اللغة:
(صَلْصالٍ) الصلصال: الطين اليابس له صلصلة أي صوت إذا نقر.
(الفخار) الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف.
(الْجَانَّ) أبو الجن وأل فيه للجنس.
(مارِجٍ) المارج: اللهب الصافي الذي لا دخان فيه وقيل هو المختلط بسواد النار من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط.
(مَرَجَ) خلط ومعنى مرج البحرين خلط البحرين العذب والملح(9/401)
في مرأى العين ومع ذلك لا يتجاوز أحدهما على الآخر، وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى، وفي المصباح: «المرج أرض ذات نبات ومرعى والجمع مروج مثل فلس وفلوس ومرجت الدابة تمرج مرجا من باب قتل رعت في المرج ومرجتها مرجا أرسلتها ترعى في المرج يتعدى ولا يتعدى» .
(بَرْزَخٌ) البرزخ الحاجز بين الشيئين وجمعه برازخ.
(اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الدرّ والمرجان: هذا الخرز الأحمر، وقال القاضي أبو يعلى: «أنه ضرب من اللؤلؤ كالقضبان والمرجان اسم أعجمي معرب» وقال ابن دريد: «لم أسمع فيه نقل متصرف» وقال الأعشى:
من كل مرجانة في البحر أحرزها ... تيارها ووقاها طينها الصدف
وقيل عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف.
(الجواري) السفن وهي جمع جارية قال الترمذي «فالفلك أولا ثم السفينة ثم الجارية سمّيت بذلك لأنها تجري في الماء» .
(كَالْأَعْلامِ) الأعلام: جمع علم وهو الجبل قالت الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
الإعراب:
(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) كلام مستأنف مسوق للتوبيخ على إخلالهم بواجب شكر المنعم على إنعامه، وخلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى والإنسان مفعول به ومن صلصال متعلقان بخلق وكالفخار صفة لصلصال (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ)(9/402)
عطف على ما تقدم ومن مارج متعلقان بخلق ومن لابتداء الغاية ومن نار صفة لمارج ومن للبيان أو للتبعيض (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) رب المشرقين خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب المشرقين ورب المغربين عطف عليه والمراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغرب الصيف ومغرب الشتاء وقيل المراد بالمشرقين مشرق الشمس والقمر وبالمغربين مغرب الشمس والقمر، بيّن سبحانه قدرته على تصريف الشمس والقمر ومن قدر على ذلك قدر على كل شيء وقيل هو مبتدأ خبره جملة مرج البحرين والأول أولى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) مرج البحرين فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وجملة يلتقيان في محل نصب على الحال وهي قريبة من الحال المقدّرة ويجوز أن تكون مقارنة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وبرزخ مبتدأ مؤخر ولا نافية ويبغيان فعل مضارع مرفوع والجملة صفة لبرزخ والجملة كلها مستأنفة أو حال من الضمير في يلتقيان ومعنى لا يبغيان لا يتجاوز كلّ منهما حدوده فالعذب منفرد بعذوبته والملح منفرد بملوحته (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) الجملة مستأنفة أو حال ثانية من الضمير في يلتقيان ومنهما متعلقان بيخرج واللؤلؤ فاعل يخرج والمرجان عطف على اللؤلؤ (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الواو استئنافية وله خبر مقدم والجوار مبتدأ مؤخر وحذفت الياء في الرسم لأنها من ياءات الزوائد والمنشآت نعت للجوار وفي البحر متعلقان بالمنشئات وكالأعلام حال من الجوار أو من الضمير في المنشآت والمعنى واحد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) كل مبتدأ ومن اسم موصول في محل جر بالإضافة لكل وعليها متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول وفان خبر كل(9/403)
وحذفت الياء لالتقاء الساكنين (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الواو عاطفة ويبقى فعل مضارع مرفوع ووجه ربك فاعله وذو الجلال صفة لوجه والإكرام عطف على الجلال (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابه (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كلام مستأنف للشروع في تعدّد آلاء أخرى من آلائه سبحانه ولك أن تجعل الجملة حالا من وجه والعامل فيه يبقى أي يبقى حال كونه مسئولا من أهل السموات والأرض. ويسأله فعل مضارع ومفعوله المقدّم السؤال محذوف فأهل السموات يسألونه المغفرة وأهل الأرض يسألونه المغفرة والرزق، وكل يوم ظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر هو وهو مبتدأ وفي شأن خبر (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها.
البلاغة:
1- في قوله «يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان» فن الاتساع وقد تقدم القول فيه مفصلا، فقد أسند الخروج إلى اللؤلؤ والمرجان لأنه إذا أخرج ذلك فقد خرج وقال يخرج منهما ولم يقل من أحدهما لأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقول منهما وقد تقدم القول في مثله وهو قوله «لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» وإنما أريد إحدى القريتين وكما تقول فلان من أهل ديار الشام وإنما بلده واحد منها.
