الدنيا من النفاق او ما كان اهل الكتاب يخفون نعت النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم او ما كانوا يخفون فى الاخرة من الشرك حين قالوا والله ربنا ما كنا مشركين قال النضر بن شميل معناه بدا عنهم وقال المبرد بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون وَلَوْ رُدُّوا الى الدنيا فرضا بعد ما عاينوا نار جهنم لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي لان مبادى تعيناتهم ظلال اسم الله المضل لا يحتمل صدور الايمان منهم وان كانوا على يقين من حقية الايمان وبطلان الكفر كما ان اليهود كانوا ينكرون ويبغضون محمدا عليه السلام وهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويجحدون بما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوه بعدم التكذيب والايمان على قراءة الرفع او فيما يفهم من الوعد من التمني او المعنى انهم معتادون بالكذب لا يتكلمون بمقتضى الآيات من التوحيد وغير ذلك عوض العايضين اخرج الطبراني فى الأوسط عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليعذرن الله الى آدم يوم القيمة ثلثة معاذير يقول يا آدم لولا انى لعنت الكاذبين وأبغضت الكذب والخلف وواعدت عليه لرحمتك اليوم ولدك أجمعين(3/229)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
ولكن حق القول منى لئن كذّبت رسلى وعصى امرى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ويقول الله يا آدم انى لا ادخل النار أحدا ولا أعذب منهم الا من علمت بعلمي انى لورددته الى الدنيا لعاد الى شر ما كان فيه لم يرجع ولم يعقب ويقول الله يا آدم قد جعلتك حكما بينى وبين زريتك قم عند الميزان إذا يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم انى لا ادخل النار الا ظالما.
وَقالُوا عطف على لعادوا يعنى لوردوا قالوا او على انهم لكاذبون يعنى وهم الذين قالوا ذلك فى الدنيا او على نهوا يعنى لو ردوا لعادوا لما نهوا ولما قالوا او استيناف بذكر ما قالوه فى الدنيا إِنْ هِيَ الضمير للحيوة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى القربى مؤنث ادنى من الدنو وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسوال والتوبيخ وقيل معناه على قضاء ربهم او جزائه او عرفوه حق التعريف وجواب لو محذوف مثل ما تقدم قالَ الله او خزنة النار بإذن الله كانه جواب قائل قال ماذا قال ربهم حينئذ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ المشار اليه البعث وما ترتب عليه من الثواب والعقاب استفهام للتفريع والتعيير على التكذيب قالُوا بَلى وَرَبِّنا أقروا مؤكدا باليمين لظهور الأمر كل الظهور وللتبرى عن الشرك والتكذيب وقال ابن عباس هذا فى موقف وللقيامة مواقف ففى موقف يقرون وفى موقف ينكرون قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ع اى بسبب كفركم او يبدله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ اى بالبعث بعد الموت المفضى الى روية الله خسر الكافرون حيث أنكروا البعث والجنة والنار ففاتهم النعيم المقيم واستبدلوا بها العذاب الأليم وخسر المعتزلة حيث أنكروا روية الله تعالى فيحرمون عنها وأنكروا الشفاعة والمغفرة فيحرمون عنهما قال الله تعالى انا عند ظن عبدى بي متفق عليه عن ابى هريرة مرفوعا وعند الطبراني والحاكم بسند صحيح عن واثلة واخرج اللالكائى عن ابراهيم الصائغ قال ما يسرنى ان لى نصف الجنة بالروية ثم تلى كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم انهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون قال بالروية حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ قال البيضاوي غاية لكذبوا لا لخسروا فان خسرانهم لا غاية له فان قيل تكذيبهم منته الى الموت لا الى قيام(3/230)
الساعة قلنا لعل المراد بالساعة ساعة الموت فانه من مات فقد قامت قيامته فى الصحيحين عن عائشة قالت كان رجال من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الساعة فكان ينظر الى أصغرهم فيقول ان يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم وان كان المراد بها القيامة فالموت مقدمة للساعة فكانها هى الساعة او جعل الساعة زمان الموت لسرعة مجئ الساعة بعدها وحينئذ يمكن ان يقال انه غاية للخسران لان الخسران فوات راس المال وحين الموت لم يبق راس المال وهى الحيوة فانتهى زمان خسرانهم وبعده زمان الإفلاس بَغْتَةً يعنى فجأة منصوب على الحال او المصدر فانها نوع من المجيء قالُوا يا حَسْرَتَنا جواب إذا ذكر على وجه النداء يعنى تعال هذا او انك عَلى ما فَرَّطْنا فِيها اى فى الحيوة الدنيا من عمل الخير فهو إضمار بلا ذكر المرجع للعلم به او الضمير راجع الى الساعة يعنى قصرنا فى شان الساعة والايمان بها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ يعنى أعمالهم القبيحة عَلى ظُهُورِهِمْ إذا خرجوا من القبور اخرج ابن ابى حاتم عن عمرة بن قيس الملائى ان المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله فى احسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفنى فقال لا الا ان الله قد أطيب ريحك واحسن صورتك فيقول كذلك كنت فى الدنيا انا عملك الصالح طال ما ركبتك فى الدنيا اركبنى اليوم وتلا يوم نحشر المتقين الى الرحمن وفدا وإن كان الكافر يستقبله عمله فى أقبح صورة وأنتنه ريحا فيقول او لا تعرفنى قال لا الا ان الله قبح صورتك ونتن ريحك فيقول كذلك كنت فى الدنيا انا عملك السيء طال ما ركبتى فى الدنيا وانا أركبك اليوم وتلى وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وعن ابى هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم الغلول وامره ثم قال الا الفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني فاقول لا املك من الله شيئا قد أبلغتك الحديث ذكر فيه على رقبته فرس له حمحمة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته صامة متفق عليه وروى ابو يعلى والبزار عن عمر بن الخطاب نحوه واخرج الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف ان يحمل على عاتقه وفى الصحيحين عن عائشة مرفوعا من ظلم قيد شبر من ارض طوقه الله يوم القيامة من سبع ارضين وفى الباب عند الطبراني عن الحكم بن حارث وانس وعنده وعند احمد عن يعلى بن مرة وابى مالك الأشعري(3/231)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ اى بئس شيئا يزرونه وزرهم.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ جواب لقولهم ان هى الا حيوتنا الدنيا واللعب فعل لا يكون له غرض صحيح ولا يترتب عليه منفعة واللهو ما يشغله عما ينفعه يعنى ما الأعمال التي يقصد بها معيشة الدنيا ولذاتها من غير ان يبتغى بها وجه الله تعالى الا باطلا لا ينفع منفعة معتدة بها لسرعة زوالها فكانها لا منفعة فيها أصلا وهى شاغلة عما يفيده فى الحيوة الابدية وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ قرأ ابن عامر ولدار الاخرة بالاضافة بتأويل ولدار الساعة الاخرة كصلوة الوسطى ومسجد الجامع والباقون بالتوصيف خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عن الشرك والمعاصي لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها وتخصيص الخيرية بالمتقين لانها شر للمشركين حيث يعذبون فيها وفيه اشارة الى انه ما ليس من اعمال المتقين لعب ولهو فان اعمال المتقين فى مقابلة اعمال الدنيا أَفَلا تَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة يعنى أفلا يعقلون اى الامرين من اعمال الدنيا والاخرة خير فان خير ما يكون منفعته قوية خالصة ابدية على ما هى ضعيفة مشوبة بالمضرات على شرف الزوال بديهية روى الترمذي والحاكم عن على ان أبا جهل قال للنبى صلى الله عليه وسلم انا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فانزل الله تعالى.
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الاية قال البيضاوي قد لزيادة الفعل وكثرته كما فى قوله ولكنه قد يهلك المال نايله وضمير انه للشان قال السدى التقى الأخنس بن شريف وابو جهل ابن هشام فقال الأخنس لابى جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد بن عبد الله اصادق هو أم كاذب فانه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى فقال ابو جهل والله ان محمد الصادق وما كذب محمد قط لكن إذا ذهب بنو قصى باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لساير قريش فانزل الله عز وجل فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع والكسائي بالتخفيف من الافعال من أكذبه إذا وجده كاذبا والباقون بالتشديد من التفعيل بمعنى نسبته الى الكذب وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قال ناجية بن كعب قال ابو جهل للنبى صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب التي جئت به وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على انهم ظلموا لجحودهم او جحدوا لتمرنهم على الظلم والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب يعنى ان تكذيبهم(3/232)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
إياك راجع الى الله تعالى فانهم انما يكذبونك من حيث الرسالة وتكذيب الرسول من حيث انه رسول تكذيب للمرسل.
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى كذّبهم قومهم كما كذبك قومك وفيه دليل على ان قوله لا يكذبونك ليس على حقيقة بل المراد منه ان تكذيبه صلى الله عليه وسلم راجع الى تكذيب الله سبحانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من آذاني فقد أذى الله فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا يعنى على تكذيبهم وإيذائهم حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا جعل غاية الصبر النصر فاصبر أنت ايضا كما صبروا حتى يأتيك النصر ففيه وعد بالنصر وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ اى لمواعيده بالنصرة لانبيائه قال الله تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال انا لننصر رسلنا وقال كتب الله لاغلبن انا ورسلى وجاز ان يكون المعنى لا مبدل لقضائه وكلماته التكوينية يعنى متى لم يأت وقت النصر لا فائدة للاضطراب بل لا بد من الصبر وإذا جاء وقت النصر لا مرد له وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ من زائدة عند الأخفش وتبعيضية عند سيبويه حيث لا يجوز زيادة من فى الكلام الموجب يعنى جاءك ما يكفيك للتسلية من نبأ المرسلين ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على ايمان قومه وكان يشق عليه اعراضهم من الايمان وكان إذا سئلوا اية أحب ان يريهم الله تعالى طمعا فى ايمانهم انزل الله تعالى.
وَإِنْ كانَ كَبُرَ اى شق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الايمان بما جئت به فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب نَفَقاً سريا فِي الْأَرْضِ صفة لنفقا يعنى تطلب منفذا تنفذ الى جوف الأرض فتطلع لهم اية أَوْ سُلَّماً يعنى مصعدا فِي السَّماءِ صفة سلما يعنى تطلب مصعدا جانب العلو تصعد منه الى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فتنزل منها اية وجواب الشرط الثاني محذوف يعنى فافعل والجملة جواب للشرط الاول والحاصل انك لا تقدر على إتيان اية فلا تتعب وان كبر عليك اعراضهم بل تصبر وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم أجمعين لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فان مشية العباد مخلوقة لله تعالى تابع للمشية لكنه لم يشأ لحكمة لا يعلمها الا الله ولا تتمالك أنت فلا تتعب واصبر فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فان اتعاب النفس فيما لا يفيد والجزع(3/233)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
فى مواضع الصبر من داب الجاهلين او المعنى لا تكونن من الجاهلين بان هدايتهم بمشية الله تعالى لا بمشيتك.
إِنَّما يَسْتَجِيبُ دعوتك من أمتك الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعنى الذين يخلق الله تعالى فى قلوبهم علما بحقية المسموع اطلق السمع وأريد به العلم الحاصل بعد ذلك جريا على عادة الله تعالى وَالْمَوْتى يعنى الكافر عبر الله تعالى الكافر بالموتى لان الله تعالى لما طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلا يخلق فى قلوبهم العلم بحقية ما هو حق وبطلان ما هو باطل فلا ينتفعون بالأسماع والابصار كانوا كالموتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فيجازيهم على كفرهم ولا يسمعون الحق ولا يبصرونه قبل ذلك او المعنى والموتى من المؤمن والكافر يبعثهم الله ثم اليه يرجعون بعد البعث فيجازيهم على حسب أعمالهم.
وَقالُوا يعنى روساء قريش لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى اية مما اقترحوه او اية اخرى سوى ما انزل عليه من الآيات المتكثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحوه او اية يضطرهم الى الايمان كنتق الجبل او اية ان جحدوا بعدها هلكوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ان الله قادر على انزالها او ما عليهم فى انزالها من الاستيصال بعد تكذيب اية ينزل باقتراحهم كما هو عادة الله تعالى.
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدب عليها وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ فى الهواء وضعه به تأكيدا وقطعا لاحتمال مجاز السرعة ونحوها الّا امم أَمْثالُكُمْ فى الخلق والموت والبعث وفى الغذاء وابتغاء الرزق والعافية وإصابة البلاء لا مزية لكم عليها الا بمعرفة الله تعالى ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ يعنى فى اللوح المحفوظ مِنْ شَيْءٍ من زائد وشىء فى موضع المصدر اى شيئا من التفريط وليس بمفعول به فان فرط لا يتعدى بنفسه يعنى علم الله تعالى شامل لكل شىء خفى وجلى ولم يهمل فى اللوح المحفوظ امر حيوان ولا جماد او المراد بالكتاب القران فانه قد دون فيه ما يحتاج اليه من امر الدين مفصلا او مجملا ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعنى الأمم كلها المشبه والمشبه به فصح الجمع بالواو قال ابن عباس والضحاك حشرها موتها وروى ابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي عن ابى هريرة قال يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم و(3/234)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
الدواب والطير وكل شىء فبلغ من عدل الله تبارك وتعالى ان يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كونى ترابا فذلك حين يقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا وروى البغوي عنه انه قال عليه الصّلوة والسّلام لتؤدن الحقوق الى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وروى الطبراني فى الأوسط عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أول خصم يقضى فيه يوم القيامة عنزان ذات قرن وغير ذات قرن ونحوه عن ابى ذر عند احمد والبزار والطبراني وروى الحاكم عن ابن عمر ونحوه ولما ذكر من خلائقه واثار قدرته ما يدل على عظمته وشمول علمه وقدرته على البعث والجزاء قال.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون مثل هذه الآيات المنبهة خبر للموصول وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق معطوف على صم فِي الظُّلُماتِ خبر بعد خبر والمراد بالظلمات ظلمة الكفر والجهل والعناد وتقليد الآباء وجاز ان يكون حالا من المستكن فى الخبر ثم قال إيذانا بان الاهتداء بالآيات وعدمه يتوقف على مشية الله تعالى وانه تعالى يفعل ما يريد مَنْ يَشَأِ اللَّهُ ضلاله يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ هدايته يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى ما هو حق فى نفس الأمر.
قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين أَرَأَيْتَكُمْ قرأ نافع ارايتكم وارايتم وأ فرأيت وشبهه إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة والتي بعد الراء والكسائي يسقطها أصلا وحمزة يوافق نافعا فى الوقف فقط والباقون يحققونها فى الحالين استفهام تعجيب والكاف حرف خطاب أكد به الضمير المرفوع المفرد بناء على شمول الجمع المفرد ولا محل له من الاعراب ومفعولاه محذوفان تقديره ارايتكم الهتكم تنفعكم إذ تدعونها يدل عليهما ما بعده او الفعل فى المعنى متعلق بغير الله تدعون لكنه معلق لان الروية تعلق قبل الاستفهام كما عرف فى موضعه قال البيضاوي الاستفهام للتعجيب فانهم لما عاملوا معاملة من يعلم انه يدعو غير الله فى الابتلاء الشديد نزلهم منزلتهم وتعجيب عن هذا العلم وقال الفراء يقولون ارايتك وهم يريدون أخبرنا قال المحقق التفتازانيّ انما وضع الاستفهام عن العلم او عن روية البصر عن الاستخبار لان الروية بالبصر سبب للعلم والعلم سبب للاخبار فوضع السبب موضع المسبب إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ فى الدنيا كما اتى الأمم الماضية أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ باهوالها أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بصرف(3/235)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
العذاب عنكم استفهام انكار فيه تبكيت لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ان الأصنام الهة فادعوها وليس الأمر كذلك.
بَلْ إِيَّاهُ يعنى الله تعالى تَدْعُونَ قدم المفعول للحصر يعنى لا تدعون فى الشدائد الا الله سبحانه لا غير فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ اى ما تدعونه الى كشفه إِنْ شاءَ كشفه ذلك فى الدنيا دون الاخرة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ع يعنى تتركون الهتكم فى ذلك الوقت لما تقرر فى العقول ان القادر على كشف الضر هو الله تعالى لا غير.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ من زائدة فكذبوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ بالشدة والفقر وَالضَّرَّاءِ المرض والآفات لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ اى يتوبون بالتضرع والخشوع عن ذنوبهم التضرع السؤال بالتذلل.
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا يعنى فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا وانما عدل عن نفى التضرع الى صيغة التنديم ليفيد ان ترك التضرع منهم لم تكن من عذر بل كان مع قيام ما يدعوهم اليه وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فلم ينتبهوا بما ابتلوا به وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فاستحسنوا سيئات أعمالهم استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وانه لا مانع لهم الا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم بتزيين الشيطان.
فَلَمَّا نَسُوا تركوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ما وعظوا وأمروا به ولم ينتبهوا بالبأساء والضراء ولم يتضرعوا فَتَحْنا قرأ ابن عامر هاهنا وفى الأعراف والقمر وفتحت فى الأنبياء بتشديد التاء فى الاربعة من التفعيل للتكثير وقرأ ابو جعفر فى كل القران بالتشديد والباقون بالتخفيف فى الكل عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من انواع النعم استدراجا ومكرا بهم عن عقبة بن عامر مرفوعا إذا رايت يعطى العبد فى الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يجب فانما هو استدراج ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نسوا ما ذكروا به الاية والتي بعدها حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا فرح بطر اى بطروا ولم يتوجهوا الى المنعم شكرا كما لم يتضرعوا اليه فى الضراء وقام عليهم حجة بامتخانهم بالسراء والضراء ولم يبق بهم معذرة أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أخذا فجاة اعجب ما كانت الدنيا لهم فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من كل خير.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فى القاموس الدابر التابع واخر كل شىء(3/236)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
والأصل والمعنى انهم اهلكوا كلهم ولم يبق منهم أحد حتى يتوالد فقطع نسلهم فقطع الدابر اما باعتبار هلاك الأصول او باعتبار قطع الاتباع والفروع وضع المظهر موضع المضمر ليدل على ان هلاكهم كان لاجل ظلمهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم حمد نفسه عند هلاك الظلمة لانه نعمة جليلة من حيث دفع شرهم عن المؤمنين وتطهير الأرض عن العقائد والأعمال الفاسدة الموجبة لنزول العذاب ووصف نفسه برب العالمين لان مقتضى ربوبية العالم إهلاك الظلمة وفيه إيذان بوجوب الحمد عند هلاك من لم يحمد لله ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله.
قُلْ يا محمد أَرَأَيْتُمْ ايها المشركون إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ بان اصمكم واعميكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بان يغشها بما يزول به عقولكم وجواب الشرط محذوف يدل عليه قوله مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ يعنى لا يأتكم به أحد والجملة الشرطية فى موضع المفعولين لرايتم والاستفهام للتقرير يعنى قد علمتم انه لا يأتيكم أحد بشئ مما ذكره ان اخذه الله انْظُرْ يا محمد كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فى القاموس صرف الآيات تبيينها كذا قال البغوي يعنى نبيّن العلامات الدالة على التوحيد وقال البيضاوي معناه نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من حيث الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ اى يعرضون عنها وثم لاستبعاد الاعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.
قُلْ يا محمد أَرَأَيْتَكُمْ ايها المشركون إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً منصوبان على المصدرية او على الحالية يعنى اتيانا بغتة فجاة من غير تقدم امارة إتيانه او اتيانا جهرة اى ظاهرة قبل إتيانه بتقدم اماراته او المعنى أتاكم عذابه حال كونه مباغتا اى مفاجيا او مجاهرا وقال ابن عباس والحسن معناه ليلا او نهارا هَلْ يُهْلَكُ استفهام انكار ومعناه النفي ومن ثم جاز الاستثناء المفرغ فالتقدير ما يهلك إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ على أنفسهم بالكفر.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة وَمُنْذِرِينَ الكافرين بالنار يعنى ما نرسلهم قادرين على إتيان الآيات المقترحة وهداية من لم يشأ الله هدايته ولا على شىء اخر من الأحوال التي يتوقعها الكفار الا حال كونهم مبشرين ومنذرين فَمَنْ(3/237)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
آمَنَ
بما جاؤا به وَأَصْلَحَ عمله طمعا فيما بشروا به وخوفا مما حذروه من النار فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات الثواب.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المبشرة والمنذرة يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ جعل العذاب ما سالهم كانه حى يفعل بهم ما يريد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب خروجهم عن الايمان والطاعة.
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ اى مقدوراته او خزائن رزقه وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عندى خزائن الله ولا زائدة يعنى لا أقول لكم اعلم الغيب ما لم يوح الىّ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ من الملئكة حتى ينافى دعوى الاكل والشرب والنكاح يعنى لا أقول لكم شيئا يجب إنكاره عقلا او يستدعى اقتراح الآيات إِنْ أَتَّبِعُ فى تعليم العلوم وتبليغ الاحكام شيئا إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ يعنى انما ادعى النبوة واتصدى بما يتصدى له الأنبياء ولا استحالة فيه بل هو جائز عقلا واقع تواتر به الاخبار عن الأنبياء الماضين فيه رد على استبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه وقال البغوي هذه الاية نزلت حين اقترحوا الآيات يعنى قل لهم لا أقول لكم عندى خزائن الله حتى اجعل لكم الصفا ذهبا وأعطيكم ما تريدون ولا اعلم الغيب حتى أخبركم بما مضى وما سيكون من غير وحي من الله ولا أقول لكم انى ملك حتى لا احتاج الى الاكل والشرب والنكاح ان اتبع الا ما يوحى إليّ قُلْ يا محمد هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى يعنى الذي لا يمتاز بين الحق والباطل فينكر ما لا يجوز إنكاره ويصدق ما لا يجوز تصديقه وَالْبَصِيرُ الذي يمتاز بينهما فيصدق من يدعى النبوة بعد شهادة الآيات والمعجزات ويكذب من يدعى ان مع الله الهة اخرى ويقول للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند الله وان الملئكة بنات الله ويقول بتحريم السوائب مثلا بلا دليل أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا للامتياز بين الحق والباطل وما يجب تصديقه وما لا يجوز القول به.
وَأَنْذِرْ بِهِ اى خوف بما يوحى الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا اى يجمعوا ويبعثوا إِلى رَبِّهِمْ قال البيضاوي أراد بالموصول المؤمنون المفرّطون فى العمل او المجوزون الحشر مومنا كان او كافرا مقرا به من اهل الكتاب او مترددا فيه فان الانذار ينجع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته والباعث له على هذا القول كون الخوف صلة له وهذا ليس بشئ لان الأمر بالإنذار(3/238)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
لم يكن مختصا بمن ذكر بل امره الله تعالى بان يقول اوحى الىّ هذا القران لانذركم به ومن بلغ وايضا لا وجه لتخصيص الانذار بالمفرطين فان المجتهدين فى العمل ايضا ينفعهم الانذار كيلا يخرجوا من اجتهادهم كيف ولم يكن من المؤمنين فى خير القرون مفرط بل كلهم كانوا مجتهدين فالاولى ان يقال المراد بالموصول من كان من شانه ان يخاف فيعم الناس أجمعين فان العبد المقهور حقيق ان يخاف الخالق القهار او يقال خص الخائفون بالذكر لانهم هم المنتفعون بالإنذار لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ اى من دون الله وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ الجملة فى موضع الحال من الضمير فى يحشروا فان المخوف هو الحشر فى هذا الحال يعنى يحشرون غير منصورين ولا مشفوعا لهم قلت وجاز ان يكون مضمون هذه الجملة بدلا من الضمير المجرور فى انذر به يعنى انذر بان ليس لهم من دون الله من ولى ولا شفيع فلا يعبدوا ولا يدعوا الا إياه فان قيل هذه الاية ينفى الولاية والشفاعة لغير الله تعالى من الأولياء والأنبياء قلنا لا بل ولاية الأولياء وشفاعتهم انما هى بإذن الله تعالى فهى ولاية الله تعالى وشفاعته لا غير لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى لكى يتقوا روى احمد والطبراني وابن ابى حاتم عن ابن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خبّاب وصهيب وبلال وعمار فقالوا يا محمد رضيت بهؤلاء أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا لو طردت هؤلاء لاتبعناك فانزل فيهم القران وانذر به الذين يخافون ان يحشروا الى ربهم الى قوله سبيل المجرمين وروى ابن حبان والحاكم عن سعد ابن ابى وقاص قال لقد نزلت هذه الاية فى ستة انا وعبد الله بن مسعود واربعة قالوا يعنى كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم اطردهم فانا نستحيى ان نكون تبعا لك كهولاء فوقع فى نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله فانزل الله تعالى وروى مسلم بلفظ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون اطردهم لا يجترؤا علينا قال كنت انا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمها فوقع فى نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ان يقع فحدث نفسه فانزل الله تعالى.
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ اى يعبدونه ويذكرونه فان عبادة الكريم وذكره داع الى انعامه وقيل المراد منه حقيقة الدعاء بِالْغَداةِ قرأ ابن عامر هاهنا(3/239)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
وفى سورة الكهف بضم الغين وسكون الدال وواو مفتوحة والباقون بفتح الغين وو الدال والالف وَالْعَشِيِّ قال ابن عباس يعنى صلوة الصبح والعصر ويروى عنه ان المراد منه الصلوات الخمس وذلك ان ناسا من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ناس من الاشراف إذا صلينا فاخّره هؤلاء ليصلوا خلفنا فنزلت الاية يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حال من فاعل يدعون يعنى يدعون مخلصين فان الإخلاص ملاك الأمر رتب النهى عليه اشعارا بانه يقتضى إكرامهم وينافى طردهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ من زائدة وشىء اسم ما والظرف خبره ومن حسابك وكذا من حسابهم حال من الظرف يعنى ان الطرد وترك المجالسة انما يجوز بل يجب إذا أضر مجالسة أحدهما صاحبه وليس فلا يجوز او المعنى لا يضرك حسابهم بل ينفعك فانهم يأتون بالحسنات وثواب حسنات الامة راجع الى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يضرهم حسابك بل ينفعهم فانك قد بلغتهم وأرشدتهم وهديتهم والجملة المنفية فى موضع الحال من الموصول فى لا تطرد الذين ويمكن ان يكون ضمير حسابهم وعليهم راجعا الى المشركين والمعنى لا تواخذ بحساب المشركين ولا هم بحسابك حتى يهمك ايمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه فَتَطْرُدَهُمْ منصوب على جواب النفي يعنى ما ثبوت حسابهم عليك فتطردهم منك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ منصوب على جواب النهى يعنى لا يكن منك طردهم فكونك من الظالمين.
وَكَذلِكَ الكاف زائدة كما فى قوله تعالى ليس كمثله شىء والمشار اليه ضلال رؤساء قريش واسم الاشارة منصوب المصدرية بقوله تعالى فَتَنَّا يعنى اضللنا ذلك الضلال بَعْضَهُمْ اى بعض الناس يعنى كفار قريش بِبَعْضٍ اى ببعضهم يعنى فقراء المؤمنين حيث امتنعوا من الإسلام بسببهم قال التفتازانيّ شاع هذا التركيب فى معنى فتنا بعضهم ببعض ذلك الفتن ولا يراد به مثل ذلك الفتن او يقال معناه مثل ذلك الفتنة التي فتنا رؤساء قريش فتنا بعض الناس ببعض فى الأمم السابقة حيث قال قوم نوح ما نريك الا بشرا مثلنا وما نريك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادى الرأي وقال نوح ما انا بطارد الذين أمنوا وقال البيضاوي معناه مثل ذلك الفتن وهو اختلاف الناس فى امور(3/240)
الدنيا بالفقر والغناء فتنا يعنى ابتلينا بعضهم ببعض فى امر الدين فقد منا هؤلاء الضعفاء على اشراف قريش بالسبق الى الايمان لِيَقُولُوا اى الأغنياء واللام للعاقبة أَهؤُلاءِ الفقراء مَنَّ اى أنعم اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية والتوفيق لما يسعدهم مِنْ بَيْنِنا دوننا انكار لتخصيص الفقراء باصابة الحق والسبق الى الخير وحاصله لو كان خيرا ما سبقونا اليه أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ يعنى بالذين هم مستعدون للشكر فيوفقهم له وبمن ليس فى استعداده قبول الايمان والشكر فيخذله وهذه الاية تدل على ان الاستعداد يسبق الوجود كما قال المجدد رضى الله عنه ان مربيات تعينات المؤمنين ظلال اسم الله تعالى الهادي ومربيات تعينات الكفار ظلال اسم الله تعالى المضل فلا يمكن لاحد من الفريقين ان يصدر منه الا ما خلق منه وخلق لاجله وجاز ان يكون معنى قول الكفارا هؤلاء الفقراء الأراذل منّ الله عليهم بتخصيص صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم دوننا فقال الله تعالى أليس الله بأعلم بالشاكرين فان الشاكرين هم الاحقاء بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم دون الأغنياء قال البغوي قال سلمان وخباب بن الأرت فينا نزلت هذه الاية جاء الأقرع ابن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وغيرهم من المؤلفة فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب فى ناس من ضعفاء المؤمنين فلما راوهم حوله حقروهم فاتوا وقالوا يا رسول الله لو جلست فى صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما انا بطارد المؤمنين فقالوا فانا نحب ان تجعل لنا منك مجلسا تعرف العرب فضلنا فان وفود العرب تأتيك فنستحيى ان يرانا العرب مع هؤلاء الا عبد فاذا نحن جئناك فاقمهم عنا فاذا نحن فرغنا فاقعد معهم ان شئت قال نعم قالوا اكتب لنا عليك بذلك كتابا قال فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب قال ونحن قعود فى ناحية إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى ولا تطرد الذين الى قوله بالشاكرين فالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فاتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فاذا أراد ان يقوم قام وتركنا فانزل الله عز وجل واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم(3/241)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
بالغدوة والعشى يريدون وجهه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعدو وندنوا منه حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فاذا بلغ الساعة التي يقوم فيه قمنا وتركنا حتى يقوم وقال لنا الحمد لله الذي لم يمتنى حتى أمرني ان اصبر مع قوم من أمتي معكم المحيي والممات وقال الكلبي قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما قال لا افعل قالوا فاجعل المجلس واحدا فاقبل علينا وولّ ظهرك عليهم فانزل الله تعالى هذه الاية وروى ما ذكر البغوي عن سلمان وخباب وابن جرير وابن ابى حاتم وغيرهما عن خباب وزادوا ثم ذكر الله تعالى الأقرع وصاحبه فقال وكذلك فتنا بعضهم ببعض الاية قال ابن كثير هذا غريب فان الاية مكية والأقرع وعيينة انما أسلما بعد الهجرة بدهر وروى البغوي بسنده عن ابى سعيد الخدري جلست فى نفر من المهاجرين وان بعضهم ليستتر ببعض من العرى وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن القاري فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما كنتم تصنعون
قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاريا يقرأ علينا فكنا نسمع الى كتاب الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرني ان اصبر نفسى معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له قال فما رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحدا غيرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة يدخلون الجنة قبل اغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة واخرج ابن جرير عن عكرمة قال جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدى والحارث بن نوفل فى اشراف بنى عبد مناف من اهل الكفر الى ابى طالب فقالوا لو ان ابن أخيك يطرد عنه هؤلاء الا عبد كان أعظم فى صدورنا وأطوع له عندنا واولى لاتباعنا إياه فكلم ابو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب لو فعلت ذلك حتى تنتظر ما الذي يريدون فانزل الله وانذر به الذين يخافون الى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى ابى حذيفة وصبيحا مولى أسيد وابن مسعود والمقداد بن عبد الله وواقد ابن عبد الله الحنظلي وأشباههم فاقبل عمر فاعتذر من مقالته فنزل.
وَإِذا جاءَكَ(3/242)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال عكرمة نزلت فى الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا راهم بدأهم بالسّلام وقال عطاء نزلت فى ابى بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وسالم وابى عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأرقم بن الأرقم وابى سلمة بن عبد الأسد رضى الله عنهم أجمعين واخرج الفريابي وابن ابى حاتم عن ماهان قال جاء ناس الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا انا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليهم شيئا فانزل الله تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون باياتنا فقل سلام عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بان يبدأهم بالتسليم او يبلغ سلام الله إليهم ويبشرهم بوجوب الرحمة من الله لهم بوعده المؤكد تفضلا بعد بشارتهم بالسلامة مما يكره المستفاد من السّلام أَنَّهُ الضمير للشان قرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الهمزة على انه بدل من الرحمة او بتقدير الباء والباقون بالكسر على الاستيناف على انه تفسير للرحمة مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ فى موضع الحال اى من عمل سوءا جاهلا بحقيقة ما يتبعه....... من المضار والمفاسد او متجاهلا بارتكاب ما يودى الى الضرر من افعال اهل الجهل وذلك التجاهل انما هو لغلبة شهوة النفس فمفعول الجهالة على التقدير الاول محذوف وعلى التقدير الثاني لا يقتضى المفعول ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ اى بعد السوء يعنى رجع عن ذنبه بان ندم على ما فعل وعزم على ان لا يفعل ابدا وَأَصْلَحَ عمله فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب انه بفتح الهمزة على انه خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره محذوف يعنى فامره انه تعالى غفور رحيم او فله انه تعالى غفور والباقون بالكسر والفاء تدل على ان التوبة سبب للغفران.
وَكَذلِكَ يعنى كما فصلنا لك فى هذه السورة نُفَصِّلُ الْآياتِ آيات القران او دلائلنا فى كل حق ينكره الكافرون وَلِتَسْتَبِينَ قرأ ابو بكر وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة وتذكير الفاعل وابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحفص بالتاء على تأنيث الفاعل الغائب ورفع كلهم سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ع على الفاعلية والسبيل يذكر ويؤنث وقرأ نافع لتستبين بالتاء على الخطاب اى لتستوضح يا محمد وسبيل منصوبا على المفعولية والعطف على مقدر تقديره ليظهر الصراط المستقيم ولتستبين(3/243)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
سبيل المجرمين.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ اى صرفت وزجرت بالآيات والادلة العقلية والآيات القرآنيّة السمعية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى ما تدعونها وتسمونها الهة وتعبدونها من دون الله قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تأكيد لقطع اطماعهم وبيان لان ما هم عليه انما هو امر لا دليل عليه سمعا ولا عقلا بل بتبعية الهوى وتعليل لتركه موافقتهم وتنبيه لمن طلب الحق ان يتبع الحجة ولا يقلد قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً يعنى إذا اتبعت أهواءكم فقد ضللت وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حينئذ وفيه تعريض بانهم ليسوا بمهتدين.
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد بيان ما لا يجوز اتباعه يعنى انى على برهان وبصيرة مِنْ رَبِّي صفة لبينة أو صلة له يعنى بينة كائنة من ربى او بينة من معرفة ربى وانه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير راجع الى البينة باعتبار المعنى يعنى كذبتم بالبرهان او راجع الى ربى والمعنى كذبتم بربي حيث أشركتم به ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب حيث تقولون ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم او المراد ما تستعجلون به من القيامة قال الله تعالى يستعجل بها الذين لا يومنون بها إِنِ الْحُكْمُ فى تعجيل العذاب وتأخيره وإتيان القيامة لاحد إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ قرأ نافع وابن كثير وعاصم بالصاد المهملة المشددة يعنى يقول ويبين الْحَقَّ ويفصله او يتبع الحق والحكم من قص اثره والباقون بالضاد المعجمة المكسورة بحذف الياء من يقضى لاجتماع الساكنين وصلا وكذا وقفا اتباعا للخط يعنى يحكم بالحق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الحاكمين والمظهرين.
قُلْ يا محمد لَوْ ثبت أَنَّ عِنْدِي اى فى قدرتى ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب او إتيان القيامة لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى فرغ من العذاب وأهلكتم وانقطع ما بينى وبينكم من المنازعة او المعنى لقضى بإحقاق الحق وابطال الباطل اليوم بقيام الساعة ما يقضى بينى وبينكم أجلا يوم القيامة قال الله تعالى ثم اليه مرجعكم ثم يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ولما كان قوله لقضى الأمر بينى وبينكم مجملا لم يتعين فيه مورد العذاب يبيّنه بقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيهلكهم على مقتضى حكمة.
وَعِنْدَهُ تعالى دون عند غيره يستفاد الحصر من تقديم الظرف مَفاتِحُ الْغَيْبِ مفاتح جمع(3/244)
مفتح بفتح الميم وهو المخزن او جمع مفتح بكسر الميم بمعنى المفتاح وهو ما يتوصل به الى شىء مغلق والمراد بمفتاح الغيب علمه فان بالعلم يدرك المعلوم كانه وصلة والمراد بالغيب ما لم يوجد بعد كاخبار المعاد ومن هذا القبيل ان المطر هل ينزل او لا ومتى ينزل ومنه ما تكسب نفس غدا وانه باى ارض تموت او وجد ولم يظهر الله تعالى على أحد ومنه ما فى الأرحام ومعنى عنده خزائن الغيب احاطة علمه بها كانه موجود عنده تعالى روى البغوي بسنده عن ابن عمر انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا الله لا يعلم ما يغيض الأرحام أحد الا الله ولا يعلم ما فى الغد أحد الا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد الا الله ولا تدرى نفس باى ارض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد الا الله وكذا روى احمد والبخاري وفى الصحيحين فى حديث ابى هريرة فى قصة سوال جبرئيل انه عليه السلام قال فى خمس يعنى الساعة لا يعلمهن الا الله ثم قرأ ان الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الاية قلت وليست خزائن الغيب منحصرة فى الخمس المذكورة بل كل ما لم يوجد او لم يظهر بعد وقال الضحاك مفاتح الغيب خزائن الأرض وعلم نزول العذاب وقال عطاء ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وقيل انقضاء الآجال وقيل احوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أحوالهم ولا تعارض بين هذه الأقوال بناء على ما قلت لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ تنصيص بما أشير اليه من حصر علم الغيب به تعالى يعنى لا يعلم شيئا من المغيبات الا الله تعالى ولا يعلم غيره منها الا بتوقيفه وهو سبحانه يعلم أوقاتها وما فى تعجيلها وتأخيرها من الحكمة وفيه دليل على انه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ من النبات والدواب وغيرها وَالْبَحْرِ من الحيوانات والجواهر وغيرها هذه الجملة للاخبار عن تعلق علمه بالموجودات المشاهدات عطف على الاخبار عن علمه تعالى بالمغيبات وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مبالغة فى احاطة علمه بالجزئيات بعد ما علم ذلك فيما سبق فان ما للنفى ومن للاستغراق اى يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ قال ابن عباس الرطب الماء واليابس البادية وقال عطاء ما ينبت وما لا ينبت وقيل الحي والميت والصحيح انه عبارة عن كل شىء قوله وَلا حَبَّةٍ(3/245)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
مع ما عطف عليه معطوف على ورقة والعطف يشاركهما فى الصفة اعنى لا يعلمها فكانه قال ولا رطب ولا يابس الا يعلمها فقوله تعالى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الاول من بدل الكل على ان الكتاب المبين علم الله تعالى او بدل اشتمال ان أريد به اللوح المحفوظ او يقال حبة معطوف على ورقة والا فى كتاب مبين معطوف على الا يعلمها عطف المعمولين على المعمولين بفعل واحد.
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى ينيمكم فان النوم أحد اقسام التوفى وأصله قبض الشيء بتمامه او هو مستعار من الموت بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ اى كسبتم بالجوارح بِالنَّهارِ خص النوم بالليل والكسب بالنهار نظرا الى الغالب المعتاد وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفى الحكم عما عداه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ اى فى النهار فيه تقديم وتأخير تقديره يتوفيكم بالليل ثم يبعثكم فى النهار ويعلم ما جرحتم به ووجه التقديم الاهتمام بذكر الكسب لِيُقْضى اى ليؤخر أَجَلٌ مُسَمًّى للموت سمى ذلك الاجل حين كان جنينا فى بطن امه بل فى الأزل ثُمَّ إِلَيْهِ اى الى حكمه تعالى بجزاء ما كسبتم مَرْجِعُكُمْ بعد الموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ يوم القيامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ع عند الحساب فيجازيكم عليه فى الاية السابقة تنبيه على شمول علمه تعالى وفى هذه الاية على كمال قدرته وايماء بالاستدلال بما نشاهد من قدرته على الاحياء بعد النوم التي هى اخت الموت على البعث بعد الموت.
وَهُوَ الْقاهِرُ الغالب الذي لا يتصور من أحد مقاومة فى إنفاذ المراد فَوْقَ عِبادِهِ تصوير للغلبة والاستعلاء وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يحفظون أعمالكم ويكتبونها فى الصحف وينشر تلك الصحف يوم القيامة ليظهر المطيع من العاصي على رؤس الاشهاد حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ غاية لارسال الحفظة او غاية للغلبة يعنى بلغت غلبته الى انهم لا يقدرون على مخالفته فى قبض أرواحهم تَوَفَّتْهُ جواب إذا قرأ حمزة توفاه بالألف الممال على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث رُسُلُنا اخرج ابن ابى حاتم وابن ابى شيبة عن ابن عباس ان المراد بهم أعوان ملك الموت من الملئكة وكذا اخرج ابو الشيخ عن النخعي وذكر السيوطي عن وهب بن منبه قال ان الملئكة الذين يقربون بالناس هم الذين يتوفونهم ويكتبون اجالهم فاذا توفى الأنفس(3/246)
اجالهم دفعوها الى ملك الموت وهو كالعاقب اى العشار الذي يودى اليه من تحته واخرج ابن حبان وابو الشيخ عن الربيع بن انس انه سئل عن ملك الموت هل هو وحده الذي يقبض الأرواح قال هو الذي يلى امر الأرواح وله أعوان على ذلك غير ان ملك الموت هو الرئيس وكل خطوة منه من المشرق الى المغرب قلت اين تكون أرواح المؤمنين قال عند سدرة المنتهى قال القرطبي لا منافاة بين قوله تعالى توفته رسلنا وقوله تعالى يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم وقوله تعالى الله يتوفى الأنفس لان اضافة التوفى الى ملك الموت لانه المباشر للقبض والى الملئكة الذين هم أعوانه لانهم يأخذون فى جذبها فهو قابض وهم معالجون والى الله تعالى لانه هو الفاعل على الحقيقة يعنى افعال العباد مخلوقة له تعالى وقال القرطبي انه فى الخبر انه ينزل عليه اى على الميت اربعة من الملئكة ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى وملك يجذبها من قدمه اليسرى وملك يجذبها من يده اليمنى وملك يجذبها من يده اليسرى ذكره ابو حامد وقال الكلبي يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها الى ملئكة الرحمة او ملئكة العذاب واخرج جويبر فى تفسيره عن ابن عباس قال قال ملك الموت هو الذي يتوفى الأنفس كلها وقد سلط على ما فى الأرض كما سلط على ما فى راحته ومعه ملئكة من ملئكة الرحمة والعذاب فاذا توفى نفسا طيبة دفعها الى ملئكة الرحمة وإذا توفى نفسا خبيثة دفعها الى ملئكة العذاب واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ عن ابن المثنى الحمصي نحوه ويدل على هذا ما روى احمد وابو داؤد والحاكم وابن ابى شيبة والبيهقي وغيرهم من طرق صحيحة فى حديث طويل عن البراء بن عازب وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان العبد المؤمن إذا كان فى انقطاع من الدنيا واقبال من الاخرة نزل اليه ملئكة بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت عليه السّلام حتى يجلس عند راسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجى الى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فياخذها يعنى ملك الموت فاذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها فى ذلك الكفن وفى ذلك الحنوط الحديث وذكر فى الكافر انه ينزل ملئكة سود الوجوه(3/247)
معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند راسه فذكر الحديث نحوه انه يقبض فاذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين الحديث واخرج ابن ابى حاتم عن زهير بن محمد قال قيل يا رسول الله ملك الموت واحد والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بين ذلك من السقط والهلاك فقال انه حوى الدنيا لملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدى أحدكم فهل يفوته منها شىء واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ عن اشعث بن اسلم قال سال ابراهيم عليه السّلام ملك الموت واسمه عزرائيل وله عينان فى وجهه وعينان فى قفاه فقال يا ملك الموت ما تصنع إذا كانت نفس بالمشرق ونفس بالمغرب ووقع الوباء بأرض والتقى الزحفان كيف تصنع قال ادعوا الأرواح بإذن الله فيكون بين إصبعي هاتين قال ودحيت له الأرض فتركت كالطست يتناول منها حيث يشاء واخرج ان ملك الموت قال ليعقوب حين سأله ان الله سخر لى الدنيا فهى كالطست يوضع قدام أحدكم فيتناول من
اى أطرافه شاء كذلك الدنيا عندى واخرج فى الزهد وابو الشيخ وابو نعيم عن مجاهد قال جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء وجعل له أعوانا يتوفى الأنفس ثم يقبضها منهم قلت وتحقيق المسألة بالنظر الى الأحاديث والآثار ان الله سبحانه جعل ملك الموت بحيث نسبته الى جميع الأرض والأقطار على السواء كالشمس فى المشاهدات وجعل نفسه بحيث لا يغنيه شان عن شان وكذلك يجعل لنفوس بعض أوليائه فانهم يظهرون ان شاء الله تعالى فى ان واحد فى امكنة شتى بأجسادهم المكتسبة وجعل لملك الموت أعوانا فى جذب النفوس هم كالجوارح له وتنزل عند كل ميت مومن او كافر جمع من الملئكة بأكفان من الجنة او النار فياخذون روحه من ملك الموت ويرتقون به الى السماء فالمراد برسلنا فى هذه الاية اما أعوان ملك الموت واما الملئكة الذين يرتقون بالأرواح وياخذونها من ملك الموت وقيل أراد بالرسل ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ اى لا يقصرون بالتواني والتأخير ولا يقدرون على قبض الأرواح الا بعد اذنه تعالى اخرج الطبراني وابن مندة وابو نعيم عن الحارث بن الخزرج ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر الى ملك الموت عند راس رجل من الأنصار فقال يا ملك الموت ارفق بصاحبى فانه مومن فقال ملك الموت طب نفسا وقر عينا واعلم انى لكل مومن رفيق واعلم(3/248)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
يا محمد انى لاقبض روح ابن آدم فاذا صرخ صارخ من اهله قمت فى الدار ومعى روحه فقلت يا هذا الصارخ والله ما ظلمناه ولا سبقنا اجله ولا استعجلنا قدره وما لنا فى قبضة من ذنب فان ترضوا بما صنع الله توجروا وان تسخطوا تأثموا وتوزروا وان لنا عندكم عودة بعد عودة فالحذر الحذر وما من اهل بيت شعر ولا مدربر ولا فاجر سهل ولا جبل الا وانا أتصفحهم فى يوم وليلة حتى لانا اعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بانفسهم والله لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت.... على ذلك حتى يكون الله هو يأذن بقبضها واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ عن الحسن نحوه قال جعفر بن محمد بلغني انه انما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فاذا نظر عند الموت فان كان ممن يحافظ على الصلوات الخمس دنا منه ملك الموت وطرد عنه الشياطين ويلقنه لا اله الا الله محمد رسول الله فى ذلك الحال العظيم.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ اى مالكهم الْحَقِّ المراد بهذه الاية اما ودهم الى الله تعالى عرضهم على الحساب يوم القيامة كما تدل عليه كلمة ثم واما بعد الموت يرتقون بهم ملئكة الرحمة والعذاب كما ورد فى ذلك الحديث الطويل عن البراء بن عازب قال فيصعدون بها يعنى المؤمن فلا يمرون على ملأ من الملئكة الا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها فى الدنيا حتى ينتهوا الى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها الى السماء التي تليها حتى ينتهى بها الى السماء السابعة فيقول الله اكتبوا كتاب عبدى فى عليين واعيدوه الى الأرض الحديث وقال فى الكافر فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة الا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى به فى الدنيا حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تفتح لهم أبواب السماء الاية فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه فى سجين فى الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يشرك بالله فكانما خر من السماء فتخطفه الطير او تهوى به الريح فى مكان سحيق الحديث أَلا لَهُ الْحُكْمُ لا لغيره وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لا يشغله حساب عن حساب وفى الحديث يحاسب الخلق كلهم فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا.
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قرأ يعقوب بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل(3/249)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعنى من شدائدهما ومهالكهما استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما فى الهول كانوا إذا سافروا فى البر او البحر فضلّوا الطريق وأحيطوا بالصواعق او الأمواج او غيرها من البليات والمصائب دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم ان الأوثان حجارة لا تضر ولا تنفع تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً مصدر بمعنى الفاعل حال من ضمير الفاعل فى يدعونه والجملة حال من ضمير المفعول فى ينجيكم والتضرع التذلل والمبالغة فى السؤال وَخُفْيَةً قرأ ابو بكر عن عاصم هنا وفى الأعراف بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان يعنى مسرين فان الاسرار سنة الدعاء والذكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا والمعنى تدعون الله بالتضرع والإخلاص فان الاسرار بالدعاء ابعد من الرياء وادل على الإخلاص لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ الظلمة والشدة بتقدير القول بيان لتدعونه يعنى تقولون لئن أنجيتنا قرأ الكوفيون أنجانا على صيغة الغائب والباقون بصيغة الخطاب لله تعالى لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله تعالى والشكر هو معرفة النعمة مع القيام بحقها يعنى صرفها فى رضاء المنعم.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ قرأ الكوفيون وهشام مشددا من التفعيل على طبق السؤال والباقون بالتخفيف من الافعال مِنْها اى من تلك الشدة وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ غاية الغم ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعوون الى الشرك ولا توفون بالعهد وتعلمون ان الله هو الذي ينجيكم وتشركون معه الأصنام التي قد علمتم انها لا تضر ولا تنفع وفى وضع تشركون موضع لا تشكرون كمال توبيخ وتنبيه على ان من أشرك فى عبادة الله فكانه لم يعبد الله راسا وكلمة ثم ليس للتراخى فى الزمان بل لكمال البعد بين الإحسان والإشراك.
قُلْ هُوَ اى الله هو الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما فعل بقوم نوح وعاد وقوم لوط واصحاب الفيل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما فعل بقوم نوح من نبع الأرض وإغراق فرعون وخسف قارون عن ابن عباس ومجاهد من فوقكم السلاطين الظلمة ومن تحت أرجلكم العبيد السوء وقال الضحاك من فوقكم اى من قبل كباركم ومن تحت أرجلكم من قبل صغاركم وقيل حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ اى يخلطكم شِيَعاً فرقا متفرقين على أهواء شتى ويكون القتال بينكم وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ البأس العذاب والشدة فى الحرب كذا فى القاموس يعنى يقتل بعضكم بعضا(3/250)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
عن جابر بن عبد الله قال لما نزلت هذه الاية قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك الكريم او يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أهون وهذا أيسر رواه البخاري وغيره.
(فائدة) ظهر تاويل هذه الاية بعد خمس وثلثين سنة من الهجرة حين قاتل المسلمون فى وقعة جمل وصفين وغير ذلك- وعن سعد بن ابى وقاص قال أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بنى معاوية فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال سالت ربى ثلثة سالته ان لا يهلك أمتي بالغرق فاعطانيها وسالته ان لا يهلك أمتي بالسنة فاعطانيها وسالته ان لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها رواه البغوي وعن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ان عبد الله بن عمر جاءهم ثم قال ان النبي صلى الله عليه وسلم دعا فى مسجد فسال الله ثلثا فاعطاه اثنتين ومنعه واحدة ساله ان لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فاعطاه ذلك وسالهم ان لا يهلكهم بالسنين فاعطاه ذلك وساله ان لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك رواه البخاري واخرج ابن ابى حاتم عن زيد بن اسلم قال لما نزلت قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم الاية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف قالوا ونحن نشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله فقال بعض الناس لا يكون هذا ابدا يعنى ان يقتل بعضكم بعضا ونحن مسلمون فنزلت انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ اى بالعذاب او بالقران.
قَوْمُكَ اى كفار قريش وَهُوَ الْحَقُّ الواقع لا محالة او الصدق قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ اى مسلطا من الله عليكم وكّل الىّ أمركم ألزمكم الإسلام لا محالة او اجازيكم ان أبيتم.