2- وفي قوله «وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام» تشبيه مرسل فقد شبّه السفن وهي تمخر عباب البحر رائحة جائية بالجبال، وقد استهوى هذا التشبيه الشعراء فاقتبسوه قال ابن الرومي:
أين فلك فيها وفلك إليها ... منشآت في البحر كالأعلام(9/404)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
3- وفي قوله «كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام» فن طريف وهو فن الافتنان، وحدّه أن يفتن المتكلم فيأتي في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين أو متفقين، وقد جمع سبحانه بين التعزية والفخر إذ عزى جميع المخلوقات وتمدح بالانفراد بالبقاء بعد فناء الموجودات مع وصفه ذاته بعد انفراده بالبقاء بالجلال والإكرام، ومن أمثلته في الشعر الجمع بين الغزل والحماسة، والغزل لين ورقّة والحماسة شدّة وقوة، كقول أبي دلف أو عبد الله بن طاهر على اختلاف بين المؤرخين:
أحبك يا ظلوم وأنت عندي ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان
فقد جمع بين الغزل والحماسة بأرشق عبارة وأبلغ إشارة، وقد بلغ عنترة فيه الذروة حين قال:
إن تغدفي دوني القناع فإنني ... طب يأخذ الفارس المستلئم
فقد وصف عبلة بستر وجهها دونه بالقناع حتى صار ما بين بصره ووجهها كالليل المغدف الذي يحول بين الأبصار والمبصرات، ثم قال:
إنني طب بأخذ الفارس المستلئم، أي إن تتبرقعي دوني فإني خبير لدريتي بالحرب بأخذ الفارس الذي سترته لأمته وحالت دوني ودون مقابلته، فأبرز الجدّ في صورة الهزل وجاء في بيته مع الافتنان التندير الطريف، والتعبير عن المعنى باللفظ الشريف.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 45]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)(9/405)
اللغة:
(سَنَفْرُغُ) قال الزجّاج: «إن الفراغ في اللغة على ضربين أحدهما الفراغ من الشغل والآخر القصد للشيء والإقبال عليه كما هنا وهو تهديد ووعيد، تقول قد فرغت مما كنت فيه أي قد زال شغلي به وتقول سأفرغ لفلان أي سأجعله قصدي فهو على سبيل التمثيل، شبّه تدبيره تعالى أمر الآخرة من الأخذ في الجزاء وإيصال الثواب والعقاب إلى المكلفين بعد تدبيره تعالى لأمر الدنيا بالأمر والنهي والإماتة والإحياء والمنع والإعطاء، وأنه لا يشغله شأن عن شأن بحال من إذا كان في شغل يشغله عن شغل آخر إذا فرغ من ذلك الشغل شرع في آخر» .(9/406)
وقال الزمخشري: «مستعار من قول الرجل لمن يتهدده: سأفرغ لك يريد سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك حتى لا يكون لي شغل سواه والمراد التوفر على النكاية فيه والانتقام منه، ويجوز أن يراد ستنتهي الدنيا وتبلغ آخرها وتنتهي عند ذلك شئون الخلق التي أرادها بقوله: كل يوم هو في شأن فلا يبقى إلا شأن واحد وهو جزاؤكم فجعل ذلك فراغا على طريق المثل» .
ويتلخص مما تقدم أن الفراغ من صفات الأجسام التي تحلّها الأعراض وتشغلها عن الأضداد في تلك الحال ولذلك وجب أن يكون في صفة القديم تعالى مجازا.
(الثَّقَلانِ) أصله من الثقل وكل شيء له وزن وقدر فهو ثقل ومنه قيل لبيض النعامة ثقل قال:
فتذكرا ثقلا رتيدا بعد ما ... ألقت ذكاء يمينها في كافر
وإنما سمّيت الإنس والجن ثقلين لعظم خطرهما وجلالة شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من الحيوانات ولثقل وزنهما بالعقل والتمييز ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» سمّاهما ثقلين لعظم خطرهما وجلالة قدرهما، وقيل إن الجن والإنس سمّيا ثقلين لثقلهما على الأرض إحياء، ومنه قوله تعالى:
«وأخرجت الأرض أثقالها» أي أخرجت ما فيها من الموتى، والعرب تجعل السيد الشجاع ثقلا على الأرض، قالت الخنساء:
أبعد ابن عمرو من آل الشريد ... حلّت به الأرض أثقالها
والمعنى أنه لما مات حلّ عنها ثقل بموته لسؤدده ومجده، وقيل إن المعنى: زينت موتاها من التحلية.(9/407)
(أَقْطارِ) الأقطار جمع القطر وهو الناحية يقال طعنه فقطره إذا ألقاه على أحد قطريه وهما جانباه.
(بِسُلْطانٍ) بقوة وقهر وغلبة.
(شُواظٌ) الشواظ بضم الشين وكسرها، قال أبو عبيدة: هو اللهب لا دخان فيه، وقال رؤبة:
إنّ لهم من حربنا إيقاظا ... ونار حرب تسعر الشواظا
(وَنُحاسٌ) النحاس: الدخان وأنشد للنابغة الجعدي:
تضيء كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا
وقيل الصفر المذاب يصبّ على رؤوسهم.
(كَالدِّهانِ) في الدهان قولان أحدهما أنه جمع دهن نحو قرط وقراط ورمح ورماح وهو في معنى قوله: يوم تكون السماء كالمهل وهو دردي الزيت والثاني أنه اسم مفرد، وقال الزمخشري: «اسم لما يدهن به كالجزام والإدام» وقيل هو الأديم الأحمر.
(بِسِيماهُمْ) السيما مشتق من السوم وهو رفع الثمن عن مقداره والعلامة ترفع باظهارها لتقع المعرفة بها.
(بِالنَّواصِي) جمع ناصية وهي شعر مقدّم الرأس وأصله الاتصال فالناصية متصلة بالرأس.
(حَمِيمٍ) : ماء حار.
(آنٍ) شديد الحرارة وفعله أنّى يأني أنيا.(9/408)
الإعراب:
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) كلام مستأنف مسوق للتهديد والوعيد، والسين حرف استقبال ونفرغ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن ولكم متعلقان بنفرغ وأيّه الثقلان منادى نكرة مقصودة حذف منه حرف النداء والثقلان بدل من أيّه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا)
يا حرف نداء ومعشر الجن منادى مضاف والإنس عطف على الجن وإن شرطية واستطعتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن حرف مصدري ونصب وتنفذوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما في حيزها في موضع نصب مفعول استطعتم ومن أقطار السموات والأرض متعلقان بتنفذوا، فانفذوا: الفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب طلب وانفذوا فعل أمر والواو فاعل والمراد بالأمر هنا التعجيز (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) لا نافية وتنفذون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وبسلطان متعلقان بتنفذون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) الجملة مستأنفة ويرسل فعل مضارع مبني للمجهول وعليكما متعلقان بيرسل وشواظ نائب فاعل ومن نار نعت لشواظ ونحاس عطف على شواظ وقرئ بالجر عطفا على نار وعبارة القرطبي: «وقرأ ابن كثير وابن محيصن ومجاهد وأبو عمرو: ونحاس بالخفض عطفا على النار، قال المهدوي: من قال: إن الشواظ النار والدخان جميعا فالجر في نحاس هذا تبيين، فأما الجر على قول من جعل الشواظ اللهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف فكأنه قال يرسل عليكما شواظ من نار وشيء من نحاس فشيء معطوف على شواظ ومن نحاس جار ومجرور صفة لشيء وحذفت من لتقدّم ذكرها في من نار(9/409)
فيكون نحاس على هذا مجرورا بمن المحذوفة» والفاء عاطفة ولا نافية وتنتصران فعل مضارع مرفوع والألف فاعل أي فلا تمتنعان من ذلك ولا تجدان منجاة منه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) الفاء استئنافية وإذا انشقت السماء ظرف لما يستقبل من الزمن وفعل وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها، فكانت عطف على انشقّت واسم كانت مستتر يعود على السماء ووردة خبرها وكالدهان نعت لوردة أو خبر ثان لكانت أو حال من اسم كانت وسيأتي مزيد بحث عن هذا التشبيه في باب البلاغة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) الفاء رابطة لجواب إذا وقيل جواب إذا محذوف أي فإذا انشقّت السماء رأيت أمرا عظيما، والفاء عاطفة عليه ولا داعي لهذا التكلّف، ويومئذ ظرف متعلق بيسأل وإذ ظرف مضاف إلى مثله والتنوين فيه عوض عن جملة أي فيوم إذا انشقت السماء ولا نافية ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول وعن ذنبه متعلقان بيسأل وإنس نائب فاعل ولا جان عطف على إنس، والجان والإنس كلّ منهما اسم جنس يفرّق بينه وبين واحده بالياء كزنج وزنجي (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) يعرف فعل مضارع مبني للمجهول والمجرمون نائب فاعل وبسيماهم متعلقان بيعرف والفاء عاطفة ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول وبالنواصي هو نائب الفاعل ويؤخذ متعدّ ومع ذلك تعدّى بالباء لأن ضمن معنى يسحب كما قال أبو حيان، ويسحب إنما يتعدى بعلى، قال تعالى: يوم يسحبون في النار على وجوههم، فالأولى أن يقال ضمن معنى يدفع أي يدفعون والمعنى تأخذ الملائكة بنواصيهم أي بشعورهم من مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار، وقال الضحاك: «يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره» وعنه يؤخذ برجلي الرجل فيجمع بينهما وبين(9/410)
ناصيته حتى يندقّ ظهره ثم يلقى في النار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) هذه مبتدأ وجهنم خبر والتي صفة وجملة يكذب بها المجرمون صلة لا محل لها (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) الجملة حال من المجرمين أو مستأنفة ويطوفون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والظرف متعلق بيطوفون وبين عطف على الظرف الأول وآن نعت لحميم وهو منقوص فالكسرة مقدّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم
إعرابها.