لِكُلِّ نَبَإٍ خبر من اخبار القران من العذاب النازل بالكفار وغيره مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار ووقوع لا يتقدم عليه ولا يتاخر وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه فى الدنيا او فى الاخرة.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها وكانت القريش تفعل ذلك فى أنديتهم «1» فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ اى قم من عندهم ولا تجالسهم والمقصود
__________
(1) اندية جمع نادى وهو المجلس واهله 12(3/251)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
التحذير عن دينهم ومجالستهم لا المنع عن قتالهم حتى يقال بالنسخ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أعاد الضمير على معنى الآيات لانها القران وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد السين من التفعيل والباقون بسكون النون وكسر السين من الافتعال يعنى ان ينسينك ما نهيت عنه الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يعنى بعد ان تذكره مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ اى معهم وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على انهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام قال البغوي روى عن ابن عباس انه لما نزلت هذه الاية قال المسلمون كيف نقعد فى المسجد الحرام ونطوف بالبيت.... وهم يخوضون ابدا وفى رواية قال المسلمون فانا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننههم فانزل الله عز وجل.
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه مِنْ حِسابِهِمْ اى الكفار المستهزئين ومن للتبعيض مِنْ شَيْءٍ من زائدة يعنى مما يحاسب عليه الكفار من الآثام ليس شىء منها لازما للمتقين وَلكِنْ عليهم ذِكْرى اى تذكيرهم ومنعهم عن الخوض ونحو ذلك من القبائح ان استطاعوا فذكرى فى محل الرفع ويحتمل النصب على المصدرية يعنى ولكن ذكروهم ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى الكفار بتذكير المؤمنين وجاز ان يكون الضمير للذين يتقون يعنى لكن يثبتوا على التقوى.
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً يعنى تدبنوا بما لا ينفعهم عاجلا وأجلا كعبادة الأوثان وتحريم البحائر والسوائب او المعنى اتخذوا دينهم الذي كلفوا بإتيانه لهوا ولعبا حيث يسخرون به وقيل معناه ان الله تعالى جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم يعنى عيدهم لعبا ولهوا الا المسلمين فان فى عيدهم الصلاة صلوة العيد والجمعة والتكبير والنحر لله تعالى وصدقة الفطر والخطبة والتذكير والمعنى اعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ويجوز ان يكون معناه التهديد كقوله تعالى ذرنى ومن خلقت وحيدا ومن جعله منسوخا باية السيف حمله على ترك التعرض لهم والأمر بالكف عنهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى أنكروا البعث وَذَكِّرْ بِهِ اى بالقران أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ يعنى لئلا تبسل او كراهة ان تبسل اى تحبس بما كسبت من السيئات والبسل الحبس كذا فى القاموس لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ناصر يدفع عنها العذاب بالمقاومة(3/252)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
وَلا شَفِيعٌ يدفع بالشفاعة وَإِنْ تَعْدِلْ تلك النفس كُلَّ عَدْلٍ العدل الفدية لانها تعادل المفدى اى ان تفد كل الفدية وكل منصوب على المصدرية لا يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند الى منها ولا ضمير فيه عائد الى العدل لانه هاهنا بمعنى المصدر دون المفعول فلا يسند اليه الاخذ بخلاف قوله تعالى لا يؤخذ منها عدل فان هناك بمعنى المفدى أُولئِكَ المشار اليه الَّذِينَ اتخذوا دينهم لعبا الذين أُبْسِلُوا اى حبسوا وسلموا الى العذاب بِما كَسَبُوا من السيئات لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ غاية الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ بالنار وغيرها بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ع اى بسبب كفرهم جملة مستأنفة او خبر بعد خبر لاولئك.
قُلْ أَنَدْعُوا أنعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا اى عبدناه وَلا يَضُرُّنا ان لم نعبده ونكفر به يعنى لا يقدر على شىء من ذلك وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا يعنى نرجع الى الشرك الذي كان الناس عليه فى الجاهلية عطف على ندعوا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ بالوحى فانقذنا من الشرك ورزقنا الإسلام كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ استفعال من هوى يهوى بمعنى ذهب قرأ حمزة استهواه بالألف مما لا على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث نظرا الى جمعية الفاعل والكاف فى محل النصب على المصدرية او على الحالية يعنى ردا مثل رد الذي ذهب به الشياطين او نرد مشبهين بالذي ذهب به الشياطين يعنى مردة الجن فِي الْأَرْضِ اى فى المفازة من الطريق الى المهالك حَيْرانَ حال من مفعول استهوته اى ضالا متحير الا يدرى اين يذهب وكيف يصنع لَهُ اى بهذا المستهوى أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اى الى الطريق المستقيم سماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر ائْتِنا تفسير ليدعونه بتقدير القول يعنى يقولون له ائتنا والمستهوى لا يجيبهم ولا يأتيهم وجملة له اصحاب فى محل النصب على الحالية من مفعول استهوته شبه الله سبحانه الضال عن طريق الإسلام والمسلمون يدعونه الى الإسلام فلا يلتفت إليهم بالذي استهوته الغيلان فذهبوا به عن الطريق وأصحابه يدعونه الى الطريق والاستفهام للانكار وجملة التشبيه حال من ضمير نرد قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ اى الإسلام هُوَ الْهُدى وما عداه ضلال وَأُمِرْنا منصوب المحل عطفا على محل ان هدى الله هو الهدى يعنى قل هذا القول وقل أمرنا لِنُسْلِمَ اللام بمعنى الباء او زائدة والفعل بتأويل المصدر بان مقدوة(3/253)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
مفعول لامرنا يعنى أمرنا ان نسلم او بان نسلم او هى للتعليل والمفعول محذوف يعنى أمرنا باتباع الرسول لنسلم لِرَبِّ الْعالَمِينَ فان الوصول الى الله تعالى وتسليم أنفسهم له تعالى منحصر فى اتباع الرسول.
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ عطف على ان نسلم مفعولا لامرنا او علة يعنى أمرنا بان اقيموا او لاقامة الصّلوة والتقوى وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيمة.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قائما بِالْحَقِّ بالحكمة او محقا او المعنى متلبسات بالحق نظيره ما خلقت هذا باطلا او الباء بمعنى اللام اى لاظهار الحق وَيَوْمَ يَقُولُ للشئ كُنْ فَيَكُونُ يعنى يقول للخلق قوموا فيقومون فيكون مرفوعا على الخبر وليس بجواب ويوم منصوب باذكر او هو معطوف على الضمير المنصوب فى واتقوه يعنى اتقوا عذاب يوم يقول كن يعنى يوم القيمة او على السموات يعنى خلق السموات ويوم القيمة او منصوب بفعل محذوف دل عليه السياق يعنى خلق السموات والأرض وما بينهما ويعيدها يوم يقول للبعث كن فيكون وعلى هذه التأويلات قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ وخبر كلام مستأنف يعنى قوله هو الحق الصدق لا محالة وجاز ان يكون الموصوف مع الصفة فاعلا ليقول يعنى فيكون قوله الحق ولا يتخلف الخلائق عن قوله او المعنى حين يقول لقوله الحق اى لقضائه كن فيكون وقيل قوله الحق مبتدا ويوم يقول خبره مقدما عليه كما تقول يوم الجمعة قولك الصدق يعنى قولك الصدق كائن يوم الجمعة قدم الخبر للاهتمام والمعنى انه الخالق للسموات والأرض قوله الحق نافذ فى الكائنات يوم يقول كن فيكون وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله تعالى لمن الملك اليوم لله الواحد القهار والصور قرن ينفخ فيه كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جواب الاعرابى حين ساله رواه ابو داؤد وحسنه والنسائي وابن جبان وصححه والبيهقي فى البعث وابن المبارك فى الزهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص واخرج ابو الشيخ بن حبان فى كتاب العظمة عن وهب بن منبه قال خلق الله الصور من لؤلؤ بيضاء فى صفاء الزجاجة ثم قال للعرش خذ الصور فتعلق به ثم قال كن فكان اسرافيل فامره ان يأخذ الصور فاخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة لا يخرج روحان من ثقب واحد وفى وسط الصور كوة كاستدارة السماء والأرض واسرافيل واضع فمه فى تلك الكوة ثم قال له الرب تعالى قد وكلتك بالصور فانت بالنفخة والصيحة فدخل اسرافيل(3/254)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
فى مقدم العرش وادخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يطرف منذ خلقه الله ينتظر متى يومر به واخرج احمد والطبراني بسند جيد عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واحنى جبهته وأصغى بالسمع متى يومر فسمع بذلك اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل وكذا اخرج احمد والحاكم فى المستدرك والبيهقي فى البعث والطبراني فى الأوسط عن ابن عباس وفيه حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا وكذا الترمذي والحاكم والبيهقي عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وابو نعيم عن جابر واخرج البزار والحاكم عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من صباح الا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يومران فينتفخان وروى ابن ماجة والبزار عنه مرفوعا بلفظ ان صاحبى الصور بايديهما قرنان يلاحظان النظر متى يومران واخرج الحاكم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال النافخان فى السماء الثانية وراس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب وراس أحدهما بالمغرب ورجلاه بالمشرق ينتظران متى يومران ان ينفخا فى الصور فينفخان فهذه الأحاديث تدل على ان نافخا الصور ملكان لهما قرنان واخرج الطبراني بسند حسن عن كعب الأحبار حديثا فيه ملك الصور جاث على احدى ركبتيه وقد نصب الاخرى فالتقم الصور فحنى ظهره وقد امر إذ رأى اسرافيل قد ضم جناحيه ان ينفخ فى الصور فقالت عائشة هكذا يعنى مثل ما قال كعب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال ابن حجر هذا الحديث يدل على ان النافخ غير اسرافيل فليحمل على انه ينفخ النفخة الاولى إذا راى اسرافيل ضم جناحيه ثم ينفخ اسرافيل نفخة البعث والله اعلم واخرج ابو الشيخ بن حبان فى كتاب العظمة عن ابى بكر الهذلي قال ان ملك الصور الذي وكل به ان احدى قدميه لفى الأرض وهو جاث على ركبته شاخص ببصره الى اسرافيل ما طرف منذ خلقه الله ينتظر متى يشير اليه فينفخ فى
الصور عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ اى هو عالم الغيب يعنى ما لم يوجد والشهادة يعنى ما وجد فان كل موجود مشهود لله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض وَهُوَ الْحَكِيمُ فى الإيجاد والافناء الْخَبِيرُ بالحساب والجزاء وبأحوال المخلوقات كلها.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ قرأ يعقوب آزر بالضم(3/255)
يعنى يا آزر والباقون بالفتح فى محل الجر على انه عطف بيان لابيه وهو اسم أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل هو اسم عربى مشتق من الأزر بمعنى القوة او الوزر بمعنى الثقل لم ينصرف للعلمية ووزن الفعل وكان آزر على الصحيح عما لابراهيم والعرب يطلقون الأب على العم كما فى قوله تعالى نعبد إلهك واله ابائك ابراهيم واسمعيل وإسحاق الها واحدا وكان اسمه ناخور........ وكان ناخور على دين ابائه الكرام كما ذكرنا فى سورة البقرة ثم لما صار وزير النمرود اختار الكفر للحرص فى الدنيا وترك دين ابائه روى البخاري عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يلقى ابراهيم آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول ابراهيم الم اقل لك لا تعصنى فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب انك وعدتني ان لا تخزينى يوم يبعثون فاى خزى اخزى من ابى الا بعد فيقول الله انى حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا ابراهيم ما تحت رجليك فينظر فاذا بذيخ «1» متلطخ فيوخذ بقوائمه فيلقى فى النار والله اعلم قال الرازي انه كان عما لابراهيم ولم يكن أبوه وقد سبقه الى هذا القول جماعة من السلف قال الزرقانى فى شرح المواهب ان دليل كون آزر عما لابراهيم ما قد صرح به الشهاب الهيثمي بان اهل الكتابين والتاريخ اجمعوا ان آزر عم ابراهيم كما قال الرازي وقال السيوطي روينا بالأسانيد عن ابن عباس ومجاهد وابن جرير والسدى انهم قالوا ليس آزر أبا لابراهيم انما هو ابراهيم بن تارخ وقال السيوطي وقفت على اثر فى تفسير ابن المنذر صرح فيه بانه عمه وفى القاموس آزر اسم عم ابراهيم عليه السلام واما أبوه فانه تارخ بالخاء المهملة وقيل بالمعجمة او هما واحد ويؤيد القول بانه لم يكن أبا له عليه السلام ما ذكرنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى ولا تسال عن اصحاب الجحيم انه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري وقد صنف السيوطي فى اثبات اسلام اباء النبي صلى الله عليه وسلم الى آدم عليه السّلام رسائل والله اعلم لكن قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي ان آزر اسم ابى ابراهيم واسمه تارخ ايضا مثل إسرائيل ويعقوب وقال مقاتل ابن حبان آزر لقب لابى ابراهيم واسمه تارخ قال سليمان التيمي هو سبّ وعيب ومعناه فى كلامهم المعوج وقيل معناه الشيخ الهرم بالفارسية وعلى هذا
__________
(1) الذيخ ذكر الضباع أراد بالتلطخ التلطخ برجيعه او بالطين 12(3/256)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
عدم انصرافه لانه اسم أعجمي حمل على موازنه والاول أصح وقال سعيد ابن المسيب ومجاهد آزر اسم صنم لقب به لانه كان يعبده او اطلق عليه بحذف المضاف يعنى عبد آزر وعلى تقدير كونه اسم صنم منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده اعنى أَتَتَّخِذُ تقديره أتعبد آزر أتتخذه الها فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على عدم انحصار عبادته فى آزر فقال أَصْناماً آلِهَةً دون الله تعالى إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان أَراكَ وَقَوْمَكَ يعنى اهل دينك فِي ضَلالٍ عن الحق مُبِينٍ ظاهر الضلالة.
وَكَذلِكَ يعنى كما أريناه الحق على خلاف قرنه نُرِي حكاية حال ماضية إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ كرهبوت وترقوت العز والسلطان كذا فى القاموس مشتق من الملك زيدت الواو والتاء للمبالغة فهو أعظم الملك قال فى الصحاح الملكوت مختصة بملك الله تعالى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اضافة الملكوت الى السموات والأرض من قبيل اضافة المصدر الى المفعول يعنى سلطان الله وربوبيته السموات قال مجاهد وسعيد بن جبير يعنى آيات السموات والأرض وذلك انه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر الى مكانه فى الجنة وذلك قوله تعالى واتيناه اجره فى الدنيا يعنى أريناه مكانه فى الجنة وروى عن سلمان ورفعه بعضهم عن على رضى الله عنه لما ارى ابراهيم ملكوت السموات والأرض ابصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم ابصر اخر فدعا عليه فهلك ثم ابصر اخر فاراد ان يدعوا عليه فقال الرب عز وجل يا ابراهيم انك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعون على عبادى فانما انا من عبادى على ثلث خصال اما ان يتوب الىّ فاتوب عليه واما ان اخرج عنه نسمة تعبدنى واما ان يبعث الىّ فان شئت عفوت عنه وان شئت عاتبته وفى رواية واما ان يتولى فان جهنم من ورائه وقال قتادة ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والأشجار والبحار وَلِيَكُونَ معطوف على مقدر دل عليه السباق يعنى يستدل وليكون مِنَ الْمُوقِنِينَ او متعلق بفعل محذوف معطوف على نرى يعنى وفعلنا ذلك ليكون من الموقنين عيانا كما كان على بصيرة إلهاما من الله تعالى.
فَلَمَّا جَنَّ اى اظلم عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى قرأ حمزة والكسائي وابو بكر وابن ذكوان هذا وشبهه من لفظه إذا لم يأت بعد الياء ساكن بامالة فتحة الراء والهمزة(3/257)
جميعا كَوْكَباً اى الزهرة او المشترى قالَ إلزاما للكفار فانهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ويعظمونها ويرون ان الأمور كلها إليها فاراد ان ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم الى الحق من طريق النظر والاستدلال فقال هذا رَبِّي فى زعمكم او بحذف همزة الاستفهام يعنى أهذا ربى او قال على سبيل الفرض فان المستدل على فساد قوله يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يرجع عليه بالابطال واجرى بعضهم على ظاهره فقال كان ابراهيم عليه السّلام حينئذ مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وأتاه رشده فلم يضره ذلك فى حالة الاستدلال قال البغوي وكان ذلك فى حالة طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرا وقال البيضاوي انما قال ذلك زمان راهقته او أول أوان بلوغه وفى شرح خلاصة السير لمولانا ابى بكر ان استدلاله بالكواكب والقمر كان وهو ابن خمسة عشر شهرا والصحيح هو القول الاوّل إذ لا يجوز ان يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات الا وهو لله موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه برى وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهّره وأتاه رشده من قبل قال فى الشفاء قال الله تعالى ولقد اتينا ابراهيم رشده من قبل اى هديناه صغيرا قاله مجاهد وغيره وقال ابن عطا اصطفاه قبل بدأ خلقه وقال بعضهم لما ولد ابراهيم عليه السّلام بعث الله اليه ملكا يأمره عن الله تعالى ان يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال قد فعلت ولم يقل افعل فذلك رشده وفى هذه الاية عطف قوله تعالى فلما جن على قوله تعالى قال ابراهيم وقوله تعالى وكذلك نرى ابراهيم اعتراض والغاء للتعقيب فدلت هذه الاية على انه كان هذا الاستدلال بعد قوله أتتخذ أصناما الهة انى أراك وقومك فى ضلال مبين وعلى تقدير كون هذا الكلام على طريقة الاستدلال الفاء للتفسير والتفصيل لقوله تعالى كذلك نرى ابراهيم وعلى هذا التقدير لا بد ان يكون هذا الكلام أول ليلة راى الكوكب من زمان عقله وشعوره بحيث لم ير قبل ذلك قط وأساسا لهذا المفاد يذكرون قصة وذلك ان ابراهيم عليه السّلام ولد فى زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول من وضع التاج على راسه ودعا الناس الى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له انه يولد فى بلدك هذه السنة غلام يغير دين اهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ويقال انهم وجدوا ذلك فى كتب الأنبياء عليهم السّلام وقال السدى راى نمرود فى منامه كان كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع فزعا شديدا(3/258)
فدعا السحرة والكهنة فسالهم عن ذلك فقالوا هو مولود يولد فى ناحيتك هذه السنة فيكون هلاكك واهل بيتك وزوال ملكك على يديه قالوا فامر بذبح كل غلام يولد فى ناحيته تلك السنة وامر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلا فاذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لانهم كانوا لا يجامعون فى الحيض فاذا طهرت حال بينهما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم عليه الصّلوة والسّلام قال محمد بن إسحاق بعث نمرودا الى كل امرأة حبلى بقرينه فحبسها عنده الا ما كان من أم ابراهيم عليه السّلام لانها كانت جارية حديثة السن لم يعرف الحبل فى بطنها وقال السدى خرج نمرود بالرجال الى المعسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود ان يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة الى المدينة فلم يأتمن عليها أحدا من قومه الا آزر فبعث اليه ودعاه وقال ان لى حاجة أحب ان أوصيك بها ولا أبعثك الا لثقتى بك فاقسمت عليك ان لا تدنوا من أهلك فقال آزر انا أشحّ على دينى من ذلك فاوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر الى أم ابراهيم عليه السّلام لم يتمالك حتى واقعها فحملت بإبراهيم عليه السّلام وقال ابن عباس لما حملت أم ابراهيم قال الكهان لنمرود ان الغلام الذي قد أخبرناك به قد حملت امه الليلة فامر نمرود بقتل الغلمان فلما
دنت ولادة أم ابراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة ان يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته فى «1» حلفاء فرجعت فاخبرت زوجها بانها ولدت وان الولد فى موضع كذا فانطلق أبوه فاخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت امه تختلف اليه فترضعه وقال محمد بن إسحاق لما وجدت أم ابراهيم الطلق خرجت ليلا الى مغارة كانت قريبا منها فولدت فيها ابراهيم فاصلحت من شانه ما يصنع بالمولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت الى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظره ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه قال ابو روق قالت أم ابراهيم ذات يوم لانظرن الى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبنا ومن إصبع عسلا ومن إصبع تمرا ومن إصبع سمنا وقال محمد ابن إسحاق كان آزر قد سال أم ابراهيم عن حملها ما فعل فقالت قد ولدت غلاما فمات فصدقها وسكت
__________
(1) حلفاء نبت فى الماء 12(3/259)
عنها وكان اليوم على ابراهيم فى الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث ابراهيم فى المغارة الا خمسة عشر شهرا حتى قال لامه أخرجني فاخرجته عشاء فنظر فتفكر فى خلق السموات والأرض وقال ان الذي خلقنى وأطعمني وسقانى لربى الذي مالى اله غيره ثم نظر فى السماء فرأى كوكبا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره ينظر اليه حتى غاب فلما أفل قال لا أحب الآفلين ثم راى القمر بازغا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره حتى غاب ثم طلع الشمس هكذا الى آخره ثم رجع الى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرى من دين قومه الا انه لم يبادهم بذلك فاخبره انه ابنه وأخبرته امه انه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت فى شانه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا وقيل انه كان فى السرب سبع سنين وقيل ثلث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة قلت وهذه القصة ان صحت فالى هنالك لا تدل على كفر أبوي ابراهيم الا تسمية ابى ابراهيم بازر فان كفر آزر ثابت بالكتاب والسنة والظاهر ان تسمية ابى ابراهيم فى هذه القصة بازر وهم من بعض الرواة لكن قال بعضهم فى القصة انه لما شب ابراهيم عليه السّلام وهى فى السرب قال لامه من ربى قالت انا قال فمن ربك قالت أبوك قال فمن رب ابى قال نمرود قال فمن ربه قالت اسكت فسكت ثم رجعت الى زوجها فقالت ارايت الغلام الذي كنا نحدث انه يغير دين اهل الأرض فانه ابنك ثم أخبرته بما قال فاتاه أبوه فقال له ابراهيم يا أبتاه من ربى قال أمك قال فمن رب أمي قالت انا قال فمن ربك قال نمرود قال فمن رب نمرود فلطمه لطمة وقال له اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فابصر كوكبا قال هذا ربى ويقال انه قال لابويه أخرجاني فاخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر ابراهيم الى الإبل والخيل والغنم فسال أباه ما هذه فقال ابل وخيل وغنم قال ما لهذه بد من ان يكون لهارب وخالق ثم نظر فاذا المشترى قد طلع ويقال الزهرة فكان تلك الليلة من اخر الشهر فتاخر طلوع القمر فيها فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى وهذه القصة تدل على كفر أبوي ابراهيم عليه السّلام لكن لا يدل على موتهما على الكفر وايضا هذه القصة مع اختلافها واضطرابها وعدم ثبوتها بسند صحيح لا يقوى معارضة ما صح عنه صلى الله عليه وسلم ان ابائه كلهم من آدم عليه السّلام الى أبويه كانوا مومنين(3/260)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
وانه انتقل من أصلاب الطاهرين الى أرحام الطاهرات ومن أرحام الطاهرات الى أصلاب الطاهرين وعليه حمل قوله تعالى ونقلبك فى الساجدين واطلاق الأب على العم شائع لا سيما إذا رباه ولعل تارخ مات وترك ابراهيم فى بطن امه او وليدا رضيعا ورباه عمه آزر والله اعلم- فَلَمَّا أَفَلَ يعنى غاب الكوكب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ اى لا أحب عبادة المتغيرين عن حال الى حال لان التغير امارة الحدوث إذ القديم لا يكون محلا للحوادث والحدوث ينافى الالوهية.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ قرأ حمزة وابو بكر هذا وشبهه إذا لقيت الياء ساكنا منفصلا بامالة فتحة الراء فقط دون الهمزة والباقون بفتحها هذا فى حالة الوصل واما فى حالة الوقف فالاختلاف كما مر فى رأى كوكبا وعن ابى بكر وابى شعيب فى روايته عنهما بامالة الراء والهمزة جميعا فى الوصل ايضا وعن البزي نحوه بازِغاً فى بداية الطلوع قالَ هذا رَبِّي هذا القول فى القمر والشمس بعد تمام الاستدلال بالكوكب ليس الا لالزام الخصم والا فالعاقل يكفيه الاشارة وابراهيم عليه السلام مع كمال قوته النظرية لا يتصور ان يحتاج الى استدلال اخر بعد تمام الاستدلال فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قال ذلك شكر النعمة الهداية من الله تعالى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وفيه ارشاد لقومه وتنبيه لهم على ان القمر ايضا لتغير حاله لا يصلح للالوهية وان من اتخذه الها فهو ضال وانما احتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع ان كلا منهما انتقال من حال الى حال لان الاحتجاج به اظهر لكونه انتقالا الى اخس الحالين وأدونهما.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي قيل ذكر اسم الاشارة لتذكير الخبر وصيانية للرب عن شبهة التأنيث وقيل أراد به هذا الطالع أوردا الى المعنى وهو الضياء والنور وعندى ان تأنيث الشمس انما هو سماعى لفظى فى لغة العرب لان تصغيره شميسة دون غيرها من اللغات ولسان ابراهيم عليه السّلام لم يكن عربيا فذكر ابراهيم اسم الاشارة بناء على لغته وحكاه الله سبحانه على ما قاله بلغة العرب هذا أَكْبَرُ من الكواكب كبره استدلالا واظهار الشبهة الخصم فَلَمَّا أَفَلَتْ غربت قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ تبرأ من جميع الالهة الباطلة فانه لما تبين ان الكواكب والقمر والشمس مع كونها اجراما(3/261)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
علوية عظيمة منيرة غير صالحة للالوهية لكونها محلا لتغيرات محدثة محتاجة الى محدث يحدثها ويخصصها بما يختص به فالاصنام وغيرها من الاجرام السفلية اولى ان لا تتخذ الها وهذا يعنى مخاطبة القوم والتبري عما يعبدونه بعد تمام الحجة دليل واضح على ان هذا الكلام من ابراهيم عليه السّلام لم يكن الا لالزام الخصوم لا لطلب تحقيق لم يكن حاصلا له ولما تبرأ عن الالهة الباطلة ارشدهم الى وجود الإله الحق الذي دلت عليه الممكنات بأسرها فقال.
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بالإسكان لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وما فيها وَالْأَرْضَ وما فيها يعنى الذي دلت على وجوده ووجوبه هذه الموجودات التي لا تقتضى ذواتها وجوداتها المحتاجة الى من يخرجها من العدم الى الوجود حَنِيفاً حال من فاعل وجهت يعنى مائلا من الأديان كلها الى الإسلام وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله شيئا من خلقه.
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ فى توحيد الله ونفى الشركاء عنه يعنى قاموا بالمجادلة لما عجزوا وبهتوا فى مقابلة الاستدلال الصحيح وقالوا احذر الهتنا ان تمسك بسوء واحذر نمرود ان يقتلك او يحرقك قالَ ابراهيم أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ بعد تمام الاستدلال على وجوده وتوحيده وَقَدْ هَدانِ اثبت الياء فى الوصل ابو عمرو حذف الباقون يعنى هدانى الله الى الحق واقامة الحجة مع كونى صغيرا اميا وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ تعالى من الممكنات سواء كان من الفلكيات كالشمس والقمر والكواكب او من العنصريات من ذوى العقول كنمرود او من الجمادات كالاصنام فان كلها مثلى فى عدم الاقتدار على النفع والضرر الا باقتدار الله تعالى او أعجز منى روى ان ابراهيم لما خرج من السرب وصار بحال سقط عنه طمع الذباحين وضمه آزر الى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها ابراهيم ليبيعها فيذهب بها ابراهيم وينادى من يشترى ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فاذا بات عليه ذهب بها الى نهر فصوب فيه راسه وقال اشربى استهزاء بقومه إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً يعنى لا يستطيع ما تشركون بالله اضرارى فى وقت من الأوقات الا وقت ان يشاء ربى شيئا من الإضرار وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كانه علة للاستثناء يعنى لا يبعد ان يكون فى علمه ان يصيبنى مكروه من جهة بعض عباده بمشيته وخلقه وأقداره على الكسب أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميّزوا بين العاجز على الإطلاق كالاصنام وبين العاجز فى نفسه(3/262)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
القادر باقدار الله تعالى ومشيته وبين القهار المقتدر على الإطلاق.
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ به ولا يقدر أحد منهم على الإضرار من غير مشية الله وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وهو حقيق ان يخاف منه كل الخوف فانه هو القادر على الإطلاق الضار النافع ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اى باشراكه عَلَيْكُمْ سُلْطاناً دليلا نقليا من الكتاب ولا عقليا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من الموحدين بالله المعتقدين على ما اقتضاه العقل والنقل والمشركين به المعتقدين بما لا دليل عليه أَحَقُّ بِالْأَمْنِ من العذاب والمكاره فى الدنيا والاخرة لم يقل أينا احترازا عن تزكية النفس وايماء بان استحقاق الا من غير مختص به بل يشتمل كل موحد ففيه ترغيب لهم فى التوحيد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من يحق ان يخاف منه لا تخافوا الا الله تعالى كما أخاف دل على الجزاء ما سبق او المعنى ان كنتم ذا علم وبصيرة فانصفوا فى الجواب عن الاستفهام.
الَّذِينَ آمَنُوا بالله وَلَمْ يَلْبِسُوا اى لم يخلطوا إِيمانَهُمْ بالله تعالى بِظُلْمٍ بشرك أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ من العذاب وَهُمْ مُهْتَدُونَ الى الحق والى الجنة عن عبد الله بن مسعود قال انه لما نزلت هذه الاية شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله فاينا لا يظلم نفسه فقال ذلك انما هو الشرك الم تسمعوا الى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم متفق عليه وهذه الاية استيناف من الله تعالى او من ابراهيم بالجواب عما استفهم عنه حين لم يسمع منهم جوابا حقا واخرج ابن ابى حاتم من طريق عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة قال حمل رجل من العدو على المسلمين فقتل رجلا ثم حمل فقتل اخر ثم حمل فقتل اخر ثم قال أينفعنى الإسلام بعد هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فدخل فيهم ثم حمل على أصحابه فقتل رجلا ثم اخر ثم قتل قال فيرون ان هذه الاية نزلت فيه الذين أمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم الاية.
وَتِلْكَ اشارة الى ما مر من قوله تعالى فلما جن عليه الليل الى قوله تعالى وهم مهتدون وهذا اصرح دليلا على ان ما مر من مقال ابراهيم انما كان احتجاجا على قومه لا تفكرا واستدلالا لنفسه كيف والنفوس القدسية لا يحتاجون الى تجشم الاستدلال وقيل أراد به الاحتجاج الذي حاج نمرود على ما سبق فى سورة البقرة وهذا بعيد جدا حُجَّتُنا خبر لاسم الاشارة او صفة له او بدل منه آتَيْناها إِبْراهِيمَ ارشدناه إليها الجملة خبر او خبر بعد خبر او معترضة(3/263)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
عَلى قَوْمِهِ يعنى على من بعث إليهم كنمرود واتباعه متعلق بحجتنا ان جعل خبرا وصفة وبمحذوف ان جعل بدلا يعنى اتيناها ابراهيم حجته على قومه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قرأ الكوفيون هاهنا وفى سورة يوسف درجات بالتنوين على انه تميز من النسبة او مفعول مطلق يعنى نرفع من نشاء درجات فى العلم والحكمة والباقون بالاضافة اى نرفع درجاتهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فى رفعه وخفضه عَلِيمٌ بحال من يرفعه واستعداده.
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ابنا وَيَعْقُوبَ ابن ابن كُلًّا اى كلواحد منهما هَدَيْنا انتصب كلا بهدينا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ابراهيم عد هداه نعمة على ابراهيم من حيث انه أبوه وفيه دليل على ان شرف الوالد يتعدى الى الولد وبالعكس قلت فمن المحال ان يكون بعض اباء النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه محبوبا لله كافرا وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ قيل الضمير راجع الى ابراهيم لان الكلام فيه وقيل لنوح لانه اقرب ولان يونس ولوطا ليسا من درية ابراهيم والثاني اظهر فلو كان لابراهيم اختص البيان فى المعدودين فى تلك الاية والتي بعدها والمذكورون فى الاية الثالثة معطوفون على نوحا داوُدَ بن اليشا وَسُلَيْمانَ بن داود وَأَيُّوبَ بن اموص بن رازخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن ابراهيم وَيُوسُفَ بن يعقوب بن إسحاق وَمُوسى وَهارُونَ اخوه اكبر منه بسنة ابني عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب وَكَذلِكَ منصوب على المصدرية بما بعده اى جزاء مثل جزاء ابراهيم على إحسانه يرفع درجاته ودرجات ابنائه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك متفق عليه من حديث عمر مرفوعا فى قصة سوال جبرئيل.
وَزَكَرِيَّا بن اذن وَيَحْيى بن زكريا وَعِيسى بن مريم بنت عمران وَإِلْياسَ بن متى ابن فخاص بن عيزار بن هارون عليه السّلام وقال ابن مسعود هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل وسياق الاية يابى عنه فان إدريس ليس من ذرية نوح بل هو جد ابى نوح فان نوحا ابن لامك بن متوشلخ بن خنوخ بن إدريس وهو أول بنى آدم اعطى النبوة وخط بالقلم كُلٌّ اى كلواحد منهما كائن مِنَ الصَّالِحِينَ اى المعصومين عن الصغائر والكبائر فان من اتى بما نهى الله عنه او ترك ما امر به فهو فاسد وان قل فساده بالنسبة الى غيره واطلاق الصالح على غير المعصوم إضافي(3/264)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
غير حقيقى لكن إطلاقه على من اتى بمعصية ثم تاب عنه واستغفر صحيح بالحقيقة فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له لكن الكامل فى الصلاح هو المعصوم والله اعلم..
وَإِسْماعِيلَ بن ابراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم وَالْيَسَعَ بن أخطوب بن العجحور قرأ حمزة والكسائي واليسع هنا بلام مشددة واسكان الياء والباقون بلام ساكنة مخففة وفتح الياء وعلى القراءتين علم أعجمي ادخل عليه اللام كما ادخل على اليزيد فى قوله رايت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا باعياء الخلافة كاهله وَيُونُسَ بن متى وَلُوطاً ابن هاران ابن أخي ابراهيم عليه وعليهم الصلاة والسلام وَكلًّا اى كلواحد منهم منصوب بما بعده فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ اى عالمى زمانهم فيه دليل على فضلهم على من عداهم فى ذلك الزمان من الملئكة وغيرهم من الخلائق.
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ عطف على كلا يعنى فضلنا كلا منهم وبعض ابائهم وذرياتهم وإخوانهم او على نوحا يعنى هدينا هؤلاء وبعض ابائهم وذرياتهم وإخوانهم فان منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا وَاجْتَبَيْناهُمْ اى اخترناهم عطف على فضلنا او هدينا وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير لبيان ما هدوا اليه.
ذلِكَ التوحيد الذي دانوا به هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دليل على انه متفضل بالهداية وَلَوْ أَشْرَكُوا يعنى هؤلاء الأنبياء فرضا مع فضلهم وعلو شانهم لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فضلا عن غيرهم.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى الجنس الكتب المنزلة والإتيان أعم من الانزال عليه او امره بتبليغه وَالْحُكْمَ اى الحكمة والفقه او فصل الخصومات على مقتضى الحق او كونهم حاكمين مطاعين وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها اى بهذه الثلاثة هؤُلاءِ اى كفار مكة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها يعنى وفقنا بالايمان بها وبمراعات حقوقها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعنى الأنصار واهل المدينة قاله ابن عباس ومجاهد والظاهر عمومه لجميع الصحابة ولمن تبعهم من اهل الفرس وغيرهم وقال ابو رجا العطاردي ان يكفر بها اهل الأرض فقد وكلنا بها اهل السماء وهم الملئكة.
أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء مبتدأ خبره الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعنى هديهم الله الى التوحيد واصول الدين والى الإتيان بما امر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه فَبِهُداهُمُ اى بطريقتهم(3/265)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
اقْتَدِهْ الظرف للحصر يعنى لا تقتد الا بهديهم فيه تعريض على المشركين فى اقتدائهم بآبائهم الضالين والمراد بالاقتداء بطريقتهم الاخذ بها لا تقليدهم فان التقليد ليس من شأن اهل الاجتهاد من الامة فكيف يليق بالأنبياء لا سيما بسيدهم يعنى اسلك على طريق الهداية واتباع الشرع المويد بالعقل كما سلكوا ففيه تنبيه على ان طريقهم هو الحق الموافق للدليل العقلي والسمعي قال البيضاوي المراد بهداهم ماتوا فقوا عليه من التوحيد واصول الدين دون الفروع المختلف فيها فانها ليست مضافة الى الكل ولا يمكن التأسى بهم جميعا فليس فيه دليل على انه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بشرائع من قبلنا قلت كلهم كانوا مامورين فى الفروع بامتثال امر نزل من الله تعالى ما لم ينزل نسخه فيحصل التأسى بجميعهم فى الفروع ايضا بإتيان ما ثبت نزوله من الله تعالى بالوحى المتلو او غير المتلو ولم يثبت نسخه فيجب التعبد بشرائع من قبلنا والله اعلم والهاء فى اقتده هاء سكت ولذا حذفه حمزة والكسائي ويعقوب وصلا وأثبتها الباقون فى الحالين تبعا للخط وقرأ ابن عامر بكسر الهاء وابن ذكوان عنه بالإشباع وهشام عنه بالكسر بلا صلة تشبيها بهاء الضمير او هى ضمير راجع الى المصدر يعنى اقتد الاقتداء قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على التبليغ او القران أَجْراً من جهتكم كما لم يسأل من قبلى من النبيين وهذا مما امر بالاقتداء بهم فيه وفيه دليل على ان أخذ الاجر على تعليم القران والفقه ورواية الحديث لا يجوز إِنْ هُوَ اى التبليغ او القران إِلَّا ذِكْرى تذكيرا وعظة لِلْعالَمِينَ ع للانس والجن اخرج ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا قال جاء رجل من اليهود يقال له مالك ابن الضيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنشدك بالذي انزل التورية على موسى هل تجد فى التورية ان الله يبغض الحبر السمين وكان سمينا فغضب فقال والله ما انزل الله على بشر من شىء فقال له أصحابه ويحك ولا على موسى فانزل الله تعالى.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الاية واخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة قال البغوي لاجل هذه المقالة نزع يهود مالكا عن الحيرية وجعلوا مكانه ابن الأشرف وقال السدى نزلت هذه الاية فى فخاص بن عازورا وهو قائل هذه المقالة وقد تقدم الحديث فى سورة النساء واخرج ابن جرير من طريق ابى طلحة عن ابن عباس قال قالت اليهود يا محمد انزل الله عليك كتابا قال نعم قالوا والله ما انزل الله من السماء كتابا فانزل الله تعالى(3/266)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
ما قدروا الله حقّ قدره اى ما عرفوه حق معرفته فى الرحمة والانعام على العباد إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ حين أنكروا بعثة الرسل وذلك أعظم رحمة وحق قدره منصوب على المصدرية قُلْ يا محمد مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ التورية الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً حال من الكتاب او من الضمير فى به وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تُبْدُونَها اى ما تحبون منها وَتُخْفُونَ كَثِيراً كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السّلام واية الرجم وغير ذلك وفيه توبيخهم وذمهم على ما فعلوا بالتورية باتباع شهواتهم قرأ ابن كثير وابو عمرو يجعلونه يبدونها يخفون الثلاثة بالياء على الغيبة حملا على ما قدروا وقالوا والباقون بالتاء على الخطاب لقوله تعالى قل من انزل وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال الأكثرون هذا خطاب لليهود يعنى علمتم ايها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم زيادة على ما فى التورية او بيانا لما أشكل عليكم وعلى ابائكم من عبادة التورية نظيره قوله تعالى ان هذا القران يقص على بنى إسرائيل اكثر الذي هم فيه يختلفون قال الحسن جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه وقال مجاهد هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علموا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أميين قُلِ اللَّهُ اى أنزله الله او الله أنزله هذا متصل بقوله تعالى قل من انزل امر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالجواب لما بهتوا عن الجواب اشعارا بان الجواب متعين لا يمكن غيره ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ اى فى أباطيلهم يَلْعَبُونَ حال من مفعول ذرو الظرف متعلق بذرهم او يلعبون او حال من فاعل يلعبون وجاز ان يكون يلعبون حالا من ضمير فى خوضهم والظرف متصل بالأول.
وَهذا القران كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ اى كثير الفائدة والنفع مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التورية وغيرها وَلِتُنْذِرَ عطف على ما دل عليه مبارك يعنى لتنتفع به ولتنذر قرأ ابو بكر عن عاصم لينذر بالياء على الغيبة والضمير راجع الى الكتاب أُمَّ الْقُرى يعنى مكة سميت بها لان الأرض دحيت من تحتها فهى كالاصل لجميع الأرض او لانها قبلة اهل القرى وموضع حجهم ومرجع لاهل جميع الأرض والمضاف محذوف يعنى لتنذر اهل أم القرى وَمَنْ حَوْلَها الى الشرق والغرب وأطراف الأرض وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ(3/267)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ
فان من أمن بالاخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتفكر حتى يؤمن بالنبي والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعات وخص الصلاة بالذكر لانها عماد الدين وفى الاية تعريض على اليهود انهم لم يؤمنوا بالقران ومحمد صلى الله عليه وسلم لاجل انهم لم يؤمنوا بالاخرة وبما جاء به موسى عليه السّلام للتلازم بين الايمان بالتورية والقران والقيامة.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى اى اختلق والفرية بالكسر الكذب عَلَى اللَّهِ كَذِباً منصوب على المصدرية مثل مالك بن الضيف القائل بانه ما انزل الله على بشر من شىء ومثل عمرو بن لحىّ واتباعه القائلين بان الله حرم الصوائب والحوامي وبان انعاما حرمت ظهورها وبان ما فى بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وان يكن ميتة فهم فيه شركاء أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ قال البغوي قال قتادة نزلت فى مسيلمة الكذاب..... وكان يسجع ويتكهن وادعى النبوة وزعم انه اوحى اليه وكذا اخرج ابن جرير عن عكرمة وكان قد أرسل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتشهدان ان مسيلمة نبى قالا نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما روى البغوي بسنده عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا انا نائم إذ أتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضع فى يدى سواران من ذهب فكبرا علىّ فاهمانى فاوحى الى ان انفخهما فنفختهما فذهبا فاولتهما الكذابين هما صاحب صنعاء وصاحب يمامة أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب يمامة مسيلمة الكذاب وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال البغوي نزلت فى عبد الله بن ابى سرج وكان قد اسلم وكان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم وكان إذا املى سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا قال عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين املاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك الله احسن الخالقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد الله وقال ان كان محمد صادقا لقد اوحى الى كما اوحى اليه وان كان كاذبا فقد قلت مثل ما قال فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين وكذا اخرج ابن جرير عن عكرمة والسدى قصة تبارك الاية ذكر البغوي ثم رجع عبد الله(3/268)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
الى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وقال الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس فى سيرته تشفع ابن ابى سرج بعثمان رضى الله عنه فقبله النبي صلى الله عليه وسلم بعد تلوم وحسن إسلامه بعد ذلك حتى لم ينقم عليه فيه شيئا ومات ساجدا قال ابن عباس قوله تعالى سانزل مثل ما انزل الله يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا قلت يعنى النضر بن الحارث كان يقول والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا كانه يعارض قوله تعالى والنازعات غرقا الآيات وَلَوْ تَرى يا محمد والمفعول محذوف اى الظالمين يدل عليه إِذِ الظَّالِمُونَ مبتدأ واللام اما للعهد يعنى الذين نزلت فيهم الاية من اليهود والمتنبية والمستهزئين او للجنس ويدخل فيه هؤلاء وجواب لو محذوف يعنى لرأيت امرا عظيما فزيعا فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ خبر المبتدأ اى شدائده فى القاموس غمرة الشيء شدته وأصله التغطية يقال غمره الماء واغتمره اى غطاه ثم وضعت فى موضع الشدائد والمكاره وفى الصحاح اصل الغمر ازالة اثر الشيء ومنه يقال للماء الكثير وعلى هذا اضافة الغمرة الى الموت بيانية سميت شدة الموت غمرة لازالته اثر الحيوة وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ الجملة حال من الضمير المستتر فى الظرف والعائد محذوف يعنى باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم كالمتقاضى الملظ او لتعذيبهم نظيره قوله تعالى والملئكة يضربون وجوههم وادبارهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ خبر للملئكة بعد خبر يعنى قائلون لهم يعنى للظلمين تغليظا وتعنيفا اخرجوا أنفسكم إلينا من أجسادكم او أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا الْيَوْمَ المراد به الزمان الممتد من وقت الامانة الى ما لا نهاية له تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يعنى عذابا متضمنا لشدة واهانة وإضافته الى الهون لتمكنه فيه ولمقابلة الهوان فيه بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ افتراء غَيْرَ الْحَقِّ كادعاء الولد والشريك وادعاء النبوة والوحى كاذبا منصوب من تقولون على المصدرية او المفعولية وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ المنزلة فى القران او دلايل التوحيد تَسْتَكْبِرُونَ فلا تتاملون فيها ولا تؤمنون اخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال قال النضر بن الحارث سوف تشفع لنا الى الله اللات والعزى فنزلت.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا بعد الموت ويوم القيامة للحساب والجزاء فُرادى حال من فاعل جئتمونا اى منفردين عن الأموال والأولاد والأعوان والأحباب وسائر ما اثرتموه من الدنيا او من الأوثان(3/269)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
التي زعمتموها شفعاء لكم وهو جمع فرد والالف للتانيث ككسالى هذا خبر من الله تعالى بقول للكفار على لسان الملئكة يوم موتهم او يوم القيامة والسياق يقتضى يوم الموت لعطفه على قوله اليوم تجزون كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فرادى اى جئتمونا على الهيئة التي ولدتم عليها فى الانفراد او حال مرادف لفرادى او من الضمير فى فرادى اى مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما او صفة مصدر اى جئتمونا مجيئا كخلقنا لكم وَتَرَكْتُمْ فى الدنيا ما خَوَّلْناكُمْ ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم والحشم وَراءَ ظُهُورِكُمْ ولم تحتملوا نقيرا وجاز ان يكون المعنى جئتمونا خاسرين بلا كسب كمال كما خلقناكم أول مرة وضيعتم راس مالكم اى اعماركم وتركتم فى الدنيا ما أعطيناكم من الأموال وغيرها ما قدمتم منها شيئا للاخرة وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ الله سبحانه فى ربوبيتكم واستحقاق العبادة يعنى الأوثان لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ نافع وحفص والكسائي بنصب بينكم على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه او أقيم بينكم مقام موصوفه وأصله لقد تقطع ما بينكم من الوصل او يقال فاعله ضمير راجع الى المصدر اى تقطع التقطع بينكم او يقال الفاعل بينكم مجازا فى الاسناد وترك منصوبا للزوم ظرفيته والباقون بالرفع على اسناد الفعل الى الظرف مجاز او المعنى لقد تقطع التقطع بينكم او يقال بينكم بمعنى وصلكم يعنى تقطع وصلكم وتشتت جمعكم وبين مصدر من الاضداد يستعمل للوصل والفصل اسما وظرفا كذا فى القاموس وَضَلَّ عَنْكُمْ اى ضاع وبطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انها شفعائكم وان لا بعث ولا جزاء.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى قال الحسن وقتادة والسدى معناه شق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها وقال الزجاج يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقا اخضر وقال مجاهد المراد انشقاق الذي بين الحنطة والنواة وقال الضحاك فالق الحب والنوى يعنى خالقهما والحب جمع الحبة وهى اسم لجميع البذور الماكولة من البر والشعير والذرة والارز ونحوها والنوى جمع النواة وهى كل ما لا يوكل من البذور كنواة التمر والمشمش والخوخ والرمان يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يعنى ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو كالنطفة والحبة والنواة هذه الجملة وقع موقع البيان لما سبق ولذا لم يعطف وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ يعنى ما لا ينموا ويتفتت مما ينموا(3/270)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
معطوف على فالق الحب ولذلك ذكره بلفظ اسم الفاعل ذلِكُمُ المحيي والمميت اللَّهَ يعنى هو المستحقّ للعبادة دون من لا يقدر على شىء بل ينفعل ما يفعل به فَأَنَّى اين تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه الى غيره.
فالِقُ الْإِصْباحِ هو مصدر أصبح إذا دخل فى الصبح سمى به الصبح تسمية المحل باسم الحال يعنى شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل او عن بياض النهار او شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه وَجَعَلَ اللَّيْلَ كذا قرأ الكوفيون على صيغة الماضي ونصب الليل على المفعولية معطوف على معنى فالق فان معناه فلق الإصباح وقرأ الباقون جاعل على وزن فاعل مضافا الى الليل سَكَناً يسكن فيه الإنسان واكثر الحيوانات للاستراحة عن كد لمعيشة الى نوم الغفلة او عن وحشة الخلق الى الانس بالحق منصوب بفعل دل عليه اسم الفاعل على قراءة غير اهل الكوفة لان اسم الفاعل بمعنى الماضي كما يدل عليه قراءة جعل لا يعمل وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ على قراءة اهل الكوفة معطوفان على الليل وعلى قراءة غيرهم منصوبان يجعل مقدر يعنى جعل الشمس والقمر حُسْباناً مصدر حسب بالفتح بمعنى الحساب كما ان الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان يعنى جعلهما علمين لحساب الأوقات يعلم بسيرهما ذلِكَ اى جعلهما حسبانا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما وسخرهما الْعَلِيمِ بتدبيرهما والانفع من التداوير الممكنة لهما.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اى خلق لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الليل فى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ واضافتها إليهما للملابسة او المراد بالظلمات مشتبهات الطرق سميت ظلمات على الاستعارة قَدْ فَصَّلْنَا بيّنّا الْآياتِ الدالة على توحيد الصانع المبدع الحكيم لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فانهم هم المنتفعون به.
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ اى ابتدأ خلقكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير وابو عمرو بكسر القاف على انه اسم فاعل يعنى فمنكم مستقر والباقون بالفتح على انه اسم مفعول او مصدر ميمى او ظرف يعنى فمنكم مستقر او فلكم استقرار او موضع استقرار وَمُسْتَوْدَعٌ بفتح الدال بلا خلاف لجواز نسبة الاستقرار دون الاستيداع يعنى لكم استيداع او موضع استيداع او منكم مستودع قال ابن مسعود المستقر فى الرحم الى ان يولد قال الله تعالى يقر فى الأرحام والمستودع فى القبر الى ان يبعث وقال سعيد ابن جبير مستقر فى الرحم ومستودع فى صلب الأب وعن ابى بعكس هذا وقال مجاهد(3/271)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
مستقر فى الأرض قال الله تعالى ولكم فى الأرض مستقر والمستودع فى القبر وقال الحسن المستقر فى القبر والمستودع فى الدنيا وعندى المستقر الجنة او النار والمستودع ما عدا ذلك من الأصلاب والأرحام والدنيا والقبر قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ذكر مع النجوم يعلمون لان أمرها ظاهر ومع ذكر تخليق بنى آدم واستيداعهم واستقرارهم يفقهون لان هذه الأمور دقيق يحتاج الى تفقه وتدبر.