البلاغة:
في قوله «فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان» تشبيه تمثيلي، أراد بالوردة الغرس، والوردة تكون في الربيع أميل إلى الصفرة فإذا اشتد البرد كانت وردة حمراء فإذا كان بعد ذلك كانت وردة أميل إلى الغبراء فشبّه تلوّن السماء حال انشقاقها بالوردة وشبّهت الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن واختلاف ألوانه.
فالتشبيه تمثيلي كما ترى مركب من قسمين أو صورتين متعاقبتين صورة السماء منشقة وصورة الوردة ثم صورة الدهان والصورتان الأخيرتان لتوضيع وجه الشبه وهو أحوال تلونها فهي في الربيع صفراء وفي الشتاء حمراء ثم غبراء داكنة عند الذبول وهذا التلوّن التدريجي من اللون الناصع إلى اللون الداكن يشبه أيضا لون الدهن وقد عملت فيه النار فاشتعل بلون أصفر ثم بدت ألسنته محمرّة إذ آذن بالانطفاء ثم يتحوّل إلى رماد داكن.
وقال الملحدون: ما وجه الشبه في «فكانت وردة كالدّهان» وتكرير «فبأي آلاء ربكما تكذبان» بعد ذكر العذاب مثل يرسل عليكما(9/411)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
شواظ من نار ونحاس وإنما حقّ ذلك أن يذكر بعد تعديد النعم، والجواب عن الأول أنه قيل: معناه أن السماء تتلوّن من الفزع الأكبر كما تتلوّن الدهان المختلفة وأن الدهان جمع دهن فهو كقوله تعالى:
يوم تكون السماء كالمهل فيمن قال: المهل الزيت المغلي وقيل الدهان الجلد الأحمر، وأما الجواب عن الثاني فإن من أنذرك وخوفك من عاقبة ما تصير إليه فقد أنعم عليك، ألا تراه سبحانه قد قال: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وقد علمنا أنه بعث بشيرا لمن آمن ونذيرا لمن كفر فجعل الإنذار رحمة كما جعل التبشير وكذا كل من عليها فان، فإذا انشقّت السماء، فيه إنعام على الخلق حيث أعلمهم بما كانوا يجهلونه وحذّرهم بما يصيرون إليه وقد جعل سبحانه التحذير رأفة بقوله:
ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)(9/412)
اللغة:
(أَفْنانٍ) أغصان جمع فنن أو هي الأغصان الدقيقة التي تتفرغ من فروع الشجر، وخصّت بالذكر لأنها تورق وتثمر وتمدّ الظل.
(إِسْتَبْرَقٍ) ديباج غليظ والبطان جمع بطانة وهو باطن الظهارة وقيل إن الظهار من سندس وهو مارق من الديباج.
(جَنَى) الجنى: الثمرة التي قد أدركت على الشجرة.
(دانٍ) قريب يناله القائم والقاعد والنائم.
(قاصِراتُ الطَّرْفِ) المقصورة المحبوسة ويقال قصيرة وقصورة أي مخدّرة قال كثير:
وأنت التي حبّبت كل قصيرة ... إليّ ولم تشعر بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر
وقال امرؤ القيس:
من القاصرات الطرف لو دبّ محول ... من الذر فوق الأتب منها لأثرا
والطرف أصله مصدر فلذلك وحّد، والظاهر أنهنّ اللواتي يقصرن أعينهنّ على أزواجهنّ فلا ينظرن إلى غيرهم وقيل الطرف طرف غيرهنّ أي قصرن عيني من ينظر إليهنّ عن النظر إلى غيرهنّ.
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) لم يفتضهن وهنّ من الحور أو من نساء الدنيا(9/413)
المنشآت وفي المصباح: «طمث الرجل امرأته طمثا من بابي ضرب وقتل افتضّها وافترعها ولا يكون الطمث نكاحا إلا بالتدمية وعليه قوله تعالى: لم يطمثهنّ» .
(الْياقُوتُ) جوهر نفيس أحمر اللون يقال أن النار لا تؤثر فيه قال:
ألقني في لظى فإن غيّرتني ... فتيقن أن لست بالياقوت
ومن خواصّه أنه يقطع جميع الحجارة إلا الماس فإنه يقطعه لصلابته وقلّة مائة وشدة الشعاع والثقل والصبر على النار، قال بعضهم في مليح اسمه ياقوت:
ياقوت ياقوت قلب المستهام به ... من المروءة أن لا يمنع القوت
سكنت قلبي وما تخشى تلهبه ... وكيف يخشى لهيب النار ياقوت
والمرجان صفار اللؤلؤ وهو أشدّ بياضا ويطلق على الآخر أيضا وسيأتي المزيد من سرّ هذا التشبيه في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) الواو عاطفة ولمن خبر مقدم وجملة خاف صلة من ومقام ربه مفعول به وهو يحتمل أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا ميميا وعندئذ يحتمل معنيين الأول أنه بمعنى قيام الله عزّ وجلّ على الخلائق والثاني أنه بمعنى قيام الخلائق بين يديه تعالى وجنتان مبتدأ مؤخر والمراد جنة واحدة وإنما ثنّى مراعاة للفواصل، وعبارة الزمخشري «فإن قلت لم قال جنتان قلت: الخطاب للثقلين فكأنه قيل لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجنّي ويجوز أن يقال جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي» (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (ذَواتا أَفْنانٍ) ذواتا صفة لجنتان وأفنان(9/414)
مضاف إليه وخصّ الأفنان بالذكر لأنها هي التي تمرع وتورق ومنها تمتد الظلال وتجنى الثمار وقيل الأفنان أنواع النعيم وألوانه مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال:
ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر
وذات مؤنث ذو التي بمعنى صاحب، ولا تكون إلا مضافة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) فيهما خبر مقدّم وعينان مبتدأ مؤخر وجملة تجريان نعت عينان أي في الأعالي والأسافل، والأقوال كثيرة في العينين ولعلّ ما أوردناه أقرب إلى المنطق (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) فيهما خبر مقدّم ومن كل فاكهة حال لأنه كان في الأصل صفة لزوجان وتقدم وزوجان مبتدأ مؤخر أي صنفان وكلاهما مستلذ معذوذب (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) متكئين منصوب على المدح بفعل محذوف أو حال من قوله ولمن خاف لأن من فيها معنى الجمع وقيل العامل محذوف أي يتنعمون متكئين وعلى فرش متعلقان بمتكئين وبطائنها مبتدأ ومن إستبرق خبر والجملة صفة لفرش والواو حالية أو عاطفة وجنى مبتدأ والجنتين مضاف إليه ودان خبر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) فيهنّ خبر مقدّم والضمير يعود على الجنتين وما اشتملتا عليه من قصور ومقاصير أو على الجنات المدلول عليها بقوله «ولمن خاف مقام ربه جنتان» وإذا كان لكل فرد من الخائفين جنتان فصحّ أنها جنات كثيرة، وقاصرات الطرف مبتدأ مؤخر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويطمثهنّ فعل مضارع مجزوم بلم والجملة صفة لقاصرات الطرف لأن الإضافة لفظية فلا تتعرف ويجوز أن تكون(9/415)
حالية لأن النكرة قد تخصصت بالإضافة وإنس فاعل وقبلهم ظرف زمان متعلق بيطمثهنّ، ولا جان عطف على إنس (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدّم إعرابها (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) الجملة نعت لقاصرات الطرف أو حال منها وكأن واسمها والياقوت خبرها والمرجان عطف على الياقوت (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) هل حرف استفهام معناه الجحد والنفي وجزاء مبتدأ والإحسان مضاف إليه وإلا أداة حصر والإحسان خبر جزاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها.
البلاغة:
1- في قوله «فيهنّ قاصرات الطرف» فن الإرداف وقد تقدم أنه أن يريد المتكلم معنى فلا يعبّر عنه بلفظه الموضوع له بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف، والمعنى في الآية- كما قلنا- فيهنّ عفيفات قد قصرت عفّتهنّ طرفهن على بعولتهنّ، وعدل عن المعنى الخاص إلى لفظ الإرداف لأن كلّ من عفّ غضّ الطرف عن الطموح، فقد يمتد نظر الإنسان إلى شيء وتشتهيه نفسه ويعفّ عنه مع القدرة عليه لأمر آخر، وقصر طرف المرأة على بعلها أو قصر طرفها حياء وخفرا أو قصر عيني من ينظر إليهنّ عن النظر إلى غيرهنّ أمر زائد على العفّة لأن من لا يطمح طرفها لغير بعلها أو لا يطمح حياء وخفرا فإنها ضرورة تكون عفيفة، فكل قاصرة الطرف عفيفة وليست كل عفيفة قاصرة الطرف فلذلك عدل عن اللفظ الخاص إلى لفظ الإرداف.