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى السحاب ومنه الى الأرض ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ نبت كل صنف من الحبوب والنواة سبحان الله أنبت أنواعا مختلفة تسقى بماء واحد وفضل بعضها على بعض فى الاكل فَأَخْرَجْنا مِنْهُ اى من النبات او من الماء خَضِراً شيئا اخضر وهو ما تشعب من اصل النبات الخارج من البذر نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهى السنبلة المتراكب حباتها وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها بدل للاول وهو خبر والمبتدأ قِنْوانٌ جمع قنو وهو العذق دانِيَةٌ قريبة من المتناول او قريبة بعضها من بعض اقتصر على ذكرها من مقابلها اما لدلالتها عليه كما فى قوله تعالى سرابيل تقيكم الحر يعنى والبرد واما لان قربها من المتناول او كثرتها وقرب بعضها ببعض أعظم نعمة وأوجب للشكر وجاز ان يكون التقدير وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان دانية وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شىء يعنى أخرجنا منه جنات قرأ الأعمش عن الأعشى عن عاصم جنات بالرفع عطفا على قنوان وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عطف على نبات يعنى أخرجنا منه شجرا الزيتون والرمان او نصب على الاختصاص لغير هذين الصنفين عندهم مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ حال من الرمان او من الجميع يعنى حال كون بعضها مشتبها ببعض اخر وبعضها غير متشابه فى الهيئة والقدر واللون والطعم انْظُرُوا ايها الناس بنظر الاعتبار إِلى ثَمَرِهِ قرأ حمزة والكسائي فى الموضعين هاهنا وفى يس بضم الثاء والميم على انه جمع ثمارا وثمرة والباقون بفتحتين على انه اسم جنس كتمرة وتمر وكلمة وكلم إِذا أَثْمَرَ إذا اخرج ثمره كيف يخرج لا يكاد ينتفع به وَالى يَنْعِهِ حال نضجه كيف يعود ضخيما لذيذا فهو مصدر وقيل هو جمع يانع كتاجر وتجر إِنَّ فِي ذلِكُمْ المذكورات لَآياتٍ على توحيد قادر حكيم لا يكون له ضدّ يعانده ولا ندّ يعارضه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(3/272)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
فانهم هم المستدلون بها وذكر هذه الآيات يستوجب التوبيخ على المشركين فقال
وَجَعَلُوا يعنى كفار مكة مع قيام ادلة التوحيد لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ يعنى الملئكة عبدوهم وقالوا الملئكة بنات الله سماهم جنا لاجتنانهم وتحقيرهم عن درجة الربوبية او المراد بالجن الشياطين لانهم أطاعوهم وعبدوا غير الله من الأوثان وغيرها بتسويلهم او لاجل حلول الشياطين فى الأوثان أحيانا او لاجل قولهم الله خالق الخير والشيطان خالق الشر ومفعولا جعلوا لله وشركاء والجن بدل من شركاء او شركاء والجن ولله متعلق بشركاء او حال منه وَخَلَقَهُمْ حال من الله تعالى بتقدير قد او منه ومن الجن معا على ان يكون الضمير المنصوب راجعا الى الجن يعنى وقد علموا ان الله تعالى خلق الانس والجن وكل شىء وان الجن لا يخلق شيئا وَخَرَقُوا قرأ نافع بتشديد الراء للتكثير والمعنى اختلقوا وافتروا لَهُ بَنِينَ قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وَبَناتٍ قالت العرب الملئكة بنات الله بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير ان يعلموا صدق ما قالوا بدليل عقلى او نقلى وهو فى موضع الحال من فاعل خرقوا او المصدر اى خرقا بغير علم سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اضافة الصفة المشبهة الى فاعلها يعنى بديع سموته وارضه ليس لها نظير وقيل معناه المبدع يعنى خالقها بلا سبق مثال خبر مبتدا محذوف يعنى هو او مبتدا خبره.
أَنَّى من اين او كيف يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فى الاية استدلال على نفى الولد بوجوه الاول ان من مبدعاته السموات والأرض وهى مع انها من جنس ما يوصف بالولد مستغن عنه لطول بقائها فالله سبحانه اولى به الثاني انه خالق الأجسام العظيمة وخالق الأجسام لا يكون جسما والولادة من خواص الأجسام والثالث ان الولد ينشئ من ذكر وأنثى متجانسين والله تعالى منزه عن المجانسة الرابع ان الولد كفو للوالد ونظيره وليس له كفوا أحد لان كل ما عداه مخلوقه فلا يكافيه شىء ولانه عالم بكل شىء ولا كذلك غيره بالإجماع الا بتعليمه
ذلِكُمُ اى الموصوف بما سبق من الصفات مبتدا اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ اخبار مترادفة ويجوز ان يكون البعض خبرا والبعض بدلا او صفة فَاعْبُدُوهُ الفاء للسببية يعنى(3/273)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
من استجمع تلك الصفات فهو الحقيق بالعبادة دون غيره من خلقه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ بالحفظ له والتدبير فيه يعنى هو متول لاموركم رقيب على أموالكم فكلوا إليه الأمور وتوسلوا اليه بالعبادة ينجح ما ربكم ويجازى على حسناتكم
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ اخرج ابن ابى حاتم وغيره بسند ضعيف عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو ان الجن والانس والشياطين والملائكة منذ خلقوا الى ان فنوا صفا واحدا ما احاطوا بالله ابدا استدل المعتزلة بهذه الاية على امتناع الروية واجمع اهل السنة على نفى الروية فى الدنيا وإثباتها فى الاخرة للمؤمنين فى الجنة والاستدلال بها على الامتناع باطل بوجوه أحدها ان صيغة المضارع اما للحال ويستعمل فى الاستقبال مجازا او هى مشترك فى المعنيين والحال مراد فى الاية اجماعا إذ لا قايل بروية الله تعالى فى الدنيا فلا يجوز ارادة الاستقبال والا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز او عموم المشترك ثانيها ان الابصار بصيغة الجمع يدل على ارادة الافراد دون الجنس فاللام اما للعهد يعنى الابصار الموجودة فى الدنيا او للاستغراق فانكان للعهد فلا دليل على نفى الروية بالأبصار المخلوقة للمؤمنين فى الجنة وان كان للاستغراق فمدلول الاية نفى الاستغراق لا استغراق النفي فلا دليل فيه على نفى الروية بابصار اهل الجنة روى ابو نعيم فى الحلية عن ابن عباس قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم رب أرني انظر إليك قال قال الله يا موسى انى لا يرانى حى إلا مات ولا يابس الا تدهده ولا رطب الا تفرق وانما يرانى اهل الجنة لا يموت أعينهم ولا يبلى أجسامهم ثالثها ان الإدراك غير الروية لان الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به او الوصول الى الشيء بحيث لا يفوت منه شىء والروية المعاينة ولا تلازم بينهما قال الله تعالى فلما ترائ الجمعان قال اصحاب موسى انا لمدركون قال كلا فى هذه الاية نفى للدرك بعد اثبات الروية من الجانبين رابعها ان النفي لا يوجب الامتناع وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يحيط بها علمه وَهُوَ اللَّطِيفُ فى القاموس هو البر بعباده المحسن الى خلقه بايصال المنافع إليهم برفق ومن هاهنا قال ابن عباس اللطيف باوليائه وفيه ايضا اللطيف العالم بخفايا الأمور وفى الصحاح قد يعبر باللطيف ما لا يدرك بالحاسة وعلى هذا ففى الكلام لف ونشر مرتب يعنى لا تدركه الابصار لانه اللطيف وهو يدرك الابصار لانه الْخَبِيرُ قَدْ جاءَكُمْ(3/274)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
بَصائِرُ
يعنى الحجج البينة التي يحصل بها البصيرة التي تبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل فالبصيرة للنفس كالبصر للبدن مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ يعنى من استعمل الحجة وابصر الحق وأمن به فَلِنَفْسِهِ ابصر يعود نفعه إليها وَمَنْ عَمِيَ عن الحق واعرض عن الحجج وضل فَعَلَيْها وباله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها بل الحفيظ هو الله تعالى وانما انا البشير النذير هذا كلام ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كانه قيل قل قد جاءكم بصائر الاية
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ اى نفصلها ونبين واصل الصرف النقل من حال الى حال وفى التفصيل نقل معنى واحد من عبارة الى عبارة حتى يفهم المخاطب وفى القاموس صرف الحديث ان يزاد فيه ويحسّن من الصرف فى الدراهم وهو فضل بعضها على بعض فى القيمة وكذلك صرف الكلام وله عليه صرف اى فضل لانه إذا فضل صرف عن اشكاله وكذلك منصوب على المصدرية يعنى نصرف الآيات تصريفا مثل تصريفنا فى هذه السورة وَلِيَقُولُوا عطف على مقدر تقديره ليتم التبليغ وليقولوا اى الكفار واللام لام العاقبة يعنى يكون عاقبة الأمر ان يقولوا دَرَسْتَ قرأ نافع والكوفيون بفتح الدال والراء وسكون السين وفتح التاء على صيغة الخطاب من درست الكتاب بمعنى قرات من غيرك قال ابن عباس ليقول اهل مكة حين تقرأ عليهم درست تعلمت من يسار وجبر كانا عبدين من سبى الروم ثم قرأت علينا تزعم انه من عند الله وقرأ ابن كثير وابو عمر دارست من المفاعلة يعنى قارات وذاكرات اهل الكتاب والمعنى واحد وقرأ ابن عامر ويعقوب درست بفتح السين وسكون التاء على صيغة المؤنث الغائب اى قدمت هذه الاخبار التي تتلوها علينا وانمحت من قولهم درس الأثر دروسا وَلِنُبَيِّنَهُ اى القران وهو مذكور لذكر الآيات فيما سبق والآيات هى القران لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فانهم هم المنتفعون به فتصريف الآيات ليتم التبليغ وليشقى به من قال درست وليسعد من تبين له الحق
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى اعمل بالقران لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض لتاكيد إيجاب اتباع الوحى او حال مؤكدة من ربك يعنى منفردا فى الالوهية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تجادلهم ولا تستمع بأقوالهم ولا تلتفت الى آرائهم
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ايمانهم ما أَشْرَكُوا ولكن حق القول منه لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين فيه(3/275)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
دليل على ان الكفر والايمان كلا منهما بارادة الله تعالى وان مراده واجب الوقوع خلافا للمعتزلة وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً لاعمالهم رقيبا عليهم ماخوذا باجرامهم وقال عطاء ما جعلنك عليهم حفيظا تمنعهم من عذاب الله انها بعثت معلما وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بامرهم قال ابن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله تعالى فانزل الله
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاية قال البغوي قال ابن عباس لما نزلت انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب الهتنا او لتهجون ربك فنهيهم الله ان يسبوا أوثانهم وقال السدى لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنا مرنه ان ينهى عنا ابن أخيه فانا نستحيى ان نقتله بعد موته فيقول العرب كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه فانطلق ابو سفيان وابو جهل والنضر بن الحارث وامية وابى ابنا خلف وعقبة بن ابى معيط وعمرو بن العاص والأسود بن ابى البختري الى ابى طالب فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وان محمدا قد اذانا والهتنا فتجب ان تدعوه وتنهاه عن ذلك وعن ذكر الهتنا ولندعنه والهه فدعاه فقال هولاء قومك تريد ان تدعنا والهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ارايتم ان أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة ان تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم قال ابو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قال فما هى قال قولوا لا اله الا الله فابوا وتفرقوا فقال ابو طالب قل غيرها يا ابن أخي قال يا عم ما انا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها فى يدى فقالوا التكفن عن سب الهتنا او لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فانزل الله عز وجل ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله يعنى لا تذكروا الأوثان بما فيها من القبائح فَيَسُبُّوا اللَّهَ منصوب على جواب النهى عَدْواً تجاوزا عن الحق الى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ اى على جهالة بالله تعالى وبما يجب ان يذكر به وما هو منزه عنه فظاهر الاية وان كان نهيا عن سب الأصنام فحقيقة النهى عن سب الله تعالى لانه سبب لذلك وفيه دليل على ان الطاعة إذا أدت الى معصية راجحة وجب تركها لان ما يودى الى الشرشر كَذلِكَ اى تزئينا مثل تزئين سب الله للكافرين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مؤمنة وكافرة عَمَلَهُمْ من الخير والشر(3/276)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
توفيقا وتخذيلا فان الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فظهر ان الأصلح ليس بواجب عليه تعالى ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ مصيرهم فَيُنَبِّئُهُمْ بالمحاسبة والمجازاة بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الخير والشر اخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وكذا ذكر البغوي عنه وعن الكلبي قال كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقالوا يا محمد تخبرنا ان موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنا عشرة عينا وان عيسى كان يحيى الموتى وان ثمود كانت لهم ناقة فاتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اى شىء تحبون ان اتيكم به قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وزاد البغوي عنهما او ابعث لنا بعض موتانا حتى نسالهم عنك أحق ما تقول أم باطل او أرنا الملئكة يشهدون لك فذكر ابن جرير والبغوي انه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فان فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني قالوا نعم والله لان فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ان ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ان يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبرئيل فقال له ان شئت أصبح ذهبا ولكن ان لم يصدقوا عذبتهم وان شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يتوب تائبهم فانزل الله تعالى
وَأَقْسَمُوا يعنى الكفار بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على المصدرية او مصدر فى موقع الحال يعنى مجتهدين فى إتيان أوكد ما قدروا عليه من الايمان والداعي لهم على القسم وتوكيده التحكم فى طلب الآيات واستحقار ما راوا منها لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فى قدرته تعالى واختياره يظهر منها ما يشاء وليس شىء منها فى قدرتى واختياري وَما يُشْعِرُكُمْ ما استفهامية للانكار أنكر السبب مبالغة فى نفى المسبب او ما نافية والمعنى على التقديرين انه لا تشعرون خطاب للمشركين الذين اقسموا او للمؤمنين أَنَّها اى الآيات قرأ ابن كثير وابو عمرو وابو بكر عن عاصم ويعقوب بخلاف عنه بكسر الهمزة على الابتداء فعلى هذه القراءة مفعول ما يشعركم محذوف اى ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجئ الآيات الايمان او الكفر ثم أخبرهم فقال انها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ هكذا علم الله تعالى فيهم فان مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضل لا يمكن منهم(3/277)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
الاهتداء وقرأ الباقون بفتح الهمزة على انه مفعول يشعركم لكن قرأ ابن عامر وحمزة لا تومنون بالتاء بصيغة الخطاب على انها خطاب للمشركين والباقون بالياء على الغيبة على انها خطاب للمؤمنين يعنى انكم لا تشعرون ايها المؤمنون او ايها المشركون انها إذا جاءت لا يؤمنون او لا تؤمنون وقيل لا زائدة كما فى قوله تعالى حرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون ومعناه ما يشعركم انها إذا جاءت يؤمنون وقيل انها بمعنى لعلها يعنى ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجئ الآيات لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وقيل فيه حذف وتقديره وما يشعركم ايّها المؤمنون او المشركون انها إذا جاءت لا يؤمنون او تؤمنون بالياء والتاء
وَنُقَلِّبُ عطف على لا يؤمنون الا على تقدير كون لا زائدة فحينئذ عطف على ما يشعركم أَفْئِدَتَهُمْ عن الحق فلا يفقهونه وَأَبْصارَهُمْ فلا يبصرونه نظر اعتبار فلا يومنون بها كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ اى بما انزل من الآيات كانشقاق القمر وغيرها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ اى نذرهم متحيرين فى طغيانهم ولا نهديهم.
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى مصدقا لنبوتك باحيائنا وَحَشَرْنا جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء على انه مصدر والباقون بضمهما على انه جمع قبيل بمعنى كفيل اى كفلا بما بشروا وانذروا او جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات او مصدر بمعنى مقابلة وعلى الوجوه كلها حال من كل شىء ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لما سبق عليهم القضاء بالكفر ولكون مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعنى فى حال من الأحوال الا حال مشية الله تعالى ايمان من سبق عليه القضاء بالايمان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ انهم لو أتوا بكل اية لم يومنوا فيقسمون بالله جهد ايمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل الى أكثرهم مع ان مطلق الجهل يعمهم او لكن اكثر المسلمين يجهلون انهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآيات طمعا فى ايمانهم
وَكَذلِكَ يعنى كما جعلنا كفار قريش اعداء لك يؤذونك ويخالفون أمرك كذلك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ سبقك عَدُوًّا وهو دليل على ان عداوة الكفار للانبياء بفعل الله تعالى وخلقه شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بدل من عدوا أو أول مفعول جعلنا وعدوا مفعوله الثاني ولكل متعلق بجعلنا او حال(3/278)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
والمراد بالشياطين المتمردون من الفريقين قال قتادة ومجاهد والحسن ان من الانس شياطين والشيطان العاتي المتمرد من كل شىء قلت ويؤيده حديث جابر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فانه شيطان رواه مسلم وقالوا ان الشيطان إذ اعياه المؤمن وعجز عن اغوائه ذهب الى متمرد من الانس وهو شيطان الانس فاغراه بالمؤمن ليفتنه ويدل عليه ما روى عن ابى ذر قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والانس قلت يا رسول الله هل للانس من شياطين قال نعم هم شر من شياطين الجن قال مالك بن دينار ان شياطين الانس أشد من شياطين الجن وذلك لانى إذا تعوذت بالله ذهب عنى شياطين الجن وشياطين الانس يجيئنى فيجرنى الى المعاصي عيانا وقال عكرمة والضحاك والسدى والكلبي معنى شياطين الانس التي مع الانس وشياطين الجن التي مع الجن وليس من الانس شياطين وذلك ان إبليس قسم جنده فريقين فبعث فريقا منهم الى الانس وفريقا منهم الى الجن وكلا الفريقين اعداء للنبى صلى الله عليه وسلم ولاوليائه وهم يلتقون فى كل حين فيقول شياطين الانس لشياطين الجن أضللت صاحبى بكذا فاضل صاحبك بمثله ويقول شياطين الجن لشياطين الانس كذلك فذلك وحي بعضهم الى بعض والاول أرجح وأشد موافقة للسياق يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اى يوسوس شياطين الجن الى شياطين الانس او بعض الجن الى بعض وبعض الانس الى بعض زُخْرُفَ الْقَوْلِ الأباطيل المموهة غُرُوراً منصوب على العلية او المصدرية او مصدر فى موقع الحال يعنى لزينوا الأعمال القبيحة لبنى آدم او يغرهم غرورا او غارين وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ان لا يفعلوا ما فَعَلُوهُ يعنى معادات الأنبياء وايحاء الزخارف او الغرور وهذا ايضا دليل على المعتزلة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ عليك وعلى الله فان الله يجزيهم وينصرك ويخزيهم
وَلِتَصْغى عطف على غرورا إن كان علة او متعلق بمحذوف يعنى وفعلنا ذلك لتصغى اى تميل إِلَيْهِ اى الى زخرف القول أَفْئِدَةُ اى قلوب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ لانفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا اى ليكتسبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ من المعاصي ولما كانت القريش يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك(3/279)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
حكما فانزل الله تعالى فى جوابهم
أَفَغَيْرَ اللَّهِ على ارادة القول يعنى قل لهم يا محمد والفاء للعطف على محذوف يعنى أجيب ما تطلبون منى فغير الله أَبْتَغِي اى اطلب حَكَماً قاضيا بينى وبينكم يفصل المحق منا من المبطل وغير مفعول ابتغى وحكما حال منه ويحتمل ان يكون عكسه وحكما ابلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ القران المعجز المخبر بالمغيبات مطابقا للكتب المنزلة السابقة مُفَصَّلًا مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفى اللبس حال من الكتاب والجملة حال من الله تعالى وفيه تنبيه على ان القران باعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اليهود يَعْلَمُونَ أَنَّهُ اى القران مُنَزَّلٌ قرأ ابن عامر وحفص بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ تأكيد لدلالة الاعجاز لان اهل الكتاب يعلمون بالقران كونه محقا لاجل مطابقة كتبهم مع كون النبي صلى الله عليه وسلم اميا لم يدارس كتبهم ولم يجالس علمائهم وانما أسند العلم الى جميعهم لان بعضهم يعلمون وبقيتهم متمكنون منه بأدنى تأمل او بالرجوع الى علمائهم فلا تكوننّ ايها السامع مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فى انه من عند الله تعالى
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قرأ الكوفيون ويعقوب كلمة بالتوحيد على الجنس والباقون كلمات على الجمع وأراد به اخباره ووعده ووعيده وامره ونهيه الواردة فى القران يعنى بلغت الغاية صِدْقاً فى الاخبار والوعد والوعيد وَعَدْلًا فى الاحكام كذا قال قتادة ومقاتل منصوبان على التميز او الحال لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعنى لا أجد يبدل شيئا منها قال ابن عباس لاراد لقضائه ولا مغير لحكمه او المعنى لا نبى ولا كتاب بعد القران ينسخها ويبدل أحكامها وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقولون الْعَلِيمُ بما يضمرون فلا يمهلهم
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعنى الكفار فانهم كانوا اكثر من المؤمنين يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الطريق الموصل اليه تعالى يعنى الدين الإسلام إِنْ يَتَّبِعُونَ اى اكثر اهل الأرض إِلَّا الظَّنَّ يعنى جهالاتهم وآرائهم فى تحليل الميتة وتحريم البحائر ونحوها مما يقولون وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى يقولون ما يقولون بالظن والتخمين بلا علم حاصل بدليل صحيح
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعنى يعلم بالفريقين فيجازى كلا(3/280)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
بما يستحقه ومن موصولة او موصوفة فى محل النصب بفعل دل عليه اعلم لا بافعل التفضيل فانه لا يعمل فى الظاهر او هو منصوب بنزع الخافض متعلق بأعلم اى اعلم بمن يضل او استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقيد روى ابو داؤد والترمذي عن ابن عباس قال اتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله اناكل ما نقتل ولا ناكل ما يقتل الله فانزل الله تعالى
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الفاء للسببية فانه تعالى لما نهى عن اتباع الكفار المضلين فرع عليه قوله فكلوا يعنى لا تتبعوا فى تحريم الحلال وتحليل الحرام آراء الكفار القائلين بتحليل الميتة وتحريم الذبائح إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فان الايمان به تعالى يقتضى استباحة ما أحل الله واجتناب ما حرمه
وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ما استفهامية فى موضع الرفع بالابتداء ولكم خبره وَيعنى والحال انه قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ قرأ نافع وحفص ويعقوب فصل وحرم بالفتح فيهما على البناء للفاعل يعنى بين الله لكم ما حرم الله عليكم وقرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على البناء للمفعول فيهما وقرأ ابو بكر وحمزة والكسائي فصل على البناء للفاعل وحرم على البناء للمفعول والمراد بتفصيل المحرمات قوله تعالى قل لا أجد فيما اوحى الىّ محرما الاية إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء من ضمير حرم وما مصدرية بمعنى المدة يعنى فصل لكم ما حرم عليكم فى جميع الأوقات الا وقت الاضطرار اليه فان قيل ما الفائدة فى الاستثناء وقد اغنى عنه قوله فصل لكم ما حرم عليكم فان التفصيل شامل للاستثناء قلنا فائدته المبالغة فى النهى عن الامتناع عن أكل سالم يحرم فان ما حرم يصير عند الاضطرار مباحا بخلاف ما أحل فانه لا يحرم قط وَإِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام وتحريم الحلال قرأ الكوفيون هاهنا وفى سورة يونس ليضلون بضم الياء على انه من الإضلال والباقون بالفتح بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ من دليل عقلى ولا نقلى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين من الحق الى الباطل ومن الحلال الى الحرام
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعنى الذنوب كلها ظاهرها من اعمال الجوارح وباطنها من اعمال القلب وصفات النفس قال الكلبي واكثر المفسرين الإعلان بالزنا والاسرار به وقال سعيد بن جبير ظاهره نكاح المحارم وباطنه(3/281)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
الزنا وقال ابن زيد ظاهره التجرد من الثياب والطواف عريانا وباطنه الزنا وروى عن الكلبي ظاهره طواف الرجال عريانا بالنهار وباطنه طواف النساء عريانا بالليل إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ فى الاخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون فى الدنيا
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذه الاية بعمومها حجة لاحمد حيث يقول متروك التسمية عامدا او ناسيا لا يجوز أكله وبه قال داؤد وابو ثور والشعبي ومحمد بن سيرين وقال مالك خص متروك التسمية ناسيا من عموم هذه الاية بحديث ابى هريرة قال سال رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ارايت الرجل منا يذبح وينسى ان يسمى الله قال اسم الله فى فم كل مسلم رواه الدارقطني وحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال المسلم ان نسى ان يسمى حين يذبح فليسم ثم لياكل رواه الدارقطني والحديثان ضعيفان فان فى حديث ابى هريرة مروان بن سالم قال احمد ليس بثقة وقال النسائي والدارقطني متروك وفى حديث ابن عباس معقل مجهول وقال ابو حنيفة ايضا بجواز أكل متروك التسمية ناسيا لكن القول بتخصيص الآحاد لا يصح على اصل ابى حنيفة فقال صاحب الهداية لكنا نقول فى اعتبار ذلك يعنى فى تعميم الاية للناسى ايضا من الحرج ما لا يخفى لان الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع والسمع غير مجرى على ظاهره إذ لو أريد به العموم لجرت المحاجة فظهرت الانقياد وارتفع الخلاف فى الصدر الاول ولا يخفى ضعف هذا القول وقال الشافعي المراد به بما لم يذكر اسم الله عليه الميتات وما ذبح على غير اسم الله تعالى بدليل قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ والفسق فى ذكر اسم غير الله تعالى كما فى اخر السورة قل لا أجد فيما اوحى الى قوله او فسقا اهل لغير الله به واحتج الشافعي على حل متروكة التسمية عامدا بحديث عائشة قالت ان قوما قالوا يا رسول الله ان هاهنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندرى يذكرون اسم الله عليها او لا قال اذكروا أنتم اسم الله وكلوا رواه البخاري قال البغوي لو كانت التسمية شرطا للاباحة لكان الشك فى وجوده مانعا من أكلها كالشك فى اصل الذبح وبحديث الصلت مرسلا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله او لم يذكر رواه ابو داؤد فى المراسيل قالت الحنفية حديث الصلت محمول على حالة النسيان وحديث عائشة حجة لنا لا علينا لانهم سالوا عن الاكل عند(3/282)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
وقوع الشك بالتسمية بعد علمهم بان الذابح مسلم فذلك دليل على انه كان معروفا عندهم اشتراط التسمية للحل وانما امر النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل بناء على ظاهر ان المسلم لا يترك التسمية عمدا كمن اشترى لحما من سوق المسلمين يباح له الاكل بناء على الظاهر وان كان يحتمل انه ذبيحة مجوسى وما قال الشافعي ان الاية فى الميتات وما ذبح على غير اسم الله فمدفوع بان العبرة لعموم اللفظ ونصوص الكتاب والسنة لم يرد شىء منها فى الذبح والصيد الا مقيدا بذكر اسم الله تعالى وقد مر هذه المسألة وغيرها من مسائل الذبح فى تفسير سورة المائدة قال فى شرح المقدمة المالكية يجزيه يعنى الذبح لو ترك التسمية عمدا فى مذهب مالك عند ابى القاسم وفى مذهب المدونة لا يجزيه ومذهب المدونة هو المشهور لانها واجبة مع الذكر وكل هذا فى غير المتهاون واما المتهاون فلا خلاف انها لا يوكل ذبيحته تحريما قاله ابن الحارث وابن البشير والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيرا والله اعلم اخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال لما نزلت ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق أرسلت فارس الى قريش ان خاصموا محمدا فقولوا ما تذبح أنت بسكين فهو حلال وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعنى الميتة فهو حرام وكذا اخرج ابو داؤد والحاكم وغيرهما قول كفار مكة من غير ذكر فارس فنزلت وَإِنَّ الشَّياطِينَ يعنى شياطين الانس من الفارس او شياطين الجن لَيُوحُونَ يعنى ليلقون او ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ يعنى كفار قريش او مطلق الكفار لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فى استحلال ما حرم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ع فان من ترك طاعة الله او أطاع غيره واتبعه فى دينه فقد أشرك حذف الفاء من الجزاء لكون الشرط بلفظ الماضي قال الزجاج فيه دليل على ان من أحل شيئا مما حرم الله او حرم ما أحل الله فهو مشرك قلت إذا ثبت ذلك بدليل قطعى
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً يعنى كافرا غافلا قلبه عن الحق قرأ نافع ويعقوب هاهنا وفى يس الأرض الميتة وفى الحجرات لحم أخيه ميتا بتشديد الياء فى الثلاثة والباقون بإسكانها استعارة تمثيلية وكذا فى قوله كمن مثله فى الظلمات فان الكافر لا يمتاز بين ما ينفعه وما يضره كالميت فَأَحْيَيْناهُ يعنى أحيينا قلبه بنور الايمان(3/283)
وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً «1» يعنى فراسة المؤمن يمتاز به الحق من الباطل يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعنى يمشى بذلك النور على طريق يقتضيه العقل السليم والطبع المستقيم والشرع المنزل من الله تعالى كَمَنْ مَثَلُهُ اى صفته مبتدا كونه فِي الظُّلُماتِ خبر لمثله وجاز ان يكون الظرف خبر مبتدأ محذوف اى هو والجملة خبر لمثله والجملة الكبرى صلة وقوله لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حال من المستكن فى الظرف لا من الهاء فى مثله للفصل والمعنى او من كان مومنا كمن هو كافر لم يومن والاستفهام للانكار يعنى هما لا يتماثلان اخرج ابو الشيخ عن ابن عباس انه قال نزلت فى عمر بن الخطاب وابى جهل واخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وقال البغوي قال ابن عباس يريد بهما حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل وذلك ان أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فاخبر حمزة بما فعل ابو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فاقبل غضبان حتى اتى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع ويقول يا با يعلى اما ترى ما جاء محمد به سفّه عقولنا وسب الهتنا وخالف ابائنا فقال حمزة ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله فانزل الله تعالى هذه الاية وقال عكرمة والكلبي نزلت فى عمار بن ياسر وابى جهل فاتفقت الروايات ان المراد عن مثله فى الظلمات ابو جهل ومقابله أحد الثلاثة والظاهر ان هؤلاء الثلاثة أمنوا متقاربين فى الزمان وحينئذ نزلت الاية ولفظها عام فيمكن حمله على كلهم وفى هذه الاية رد لما زعم ابو جهل انه أفضل من المؤمنين الذين خالفوا ابائهم وسبوا الهتهم فكان مقتضى السياق نفى افضلية الكفار فذكر الله سبحانه نفى المساوات ليكون ابلغ فى الدلالة على نفى أفضليتهم وكيلا يتطرق الوهم الى المساوات واستدل على نفى المساوات بما يقتضى افضلية المؤمنين بل اختصاصهم بالجمال والكمال ونفى ذلك عن الكفار بالكلية فاختصاص المؤمنين بالكمال ونفى مساواتهم بالكفار اشارة النص بالمطابقة ونفى افضلية الكفار عبارة النص بالالتزام كَذلِكَ اى كما زين لابى جهل اعماله حيث زعم نفسه أفضل من المؤمنين زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ أجمعين سيئات ما كانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذلِكَ اى كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها
__________
(1) وعن زيد بن اسلم انها نزلت فى عمر بن الخطاب وابى جهل وعن الحسن مثله وعن ابى سنان مثله 12(3/284)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ان كان جعلنا بمعنى صيرنا فمفعولاه اما فى كل قرية وأكابر ومجرميها بدل من أكابر واما أكابر ومجرميها على تقديم المفعول الثاني على الاول وجاز ان يكون أكابر مضافا الى مجرميها أحد مفعوليه والثاني فى كل قرية وإن كان جعلنا بمعنى مكنا فالظرف متعلق بمكنا وأكابر مضافا الى مجرميها مفعوله وافعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الافراد والمطابقة وخصص الأكابر لانهم أقوى فى استتباع الناس والمكر بهم وذلك سنة الله تعالى حيث يجعل اتباع الرسل فى بدو الأمر ضعفائهم والمكر الخديعة كذا فى القاموس وفى الصحاح المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وكان مكر قريش انهم اجلسوا على كل طريق من طرق مكة اربعة نفر ليصرفوا الناس عن الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فانه كاهن ساحر كذاب وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ حيث يعود إليهم وباله وَما يَشْعُرُونَ ذلك قال البغوي قال قتادة قال ابو جهل زاحمنا بنو عبد مناف فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى «1» رهان قالوا منا نبى يوحى اليه والله لا نومن به ولا نتبعه ابدا الا ان يأتينا وحي كما يأتيه وقيل ان الوليد بن المغيرة قال لو كانت النبوة حقا لكنت اولى به منك لانى اكبر منك سنا واكثر منك مالا فانزل الله تعالى
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا يعنى كفار قريش لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ثم قال الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ «2» رِسالَتَهُ قرأ ابن كثير وحفص على الافراد وفتح التاء والباقون رسالاته بالجمع وكسر التاء استيناف للرد عليهم بان النبوة ليست بالنسب والمال والسن وانما هى فضل من الله تعالى بمن يعلم انه أحق به قال المجدد للالف الثاني رضى الله عنه مبادى تعينات الأنبياء صفات الله تعالى من غير شائبة الظلية ومبادى تعينات غيرهم من الناس ظلال
__________
(1) فرسى رهان مثل يضرب لاثنين يستبقان الى غاية فيستويان 5 قاموس 5
(2) عن ابن مسعود ان الله نظر فى قلوب العباد فوجد قلب محمد خير القلوب فاصطفاه لنفسه وبعثه برسالته ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما راه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وما راه المؤمنون سيئا فهو عند الله سيئ 12(3/285)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
الأسماء والصفات وصفات الله تعالى وان كانت واجبة لكن وجوبها بالغير فهى باعتبار احتياجها الى الذات صارت مبادى تعينات الأنبياء والملئكة ومن ثم خصت العصمة بهذين الصنفين غير ان الصفات من حيث بطونها وقيامها بالله تعالى مباد لتعينات الملئكة ومن حيث ظهورها وكونها مصادر للعالم وحجبا مبادى لتعينات الأنبياء فولاية الملئكة ارفع واقرب الى الله تعالى من ولاية الأنبياء وفضلهم على الملئكة انما هو من حيث النبوة المختصة بالبشر وذلك بالتجليات الذاتية البحتة فاستحقاق النبوة والرسالة ناش من كون مبادى تعيناتهم صفات الله تعالى لا من حيث النسب والسن والمال كما زعمه الا عمهون سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعنى أكابر الكفار صَغارٌ ذل وهوان عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله يعنى فى الدنيا والاخرة وَعَذابٌ شَدِيدٌ بالقتل والاسر فى الدنيا كما أصاب كفار قريش يوم بدر وبالنار فى الاخرة بِما كانُوا يَمْكُرُونَ الباء للسببية او المقابلة اى بسبب مكرهم فى الدنيا او جزاء على مكرهم
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ الى معرفة طريق الحق يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ لما نزلت هذه الاية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر قال نور يقذفه الله فى قلب المؤمن فيشرح له ويتفسح قلت يعنى يتسع لمعرفة الحق ويومن قالوا فهل لذلك امارة قال نعم الانابة الى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور واستعداد الموت قبل نزول الموت أخرجه الحاكم والبيهقي فى شعب الايمان من حديث ابن مسعود واخرج الفريابي وابن جرير وعبد بن حميد من حديث ابى جعفر مرسلا قالت الصوفية العلية شرح الصدر لا يكون الا بعد فناء النفس بزوال عينها واثرها وذلك بتجليات صفات الله تعالى الحسنى فى الولاية الكبرى ولاية الأنبياء وحينئذ يحصل الايمان الحقيقي وَمَنْ يُرِدْ الله سبحانه أَنْ يُضِلَّهُ عن طريق الحق يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً قرأ ابن كثير ضيقا بالتخفيف بإسكان الياء هاهنا وفى الفرقان والباقون بالتشديد وهما لغتان مثل هين وهيّن ولين وليّن وقرأ نافع وابو بكر عن عاصم حرجا بكسر الراء والباقون بفتحها قال سيبويه بالفتح المصدر كالطلب بمعنى الصفة وبالكسر الصفة وهى أشد الضيق وقيل هما لغتان بمعنى الصفة يعنى يجعل صدره بحيث لا يدخله الايمان ويشق عليه قبول الحق ويزعمه مستحيلا(3/286)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قال الكلبي يعنى ليس للخير فيه منفذ وقال ابن عباس إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإذا ذكر شيئا من عبادة الأوثان ارتاح الى ذلك قرأ عمر بن الخطاب هذه الاية فسال أعرابيا من كنانة ما الحرجة قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شىء فقال عمر كذلك قلب المنافق لا يصل اليه شىء من الخير كَأَنَّما يَصَّعَّدُ قرأ ابن كثير بالتخفيف وسكون الصاد من المجرد وابو بكر يصاعد بالألف وتشديد الصاد اى يتصاعد والباقون بتشديد الصاد والعين اى يتصعد فِي السَّماءِ شبّهه مبالغة فى ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه فان صعود السماء مثل فيما يبعد من الاستطاعة فيه اشعار بان الايمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود عادة وقيل كانما يتصاعد الى السماء يعنى يتباعد عنه فى الهرب عنه كَذلِكَ اى كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الايمان يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ يعنى العذاب كذا قال عطاء وقال الزجاج الرجس اللعنة فى الدنيا والعذاب فى الاخرة وقال الكلبي هو الماثم وقال مجاهد الرجس ما لا خير فيه وقال ابن عباس هو الشيطان يعنى يسلط عليه الشيطان عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اى عليهم وضع المظهر موضع المضمر للتعليل والاية حجة على المعتزلة فى ارادة المعصية
وَهذا الذي بينا من شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقا لمن أراد إضلاله صِراطُ رَبِّكَ طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنة التي جرت فى عباده وقيل معناه هذا الذي أنت عليه يا محمد وجاء به القران من الإسلام صراط ربك الموصل اليه مُسْتَقِيماً معناه على التقدير الاول عادلا مطردا وعلى التقدير الثاني لا عوج فيه حال من الصراط والعامل فيها معنى الاشارة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ من اهل السنة والجماعة فانهم هم المنتفعون بها العالمون بان القادر هو الله تعالى لا غير وان كل ما يحدث من خير وشر بقضائه وخلقه وانه عليم بأحوال العباد حكيم عادل لا مجال لاحد بالاعتراض عليه
لَهُمْ اى لقوم يتذكرون بالنصوص ولا يتبعون الأهواء دارُ السَّلامِ يعنى الجنة سميت بها لانها دار السّلام من المكاره او دار تحيتهم فيها سلام او المعنى دار الله أضاف الى نفسه تعظيما عِنْدَ رَبِّهِمْ اى فى ضمانه او ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره وَهُوَ اى الله تعالى وَلِيُّهُمْ اى متولى أمورهم فى الدنيا بالتوفيق وفى القبور بالتثبيت فى الجواب جواب المنكر والنكير وفى الاخرة بجزيل الجزاء ويرفعهم فى(3/287)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
درجات القرب بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بسبب أعمالهم
وَنقول او يقول الله يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يعنى الجن والانس قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ يعنى الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ بان جعلتم كثيرا منهم اتباعكم فى الضلالة او استكثرتم من اغوائهم وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ اى انتفع الانس من الجن بما يتلقون منهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزئينهم لهم الأمور التي يشتهونها وأطاعه الجن لهم فى تحصيل مراداتهم وإيصالهم الى شهواتهم ويبيت الانس فى جوار الجن حين يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه وانتفع الجن من الانس باستعبادهم واستتباعهم فى الضلالات والمعاصي وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعنى يوم القيامة أجلت للبعث اعتراف بذنبهم وتحسر على أنفسهم قالَ الله تعالى النَّارُ مَثْواكُمْ منزلكم او ذات مقامكم خالِدِينَ فِيها حال والعامل فيها مثويكم ان جعل مصدر او معنى الاضافة ان جعل مكانا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل معناه الا مدة سبقت على وقت دخولهم فى النار كانه قيل النار مثويكم الا ما امهلتكم وقيل المستثنى الأوقات التي ينقلون فيها من النار الى الزمهرير وقيل معنى إلا سوى والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء الله من انواع العذاب وقال ابن «1» عباس الاستثناء يرجع الى قوم سبق فيهم علم الله انهم يسلمون فيخرجون من النار وما بمعنى من على هذا التأويل إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعل باوليائه وأعدائه عَلِيمٌ بما فى قلوبهم من الايمان والنفاق وباعمال الثقلين وأحوالهم
وَكَذلِكَ اى كما خذلنا عصاة الجن والانس حتى استمتع بعضهم ببعض نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً اى بعضهم قال قتادة يعنى يجعل بعضهم اولياء بعض المؤمن ولى المؤمن يعينه على الخير والكافر ولى الكافر يبعثه الى الشر وروى معمر عن قتادة معناه نتبع بعضهم بعضا فى النار من الموالاة وقيل معناه نولى ظلمة الانس ظلمة الجن وظلمة الجن ظلمة الانس اى نكل بعضهم الى بعض وروى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس
__________
(1) قلت لعل المراد من قول ابن عباس ان نامنا ممن لم يبلغهم دعوة الرسل سبق فيهم علم الله انهم يسلمون لو بلغهم دعوة الرسل فيخرجون من النار ومن سبق فيه علم الله منهم انهم لا يسلمون يخلدون فى النار 12(3/288)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
فى تفسير هذه الاية ان الله إذا أراد بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولّى أمرهم شرارهم فمعنى نولى بعض الظالمين بعضا اى نسلط بعضهم على بعض فناخذ من الظالم بالظالم كما جاء من أعان ظالما سلطه الله عليه ويؤيد رواية الكلبي عن ابن عباس ما روى الحاكم عن صعصعة بن صوحان عن علىّ عليه السلام انه عليه السلام لما استشهد وضربه ابن ملجم قال الناس يا امير المؤمنين استخلف علينا فقال على ان يعلم الله فيكم خيرا بول عليكم خياركم قال على فعلم الله فينا خيرا فولّى أبا بكر رضى الله عنه وروى الظالم عدال الله فى الأرض ينتقم به من الناس ثم ينتقم منه بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ع من الكفر والمعاصي.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
اختلفوا فى ان الجن هل أرسل إليهم منهم فسئل الضحاك عنه فقال بلى الم تسمع الله يقول الم يأتكم رسل منكم يعنى رسلا من الانس ورسلا من الجن قال الكلبي كانت الرسل قبل ان يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون الى الجن والى الانس جميعا يعنى الى بعض من كل من الفريقين فانه لم يبعث الى كافتهم الا خاتم الرسل عليه السلام وقال مجاهد الرسل من الانس والنذر من الجن ثم قرأ ولوا الى قومهم منذرين والمراد بالنذر رسل الرسل وهم قوم من الجن يستمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا وليس للجن رسل فعلى هذا قوله تعالى رسل منكم ينصرف الى أحد الصنفين وهم الانس كما قال الله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وانما يخرج من الملح دون العذب وقال وجعل القمر فيهن وانما هو فى سماء واحدة قلت الاية تدل على كون الفريقين مرسلين إليهم سواء كان الرسل من كل صنف او من الانس فقط لكن لا مانع من كون بعض الرسل الى الجن منهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كيف وقوله تعالى لو كان فى الأرض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يقتضى كون الرسل الى الجن منهم لكمال المناسبة بين الرسول ومن أرسل اليه كيف وخلقة الجن كان اسبق من آدم عليه السلام وكانوا مكلفين لكونهم من ذوى العقول ولقوله تعالى لا ملئن جهنم من الجنة والناس فلو لم يرسل إليهم حينئذ أحد لم يعذبوا لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فهذه الاية تدل على انه كان قبل آدم عليه السلام من الجن رسلا إليهم ومن هاهنا يظهر ان ما يدعوا اهل الهند من البرازخ ويسمونهم أوتارا ويذكرون فى تواريخهم(3/289)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
ألوف ومائة ألوف من السنين لعلهم كانوا من الجن برازخ مبعوثين الى الجن ولعل لاهل الهند دين منزل من الله تعالى على الجن استفاد منهم الانس قيل لاجل كونهم مولودين من بطن الجنية منسوخ بشرائع منزلة بعد ذلك فان اصول دينهم يوافق الكتاب والسنة غالبا وما يخالف منه فهو من عمل الشيطان مردود والله اعلم قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يقرؤن كتبى يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعنى يوم القيامةالُوا
جواباهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بتبليغ الرسل إلينا وبالكفر قال مقاتل وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
حتى لم يؤمنوا شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
ذم لهم على سوء اختيارهم فى الدنيا حتى اضطروا الى الاعتراف باستيجاب العذاب
ذلِكَ يعنى إرسال الرسل خبر مبتدأ محذوف اى الأمر وما بعده تعليل للحكم او بدل من ذلك والأظهر انه مبتدأ وخبره ما بعده أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ان مصدرية او مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن يعنى إرسال الرسل كان لانتفاء كون ربك او لان الشان لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرى اى اهله بِظُلْمٍ اما حال من فاعل مهلك يعنى ما كان ربك مهلكهم ظالما وَأَهْلُها غافِلُونَ لم ينبهوا برسول واما حال من مفعوله واما ظرف لغو متعلق بمهلك يعنى ما كان ربك مهلكهم بسبب ظلم فعلوه او ملتبسين بظلم فى حال غفلتهم من قبل ان يأتيهم الرسل وذلك على جرى العادة من الله تعالى
وَلِكُلٍّ من المكلفين دَرَجاتٌ مراتب من الله تعالى فى القرب والبعد مِمَّا عَمِلُوا اى من أجل أعمالهم التي اكتسبوها فى الدنيا فمنهم من هو اقرب منزلة وأجزل ثوابا ومنهم من هو ابعد رحمة وأشد عذابا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيجزى كلا منهم على حسب عمله قرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن العباد وعن عبادتهم ليس إرسال الرسل وتكليف العباد بالأوامر والنواهي لغرض يعود اليه تعالى بل لانه تعالى ذُو الرَّحْمَةِ على خلقه أرسل إليهم الرسل وأمرهم ونهاهم تكميلا لهم ومن رحمته تعالى انه يمهلهم على المعاصي ويتجاوز عنهم إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ اى يهلككم يا اهل مكة بذنوبكم ما به تعالى إليكم حاجة يفوت بذهابكم وَيَسْتَخْلِفْ اى يخلف وينشأ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق غيركم أطوع منكم إنشاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ(3/290)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
من أولاد قَوْمٍ آخَرِينَ قرنا بعد قرن لكنه أمهلكم ترحما عليكم
إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث والحساب والاثابة والتعذيب لَآتٍ كائن لا شبهة فيه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين طالبكم به بل يدرككم حيث ما كنتم
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ قرأ ابو بكر عن عاصم على مكاناتكم وعلى مكاناتهم حيث وقع على الجمع والباقون على الافراد والمكانة اما مصدر من مكن مكانة إذا تمكن وتسلط على شىء يعنى اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتكم او هو اسم ظرف بمعنى المكان استعير هاهنا للحال يقال للرجل إذا امر ان يثبت على حاله على مكانتك يا فلان اى اثبت على ما أنت عليه من الحال وعلى التقديرين امر للتهديد والوعيد والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم إِنِّي عامِلٌ على مكانتى التي انا عليها من المصابرة والثبات على الإسلام وعلى ما أمرني به ربى فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ قرأ حمزة والكسائي يكون بالياء هاهنا وفى القصص لان تأنيث العاقبة غير حقيقى والباقون بالتاء لتانيث الفاعل ومن اما موصولة فى محل النصب على انه مفعول يعلمون يعنى فسوف يعرفون الذين يكون له العاقبة الحسنى فى الدار الاخرى او استفهامية فى محل الرفع على الابتداء وفعل العلم معلق عنه يعنى يعلمون أينا يكون له العاقبة الحسنى فى الدار الاخرى إنذار مع الانصاف فى المقال وحسن الأدب وفيه تعريض على انى على علم ويقين بان العاقبة للمتقين إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الواضعون العبادة والطاعة فى غير محلها قال البغوي كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا وللاوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه الى الضيفان والمساكين وما جعلوه للاوثان أنفقوا على خدمها فان سقط شىء مما جعلو الله فى نصيب الأوثان تركوه وقالوا ان الله لغنى عن هذا وان سقط شىء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله ردوه الى الأوثان وقالوا انها محتاجة وكان إذا هلك او انتقص شىء مما جعلوه لله لم يبالونه وإذا هلك او انتقص شىء مما جعلوه للاصنام جبروه بما جعلوه لله وذلك قوله تعالى
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ اى خلقه الله مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ولشركائهم نصيبا حذف هذه الجملة لظهورها بالمقابلة فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يعنى زعموا كذلك ولم يأمرهم(3/291)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
به الله ولا شرع لهم تلك القسمة قرأ الكسائي بضم الزاء والباقون بالفتح وهما لغتان وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ حيث كانوا يتمون ما جعلوا للاوثان مما جعلوا لله تعالى دون العكس قال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوا لله وأكلوا منه ووفروا ولم يأكلوا ما جعلوا للاوثان ساءَ ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا واشراكهم خالق الحرث والانعام وسائر الخلائق جمادات لا يقدر على شىء ما وترجيحهم الجمادات على خالق السموات
وَكَذلِكَ يعنى تزئينا مثل ما زين لهم قسمة الحرث ونحوها زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بواد البنات ونحرهم لالهتهم شُرَكاؤُهُمْ فاعل زين قال مجاهد يعنى شياطينهم زينوا وحسنوا لهم واد البنات خيفة الفقر سميت الشياطين شركاء لانهم أطاعوها فى معصية الله وأضيف الشركاء إليهم لاتخاذهم إياها الهة بلا سبب موجب وقال الكلبي شركائهم سدنة الأوثان كانوا يزينون الكفار قتل الأولاد فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم وقرأ ابن عامر زين بضم الزاء وكسر الياء على البناء للمفعول الذي هو القتل مرفوعا ونصب الأولاد على المفعولية للقتل وجر الشركاء على ان المصدر مضاف الى الفاعل اعنى الشركاء وترك المفعول اعنى أولادهم منصوبا ويظهر بتواتر هذه القراءة ان اضافة المصدر الى فاعله مفصولا بينهما بمفعوله صحيح فصيح وان ضعفه بعض اهل العربية كذا قال التفتازانيّ او يقال نزل المضاف اليه منزلة الفاعل المرفوع وجاز تقديم المفعول على الفاعل وانما أسند القتل الى الشركاء وان لم يتولوا ذلك لانهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا اليه لِيُرْدُوهُمْ اى ليهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ اى ليخلطوا عليهم دينهم الذي كانوا عليه يعنى دين اسمعيل عليه السلام قبل التلبيس كذا قال ابن عباس او المراد دينهم الذي وجب عليهم ان يتدينوا به واللام للتعليل ان كان التزيين من الشياطين وللعاقبة ان كان من السدنة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ان لا يفعلوا ذلك التخليط واللبس والتزيين او ان لا يقتلوا الأولاد وان لا يجعلوا للاصنام نصيبا من أموالهم ما فَعَلُوهُ اى المشركين ما زين لهم او الشركاء التزيين او الفريقان جميع ذلك فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ(3/292)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
اى افترائهم او ما يفترونه من الافك
وَقالُوا يعنى المشركين هذِهِ يعنى ما جعلوه لله ولالهتهم من الحرث والانعام على ما مر أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ اى حرام مصدر بمعنى المفعول يستوى فيه الواحد والجمع والذكر والأنثى وقال مجاهد يعنى بالانعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء بِزَعْمِهِمْ من غير حجة وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعنى البحائر والسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فى الذبح وانما يذكرون اسماء الأصنام وقال ابو وائل معناه لا يحجون عليها ولا يركبون لفعل الخير لانه لما جرت العادة بذكر اسم الله على فعل الخير عبر عن فعل الخير بذكر الله افْتِراءً عَلَيْهِ نصب على المصدر من قالوا لان ما قالوه تقولوا على الله والجار والمجرور متعلق لقالوا او بمحذوف هو صفة له يعنى افتراء واقعا عليه او منصوب على الحال يعنى قالوا ذلك مفترين او على العلية يعنى للافتراء والجار والمجرور متعلق به او بالمحذوف سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اى بسبب افترائهم او بمقابلة
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنى اجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حيا خالِصَةٌ الخالص ما لا شوب فيه والهاء فيه للتاكيد والمبالغة وقال الكسائي خالص وخالصة واحد مثل وعظ وموعظة وقال الفراء ادخلت الهاء لتانيث الانعام لان ما فى بطونها مثلها وقيل نظرا الى المعنى فان معنى ما فى بطونها الاجنة والمراد به حلال خاصة لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا اى نسائنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ ابن عامر وابو جعفر وابن كثير ميتة بالرفع على الفاعلية على ان يكون تامة لكن المكي قرأ يكن بالياء التحتانية والآخران بالتاء الفوقانية لان الفاعل مؤنث غير حقيقى او لان الميتة لفظه مؤنث ومعناه يعم الذكر والأنثى فجاز التذكير على التغليب والتأنيث على اللفظ والباقون ميتة بالنصب على الخبرية غير ان أبا بكر عن عاصم قرأ تكن بالتاء الفوقانية مع ان الضمير راجع الى الموصول نظرا الى تأنيث الخبر او الى المعنى فان ما فى بطونها هى الاجنة والباقون بالتحتانية نظرا الى لفظ الموصول فَهُمْ اى الذكر والأنثى فِيهِ اى فى الميتة وذكر الضمير لانه يعم الذكر والأنثى شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ منصوب بنزع الخافض اى يوصفهم الله(3/293)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
كاذبا فى التحليل والتحريم او على المصدرية بحذف المضاف اى جزاء وصفهم إِنَّهُ حَكِيمٌ فى جزائهم عَلِيمٌ بما يفعلون
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا قرأ ابن عامر وابن كثير بتشديد التاء على التكثير والباقون بالتخفيف أَوْلادَهُمْ سَفَهاً جهلا بِغَيْرِ عِلْمٍ بان الله رازق أولادهم ويجوز نصبه على المصدرية او الحال اى قتلا بغير علم او كائنين بغير علم قال البغوي نزلت الاية فى ربيعة ومضر وبعض من العرب كانوا يدفنون البنات احياء مخافة الفقر والسبي وبنو كنانة لا يفعلون ذلك وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ يعنى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افْتِراءً عَلَى اللَّهِ منصوب على العلية او الحالية او المصدرية يعنى يفترون على الله افتراء او حرموا مفترين او للافتراء قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ الى الحق والصواب
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ بساتين مَعْرُوشاتٍ قال ابن عباس ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرض اى يرفع مثل الكرم والقرع والبطيخ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ما قام على الساق ونسق مثل النخل والزرع وسائر الأشجار وقال الضحاك كلاهما من الكرم منها ما عرش يعنى غرسه الناس فعرشوه ومنها ما نبت فى البراري والجبال فلم يعرشه أحد وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ يعنى ثمره فى اللون والطعم والريح الضمير راجع الى الزرع والباقي مقيس عليه او الى النخل والزرع داخل فى حكمه لكونه معطوفا او للجميع على تقدير كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة لان وقت الإنشاء لا أكل له وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً بعض افرادها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ بقيتها كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى من ثمر كل واحد منها إِذا أَثْمَرَ وان لم يدرك يعنى أول وقت الإباحة طلوع الثمر ولا يتوقف على الإدراك او يقال فائدة هذا القيد رخصة المالك فى الاكل منه قيل أداء حق الله تعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ ابو عمرو وابن عامر وعاصم حصادة بفتح الحاء والباقون بكسرها ومعناهما واحد كالصرام والصرام والجزار والجزار بالكسر والفتح فيهما اختلفوا فى هذا الحق فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب انه الزكوة المفروضة من العشر ونصف العشر لان الأمر للوجوب ولفظ الحق غالب استعماله فى الواجب والإجماع على انه لا واجب فى المال الا الزكوة وفى الصحيحين عن(3/294)
طلحة بن عبد الله قال جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسال عن الإسلام فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات وصيام شهر رمضان والزكوة فقال هل على غيرها قال لا الا ان تطوع فعلى هذا القول هذه الاية مدنية وفيها حجة لابى حنيفة حيث يقول يجب الزكوة فى الثمار مثل الرمان خلافا لمالك والشافعي فانه لا يجب الزكوة عندهما الا فيما يقتات به وقد مر مسائل زكوة الزرع فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وأنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقال على بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم هو حق فى المال سوى الزكوة امر بإتيانه لان الاية مكية وفرضت الزكوة بالمدينة قال ابراهيم هو الضغث وقال الربيع لقاط السنبل اخرج ابن مردويه والنحاس فى ناسخه عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الاية قال ما سقط من السنبل وقال مجاهد كانوا يعلقون العذق عند الصرام فياكل منه من مرّ وقال يزيد بن الأصم كان اهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه فى جانب المسجد فيجئ المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فياخذ ويويد هذا القول حديث فاطمه بنت قيس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فى المال لحقا سوى الزكوة ثم تلا ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وقد مر فى تفسير تلك الاية فى البقرة فالمراد بالحق أعم من ان يكون واجبا او مندوبا وقال سعيد ابن جبير كان هذا حقا يومر بإتيانه فى ابتداء الإسلام فصار منسوخا بايجاب العشر قال مقسم عن ابن عباس نسخت الزكوة كل نفقة فى القران وَلا تُسْرِفُوا الإسراف ضد القصد كذا فى القاموس وفى الصحاح انه التجاوز عن الحد فى كل فعل قيل أراد هاهنا بالإسراف إعطاء الكل قال البيضاوي هذه الاية كقوله تعالى ولا تبسطها كل البسط قال البغوي قال ابن عباس فى رواية الكلبي عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة فقسمها فى يوم واحد ولم يترك لاهله شيئا فانزل الله عز وجل هذه الاية وكذا اخرج ابن جرير عن ابن جريح قال البغوي قال السدى لا تسرفوا اى لا تعطوا سائر أموالكم فتقعدوا فقراء قلت إعطاء الكل انما يكون إسرافا ومنهيا عنه إذا لم يوصل الى عياله ومن له عليه حق حقوقهم كذا قال الزجاج واما بعد أداء(3/295)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
حقوق اهل الحقوق فاعطاء الكل فى سبيل الله أفضل وليس بإسراف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان لى مثل أحد ذهبا يسرّنى ان لا يمرّ علىّ ثلث ليال وعندى منه شىء الا شىء ارصده لدين رواه البخاري وعن
ابى ذر انه استاذن على عثمان فاذن له وبيده عصاه فقال عثمان يا كعب ان عبد الرحمن بن عوف توفى وترك مالا فما ترى فيه فقال إن كان يصل فيه حق الله فلا بأس به فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أحب لو ان لى هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل منى اذر خلفى منه ست أواق أنشدك بالله يا عثمان أسمعته ثلث مرات قال نعم رواه احمد وعن ابى هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبرة من تمر فقال ما هذا يا بلال قال شىء ادخرته لغد فقال أما تخشى ان ترى له غدا بخارا فى نار جهنم يوم القيامة أنفق يا بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن ابى هريرة قال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اى الصدقة أفضل قال جهد المقل وابدأ بمن تعول رواه ابو داؤد وقال سعيد بن المسيب معنى لا تسرفوا لا تمنعوا الصدقة يعنى لا تجاوزوا الحد في الإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وقال مقاتل معناه لا تشركوا الأصنام فى الحرث والانعام وقال الزهري معناه لا تنفقوا فى المعصية وقال مجاهد الإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل وقال لو كان ابو قبيس ذهبا لرجل فانفقه فى طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما او مدّا فى معصية الله تعالى كان مسرفا وقال إياس بن معاوية ما جاوزت به امر الله فهو سرف وإسراف وروى ابن وهب عن ابى زيد انه قال الخطاب فى هذه الاية للسلاطين يقول الله تعالى لا تأخذوا فوق حقكم فهذه الاية نظير قوله صلى الله عليه وسلم وإياكم وكرايم اموال الناس إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضى فعلهم
وَانشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وهى كل ما حمل عليه من الإبل والبقر وَفَرْشاً وهى ما لا يحمل عليه من الصغار الدانية الى الأرض كالفصال والعجاجيل والغنم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ امر اباحة وادخل من التبعيضية لان الرزق ليس كله ماكولا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى طرقه فى تحليل الحرام وتحريم الحلال(3/296)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشا او مفعول كلوا ولا تتبعوا معترض بينهما او حال من ما بمعنى مختلفة او متعددة والزوج ما معه اخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الاول مِنَ الضَّأْنِ اسم جنس وهى ذات الصوف من الغنم وجمعه ضئين او الضان جمع ضائن والأنثى ضائنة وجمعها ضوائن اثْنَيْنِ زوجين اثنين الذكر والأنثى اعنى الكبش والنعجة بدل من حمولة ان جوز تعدد البدل ومن ثمانية ان جوز البدل من البدل وَمِنَ الْمَعْزِ وهى ذات الشعر من الغنم قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالإسكان وهى جمع ما عز كصحب وصاحب وقال البغوي هو جمع لا واحد له من لفظه وجمع الماعز معزى وجمع الماعزة مواعز اثْنَيْنِ الذكر والأنثى التيس والعنز قُلْ يا محمد آلذَّكَرَيْنِ اجمع القراء على ابدال الهمزة الثانية او تسهيلها وكذا كلما دخل همزة الاستفهام على همزة الوصل نحو آلله آلآن يعنى آلذكر من الضان والمعز حَرَّمَ اى حرمه الله تعالى أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما ونصب الذكرين والأنثيين بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى أعم من الذكر والأنثى من الجنين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ يعنى أخبروني بامر معلوم من عند الله تعالى يدل على تحريم ما تحرمونه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعوى التحريم
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ كما سبق يعنى شىء منهما لم يحرم وذلك انهم كانوا يقولون هذه انعام وحرث حجر وقالوا ما فى بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وكانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام بعضها على النساء فقط وبعضها على الرجال والنساء جميعا فلما جاء الإسلام قام مالك بن عوف ابو الأحوص الجشمي فقال يا محمد بلغنا انك تحرم أشياء مما كان ابائنا يفعلون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انكم قد حرمتم أصنافا من النعم على غير اصل وانما خلق الله تعالى هذه الأصناف الثمانية للاكل والانتفاع بها فمن اين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى فسكت مالك بن عوف وتحير فلو قال جاء هذا التحريم بسبب الذكورة وجب ان يحرم جميع الذكور ولو قال بسبب(3/297)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
الأنوثة وجب ان يحرم جميع الأنثى ولو قال باشتمال الرحم وجب ان يحرم الكل فاما تخصيص التحريم بالولد الخامس او السابع او بالبعض دون البعض فمن اين هو ويروى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك يا مالك لا تتكلم قال له مالك بل نتكلم واسمع منك أَمِ بل كُنْتُمْ يا اهل مكة شُهَداءَ حضورا إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم فانكم لا تؤمنون بنبي ولا كتاب لكم فلا طريق لكم الى المعرفة الا المشاهدة والسماع فَمَنْ أَظْلَمُ يعنى لا أحد اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فى التحريم والتحليل وغيرهما والمراد عمرو بن لحى الخزاعي ومن جاء بعده على طريقه لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روى انهم قالوا فما المحرم إذا فنزل
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ وهو يعم القران وغيره ولا وجه لتخصيصه بالقران كيف والكلام فى رد ما يزعمون من تحريم البحائر ونحوها بغير علم وذا لا يتم الا بارادة العموم فان المقصود من هذا الكلام التنبيه ان التحريم وغيرها من الاحكام انما يعلم بالوحى دون الهوى ولا أجد هاهنا من افعال القلوب ومفعوله الاول محذوف ومفعوله الثاني قوله تعالى مُحَرَّماً واختار اكثر المفسرين تقدير طعاما محرما ليصح استثناء الخنزير منه متصلا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ متعلق بمحرما إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً قرأ ابن عامر تكون بالتاء لتانيث الفاعل وميتة بالرفع على الفاعلية ويكون حينئذ تامة وقرأ ابن كثير وحمزة ايضا بالتاء نظرا الى تأنيث الخبر وميتة بالنصب على الخبرية كجمهور القراء والباقون بالياء التحتانية على ان الضمير المستتر فيه راجع الى المحذوف المقدر اعنى طعاما والمستثنى فى محل النصب على الحالية يعنى لا أجد طعاما محرما فى حال من الأحوال الا حال كونه ميتة والميتة ما فارقه الروح حتف انفه من غير فعل أحد فلا يدخل فيه الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كما يدل عليه العطف فى قوله تعالى حرمت عليكم الميتة الاية فى سورة المائدة ويدل عليه ايضا قول الكفار تزعم يا محمد ان ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام وانما تثبت حرمة الموقوذة وأخواتها بغير هذه الآيات أَوْ دَماً مَسْفُوحاً اى مهراقا سائلا قال ابن عباس يريد ما خرج من الحيوان وهو حى وما خرج من الأوداج عند الذبح ولا يدخل فيه الكبد والطحال لانهما جامدان وقد جاء الشرع بإباحتهما(3/298)
نصا واجماعا ولا ما اختلط باللحم من الدم لانه غير سائل أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ اى الخنزير لقربه رِجْسٌ اى قذر ومن هذه الاية ثبت كون الخنزير نجسا عينه ومن ثم لا يجوز بيع شىء من اجزائه ولا الانتفاع به أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ الجملة صفة لفسقا وهو معطوف على لحم خنزير وقوله فانه رجس معترض بين المعطوف والمعطوف عليه سمى الله سبحانه ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله فى الفسق وجاز ان يكون فسقا مفعولا له لاهل والجملة معطوفة على يكون والمستكن فيه راجع الى ما رجع اليه المستكن فى يكون فَمَنِ اضْطُرَّ اى دعته الضرورة الى تناول شىء من ذلك غَيْرَ باغٍ اى حال كونه غير باغ للذة وشهوة ولا باغ على مضطر مثله وَلا عادٍ اى متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1» لا يواخذ وقد مر مثل هذه الاية فى سورة البقرة وذكرنا ما يتعلق به هناك.
(مسئلة) ذهب بعض العلماء الى ان التحريم مقصور على هذه الأشياء لانحصار التحريم بنص الكتاب فيها ولا يجوز نسخ الكتاب بخبر الآحاد يروى ذلك عن عائشة وابن عباس وبه قال مالك فانه يطلق الكراهة على ما سوى ذلك مما ورد النهى عنها فى الحديث قالوا ويدخل فى الميتة المنخنقة والموقوذة وما ذكر فى أوائل سورة المائدة قلت دخول الموقوذة وأخواتها فى الميتة ممنوع كما ذكرنا وقال اكثر الائمة ابو حنيفة والشافعي واحمد وغيرهم لا يختص التحريم بهذه الأشياء قال البيضاوي الاية محكمة يعنى غير منسوخة لانها تدل على انه لم يجد فيما اوحى اليه الى تلك الغاية محرما غير هذه وذلك لا ينافى ورود التحريم فى شىء اخر فلا يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد وهذا القول غير صحيح عندى فان كل اية او سنة نطقت
__________
(1) قال الامام جلال الدين السيوطي فى الإتقان قال الشافعي فى هذه الاية ما معناه ان الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله جاءت الاية مناقضة لغرضهم فكانه قال لا حلال الا ما حرمتموه من البحيرة والسائبة والوصيلة ونحوها يعنى من الانعام ولا حرام الا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أحل لغير الله به فالاية نازلة منزلة من يقول فى جواب قول قائل لا تأكل اليوم حلاوة لا أكل اليوم الا حلاوة والغرض المصادة يعنى فى تحليل الانعام وتحريمها لا النفي والإثبات على الحقيقة قال الامام الحرمين وهذا فى غاية الحسن 12(3/299)
بحكم غير مقيد بالتابيد او التوقيت فانها مؤيدة ظاهرا نظرا الى الاستصحاب وهو فى علم الله موقت ولا يكون قابلا للنسخ الا هذا القسم من النصوص فالناسخ يكون بيانا لمدة الحكم ولذا سمى النسخ بيان تبديل كيلا يلزم على الله البدء المستحيل وو لا شك ان هذه الاية تدل على حل ما عدا المذكورات فى هذا الوقت من غير دلالة على تابيد الحل او كونه منتهيا الى وقت ومن أجل ذلك كانت الاية رد التحريم البحاير وأخواتها واحتمال ورود التحريم بعد ذلك لا ينافى كون حلها حكما شرعيا ثابتا بنص الكتاب فالحكم الوارد بالسنة بعد ذلك بالتحريم يكون ناسخا للحل البتة فلا يصح ما قيل انه لا يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد فالاولى ان يقال قد لحقه التخصيص بالقطعي الوارد فى المنخنقة وأخواتها والوارد فى تحريم الخمر فانه ايضا من جنس الطعام فان قوله تعالى ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الاية وارد فى الخمر والعام المخصوص بالبعض يجوز تخصيصه بخبر الآحاد بل بالقياس ايضا والقول باشتراط المقارنة فى التخصيص ممنوع بل كل ما يخرج بعض الافراد عن الحكم من كلام مستقل فهو مخصص سواء كان متراخيا او مقارنا وانما الناسخ ما سلب الحكم عن جميع الافراد ولو سلمنا هذا الاشتراط فنقول حل جميع الحيوانات الثابت بهذا النص منسوخ بتحريم الخبائث الثابت بقوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث لكن الطيبات والخبائث مجمل التحق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواردة فى تحريم السباع والحمر الاهلية وأمثالها بيانا للاية فالناسخ انما هو الكتاب للكتاب والأحاديث بيان للكتاب او نقول الأحاديث الواردة فى تحريم السباع وغيرها وانكانت من رواية الآحاد لكن تلقتها جميع الامة بالقبول ومالك رحمه الله وان لم يقل بتحريم السباع وأمثالها لكنه يقول بالكراهة التحريمية عملا بتلك الأحاديث فلا شبهة فى قبوله الأحاديث المذكورة فصارت الأحاديث المذكورة مجمعا عليها فجاز نسخ الكتاب بها لكونها قطعية بإجماع الامة على قبولها والاختلاف الواقع فى الضبع والثعلب واليربوع والضب لا يضرابا حنيفة فانه يقول الضبع والثعلب من السباع والضب واليربوع من الحشرات ولا خلاف فى عدم جوازا كل السباع والحشرات وانما الخلاف فى كونها من السباع والحشرات وقد ذكرنا مسائل ما يحل من الحيوانات وما يحرم فى سورة المائدة فى تفسير قوله تعالى اليوم(3/300)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
أحل لكم الطيبات الاية
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وهى كل ماله إصبع كالابل والسباع والطيور قال القتيبي هو كل ذى مخلب من الطير وكل ذى حافر من الدواب وحكاه عن بعض المفسرين سمى الحافر ظفرا على الاستعارة ولعل مسبب الظلم تعميم التحريم والا فبعضها محرم فى ملة الإسلام ايضا وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما اى ما اشتمل على الظهور والجنوب أَوِ الْحَوايا عطف على ظهورهما يعنى ما اشتمل على الحوايا وهى الأمعاء جمع حاوية او حاوياء أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يعنى شحوم الالية لاتصالها بعجب الذنب والمخ فبقى بعد الاستثناء شحوم الجوف وهى الثروب وشحوم الكلى ذلِكَ التحريم مفعول ثان لقوله تعالى جَزَيْناهُمْ عقوبة لهم بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم من قتل الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربوا وأكلهم اموال الناس بالباطل فان قيل من كان هذا شانه لا يبالى بأكل ما حرم عليه فاى عقوبة وضيق عليهم بالتحريم قلت لعل هذا التحريم لزيادة تعذيبهم فى الاخرة عن جابر بن عبد الله انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة ان الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل أرأيت شحوم الميتة فانه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح فقال لا هو حرام شحومها ثم قال رسول الله لعن الله اليهود ان الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوه فاكلوا ثمنه رواه البخاري وغيره والله اعلم وَإِنَّا لَصادِقُونَ فى الاخبار والوعد والوعيد
فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعنى اليهود فيما أوحيت إليك هذا فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بامهاله فانه لا يهمل وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا جاء وقته او المعنى ذو رحمة واسعة للمؤمنين وذو بأس شديد للمكذبين المجرمين فاقام مقامه ولا يرد بأسه للدلالة على انه لازم بهم لا يمكن رده عنهم
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا اخبار عن مستقبل ففيه اعجاز فانه اخبار عن غيب وقع بعد ذلك وانهم لما لزمتهم الحجة وعجزوا عن جوابها استدلوا على كون ما هم عليهم مشروعا مرضيا لله تعالى بانه لَوْ شاءَ اللَّهُ خلاف ما نحن عليه ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ مما حرمناه يعنى ان الله قادر على ان يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى(3/301)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
لا نفعله فلولا انه رضى بما نحن عليه وأراد منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك وهذا الاستدلال مبنى على جهلهم وعدم تفرقهم بين المشية بمعنى الارادة وبين الرضا فان إرادته تعالى متعلق بالخير والشر ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وانه تعالى لا يرضى لعباده الكفر كَذلِكَ اى مثل ما كذبوك فى ان الله منع من الشرك ولم يرض به ولم يحرم ما حرّموه كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا عذابنا الذين أنزلنا عليهم بتكذيبهم قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ مستنبط من كتاب او حجة يفيد العلم بانه تعالى راض عن الشرك وحرم ما حرموه او المراد بالعلم امر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعموا فَتُخْرِجُوهُ لَنا ولتظهروا ما أفادكم ذلك العلم وليس الأمر كذلك ولا يقولون انهم يقولون عن علم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ الحاصل بتقليد الآباء وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون والله اعلم
قُلْ يا محمّد فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التامة عليكم باوامره ونواهيه ولا حجة لكم بمشيته فان مشيته لا يلازم رضاه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على مقتضى حكمته لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون احتج المعتزلة بهذه الاية على ان الكفر ليس بمشية الله تعالى وإرادته والا لما عابهم الله تعالى على قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولما كذبهم الله فى هذا القول وبما ذكرنا لك من التفسير ظهر بطلان احتجاجهم بها وان الله تعالى لم يكذبهم فى هذا القول بل قولهم هذا يوافق قوله تعالى فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ولم يقل الله تعالى انكم كاذبون فى هذا القول بل عابهم على تكذيبهم الرسل فى ان الله تعالى ليس براض بالكفرناه عنه ولم يحرم ما يقولونه حراما وعابهم على زعمهم ان تحريمنا البحائر وأشباهها لما كان بمشية الله فهو راض عن ذلك التحريم وان الله حرم هذه الأشياء حيث قال الله تعالى
قُلْ يا محمد هَلُمَّ اسم فعل غير منصرف يقال للواحد والتثنية والجمع عند اهل الحجاز ومعناه احضروا شُهَداءَكُمُ اى قدوتكم فى هذا القول استحضرهم ليلزم هم الحجة بأجمعهم ويظهر ضلالتهم وانه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهداء بالاضافة إليهم ووصفهم بقوله الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا الذي زعموه محرما فَإِنْ شَهِدُوا بالباطل فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ اى لا تصدّقهم وبيّن لهم فسادها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا(3/302)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
بِآياتِنا
كان الأصل لا تتبع أهواءهم وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على ان مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ غيره من الأصنام ونحوها ولما سال المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عما حرمه الله تعالى بعد ظهور بطلان قولهم فى التحريم قال الله تعالى
قُلْ يا محمد تَعالَوْا امر من التعالي وأصله فيمن كان فى علو يقول لمن كان فى سفل ثم اتسع فيه بالتعميم أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ما موصولة او مصدرية منصوبة باتل او استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول اتل يعنى اتل اى شىء حرم ربكم عَلَيْكُمْ متعلق بحرم او اتل اسم فعل للاغراء بمعنى الزموا أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ ان مصدرية على تقدير كون عليكم بمعنى الزموا والا فمفسرة بفعل التلاوة يعنى اتل عليكم لا تشركوا وجاز ان يكون مصدرية فى محل الرفع تقديره المتلو ان لا تشركوا او فى محل النصب تقديره أوصيكم ان لا تشركوا ويؤيد هذا التقدير قوله تعالى ذلكم وصيكم وان يكون ان مصدرية ولا زائدة ومحلها النصب على انه بدل من الموصول او من عائده المحذوف وتقديره حرم عليكم ان تشركوا او محلها الرفع تقديره المحرم ان تشركوا به شَيْئاً من الإشراك جليا ولا خفيا او شيئا من الالهة الباطلة وَأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً
معطوف على لا تشركوا وضع الأمر موضع النهى عن الاساءة إليهما للمبالغة والدلالة على ان ترك الاساءة فى شانهما غير كاف وترك الإحسان بهما اساءة وان كان لا فى لا تشركوا زائدة فالتقدير حرم عليكم ان تشركوا وان تسيئوا بالوالدين بل أحسنوا إحسانا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ «1» يعنى لا تئدوا البنات مِنْ خشية إِمْلاقٍ فقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فى حديث معاذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات قال لا تشرك بالله وان قتلت وحرقت ولا تعقن والديك وان امراك ان تخرج من أهلك ومالك الحديث رواه احمد
__________
(1) عن على بن ابى طالب قال لما امر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ان يعرض نفسه على قبائل العرب خرج الى منى وانا معه وابو بكر وكان ابو بكر رجلا نسابة فوقف على منازلهم ومضاربهم بمنى فسلم عليهم وردوا السّلام وكان فى القوم مغروق بن عمر وهانى بن قبيصة والمثنى بن حادثة والنعمان ابن شريك وكان اقرب القوم الى ابى بكر مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا فالتفت الى رسول الله عليه وسلم فقال الى ما تدعونا يا أخا قريش فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام ابو بكر يظله بثوبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدعوكم الى شهادة ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانى رسول الله ولا توذونى وتضربونى وتمنعونى حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به فان قريشا قد تظاهرت على امر الله وكذبت رسوله واعانت الباطل على الحق والله هو الغنى الحميد قال له والى ما تدعونا ايضا يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا الى قوله تتقون قال له مفروق والى ما تدعونا ايضا يا أخا قريش فو الله ما هذا من كلام اهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله يأمر بالعدل والإحسان الاية فقال له مفروق دعوت والله يا قرشى فى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد افك قومك كذبوك وظاهروا عليك وقال هانى بن قبيصة قد سمعتك مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش وأعجبني ما تكلمت به ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تلبثوا الا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأولادهم يعنى ارض فارس وانهار كسرى ويفرشكم نباتهم تسبحون الله وتقدسونه قال له النعمان بن شريك اللهم وانى ذلك لك يا أخا قريش فتلا له رسول الله صلى الله عليه وسلم انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله باذنه وسراجا منيرا ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يد ابى بكر 12 [.....](3/303)
وفى حديث ابن مسعود قال قال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم اى الذنب اكبر عند الله قال ان تدعو لله ندا وهو خلقك قال ثم اى قال ان تقتل ولدك خشية ان يطعم معك الحديث متفق عليه وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبائر الذنوب والزنا ما ظَهَرَ مِنْها من افعال الجوارح علانية وَما بَطَنَ يعنى افعال الجوارح سرا وافعال القلوب من النفاق وغيره ورذائل النفس قوله ما ظهر وما بطن بدل من الفواحش وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتله من مومن او معاهد أَلَّا قتلا متلبسا بِالْحَقِّ اى بحق يبيح قتله من ردة او قصاص او زنا بعد إحصان او نقض عهد او بغى او قطع طريق عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ يشهد ان لا اله الا الله وانى رسول الله الا بإحدى ثلث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه البغوي وقال الله تعالى وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا ائمة الكفر الاية وقال الله تعالى فان بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغى وقال الله تعالى انما جزاء الذين يحاربون الله الاية(3/304)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
ذلِكُمْ من الأوامر والنواهي وَصَّاكُمْ بِهِ أمركم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترشدون فان كمال العقل هو الرشد وضده السفه
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
فضلا من ان تأكلوه او تضيعوه بفعله إِلَّا بِالَّتِي
اى بالفعلة التي هِيَ أَحْسَنُ
ما يفعل بماله من حفظه وتثميره وصلاحه قال مجاهد هى التجارة فيه حَتَّى يَبْلُغَ
اليتيم أَشُدَّهُ
جمع شد كفلس وأفلس يعنى صفات كماله من البلوغ والرشد بعد البلوغ المنافى للسفه وقيل هى مفرد بمعنى كماله هذا القيد خرج مخرج العادة تأكيدا لا مفهوم له عند أحد فانه كان معتاد اهل الجاهلية التصرف فى ماله من ايام صباه حتى يبلغ أشده فاذا بلغ أشده منع غيره من ماله فقال الله تعالى لا تقربوا مال اليتيم فى شىء من زمان صباه واما بعد ذلك فلا يمكن لكم التصرف فيه لاجل ممانعته وقال البغوي تقدير الاية لا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هى احسن ابدا حتى يبلغ أشده فادفعوا اليه ماله إن كان رشيدا قلت وجاز ان يكون غاية للمستثنى يعنى افعلوا بما له الفعلة التي هى احسن حتى يبلغ أشده وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل والتسوية وضع الأمر موضع النهى يعنى لا تنقصوا المكيال والميزان لكمال الاهتمام فى الإيفاء فان النهى يقتضى الأمر بضده التزاما والاهتمام فى المطابقة والله اعلم لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
اى الا ما يسعها ولا يعسر عليها ذكر هذه الجملة بعد الأمر بالإيفاء بالقسط اشارة الى ان الأفضل ان يعطى من عليه الحق اكثر وأفضل مما وجب عليه تجوز او اخرج ابن مردويه بسند ضعيف من مرسل سعيد بن المسيب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اوفى على يده والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يواخذ وذلك تاويل وسعها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أداء ثمن فرس وجب عليه زن وأرجح رواه احمد وابو داؤد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن سويد بن قيس وفى الصحيحين عن ابى هريرة ان رجلا اتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فاغلظ له فهم به بعض أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه فان لصاحب الحق مقالا ثم قال أعطوه سنا مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد الا أمثل من سنه قال أعطوه فان خيركم أحسنكم قضاء وهو عند مسلم من حديث ابى رافع بمعناه وعن ابى هريرة قال اتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يتقاضاه قد استسلف منه شطر وسق فاعطاه وسقا فقال نصف وسق(3/305)
لك ونصف وسق من عندى ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه فاعطاه وسقين فقال وسق لك ووسق من عندى رواه الترمذي وسنده لا بأس به وكذا الأفضل ان يرضى صاحب الحق من حقه سماحة عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى رواه البخاري لكن الله سبحانه لم يوجب إعطاء اكثر مما وجب عليه ولا الرضا باقل مما له تفضلا فان ذلك شاق على النفوس وذلك قوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها وهذه الأحاديث يؤيد مذهب الشافعي حيث قال ان اهدى المستقرض الى المقرض شيئا او حمله على دابة او اسكنه فى داره ولم يكن ذلك عادة بينهما او اعطى اكثر مما أخذ منه او أجود يجوز ذلك ان كان بغير شرط سبق خلافا للائمة الثلاثة فان ذلك يكره عندهم ولا يحل له أخذ ذلك وقد مر المسألة فى سورة البقرة فى تفسير اية المداينة وَإِذا قُلْتُمْ
فى الحكم او الشهادة فَاعْدِلُوا
فيه وَلَوْ كانَ
المقول له او عليه ذا قُرْبى
لكم هذا ايضا امر وضع موضع النهى عن الجور والكذب تأكيدا فى العدالة حتى لا يجوز الشهادة على الظن والتخمين بل على كمال العلم كما يدل عليه لفظة الشهادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله ثلث مرات ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به رواه ابو داؤد وابن ماجة عن خريم بن فاتك واحمد والترمذي عن ايمن بن خريم الا ان ابن ماجة لم يذكر القراءة وعن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة ثلثة واحد فى الجنة واثنان فى النار فاما الذي فى الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى النار ورجل قضى للناس
على جهل فهو فى النار رواه ابو داؤد وَبِعَهْدِ اللَّهِ
يعنى بما عهد إليكم من ملازمة العدل وتادية احكام الشرع من الأوامر والنواهي او بالنذر واليمين أَوْفُوا
هذا ايضا امر فى موضع النهى تأكيدا يعنى لا تنقضوا عهد الله بعد ميثاقه ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها ومقتضى التأكيد والمبالغة فى إتيان الأوامر والنواهي ان يجتنب الشبهات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى المشتبهات وقع فى الحرام كراع يرحى حول الحمى يوشك ان يوقعه الحديث متفق عليه من حديث النعمان بن بشير وروى الطبراني فى الصغير بسند(3/306)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
صحيح عن عمر مرفوعا الحلال بين والحرام بين دع ما يريبك الى ما لا يريبك ذلِكُمْ
ما ذكر وَصَّاكُمْ
أمركم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال حيث وقع فى القران إذا كان بالتاء الفوقانية بحذف احدى التاءين من التفعل والباقون بتشديد الذال وأصله تتذكرون
وَأَنَّ هذا قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بفتح الهمزة لكن قرأ ابن عامر ويعقوب بإسكان النون على انها محففة من المثقلة واسمه ضمير الشان محذوف والباقون بالتشديد قال الفراء تقديره واتل عليكم ان هذا صِراطِي قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها مُسْتَقِيماً حال من الصراط والعامل معنى الاشارة يعنى ان هذا الذي ذكر فى جمع السورة من التوحيد والنبوة والشرائع طريقى ودينى قلت وجاز ان يكون ان فى محل الجر عطفا على الضمير المجرور فى وصيكم به يعنى ووصيكم بان وقال البيضاوي بتقدير اللام على انه علة لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ وقيل المشار اليه بهذا ما فى هذه الآيات قال البغوي هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شىء وهن محرمات فى جميع الشرائع على بنى آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ اى الطرق المختلفة على حسب الأهواء فان مقتضى الشرع اتباع الكتاب والسنة فيما أدركه العقل وفيما لم يدركه ومقتضى اتباع الآراء الفاسدة انه ان وافقها الكتاب والسنة قبلوهما وان خالفها اوّلوا الكتاب واتبعوا الأهواء وهذا منشأ اختلاف الشيع فصارت روافض وخوارج ومجسمة وجبرية وقدرية وغيرهم وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا اظلم عليهم قاموا فَتَفَرَّقَ تلك السبل بِكُمْ ويزيلكم عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو اتباع الوحى ذلِكُمْ الاتباع وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضلال والتفرق عن الحق عن عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو اليه وقرأ ان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه الاية رواه احمد والنسائي والدارمي وعن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به رواه البغوي فى شرح السنة وقال النووي فى اربعينه هذا حديث صحيح
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ(3/307)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
عطف على وصيكم وثم للتراخى فى الاخبار يعنى ثم أخبركم انا اتينا موسى الكتاب او للتفاوت فى الرتبة كانه قيل ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك انا اتينا موسى الكتاب او عطف على قل بتقدير قل يعنى ثم قل اتينا موسى الكتاب او يقال ثم مع الجملة يأتي بمعنى الواو كما فى قوله تعالى ثم الله شهيد قلت ويمكن ان يقال ان قوله تعالى وصيكم خطاب للناس أجمعين من لدن آدم عليه السلام الى الان تغليبا للحاضرين على الغائبين وثم للتراخى فى الحكم والمعنى وصيناكم ايها الناس من بدو خلقكم بما ذكرنا من الشرائع فانها لم تزل فى جميع الشرائع ثم اتينا موسى الكتاب وشرعنا فيه احكاما اخر تَماماً للنعمة والكرامة عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ القيام بالشرائع المتقدمة واما من لم يؤمن بالله وحده ولم يأت بالشرائع المذكورة فلا انتفاع له بالتورية ولا بالقران ولم يتم النعمة والمراد بالذي احسن موسى عليه السلام يعنى تماما عليه النعمة وقيل الذي احسن بمعنى من احسن يعم الواحد والجميع يعنى تماما على من احسن من قوم موسى يدل عليه قراءة ابن مسعود على الذين أحسنوا وقال ابو عبيدة معناه على كل من احسن يعنى اتممنا فضل موسى بالكتاب على المحسنين يعنى أظهرنا فضله عليهم والمحسنون الأنبياء وَتَفْصِيلًا بيانا مفصلا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج اليه فى الدين وهو عطف على تماما ونصبهما مع ما عطف عليهما للعلية او الحالية او المصدرية وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ اى الناس فى زمن موسى يعنى بنى إسرائيل بِلِقاءِ رَبِّهِمْ اى بالبعث والثواب والعقاب يُؤْمِنُونَ وَهذا القران كِتابٌ أَنْزَلْناهُ عليك بعد موسى مُبارَكٌ اكثر خيرا وبركة من التورية لوجازة نظمه وكثرة علومه وكونه بمنزلة المركز من المحيط للدائرة فَاتَّبِعُوهُ فى نسخ احكام التورية وَاتَّقُوا عذاب الله فى مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ باتباعه
أَنْ تَقُولُوا خطاب لاهل مكة يعنى لئلا تقولوا او كراهة ان تقولوا علة لانزلناه وقال الكسائي معناه واتقوا ان تقولوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعنى اليهود والنصارى والاختصاص بانما لان الباقي المشهور من الكتب السماوية حينئذ لم يكن غير التورية والإنجيل وَإِنْ مخففة من الثقيلة ولذا دخلت اللام الفارقة فى خبرها كُنَّا يعنى وانه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم لَغافِلِينَ لم تعرف الشرائع لكوننا امة أميين فبعث الله محمّدا صلى الله عليه وسلم وانزل القران ليكون حجة على الكافرين من اهل مكة(3/308)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
ويزيل اعتذارهم ويكون رحمة للعالمين
أَوْ تَقُولُوا عطف على الاول يعنى او كراهة ان تقولوا لَوْ ثبت أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل على من قبلنا لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ قال البغوي وقد قال جماعة من الكفار لو انا انزل علينا كما انزل على اليهود وا النصارى لكنا خيرا منهم قال الله تعالى فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجة واضحة بلغة تعرفونها وتعجزون عن إتيان اقصر سورة مثلها وَهُدىً بيانا لمن تأمل فيها وَرَحْمَةٌ نعمة لمن عمل بها جزاء شرط محذوف يعنى ان صدقتم فيما قلتم فقد جاءكم ما تمنيتم مع وضوح كونه حجة ساطعة وبرهانا قاطعا فَمَنْ يعنى لا أحد أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد وضوح كونها من الله وبعد تمنى مجيئها وَصَدَفَ يعنى اعرض أو صد عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وضع الظاهر موضع المضمر للمبالغة فى ذمهم سُوءَ الْعَذابِ اى شدته بِما كانُوا يَصْدِفُونَ اى باعراضهم او صدهم
هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام للانكار اى ما ينتظرون اهل مكة لايمانهم بالقران إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية هاهنا وفى النحل على التذكير والباقون بالفوقانية لكون الفاعل مؤنثا غير حقيقى الْمَلائِكَةُ يعنى ملئكة الموت او ملئكة العذاب او ملئكة يشهدون عيانا بصدق الرسول وحقية القران والحاصل انهم لما لم يؤمنوا بعد مجئ ما كانوا يتمنون مجيئه وبعد وضوح امره وسطوع برهانه فلعلهم ينتظرون إتيان الملئكة حتى يومنوا حينئذ مع ان الايمان فى تلك الحالة غير مفيد وقال البيضاوي معناه ما ينتظرون الا إتيان الملئكة شبهوا بالمنتظرين لما كان يلحقهم لحوق المنتظر وجاز ان يكون المراد بإتيان الملئكة نزولهم يوم القيامة فى الموقف كما يدل عليه قوله تعالى أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بلا كيف لفصل القضاء بين خلقه فى موقف القيامة وقد مر نظير هذه الاية فى سورة البقرة هل ينظرون الا ان يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملئكة وقضى الأمر وقد مر تفسيره وما فيه خلاف السلف والخلف وما يليق ويتعلق به من الكلام هناك فليرجع اليه أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعنى اشراط الساعة قال البغوي يعنى طلوع الشمس من مغربها وعليه اكثر المفسرين ورواه ابو سعيد الخدري مرفوعا «1»
__________
(1) عن ابن عباس قال خطبنا عمر فقال ايها الناس ستكون قوم من هذه الامة يكذبون بالرجم ويكذبون بالدجال ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها ويكذبون بعذاب القبر ويكذبون بالشفاعة ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا 12 منه(3/309)
(فصل) فى اشراط الساعة عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال اطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر فى الساعة فقال انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وماجوج وثلث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار يخرج من اليمن يطرد الناس الى محشرهم وفى رواية نار يخرج من قعر عدن يسوق الناس الى المحشر وفى رواية العاشر ريح تلقى الناس فى البحر رواه مسلم وعن عبد الله بن عمر وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالاخرى على اثرها قريبا رواه مسلم وعن النواس بن سمعان قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال فقال ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجه دونكم وان يخرج ولست فيكم فامرء حجيج نفسه والله خليفتى على كل مسلم انه شاب قطط عينه طافية كانى أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فانها جواركم من فتنته انه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا قلنا يا رسول الله وما لبثه فى الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وساير أيامه كايامكم قلنا فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلوة يوم قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول الله وما اسراعه فى الأرض قال كالغيث استدبرته الريح فياتى على القوم فيدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرعا واسبغه ضروعا وامده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف منهم فيصبحون محلين ليس بايديهم شىء من أموالهم ويمر بالخرية فيقول بها اخرجى كنوزك فتتبعه كنوزها كيعا سيب النحل ثم يدعو رجلا ممتليا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهروذتين واضعا كفيه على اجنحة ملكين إذا طاطأ راسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان «1» كاللؤلؤء فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه
__________
(1) حب يتخذ من الفضة 12(3/310)
ينتهى حيث ينتهى طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ فيقتله ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجات فى الجنة فبينما هو كذلك إذ اوحى الله الى عيسى انى قد أخرجت عبادا لى لا يدان لاحد لقتالهم فحرز عبادى الى الطور ويبعث الله يأجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر اوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا الى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون لقد قتلنا من فى الأرض هلم فلنقتل من فى السماء فيرمون بنشابهم الى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما ويحصر نبى الله وأصحابه حتى يكون راس الثور لاحدهم خيرا من مائة دينار لاحدكم اليوم فيرغب نبى الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف فى رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبى الله عيسى وأصحابه الى الأرض فلا يجدون فى الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم «1» ونتنهم فيرغب نبى الله عيسى وأصحابه الى الله فيرسل الله طيرا كاعناق البخت فيحملهم فيطرحهم حيث شاء الله وفى رواية فيطرحهم فى النهبل «2» ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة «3» ثم يقال للارض أنبتي ثمرتك وردى بركتك فيومئذ يأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك فى الرسل حتى ان اللقحة من الإبل لتكفى القيام من الناس واللقحة من البقر لتكفى القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفى الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتاخذهم تحت اباطهم فيقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون يختلطون منها تهارج الحمر فعليهم يقوم الساعة رواه مسلم الا الرواية الثانية وهى قوله يطرحهم بالنهبل الى قوله سبع سنين رواه الترمذي وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الدجال يخرج وان معه ماء ونار فاما الذي يراه الناس ماء فنار يحرق واما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب فمن أدرك ذلك منكم فليقع فى الذي يراه نارا فانه ماء عذب طيب متفق عليه وزاد مسلم وان الدجال
__________
(1) فرسى قتلى زهم رائحة اللحم 12
(2) قال صاحب القاموس فى الترمذي فى حديث الدجال فيطرحهم بالنهبل وهو تصحيف والصواب بالميم 12
(3) الزلفة جمعها زلف مصانع الماء وقيل الروضة 12(3/311)
ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب وفى الصحيحين من حديث ابى هريرة انه يجئ ومعه مثل الجنة والنار فالتى يقول انها الجنة هى النار وكذا عند مسلم من حديث حذيفة وفى حديث ابى سعيد عند مسلم إذ راه يعنى الدجال المؤمن قال يا ايها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر الدجال فيوشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه ثم يمشى الدجال بين القطعتين ثم يقول قم فيستوى قائما ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما ازددت منك الا بصيرة الحديث وفى حديث اسماء بنت يزيد رواه احمد ان من أشد فتنة الدجال انه يأتي الاعرابى فيقول ارايت ان أحييت لك إبلك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيتمثل له الشياطين نحو ابله كاحسن ما يكون ضروعا وأعظمه اسمنة ويأتي الرجل قد مات اخوه ومات أبوه فيقول ارايت ان أحييت لك أباك وأخاك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه الحديث.
(فصل) ويكون قبل تلك الآيات ظهور المهدى عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا منى او من اهل بيتي يواطى اسمه اسمى واسم أبيه اسم ابى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وروى الترمذي بلفظ لا يذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من اهل بيتي اسمه اسمى وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من اهل المدينة هاربا الى مكة فياتيه ناس من اهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام ويبعث اليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فاذا راى الناس ذلك أتاه ابدال الشام وعصائب اهل العراق فيبايعونه ثم ينشا رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم ذلك بعث كلب ويعمل فى الناس بسنة نبيهم ويلقى الإسلام بجرانه فى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون رواه ابو داؤد وروى ابو داؤد عن على انه نظر الى ابنه الحسن وقال ان ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه فى الخلق ولا يشبهه فى الخلق يملأ الأرض عدلا وعن ابى سعيد فى قصة المهدى قال فيجئ رجل فيقول يا مهدى أعطني أعطني قال(3/312)
فيحثى له فى ثوبه ما استطاع ان يحمله رواه الترمذي وعند الحاكم فى المستدرك يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض لا يدع السماء من قطرها شيئا إلا صبته مدرارا ولا يدع الأرض من نباتها شيئا الا أخرجته حتى يتمنى الاحياء الأموات يعيش فى ذلك سبع سنين او ثمان او تسع يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها حينئذ كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا والايمان واجب بالغيب لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ الجملة صفة لنفس أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على امنت احتج بهذه الاية من لم يعتبر الايمان المجرد عن العمل لان معنى الاية انه لا ينفع الايمان حينئذ نفسا لم يؤمن قبل ذلك اليوم ولا نفسا لم تكسب قبل ذلك اليوم خيرا فى إيمانها قلنا هذه الاية لا تدل على عدم نفع ايمان من لم يكسب فيه خيرا مطلقا بل على عدم نفع إيمانه فى ذلك اليوم خاصة وايضا أحد الامرين على التنكير إذا جاءت فى حيز النفي يعم الامرين كما فى قوله تعالى لا تطع منهم اثما او كفورا يعنى لا تطع اثما ولا كفورا فمعنى الاية لا ينفع الايمان نفسا لم تومن ولم تكسب فيه خيرا وقال البغوي معنى الاية لا يقبل حينئذ ايمان كافر ولا توبة فاسق فالمراد بالايمان فى إيمانها التوبة بعموم المجاز فانه يشتمل التوبة عن الكفر والتوبة عن المعاصي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله عز وجل جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق ما لم يطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل رواه الترمذي وابن ماجة من حديث صفوان بن عسال وروى مسلم من حديث ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وروى مسلم من حديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تاب قبل ان تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه وروى احمد وابو داؤد والدارمي عن معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينقطع الهجرة حتى ينقطع التوبة ولا ينقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها هذه الأحاديث تدل على ان المراد بالايمان فى قوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها التوبة وقد ورد الأحاديث بلفظ الايمان من غير لفظ التوبة منها ما روى البغوي بسنده عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس(3/313)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
من مغربها فاذا طلعت وراها الناس أمنوا أجمعون وحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل او كسبت فى إيمانها خيرا وروى مسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثلث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل او كسبت فى إيمانها خير الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وتاويل هذه الأحاديث لا يكون الا ان يقال معناه لا ينفع نفسا لم تكن امنت من قبل وكسبت فى إيمانها خيرا إيمانها اى تحصيل الايمان فى ذلك اليوم بعد ما لم يكن.