2- في قوله «كأنهنّ الياقوت والمرجان» تشبيه مرسل مجمل لوجود الأداة، أما وجه الشبه فهو الصفاء، وعن ابن مسعود رضي الله(9/416)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّة حتى يرى مخها وذلك بأن الله عزّ وجلّ يقول: كأنهنّ الياقوت والمرجان فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لأريته من ورائه.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: كأنهنّ الياقوت والمرجان قال: ينظر إلى وجهه في خدّها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب وإنه ليكون عليها سبعون حلّة ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك. وسيأتي مزيد من وصف نساء الجنة في سورة الواقعة.
الفوائد:
(هَلْ) ترد في الكلام على أربعة أوجه:
1- تكون بمعنى «قد» كقوله: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» .
2- وبمعنى الاستفهام كقوله: «فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا» .
3- وبمعنى الأمر كقوله: «فهل أنتم منتهون» .
4- وبمعنى الجحد كقوله: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)(9/417)
اللغة:
(مُدْهامَّتانِ) في المختار: «دهمهم الأمر غشيهم وبابه فهم وكذا دهمتهم الخيل، ودهمهم بفتح الهاء لغة والدهمة السواد يقال فرس أدهم وبعير أدهم وناقة دهماء وإدهام ادهيماما أي اسودّ قال الله تعالى:
مدهامتان أي سوداوان من شدّة الخضرة من الري والعرب تقول لكل شيء أخضر أسود وسمّيت قرى العراق سوادا لكثرة خضرتها، والشاة الدهماء الحمراء الخالصة الحمرة ويقال للقيد أدهم» وفي القاموس:
«وحديقة دهماء ومدهامة خضراء تضرب إلى السواد نعمة وربا ومنه مدهامتان» .
َضَّاخَتانِ)
: فوارتان بالماء لا تنقطعان والنضخ أكثر من النضح لأن النضح بالحاء المهملة الرش وبالخاء المعجمة كالبزل والنضاخة الفوارة التي ترمي بالماء صعدا.
(مَقْصُوراتٌ) قصرن في خدورهنّ، يقال امرأة قصيرة وقصورة ومقصورة أي مخدّرة.(9/418)
(الْخِيامِ) في القاموس: «الخيمة أكمة فوق أبانين، وكل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر والجمع خيمات وخيام وخيم وخيم بالفتح وكعنب، وأخامها وأخيمها: بناها، وخيّموا دخلوا فيها وبالمكان أقاموا والشيء غطاه بشيء كي يعبق وخام عنه يخيم خيما وخيمانا وخيوما وخيومة وخيمومة وخياما نكص وجبن، وكاد كيدا فرجع عليه» وفي القرطبي «وقال عمر رضي الله عنه: الخيمة درّة مجوفة» .
(رَفْرَفٍ) جمع رفرفة أي بسط أو وسائد فهو اسم جمع أو اسم جنس جمعي وفي القاموس: «والرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس وتبسط، وكسر الخباء وجوانب الدرع وما تدلى منها وما تهدّل من أغصان الأيكة، وفضول المحابس والفرش وكل ما فضل فثني، والفراش، وسمك بحري وشجر ينبت باليمن والروشن والوسادة والبظر والشجر الناعم المسترسل والرياض والبسط وخرقة تخاط في أسفل السرادق والفسطاط والرقيق من ثياب الديباج» .
(عَبْقَرِيٍّ) منسوب إلى عبقر وتزعم العرب أنه اسم لبلد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب، قال في القاموس: «عبقر موضع كثير الجن وقرية بناؤها في غاية الحسن» والعبقري الكامل من كل شيء وقال الخليل: «النفيس من الرجال وغيرهم» وقال قطرب: «ليس هو من المنسوب بل هو بمنزلة كرسي وبختي» .