(فائدة) ولعل قوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل او كسبت فى إيمانها خيرا تدل على ان من كان كافرا قبل ذلك لا يقبل إيمانه بعد ذلك واما من ولد بعد ذلك او أدرك العقل والبلوغ بعد ذلك وأمن فالظاهر انه يقبل إيمانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عيسى بن مريم الى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى فاقوم انا وعيسى بن مريم فى قبر واحد بين ابى بكر وعمر رواه ابن الجوزي فى كتاب الوفاء عن ابن عمر قُلِ انْتَظِرُوا يا اهل مكة إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد لهم يعنى حينئذ لنا الفوز وعليكم العذاب
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ حمزة والكسائي فارقوا من المفاعلة يعنى خرجوا من دينهم وتركوه والباقون فرقوا من التفعيل يعنى أمنوا ببعض وكفروا ببعض او المعنى انهم صاروا فرقا مختلفة قال مجاهد وقتادة والسدى هم اليهود والنصارى تهود قوم وتنصر قوم وكان دين واحدا وهذا ليس بسديد لان تهودهم ابتنى على بعثة موسى ومجيئه بشرع جديد وتنصر آخرين على بعثة عيسى وكان اصول دين اليهود والنصارى واحدا هى اصول دين ابراهيم وانما كفر يهود بانكارهم نبوة عيسى ومحمد صلى الله عليهما وكفر نصارى بانكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذا ليس بمراد من هذه الاية بل المراد هاهنا تخليطهم فى دينهم ما ليس منه باهوائهم وإغواء الشيطان فالذين افترقوا فى دينهم يعم الذين اتبعوا اهوائهم من الأمم السابقة ومن اصحاب البدع والأهواء من هذه الامة عن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لياتين على أمتي كما اتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى ان من كان منهم(3/314)
اتى امه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفرق أمتي على ثلث وسبعين ملة كلهم فى النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما انا عليه وأصحابي رواه الترمذي وفى رواية احمد وابى داؤد عن معاوية ثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة وهى الجماعة وانه سيخرج فى أمتي أقوام يتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه زق ولا مفصل إلا دخله وفى رواية من حديث ابى هريرة افترقت اليهود احدى وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وتفترق أمتي على ثلث وسبعين فرقة كلها فى الهاوية الا واحدة رواه ابو داؤد والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه قال البغوي روى عن عمر بن الخطاب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يا عائشة ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم اصحاب البدع واصحاب الأهواء من هذه الامة أخرجه الطبراني وغيره بسند جيد واخرج الطبراني بسند صحيح عن ابى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم نحوه وعن العرباض بن سارية قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم اقبل بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل يا رسول الله كانّ هذا موعظة مودع فاوصنا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وان كان عبدا حبشيا فان من يعشى منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة رواه احمد وابو داؤد والترمذي وابن ماجة الا انهما لم يذكرا الصلاة وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعوا السواد الأعظم ومن شذ شذ فى النار ذكره صاحب المصابيح ورواه ابن ماجة عن انس وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ فى النار رواه الترمذي وعن معاذ ابن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والشعاب وعليكم بالجماعة وو العامة وعن ابى ذر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه احمد وابو داؤد والجماعة جماعة الصحابة(3/315)
ومن تبعهم اعلم ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأعطاه كتابه ومثله معه من العلم بالوحى الغير المتلو ومن الكتاب نصوص محكمات لا شبهة فى مرادها واخر خفيات مرادها ومشكلات ومجملات ومتشابهات التزم الله سبحانه على نفسه بيانها للنبى صلى الله عليه وسلم حيث قال ثم ان علينا بيانه ثم علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمه الله أصحابه وعلموه حتى انتهى إلينا فسعادة ابن آدم ان يتبع كتاب الله وسنة
رسوله واجماع الصحابة والتابعين ويتبع فى تاويل ما خفى مراده من الكتاب والسنة ما اختاره الصحابة من التأويل واما اهل الأهواء اتبعوا عقولهم وأهواءهم فما وافق من الكتاب آرائهم أخذوه وأمنوا به وما لم يصاعده عقولهم أنكروه وكفروا به فانكروا روية الله سبحانه فى الاخرة وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط والحساب وكون كلام الله غير مخلوق وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة واجمع عليه الصحابة ففارقوا دينهم وفرقوا كتاب الله أمنوا ببعضه وكفروا ببعضه هذا طريق المعتزلة وكثير منهم وقالوا بوجوب الأصلح على الله سبحانه وامتناع المغفرة وأنكروا القدر وقالوا ان العبد خالق لافعاله دون الله تعالى ولذلك سموا بمجوس هذه الامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الامة ان مرضوا فلا تعودوهم وان ماتوا فلا تشهدوهم رواه احمد وابو داؤد من حديث ابن عمر وقال عليه السلام صنفان من أمتي ليس لهما فى الإسلام نصيب المرجئة والقدرية رواه الترمذي وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة لعنتهم لعنهم الله وكل نبى يجاب الزائد فى كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من اذله الله ويذل من أعزه الله والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتى ما حرم الله والتارك لسنتى رواه البيهقي فى المدخل ورزين فى كتابه قلت الزائد فى كتاب الله الروافض يزعمون غير ما بين فى المصحف قرانا ويحكمون ان الصحابة أخرجوه من القران ولا يومنون بقوله تعالى انا له لحافظون والمكذب بقدر الله القهرية والمستحل من عترته صلى الله عليه وسلم الخوارج والتارك لسنة سائر المبتدعة ومن اهل الهواء من اتبع متشابهات الكتاب بناء على زيغ فى قلوبهم ولم يقتفوا السلف فى تأويلها والايمان بها وذلك داب المجسمة والمشبهة وأمثالهم(3/316)
واما الروافض ففارقوا دينهم بالكلية فان الدين مستفاد من الكتاب والسنة والإجماع فهم تركوا كتاب الله وأنكروا الوثوق عليه حيث قالوا ان عثمان حذف من القران قريبا من الربع وزاد فيه ما زاد وتركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ادعوا كفر جميع الصحابة وارتدادهم ولا سبيل الى معرفة الأحاديث الا بالسمع ولا يتصور السمع الا بتوسط الصحابة وأنكروا اجماع الصحابة وبنوا دينهم على مفتريات مزخرفات نسبوه الى الائمة جعفر الصادق ومحمد الباقر وابائه الكرام ولما ثبت بالتواتر اثار الائمة مطابقا لاثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ادعوا افتراض التقية وقالوا كان ظاهر كلام الائمة مبنيا على التقية وما وصل إلينا علموا أسلافنا سرّا مختفين قائلين لا تفشوا هذه الاسرار فان للجدران أذان وأنت تعلم ان ما كان مرويا على سبيل الإخفاء والاسرار لا يحتمل الشهرة والتواتر وان اخبار الآحاد وإن كان من الثقات لا يفيد العلم الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا كيف إذا كان روات الاخبار احادا من الكذابين الا بالسنة مثل عبد الله بن سبا يهودى المنافق وهشام بن سالم وهشام بن حكم وزيد بن جهيم الهلالي وشيطان الطاق وديك الجن الشاعر وغيرهم ذكرنا أحوالهم واحوال غيرهم من رجال الروافض فى السيف المسلول فلعل من اعجاز القران الاشارة الى فرق الروافض الذين يسمون أنفسهم شيعة بقوله تعالى وَكانُوا شِيَعاً اى فرقا تشيع كل فرقة منهم اماما على زعمهم عن على عليه السّلام قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك مثل من عيسى أبغضه اليهود حتى بهتوا امه وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له ثم قال على يهلك فىّ رجلان محب مفرط يفرطنّنى بما ليس فى ومبغض يحمله شنآنى على ان يبهتنى رواه احمد وعن على قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون فى أمتي قوم يسمعون الرافضة يرفضون الإسلام رواه البيهقي وعنه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سياتى بعدي قوم لهم نيز يقال لهم الرافضة فان أدركتهم فاقتلهم فانهم مشركون قال قلت يا رسول الله ما العلامة فيهم قال يفرظونك بما ليس فيك ويطعنون على السلف رواه الدارقطني واخرج الدار قطنى من طريق اخر نحوه وزاد فيه ينتحلون حبنا اهل البيت وليسوا كذلك
واية ذلك انهم يسبون أبا بكر وعمرو فى الباب أحاديث اخر ذكرناها فى السيف المسلول لَسْتَ يا محمد مِنْهُمْ(3/317)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
فِي شَيْءٍ
يعنى أنت بريء منهم وهم براء منك يقول العرب ان فعلت كذا فلست منى ولا انا منك إِنَّما أَمْرُهُمْ فى الجزاء والمكافاة إِلَى اللَّهِ يعنى يجزيهم على قدر تباعدهم عن الحق ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ إذا وردوا يوم القيامة يعنى يجزون اولا على تفرقهم فى دينهم وسوء اعتقادهم ثم يجزون على أفعالهم ومعاصيهم
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها اى فله جزاء عشر حسنات أمثال ما فعل من الحسنة حذف المضاف الى عشر وأقيم صفة الجنس المميز مقام الموصوف ولى فى هذا المقام إشكال وذلك ان جزاء الحسنات والسيئات مقدر بتقدير الله تعالى لا مدخل للراى فيه إذ لا مماثلة بين عمل وجزائه يعرف بالحس او العقل او غير ذلك فالجزاء للحسنة ما قدر الله تعالى له جزاء الا ترى الى ان اجرة أجير يستاجر فى الدنيا بعمل انما يتقدر بالعقد إذ لا مماثلة بين العمل والدراهم مثلا فعلى هذا لا يتصوران يقال من عمل حسنة يعطى له جزاء عشر أمثالها الا إذا كانت تلك الحسنة تجزى فى بعض الافراد بعشر هذا الجزاء فانه ان اعطى رجل على عمل درهما واعطى اخر على تلك العمل عشرة دراهم يقال حينئذ اعطى هذا جزاء عشرة أمثال عمله واما إذا كان كل أحد مثلا يعطى على مثل تلك العمل عشرة دراهم فيكون حينئذ جزاء هذا العمل عشرة دراهم ليس الا عشرة فكيف يقال انه اعطى جزاء عشرة أمثال عمله فالظاهر عندى فى تاويل الاية انها ليست على عمومه وان جزاء كل حسنة أدناه مقدر فى علم الله تعالى بتقدير الله تعالى يعطى بعض المكلفين ذلك الأدنى ثم يضاعف الله تعالى ذلك الجزاء على حسب اخلاص العبد ومراتب قربه من الله تعالى او تفضلا منه تعالى لمن يشاء من عباده فيضاعف من يشاء عشر أمثالها الى سبعين او الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله بغير حساب ويدل على ما قلت حديث ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا احسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها الى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل متفق عليه وجه الدلالة انه عليه السّلام علق التضعيف بحسن إسلامه وحسن الإسلام بتصفية القلب وتزكية النفس المستوجبان للاخلاص فى العمل ويمكن ان يقال ثواب رجل من رجال امة محمد صلى الله عليه وسلم عشرة أمثال ثواب رجل من الأمم السالفة(3/318)
يدل عليه حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما اجلكم من أجل من خلا من الأمم ما بين العصر الى مغرب الشمس وانما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لى الى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود الى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من نصف النهار الى صلوة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار الى صلوة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من صلوة العصر الى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين الا فانتم الذين يعملون من صلوة العصر الى مغرب الشمس الا لكم الاجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى فقالوا نحن اكثر عملا واقل إعطاء قال الله تعالى فهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال الله تعالى فانه فضلى أعطيه من شئت رواه البخاري قلت والتأويل الاول أوجه لان الحديث يدل على تضعيف عمل هذه الامة على الذين من قبلهم مرة لا عشر مرار فلعل ادنى رجل من رجال هذه الامة يعطى ضعف اجر من كان فى الأمم السابقة يضاعف الى عشرة أمثاله او الى سبعين او سبعمائة او الى ما شاء الله تعالى على حسب الإخلاص وتفضلا منه تعالى والله اعلم.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لا يضاعف السيئة فى حق أحد من الناس كما يدل عليه قوله تعالى وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ عن ابى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها واغفر ومن تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشى أتيته هرولة ومن لقينى بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي لقيته بمثلها مغفرة رواه البغوي قلت معنى قوله لقيته بمثلها مغفرة يعنى ان شئت بدليل قوله فجزاء سيئة بمثلها قال البغوي قال ابن عمر الاية فى غير الصدقات من الحسنات فاما الصدقات تضاعف الى سبعمائة ضعف قلت انما قال ابن عمر هذا نظرا منه الى قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء وزعما منه بتخصيص هذا الحكم بالصدقات(3/319)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
وليس كذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة رواه مسلم وابو داؤد وابن ماجة وغيرهما من حديث ابى ذر بل ذكر الله تعالى اكثر ثوابا من الصدقات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر الله رواه ابن ماجة والترمذي والحاكم واحمد عن ابى الدرداء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صدقة أفضل من ذكر الله رواه الطبراني فى الأوسط عن ابن عباس والله اعلم
قُلْ يا محمد إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي قرأ ابو عمرو ونافع بفتح الياء والباقون بالإسكان إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالعصمة فى اصل الخلقة والوحى والإرشاد الى ما نصب من الحجج دِيناً بدل من محل الى صراط فان معناه هدانى صراطا او مفعول فعل محذوف دل عليه الملفوظ يعنى هدانى دينا قِيَماً قرأ الكوفيون وابن عامر بكسر القاف وفتح الياء مخففة على انه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعلّ لاعلال فعله كالقيام وقرأ الباقون بفتح القاف وكسر الياء مشددة على انه فيعل من قام كسيد من ساد وهو ابلغ من المستقيم باعتبار النية والمستقيم باعتبار الصيغة وقال البغوي معناهما واحد وهو القويم المستقيم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان لدينا حَنِيفاً حال من ابراهيم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله يا اهل مكة فلم تشركون أنتم على خلاف أبيكم مع انكم تدعون اتباعه عطف على حنيفا
قُلْ يا محمد إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي قيل المراد بالنسك الذبيحة فى الحج والعمرة وقال مقاتل نسكى حجى وقيل دينى وقيل عبادتى كذا فى القاموس والصحاح وَمَحْيايَ قرأ نافع بخلاف عن ورش بسكون الياء والباقون بفتح الياء تحرزا عن اجتماع الساكنين وَمَماتِي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان يعنى حيوتى وموتى لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هو يحيى ويميت وقيل ما انا عليه(3/320)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
فى حيوتى وأموت عليه من الايمان والطاعات او يقال طاعات الحياة من الصلاة والصوم وغيرهما والطاعات المضافة الى الموت من الوصية والتدبير وقيل معناه طاعاتى فى حيوتى لله وجزائى بعد موتى على الله وقيل محياى بالعمل الصالح ومماتى إذا مت على الايمان لله
لا شَرِيكَ لَهُ يعنى لا أشرك به أحدا غيره وَبِذلِكَ القول والإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من هذه الامة ولست أدعوكم الا الى ما سبقتكم به فلست الا ناصحا لكم قال البغوي كان كفار قريش يقولون للنبى صلى الله عليه وسلم ارجع الى ديننا فقال الله سبحانه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا اشركه فى عبادتى انكار على بغية الغير ربا ولذا قدم المفعول وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ حال فى موقع العلة للانكار يعنى كل ما سواه مربوب له مثلى لا يصلح للمعبودية وفى تعقيب هذا الكلام بعد ما سبق ان دينى دين ابراهيم دفع توهم أخذ دينه تقليدا كما أخذ المشركون دين ابائهم قال البغوي قال ابن عباس كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلى احمل اوزاركم فقال الله تعالى وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ خطيئة إِلَّا كائنة إثمها عَلَيْها فلا ينفع أحدا كفالة أحد فى ابتغاء رب غيره تعالى وَلا تَزِرُ اى لا تحمل نفس وازِرَةٌ حاملة وِزْرَ ثقل معاصى نفس أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الأديان المختلفة فيميز المحق من المبطل ويجزى كلا على حسب عمله واعتقاده
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فى الْأَرْضِ يعنى أهلك اهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا امة محمّد وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ منصوب على التميز من النسبة يعنى رفع درجات بعضكم فوق درجات بعض اخر فى الشرف والغناء وغير ذلك- لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الجاه والمال وغير ذلك ليظهر منكم هل تشركون اولا إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لاعدائه اى يسرع العذاب إذا اراده وتأخير العذاب الى ما بعد الموت او ما بعد القيامة لا ينافى ذلك لان ما هو ات قريب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ للمؤمنين رَحِيمٌ بهم وصف العقاب بالسرعة ولم يضفه الى نفسه ووصف نفسه بالمغفرة وضم اليه الوصف بالرحمة واتى(3/321)
ببناء المبالغة واللام الموكدة تنبيها على انه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض رعاية للنظام الجملي الذي هو مقتضى صفة الربوبية كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مصافح فيها عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت علىّ سورة الانعام جملة واحدة يشيعها سبعون الف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد رواه الطبراني فى المعجم الصغير وابو نعيم فى الحلية وابن مردويه فى تفسيره وعن انس قال لما نزلت سورة الانعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سدوا الأفق رواه الحاكم فى المستدرك وهذا الحديث ايضا يدل على انها نزلت جملة واحدة ولعل ما ذكر فى اسباب نزول آيات منها اتفق وجودها فى تلك الأيام متقاربة فلمناسبة بعض الآيات ببعضها وبعض اخر ببعض اخر منها قيل نزلت هذه الاية فى كذا وهذه فى كذا والله اعلم «1» .
تمّت سورة الانعام من التفسير المظهرى التاسع عشر من الربيع الثاني سنة الف ومائة وتسع وتسعين ويتلوه سورة الأعراف ان شاء الله تعالى سنه 1199 هـ
__________
(1) عن عمر بن الخطاب قال الانعام من نواجب القران رواه الدارمي يعنى عتاقه وفى رواية من نجائب القران او نواجبه اى أفاضل سوره جمع نجيبة واخرج البيهقي فى الشعب بسند فيه من لا يعرف عن على موقوفا سورة الانعام ما قرئت على عليل الا شفاه الله عنه 12
.(3/322)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
سورة الأعراف
مكيّة وبعضها مدنيّة مائة وخمس اية نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيّين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص سبق الكلام فى مثله فى سورة البقرة.
كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف اى هذا كتاب او خبر للحروف المقطعة ان كان المراد به السورة او القران أُنْزِلَ إِلَيْكَ صفة للكتاب فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ الحرج فى الأصل الضيق قال مجاهد المراد هاهنا الشك فان ضيق الصدر سبب للشك وشرح الصدر سبب لليقين وقد مر مسئلة شرح الصدر وضيقه فى سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام الاية وقال ابو العالية المراد منه مخافة الناس فى تبليغ القران من ان يكذبوه ويوذوه فان الخائف فى امر لا ينشط له ولا ينشرح صدره فى الإتيان به وقيل المراد المخافة فى القيام بحقه والخطاب للنبى صلى الله عليه واله وسلم وتوجيه النهى الى الحرج للمبالغة كقولهم لا ارينك يعنى لا تشك فى انه منزل من الله تعالى او لا تخف أحدا من الناس ولا تبال بهم فنحن الحافظون لك او لا تخف ترك القيام بحقوقه فنحن نيسر لك ونوفقك والفاء يحتمل العطف والجواب كانه قيل إذا انزل إليك فلا تحرج صدرك لِتُنْذِرَ بِهِ متعلق بانزل او لا يكن لانه إذا أيقن انه من عند الله جسر على الانذار وكذا إذا لم يخفهم او علم(3/323)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
انه موفق للقيام به وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ اى عظة لهم مرفوع عطفا على كتاب او خبر المحذوف او منصوب بإضمار تذكر اى تذكر ذكرى او مجرور عطفا على محل تنذر.
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ بتوسط الرسول صلى الله عليه واله وسلم مِنْ رَبِّكُمْ وحيا جليا او خفيا فيعم السنة ايضا وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ اى دون الله تعالى حال من قوله أَوْلِياءَ من الجن والانس تطيعونهم فى معصية الله تعالى خرج بقوله تعالى من دونه من كان ولايته من جهة الله تعالى كالانبياء والعلماء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى تذكرا قليلا او زمانا قليلا وما مزيدة لتاكيد القلة وليست بمصدرية والا لم ينتصب قليلا بتذكرون قرأ ابو عمرو يتذكرون بالياء التحتانية على صيغة الغيبة والخطاب مع النبي صلى الله عليه واله وسلم والباقون بغير ياء على صيغة الخطاب بحذف أحد التاءين على انه خطاب مع الناس قلت نسبة قلة التذكر الى جميع الناس مبنى على كثرة تذكر قليل منهم وهم المؤمنون.
وَكَمْ خبرية مبتدأ مِنْ قَرْيَةٍ تميز لها أَهْلَكْناها خبر للمبتدا اى أردنا اهلاكها او خذلناها فَجاءَها اى جاء أهلها بَأْسُنا عذابنا وجاز ان يكون الفاء للبيان والتفسير كما فى قوله أحسنت الىّ فاعطينى فيكون قوله فجاءها بأسنا بدلا من قوله أهلكناها بَياتاً اى بائتين ليلا كقوم لوط مصدر وقع موقع الحال أَوْ هُمْ قائِلُونَ اى نائمون فى الظهيرة كقوم شعيب والقيلولة استراحة نصف النهار وان لم يكن معه نوم والجملة معطوفة على بيانا عطف الجملة على المفرد حال من القرية بمعنى أهلها وانما حذفت واو الحال استثقالا لاجتماع حرفى العطف فانها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير فانه غير فصيح ومعنى الاية انه جاءهم العذاب وهم غافلون غير متوقعين له ووجه تخصيص الوقتين بالذكر المبالغة فى بيان غفلتهم وامنهم من العذاب.
فَما كانَ دَعْواهُمْ اى قولهم ودعائهم وتضرعهم قال سيبويه يقول العرب اللهم أشركنا فى صالح دعوى المسلمين إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعنى الا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه والمعنى انهم لم يقدروا على رد العذاب بل اعترفوا بذنبهم حين لا ينفعهم الاعتراف.
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ اخرج البيهقي من طريق ابى طلحة عن ابن عباس انه قال نسأل الناس جميعا عما أجابوا المرسلين(3/324)
ولنسألن المرسلين عما بلغوا واخرج ابن المبارك عن وهب قال إذا كان يوم القيامة دعى اسرافيل ترعد فرائصه فيقال ما صنعت فيما ادى إليك اللوح فيقول بلغت جبرئيل فيدعى جبرئيل ترعد فرائصه فيقال ما صنعت فيما بلغك اسرافيل فيقول بلغت الرسل فيوتى بالرسل فيقال ما صنعتم فيما ادى جبرئيل فيقولون بلغنا الناس وهو قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين واخرج مسلم عن جابر ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال فى خطبته فى حجة الوداع أنتم تسألون عنى فهل أنتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت فقال اللهم اشهد واخرج احمد عن معوية بن جيدة ان النبي صلى الله عليه واله وسلم قال ان ربى داعى وانه سائلى هل بلغت عبادى وانى قائل قد بلغتهم فليبلغ منكم الشاهد الغائب ثم انكم تدعون مقدمة أفواهكم بالغداة ان أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه واخرج ابو الشيخ فى العظمة عن ابى سنان قال أول من يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به ترعد فرائصه فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيقول ربنا من يشهد لك فيقول اسرافيل فيدعى اسرافيل ترعد فرائصه فيقول هل بلغك اللوح قال نعم قال اللوح الحمد لله الذي نجانى من سوء الحساب واخرج ابن المبارك فى الزهد عن ابى حبلة قال أول من يدعى يوم القيامة اسرافيل فيقول الله هل بلغت عهدى فيقول نعم قد بلغته جبرائيل فيدعى جبرائيل فيقال هل بلغك اسرافيل عهدى فيقول نعم فيخلى عن اسرافيل فيقول لجبرئيل ما صنعت فى عهدى فيقول يا رب بلغت الرسل فيدعى الرسل فيقول للرسل هل بلغكم جبرئيل عهدى فيقولون نعم فيقال لهم ما صنعتم فى عهدى فيقولون بلغناه الأمم فيقال لهم هل بلغكم الرسل فمكذب ومصدق فيقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول من فيقولون امة محمد صلى الله عليه واله وسلم فتدعى امة محمد صلى الله عليه واله وسلم فيقال لهم تشهدون ان الرسل قد بلغت الأمم فيقولون نعم فتقول الأمم يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا فيقول الله كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم فيقولون يا ربنا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت علينا كتابا وقصصت علينا ان قد بلغوا فذلك قوله تعالى وكذلك جعلناكم امة وسطا الاية وقد ذكرنا حديث ابى سعيد الخدري فى الشهادة فى سورة البقرة فى تفسير تلك الاية وجاز ان يكون المراد ولنسألن المرسلين عما اجابتهم الأمم نظيره قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل(3/325)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا انك أنت علام الغيوب وقد مر تفسير الاية فى سورة المائدة.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ اى على الرسل والمرسل إليهم حين يقول الرسل لا علم لنا او حين أنكر الأمم التبليغ وشهد عليهم امة محمد صلى الله عليه واله وسلم بِعِلْمٍ اى بمعلومنا منهم او المعنى عالمين بظواهرهم وبواطنهم وَما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل فيما بلغوا او عن الأمم فيما أجابوا وفيما شهد عليهم امة محمد صلى الله عليه واله وسلم وانما كان السؤال لتوبيخ الكفرة وتقريعهم واظهار شرف الأنبياء والمسلمين وتفضيل امة محمد صلى الله عليه وسلم بالشهادة.
وَالْوَزْنُ اى وزن الأعمال بالميزان مبتدأ خبره يَوْمَئِذٍ اى كائن يوم إذا تحقق السؤال من المرسلين والمرسل إليهم الْحَقُّ صفة للمبتدأ ومعناه العدل السوىّ او خبر لمحذوف اى هو الحق لا شبهة فيه يجب الايمان به اخرج البيهقي فى البعث عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما فى حديث سوال جبرئيل عن الايمان قال يا محمد ما الايمان قال ان تؤمن بالله وملئكة ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال فاذا فعلت هذا فانا مؤمن قال نعم قال صدقت واخرج ابن المبارك فى الزهد والآجري فى الشريعة عن سلمان وابو الشيخ فى تفسيره عن ابن عباس قال الميزان له لسان وكفتان واختلفوا فى كيفية الوزن فقال بعضهم يوزن صحايف أعمالهم لما روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر رضى الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يجاء برجل من أمتي على رؤس الاشهاد يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول أتنكر من هذا شيئا أظلمك كتبتى الحافظون فيقول لا يا رب فيقول بلى ان لك عندنا حسنة وانه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول انك لا تظلم فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شىء واخرج احمد بسند حسن عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم توضع الموازين يوم القيامة فيوتى بالرجل فيوضع فى كفة ويوضع ما احصى عليه فتمايل به الميزان فيبعث به الى النار فاذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن لا تعجلوا فانه قد بقي له فيوتى(3/326)
ببطاقة فيها لا اله الا الله فيوضع مع الرجل حتى يميل به الميزان واخرج ابن ابى الدنيا عن عبد الله بن عمرو قال ان لادم من الله موقفا عليه ثوبان أخضران كانه نخلة «1» سحوق ينظر الى لمن ينطلق به من ولده الى النار فبينما آدم على ذلك إذ نظر الى رجل من امة محمد صلى الله عليه واله وسلم ينطلق به الى النار فينادى آدم يا احمد فاقول لبيك يا أبا البشر فيقول هذا رجل من أمتك ينطلق به الى النار فاشد الميزر اسرع فى اثر الملئكة وأقول يا رسل ربى قفوا فيقولون نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصى الله ما أمرنا ونفعل ما نومر فاذا ايس النبي صلى الله عليه واله وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول رب قد وعدتني ان لا تخزينى فى أمتي فيأتى النداء من عند العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد الى المقام فاخرج من حجرتى بطاقة بيضاء كالانملة فالقيها فى كفة الميزان اليمنى وانا أقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادى سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به الى الجنة فيقول يا رسل ربى قفوا حتّى اسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول بابى وأمي ما احسن وجهك واحسن خلقك من أنت فقد أفلتني ورحمت عزتى فاقول انا نبيك محمد وهذه صلوتك التي كنت تصليها علىّ وافتك أحوج ما تكون إليها وقال بعضهم يوزن الاشخاص لما روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال انه لياتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ثم قرأ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا واخرج ابو نعيم والا جرى فى قوله تعالى قال القوى الشديد الأكول الشروب يوضع فى الميزان فلا يزن شعيرة يدفع الملك عن أولئك سبعين الفا دفعة واحدة فى النار وقال بعضهم يوزن الأعمال أنفسها يعنى يجسّد الأعمال وتوزن لما روى البخاري عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان عند الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده وروى مسلم عن ابى مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الطهور شطر الايمان والحمد لله يملأ الميزان وروى الاصبهانى فى الترغيب عن
ابن عمر رضى الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول سبحان الله نصف الميزان والحمد لله يملأ الميزان وروى ابن عساكر من حديث ابى هريرة مثله
و
__________
(1) النخلة السحوق اى الطويلة بعد ثمرها على المجتنى 12(3/327)
روى البزار والحاكم عن ابن عمر ورضى الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال ان نوحا لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال امر كما بلا اله الّا الله فان السموات والأرض وما فيها لو وضعت فى كفة الميزان ووضعت لا اله الا الله فى الكفة الاخرى كانت أرجح منها وروى ابو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن ابى سعيد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال قال الله تعالى يا موسى لو ان السموات وعامرهن غيرى والأرضين السبع فى كفة ولا اله الا الله فى كفة لمالت بهن لا اله الا الله وروى الطبراني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسى بيده لوجئ بالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعت فى كفة الميزان ووضعت شهادة ان لا اله الا الله فى الكفة الاخرى لرجحت بهن وروى ابو داؤد والترمذي وصححه وابن حبان عن ابى الدرداء رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما من شىء أثقل فى الميزان من حسن الخلق وروى البزار والطبراني وابو يعلى وابن ابى الدنيا والبيهقي بسند حسن انه قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يا أبا ذر الا ادلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل فى الميزان من غيرهما قال بلى يا رسول الله قال عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسى بيده ما عمل الخلائق بمثلهما واخرج احمد فى الزهد عن رجل يقال له حازم ان النبي صلى الله عليه واله وسلم نزل عليه جبرئيل وعنده رجل يبكى فقال من هذا قال فلان قال جبرئيل انما يوزن اعمال بنى آدم كلها الا البكاء فان الله يطفئ بالدمعة بحورا من نار واخرج البيهقي عن معقل بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما إذ «1» رفت عين الا حرم الله سائر الجسد على النار ولا سالت قطرة على خدّها فترهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة ولو ان باكيا بكى من امة من الأمم وما من شىء إلا وله مقدار وميزان الا الدمعة فانها تطفئ بها بحار من نار قلت هذه الأحاديث وانكانت ظاهرة فى انه توزن الأعمال أنفسها لكنها يحتمل فيها وزن سجلات كتبت فيها الأعمال او اشخاص صدرت منهم واخرج فى انها تجسّد وتوزن ما رواه البيهقي فى شعب الايمان من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس رضى الله عنهما قال الميزان له
__________
(1) إذ رفت العين يعنى اجرى دمعها نهايه 12(3/328)
لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات فيوتى بالحسنات فى احسن صورة فيوضع فى كفة الميزان فيثقل على السيئات «1» فيوخذ فيوضع فى الجنة عند منازله ثم يقال للمؤمن الحق بعملك فينطلق الى الجنة فيعرف منازله بعمله ويوتى بالسيئات فى أقبح صورة فتوضع فى كفة الميزان فتخفف والباطل خفيف فتطرح فى جهنم الى منازله منها ويقال له الحق بعملك النار فياتى النار فيعرف منازله بعمله وما أعد الله فيها من ألوان العذاب قال ابن عباس فلهم اعرف بمنازلهم فى الجنة والنار بعملهم من القوم ينصرفون يوم الجمعة راجعين الى منازلهم لكن الحديث ضعيف لاجل السدى الصغير وما رواه ابن المبارك عن حماد بن ابى سليمان قال جاء رجل يوم القيامة فيرى عمله مختصرا فبينما هو كذلك إذ جاءه مثل السحاب حتى يقع فى ميزانه فقال هذا ما كنت تعلّم الناس من الخير فورثت بعدك فاجرت فيه واخرج ابن عبد الرزاق عن ابراهيم النخعي نحوه وما روى الطبراني عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول من تبع جنازة يوضع فى ميزانه قيراطان مثل أحد وما روى الاصبهانى عن عايشة عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال ان للصلوة المكتوبة عند الله وزنا من انتقص منها شيئا حوسب فيها على ما ينقص وفى حديث ابى هريرة مرفوعا عند ابى داؤد قال ان انتقص من فريضته شىء قال الرب تبارك وتعالى انظروا هل لعبدى من تطوع فيكمل بها من انتقص من الفريضة ومن الأحاديث ما يدل على ان الأجسام التي لها تعلق بالأعمال توضع فى الميزان منها ما روى الطبراني فى الأوسط عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أول ما يوضع فى ميزان العبد يوم القيامة النفقة على اهله وما فى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من احتبس فرسا فى سبيل الله ايمانا وتصديقا بوعده كان شبعه وريه وروثه وبوله فى ميزانه يوم القيامة وما روى الطبراني عن على رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه واله وسلم من ارتبط فرسا فى سبيل الله فعلفه واثره فى ميزانه يوم القيامة وما فى حديث علىّ عند الاصفهانى بسند حسن انه قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم
__________
(1) لعل المراد بالسيئات العقائد الفاسدة التي يزعمها صاحبها حقة ومن الأعمال ما يزعمها صاحبها عبادة وهى عند الله باطلة غير معتد بها 12 نهايه(3/329)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
لفاطمة قومى فاشهدى أضحيتك فان لك باول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب اما انه يجاء بدمها ولحمها فيوضع فى ميزانك سبعين ضعفا قال ابو سعيد يا رسول الله هذا لال محمد خاصة فقال لال محمد وللمسلمين عامة وما اخرج البيهقي عن ابن مسعود موقوفا وابن حبان فى صحيحه عن ابى ذر مرفوعا وابن عساكر بسند ضعيف عن ابى هريرة انه قال عليه الصلاة والسلام من توضأ فمسح بثوب نضيف فلا بأس به ومن لم يفعل فهو أفضل لان الوضوء يوزن يوم القيامة مع سائر الأعمال واخرج ابن ابى شيبة فى المصنف عن سعيد بن المسيب انه كره المنديل بعد الوضوء وقال هو يوزن واخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال أعطيت ناقة فى سبيل الله فاردت ان اشترى من نسبها فسألت النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال دعها لتاتى يوم القيامة هى وأولادها جميعا فى ميزانك واخرج الذهبي عن عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون يعنى اعماله التي توزن والمراد بها حسناته كذا قال مجاهد فانها هى المقصود بوجودها او هو جمع ميزان وعلى هذا ايضا المراد كفة الحسنات من ميزانه وعلى هذا التأويل تدل الاية على ان لكل أحد ميزان على حدة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والثواب.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ اى اعماله الحسنة او كفة حسناته وهذا وان كان يعم الكافر الذي لا حسنة له أصلا والمؤمن الذي ترجحت سياته على حسناته لكن المراد به هاهنا هم الكفار جريا على عادة القران غالبا حيث يذكر الكفار فى مقابلة الأبرار وقيل ذكر الذين خلطوا عملا صالحا واخر سيئا من المؤمنين فالكفارهم المحكوم عليهم بقوله تعالى فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضيع الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها وارتكاب موجبات العذاب بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فيكذبون بالآيات بدل التصديق وقد ذكرنا تفسير الاية وما يتعلق به فى سورة القارعة فى تفسير قوله تعالى فمن ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية واما من خفت موازينه فامه هاويه فليرجع اليه قال ابو بكر الصديق رضى الله عنه حين حضره الموت فى وصيته لعمر بن الخطاب رضى الله عنه انما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق فى الدنيا(3/330)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا ان يكون ثقيلا وانما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل فى الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان ان يوضع فيه الباطل غدا ان يكون خفيفا قلت لعل المعنى وحق لميزان اى كفة الحسنات ان يوضع فيه الباطل يعنى العقائد والأعمال التي يراها العامل حسنات وهى عند الله كفريات وبدعات وقبائح ان يكون خفيفا فانها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده قوفاه حسابه والله اعلم.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ اى اقدرناكم على سكناها وزرعها والتصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة اى أسبابا تعيشون بها ايام حياتكم من الزرع والضرع والمآكل والمشارب والتجارات والمكاسب قَلِيلًا ما اى شكرا قليلا او فى زمان قليل تَشْكُرُونَ فيما صنعت لكم.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعنى قدرناكم فى العلم فى المرتبة الأعيان الثابتة ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعنى أباكم آدم نزل تصويره منزلة تصويرا لكل وابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بان قدرنا آدم وصورناه وذلك ابتداء تقديركم وتصويركم وقال ابن عباس خلقناكم اى أصولكم واباءكم ثم صورناكم فى أرحام أمهاتكم كذا قال قتادة والضحاك والسدى وقال مجاهد خلقنكم يعنى آدم ذكره بلفظ الجمع لانه ابو البشر فخلقه خلق من يخرج من صلبه ثم صورناكم فى ظهر آدم وقيل صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر وقال عكرمة خلقنكم فى أصلاب الرجال ثم صورناكم فى أرحام النساء وقال يمان خلق الإنسان فى الرحم ثم صوره فشق سمعه وبصره وأصابعه وقيل كلمة ثم بمعنى الواو والمعنى خلقكم وصوركم فان بعض المخلوقات كالارواح لا صورة لها ثُمَّ قُلْنا ان كان المراد بضمير الخطاب آدم وحده فلا كلام فيه وان كان المراد الذرية فقيل كلمة ثم بمعنى الواو وقيل معناه ثم اخبرناكم انا قلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قد ذكرنا شرح الاية فى سورة البقرة لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قالَ الله تعالى يا إبليس ما مَنَعَكَ يعنى اى شىء منعك أَلَّا تَسْجُدَ اى من ان تسجد ولا زائدة كما فى لئلا يعلم موكدة لمعنى الفعل الذي دخلت عليه ومنبهة على ان الموبخ عليه ترك السجود وقيل الممنوع من الشيء مضطر الى خلافه فكانه قيل ما اضطرك الى ان لا تسجد وجاز ان يكون تقدير الكلام ما منعك من الامتثال وبعثك على ان لا تسجد إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجدة فيه دليل على ان مطلق الأمر للوجوب(3/331)
والسؤال عن المانع من السجود مع العلم به للتوبيخ واظهار معاندته وكفره واستكباره قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لان يكون مثله مامورا بالسجود لمثله كانه قال المانع منه كونى خيرا منه ولا يحسن للفاضل ان يسجد للمفضول فلا يحسن ان يؤمر به ففى الكلام اعتراض على الله سبحانه فى الأمر بالسجود خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ جوهر نورانى مستعل وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ جوهر ظلمانى مستسفل قال ابن عباس أول من قاس إبليس فاخطأ فى القياس فمن قاس الدين بشئ من رايه قرنه الله مع إبليس وقال ابن سيرين ما عبدت الشمس الا بالمقايس قلت وليس فى هذين القولين ابطال القياس بل تخطيته لقياسه فانه قياس فى مورد النص ولذلك قال من قاس الدين بشئ من رايه يعنى على خلاف النصوص الواردة وايضا تعليل الفصل والخيرية بالاضاءة والاستعلاء باطل انما الفضل بيد الله يوتيه من يشاء وقد فضل الله تعالى آدم على جميع خلقه حيث خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وجعله مستعد التعلم أسمائه كلها ومهبطا لتجلياته ومتقربا من الله تعالى بالفرائض والنوافل بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ومتحملا لامانته التي أشفقت عنها السموات والأرض والجبال فان قيل الخطأ فى الاجتهاد معفو قلنا انما ذلك إذا كان القائس طالبا للحق باذلا جهده فى طلبه لا إذا كان متعنتا باغيا استعلاء نفسه والزام الخصم الا ترى ان قول الملئكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ايضا قياس فيه خطأ ولذا رد الله تعالى قولهم بقوله انى اعلم ما لا تعلمون ولم يردهم أنفسهم حيث لم يصدر ذلك القول منهم استكبارا وتعنتا بل لطلب الحق واستعلام الحكمة ولذلك قالوا عند ظهور الحكمة سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم قالت الحكماء للطين فضل على النار من وجوه فان من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لادم بعد السعادة التي سبقت له الى التوبة والتواضع والتضرع فاورثه الاحتباء والتوبة والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لابليس بعد الشقاوة التي سبقت له الى الاستكبار والإصرار فاورثه اللعنة والشقاوة ولان الطين سبب لجمع الأشياء والنار سبب لتفرقها ولان الطين سبب لحيوة النبات والنار سبب لهلاكها واضافة خلق الإنسان الى الطين والشيطان الى النار باعتبار(3/332)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
الجزء الغالب وتلك الاضافة تدل على ان العمدة فى اجزاء الإنسان انما هو عالم الخلق دون عالم الأمر وعالم الأمر تابع له ويتصف بالخيرية والشرية بتبعيته ويتلون بلونه الا ترى ان الروح
تعلق بجسد الإنسان كما تعلق بجسد الشيطان فتلون فى كل على هيئة ومثله كمثل الشمس تجلت فى المرآة فتصورت بصورتها وتلونت بلونها قال المجدد رضى الله عنه كمال الترقي بعالم الأمر الى ظلال الصفات الا الأخفى منها فانها ترتقى الى بعض الصفات وكمال الترقي للنفس المنبعث من لطائف عالم الخلق الى ظاهر الصفات وكمال الترقي للعناصر الثلاثة الى باطن الصفات اى من حيث قيامها بالذات والترقي الى مرتبة الذات مختصة بعنصر الطين كما ان نور الشمس لا يظهر الا على أكثف الأشياء دون ألطفها والله اعلم.
قالَ الله تعالى لابليس لما استكبر فَاهْبِطْ مِنْها اى من الجنة وقيل من السماء والفاء جواب لقوله انا خير منه يعنى ان كنت متكبرا فاهبط منها فانه كان للمتواضعين المطيعين فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها اى لا يصح لك التكبر فيها ففيه تنبيه على ان التكبر لا يليق باهل الجنة فانه من خصائص الكبير المتعال وانه تعالى انما طرده واهبط لتكبره عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لا يدخل الجنة أحد فى قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر رواه مسلم وفى رواية لمسلم فقال رجل ان الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال عليه السلام ان الله جميل يحب الجمال الكبر بطر «1» الحق وغمط «2» الناس وعن حارثة بن وهب قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الا أخبركم باهل الجنة كل ضعيف متضعف لو اقسم على الله لا بره الا أخبركم باهل النار كل عتل «3» جواظ «4» مستكبر متفق عليه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته فى النار رواه مسلم وفى رواية له قذفته فى النار فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ اى اهل الصغار والذل والهوان على الله وعلى أوليائه يذمك كل انسان ويلعنك كل لسان وفى القاموس الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية وكذا فى غيره من كتب اللغة ومن هاهنا يعلم ان الصغار والذل لازم للاستكبار قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من تواضع لله رفعه الله فهو
__________
(1) بطر الحق هو ان يجعل ما جعله الله حقا من توحيده وعبادته باطلا 12 نهايه
(2) الغمط الاستهانة والاستحقار 14 12 نهايه
(3) العتل الشديد الجافي 12 نهايه
(4) الجواظ الجموح المنوع 12(3/333)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
فى نفسه صغير وفى أعين الناس عظيم ومن تكبر وضعه الله لهو فى أعين الناس صغير وفى نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب وخنزير رواه البيهقي فى شعب الايمان عن عمر وقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بئس العبد تخيل «1» واختال ونسى الكبير المتعال رواه الترمذي من حديث اسماء وقال حديث غريب وليس اسناده بالقوى.
قالَ إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي اى أمهلني ولا تمتنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ اى الناس من قبورهم يعنى الى النفخة الاخيرة أراد ان لا يذوق الموت.
قالَ الله تعالى إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ وبين الله سبحانه مدة هذه النظرة والمهلة فى موضع اخر فقال انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم وهو النفخة الاولى حين يموت الخلق كلهم او وقت يعلمه الله انتهاء اجله فيه وفيه دليل على ان اجابة الدعاء غير مختص باهل الإسلام والطاعة وانه لا يدل مطلقا على كون الداعي من المقبولين بل قد يكون استدراجا وفى اجابة دعائه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته.
قالَ إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء للتعقيب والباء للسببية متعلق بفعل قسم مقدر وما مصدرية يعنى بعد ما أمهلتني فبسبب اغوائك إياي بواسطتهم تسمية او حملا على الغنى او تكليفا بما غويت لاجله اقسم بك لاجتهدن فى اغوائهم باى طريق يمكننى وليس الباء متعلقا باقعدن فان اللام يصد عنه وقيل الباء للقسم اى اقسم باغوائك إياي يعنى بقدرتك على نفاذ سلطانك فى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ جواب للقسم اى اجلس مترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ اى طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله كما عسل «2» الطريق الثعلب وقيل بنزع الخافض تقديره على صراطك كقولهم ضرب زيد الظهر والبطن والقعود على الطريق كناية عن كمال اجتهاده فى صدهم عن السلوك عليه الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جميع الجهات مثّل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من اى جهة يمكن بإتيان العدو من الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم قال الله تعالى فى الأولين من لابتداء الغاية وفى الأخريين عن لان عن تدل على الانحراف وقيل لم يقل من فوقهم لان الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لان الإتيان منه توحش
__________
(1) تخيل واختال اى تكبر الخيلاء الكبر والعجب 12 نهايه [.....]
(2) عسل اى مشى سريعا 12(3/334)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
قال البغوي قال على بن طلحة عن ابن عباس من بين أيديهم اى من قبل الاخرة فاشككهم فيها ومن خلفهم اى من قبل دنياهم فارغبهم فيها وعن ايمانهم اى أشبه عليهم امر دينهم وعن شمائلهم اى أشهى لهم المعاصي وروى عطية عنه من بين أيديهم اى من قبل دنياهم اى أزينها فى قلوبهم ومن خلفهم اى من قبل الاخرة فاقول لا بعث ولا جنة ولا نار وعن ايمانهم من حسناتهم وعن شمائلهم من قبل سياتهم وقال قتادة نحوه ثم قال أتاك يا ابن آدم من كل جهة غير انه لم يأتك من فوقك ولم يستطع ان يحول بينك وبين رحمة الله كذا ذكر السيوطي قول ابن عباس وقال مجاهد من بين أيديهم وعن ايمانهم اى من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم اى من حيث لا يبصرون قال ابن جريح معنى قوله حيث يبصرون حيث يعلمون انهم يخطئون وحيث لا يبصرون اى لا يعلمون انهم يخطئون.
وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ اى مؤمنين قاله ظنا لقوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا قليلا.
قالَ الله تعالى اخْرُجْ مِنْها اى من الجنة مَذْؤُماً محقرا فى القاموس ذأمه كمنعه حقره وذمه وطرده وخزاه وقال الجوهري ذأمه ذأما يعنى مهموز العين وذمته أذيمه يعنى الأجوف اليائى وذممته اذمه يعنى المضاعف معنى كل واحد قال البغوي الذيم والذام يعنى المهموز والأجوف أشد العيب مَدْحُوراً اى مبعدا مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اى من بنى آدم اللام توطية للقسم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ اى منك وممن تبعك فغلب المخاطب والجملة جواب للقسم وساد مسد جواب الشرط أَجْمَعِينَ وَيا آدَمُ تقديره وقلنا يا آدم.
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب اى فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ مر شرح الاية فى سورة البقرة.
فَوَسْوَسَ الوسوسة حديث النفس والشيطان بما لا نفع فيه كذا فى القاموس قال البغوي الوسوسة حديث يلقيه الشيطان فى قلبه وأصله صوت الحلي والهمس الخفي يعنى فعل الوسوسة لَهُمَا اى لاجلهما الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما اى ليظهر لهما واللام للعاقبة او للغرض على انه أراد ايضا بوسوسة ان يسوئهما بكشف ما وُورِيَ ما غطى عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الاخر وفيه دليل على ان كشف العورة فى الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن فى الطباع(3/335)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
لم يزل مستقبحا شرعا وعقلا ثم بين الوسوسة فقال وَقالَ إبليس لادم وحواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا اى الا لئلا تكونا او كراهة ان تكونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الباقين الذين لا يموتون كما قال فى موضع اخر هل ادلك على شجرة الخلد واستدل به على فضل الملئكة على الأنبياء والجواب انه انما كانت رغبتهما فى ان يحصل لهما ما للملئكة من الكمالات والاستغناء عن الاطعمة والاشربة وذلك لا يدل على الفضل الكلى فان الفضل الكلى عبارة عن كثيرة الثواب والاقربية الى الله سبحانه لا غير.
وَقاسَمَهُما اى فاقسم لهما بالله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ جواب للقسم ذكر القسم على زنة المفاعلة للمبالغة وقد ذكرنا القصة فى سورة البقرة قال قتادة حلف لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله وقال انى خلقت قبلكما وانا اعلم منكما فاتبعانى ارشدكما وإبليس أول من حلف بالله كاذبا فلما حلف ظن آدم ان أحد الا يحلف بالله كاذبا فاغتربه.
فَدَلَّاهُما الشيطان قال البغوي يعنى خدعهما يقال ما زال فلان يدلى لفلان بغرور يعنى ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف القول بِغُرُورٍ اى باطل وقيل معنى دلّهما انزلهما من درجة عالية الى منزلة سافلة اى من مقام الطاعة الى مقام المعصية فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ اى فلما وجدا طعمها آخذين فى الاكل منها يعنى لم يستوفا الاكل حتّى أخذتهما العقوبة وشوم المعصية وتهافت عنهما لباسهما اخرج عبد بن حميد عن وهب بن منبه انه كان لباسهما من النور واخرج ابن ابى حاتم عن السدى عن الفريابي وابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية والبيهقي فى سننه وابن عساكر فى تاريخه عن ابن عباس قال كان لباس آدم وحواء كالظفر فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما الأمثل الظفر فلما وقع منهما الذنب بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما فاستحيا وَطَفِقا اى أخذا يَخْصِفانِ يلزقان عَلَيْهِما اى على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وهو ورق التين حتّى صار شبيه الثوب كذا اخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابو الشيخ وابن مردوية والبيهقي فى سننه وابن عساكر فى تاريخه عن ابن عباس قال الزجاج يجعلان على ورقة ليسترا سواتهما روى ابى بن كعب رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم كان آدم رجلا طوالا كانه نخلة سحوق شعر الراس فلما وقع فى الخطيئة بدت له سؤاته وكان لا يراها(3/336)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
أحد فانطلق هاربا فى الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته شعره فقال أرسلني فقالت لست بمرسلك فناديه ربه تبارك وتعالى يا آدم اتفر منى قال لا يا رب ولكنى استحييتك وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ يعنى عن الاكل منها وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ اى بيّن العداوة حيث أقر على نفسه وقال لاقعدن لهم صراطك المستقيم عتاب على مخالفة النهى وتوبيخ على الاغترار بقول العدو وفيه دليل على ان مطلق النهى للتحريم قال محمد بن قيس ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال يا رب أطعمتني حواء قال لحواء لم أطعمته قالت أمرتني الحية قال لحية لم أمرتها قال أمرني إبليس فقال الله تعالى اما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهروا ما أنت يا حية فاقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ راسك من لقيك واما أنت يا إبليس فملعون مدحور.
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ضررناها بالمعصية والتعريض للاخراج عن الجنة وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ اى الهالكين فيه دليل على ان الصغائر معاقب عليها ان لم تغفر وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر.
قالَ اهْبِطُوا قيل الخطاب لادم وحواء لان إبليس هبط قبلهما ولعل إيراد صيغة الجمع لان هبوطهما سبب لهبوط ذريتهما وقيل الخطاب لهما ولابليس كرر له الأمر تبعا ليعلم انهم قرنا ابدا او خبر عما قال لهم متفرقا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فى موضع الحال اى متعادين وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ اى استقرار او موضع استقرار وَمَتاعٌ اى تمتع إِلى حِينٍ انقضاء اجالكم.
قالَ الله تعالى فِيها اى فى الأرض تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء قرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان منها تخرجون وفى الزخرف كذلك تخرجون بفتح التاء وضم الراء فيهما على البناء للفاعل والباقون بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول قال البغوي كانت العرب فى الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون لا نطوف فى ثياب عصينا الله فيها فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة فنزلت.
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وقال قتادة كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول اليوم يبدو بعضه او كله. وما بدا منه لا أحله. فامر الله تعالى بالستر فقال قد أنزلنا عليكم لباسا يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعنى عوراتكم واحدتها سوء سميت بها لانها يسوء صاحبه انكشافها ومعنى أنزلنا خلقناه لكم بتدبيرات سماوية(3/337)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
واسباب نازلة ونظيره قوله تعالى وأنزلت لكم من الانعام وقوله تعالى وأنزلنا الحديد قلت ويمكن ان يقال معناه انزل عليكم ان تلبسوا لباسا يوارى سوءاتكم ولعله ذكر قصة آدم تمهيدا للنهى عن كشف العورة حتى يعلم ان انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان وانه أغواهم فى ذلك كما اغوى أبويهم وَرِيشاً اى لباسا فاخرا كذا فى القاموس يعنى أنزلنا لباسا يوارى سوأتكم وأنزلنا لباسا فاخرا تتجملون فيها قال البيضاوي الريش الجمال وقيل مالا ومنه تريّش الرجل إذا تمول كذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدى وَلِباسُ التَّقْوى قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على ريشا يعنى وأنزلنا لباس التقوى والباقون بالرفع على الابتداء وخبره ذلِكَ خَيْرٌ او ذلك صفة للمبتدأ وخير خبره واختلفوا فى لباس التقوى قال قتادة والسدى لباس التقوى هو الايمان وقال الحسن هو الحياء لانه يبعث على التقوى وقال عطية عن ابن عباس وهو العمل الصالح وعن عثمان ابن عفان هو السمت الحسن وقال عروة بن الزبير لباس التقوى خشية الله وقال الكلبي هو العفاف والمعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس والتجمل وقال ابن الأنباري لباس التقوى هو اللباس الاول وانما إعادة اخبارا ان ستر العورة خير من التعري فى الطواف وان اللباس سبب للتقوى عن معصية التعري وقال زيد بن على لباس التقوى اللباس التي يتقى بها فى الحرب من الدرع والمغفر والساعدين والساقين وقيل لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها الزهاد ذلِكَ اى إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته ويتورعون عن القبائح.
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ اى لا يخدعنكم ولا يضلنكم الشَّيْطانُ بان لا تدخلوا الجنة كَما فتن وأَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ آدم وحواء مِنَ الْجَنَّةِ والنهى فى الظاهر للشيطان وفى المعنى لبنى آدم لا تفتتنوا ولا تختدعوا ولا تضلوا باتباع الشيطان يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما اى ليرى كل واحد منهما سوءة الاخر والجملة حال من فاعل اخرج او من مفعوله اسناد نزع الى الشيطان للتسبب إِنَّهُ يعنى الشيطان يَراكُمْ يا بنى آدم هُوَ وَقَبِيلُهُ جنوده قال ابن عباس ولده وقال قتادة قبيلة الجن مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ والجملة فقيل للنهى وتأكيد للتحذير من فتنة وقبيله فان عدوا يرانا ولا نراه لشديد المئونة الا من عصم الله فحينئذ كيده(3/338)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
ضعيف قال ذو النون ان كان هو يريك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله القهار الستار إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بما أوجدنا بينهم من التناسب فى اتباع الباطل والتنافر من الحق او بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لهم.
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً اى امرا بالغا الى النهاية فى القبح وذلك هو الشرك وقال ابن عباس ومجاهد هى طوافهم بالبيت عريانا والظاهر انه يعم كل كبيرة قالُوا إذا نهوا عن فعل الفاحشة وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها يعنى احتجوا بامرين تقليد الآباء والافتراء على الله فاعرض عن الاول لظهور فساده وقد ردّه فى موضع اخر او لو كان ابائهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ورد الثاني فقال قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فان الأمر بالقبيح قبيح والله تعالى منزه عن القبائح وفيه دليل على ان الحسن والقبح وان كانا بخلق الله تعالى لكنه يدرك بالعقل ايضا والمراد بالقبيح هاهنا ما يتنفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم وقيل هما جوابا سوالين مترتبين كانه قيل لهم لم فعلتم فقالوا وجدنا عليه آباءنا فقيل ومن اين أخذ اباءكم فقالوا الله أمرنا بها وعلى الوجهين يمنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من غير دليل يوجب العلم اليقيني فيه انكار يتضمن النهى عن الافتراء على الله تعالى.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ قال ابن عباس بلا اله الا الله وقال الضحاك بالتوحيد وقال مجاهد والسدى بالعدل وهو الوسط من كل امر المتجافى عن طرفى الافراط والتفريط وَأَقِيمُوا تقديره وقال اقيموا وهو مقولة للقول المذكور يعنى وقل اقيموا او معطوف على معنى بالقسط يعنى أقسطوا واقيموا او معطوف على مقدر تقديره فاقبلوا واقيموا وُجُوهَكُمْ اى أخلصوا له تعالى سجودكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ اى عند كل وقت صلوة وسجودا وكل مكان سجود وقال مجاهد والسدى وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم فى الصلاة الى الكعبة وقال الضحاك إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي فى مسجدى وبه قال ابو حنيفة رحمه الله غير انه قال من كان اماما لمسجد اخر او رجل يختل بفقده جماعة مسجد اخر جاز له الخروج من المسجد بعد الاذان وقيل معناه توجهوا الى عبادة الله مستقيمين غير عادلين الى غيره وَادْعُوهُ اعبدوه تعالى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى(3/339)
الطاعة والعبادة من الشرك براء من الرياء والسمعة فانه خلقكم واليه المصير كَما بَدَأَكُمْ اى خلقكم أول مرة من تراب ثم من نطفة تَعُودُونَ احياء باعادته بعد الموت فيجازيكم على أعمالكم شبه الاعادة بالابداء تقرير الا مكانها والقدرة عليها وقيل كما بدأكم حفاة عراة غرلا تعودون لحديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة فقلت يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم الى بعض قال يا عائشة الأمر يومئذ أشد من ذلك متفق عليه وفى الصحيحين وسنن الترمذي عن ابن عباس قال قام رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقال يايها الناس تحشرون الى الله حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرأ كما بدانا أول خلق نعيده الاية وأول من يكسى من الخلائق ابراهيم عليه السلام وفى الباب أحاديث كثيرة صحيحة وما رواه ابو داؤد والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي عن ابى سعيد الخدري انه لما احتضر دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول ان الميت يبعث فى ثيابه التي يموت فيها واخرج ابن ابى الدنيا بسند حسن عن معاذ بن جبل انه دفن امه فامر بها فكفنت فى ثياب جدد وقال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يحشرون فيها واخرج سعيد بن منصور فى سننه عن عمر بن الخطاب قال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يبعثون فيها يوم القيامة فليس فى القوة مثل ما ورد فى الحشر عراة قال اكثر العلماء هذه الأحاديث محمولة على الشهيد وان أبا سعيد سمع الحديث فى الشهيد فحمله على العموم وقال البيهقي يجمع الأحاديث بان بعضهم يبعث عاريا وبعضهم بثيابه وقال بعضهم يخرجون من قبورهم بثيابه ثم تتناثر عنهم عند ابتداء المحشر فيحشرون عراة وقال بعضهم حديث ان الميت يبعث فى ثيابه محمول على العمل الصالح كقوله تعالى ولباس التقوى ذلك خير وقال جابر معنى الاية يبعثون على ما ماتوا عليه رواه مسلم فى صحيحه وابن ماجة والبغوي عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والكافر على كفره وقال ابن عباس فى تفسير الاية ان الله تعالى بدأ خلق بنى آدم مؤمنا وكافرا كما قال هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا وقال ابو العالية عادوا الى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير معناه كما كتب عليكم تكونون قال محمد بن كعب من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها وان عمل بعمل اهل السعادة(3/340)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
كما ان إبليس كان يعمل بعمل اهل السعادة ثم صار الى الشقاوة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وان عمل بعمل اهل الشقاوة كما ان السحرة كانوا يعملون بعمل اهل الشقاوة فصاروا الى السعادة عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان العبد ليعمل عمل اهل النار وانه من اهل الجنة ويعمل عمل اهل الجنة وانه من اهل النار وانما الأعمال بالخواتيم متفق عليه ويناسب هذا التأويل اخر الاية حيث قال.