الإعراب:
(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) من دونهما خبر مقدم وجنتان مبتدأ مؤخر أي من دون تينك الجنتين المتقدمين جنتان في المنزلة وحسن المنظر وهذا على رأي من جعل الأولتين أفضل من الآخرتين وقيل بالعكس ورجحه(9/419)
الزمخشري وقال الكسائي: «ومن دونهما أي أمامهما وقبلهما» فلا فاضل ثم ولا مفضول (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (مُدْهامَّتانِ) نعت جنتان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابهاِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ)
الجملة نعت ثان لجنتان وفيهما خبر مقدّم وعينان مبتدأ مؤخر ونضاختان نعت عينان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) فيها خبر مقدّم وفاكهة مبتدأ مؤخر ونخل عطف على فاكهة ورمان عطف على نخل، وسيأتي معنى التخصيص في باب البلاغة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) فيهنّ خبر مقدم وخيرات مبتدأ مؤخر وحسان صفة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها. (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) حور بدل من خيرات لأن خيرات فيه وجهان أحدهما أنه جمع خيرة بوزن فعلة بسكون العين يقال امرأة خيرة وأخرى شرّة والثاني أنه جمع خيرة المخفّف من خيرة بالتشديد ويدل على ذلك قراءة خيرات بتشديد الياء ويجوز لك أن تعرب حورا خبرا لمبتدأ مضمر أي هنّ حور أو مبتدأ حذف خبره أي فهنّ حور ومقصورات نعت لحور وفي الخيام متعلقان بمقصورات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها من قبل (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) حال حذف عامله أي يتنعمون أو نصب على المدح واقتصر عليه الزمخشري، وهو عائد على من خاف مقام ربه، وعلى رفرف متعلقان بمتكئين وخضر نعت وعبقري عطف على رفرف وحسان نعت لرفرف خضر وعبقري (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم إعرابها (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) تبارك فعل ماض واسم ربك فاعله وذي صفة لرب والجلال مضاف إليه والإكرام عطف على الجلال وقيل أن اسم صلة لمعنى تبارك ربك قال لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر(9/420)
البلاغة:
في قوله «فيهما فاكهة ونخل ورمان» فإنما فصلهما بالواو لتخصيصها بالمزايا والفضل، وعبارة الزمخشري «فإن قلت: لم عطف النخل والرمان على الفاكهة وهما منها؟ قلت اختصاصا لهما وبيانا لفضلهما فإنهما كأنهما من المزية جنسان آخران كقوله تعالى: وجبريل وميكائيل أو لأن النخل ثمرة فاكهة وطعام والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه ومنه قال أبو حنيفة رحمة الله إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث وخالفه صاحباه» وحكى الزجّاج عن يونس النحوي وهو من قدماء النحويين أن النخل والرمان من أفضل الفواكه وإنما فصلا بالواو لفضلهما، وقال الأزهري: ما علمت أن أحدا من العرب قال في النخل والرمان وثمارها أنها ليست من الفاكهة وإنما قال ذلك من قال لقلة علمه بكلام العرب وتأويل القرآن العربي المبين والعرب تذكر الأشياء جملة ثم تختصّ شيئا منها بالتسمية تنبيها على فضل فيه. وعبارة الكرخي: وهما من الفاكهة وبه قال الشافعي رضي الله عنه وأكثر العلماء فيحنث بأكل أحدهما من حلف لا يأكل فاكهة وحينئذ فعطفهما عليها من عطف الخاص على العام تفصيلا وقيل إنهما ليسا من الفاكهة وعليه أبو حنيفة حيث قال: من حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكل النخل والرمان» وهل هو من عطف الخاص على العام أم هو عطف ما تضمنه الأول، والظاهر أن الآية ليست من عطف الخاص على العام لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعمّ عموما شموليا.(9/421)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
(56) سورة الواقعة مكيّة وآياتها ستّ وتسعون
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)
اللغة:
(الْواقِعَةُ) القيامة وصفت بأنها تقع لا محالة أو كأنها واقعة في نفسها.(9/422)
(بُسَّتِ) فتنت، وفي المصباح: بسست الحنطة وغيرها بسّا من باب قتل وهو الفتّ فهي بسيسة فعيلة بمعنى مفعوله.
(هَباءً) الهباء غبار كالشعاع في الرقة وكثيرا ما يخرج شعاع الشمس من الكوّة النافذة.
(مُنْبَثًّا) منتشرا متفرقا بنفسه من غير حاجة إلى هواء يفرقه.
(أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الذين يعطون كتبهم بأيمانهم من اليمن والبركة.
(أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) الذين يعطون كتبهم بشمالهم المشائيم على أنفسهم.
(ثُلَّةٌ) جماعة.