فَرِيقاً منكم هَدى اى أراد بعلمه القديم هدايتهم فوفقهم الايمان والأعمال الصالحة وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بمقتضى القضاء السابق وانتصابه بفعل يفسره ما بعده اى أضل فريقا حق عليهم الضلالة إِنَّهُمُ اى الفريق الثاني اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ اى الكفار من الجن والانس أَوْلِياءَ أنصارا مِنْ دُونِ اللَّهِ اى غيره وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فيه دليل على ان الجهل ليس بعذر وان الكافر المخطى والمعاند سواء فى استحقاق الذم والله اعلم روى مسلم عن ابن عباس قال كانت امرأة تطوف بالبيت فى الجاهلية وهى عريانة وعلى فرجها خرقة وهى تقول اليوم يبدوا بعضه او كله. وما بدأ منه فلا أحله. فنزلت.
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ونزلت قل من حرم زينة الله الآيتين والمراد بالزينة ما يوارى العورة من الثياب بإجماع اهل التفسير قال مجاهد ما يوارى عورتك ولو عباءة وكذا قال الكلبي وروى البيهقي فى هذه الاية عن ابن عباس ان المراد بها الثياب والمراد بالمسجد قيل موضع السجود ولذا قيل معناه خذوا ثوبكم عند كل مسجد لطواف او صلوة وعلى هذا قال ابن الهمام الاية نزلت فى الطواف تحريما لطواف العريان والعبرة وان كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن لا بد ان يثبت الحكم فى السبب اولا وبالذات لانه المقصود به قطعا ثم فى غيره على ذلك الوجه والثابت عندنا فى الستر فى الطواف الوجوب يعنى لا على سبيل الاشتراط لصحة الطواف حتى لو طاف عريانا اثم وحكم بسقوطه وفى الصلاة الافتراض يعنى الاشتراط حتّى لا تصح بدونه فالاوجه الاستدلال بالإجماع على الافتراض فى الصلاة كما نقله غير واحد من ائمة النقل الى ان حدث بعض المالكية فخالف كالقاضى اسمعيل وهو لا يجوز بعد تقرر الإجماع والحديث عن عائشة يرفعه لا تقبل الله صلوة حائض بخمار رواه ابو داؤد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة فى صحيحه رواه ابو داؤد(3/341)
والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة فى صحيحه والظاهر عندى ان المسجد مصدر ميمى بمعنى السجدة اطلق على الصلاة تسمية الجزء على الكل كما فى قوله تعالى واركعوا مع الراكعين يعنى صلوا مع المصلين وقوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القران يعنى صلوا ما تيسر من الصلاة فهذه الاية بعبارته يوجب ستر العورة عند كل صلوة خاصة والبحث فى سبب النزول ان قوله تعالى يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا الى قوله تعالى قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن الآيات كلها نزلت حين كانت العرب فى الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون لا نطوف فى ثياب عصينا الله فيها وطافت المرأة عريانة واضعة يدها على فرجها بل ذكر قصة آدم ايضا توطية لذلك حتى يعلم ان انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان والآيات كلها ناطقة ان خلق اللباس للانسان لاجل ستر عورته نعمة من الله تعالى وذلك هو التقوى وكشف العورة وترك الستر فتنة وإضلال من الشيطان قد عمل اولا بأبيكم آدم وثانيا بكم وانه فاحشة تفعله العرب تقليدا بآبائهم وافتراء على الله تعالى والله تعالى لا يأمر بالفحشاء لكن فريقا من الناس هديهم الله وفريقا حق عليهم الضلالة فهذه الآيات تدل على ان كشف العورة فاحشة حرام مطلقا قبيح مستهجن طبعا وعقلا وشرعا فارتكابها فى الطواف وغير ذلك من العبادات أقبح وافحش وأشد حرمة بالطريق الاولى موجب للاثم وما كانت العرب يدعون ان لبس الثياب فى الطواف حرام وأكل اللحم والدسم فى الحج حرام فهو باطل أنكر عليه سبحانه بقوله من حرم زينة الاية وقوله انما حرم ربى الفواحش ومنها كشف العورة لكن شى من هذه الآيات لا تدل على اشتراط ستر العورة فى الطواف ومن ثم قال ابو حنيفة رحمه الله لو طاف عريانا اثم ويحكم بسقوطه وقال اكثر الائمة لا يحكم بسقوطه لحديث ابى هريرة ان أبا بكر الصديق رضى الله عنهما بعثه فى الحجة التي امره عليها رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبل حجة الوداع بعام يوم النحر فى رهط يوذن فى الناس ان لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان متفق عليه قالوا الطواف عريانا منهى عنه فلا يتادى به الواجب كما لا يجوز قضاء الصوم فى يوم النحر وقضاء الصلاة فى وقت الطلوع والاستواء والغروب واما هذه الاية خذوا زينتكم عند كل مسجد يقتضى اشتراط ستر العورة فى الصلاة وعدم جواز الصلاة بدونها لما ذكرنا ان كونه فرضا واجبا مطلقا وكون كشف العورة فاحشة حراما مطلقا(3/342)
ثبت قبل ذلك من الآيات ولا مساس لهذه الاية بالطواف الا إذا ضم معها قوله صلى الله عليه واله وسلم الطواف بالبيت صلوة الا ان الله أباح فيه الكلام رواه الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان ونزول هذه الاية فى ضمن آيات نزلت فى استقباح كشف العورة مطلقا وكون سبب نزولها
طواف العرب عريانا لا تقتضى كون هذه الاية ايضا فى الطواف فان ما ورد فى حادثة او بعد سوال يجب ان يفيد حكم تلك الحادثة وجواب ذلك السؤال ولا يجب ان لا يذكر حكما زائدا على ما ورد فيه ولا شك ان حكم الطواف عريانا ظهر بغير تلك الاية من الآيات فما أورده ابن الهمام من الاشكال غير وارد (مسئلة) ذكر فى رحمة الامة ان ستر العورة شرط الصلاة عند ابى حنيفة والشافعي واحمد واختلف اصحاب مالك فمنهم من قال كما قال الجمهور انه من الشرائط مع القدرة على الستر فمن صلى مكشوف العورة مع القدرة على الستر فصلوته باطلة ومنهم من قال انه واجب فى نفسه ليس شرطا للصلوة فمن صلى مكشوف العورة مع القدرة على الستر عامدا كان عاصيا لكن يسقط عنه الفرض والمختار عند متاخرى أصحابه انه لا يصح الصلاة مع كشف العورة بحال وقد ذكر ابن الهمام اجماع الامة على ذلك والخلاف المتأخر لا يرفع الإجماع المقدم.
(فصل) أفادت الاية على وجوب ستر العورة فى الصلاة لكنه مجمل فى مقدار العورة التي وجب سترها وجاء بيان ذلك من الأحاديث فنقول.
(مسئلة) عورة الرجل بين السرة والركبة عند ابى حنيفة والشافعي وعن مالك واحمد روايتان إحداهما ما قال ابو حنيفة والثانية انها القبل والدبر احتجوا بحديث انس ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم غزا خيبر وذكر الحديث بطوله وفيه ثم حسر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الا زارعن فخذه حتى لانى انظر الى بياض فخذ النبي صلى الله عليه واله وسلم رواه البخاري وروى مسلم بلفظ انحسر الا زاد على البناء للمفعول وكذا عند احمد وحديث عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مضطجعا فى بيته كاشفا عن فخذيه او ساقيه فاستاذن ابو بكر فاذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استاذن عمر فاذن له وهو كذلك فتحدث ثم استاذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وسوى ثيابه الحديث رواه مسلم وهذا الحديث ليس بحجة لمكان الترديد بقوله فخذيه او ساقيه لكنه عند احمد بلفظ كاشفا عن فخذيه من غير ترديد وكذا عند احمد من حديث(3/343)
حفصة واخرج الطحاوي والبيهقي عن حفصة بنت عمر قالت كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عندى يوما وقد وضع ثوبه عن فخذيه فدخل ابو بكر فذكر الحديث نحوه وحديث ابى موسى ان النبي صلى الله عليه واله وسلم كان قاعدا فى مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبته او ركبتيه فلما دخل عثمان غطاها رواه البخاري واحتج الجمهور بحديث على رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لا تبرز فخذك ولا تنظر الى فخذ حى ولا ميت رواه ابو داؤد وابن ماجة والحاكم والبزار وصحح بعض العلماء هذا الحديث وهو من حديث ابن جريج عن حبيب بن ثابت عن عاصم بن ضمرة عنه قال الحافظ فيه انقطاع بين ابن جريج وحبيب وقال ابو حاتم فى العلل ان الواسطة بينهما الحسن بن ذكوان وهو ضعيف وقال لا يثبت لحبيب رواية عن عاصم فهذه علة اخرى وقال ابن معين ان حبيبا لم يسمع من عاصم وان بينهما رجلا ليس بثقة وبيّن البزار ان الواسطة هو عمرو بن خالد الواسطي وحديث ابن عباس قال مر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم على رجل فخذه خارجة فقال غط فخذك فان فخذ الرجل من عورته رواه الترمذي واحمد والحاكم وصححه بعض العلماء وفى اسناده ابو يحيى القتات ضعيف وحديث جرهد ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مر على جرهد وفخذ جرهد مكشوفة فى المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يا جرهد غط فخذك فان الفخذ عورة رواه احمد وفيه زرعة مجهول وحديث محمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه مر على معمر محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي صلى الله عليه واله وسلم خمر فخذك يا معمر فان الفخذ عورة رواه احمد والبخاري فى التاريخ والحاكم فى المستدرك قال الحافظ رجاله رجال الصحيح غير ابى كثير وقد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل او جرح وحديث ابى أيوب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل السّرّة من العورة رواه الدارقطني وفى اسناده سعيد بن راشد وعباد بن كثير متروكان وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذا زوج الرجل منكم عبده الحديث بطوله وفيه فانما تحت السرة الى الركبة من العورة رواه الدار قطنى وفيه سوار بن داؤد لينه العقيلي لكن وثقه ابن معين ولا شك ان هذه الأحاديث لا يصادم شيئا منها ما تقدم من حديث كشف الفخذ لكن لما تعاضد بعضها ببعض وتلقته الامة بالقبول أخذناه احتياطا ومن هاهنا قال(3/344)
البخاري حديث انس أسند وحديث جرهد أحوط ولاجل قوة حديث انس وما فى معناه قال ابو حنيفة العاري يصلى قاعدا واضعا يديه على قبله يومى للركوع والسجود حيث قال بترك القيام والركوع والسجود مع القدرة عليها الى القعود والإيماء رعاية
لستر العورة الذي هو فرض مطلقا فى الصلاة وخارجها والله اعلم- (مسئلة) الركبة عورة عند ابى حنيفة وقال الشافعي واحمد ليست بعورة لما تقدم من حديث ابى أيوب وعمرو بن شعيب واحتج أصحابنا بحديث على رضى الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول الركبة من العورة وفيه عقبة بن علقمة ضعفه ابو حاتم الرازي والنصر بن منصور قال ابو حاتم الرازي مجهول يروى أحاديث مناكير وقال ابن حبان لا يحتج به قلنا الركبة ملتقى عظم العورة وغيرها فاجتمع الحرام والحلال فقدمنا الحرمة احتياطا.
(مسئلة) المرأة الحرة كلها عورة الا وجهها وكفيها عند مالك والشافعي واحمد وفى رواية عنهم الا وجهها فقط وكفاها من العورة واما القدمان فليستامن العورة عندهم وقال ابو حنيفة الا وجهها وكفيها وقدميها قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لا يقبل صلوة حائض الا بخمار وقد مرّ وقال عليه السلام المرأة عورة رواه الترمذي من حديث ابن مسعود وروى ابو داود مرسلا ان الجارية إذا حاضت لم يصلح يرى منها الا وجهها ويديها الى المفصل وروى الدارقطني عن أم سلمة انها سالت النبي صلى الله عليه واله وسلم اتصلي المرأة فى درع وخمار وليس لها إزار قال إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها وفيه عبد الرحمن بن عبد الله ضعفه يحيى وقال ابو حاتم لا يحتج به والظاهر انه غلط فى رفع الحديث ورواه مالك وجماعة عن أم سلمة من قولها.
(مسئلة) قال فى النوازل نغمة المرأة عورة ولهذا قال عليه السلام التسبيح للرجال والتصفيق للنساء قال ابن الهمام وعلى هذا لو قيل ان المرأة إذا جهرت بالقراءة فى الصلاة فسدت كان متجها.
(مسئلة) عورة الامة كعورة الرجل مع بطنها وظهرها عند ابى حنيفة وقال مالك والشافعي هى كعورة الرجل وبه قال احمد وقال بعض اصحاب الشافعي كلها عورة الا مواضع التقليب منها وهو الرأس والساعدات والساق روى(3/345)
البيهقي عن نافع ان صفية بنت ابى عبيد حدثته قالت خرجت امرأة متخمرة بتحلية فقال عمر من هذا فقيل له جارية لفلان رجل من بنيه فارسل الى حفصة فقال ما حملك ان تخمرى هذه الامة وتجليبها تشبيها بالمحصنات حتى هممت ان أقع بها لا احسبها الا من المحصنات لا تشبهوا الإماء بالمحصنات قال البيهقي الآثار عن عمر بذلك صحيحة.
(مسئلة) يجب عند احمد ستر المنكبين فى الفرض وفى النفل عنه روايتان لحديث ابى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال لا يصلى أحدكم فى الثوب الواحد ليس على منكبيه منه شىء رواه احمد وفى الصحيحين نحوه لكن لفظ البخاري ليس على عاتقه منه شىء وفى حديث مسلم عاتقيه وحمل الجمهور على التنزيه قال الكرماني ظاهر النهى يقتضى التحريم لكن الإجماع منعقد على جواز تركه قال الحافظ قد غفل الكرماني عما ذكره بعد قليل عن النووي من حكاية مذهب احمد ونقل ابن المنذر عن محمد بن على عدم الجواز وعقد الطحاوي له بابا فى شرح معانى الآثار ونقل عن ابن عمر ثم عن طاؤس والنخعي ونقل غيره عن ابن وهب وابن جرير ونقل الشيخ تقى الدين السبكى وجوب ذلك عن نص الشافعي واختاره لكن المعروف فى كتب الشافعية خلافه.
(مسئلة) يستحب ان يصلى الرجل فى ثياب الزينة كما يشير اليه هذه الاية فان الله سبحانه سمى الثوب زينة وامر باتخاذه فى الصلاة فالواجب وان كان ادنى منها وهو ما يستر العورة فما زاد عليه يستحب روى الطحاوي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فان الله أحق ان يزين له الحديث وروى البخاري عن ابى هريرة قال قام رجل الى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فسأله عن الصلاة فى الثوب الواحد فقال او كلكم يجد ثوبين ثم سأل رجل عمر فقال له إذا وسع الله فاوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل فى إزار ورداء فى إزار وقميص فى إزار وقباء فى سراويل ورداء فى سراويل وقميص فى سراويل وقباء فى تبان وقميص قال واحسبه فى تبان ورداء والله اعلم قال البغوي قال الكلبي كانت بنو عامر لا يأكلون فى ايام حجهم من الطعام الا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق ان نفعل ذلك يا رسول الله فانزل الله تعالى وَكُلُوا يعنى اللحم والدسم وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم وزينة اللباس وغير ذلك إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الذين(3/346)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
يفعلون ذلك اى لا يرتضى فعلهم واخرج ابن المنذر عن عكرمة فى قوله تعالى قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سواتكم قال نزلت فى الخميس من قريش الى ان قال وبنى عامر بن صعصعة وبطون كنانة بن بكرة كانوا لا يأكلون اللحم ولا يأتون البيوت الا من أدبارها قال ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطاتك خصلتان سرف ومخيلة أخرجه ابن ابى شيبة فى المصنف وعبد بن حميد فى تفسيره و «1» عن ابن عمر مرفوعا كلوا واشهبوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة رواه احمد بسند صحيح وابن ماجة والحاكم روى «2» انه كان للرشيد طبيب نصرانى حاذق فقال لعلى بن الحسن بن واقد ليس فى كتابكم من علم الطب شىء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له علىّ قد جمع الله الطب كله فى نصف اية من كتابه وهو قوله تعالى كلوا واشربوا ولا تسرفوا فقال النصراني ولم يرو من رسولكم شىء فى الطب فقال قد جمع رسولنا الطب فى ألفاظ يسيرة وهى قوله عليه السلام المعدة بيت الداء والحمية راس كل دواء واعط كل بدن ما عودته فقال النصراني ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
قُلْ يا محمد إنكارا عليهم مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ اى الثياب وسائر ما يتجمل به الَّتِي أَخْرَجَ أصولها كالقطن والكتان من الأرض والصوف من ظهر الغنم والقز من الدود لِعِبادِهِ اى لاجل انتفاعهم وتزينهم وتجملهم وَاخرج الطَّيِّباتِ اى المستلذات مِنَ الرِّزْقِ من المآكل والمشارب يعنى لم يحرمها الذي هو خالقها ومالكها ولا يقدر أحد غيره على التحريم والتحليل فما لهولاء الكفار يحرمون الثياب فى الطواف واللحم والدسم فى الحج والسوائب ونحو ذلك وبهذه الاية يثبت ان الأصل فى المطاعم والمشارب والملابس الحل ما لم يثبت تحريمها من الله تعالى قُلْ يا محمد هِيَ اى الزينة والطيبات كائنة مخلوقة لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا حتى يتمتعون بها ويشكرون الله تعالى عليها ويتقوون بها على عبادته وليست للكفار الا تبعا للمؤمنين شاركهم الله تعالى فيها ابتلاء واستدراجا خالِصَةً قرا نافع بالرفع على انه خبر بعد خبر لهى والباقون بالنصب على
__________
(1) عن الحسن قال دخل عمر على اخر ابنه عبد الله إذا عندهم لحم فقال ما هذا اللحم فقال أشتهيه وكلما اشتهيت شيئا أكلته كفى بالمرأ إسرافا ان يأكل كل ما اشتهى 12
(2) وعن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة فى الطعام والشراب فانها مفسدة للجسد مورثة للقسم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصر فيهما فانه أصلح للحمد وابعد من السرف وان الله ليبغض الجسد السمين وان الرجل لن يهلك حتى يوثر شهوته على دينه 12(3/347)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
انه حال مقدرة يعنى مقدرين الخلوص من التنغيص والغم يَوْمَ الْقِيامَةِ واما فى الدنيا فهى مشوبة بالغم والتنغيص او المعنى مقدرين الخلوص لهم لا يشاركهم الكفار كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعنى ميزنا الحلال من الحرام هاهنا حيث أمرنا بإتيان الحلال وترك الحرام ونهينا عن الإسراف وإتيان الحرام كذلك نفصل سائر الاحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ انه لا شريك لله تعالى أحد.
قُلْ يا محمد إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الْفَواحِشَ اى ما تزايد قبحه ما ظَهَرَ مِنْها كطواف الرجل بالنهار عريانا وَما بَطَنَ كطواف النساء بالليل عريانا وقيل الزنا سرا وعلانية عن ابن مسعود يرفعه قال لا أحدا غير من الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب اليه المدحة من الله فلذلك مدح نفسه وَالْإِثْمَ اى ما يوجب الإثم يعنى الذنب والمعصية تعميم بعد تخصيص وقال الضحاك الإثم الذنب الذي لا حدّ فيه وقال الحسن الإثم الخمر قال الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلى ... كذلك الإثم يذهب بالعقول
وَالْبَغْيَ الظلم او الكبر أفرده بالذكر مبالغة او المراد البغي على سلطان عادل بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي موكد له معنى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ اى باشراكه سُلْطاناً حجة فيه تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فى تحريم الحرث والانعام والطواف عريانا وغير ذلك وقال مقاتل هو عام فى تحريم القول فى الدين من غير يقين.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعنى لكل امة من الكفار مدة ووقت معين فى علم الله تعالى لنزول العذاب بهم وعيد لاهل مكة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ اى حان وقت عذابهم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً اى لا يتاخرون اقصر وقت وان طلبوا الامهال وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ولا يتقدمون ذلك وان سألوا العذاب لقولهم اللهمّ ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء او ائتنا بعذاب اليم «1»
__________
(1) وعن ابن المسيب قال لما طعن عمر قال كعب لو دعا الله عمر لاخر فى اجله فقيل له أليس قد قال الله تعالى فاذا جاء أجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون قال كعب وقد قال الله وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره الا فى كتاب مبين فان الله يوخر ما يشاء وينقص ما يشاء فاذا جاء أجلهم لا يستاخرون ولا يستقدمون وعن ابى مليكة قال لما طعن عمر جاء كعب فجعل يبكى ويقول والله لو ان امير المؤمنين ليقسم على الله ان يوخره لاخره فدخل ابن عباس عليه فقال يا امير المؤمنين هذا كعب يقول كذا وكذا قال إذا والله لا اسأله 5(3/348)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ما زايدة زيدت لتاكيد الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون ذكر الله سبحانه بحرف الشك للتنبيه على ان إتيان الرسل جائز غير واجب ولا يجب على الله شىء رُسُلٌ مِنْكُمْ اى من بنى آدم يَقُصُّونَ اى يقرءون عَلَيْكُمْ آياتِي من الكتب صفة لرسل وجواب الشرط فَمَنِ اتَّقى منكم يعنى من الشرك وتكذيب الرسل وَأَصْلَحَ عمله اى أخلصه لله تعالى واتى به كما امره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الناس فى القبر ويوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إذا حزنوا فى النار.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا منكم وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها اى عن الايمان بها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ادخل الفاء فى الجزاء الاول دون الثاني للمبالغة فى الوعد والمسامحة فى الوعيد.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً اى جعل له شريكا او قال اتخذ الله صاحبة وولدا او قال الله أمرنا بتحريم السوائب والطواف عريانا ونحو ذلك واللفظ يشتمل الروافض الذين يفترون على الله وعلى رسوله ويقولون انزل الله فى القران آيات كثيرة القاها الصحابة من القران أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة والترديد لمنع الخلو أُولئِكَ يَنالُهُمْ فى الدنيا نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ اى حقهم مما كتب لهم فى صحف الملئكة الموكل بهم من الأرزاق والتمتعات والأعمال والاكساب والمصائب والآجال وقيل الكتاب اللوح المحفوظ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يعنى ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ يقبضون أرواحهم قالُوا جواب إذا يعنى قالت الرسل للكفار أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما موصولة وصلت باين الاستفهامية فى خط المصحف وكان حقها الفصل والاستفهام للتوبيخ يعنى اين الذين كنتم تعبدونها من دون الله من الأصنام وغيرها قالُوا اى الكفار ضَلُّوا اى غابوا عَنَّا وَشَهِدُوا يعنى الكفار اعترفوا عند معاينة العذاب عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ قالَ الله تعالى يوم القيمة او ملك الموت حين التوفى.
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ اى كائنين فى جملة امم قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنى الكفار الأمم الماضية من الفريقين فِي النَّارِ متعلق بادخلوا كُلَّما دَخَلَتْ النار أُمَّةٌ كافرة من الأمم لَعَنَتْ أُخْتَها فى الدين التي ضلت هذه الامة باقتدائها فيلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى ويلعن الاتباع القادة حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا اى تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا فِيها اى فى النار(3/349)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا وهم الاتباع لِأُولاهُمْ دخولا وهم القادة فانهم يدخلون النار او لا وقال ابن عباس اخر كل امة لاولها زمانا الذين شرعوا ذلك الدين الباطل رَبَّنا هؤُلاءِ يعنى القادة أَضَلُّونا عن الهدى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً اى مضاعفا يعنى مثلى ما نحن فيه مِنَ النَّارِ لانهم ضلوا وأضلوا قالَ الله تعالى لِكُلٍّ منكم ومنهم ضِعْفٌ ما يرى الاخر فان للعذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الاخر الظاهر دون الباطن فيقدر انه ليس له العذاب الباطن او المعنى لكل ضعف ما يقتضيه ضلاله اما لقادة فبكفرهم وتضليلهم واما لاتباع فبكفرهم وتقليدهم اهل الباطل دون اهل الحق وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ اى لا يعلم أحد منكم ما لغيره من العذاب قرأ ابو بكر عن عاصم بالياء للغيبة على الانفصال والباقون بالتاء على الخطاب.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ عطفوا كلامهم على جواب الله تعالى لاخريهم ورتبوا عليه فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يعنى فقد ثبت بقول الله تعالى ان لا فضل لكم علينا وانه كل متساوون فى استحقاق العذاب فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يحتمل ان يكون من قول القادة او من قول الله تعالى للفريقين.
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها اى عن الايمان بها لا تُفَتَّحُ قرأ ابو عمرو بالتاء لتانيث الفاعل لكونه جمعا بالتخفيف من المجرد وحمزة والكسائي بالياء لان الفاعل مؤنث غير حقيقى ومفعول من المجرد ايضا والباقون بالتاء كابى عمرو والتشديد من التفعيل لكثرة الأبواب لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لاوعيتهم ولا لاعمالهم ولا لارواحهم وقال ابن عباس لارواحهم لانها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها الى سجين عن البراء بن عازب فى حديث طويل رواه مالك والنسائي والبيهقي فى البعث والنشور قوله صلى الله عليه واله وسلم فى ذكر العبد الكافران الملئكة سود الوجوه إذا قبضت نفسه جعلوها فى المسوح ويخرج منها كنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملئكة الا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها فى الدنيا حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لا يفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه فى سجين فى الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ(3/350)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
ومن يشرك بالله فكانما خرمن السماء فتخطفه الطير او تهوى به الريح فى مكان سحيق لحديث وفى حديث ابى هريرة عند ابن ماجة نحوه وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ اى حتّى يدخل ما هو مثل فى عظم الجثة وهو البعير فيما هو مثل فى ضيق المنفذ وهو ثقبة الابرة وذلك لا يكون فكذا ما علق به بدل ذلك على تأكيد المنع يعنى لا يدخلون ابدا وَكَذلِكَ اى مثل ذلك الجزاء القطيع يعنى الياس من رحمة الله تعالى نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ اى للمجرمين مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ لحف منها والتنوين عوض من الياء المحذوفة عند سيبويه وللصرف عند غيره يعنى النار محيط بهم من كل جانب نظيره قوله تعالى من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على انه أعظم من الاجرام ثم أورد الله سبحانه وعد المؤمنين بعد وعيد الكفار كما هو عادته فقال.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدأ ولما كان الجمع المحلى باللام من صيغ العموم موهما لاختصاص الوعد بمن عمل جميع الصالحات أورد معترضا بين المبتدأ والخبر لدفع ذلك التوهم قوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اى بقدر طاقتها بحيث لا تحرج ولا يشق عليها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خبر للمبتدأ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا اى أخرجنا صيغة ماض وضع موضع مستقبل تحقيقا لوقوعه ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اى حسد وعداوة كانت بينهم فى الدنيا حتى لا يكون بينهم الا التواد لا يحسد بعضهم على بعض على شىء خص الله به بعضهم اخرج سعيد بن منصور وابو نعيم فى الفتن وابن ابى شيبة والطبراني وابن مردوية عن على رضى الله عنه انه قال انى أرجو أن أكون انا وعثمان وطلحة والزبير منهم قلت قال ذلك على رضى الله عنه لما وقع بينهم فساد ظن فى فتنة شهادة عثمان رضى الله عنه اخرج البخاري والإسماعيليّ فى مستخرجه واللفظ له عن ابى سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه واله وسلم فى قوله تعالى ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين قال يخلص المؤمنون من النار فيحسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا وقفوا اذن لهم فى دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لاحدهم اهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله فى الدنيا قال قتادة راوى الحديث كان يقال ما يشبه بهم الا اهل الجمعة(3/351)
انصرفوا عن جمعتهم واخرج ابن ابى حاتم عن الحسن البصري قال بلغني ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال يحبس اهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يوخذ لبعضهم من البعض ظلماتهم فى الدنيا ويدخلون الجنة ليس فى قلوب بعضهم على بعض غل قال القرطبي هذا فى حق من لم يدخل النار اما من دخلها ثم اخرج منها فانهم لا يحاسبون بل إذا خرجوا اذهبوا على نهار الجنة قال ابن حجر قوله يخلص المؤمنون من النار اى ينجون من السقوط بمجاورة الصراط واختلف فى القنطرة المذكورة فقيل انها من تتمة الصراط وهى طرفه الذي يلى الجنة وقيل الصراط اخر وبه جزم القرطبي وقال السيوطي والاول هو المختار قلت وذلك لان القصاص انما يكون بالحسنات والسيئات فانه ليس ثمه دينار ولا درهم ان كان له يعنى للظالم عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمة وان لم يكن له حسنة أخذ من سيأت صاحبه فحمل عليه كذا روى البخاري من حديث ابى هريرة مرفوعا وعند مسلم والترمذي عنه مرفوعا فان فنيت حسناته قبل ان يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فتطرح عليه ثم طرح فى النار قلت والطرح فى النار لا يتصور بعد مجاورة الصراط بتمامه والله اعلم قلت وليس نزع الغل من الصدور منحصرا فى صورة القصاص ودفع الحسنات والسيئات من البعض الى البعض بل قد يكون بغير ذلك كما قال البغوي قال السند فى هذه الاية الكريمة ان اهل الجنة إذا سبقوا الى الجنة وجدوا عند بابها شجرة فى اصل ساقها عينان فشربوا من أحدهما فينزع ما فى صدورهم من غل وهو الشراب الطهور ومن الاخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ان يشعثوا ولن يشحبوا بعدها ابدا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ من تحت منازلهم بعد ما دخلوا الجنة الْأَنْهارُ حال من هم فى صدورهم فيها بمعنى الاضافة وَقالُوا اى اهل الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا اى الى هذا يعنى الجنة وقال سفيان الثوري معناه هدانا لعمل ثوابه هذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ اللام للجحود لتاكيد النفي كما فى قوله تعالى ما كان الله ليعذبهم بعدها ان المصدرية مقدرة والمصدر بمعنى الفاعل او بتقدير المضاف خبر لكان تقديره ما كنا ذا اهتداء او مهتدين لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وجواب لولا محذوف دل عليه ما قبله يعنى لولا هداية الله ما كنا مهتدين قرأ ابن عامر ما كنا بغير واو على انها صبية للاولى والباقون بالواو على انه حال من مفعول هدانا لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك تبجحا حين رأوا(3/352)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
ما وعدهم الرسل عيانا وَنُودُوا اى اهل الجنة قيل هذا النداء إذا راوا الجنة من بعيد وقيل هذا النداء يكون فى الجنة واختاره السيوطي فى البدور السافرة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ ان فى المواضع الخمسة هى المفسرة لان المناداة
والتأذين بمعنى القول وجاز ان يكون مخففة أُورِثْتُمُوها أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب أعمالكم الجملة حال من الجنة والعامل فيه معنى الاشارة او خبر والجنة صفة تلكم قال صاحب المدارك سماها ميراثا لانها لا تستحق بالعمل بل هى محض فضل الله تعالى وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شىء بل هو صلة خالصة اخرج مسلم عن ابى سعيد الخدري وابى هريرة رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ينادى مناد ان لكم ان تصحوا فلا تسقموا ابدا ولكم ان تحيوا فلا تموتوا ابدا وان لكم ان تشبوا فلا تهرموا ابدا وان لكم ان تنعّموا فلا تباسوا «1» ابدا فذلك قوله تعالى ونودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون واخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فاذا مات فدخل النار ورث اهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك الوارثون.
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من الثواب حَقًّا متحققا فى الواقع حال فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب حَقًّا قالوا ذلك تبجحا بحالهم وشماتة باصحاب النار تقديره وعدكم حذف كم لدلالة وعدنا ربنا عليه او يقال لم يقل وعدكم كما قال وعدنا لان ما ساهم من الموعود لم يكن بامره وعده مخصوصا بهم كالبعث والحساب ونعيم الجنة قالُوا نَعَمْ قرأ الكسائي بكسر العين حيث وقع والباقون بفتحها وهما لغتان فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ اى نادى مناد قيل هو صاحب الصور بَيْنَهُمْ اى بين الفريقين بحيث اسمع الفريقين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ قرأ البزي عن ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد انّ ونصب اللعنة والباقون بتخفيفها والرفع عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ اى يمتنعون او يمنعون الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى دينه صفة للظلمين مقررة او ذم مرفوع او منصوب وَيَبْغُونَها عِوَجاً زيعا وميلا عما هو عليه مفعول ثان ليبغون اى يطلبون لها الاعوجاج والتناقض قال ابن عباس يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه الله قلت تقديره الذين كانوا يصدون عن
__________
(1) بئس يبئس بالضم فيهما بأسا اشتد والمبتئس الكارة والحزين 12 نهايه(3/353)
سبيل الله لان ذلك كان منهم فى الدنيا لا حين يقال لهم ذلك والعوج بالكسر فى المعاني والأعيان ما لم يكن منتصبة كالّذين والأرض وبالفتح فى الأعيان المنتصبة كالحائط والرمح ونحوهما وَهُمْ بِالْآخِرَةِ بالله او الاخرة كافِرُونَ وَبَيْنَهُما اى بين الجنة والنار وقيل بين اهل الجنة واهل النار حِجابٌ وهو سور الذي ذكره الله تعالى فى سورة الحديد فضرب بينهم بسور له باب وقد ذكر هناك تفسيره وَعَلَى الْأَعْرافِ اى على اعراف الحجاب يعنى على أعالي السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس اخرج هناد من طريق مجاهد عن ابن عباس قال الأعراف سور كعرف الديك وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فانه يكون لظهوره اعرف من غيره رِجالٌ اختلف الأقوال فى هؤلاء الرجال أوجهها انهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم منعت حسناتهم من دخول النار وتقاصرت من دخول الجنة كذا اخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد الله عنه صلى الله عليه واله وسلم واخرج ابن جرير والبيهقي من طريق ابى طلحة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحابه رجال كانت لهم ذنوب عظام حبسهم امر الله يقومون على الأعراف يعرفون اهل النار لسواد الوجوه واهل الجنة ببياض الوجوه فاذا نظروا الى اهل الجنة طمعوا ان يدخلوها وإذا نظروا الى النار تعوذوا بالله تعالى منها فادخلهم الله الجنة فذلك قوله تعالى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة يعنى اصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون واخرج هناد وابن ابى حاتم وابو الشيخ فى تفاسيرهم من طريق عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال الأعراف السور الذي بين الجنة والنار واصحاب الأعراف المحبوسون بذلك حتى إذا بدأ الله تعالى ان يعافيهم انطلق بهم الى نهر يقال له الحيوة حافتاه الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتى يصلح ألوانهم وتبدوا فى نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم اتى بهم الرحمن تعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم ومثله وسبعون ضعفا فيدخلون الجنة فى نحورهم شامة «1» بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين اهل الجنة واخرج ابو الشيخ من طريق ابن المنكدر عن رجل من مزينة ان النبي صلى الله عليه واله وسلم سئل عن الأعراف فقال هم قوم خرجوا عصاة بغير اذن ابائهم فقتلوا فى سبيل الله وهم لابائهم عاصون فمنعوا الجنة بمعصية ابائهم ومنعوا النار
__________
(1) الشامة الخال فى الجسد 12(3/354)
لقتلهم فى سبيل الله واخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابى سعيد الخدري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اصحاب الأعراف فقال هم رجال قتلوا فى سبيل الله وو هم عصاة لابائهم فمنعتهم الشهادة ان يدخلوا النار ومنعتهم المعصية ان يدخلوا الجنة وهم على سور بين الجنة والنار حتى تذبل «1» لحومهم وشحومهم حتى يفرغ الله من حساب خلقه ولم يبق غيرهم تغمد الله برحمته فادخلهم الجنة برحمته واخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردوية وابو الشيخ فى تفاسيرهم والطبراني والحارث بن اسامة فى مسنده والبيهقي من عبد الرحمن المزني قال سئل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عن اصحاب الأعراف فقال هم أناس قتلوا فى سبيل الله قلت لعل المراد بهذا الذين قتلوا فى سبيل الله الذين هم عصاة لابائهم جمعا بين هذا وبين ما سبق وليعلم ان الذين قتلوا فى سبيل الله عصاة لابائهم افراد ممن استوت حسناتهم وسيئاتهم فذكرهم على وجه التمثيل لا على وجه الحصر لما مر من الأحاديث ولما اخرج ابن ابى داؤد وابن جرير عن ابن عمر بن حزم بن جرير قال سئل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقال هم اخر من يفصل بينهم من العباد فاذا فرغ رب العلمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة وأنتم عتقاء فارعوا من الجنة حيث شئتم قال السيوطي مرسل حسن واخرج ابن مردوية وابو الشيخ من طريقين عن جابر بن عبد الله قال سئل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عمن استوت حسناتهم وسيئاتهم فقال أولئك اصحب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون واخرج البيهقي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يجمع الله الناس بينهم يوم القيامة فيومر باهل الجنة الجنة وباهل النار النار ثم قال لاصحاب الأعراف ما تنتظرون قالوا ننتظر أمرك فيقال لهم ان حسناتكم تجاوزت بكم النار ان تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوا بمغفرتى ورحمتى واخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابو الشيخ والبيهقي وهناد وحذيفة قال اصحاب الأعراف قوم قصرت سيأتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى ينقضى الله تعالى بين الناس فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم ربهم فقال لهم قوموا فادخلوا الجنة فانى غفرت لكم واخرج عبد الرزاق عن حذيفة قال اصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيأتهم على سور بين الجنة والنار وهم على طمع من دخول الجنة وهم داخلون وروى البغوي بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود
__________
(1) ذبلت بشرته اى قل ماء جلد ورهبت نضارته 12 نهايه(3/355)
قال يحاسب الناس يوم القيمة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته اكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قال الله عز وجل فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فاولئك الذين خسروا أنفسهم ثم قال ان الميزان يخف حسناته وسيئاته بمثقال حبة ويرجح قال ومن حسناته وسيئاته كان من اصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا اهل الجنة واهل النار فاذا نظروا الى اهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم الى اصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فاما اصحاب الحسنات فانهم يعطون نورا يمشون به أيديهم وبايمانهم ويعلى كل عبد يومئذ نورا فاذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة فلما رأى اهل الجنة ما بقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا فاما اصحاب الأعراف فان النور لم ينزع من بين أيديهم ومنعهم سيأتهم ان يمشوا فبقى فى قلوبهم الطمع إذ لم ينزع من بين أيديهم فهناك يقول الله عز وجل لم يدخلوها وهم يطمعون وكان الطمع للنور الذي بين أيديهم ثم ادخلوا الجنة وكانوا اخر اهل الجنة دخولا واماما اخرج هناد عن مجاهد قال اصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء والأعراف سور بين الجنة والنار فلعل المراد من القوم الصالحين المؤمنين الفقهاء العلماء ارتكبوا السيئات بحيث تساوت حسناتهم خلطوا عملا صالحا واخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم واماما اخرج البيهقي عن ابى مجلز انه قال الأعراف مكان مرتفع عليه رجال من الملئكة يعرفون اهل الجنة بسيماهم واهل النار بسيماهم فليس بشئ إذ لا يقال للملئكة رجال وقد سماهم الله تعالى برجال وايضا يرده ما روينا من الأحاديث واماما قال بعضهم انهم رجال من الأنبياء او الأولياء او الشهداء فيطلعون على اهل الجنة واهل النار جميعا ويطلعون احوال الفريقين فيرده ما روينا من الأحاديث وما سيتلى عليك من الآيات واماما قال بعضهم انهم أطفال المشركين يرده قوله تعالى رجال وما ذكرنا من الأحاديث يَعْرِفُونَ اى اصحاب الأعراف كُلًّا اى كل فريق من المؤمنين والكافرين بِسِيماهُمْ اى بعلامتهم يعرفون اهل الجنة ببياض وجوههم واهل النار بسواد وجوههم مشتق من سام ابله إذا أرسلها فى المرعى معلمة او من وسم على القلب كالجاه من الوجه وَنادَوْا اصحاب الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعنى سلّموا عليهم إذا نظروا إليهم لَمْ يَدْخُلُوها يعنى اصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وَهُمْ يَطْمَعُونَ دخولها حيث خلصوا من النار قال الحسن لم يطمعهم الا للكرامة(3/356)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
يريدها بهم والجملة مستانفة لا محل لها من الاعراب كانّ سائلا سأل عن اصحاب الأعراف فقال لم يدخلوها وهم يطمعون وجاز ان يكون حالا من الضمير المرفوع فى نادوا او صفة لرجال ومن قال ان اصحاب الأعراف الأنبياء والملئكة قال هذه الجملة حال من مفعول نادوا يعنى اصحاب الجنة.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ اى أبصار اصحاب الأعراف فيه اشارة الى ان صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيدوا تِلْقاءَ ظرف اى الى جانب أَصْحابِ النَّارِ ورأوا ما هم فيه من العذاب تعوذوا بالله وفرعوا الى رحمته قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى لا تجعلنا فى النار مع الكافرين سياق الاية تدل على ان اصحاب الأعراف فى خوف ورجاء وذلك مقتضى استواء حسناتهم ولا يتصور ذلك فى الأنبياء والشهداء والصلحاء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا كانوا عظماء فى الدنيا من الكفار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا اى اصحاب الأعراف بيان لنادى ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ اى كثرتكم واعوانكم وأولادكم وجمعكم المال وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق او على الخلق قال الكلبي ينادون على السوريا وليد بن مغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ثم ينظرون الى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول اصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار.
أَهؤُلاءِ يعنى هؤلاء الضعفاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ وحلفتم لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ اى حلفتم انهم لا يدخلون الجنة ثم يقال لاهل الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ قلت وجاز ان يكون هذا من تتمة كلام اصحاب الأعراف يعنى هؤلاء الضعفاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة وقد قيل لهم ادخلوا الجنة الاية قال البغوي وفيه قول اخر وهو ان اصحاب الأعراف إذا قالوا لاهل النار قالوا قال لهم اهل النار ان دخل أولئك الجنة فانتم لم تدخلوها فيعيرونهم ويقسمون انهم يدخلون النار فيقول الملئكة الذين حبسوا اصحاب الأعراف على الصراط لاهل النار أهؤلاء يعنى اصحاب الأعراف الذي أقسمتم يا اهل النار انه لا ينالهم رحمة الله ثم قالت الملئكة لاصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون فيدخلون الجنة قال البغوي قال عطاء عن ابن عباس رضى الله عنهما انه لما صار اصحاب الأعراف الى الجنة طمع اهل النار فى الفرج وقالوا يا رب(3/357)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
ان لنا قرابات من اهل الجنة فاذن لنا حتى نريهم ونكلمهم فنظروا الى قراباتهم فى الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ولم يعرفوا اهل الجنة اهل النار بسواد وجوههم.
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ بأسمائهم واخبروهم بقراباتهم أَنْ أَفِيضُوا اى صبوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الاشربة ليلا يم الاضافة او من طعام الجنة فهو من قبيل علفتها تبنا وماء باردا قالُوا يعنى اصحاب الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما اى الماء والطعام عَلَى الْكافِرِينَ قال البيضاوي معناه منعهما عنهم منع المحرم على المكلف وقال فى المدارك هو تحريم منع كما فى قوله وحرمنا عليه المراضع قلت ومنه قوله تعالى حرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون واخرج ابن ابى الدنيا والضيا كلاهما فى صفة النار عن زيد بن رفيع ان اهل النار إذا دخلوا النار عكوا الدموع زمانا ثم بكوا الفيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء فى الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيعرفون به أصواتهم يا اهل الجنة يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش فافيضوا علينا من الماء او مما رزقكم الله فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم يجيبهم أنتم ماكثون فيئسون من كل خير واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس رضى الله عنهما فى هذه الاية قال ينادى الرجل أخاه فيقول يا أخي أغثني فانى قد أحرقت فيقول ان الله حرمهما على الكفرين.
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مجرور وصفا للكافرين او مرفوع او منصوب على الذم دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً بتحريم البحيرة وأخواتها والمكاء والتصدية حول البيت والطواف عريانا وأكل الميتة والاستسقام بالأزلام وغير ذلك من الأمور التي كانوا يفعلونها فى الجاهلية وقيل معناه اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا قال البيضاوي اللهو صرف الهم بما لا يحسن ان يصرف به واللعب طلب الفرح بما لا يحسن ان يطلب به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ونسوا الاخرة وزعموا ان لا حيوة الا الحيوة الدنيا ولا الخير ولا الشر الا فيها فَالْيَوْمَ يوم القيامة نَنْساهُمْ نتركهم ترك الناسي فى النار كَما نَسُوا اى نسيانا كنسيانهم لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا حتى تركوا العمل بما ينفعهم يومهم هذا وَما كانُوا وكما كانوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعنى ككونهم جاحدين باياتنا منكرين انها من عند الله.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعنى القران فَصَّلْناهُ بينا معانيه وميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه وأوضحنا العقائد الحقة من الباطلة عَلى عِلْمٍ(3/358)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما او عالمين بمصالحهم فهو حال من فاعل فصلناه او مشتملا على علم فهو حال من مفعوله هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ حال من مفعول فصلناه.
هَلْ يَنْظُرُونَ اى هل ينتظرون فى الايمان بالقران إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعنى الا ما يؤل اليه امره من تبين صدقة وظهور ما ينطق به من الوعد والوعيد قال مجاهد جزاءه يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ اى جزاءه وما يؤل اليه أمرهم وذلك يوم موتهم او يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ اى تركوه ترك الناسي ولم يؤمنوا به قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ قد تبين لهم انهم جاؤا بالحق فاعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ عطف على جملة قبلها داخلة معها فى حكم الاستفهام كانه قيل فهل لنا من شفعاء او هل نرد ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كقولك ابتداء هل يضرب زيدا وعطف على تقدير هل يعنى هل يشفع لنا شافع او هل نرد الى الدنيا فَنَعْمَلَ جواب للاستفهام الثاني غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نوحد الله ونترك الشرك والمعاصي قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم فى الكفر وَضَلَّ وبطل واضمحل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ان الله تعالى أمرهم به او فى ادعاء الشريك.
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى مقدار ستة ايام من ايام الدنيا وقيل ستة ايام كايام الاخرة كل يوم الف سنة قال سعيد بن جبير كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض فى لمحة ولحظة فخلقهن فى ستة ايام تعليما لخلقه التثبت والتأني فى الأمور وقد جاء فى الحديث التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان رواه البيهقي فى شعب الايمان مرفوعا عن انس ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال البغوي اولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء واما اهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف يجب على الرجل الايمان به ويكل العلم فيه الى الله عز وجل سأل رجل مالك بن انس عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى كيف استوى فاطرق راسه مليا ثم قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك الا ضالا ثم امر به فاخرج وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعيد وسفيان بن عيينة وعبد الله وغيرهم من علماء اهل السنة فى هذه الآيات التي جاءت فى الصفات المتشابهة أمروها كما جاءت بلا كيف والعرش فى اللغة سرير الملك وهو جسم عظيم من عظائم المخلوقات كريم على الله(3/359)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
تعالى لاختصاصه بانواع من التجليات ولذا سمى بعرش الرحمن وأضيف اليه تعالى تشريفا وتكريما كما أضيف اليه الكعبة وسمى بيت الله وقد ذكرنا بعض ما ورد فيه من الاخبار فى اية الكرسي فى سورة البقرة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به او لان اللفظ يحتملهما وقال البغوي فيه حذف ويغشى النهار الليل ولم يذكر لدلالة الكلام عليه قرأ حمزة والكسائي وابو بكر ويعقوب يغشى بالتشديد هاهنا وفى سورة الرعد للدلالة على التكرير والباقون بالتخفيف يَطْلُبُهُ اى يعقبه فان أحدهما إذا كان يعقب الاخر ويخلفه فكانه يطلبه حَثِيثاً اى سريعا بلا مهلة وهو صفة مصدر محذوف اى طلبه حثيثا او حال من الفاعل بمعنى حاثا او المفعول بمعنى محثوثا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ اى مذللات بِأَمْرِهِ بقضائه وتصريفه قرأ ابن عامر برفع الاربعة على الابتداء والخبرية والباقون بنصب الثلاثة بالعطف على السموات ونصب مسخرات على الحال وكذلك فى سورة النحل أَلا لَهُ الْخَلْقُ جميعا لا خالق غيره وَالْأَمْرُ كله بيده يحكم ما يريد لا يجوز لاحد الاعتراض عليه قالت الصوفية المراد بالخلق والأمر عالم الخلق يعنى الجسمانية العرش وما تحته من السموات والأرض وما بينهما وأصولها العناصر الاربعة النار والهواء والماء والتراب ويتولد منها النفوس الحيوانية والنباتية والمعدنية وهى أجسام لطيفة سارية فى أجسام كثيفة وعالم الأمر يعنى المجردات من القلب والروح والسر والخفي والأخفى التي هى فوق العرش سارية فى النفوس الانسانية والملكية والشيطانية سريان الشمس فى المرآة سميت بعالم الأمر لان الله تعالى خلقها بلا مادة بامره كن قال البغوي قال سفيان بن عيينة فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ اى تعالى الله بالوحدانية فى الالوهية وتعظم بالتفرد فى الربوبية مشتق من البركة بمعنى النماء والزيادة ومن لوازمه العظمة قيل معناه ان البركة يكتسب ويناول بذكره وعن ابن عباس رضى الله عنهما معناه قال جاء بكل بركة وقال الحسن البركة من عنده وقيل تبارك اى تقدس والقدس الطهارة وقيل تبارك الله تعالى اى باسمه تبرك فى كل شىء قال المحققون معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال واصل البركة الثبوت ومنه البركة ويقال تبارك الله ولا يقال على الله المبارك والمبارك توفيقا على السمع.
ادْعُوا رَبَّكُمْ يعنى اذكروه واعبدوه واسألوا منه حوائجكم تَضَرُّعاً حال من فاعل ادعوا اى ذوى تضرع او متضرعين تفعل من الضرع من ضرع الرجل ضراعة ضعف وذل فهو ضارع وضرع وتضرع(3/360)
اظهر الضراعة فى القاموس ضرع اليه يثلث ضرعا محركة وضراعة خضع وذل واستكان وَخُفْيَةً قرأ ابو بكر بكسر الخاء والباقون بالضم اى ذوى إخفاء او مخفين فان الإخفاء دليل الإخلاص وابعد من الرياء اعلم ان الذكر مطلقا عبادة سواء كان جهرا إذا لم يخالطه الرياء او سرا عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول الله تعالى انا عند ظن عبدى بي وانا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وان ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم متفق عليه فان هذا الحديث يفيد ذكر الجهر والخفي كليهما وزعم بعض الناس ان هذا الحديث يدل على افضلية الجهر من الخفي وليس بشئ إذ لا مزية لذكر الله عبده فى ملأ على ذكره إياه فى نفسه بل الأمر على العكس ويدرك ذوق هذا الكلام من ذاق كاس العشق وقوله تعالى فاذكروا الله كذكركم اباءكم او أشد ذكرا ليس فيه التشبيه فى الجهر بل فى إكثار الذكر ثم اجمع العلماء على ان الذكر سرا هو الأفضل والجهر بالذكر بدعة الا فى مواضع مخصوصة مسّت الحاجة فيها الى الجهر به كالاذان والاقامة وتكبيرات التشريق وتكبيرات الانتقال فى الصلاة للامام والتسبيح للمقتدى إذا ناب نائبة والتلبية فى الحج ونحو ذلك ذكر ابن الهمام فى حواشى الهداية ان أبا حنيفة أخذ فى تكبيرات التشريق بقول ابن مسعود انه كان يكبر من صلوة الفجر يوم عرفة الى صلوة العصر من يوم النحر الحديث رواه ابن ابى شيبة والصاحبان أخذا بقول على رضى الله عنه انه كان يكبر بعد الفجر يوم العرفة الى صلوة العصر من اخر ايام التشريق رواه ابن ابى شيبة وكذا روى محمد بن الحسن عن ابى حنيفة بسنده عنه فقال ابن الهمام من جعل الفتوى على قولهما فقد خالف مقتضى الترجيح فان الخلاف فيه مع رفع الصوت لا فى نفس الذكر والأصل فى الاذكار الإخفاء والجهر به بدعة فاذا وقع التعارض فى الجهر يرجح الأقل ويدل على كون ذاكر السر أفضل ومجمعا عليه من الصحابة من تبعهم قول الحسن ان بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون فى الدعاء وما يسمع لهم صوتا ان كان الا همسا بينهم وبين ربهم وذلك ان الله سبحانه وتعالى يقول ادعوا ربكم تضرعا وخفية وان الله ذكر عبدا صالحا ورضى فعله فقال إذ نادى ربه نداء خفيا وايضا يدل على فضل الذكر الخفي حديث سعد بن ابى وقاص قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفى رواه احمد وابن حبان فى صحيحه والبيهقي فى شعب الايمان وحديث ابى موسى قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خيبر اشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير فقال رسول الله صلى الله(3/361)
عليه واله وسلم اربعوا «1» على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا رواه البغوي قلت هذا الحديث وان كان دالا على افضلية الذكر الخفي لكن قوله اربعوا على أنفسكم يدل على ان النهى عن الجهر والأمر بالإخفاء انما هو شفقة لا لعدم جواز الجهر أصلا وكذا حديث خير الذكر الخفي (فصل) اعلم ان الذكر على ثلثة مراتب أحدها الجهر ورفع الصوت بها وذلك مكروه اجماعا الا إذا دعت اليه داعية واقتضته حكمة فحينئذ قد يكون أفضل من الإخفاء كالاذان والتلبية ونحو ذلك ولعل الصوفية الچشتية قدس الله تعالى أسرارهم اختاروا الجهر للمبتدى لاقتضاء حكمة وهى طرد الشيطان ودفع الغفلة والنسيان وحرارة القلب واشتغال نائرة الحب بالرياضة ومع ذلك يشترط لذلك الاحتراز عن الرياء والسمعة ثانيها الذكر باللسان سرّا وهو المراد بقوله صلى الله عليه واله وسلم لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله رواه الترمذي وابن ماجة وروى احمد والترمذي قيل اى الأعمال أفضل قال ان تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم ان لله ملئكة يطوفون فى الطرق يلتمسون اهل الذكر فاذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا الى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم الى سماء الدنيا قال فيسئلهم ربهم وهو اعلم بهم ما يقولون عبادى قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال فيقول هل رأونى قال فيقولون لا والله ما رأوك قال فيقول كيف لو رأونى قال فيقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا واكثر لك تسبيحا قال فيقول فما يسئلون قالوا يسئلونك الجنة قال فيقول وهل رأوها قال فيقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو انهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة قال فمم يتعوذون قال يقولون من النار قال فيقول فهل راوها قال يقولون لا والله يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فاشهدوا انى قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملئكة فيهم فلان ليس بينهم انما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم رواه البخاري ومسلم نحوه وثالثها الذكر بالقلب والروح والنفس وغيرها الذي لا مدخل فيه للسان وهو الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة اخرج ابو يعلى عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لفضل الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة سبعون ضعفا إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق لحسابهم وجاءت
__________
(1) اربعوا اى ارفقوا واقتصروا 12 النهاية(3/362)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
الحفظة بما حفظوا وكتبوا قال لهم انظروا هل بقي له من شىء فيقولون ما تركنا شيئا مما علمناه وحفظناه الا وقد أحصيناه وكتبناه فيقول الله تعالى ان له حسنا لا تعلمه وأخبرك به هو الذكر الخفي قلت وهذا الذكر هو الذي لا انقطاع لها ولا فتور فيها إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قيل المعتدين فى الدعاء كمن سأل منازل الأنبياء او الصعود الى السماء او دخول الجنة قبل ان يموت ونحو ذلك مما يستحيل عقلا او عادة او يسأل امور الا فائدة فيها معتدا بها روى البغوي بسنده من طريق ابى داود السجستاني عن ابى نعامة ان عبد الله بن مغفل يسمع ابنه يقول اللهم انى أسئلك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بنىّ سل الله الجنة وتعوذ به من النار فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول انه سيكون فى هذه الامة قوم يعتدون فى الطهور والدعاء كذا روى ابن ماجة وابن حبان فى صحيحه وروى ابو يعلى فى مسنده من حديث سعد قوله صلى الله عليه واله وسلم سيكون قوم يعتدون فى الدعاء حسب المرأ ان يقول اللهم انى أسئلك الجنة وما قرب إليها من قول او عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول او عمل قال ابو يعلى لا أدرى قوله وحسب المرأ ان يقول اللهم الى آخره هو من قول سعد او من قول النبي صلى الله عليه واله وسلم وقال عطية هم الذين يدعون على المؤمنين ما لا يحل فيقولون اللهم العنهم اللهم العنهم والبالغ فى هذا الاعتداء الروافض الذين يلعنون الصحابة وبعض اهل البيت وقال ابن جريج الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح لما مر فى حديث ابى موسى قوله صلى الله عليه واله وسلم اربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا قلت الاعتداء التجاوز عن حدود الشرع فيعم جميع اقسام الاعتداء منها ما ذكر ومنها غير ذلك نحو ان يدعو ما فيه ثم او قطيعة رحم او يقول دعوت فلم يستجب لى او يدعوا الله بأسماء لم يرد الشرع بها او يدعو قائلا انه يستجاب له.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي والبغي والدعاء الى غير طاعة الله بَعْدَ إِصْلاحِها اى إصلاح الله سبحانه إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء الى طاعة الله عز وجل وبالنهى عن الاعتداء فى الدعاء قال البغوي هذا معنى قول الحسن والسدى والضحاك والكلبي وقال عطية لا تعصوا فى الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم فعلى هذا معنى قوله تعالى بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب وَادْعُوهُ خَوْفاً اى خائفين من رد الدعاء لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وَطَمَعاً اى طامعين فى الاجابة تفضلا وإحسانا لفرط رحمة إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ(3/363)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
مِنَ الْمُحْسِنِينَ
ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به الى الاجابة واشارة الى ان رد الدعاء من الكريم الجواد ليس الا لشوم أعمالكم وترك إحسانكم ذكر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الرجل يطيل السفر اشعث اغبر يمديده الى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فانّى يستجاب لذلك رواه مسلم والترمذي من حديث ابى هريرة وروى مسلم والترمذي عن ابى هريرة عنه صلى الله عليه واله وسلم قال لا يزال يستجاب العبد ما لم يدع بإثم او قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل يا رسول الله وما الاستعجال قال يقول فلم أر تستجاب لى فيستحسر عند ذلك ويدع عند ذلك وروى احمد عن عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال القلوب اوعية وبعضها اوعى من بعض فاذا سألتم الله عز وجل ايها الناس فاسئلوه وأنتم موقنون بالاجابة فان الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل وعند الترمذي من حديث ابى هريرة نحوه فان قيل قد ذكرت انه لا يجوز لقائل ان يقول يستجاب دعاى البتة وقد ورد فى الحديث فاسئلوه وأنتم موقنون بالاجابة فكيف التوفيق قلت معنى أنتم موقنون فى الاجابة ان الله تعالى جواد كريم لا يتصور منه البخل وليس عدم الاجابة الا لاجل غفلتكم ومعصيتكم فالطمع فى الاجابة واليقين بها نظرا الى رحمته وجوده تعالى وعدم التيقن بالاجابة وخوف الرد لاجل شوم أنفسنا فلا منافاة وتذكير قريب لان الرحمة بمعنى الرحم الثواب فيرجع النعت الى المعنى او لانه صفة محذوف اى امر قريب او للاضافة الى المذكّر او على التشبيه بالفعيل الذي هو المصدر كالنقيض او للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره قال ابو عمرو بن العلا القريب يكون بمعنى القريب من حيث النسب ومن حيث المسافة فيقول العرب هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وقريب منك إذا كان بمعنى المسافة.
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على الوحدة والباقون على الجمع بُشْراً قرأ عاصم بالباء التحتانية الموحدة المضمومة واسكان الشين حيث وقع وهو تخفيف بشر بضم الشين جمع بشير يعنى انها تبشر بالمطر قال الله تعالى الرياح مبشرات وقرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بالنون مضمومة وضم الشين جمع نشور حيث وقع بمعنى ناشر قال الله تعالى والناشرات نشرا............... ..
............... ............... ....... وقرأ حمزة والكسائي بالنون مفتوحة واسكان الشين حيث وقع على انه مصدر فى موضع الحال بمعنى ناشر او مفعول مطلق فان(3/364)
الإرسال والنشر متقاربان بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام نعمته يعنى المطر فان الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول الريح من روح الله يأتي بالرحمة والعذاب فاذا رايتموه فلا تسبوها واسئلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها رواه البخاري فى الأدب وابو داود والحاكم وصححه ورواه البغوي من طريق الشافعي وعبد الرزاق حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ اى حملت الرياح واشتقاقه من القلة فان المقل للشئ يستقله سَحاباً ثِقالًا بالماء جمعه لان السحاب بمعنى السحائب سُقْناهُ اى السحاب أفرد الضمير نظرا الى لفظه لِبَلَدٍ اى لاجله او لاحيائه او لسقيه وقيل معناه الى بلد مَيِّتٍ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد والباقون بالتخفيف والمراد بالميت ما لا نبات فيه فَأَنْزَلْنا بِهِ اى بالبلد والباء للسببية او بالسحاب او بالسوق او بالريح والباء للالصاق الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالبلد او بالسحاب او بالسوق او بالريح او بالماء فاذا كان الضمير للبلد فالباء للظرفية والا فللسببية مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ اى كاخراج الثمرات او كاحياء البلد الميت نُخْرِجُ الْمَوْتى من القبور لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتستدلون بقدرته تعالى على خلق ما خلق فى الدنيا على قدرته على إعادة ما يريد إعادته فى الاخرة قال البغوي قال ابو هريرة وابن عباس إذا مات الناس كلهم بالنفخة الاولى أرسل الله عليهم مطرا كمنى الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون فى قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون فى قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم فى رؤسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا وفى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عاما قال أبيت ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شىء الا يبلى الا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة واخرج ابن ابى داود فى البعث هذا الحديث وفيه بين النفختين أربعون عاما فيمطر الله فى تلك الأربعين واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال يسيل واد من اصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعون عاما فينبت منه كل خلق بلى من الإنسان او طير او دابة ولو مر عليهم مارّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم ترسل الأرواح فتزوج(3/365)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
بالأجساد فذلك قول الله تعالى فاذا النفوس زوجت واخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه قال الحليمي اتفقت الروايات على ان بين النفختين أربعون سنة كذا اخرج ابن المبارك عن الحسن مرسلا.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعنى الأرض الكريمة التربة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيته وتيسيره وهو فى موضع الحال عبر به عن كثرة نباته وحسنه وجلالة نفعه كما يدل عليه ما يقابله فكانه قال يخرج نباته حسنا وافيا بإذن ربه وَالبلد الَّذِي خَبُثَ يعنى الأرض الخبيثة السبخة والحرة او نحو ذلك لا يَخْرُجُ نباته فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه فصار مرفوعا مستترا إِلَّا نَكِداً الا قليلا لا منفعة فيه فى القاموس النكد بالضم قلة العطاء وبفتح وعطاء منكود قليل يقال نكد عيشهم كفرح اشتد وعسر والبير قل ماءها ونكد زيد حاجة عمرو منعه إياه وفلانا منعه ما ساله او لم يعطه الا اقله ورجل نكد شوم عسر كَذلِكَ اى تصريفا مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ نرددها ونكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله وهم المؤمنون لما كانت الآيات السابقة لبيان كمال قدرته تعالى على ما أراد وعموم فيضه ورحمته عقبها بهذه الاية لبيان تفاوت الاستعدادات فى قبول الفيض من المبدأ الفياض ليظهر ان النقصان انما هو من جهة المتأثر كما ان نبات الأرض يتفاوت بتفاوت استعداد الأرض مع اتحاد فيضان المطر كذلك تصريف الآيات ونصب الدلايل وبعث الرسل وان كان رحمة للعالمين عامة لكن الانتفاع بها مختص بالمؤمنين الشاكرين فانهم لحسن استعداداتهم المستفادة من ظلال اسم الله الهادي يهتدون بها ويتفكرون فيها ويعتبرون بها روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طايفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلاء والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طايفة اخرى انما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه فى دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك راسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.
لَقَدْ أَرْسَلْنا جواب قسم محذوف اى والله لقد أرسلنا ولا تكاد تطلق هذا اللام الا مع قد لانها مظنة التوقع فان المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهو نوح بن لامك وقيل لمك بن متثولخ وامه عونة وقيل قينوس بنت براليك بن قشولخ وعند بعضهم متوشخ بن خنوخ وقيل أخنوخ وهو إدريس عليه السلام(3/366)
وهو أول نبى خط بالقلم ابن مهليل وقيل مهلائيل بن قينن وقيل قينان وقيل قانن بن انوش وقيل مانيش بن شيث عليه السلام بن آدم عليه السلام وفى المستدرك عن ابن عباس قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كذا روى الطبراني عن ابى ذر مرفوعا ومما ذكرنا من سلسلة النسب يظهر ان نوحا بعد إدريس عليهما السلام كذا ذكر البغوي واسم نوح سكن لان الناس سكنوا اليه بعد آدم وقيل اسمه شاكر وقيل يشكر وذكر السيوطي فى الإتقان نقلا عن المستدرك للحاكم ان اسمه عبد الغفار واكثر الصحابة على انه قيل إدريس وانما سمى نوحا لكثرة نوحه على نفسه وقومه قيل كان نوحه لهول القيامة وقيل انه راى كلباسئ المنظر فقال له زنم إقليما اى كلب السوء فانطقه الله تعالى وقال العيب منى او من خالقى فلما سمعه من الكلب أغمي عليه فلما أفاق كثر النوح على نفسه وذكر البغوي انه مر بكلب مجذوم فقال اخسأ يا قبيح فاوحى الله تعالى اعبتنى أم عبت الكلب وقيل ناح لدعوته على قومه بالهلاك وقيل لمراجعة ربه فى شان ابنه كنعان والله اعلم بعث الله تعالى نوحا وهو ابن أربعين سنة كذا قال ابن عباس فى المستدرك عنه مرفوعا بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة فلبث فى قومه الف سنة الا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وقيل بعث وهو ابن خمسين سنة وعاش بعد الطوفان اربعمائة وخمسين فجميع عمره الفا واربعمائة وخمسين وقيل بعث وهو ابن اربعمائة وخمسين او ستين كذا فى شرح خلاصة السير وقيل بعث وهو ابن مائتى وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتى وخمسين سنة وكان عمره الفا واربع مائة وخمسين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة وذكر ابن جرير ان تولد نوح كان بعد وفاة آدم بثمانمائة وستة وعشرين سنة قلت فعلى هذا وفاة نوح من بدو خلق آدم بعد الفين وثمانمائة وست وخمسين سنة لما فى الحديث ان آدم عمره الف سنة الا أربعين عاما التي وهبها لابنه داود عليهم السلام كما سيذكر فى حديث فى قصة إخراج ذرية آدم من صلبه وفى تهذيب النووي انه أطول الأنبياء عمرا فَقالَ نوح لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ ابو جعفر والكسائي بخفض غيره حملا على لفظ الا له إذا كان قبله جارة حيث وقع ووافقها حمزة فى سورة فاطر هل من اله غير الله والباقون بالرفع حملا على المحل كانه قيل ما لكم اله غيره فلا تعبدوا معه غيره إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ ان لم تعبدوا الله وحده عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(3/367)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
اى يوم القيامة او يوم الطوفان.
قالَ الْمَلَأُ اى الاشراف فانهم يجتمعون على رأى فيملأون العيون رواء والنفوس جلالة مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ اى زوال عن الحق مُبِينٍ بين.
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لم يقل ضلال حتى يكون ابلغ فى نفى الضلال عن نفسه اى ليس فى شىء من الضلال وبالغ فى النفي لما بالغوا فى الإثبات وعرض لهم به يعنى بل أنتم فى ضلال عن الحق وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك لتاكيد نفى الضلال لان كونه رسولا من الله مبلغا لرسالاته فى معنى كونه على أقصى الغايات من الهدى والصراط المستقيم.
أُبَلِّغُكُمْ قرأ ابو عمرو بالتخفيف من الإبلاغ والباقون بالتشديد من التبليغ حيث كان رِسالاتِ رَبِّي جمع الرسالات لاختلاف أوقاتها او لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والاحكام او لان المراد بها ما اوحى اليه والى الأنبياء كصحف شيث وإدريس عليهم السلام قوله أبلغكم كلام مستانف لبيان كونه رسولا من الله وَأَنْصَحُ لَكُمْ النصح تحرى قول او فعل فيه صلاح وخير لصاحبه قال البغوي ان يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه وهو متعدى بنفسه وباللام لكن فى زيادة اللام دلالة على إمحاض النصح لهم وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ اى ذاته وقدرته على الثواب والعذاب وهذه بطشة بحيث لا يطاق من أحد رده او من جهته بالوحى ما لا تَعْلَمُونَ اى أشياء لا علم لكم بها.
أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف يعنى أكذبتمونى وعجبتم من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ قال ابن عباس موعظة وقيل بيان وقيل رسالة عَلى رَجُلٍ اى منزلا على رجل مِنْكُمْ اى من جملتكم او من جنسكم فانهم كانوا يتعجبون من إرسال الله تعالى البشر ويقولون لو شاء الله لانزل ملئكة ما سمعنا بهذا فى ابائنا الأولين لِيُنْذِرَكُمْ اى ليخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا من عذاب الله الموعود على الكفر والمعاصي بسبب الانذار وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالتقوى أورد حرف الترجي للدلالة على ان التقوى غير موجب للترحم بل الترحم من الله تفضل وان المتقى لا ينبغى ان يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله اخرج ابو نعيم عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان الله تعالى اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا انا صب عند الحساب يوم القيامة أشاء ان أعذبه الا عذبته قل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة و(3/368)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
لا أبالي.
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ يعنى نوحا من الطوفان وَالَّذِينَ مَعَهُ وهم أربعون رجلا وأربعون امرأة وقيل ثمانية وقيل عشرة وقيل اثنان وسبعون وقيل ثلثة بنيه سام وحام ويافث وثلث أزواجهم وقيل ثلثة ابنائه وستة من أمن به فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه او بانجينا او حال من الموصول او الضمير فى معه وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ اى كفارا عميت قلوبهم عن معرفة الله وعن ادراك الحق حقا والباطل باطلا أصله عميين فخفف.
وَإِلى عادٍ قبيلة وهم عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح وهو عاد الاولى أَخاهُمْ فى النسب لا فى الدين عطف على نوحا الى قومه هُوداً عطف بيان لاخاهم وهو هود بن عبد الله بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص المذكور وقال ابن اسحق هو ابن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح قال الشيخ ابو بكر فى شرح خلاصة السير أن هودا عليه السلام اسمه عابر بفتح الباء الموحدة وقيل بكسرها على وزن ناصر وقيل عيبر بالعين المفتوحة والياء التحتانية المثناة الساكنة والباء الموحدة المفتوحة وقيل بالغين المعجمة بدل المهملة ابن شالخ بن قينان بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام كذا فى جميع التواريخ والأنساب الا ما شذ عن بعض ان هودا هو هود بن خالد بن الخلود بن العيص بن العمليق بن عاد بن عوض بن ارم بن سام والله اعلم وأم هود مكعبة بنت عويلم بن سام بن نوح وكان نور النبي صلى الله عليه واله وسلم ساطعا فى جبين هود فلما رأوا ذلك النور فى جبينه قالوا ان هذا رجل تعبد الله تعالى وحده وتكسر الأصنام وعظموه ولم يكن بعده نبى مائة سنة الى زمان صالح عليه السلام وكان ذلك الزمان ملوك وأقوام يعبدون الأصنام وبعضهم يعبدون الشمس وآخرون يعبدون النار الى ان بعث الله صالحا عليه السلام الى ثمود وكان هود على شريعة نوح عليهما السلام وبلغ من العمر اربعمائة سنة وقيل اربعمائة وستين سنة وفى التاريخ الشامي انه قال ابن حبيب انه عاش مائة وأربعا وثلثين سنة وقال ابن الكلبي اربعمائة وثلثا وستين وامه مرجانة وكانت من الطاهرات وقبره بحضرموت وقيل بمكة انتهى كلام الشيخ ابى بكر قال البغوي روى عن على ان قبر هود بحضرموت فى كثيب احمر وقال عبد الرحمن بن سابط بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وان قبر هود وصالح وشعيب فى تلك البقعة ويروى ان نبيّا من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه الى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا والمراد بالأخ على ما ذكر ابن اسحق فى نسب هود وذكر الشيخ ابو بكر واحدا من جنسهم وانما جعل منهم لانهم افهم لقوله واعرف بحاله(3/369)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
وارغب فى اقتفائه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استأنف به ولم يعطف كما فى قصة نوح حيث قال فقال كانه جواب سائل قال فما قال لهم حين أرسل وكذلك جوابهم أَفَلا تَتَّقُونَ عذاب الله وكان قومه اقرب من قوم نوح.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملأ بالذين كفروا للتقييد فان من اشراف قوم هود من أمن به منهم مرتد بن سعد ولم يكن فى اشراف قوم نوح مؤمن إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ اى خفة عقل حيث نهجر دين قومك وتدعى امرا مستحيلا يعنى رسالة الله تعالى جعلت السفاهة ظرفا مجازا يعنى انك متمكن فيها غير منفك عنها وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فى ادعائك الرسالة.
قالَ هود يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ فيما أدعوكم اليه أَمِينٌ على الرسالة ذكر هاهنا صيغة اسم الفاعل لقولهم انا لنظنك من الكاذبين ليقابل الاسمية الاسمية قال الكلبي معناه كنت فيكم قبل اليوم أمينا فلا وجه لكم لسوء الظن فىّ بالكذب وفى اجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم المسبّة بالحلم وحسن الأدب والاعراض عن مقابلتهم بمثل ما قالوا مع علمهم بان خصومهم أضل الناس وأسفهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وجذب القلوب الى الهداية واخبار الله تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء أكذبتمونى.
وَعَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ إهلاك قَوْمِ نُوحٍ فى الأرض وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً اى طولا وقوة قال الكلبي والسدى كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير منهم سبعون ذراعا وقال ابو حمزة اليماني سبعون ذراعا وعن ابن عباس ثمانون ذراعا وقال مقاتل كان طول كل رجل اثنا عشر ذراعا قال وهب كان راس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل ليفرخ فيه الضباع وكذلك مناخرهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ اى نعمه واحدها الىّ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اى لكى يفضى بكم ذكر النعمة شكرها المودي الى الفلاح.
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام ومعنى المجيء اما المجيء من مكان اعتزل من قومه او من السماء على التهكم او القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبنى فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المدلول عليه فى قوله أفلا تتقون او يكون مذكورا صريحا فى كلامه عليه السلام إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.
قالَ هود قَدْ وَقَعَ(3/370)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
عَلَيْكُمْ
اى قد وجب او حق عليكم او نزل عليكم على ان المتوقع المعلوم كالواقع مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ اى عذاب مشتق من الارتجاس وهو الاضطراب وقيل السين مبدلة من الزاء وفى الصحاح رجس ورجز الصوت الشديد وَغَضَبٌ اى ارادة انتقام أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ اى أشياء مسميات سَمَّيْتُمُوها الهة يعنى الأصنام او يقال فى اسماء سميتموها لا حقيقة لها وليس تحتها مسميات كما تقول الفلاسفة بالعقول العشرة واهل الهند ديبى وبهواني ونحو ذلك يزعمون الأصنام حاكية عنها او يزعمونها حالة الأصنام أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بدل من الضمير المرفوع فى سميتموها ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ من حجة وبرهان تدل على انها الهة او مستحقة للعبادة ومبنى هذا القول انهم كانوا يعتقدون لوجود الله سبحانه وكونه خالقا للسموات والأرض وكانوا يزعمون الأصنام شركاء لله فى الالوهية والخالقية او فى استحقاق العبادة لكونها شفعاء عند الله فقال نبى الله صلى الله عليه واله وسلم هذا الذي تزعمون امر لا دليل عليه انما هو من مخترعاتكم او مخترعات ابائكم الجهال فَانْتَظِرُوا نزول العذاب الذي وعدتكم وتطلبونه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ كذلك.
فَأَنْجَيْناهُ يعنى هودا من العذاب الذي نزل بقومه وَالَّذِينَ مَعَهُ فى الدين يعنى المؤمنين به بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدابر الأصل او الكائن خلف الشيء وقطع الدابر عبادة عن الاستيصال وإهلاك كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ تعريض بمن أمن منهم وتنبيه على ان الفارق بين من نجا ومن هلك هو الايمان وقصة عاد على ما ذكر محمد ابن اسحق وغيرهم انهم كانوا ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف وهى رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد أفسدوا فى الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي أتاهم الله عز وجل وكانوا اصحاب أوثان يعبدونها يقال لها صدا وسمود والهبا فبعث الله تعالى إليهم هودا عليه السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فامرهم ان يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فكذبوه وقالوا من أشد منا قوة بنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين فلما فعلوا ذلك امسك الله عنهم المطر ثلث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس فى ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وطلبوا منه الفرج انابوا الى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم فيجتمع بمكة ناس كثير مختلفة الأديان كلهم معظمين لمكة واهل مكة يومئذ العماليق أبناء عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان(3/371)
سيدهم معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخير رجل من عاد فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وفدا منكم الى مكة فليستقر لكم فبعثوا له قيل بن عنز ويقيم بن هزال بن هزيل وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجثيمة بن الجيثر خال معاوية بن بكر ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن هاد الأكبر فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وكانوا أخواله واصهاره فاقاموا عنده شهرا يشربون الخمر ويغنيهم الجرادتان «1» قينتا لمعاوية بن بكر فكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما راى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي واصهارى وهؤلاء مقيمون عندى وهم ضيفى والله ما أدرى كيف اصنع بهم استحيى ان أمرهم بالخروج الى ما بعثوا اليه فيظنون انى ضيق من مقامهم وقد هلك من ورائهم من قومهم جهدا وعطشا فشكا ذلك من أمرهم الى فينته «2» الجرادتين فقالتا قل شعرا نغنيهم لا يدرون من قاله لعل ذلك يحركهم فقال معاوية بن بكر شعر
الا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقى ارض عاد ان عادا ... قد امسوا ما يبيتون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجوا ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نسائهم بخير ... فقد امست نسائهم غياما «3»
وان الوحش يأتيهم جهارا ... ولا يخشى لعادى سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتهم الجرادتان بهذا قال بعضهم لبعض يا قوم انما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم فقال مرثد بن مسعود بن عفير وكان قد أمن بهود عليه السلام سرا انكم والله لا تسقون بدعائكم ولكن ان أطعتم نبيكم وتبتم الى ربكم سقيتم فاظهر اسلام عند ذلك فقال شعر
__________
(1) فى النهاية الجرادتان هما مغنيتان كانتا بمكة فى الزمن الاول مشهورتان بحسن الصوت والغناء 12
(2) القينة المغنية 12
(3) الغيمة شدة العطش نهاية 12(3/372)
عصت عاد رسولهم فامسوا ... عطاشا ما يبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد ... فابصرنا الهدى وحلى العماء
وان اله هود هو الهى ... على الله التوكل والرجاء
فقالوا لمعاوية بن بكر احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقد من معنا مكة وخرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل ان يدعوا الله فيجابوا بشر مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعوا الله ووفد عاد يدعون فقال اللهم أعطني سوالى وحدي ولا تدخلنى فى شىء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل بن عنز راس وفد عاد فقال وفد عاد اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سوء لنا مع سؤله وقد كان تخلف عن وفد عاد حين دعوا لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال اللهم انى جئتك وحدي فى حاجتى فاعطنى سؤلى وسأل الله طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعايا الهنا ان كان هود صادقا فاسقنا فانا قد هلكنا فانشأ الله سحائب ثلثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحائب فقال قيل اخترت السحابة السوداء فانها اكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا يبقى من ال عاد أحد وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة الى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول الله عز وجل بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم تدمر كل شىء بامر ربها اى كل شىء مرت به وكان من ابصر ما فيها وعرف انها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدر فلما تبينت ما فيها صاحت ثم ضعفت فلما أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار امامها رجال يقودونها فسخر الله عليهم سبع ليال وثمانية ايام حسوما فلم تدع من عاد أحدا الا هلك واعتزل هود ومن معه من المؤمنين فى حظيرة «1» ما يصيبه ومن معه من الريح الا ما يلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس وانها لتمر من عاد بالظعن «2» فتحملهم بين السماء والأرض فتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة
__________
(1) حظيرة الموضع الذي يحاط عليه لتاوى اليه الغنم والإبل يقيها البرد والحرّة نهايه 12
(2) الظعينة الراحلة التي ترحل ويقال للهودج وللمرأة 12(3/373)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا قبل رجل على ناقته فى ليلة مقمرة هى ثالثة من مصاب عاد فاخبرهم الخبر فقالوا له فاين فاين فارقت هود وأصحابه فقال فارقتهم بساحل البحر فكانهم شكّوا فيما حدثهم به فقالت هرملة بنت بكر صدق ورب مكة وذكروا ان مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل بن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم قد أعطيتم مناكم فاختاروا لانفسكم الا انه لا سبيل الى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد اللهم أعطني صدقا وبرا فاعطى ذلك وقال لقمان أعطني يا رب عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر وكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة فياخذ الذكر منها لقوته حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى اتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه واما قيل فانه قال اختار ان لقنى ما أصاب قومى فقيل له انه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة فى البقاء بعدهم فاصابه الذي أصاب عادا من البلاء والعذاب فهلك قال السدى فبعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا الى الإبل والرجال تطيرهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فاهلكتهم فيها ثم أخرجتهم عن البيوت فلما اهلكهم الله أرسل عليهم طيرا سوداء فحملتهم الى البحر فالقتهم فيه وروى ان الله تعالى امر الريح فامالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية ايام لهم انين تحت الرمل ثم امر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم ورمت بهم فى البحر ولم يخرج ريح قط الا بمكيال الا يومئذ فانها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها.
وَإِلى ثَمُودَ قبيلة اخرى من العرب أبناء ثمود بن عاثر بن ارم بن سام قال ابو عمرو بن العلا سميت ثمود نقلة مائها وثمد الماء القليل وكان مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام الى واد القرى أَخاهُمْ فى النسب لا فى الدين صالِحاً عليه السلام عطف بيان وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح وقيل بن رباح بن عبيد بن حاذر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ حجة ظاهرة الدلالة على صدقى لكونها معجزة مِنْ رَبِّكُمْ كانه قيل ما تلك البينة فقال استينافا هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ أضافها اليه تعالى لتعظيمها ولانها جاءت فى الوجود من الله تعالى بلا وسائط الأسباب المعهودة ولذلك كانت اية مبتدأ او خبر وجاز ان يكون ناقة الله بدلا او عطف بيان والخبر لَكُمْ آيَةً نصب على الحال والعامل فيها(3/374)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
معنى الاشارة على تقدير كون ناقة الله خبرا وعلى التقدير الثاني لكم عامل فيه فَذَرُوها يعنى الناقة تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب «1» وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهى عن المس الذي هو مقدمة الاصابة بالسوء الجامع لانواع الأذى مبالغة فى النهى وازاحة للعذر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب للنهى.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ اسكنكم الله تعالى فِي الْأَرْضِ ارض حجر تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها اى تبنون فى سهول الأرض او سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والاجر قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ اى تثقبون فى الجبال وتجعلونها بُيُوتاً كانوا يسكنون فى الصيف فى بيوت الطين وفى الشتاء فى بيوت الجبال المنقورة فانتصاب بيوتا على المفعولية لتضمين تنحتون معنى تجعلون وجاز ان يكون منصوبا على الحال المقدرة كما فى قوله خطت هذا الثوب قميصا فان الجبل لا يكون بيتا حال التحت ولا الثوب قميصا حال الخياطة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا العثو أشد الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قالَ الْمَلَأُ قرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو والباقون بلا واو.
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعنى الاشراف والقادة الذين يتعظمون عن الايمان بصالح عليه السلام لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعنى الاتباع الذين استضعفوهم لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل ان كان الضمير لقومه وبدل البعض ان كان للذين أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه استهزاء قالُوا يعنى المؤمنين المستضعفين إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا عن قولهم نعم للاشعار بان كونه مرسلا ليس مما يشك فيه عاقل او يخفى على ذى راى.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على المقابلة ووضعوا أمنتم به موضع أرسل به ردا لما جعلوا معلوما مسلّما.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ اى نحروها قال الأزهري العقر هو قطع عرقوب «2» البعير ثم جعل النحر عقرا لان الناد من البعير يعقر ثم ينحر وفى القاموس العقر الجرح واثر فى قوائم الفرس والإبل وفى الصحاح عقر الدار والحوض أصلها ومنه عقرت النخل قطعته من أصلها وعقرت البعير نحرته أسند العقر الى جميعهم وان كان العاقر قذار بن سالف لانه كان برضاهم وقد كان قذار احمر ازرق قصيرا كما كان
__________
(1) العشب كلا الرطب 12 [.....]
(2) هو الوتر الذي خلف الكعبين من مفصل القدم والساق من ذوات الأربع وهى من الإنسان موضع العقب 12(3/375)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
فرعون كذلك قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لعلى أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك وَعَتَوْا العتو الغلو فى الباطل يقال عتى يعتوا عتوا إذا استكبر فى القاموس عتوا وعتيا وعتيا استكبر وجاوز الحد والمعنى استكبر عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ اى عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه السلام بقوله فذروها وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى زلزلة الأرض وحركتها واهلكوا بالصيحة والرجفة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ قيل أراد الدنيا وقيل أراد ارضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار جاثِمِينَ خامدين ميتين فى القاموس جثم الطائر والإنسان لزم مكانه فلم يبرح وقيل معناه ميتين قعودا يقال الناس جثم اى قعود لا حراكة بهم ولا يتكلمون قيل سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم.
فَتَوَلَّى اى اعرض عَنْهُمْ صالح وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فان قيل كيف خاطبهم بقوله أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم بعد ما اهلكوا بالرجفة قيل كما خاطب النبي صلى الله عليه واله وسلم قتلى بدر بعد ما القوا فى القليب روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى طلحة انه قال لما كان من يوم بدر الثالث امر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم براحلة فشد عليها رحلها ثم مشى ومعه أصحابه وقالوا ما نرى لينطلق الا لبعض حاجته حتى قام على سفير القليب فجعل يناديهم يا أبا جهل بن هشام ويا امية بن خلف يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة أيسركم انكم أطعتم الله ورسوله هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا فانى وجدت ما وعدني ربى حقا بئس عشيرة التي كنتم لنبيكم كذبتمونى وصدقنى الناس وقاتلتمونى ونصرنى الناس فجزاكم الله عنى من إصابة شرا خوفتمونى أمينا وكذبتمونى صادقا فقال عمر يا رسول الله أتناديهم بعد ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها فقال ما أنتم باسمع لما أقول منهم انهم الان يسمعون ما أقول لهم غير انهم لا يستطيعون ان يردوا علينا شيئا وقيل خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم وقيل فى الاية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم فقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى الاية فاخذتهم الرجفة وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب وغيرهما كذا اخرج ابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن ابى بكر بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان عادا لما أهلكت عمّرت ثمود(3/376)
بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمّروا حتى جعل أحدهم يبنى المسكن من المدر فينهدم والرجل حىّ فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا فى سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا فى الأرض وعبدوا غير الله فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه الله إليهم غلاما شابا فدعاهم الى الله عز وجل حتى شمط «1» لا يتبعه منهم الا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ واكثر لهم التحذير والتخويف سألوه ان يريهم اية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم اى اية تريدون قالوا تخرج معنا غدا الى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فى يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعوا الهتنا فان استجيب لك اتبعناك وان استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا باوثانهم الى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها ان لا يستجاب لصالح فى شىء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن جواس وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح اخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة فى ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل فان فعلت صدقناك وأمنا بك فاخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنتى ولتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه فتمخضت «2» الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وو براء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها الا الله تعالى عظ وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها فى العظم فامن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد اشراف ثمود ان يؤمنوا ويصدقوه فنهاهم ذواب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن ميمعر وكان كاهنهم وكانوا من اشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها فى ارض ثمود ترعى الشجرة وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا فاذا كان يومها وضعت الناقة راسها فى بير فى حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع راسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجح «3» فيحلبون ما شاؤا من لبن فيشربون ويدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر ان تصدر من حيث ترد تضيق عنها حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤا من الماء ويدخرون ما شاء واليوم الناقة فهم من ذلك
__________
(1) الشمط الشيب 12
(2) فتمخضت يعنى أخذها المخاض هو الطلق عند الولادة 12
(3) تتفجح اى تتباعد فخذيها الفجح تباعد ما بين الفخذين 12(3/377)
وكانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي اغنامهم وبقورهم وإبلهم فتهبط الى بطن الوادي فى حرة وجد به وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء فتهرب مواشيهم الى ظهر الوادي فى البرد والجدب فاضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن امر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فاجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكنى أم غنم وكانت امرأة ذواب بن عمرو وكانت عجوزة مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من ابل وبقر وغنم وامرأة اخرى يقال لها صدوف بنت المختار وكانت جميلة ذات مواش كثيرة وكانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما اضرتهما من مواشيهما فحملتا فى عقر الناقة فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قال لها اعقر الناقة وعرضت عليه نفسها ان هو فعل فابى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المختار وجعلت له نفسها على ان يعقر الناقة وكانت من احسن الناس وأكثرهم مالا فاجابها الى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف وكان رجلا احمر ازرق قصيرا يزعمون انه كان لزينة وانه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت أعطيك اى بناتي شئت على ان تعقر الناقة وكان قذار عزيزا منيعا فى قومه قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فى تفسير قوله تعالى إذا انبعث أشقاها انبعث رجل عزيز عازم منيع فى قومه مثل ابى زمعة رواه البخاري من حديث عبد الله بن زمعة فانطلق قذار بن سالف ومصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فاتبعهم سبعة نفر وكانوا تسعة رهط فانطلق قذار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قذار فى اصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع فى طريق اخر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من احسن الناس فاسفرت لقذار ثم زمرته فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن فى لبتها فنحرها وخرج اهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى اتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل اسمه فازه فاتى صالح وقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فاقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون اليه يا نبى الله انما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فان أدركتموه فعسى ان يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه(3/378)
فلما رأوا على الجبل ذهبوا لياخذوه فاوحى الله تعالى الجبل فتطاول فى السماء حتى ما يناله الطير وجاء صالح فلما رأه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغى ثلثا وانفجرت الصخرة فدخلتها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا فى داركم ثلثة ايام ذلك وعد غير مكذوب قال ابن إسحاق اتبع السقب اربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج واخوه ذاب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره برجله فانزلوه فالقوا لحمه مع لحم امه فقال لهم صالح انتهكتم حرمة الله فابشروا بعذاب الله ونقمته قالوا وهم يستهزءون به ومتى ذلك يا صالح وما اية ذلك وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الاول والاثنين العون والثلاثا دبار والأربعاء حبار والخميس مونس والجمعة العروبة والسبت شيار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المونس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلتقتل صالحا فان كان صادقا عجلناه قتلا وان كان كاذبا قد كنا الحقناه بناقته فاتوه ليلا ليبيتوه فى اهله فدفعتهم الملئكة بالحجارة فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم لا تقتلونه ابدا فقد وعدكم ان العذاب نازل بكم بعد ثلث فان كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم الا غضبا وان كان كاذبا فانتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم فاصبحوا يوم الخميس ووجوهم مصفرة كانما طليت بالخلوف صغيرهم
وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم وأيقنوا بالعذاب وعرفوا ان قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء الى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل ويكنى بابى هدب وهو مشرك فغيّبه ولم يقدروا عليه فغدوا على اصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقال رجل من اصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبى الله انهم ليعذبوننا لندلهم عليك أفندلهم قال نعم قل عندى صالح وليس لكم عليه سبيل فاعرضوا عنه وتركوه وشغله عنه ما انزل الله بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون فى وجوههم فلما امسوا صاحوا بأجمعهم الا وقد مضى من الاجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كانما خضبت بالدماء فصاحوا وبكوا(3/379)
انه العذاب فلما امسوا صاحوا بأجمعهم الا وقد مضى يومان من الاجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كانما طليت بالقار فصاحوا جميعا الا وقد حضركم العذاب فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن اسلم معه الى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا والقوا أنفسهم الى الأرض يقلبون أبصارهم الى السماء مرة والى الأرض مرة لا يدرون من اين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد اخذتهم الرجفة فاصبحوا فى ديارهم جاثمين وأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شىء فى الأرض فتقطعت قلوبهم فى صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبيرا لاهلك الا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فانطلق الله رجليها بعد ما عاينت العذاب فخرجت كاسرع ما يرى شىء قط حتى أتت فرخ وهو وادي القرى فاخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت وذكر السدى فى عقر الناقة قال فاوحى الله تعالى الى صالح ان قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح انه يولد فى شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا ولد فى هذا الشهر الا قتلناه فولد عشرة قتلوا منها تسعة وبقي واحد ازرق احمر فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بآباء التسعة ورأوه قالوا لو كان أبنائنا احياء لكانوا مثل هذا فغضب التسعة على صالح لانه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا بالله لنبيتنه واهله قالوا نخرج فيرى الناس انا قد خرجنا الى سفر فناتى الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح الى مسجده اتيناه فقتلناه ثم رجعنا الى الغار وكنا فيه ثم انصرفنا الى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك اهله وانا لصادقون فيصدقوننا ويظنون انا قد خرجنا الى سفر وكان صالح لا ينام معهم فى القرية كان يبيت فى مسجد يقال له مسجد صالح فاذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم فاذا امسى خرج الى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال الله تعالى فمكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فاذا هم رضخ فرجعوا يصيحون فى القرية اى عباد الله اما رضى صالح ان أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع اهل القرية على قتل الناقة وقال ابن اسحق انما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا(3/380)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
قال السدى وغيره فلما ولد ابن العاشر يعنى قذارشب فى اليوم شباب غيره فى الجمعة وشب فى الشهر شباب غيره فى السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فارادوا ماء يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نفعل باللبن لو كنا ناخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم فى ان اعقرها لكم قالوا نعم فعقرها روى البخاري فى الصحيح من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمه ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لما نزل الحجر فى غزوة تبوك أمرهم ان لا يشربوا من بيرها ولا يسقوا منها فقالوا قد عجنا واستقينا فامرهم ان يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء قال البغوي وقال نافع عن ابن عمر فامرهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان يهريقوا ما استقوا من بيرها وان يعلفوا الإبل العجين وأمرهم ان يسقوا
من البير التي كانت تردها الناقة قال وروى ابو الزبير عن جابر قال لما مر النبي صلى الله عليه واله وسلم بالحجر فى غزوة تبوك قال لاصحابه لا يدخلن أحد منكم هذه القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين الا ان تكونوا باكين خائفين ان يصيبكم مثل الذي أصابهم ثم قال اما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم فبعث الله الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب مائهم يوم وردها فعتوا عن امر ربهم فعقروها فاهلك الله سبحانه من تحت أديم السماء من مشارق الأرض ومغاربها الا رجلا واحدا يقال له ابو رغال وهو ابو ثقيف كان فى حرم الله فمنعه الحرام من عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر ابى رغال فنزل القوم فابتدروا بأسيافهم وحفروا عنه فاستخرجوا ذلك الغصن وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح اربعة آلاف خرج بهم صالح الى حضرموت فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت ثم بنى الاربعة آلاف مدينة يقال له حاصورا وقال قوم من اهل العلم توفى صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة واقام فى قومه عشرين سنة.
وَلُوطاً يعنى وأرسلنا لوطا وهو لوط بن هار من بن تارخ ابن أخي ابراهيم عليه السلام إِذْ قالَ اى وقت قوله لِقَوْمِهِ وهم اهل سدوم وقيل معناه واذكر لوطا وعلى هذا إذ بدل منه أَتَأْتُونَ انكار وتوبيخ وتفريع الْفاحِشَةَ يعنى إتيان الرجال فى ادبارهم ما سَبَقَكُمْ بِها بتلك الفعلة الباء للتعدية مِنْ أَحَدٍ من زائدة(3/381)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
لتاكيد النفي والاستغراق مِنَ الْعالَمِينَ من للتبعيض والجملة استيناف مقرر للانكار او حال من الفاحشة كانه وبخهم اولا بإتيان الفاحشة ثم ما اختراعها فانه أسوأ قال عمرو بن دينار ما يرى ذكر على ذكر فى الدنيا حتى كان من قوم لوط عليه السلام.
اانكم قرأ نافع وحفص بهمزة واحدة مكسورة على الخبر على الاستيناف والباقون بهمزتين على الاستفهام بيان لقوله أتأنون الفاحشة وهو ابلغ فى الإنكار والتوبيخ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أتجامعونهم فى ادبارهم يقال اتى المرأة إذا غشيها شَهْوَةً منصوب على العلية اى للشهوة لا حامل لكم على ذلك الا لمجرد الشهوة من غير حكمة او مصدر فى موقع الحال يعنى لشهوتهم شهوة ردية غير مفيدة مِنْ دُونِ النِّساءِ اى من غير النساء يعنى لا تأتونهن مع ما فيه من الحكمة من انتفاء الولد وبقاء النوع ولا ذم أعظم منه لانه وصف لهم بالبهيمة الصرفة قلت ومن هذه الاية ثبت حرمة إتيان النساء فى أدبارهن بدلالة النص لانه مثل إتيان الرجال خبيثة غير مفيد أصلا وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى الاية وهو قوله تعالى فاتوا حرثكم انى شئتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإنكار الى الاخبار عن حالهم الذي يوجب ارتكاب أمثال ذلك القبائح يعنى أنتم عادتكم الإسراف والتجاوز عن الحدود المعقولة والمشروعة فى الشيء حتى تجاوزتم فى النكاح عن المعتاد المفيد الى غير المعتاد الذي لا خير فيه أصلا او إضراب عن الإنكار فى ما ذكر الى الذم على جميع اوصافهم او عن محذوف تقديره لا عذر لكم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ اى ما جاءوا بما يصلح جوابا عن كلام إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء منقطع يعنى لكنهم قابلوا النصيحة بقول بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ يعنى لوطا ومن معه من المؤمنين مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من الفواحش قالوا ذلك استهزاء.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ يعنى اتباعه من المؤمنين وقيل ابنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ واهله استثناء من الأهل فانها كانت منافقة تستر الكفر كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ اى من الذين بقوا فى ديارهم فهلكوا وقيل معناه كانت من الباقين فى العذاب وقيل معناه كانت من الباقين المعمرين قد اتى عليها دهر طويل قبل ذلك فهلكت مع من هلك من قوم لوط والتذكير لتغليب الذكور.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ اى على قوم لوط مَطَراً اى نوعا من المطر عجيبا يعنى حجارة من سجيل مسومة قال وهب الكبريت والنار قال ابو عبيدة يقال فى العذاب(3/382)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
أمطر وفى الرحمة مطر فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ الكفرين روى ان لوطا لما هاجر مع عمه ابراهيم عليهما السلام من أرض بابل الى الشام نزل بالأردن فارسله الله الى اهل سدوم ليدعوهم الى الله وينهاهم عما اخترعوا من الفاحشة فلم ينتهوا عنها فامطر الله عليهم الحجارة فهلكوا أخرجه اسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس نحوه وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم قال محمد بن اسحق كانت لهم ثمار وقرى لم يكن فى الأرض مثلها فقصدهم الناس فاذوهم فعرض لهم إبليس فى صورة فقال ان فعلتم بهم كذا نجوتم فابوا فلما ألح اى لزم الناس إياهم إلخ الناس عليهم قصدوهم فاصابوا غلمانا صبيانا فاخبثوا فاستحكم ذلك فيهم قال الحسن كانوا لا يناكحون الا العرباء قال الكلبي ان أول من عمل عمل قوم لوط إبليس لان بلادهم أخصبت فانتجعها اهل البلدان فتمثل لهم إبليس فى صورة شاب ثم دعا الى دبره فنكح فى دبره فامر الله السماء ان تحصبهم وامر الأرض تخسف بهم.
وَإِلى مَدْيَنَ يعنى وأرسلنا الى أولاد مدين بن ابراهيم خليل الرحمن قال البغوي هم اصحب الايكة أَخاهُمْ فى النسب شُعَيْباً قال عطاء هو شعيب بن توبة بن ابراهيم خليل الرحمن وقال ابن اسحق هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن ابراهيم عليه السلام وله ميكيل بنت لوط عليه السلام وقيل هو شعيب ابن يثرون بن نوس بن مدين وكان شعيب عليه السلام أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه اهل كفر وبخس للمكيال والميزان اخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إذا ذكر شعيبا يقول ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى معجزة كانت لشعيب عليه السلام ولم يذكر فى القران ما هى وقيل أراد بالبينة مجئ شعيب عليه السلام بالحكمة والموعظة وفصل الخطاب فَأَوْفُوا يعنى أتموا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ مصدر بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد او المضاف محذوف يعنى وزن الميزان او المراد بالكيل فمعز الدولة الكيل على الإضمار او اطلق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ اى لا تنقصوهم حقوقهم البخس يتعدى الى مفعولين وهما الناس وأشياءهم يقال بخست زيدا حقه اى نقصته إياه وانما قال اشيائهم للتعميم تنبيها على انهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير وقيل كانوا مكاسين(3/383)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
لا يدعون شيئا الا مكسوه وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والظلم بَعْدَ إِصْلاحِها يعنى بعد ما بعث الله نبيا يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر والاضافة الى مكر الليل والنهار ذلِكُمْ الذي ذكرت لكم وأمرتكم خَيْرٌ لَكُمْ مما كنتم عليه من الظلم والبخس فان ذلك وان كان فيه نوع منفعة فى الدنيا لكنه يجلب مضرة عظيمة فى الدارين وما أمرتكم فيه صلاح الدنيا والاخرة جميعا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين لى فافعلوا ما أمرتكم وكانوا يعلمون ان شعيبا عليه السلام يكذب قط قبل كانوا يجلسون على الطريق فمن جاء الى شعيب عليه السلام ليومن به منعوه وقالوا ان شعيبا كذاب فلا يفتنك عن دينك كانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم كذا اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس نحوه فقال الله تعالى.
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ مع ما عطف عليه فى موضع الحال من فاعل تقعدوا وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الايمان بالله مَنْ آمَنَ بِهِ اى بالله تعالى تنازع فيه الفعلان فى المفعولية توعدون وتصدون فاعمل الثاني ولذا لم يقل وتصدونهم وَتَبْغُونَها اى تطلبون سبيل الله عِوَجاً بإلقاء الشبه او وصفها للناس بانها معوجة وقيل معنى قوله تعالى لا تقعدوا بكل صراط اى بكل طريق من طرق الدين كالشيطان وسبيل الحق وان كان واحدا لكنه تنشعب الى معارف وحدود واحكام وكانوا إذا رأوا واحدا يسعى فى شىء منها وعدوه بالقتل والتعذيب وعلى هذا ففى قوله تعالى ويصدون عن سبيل الله وضع الظاهر موضع الضمير بيانا لكل صراط ودلالة على عظيم ماى صدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم او عدكم فَكَثَّرَكُمْ الله بالبركة فى النسل والمال وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم قبلكم قوم لوط وغيرهم فاعتبروا بهم.
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا به فَاصْبِرُوا اى فتربصوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لا معقب لحكمه.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا اى والله ليكونن أحد الامرين اما إخراجكم من القرية او عودكم فى الكفر وشعيب لم تكن فى ملتهم قط لان الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر لكن غلبوا الجماعة الذين أمنوا معه عليه مخاطبة مع قومه(3/384)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
بخطابهم وعلى ذلك اجرى الجواب وقيل معناه او لتدخلن فى ملتنا وعاد بمعنى صار قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للانكار والواو للحال بل للعطف على محذوف والجملة فى موضع الحال تقديره أتعيدوننا فى ملتكم لو كنا طائعين ولو كنا كارهين فحذف أحد المعطوفين الذي هما حالان من فاعل كنا وعلق الحكم بأبعد النقيضين ليدل على عدم الحكم ثم قال شعيب.
قَدِ افْتَرَيْنا اى اختلقنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإثبات الشريك له تعالى إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها شرط حذف جوابه بدليل ما سبق وكلمة افترينا ماض بمعنى المستقبل جعل كانه الواقع للمبالغة وادخل عليه قد لتقربه من الحال اى قد افترينا الحال ان أردنا العود بعد ما أنقذنا الله تعالى منها وبيّن لنا ان ما كنا عليه كان باطلا وما صرنا عليه حق وقيل انه جواب قسم بحذف اللام تقديره والله لقد افترينا وَما يَكُونُ لَنا اى ما يثبت لنا ابدا أَنْ نَعُودَ فِيها بيان عزم على الاستقامة على الإسلام والاجتناب عن الكفر ولما كان فى الكلام شائبة تزكية النفس وعدم خوف ما يؤل اليه الأمر قال إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا وارتدادنا ويكون سبق فى مشيته ذلك وفيه دليل على ان الكفر بمشية الله وقيل أراد به حسم طمعهم فى العود بالتعليق بما لا يكون وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فهو يعلم ما يؤل اليه امر عباده من الايمان الى الكفر او من الكفر الى الايمان قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم والذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه وبيها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها متفق عليه من حديث ابن مسعود عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فى ان يثبتنا على الايمان ويوفقنا لازدياد اليقين قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم ثم دعا عليهم شعيب عليه السلام بعد ما ايس من فلاحهم فقال رَبَّنَا افْتَحْ اى احكم من الفتاحة بمعنى الحكم والفتاح القاضي يفتح الأمر المتعلق او المعنى اظهر الأمر حتى ينكشف الحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ للسفلة لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً فى دينه وتركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدال ضلالته بهديكم او لفوات ما يحصل لكم المنفعة بالبخس والتطفيف وهو(3/385)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
ساد مسد جواب الشرط والقسم الذي وطأته اللام فى لئن اتبعتم.
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الكلبي الزلزلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ اى مدينتهم جاثِمِينَ ميتين قال ابن عباس وغيره فتح الله عليهم بابا من جهنم فارسل عليهم حرا شديدا فاخذ بانفاسهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء وكانوا يدخلون الأسراب ليتبرّدوا فيها فاذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر فخرجوا هرابا الى البرية فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فاظلتهم وهى الظلة فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونسائهم وصبيانهم فالهب الله تعالى عليهم نارا وجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلى وقال يزيد الجريري سلط الله عليهم الريح سبعة ايام ثم سلط عليهم الحر ورفع عليهم جبل من بعيد فاتاه رجل فاذا تحته انهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك يوم الظلة قال قتادة بعث الله شعيبا الى اصحاب الايكة واهل مدين فاما اصحاب الايكة فاهلكوا بالظلة واما اصحاب مدين فاخذتهم الرجفة صاح بهم جبرئيل صيحة فهلكوا جميعا.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اى استوصلوا كان لم يقيموا ولم ينزلوا فيها من قولهم غنيت بالمكان إذا أقمت به والمغانى المنازل واحدها مغنى الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ دنيا ودينا الا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا فانهم الرابحون فى الدارين وللتنبيه على وجه الاختصاص والمبالغة فيه كرر الموصول ولم يكتف بالعطف واستأنف بالجملتين واتى بهما اسميتين.
فَتَوَلَّى اى اعرض عَنْهُمْ شعيب شاخصا بين أظهرهم حين أتاهم العذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ قال ذلك تأسفا بهم بشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال فَكَيْفَ آسى احزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ فانهم ليسوا أهلا لان يحزن عليهم لاستحقاقهم ما نزل بهم او قاله اعتذارا عن شدة حزنه عليهم يعنى بعد ما بلغت فى الإبلاغ والنصيحة لما لم يتبعونى واثروا لانفسهم العذاب فكيف اسى عليهم.
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فيه إضمار يعنى فكذبوه إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ اى الفقر وَالضَّرَّاءِ اى المرض كذا قال البغوي عن ابن مسعود وقيل البأساء الحرب والضراء الجدب لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ لكى يتوبوا الى الله يتضرعوا من هاهنا يظهر بطلان قول من قال ان عسى وكاد ولعل من الله واجبة الوقوع.(3/386)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ اى البأساء والضراء الْحَسَنَةَ السعة والا من والخصب استدراجا وابتلاء لهم بالأمرين حَتَّى عَفَوْا اى كثروا عددا ومالا يقال عفت النبات إذا كثرت ومنه إعفاء اللحية وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ اى هكذا كانت عادة الدهر قديما يعاقب فى الناس بين الضراء والسراء ونسوا خالق الأرض والسماء ومنشئ النعمة والبلاء فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى اللام للعهد الخارجي يعنى اهل القرى التي أرسلنا فيها الأنبياء آمَنُوا بالأنبياء وَاتَّقَوْا عذاب الله بالطاعة وترك المعاصي لَفَتَحْنا قرأ ابن عامر بالتشديد للتكثير والباقون بالتخفيف عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى لو سعنا عليهم الخير من كل جانب وداومناه لهم وقيل بركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والزرع واصل البركة الزيادة والمواظبة على شىء وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ بالعقوبة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عطف على قوله فاخذناهم بغتة وهم لا يشعرون وما بينهما اعتراض والمعنى ابعد ما أخذنا اهل القرى من الكافرين السابقين أمن اهل القرى من الكافرين بنبوة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه واله وسلم يعنى اهل مكة وما حولها أَنْ يَأْتِيَهُمْ بأسنا عذابنا بَياتاً اى تبيتا او وقت بيات يعنى ليلا او مبيتا او مبيتين وهو فى الأصل بمعنى البيتوتة ويجئ بمعنى التبيت كالسلام بمعنى التسليم وَهُمْ نائِمُونَ غافلون عنه حال من ضمير هم البارز او المستتر فى بياتا.
أَوَأَمِنَ قرأ نافع وابن عامر او بسكون الواو على الترديد والباقون بفتح الواو على ان الهمزة للاستفهام للتوبيخ والواو للعطف والجمع أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى اى نهارا وقت الضحى وقت انبساط الشمس وَهُمْ يَلْعَبُونَ اى غافلون مشتغلون بما لا ينفعهم.
أَفَأَمِنُوا تقريره لقوله أفأمن اهل القرى مَكْرَ اللَّهِ اى استدراجه إياهم بما أنعم عليهم فى الدنيا الى حين ثم أخذهم من حيث لا يحتسبون بالعذاب بغتة كما فعل بأشياعهم من قبل فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم بالكفر والمعاصي وتركوا النظر والاعتبار.
أَوَلَمْ يَهْدِ قرأ قتادة ويعقوب نهد بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء على الغيبة والهمزة(3/387)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
فى المواضع الاربعة للتوبيخ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ بالسكنى مِنْ بَعْدِ هلاك أَهْلِها الذين قبلهم عدى الهداية باللام لانه بمعنى البيان أَنْ مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشان فاعل ليهد على تقدير الغيبة ومفعوله على تقدير التكلم يعنى او لم يبين للذين ورثوا السابقين انه لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ اى أخذناهم بالعذاب والعقوبة بِذُنُوبِهِمْ اى بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على ما دل عليه او لم يهد اى يغفلون عن الهداية ونختم على قلوبهم وقال الزجاج هو منقطع مما قبله يعنى ونحن نطبع ولا يجوز عطفه على أصبناهم على انه بمعنى وطبعناهم لانه لو كان فى سياق جواب لو لزم نفى الطبع عنهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الانذار ولا يقبلون الموعظة.
تِلْكَ الْقُرى قرى اللامم الماضية قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب الموصوف مع الصفة مبتدأ خبره نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها يعنى نقص عليك بعض اخبار أهلها لكى تعتبروا لا كلها وجاز ان يكون القرى خبرا ونقص خبرا ثانيا او حال من القرى والعامل فيه معنى الاشارة وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى بالآيات والمعجزات الشاهدة على رسالتهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا منصوب بان مقدرة بعد لام الجحود لتاكيد النفي والمصدر اما بمعنى الفاعل او محمول بتقدير ذى اى ما كانوا مؤمنين او ذا ايمان عند مجيئهم بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اى بما كذبوه من قبل الرسل يعنى التوحيد بل كانوا مستمرين على التكذيب والإشراك او فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به اولا يعنى بالرسالة والشرائع كلها حين جاءتهم الرسل بها ولم يؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة وقال البغوي قال ابن عباس والسدى يعنى فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذهم ميثاقهم حين اخرجوا من ظهر آدم فاقرءوا باللسان واضمروا بالتكذيب وقال مجاهد معناه فما كانوا لو احييناهم بعد هلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم كقوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقال يمان بن ذباب هذا على معنى ان كل نبى انذر قومه بالعذاب فكذبوه فاهلكناهم فلما جاء بعدهم من رسول بالبينات ما كانت الأمم اللاحقة ليؤمنوا بما كذب به اوائلهم من الأمم الخالية بل كذبوا بما كذب به اوائلهم نظيره قوله تعالى ما اتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحرا ومجنون كَذلِكَ اى مثل ذلك الطبع الشديد الذي طبعنا على قلوب الذين أهلكناهم من قبل يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ الذين(3/388)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
كتبنا عليهم من قومك ان لا يؤمنوا فلا يلين قلوبهم بالآيات والنذر.
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ اى لاكثر الناس والاية اعتراض او لاكثر الأمم المذكورين مِنْ عَهْدٍ اى من وفاء بالعهد الذي عاهدناهم يوم الميثاق حين اخرجوا من صلب آدم عليه السلام او ما عهدوا اليه حين كانوا فى ضر ومخافة لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشكرين وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ قال الكوفيون ان نافية واللام بمعنى الا يعنى ما وجدنا أكثرهم الا فاسقين ناقضين للعهد وقال البصريون ان مخففة من المثقلة واللام فارقة وعلى هذا وجدنا بمعنى علمنا لان ان المخففة من المثقلة لا تدخل الا على الافعال الداخلة على المبتدأ والخبر.
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ الضمير للرسل فى قوله ولقد جاءتهم رسلهم والمراد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام او للامم والمراد أقوامهم مُوسى بن عمران عليه السلام بِآياتِنا يعنى المعجزات التي تذكر بعد ذلك إِلى فِرْعَوْنَ وهو لقب لملك مصر ككسرى لملك فارس وكان اسمه قابوس وقيل الوليد بن مصعب بن الريان وَمَلَائِهِ اى شرفاء قومه فَظَلَمُوا بِها اى بالآيات والظلم وضع الشيء فى غير موضعه ولما كانت الآيات لوضوحها من حقها الايمان بها وهم كفروا بها مكان الايمان قال الله تعالى ظلموا بها مكان كفروا بها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ حيث اغرقوا فى اليم.
وَقالَ مُوسى لما دخل على فرعون يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى قرأ نافع علىّ بفتح الياء مشددة يعنى واجب على فهو مستانفة فى جواب تكذيبه إياه فى دعوى الرسالة وانما لم يذكر تكذيبه لدلالة قوله فظلموا بها عليه وقرأ الباقون على مقصورة كانّ أصله حقيق علىّ كما قرأه نافع فقلب لا من اللبس او يقال على هاهنا جارة وضع مكان الباء لافادة التمكن كقولهم رميت على القوس مكان رميت بالقوس يدل عليه قراءة ابى والأعمش حقيق بان لا أقول او يقال عدى حقيق بعلى لتضمين معنى حريص وعلى هذا حقيق اما خبر مبتدأ محذوف يعنى انا حقيق اى جدير والجملة مستانفة او صفة لرسول.
أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ شاهد على رسالتى فَأَرْسِلْ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها بَنِي إِسْرائِيلَ اى اطلق عنهم وخلّهم يرجعون الى الأرض المقدسة هى وطن ابائهم وكان فرعون قد استخدمهم فى الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب وغيرها.
قالَ فرعون مجيبا(3/389)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
لموسى عليه السلام إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند الله فَأْتِ بِها بتلك الاية إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك شرط استغنى من الجزاء بما مضى.
فَأَلْقى موسى عَصاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ الثعبان الذكر العظيم من الحيّة وكان يتحرك كانها جان اى حيّة صغيرة ولهذا قال فى موضع اخر كانها جان قال ابن عباس والسدى انه لما القى العصا صارت حيّة عظيمة صفراء شعراء عرفاء فاغرافاه بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض قد رميل واقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل فى الأرض والأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لياخذ وروى انها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون هاربا وأخذت اخذة البطن فى ذلك اليوم اربعمائة مرة وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون الفا قتل بعضهم بعضا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها وانا أمن بك وأرسل معك بنى إسرائيل فاخذها موسى فعادت عصاكما كانت كذا اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم من طريق معمر عن قتادة ثم قال فرعون هل معك اخرى قال نعم.
وَنَزَعَ يَدَهُ من تحت جيبه بعد ما أدخلها فيه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ بياضا عجيبا خارجا عن العادة لها شعاع غلب نور الشمس يعجب الناظرين لحسن منظره ثم أدخلها فى جيبه فصارت أدما كما كانت.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ماهر فى السحر يأخذا عين الناس حتّى يخيل إليهم العصا حيّة والادم ابيض ويرى الشيء على خلاف ما هو عليه فى الواقع أسند القول المذكور هاهنا الى الملأ وفى سورة الشعراء الى فرعون فالظاهر ان القول صدر منه ومنهم جميعا على سبيل التشاور فحكى قوله ثمه وقولهم هاهنا وقاله فرعون ابتداء فتلقته منه الملأ فقالوه فيما بينهم ولاتباعهم.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ يا معشر القبط مِنْ أَرْضِكُمْ يعنى مصر فَماذا تَأْمُرُونَ يحتمل ان يكون هذا بقية الكلام السابق الذي قال الملأ لفرعون وخاصته فيكون الأمر على حقيقته او قالوه فيما بينهم او لاتباعهم فيكون تأمرون بمعنى تشيرون والمستشار من حيث انه معلم ومرشد امير على المسترشد ويحتمل ان يكون قوله فماذا تأمرون كلام المخاطبين فى جواب قولهم هذا ساحر عليم يريد ان يخرجكم من أرضكم فعلى هذا اما ان يكون كلام لفرعون او لغيره ثم بعد ما قال فرعون وملائه ما ذكر اجتمع راى الملأ أجمعين على ان.
قالُوا(3/390)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
لفرعون أَرْجِهْ قرأ ابن كثير وهشام هذا وفى الشعراء ارجئه بالهمز وضم الهاء بعدها ووصلها بواو الإشباع وابو عمرو كذلك لكن من غير صلة وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء ولا يصلها بياء وهذه القراءة على خلاف القياس لان الهاء لا يكسر الا إذا كان قبلها كسرة او ياء ساكنة لكن الهمزة كانت تقلب ياء أجريت مجريها وقرأ قالون بغير همز باختلاس الكسرة وورش والكسائي نحوه لكن يشبعان الكسرة ياء وعاصم وحمزة بغير همز واسكان الهاء والهاء فى الوقف ساكنة بلا خلاف الا فى مذهب من ضمها سواء وصلها او لم يصلها فان الروم والإشمام جائز ان فيها التشبيه المنفصل بالمتصل ومعناه اخر امره يعنى لا تعجل فى الايمان به ولا فى قتله وعقوبته حتّى يظهر امره فى القاموس ارجأ الأمر آخره وَأَخاهُ هارون عليه السلام وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ مدائن الصعيد من نواحى مصر كان هناك رؤساء السحرة حاشِرِينَ اى شرطا ورجالا جامعين السحرة.
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ جواب لقوله أرسل يعنى ان ترسل إليهم حاشرين يجمعون إليك من فيها من السحرة فان غلبهم موسى صدقناه وان غلبوا عليه علمنا انه ساحر قرأ حمزة والكسائي هنا وفى سورة يونس بكل سحار بالألف بعد الحاء على المبالغة كما اتفق عليه القراء فى الشعراء والباقون فى هاتين ساحر على وزن فاعل قال البغوي قال ابن عباس والسدى وابن إسحاق لمار أي فرعون سلطان الله فى العصا ما راى قال انا لا نغالب موسى الا بمن هو منه فاتخذ غلمانا من بنى إسرائيل فبعث بها الى قرية يقال لها الغرماء يعلمونهم السحر فعلموهم سحرا كثيرا وواعد موسى موعدا فبعث الى السحرة فجاؤا ومعهم معلمهم فقال لهم ماذا صنعتم قالوا قد علمنا سحرا لا يطيقه سحرة اهل الأرض الا ان يكون امرا من السماء فانه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون فى مملكته فلم يترك فى سلطانه ساحرا الا اتى به قال مقاتل كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط هما راس القوم أحدهما شمعون وسبعون من بنى إسرائيل وقال الكلبي كان الذين يعلمونهم رجلين محبوسين من اهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم وقال كعب كانوا اثنى عشر الفا وقال السدى كانوا بضعة وثلثين الفا وقال عكرمة سبعين الفا وقال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين الفا.
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ مع الحاشرين بعد ما أرسلهم فى طلبهم قالُوا يعنى السحرة استيناف كانه فى جواب سائل قال ما قالوا إذا جاؤا إِنَّ لَنا(3/391)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ
قرأ نافع وابن كثير وحفص ان لنا بهمزة واحدة على الخبر وإيجاب الاجر كانهم قالوا لا بد لنا من اجر والتنكير للتعظيم وقرأ الباقون اان بهمزتين على الاستفهام وهم على مذاهبهم المذكورة فى الهمزتين المفتوحتين ولم يختلفوا فى الشعراء انه بالاستفهام.
قالَ فرعون نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على جملة سد مسدها نعم يعنى ان لكم اجرا وانكم لمن المقربين فى المنزلة الرفيعة عندى زاد على الجواب لتحريضهم قال مقاتل قال موسى لكبير السحرة تومن بي ان غلبتك قال لاتين بسحر لا يغلبه ساحر ولئن غلبتنى لا ومنن بك وفرعون ينظر.
قالُوا اى السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ عصينا وحبالنا خيروا موسى إظهارا للجلادة ولكن كان رغبتهم فى ان يلقوا قبل موسى يدل عليه تغير النظم الى ما هو ابلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل او تاكيدهم الضمير المتصل بالمنفصل فلذلك.
قالَ موسى بل أَلْقُوا ازدراء بهم وثوقا على شانه فَلَمَّا أَلْقَوْا السحرة حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ اى صرفوها عن ادراك حقيقة ما القوه وتخيل للناس حبالهم وعصيهم حيات وأفاعي أمثال الجبال قد ملأ الوادي فى ميل يركب بعضها فى بعض وَاسْتَرْهَبُوهُمْ اى خوفوهم ارهابا شديدا كانهم طلبوا رهبتهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فى فنه.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى حين أوجس فى نفسه خيفة أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ولا تخف انك أنت الا على انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث اتى فالقاها فَإِذا هِيَ حية عظيمة قد سدت الأفق تسعى قال ابن زيد كان اجتماعهم بالاسكندرية ويقال بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا تَلْقَفُ قرأ حفص هاهنا وفى طه والشعراء بإسكان اللام وتخفيف القاف من المجرد والباقون بفتح اللام وتشديد القاف من التفعل بحذف احدى التاءين أصله تتلقف اى تبتلع ما يَأْفِكُونَ اى ما يزورونه من الافك بمعنى قلب الشيء من وجهه ويجوز ان يكون ما مصدرية والمصدر بمعنى المفعول روى انها تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعها بأسرها ثم أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقالت السحرة لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما نفدت علموا ان ذلك من الله تعالى وذلك قوله تعالى.
فَوَقَعَ الْحَقُّ اى(3/392)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
ثبت وظهر امره وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ السحرة.
فَغُلِبُوا يعنى فرعون وقومه هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا اى رجعوا الى المدينة صاغِرِينَ أذلاء مقهورين.
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ألقاهم الله تعالى ساجِدِينَ لله تعالى لم يقل سجدوا لله تنبيها على ان ظهور الحق اضطرهم الى السجود حيث لم يبق لهم تمالك وقيل الهمهم الله ان يسجدوا فسجدوا وقال الأخفش من سرعة ما سجدوا كانهم القوا.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ابدلوا الثاني بالأول لئلا يتوهم انهم أرادوا به فرعون قال ابن عباس لما امنت السحرة اتبع موسى ستمائة الف من بنى إسرائيل.
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ اى بالله او بموسى قرأ قنبل وأمنتم به فى حال الوصل يبدل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة ومد بعدها مدة فى تقدير الفين وقرأ فى طه على الخبر بهمزة واحدة والف وقرأ فى الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة فى تقدير الفين وحفص فى الثلاثة بهمزة والف على الخبر وابو بكر وحمزة والكسائي فيهن على الاستفهام بهمزتين محققتين بعدهما الف والباقون على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة بعدها فى تقدير الفين ولم يدخل أحد منهم ألفا بين الهمزة المخففة والملينة فى هذه المواضع الثلاثة كما أدخلها من أدخلها فى اانذرتهم وبابه لكراهة اجتماع ثلث الفات بعد الهمزة فالاستفهام للانكار والاستبعاد والخبر على التوبيخ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ اى هذا الصنيع لحيلة احتملتموها أنتم وموسى فِي الْمَدِينَةِ اى فى مصر قبل ان تخرجوا للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط ويخلص مصر لكم ولبنى إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم تهديد مجمل تفصيله.
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فى جذوع النخل على شاطئ نهر مصر تفضيحا لكم وتنكيلا لامثالكم قيل انه أول من سن ذلك أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن ابن عباس.
قالُوا يعنى السحرة لفرعون إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة نرجوا ثوابه فلا نبالى بوعيدك او المعنى مصيرنا ومصيركم الى ربنا فيحكم بيننا.
وَما تَنْقِمُ اى ما تنكر مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وهو خير الأعمال واصل المناقب لا يجوز عليها الإنكار ولا يجوز لنا العدول عنها لابتغاء مرضاتك او خوف وعيدك ثم فزعوا الى الله فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا(3/393)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
صَبْراً
اى اصبب علينا صبرا كما يصب الماء كيلا يمنعنا وعيد فرعون عن الايمان ويطهرنا من الآثام وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام ذكر الكلبي ان فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وذكر غيره انه لم يقدر عليهم لقوله تعالى لا يصلون اليكما أنتما ومن اتبعكما الغالبون.
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغير الناس عليك ودعوتهم الى مخالفتك وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا او جواب للاستفهام بالواو كقولهم هل عندكم ماء واشربه والمعنى أيكون منك ترك موسى ويكون تركه إياك وَآلِهَتَكَ اى معبوداتك فلا يعبدون لك ولا لها قال ابن عباس كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم ان يعبدوها ولذلك اخرج السامري لهم عجلا وقال الحسن كان قد علق على عنقه صليبا يعبده وقال السدى كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بعبادتها وقال لقومه هذه الهتكم وانا ربكم وربها ولذلك قال انا ربكم الأعلى وقيل كانوا يعبدون الكواكب وقرأ ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك ويذرك والهتك بكسر الالف على وزن عبادتك ومعناه وقيل أراد بالهتك الشمس وكانوا يعبدونها قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ قرأ نافع وابن كثير بفتح النون وضم التاء مخففا من المجرد والباقون بضم النون وكسر التاء مشددا من التفعيل على التكثير أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ اى نتركهن احياء كما نفعل من قبل وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا قال ابن عباس كان فرعون يقتل أبناء بنى إسرائيل فى العام الذي قيل له يولد مولود يذهب به ملكك فقال فرعون أعيد عليهم القتل ليعلموا انا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أحد ان موسى هو المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه فلما أعاد عليهم القتل شكت ذلك بنو إسرائيل الى موسى فحينئذ.
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ بالتضرع اليه والدعاء والتوكل عليه وَاصْبِرُوا على ما يصيبكم من فرعون وقومه فان ذلك بارادة الله ومشيته وابتلائه إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ كافرا كان او مسلما لا يجوز الاعتراض عليه تعالى وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعنى جزاء الحسنات والسعادة الابدية التي لا تنقطع والجنة للمتقين فابتغوا الدار الاخرة الباقية واصبروا على ما أصابكم فى الدنيا الفانية سمى جزاء الفعل العقبى والعاقبة لانه يعقب(3/394)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
العمل لكنهما مختصان بالثواب وخير الجزاء على الحسنات كذلك العقب مختص بالثواب كما ان العقوبة والمعاقبة والعقاب مختصة بالعذاب وسوء الجزاء قال الله تعالى أولئك لهم عقبى الدار ونعم عقبى الدار وخير عقبا وقال فحق عقاب شديد العقاب وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم وجاز ان يكون قوله ان الأرض لله الى آخره وعد البنى إسرائيل بان يرثوا ارض مصر بعد فرعون ويكون لهم النصر والظفر عاقبة الأمر كالاية الثانية.
قالُوا يعنى قوم موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا باعادة القتل علينا وقيل ان المراد منه ان فرعون كان يسخرهم قبل مجئ موسى الى نصف النهار فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا اجر وذكر الكلبي انهم كانوا يضربون اللبن بطين فرعون فلما جاء موسى عليه السلام اجبرهم ان يضربوه من طين من عندهم قالَ لهم موسى عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَيَسْتَخْلِفَكُمْ اى يسكنكم بعد هلاكه فِي الْأَرْضِ ارض مصر فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ من شكر وطاعة او كفران ومعصية وعدهم الله تعالى بالنصر والظفر وأشار الى إيجاب الشكر عند ابتلائه بالخير وإيجاب الصبر على الابتلاء بالشر فانجز الله وعده حتى أغرق فرعون واستخلفهم فى ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل وروى ان مصر فتح لهم فى زمن داؤد عليه السلام.
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ اى اتباعه بِالسِّنِينَ بالجدوب والقحوط والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويورخ به ثم اشتق منه فيقال سنت القوم إذا قحطوا ويقال مستهم السنة اى جدب السنة وقيل أراد بالسنين القحط سنة بعد سنة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة الآفات والعاهات قال قتادة اما سنين فلا هل البوادي واما نقص الثمرات فلا هل الأمصار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكى ينتبهوا على ان ذلك بشوم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا او يرق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا الى الله ويرغبوا فيما عنده.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ يعنى الخصب والسعة والعافية قالُوا اى ال فرعون لَنا هذِهِ اى لاجلنا ونحن مستحقوها على العادة التي جرت لنا فى سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلا من الله تبارك وتعالى ليشكروا عليها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب وبلاء يكرهونه يَطَّيَّرُوا اى يتشاءموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ قالوا لم يصبنا بلاء حتى رايناهم فهذا من شوم موسى وقومه وقال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر وكان ملك(3/395)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
فرعون اربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروها ولو كان له فى تلك المدة جوع يوم او حمى يوم او وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط ولم يكن هذا القول منهم الا لكمال إغراقهم فى الغباوة والقساوة فانهم بعد مشاهدة الآيات لم ينتبهوا على انه ما كانت الحسنة الا تفضلا من الله تعالى وابتلاء فلما لم يشكروها ودعاهم الرسول المويد بالمعجزات الباهرة الى الشكر والطاعة فلم يطيعوه وتمادوا فى العصيان اخذتهم السنة لشوم أعمالهم عقوبة من عند الله تعالى كما قال أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ اى شومهم عِنْدَ اللَّهِ اى من عنده بكفرهم ومعاصيهم كذا قال ابن عباس وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لفرط غباوتهم ان الذي أصابهم عقوبة من الله تعالى وقيل معنى الاية ان طائرهم اى انصبائهم من الخير والشر كله من عند الله وفى القاموس الطائر ما تيمنت به او تشاءمت والخط وعمل الإنسان ورزقه او سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمه ومسببه او سبب شومهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده فانها التي ساقت إليهم ما يسوئهم وقيل معناه الشوم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار قال البيضاوي انما عرف الحسنة وذكرها مع اداة التحقيق يعنى إذا الكثرة وقوعها وتعلق الارادة بها بالذات لسعة رحمة الله تعالى ونكر السيئة واتى بها مع حرف الشك يعنى ان لندرتها وعدم تعلق القصد بها الا بالتبع.
وَقالُوا يعنى فرعون واله لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ اى معجزة وعلامة على صدقك فى دعوى النبوة انما سموها اية على زعم موسى عليه السلام او استهزاء به لا على اعتقادهم ولذلك قالوا لِتَسْحَرَنا بِها أعيننا وتشبه علينا وتلفتنا عما نحن عليه من الذين والضمير فى به وبها لما ذكره قبل التبئين اى كلمة مهما ذكره باعتبار اللفظ وانثه باعتبار المعنى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فدعا موسى عليهم.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ نصب على الحال من الأسماء المذكورة مُفَصَّلاتٍ مبينت لا يخفى على العاقل انها من الله تعالى ونقمته او منفصلات لامتحان أحوالهم وكان بين كل ايتين منها ثلاثون يوما أخرجه ابن ابى حاتم عن سعيد بن جبير وكان امتداد كل منها اسبوعا أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس بلفظ يمكث فيهم سبتا الى سبت ثم يرفع عنهم شهرا وقيل ان موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل قال البغوي قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة و(3/396)
محمد بن اسحق دخل كلام بعضهم فى بعض لما امنت السحرة ورجع فرعون وقومه مغلوبا ابى هو وقومه لا الاقامة على الكفر والتمادي فى الشر فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات فلما عالج منهم بالآيات الأربع العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات فابوا ان يؤمنوا فدعا عليهم موسى عليه السلام فقال يا رب ان عبدك فرعون علا فى الأرض وطغى وعتى وان قومه قد نقضوا عهدك فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومى عظة ولمن بعدهم اية وعبرة فبعث عليهم الطوفان وهو الماء أرسل الله عليهم المطر وبيوت بنى إسرائيل وبيوتهم مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا فى الماء وركد الماء على أراضيهم لا يقدرون على ان يحرثوا ولا يزرعوا شيئا ودام ذلك عليهم سبعة ايام من السبت الى السبت وقال مجاهد وعطاء الطوفان الموت كذا اخرج ابن جرير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم وقال وهب الطوفان الطاعون بلغة اليمن وقال ابو قلابة الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به فبقى فى الأرض وقال مقاتل الطوفان الماء طفا فوق حروثهم وروى ابو ظبيان عن ابن عباس قال الطوفان امر من الله عز وجل طاف بهم ثم قرأ فطاف عليهم طائف من ربك وهم نائمون قال نحاة الكوفة الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان وقال اهل البصرة هو جمع واحدها طوفانة فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ونرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف الطوفان فانبت الله لهم فى تلك السنة شيئا لم ينبت قبل ذلك من الكلأ والزروع والثمار وأخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء الا نعمة علينا وخصبا فلم يومنوا وقاموا شهرا فى عافية فبعث الله عليهم الجراد وأكل عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر حتى كانت تأكل الأبواب وسقف البيت والخشب والنبات والامتعة ومسامير الأبواب من الحديد حتى يقع دونهم وابتلى الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولا يصيب بنى إسرائيل شىء من ذلك فعجوا «1» وضجوا «2» وقالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك واعطوا عهد الله وميثاقه فدعا موسى فكشف الله عنهم الجواد بعد ما اقام عليهم سبعة ايام من السبت الى السبت وفى الخبر مكتوب على صدر كل جراد جند الله الأعظم ويقال ان موسى برز الى الفضاء فاشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث
__________
(1) العج رفع الصوت 12
(2) الضج الصياح عند المكروه والمشقة والجزع 12(3/397)
جاءت وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاتهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يفوا بما عاهدوا وعادوا الى أعمالهم السوء فاقاموا شهرا فى عافيه ثم بعث الله عليهم القمل واختلفوا فى القمل فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال القمل السوس الذي يخرج من الحنطة وقال مجاهد والسدى وقتادة والكلبي الدباء قالوا الجراد الطيارة التي لها اجنحة والدباء صغارها التي لا اجنحة لها وقال عكرمة هى بنات الجراد وقال ابو عبيدة هو الحمنان وهو ضرب من القراد وقال عطاء الخراسانى هو القمل وبه قرأ الحسن والقمل بفتح القاف وسكون الميم قالوا امر الله تعالى موسى ان يمشى الى كثيب «1» اعفر «2» بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فمشى موسى الى ذلك الكثيب وكان اهيل «3» فضربه بعصاه فانتال عليهم بالقمل فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فاكله وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلدهم فيعضه وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلى قملا قال سعيد بن المسيب القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل يخرج عشرة أقفزة الى الرحى فلم يرد منها الا ثلثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وانحزت أشعارهم وأبصارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كالجدرى عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا الى موسى انا نتوب فادع الله لنا ربك يكشف عنا البلاء فدعى موسى فرفع الله القمل عنهم بعد ما اقام سبعة ايام من السبت الى السبت فنكثوا وعادوا الى أخبث أعمالهم وقالوا ما كنا قطان نستيقن انه ساحر منا اليوم يجعل الوصل دوابا فدعا موسى عليهم بعد ما أقاموا شهرا فى عافية فارسل الله عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد اناء ولا طعاما الا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس فى الضفادع الى ذقنه ويهم ان يتكلم فيثب الضفدع فى فيه وكانت تثبت فى قدورهم فيفسد عليهم طعامهم ويطفئ نيرانهم وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفادع فتكون عليه ركاما حتى ما يستطيع ان ينصرف الى شقه الاخر ويفتح فاه لاكله فيسبق الضفادع أكلته الى فيه ولا يعجن عجينا الا تشدخت فيه ولا يفتح قدرا الا امتلأت ضفادع فلقوا منها أذى شديدا وروى عكرمة عن ابن عباس قال كانت الضفادع برية فلما أرسلها الله على ال فرعون سمعت واطاعت تقذف نفسها فى القدر وهى تغلى وفى التنانير وهى تفور فاثابها لحسن طاعتها يرد الماء
__________
(1) الكثيب الرمل المستطيل المحدوب 12
(2) اعفر ابيض ليس بناصع 12
(3) الا هيل السائل من الرمل 12(3/398)
فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا الى موسى وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود تأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقاموا سبعا من السبت الى السبت فاقاموا شهرا فى عافية ثم نقضوا العهود وعادوا الى كفرهم فدعا عليهم موسى فارسل الله عليهم الدم فسال النيل عليهم دما وصارت مياهم دما فما يستسقون من الآبار والأنهار الا وجدوا دما عبيطا «1» احمر فشكوا الى فرعون فقال انه قد سحركم فقال القوم من اين سحرنا ونحن لا تجد فى أعيننا من الماء الا دما كان يجمع بين القبطي والاسرائيلى على الإناء الواحد فيكون ما يلى الاسرائيلى ماء وما يلى القبطي دما ويقومان الى جب فيه الماء فيخرج للاسرائيلى ماء والقبطي دم حتّى تكون المرأة من ال فرعون تأتي المرأة من بنى إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول اسقيني من مائك فتصب لها من قربتها فيعود فى الإناء دما حتى كانت تقول اجعليه فى فيك ثم مجيه فى فىّ فتاخذ فى فيها فاذا مجته فى فيها صارد ما وان فرعون اعتراه العطش حتى انه كان يضطر الى مضغ الأشجار الرطبة فاذا مضغ يصير مائها فى فيه ملحا أجاجا فمكثوا فى ذلك سبعة ايام لم يشربوا الا الدم قال زيد بن اسلم الدم الذي كان سلط الله عليهم كان رعافا فاتوا موسى وقالوا يموسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنومن بك ونرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان بموسى وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ اى نزل بهم جنس العذاب الذي ذكر من الطوفان وغيرها وقال سعيد بن جبير الرجز هو الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس مات منهم سبعون الفا فى يوم واحد فامسوا وهم يتدافنون روى الشيخان فى الصحيحين والترمذي والبغوي عن اسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الطاعون رجزا رسل على بنى إسرائيل وعلى من كان قبلكم فاذا سمعتم به من ارض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وروى احمد والبخاري عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم الطاعون كان عذابا يبعثه الله على من يشاء وان الله جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث فى بلده صابرا محتسبا يعلم انه لا يصيبه الا ما كتب الله له الا كان له مثل اجر شهيد قلت لكن الحديثين المذكورين لا يدلان على ان الطاعون أرسل على القبط بل يدلان على انه أرسل على بنى إسرائيل ولعله
__________
(1) العبيط الدم الطري 12(3/399)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
ذلك بعد فرعون قلت ولو صح قول سعيد بن جبير فحينئذ بعد السنين ونقص من الثمرات اية واحدة ثالثة بعد العصا واليد بعضها على اهل القرى وهو السنين وبعضها على اهل الأمصار هو نقص من الثمرات وبعدها ست آيات من الطوفان الى الرجز فهى الآيات التسع المرادة بقوله تعالى ولقد اتينا موسى تسع آيات.
قالُوا يعنى فرعون واتباعه يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ كشف العذاب عنا ان أمنا او بعهده عندك وهو النبوة كذا قال عطاء او بالذي عهده إليك من اجابة دعوتك وهو صلة لادع او حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا اليه بما عهد عندك او متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا الى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك او قسم جوابه لَئِنْ كَشَفْتَ يعنى اقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ الى ارض الشام وكان استعبدهم.
فَلَمَّا كَشَفْنا بدعاء موسى عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ اى حد من الزمان هُمْ بالِغُوهُ يعذبون فيه او يهلكون وهو وقت الغرق او الموت وقيل الى أجل عينوه لايمانهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب للما اى فلما كشفنا عنهم الرجز فاجئوا النكث ونقض العهد والإصرار على الكفر من غير توقف وتأمل فيه.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعنى أخذناهم بالنقمة والعذاب بيانه فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ اى البحر الذي لا يدرك قعره وهو لجة البحر المالح ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لان المشفعين به يقصدونه بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها اى عن الآيات غافِلِينَ يعنى انهم لم يتفكروا فيها حتى صاروا كالغافلين عنها وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله فانتقمنا.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعنى بنى إسرائيل بالاستعباد وذبح الأبناء واستخدام النساء مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها بالأنهار والأشجار والثمار والخصب وسعة العيش يعنى ارض مصر والشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا فى نواحيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة اى مضت عليهم يقال تم الأمر إذا مضى عليه واتصلت بالانجاز واستمرت عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله ونريد ان نمن الى قوله ما كانوا يحذرون المذكور فى القصص وقوله عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا اى بسبب صبرهم على دينهم والشدائد من فرعون(3/400)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
وقومه وَدَمَّرْنا خربنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من القصور والعمارات وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الثمار والأعناب فى الجنات كذا قال الحسن او ما كانوا يرفعون من البناء كصرح هامان وغير ذلك من القصور والبيوت كذا قال مجاهد قرأ ابو بكر وابن عامر يعرشون بضم الراء هنا وفى النحل والباقون بكسرها وهذا اخر قصة فرعون وقومه ويتلوه ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد ما من الله عليهم بالنعم الجسم وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم فيما يرى منهم وايقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم وفى قوله تعالى بما صبروا حث على الصبر ودلالة على ان من قابل البلاء بالصبر فرجه الله عنه ودمر عدوه ومن قابله بالجزع وكله الله اليه والله تعالى اعلم.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قال الكلبي عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد ما هلك فرعون وقومه فصام شكر الله عز وجل فَأَتَوْا فمروا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ اى يقيمون قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف والباقون بضمها وهما لغتان عَلى عبادة أَصْنامٍ أوثان لَهُمْ قال ابن جريج كانت تماثيل بقر وذلك أول شان العجل وكذا اخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير وزاد من نحاس والقوم قيل كانوا من العمالقة الذين امر موسى بقتالهم واخرج ابن ابى حاتم وابو الشيخ من ابن عمر ان الجونى قال هم لخم وجذام وقال البغوي قال قتادة كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة فقالت بنو إسرائيل لما رأوا ذلك قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً اى مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها قال البغوي ولم يكن ذلك شكا من بنى إسرائيل فى وحدانية الله تعالى وانما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب الى الله بتعظيمه وظنوا ان ذلك لا يضر الديانية وكان ذلك لخفة عقلهم وشدة جهلهم ولذلك قالَ لهم موسى تعجبا من قولهم على اثر ما رأوا من الآيات إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل وأكده بقوله.
إِنَّ هؤُلاءِ القوم مُتَبَّرٌ اى مهلك ما هُمْ فِيهِ يعنى الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضا وَباطِلٌ مضمحل ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها يعنى ليس ذلك مقربا الى الله تعالى بالغ فى هذا الكلام بايقاع هؤلاء اسم ان والاخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان وتقديم الخبرين فى الجملتين الواقعين خبر الان للتنبيه على ان الذمار لاحق لما هم فيه لا محالة لا يعدوهم وان الإحباط الكلى لازم لما مضى عنهم تنقيرا وتحذيرا عما طلبوا ثم.
قالَ(3/401)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
موسى توبيخا وتعجبا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً اطلب لكم معبودا وَهُوَ اى الله سبحانه فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ اى عالمى زمانكم يعنى والحال انه خصكم بنعم لم يعطها غيركم وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من بين أمثالهم بما لم يستحقوه تفضلا بما قصدوا ان يشركوا به احسن شىء من مخلوقاته وهو ليس كمثله شىء عن واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه واله وسلم الله اكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا الها كما لهم الهة انكم تركبون سنن من قبلكم رواه البغوي بسنده واذكروا صنيعه معكم الان.
إِذْ أَنْجَيْناكُمْ قرأ ابن عامر من الافعال على الغيبة وهكذا فى مصاحف اهل الشام والباقون أنجيناكم على التكلم والتعظيم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ استيناف لبيان ما أنجاهم منه او حال من المخاطبين او من ال فرعون او منها سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ قرأ نافع بفتح الياء واسكان القاف وضم التاء الفوقانية من المجرد والباقون بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددا من التفعيل للتكثير أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ جملة يقتلون مع ما عطف عليه بدل من يسومونكم مبين له وَفِي ذلِكُمْ العذاب او الانجاء بَلاءٌ محنة او نعمة مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَواعَدْنا مُوسى قرأ ابو عمرو وعدنا من المجرد والباقون من المفاعلة ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ اخرج ابن ابى حاتم عن ابى العالية يعنى ذى القعدة وعشرا من ذى الحجة قال السيوطي وعد الله موسى ان يكلمه عند انتهاء ثلثين ليلة وقال البغوي وعد موسى بنى إسرائيل وهم بمصر ان الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما فعل الله ذلك سال موسى ربه الكتاب فامر الله عز وجل ان يصوم ثلثين يوما فلما تمت ثلثون وجد خلوفا فتسوك بعود خروب وقال ابو العالية أكل من لحاء شجرة فقالت له الملئكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فافسدته بالسواك فامر الله ان يصوم عشرة ايام من ذى الحجة وقال اما علمت ان خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك وكانت فتنتهم فى العشر الذي زاده وكذا اخرج الديلمي عن ابن عباس معناه فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ اى وقت وعده بكلامه وإيتاء الكتاب أَرْبَعِينَ حال لَيْلَةً تميز وَقالَ مُوسى عند انطلاقه الى الجبل للمناجاة لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي اى كن خليفتى فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ما يجب ان يصلح(3/402)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
من أمورهم او كن مصلحا او أصلحهم بحملك إياهم على طاعة الله وقال ابن عباس يريد الرفق بهم والإحسان إليهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ يعنى لا تتبع من عصى الله ولا تطع من دعاك الى المعصية والإفساد.
وَلَمَّا جاءَ مُوسى الى طور سيناء لِمِيقاتِنا اللام للاختصاص اى اختص مجيئه لميقاتنا اى وقتنا الذي وقتنا له ان أكلمه فيه قال اهل التفسير ان موسى عليه السّلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فى القصة ان الله انزل ظلمة على سبعة فراسخ وطرد عنه الشياطين وطوّر هو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فراى الملئكة قياما فى الهواء ورأى العرش بارزا فكلمه الله وناجاه حتى أسمعه وكان جبرئيل معه فلم يسمع ما كلمه ربه حتى سمع صرير القلم قال البيضاوي روى ان موسى كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة قلت معناه انه لا يسمع من جهة وكان كلما يتوجه الى جهة من الجهات يسمع ذلك الكلام بلا جهة من غير تفاوت فاستجلى موسى كلام ربه واشتاق الى رويته وقالَ رَبِّ أَرِنِي نفسك أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الحسن هاج به الشوق قال الروية ظنا منه انه يجوز ان يرى فى الدنيا يعنى قياسا على الروية فى الاخرة قالَ الله تعالى لَنْ تَرانِي وليس لبشران يطيق النظر الىّ فى الدنيا من نظر الىّ فى الدنيا مات فقال الهى سمعت كلامك فاشتقت الى النظر إليك ولان انظر إليك ثم أموت أحب الى من ان اعيش ولا أراك قال السيوطي التعبير بلن ترانى دون لا ارى يفيد إمكان الروية فقال الله تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ الاية وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير قال السدى لما كلم الله تعالى موسى غاص الخبيث إبليس فى الأرض حتى خرج بين قدمى موسى فوسوس اليه وقال ان من كلمك شيطان فعند ذلك سأل الروية وفى هذه الاية دليل على إمكان الروية فى الدنيا لان طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصا ما يقتضى الجهل بالله تعالى وقوله لن ترانى فيه دليل على عدم الوقوع له ما دامت الدنيا لا على عدم الوقوع له ولغيره فضلا من عدم الإمكان والظاهر ان موسى قبل نزول قوله لن ترانى كان لا يعرف عدم الوقوع فى الدنيا وليس هذا جهلا بالله تعالى بل ببعض أحكامه كما ان نوحا عليه السلام سأل ربه نجاة ابنه وابراهيم عليه السلام سأل مغفرة أباه ومحمدا صلى الله عليه واله وسلم سأل مغفرة ابى طالب حتى نزل قوله تعالى وما كان للنبى والذين أمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى الاية وسأل مغفرة بعض المنافقين حتى نزل استغفر لهم او لا تستغفر لهم(3/403)
ان تستغفر لهم سبعين مرة وحتى نزل ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره كل ذلك لعدم اطلاعهم على عدم وقوع الاستجابة مع كفر المدعو لهم واستدل نفاة الروية بقوله تعالى لن ترانى قالوا لن للتأبيد قلنا ليس كذلك بل هى لتاكيد نفى الروية المسئولة فى الدنيا الا ترى ان قوله تعالى ولن يتمنوه ابدا اخبار عن اليهود وقد اخبر عن الكفرة بتمنيهم الموت فى الاخرة حيث قال ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقال يا ليتها كانت القاضية ويقول الكفر يليتنى كنت ترابا والقول بان سوال موسى عليه السلام الروية كان لتبكيت قومه حين قالوا أرنا الله جهرة خطأ فاحش فان ذلك وقعة اخرى وقد عذبهم الله تعالى على ذلك القول فاخذتهم الصاعقة بظلمهم حيث لم يكونوا مستحقين لها ولم يكن أحدا من قوم موسى معه حين كلمه الله تعالى وأعطاه التورية وسأل ربه الروية ولم يعاتب على موسى على ذلك السؤال لاستحقاقه وانما نفى الروية لعدم احتمالها للنية الدنيوية وقال ولكن انظر الى الجبل الاية وايضا لو كانت الروية ممتنعة وكان هذا السؤال لتبكيت قومه لوجب على موسى ان تجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا اجعل لنا الها وكيف يتبع موسى سبيلهم لو كان ممتنعا وقد قال لاخيه ولا تتبع سبيل المفسدين وقوله تعالى ولكن انظر الى الجبل فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي استدراك يريد ان يبين به انه لا يطيقه كما لا يطيق الجبل وفى تعليق الروية بالاستقرار ايضا دليل على الجواز ضرورة ان المعلق على الممكن ممكن قال وهب وابن اسحق لما سأل موسى ربه الروية أرسل الله الضباب «1» والصواعق والظلمة والرعد والبرق وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى الى اربعة فراسخ من كل جانب وامر الله تعالى ملئكة السموات ان يعترضوا على
موسى فمرت به ملئكة السماء الدنيا كثيران «2» البقر تتبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم امر الله ملئكة السماء الثانية ان اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لجب «3» بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما راى وسمع واقشعرت كل شعرة فى راسه وجسده ثم قال لقد ندمت على مسألتى فهل يجنبنى من مكانى الذي انا فيه شىء فقال خير الملئكة وراسهم يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم امر الله تعالى ملئكة السماء الثالثة ان اهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا أمثال الأسود لهم قصف «4»
__________
(1) الضباب اى السحاب الرقيق 12
(2) كثيران جمع ثور اى الذكر من البقر 12
(3) لجب الصياح واضطراب موج البحر 12 قاموس
(4) قصف اى كسر وقصف الرعد اى صار صوته شديدا 12 [.....](3/404)
ورجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح والتقديس كجلب «1» الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد نفسه وايس من الحيوة فقال له خير الملئكة يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم امر الله تعالى ملئكة السماء الرابعة ان اهبطوا واعترضوا على موسى ابن عمران وكان لا يشبههم شىء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شىء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت «2» ركبتاه وارعد «3» قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملئكة وراسهم يا ابن عمران اصبر لما سالت فقليل من كثير ما رايت ثم امر الله تعالى ملئكة السماء الخامسة ان اهبطوا واعترضوا على موسى فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى ان يتبعهم بصره لما لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملئكة يا ابن عمران مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه ثم امر الله ملئكة السماء السادسة ان اهبطوا على عبدى الذي طلب ليرانى فاعترضوا عليه وفى يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نار أشد ضوء من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاءوا بهم من كان قبلهم من ملئكة السموات كلهم يقولون لشدة أصواتهم سبوح قدوس رب الملئكة والروح رب العزة ابدا لا يموت فى راس كل ملك منهم اربعة أوجه فلما راهم موسى رفع صوته ليسبح حين سبحوا وهو يبكى ويقول رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدرى انفلت مما انا فيه أم لا ان خرجت احترقت وان مكثت مت فقال له كبير الملئكة وراسهم قد اوشكت يا ابن عمران ان يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذى سألت ثم امر الله ان يحمل عرشه فى ملئكة السماء السابعة فلما بدأ نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله فرفعت ملئكة السماء أصواتهم جميعا يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة ابدا لا يموت فارتج الجبل بشدة أصواتهم واندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه فارسل الله برحمته الروح فتغشاه وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعل كهيئة القبة لئلا يحترق موسى فاقامه الروح مثل الام فقام موسى يسبح الله ويقول امنت بك ربى وصدقت انه لا يراك أحد فيحيى من نظر الى ملئكتك انخلع قلبه فما أعظم ملئكتك أنت رب الأرباب واله الالهة وملك الملوك ولا يعدلك شىء ولا يقوم لك شىء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك
و
__________
(1) اى اختلاط الصوت 12
(2) فاصطكت اى اضطربت 12
(3) ارعد اى اضطرب 12(3/405)