(مَوْضُونَةٍ) منسوجة متداخلة كصفة الدرع، قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ... تساق إلى الحيّ عيرا فعيرا
الإعراب:
(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) في إذا أوجه:
1- ظرف محض ليس فيها معنى الشرط والعامل فيها ما في ليس من معنى النفي كأنه قيل ينتفي التكذيب بوقوعها إذا وقعت، وقد ذهب إلى هذا الوجه الزمخشري فقال: «فإن قلت بم انتصب إذا؟ قلت بليس كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل» وردّه أبو حيان فقال: «أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شدا شيئا من صناعة الإعراب إلى مثل هذا لأن «ليس» في النفي كما وما لا تعمل فكذلك ليس وذلك أن(9/423)
«ليس» مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز لأن حدّ الفعل لا ينطبق عليها والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فإذا قلت يوم الجمعة أقوم فالقيام واقع في يوم الجمعة و «ليس» لا حدث لها فكيف يكون لها عمل في الظرف، والمثال الذي شبّه به وهو يوم الجمعة ليس لي شغل لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بليس بل هو منصوب بالعامل في خبر ليس وهو الجار والمجرور فهو من تقديم الخبر على ليس وتقديم ذلك مبني على جواز تقديم الخبر الذي لليس عليها وهو مختلف فيه ولم يسمع من لسان العرب قائما ليس زيد، وليس إنما تدل على الحكم الخبري عن المحكوم عليه فقط فهي كما ولكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع جعلها ناس فعلا وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية، ويظهر من تمثيل الزمخشري إذا بقوله يوم الجمعة أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ولو كانت شرطا وكان الجواب الجملة المصدّرة بليس لزمت الفاء إلا أن حذفت في شعر إذ ورد ذلك فتقول إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته ولا يجوز، «لست» بغير فاء إلا إن اضطر إلى ذلك» .
2- أن العامل فيها اذكر مقدّرا.
3- أنها شرطية وجوابها مقدّر أي إذا وقعت الواقعة كان كيت وكيت وهو العامل فيها.
4- أنها شرطية والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها وهو اختيار أبي حيان وتبع في ذلك مكيا، قال مكّي: والعامل فيها وقعت لأنها قد يجازى بها فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في ما ومن اللتين للشرط في قولك ما تفعل أفعل ومن تكرم أكرم.
5- أنها مبتدأ وإذا رجت خبرها وهذا على القول أنها تتصرف.(9/424)
6- أنها ظرف لخافضة رافعة قاله أبو البقاء أي إذا وقعت خفضت ورفعت.
7- أنها ظرف لرجت وإذا الثانية إما بدل من الأولى أو تكرير لها.
8- إن العامل فيها ما دلّ عليه قوله فأصحاب الميمنة أي إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها.
9- أن جواب الشرط قوله فأصحاب الميمنة.
10- قال الجرجاني: إذا صلة أي وقعت الواقعة مثل اقتربت الساعة وأتى أمر الله وهو كما يقال قد جاء الصوم أي دنا واقترب.
ووقعت الواقعة فعل وفاعل.
(لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) ليس فعل ماض جامد ناقص ولوقعتها خبرها مقدّم واللام بمعنى في على تقدير المضاف أي ليس كاذبة توجد في وقت وقوعها وكاذبة اسم ليس وكاذبة صفة لموصوف محذوف أي نفس كاذبة، وقيل «كاذبة» مصدر جاء بلفظ اسم الفاعل بمعنى الكذب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) خافضة خبر لمبتدأ محذوف ورافعة خبر ثان (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) يجوز أن تكون إذا بدلا من إذا الأولى أو تأكيدا لها أو خبرا لها على أنها مبتدأ وقد تقدم هذا مفصلا ويجوز أن تكون شرطا والعامل فيها إما مقدّر وإما فعلها الذي يليها كما تقدم في نظيرتها، وعبارة الزمخشري: «ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبسّ الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض» ، ورجّا مفعول مطلق (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) الجملة معطوفة على الجملة السابقة (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) الفاء عاطفة وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي وهباء خبرها ومنبثّا صفة لهباء (وَكُنْتُمْ(9/425)
أَزْواجاً ثَلاثَةً)
عطف على رجّت وكان واسمها وخبرها وثلاثة نعت لأزواجا (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الفاء عاطفة تفريعية للشروع في تفصيل وشرح أحوال الأزواج الثلاثة وأصحاب الميمنة مبتدأ وما استفهامية في محل رفع مبتدأ ثان والمقصود بالاستفهام التعظيم وأصحاب الميمنة الثاني خبر ما والجملة خبر المبتدأ الأول وتكرير المبتدأ هنا بلفظه أغنى عن الرابط وهو الضمير ومثله «الحاقة ما الحاقة» و «القارعة ما القارعة» ولا يكون إلا في مواطن التعظيم والتحقير وهذا هو القسم الأول من الأزواج (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) عطف على ما تقدم والمقصود هنا تحقير شأنهم وهم القسم الثاني من الأزواج (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الواو عاطفة والسابقون مبتدأ والسابقون تأكيد وهم القسم الثالث من الأزواج وأكثرهم عراقة في الفضل (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) أولئك مبتدأ والمقربون خبره والجملة خبر السابقون واسم الإشارة أغنى عن الرابط وهو الضمير، واختار الزمخشري أن يكون السابقون خبرا وليس تأكيدا قال «والسابقون من عرفت حالهم وبلغك وصفهم كقوله: وعبد الله عبد الله وقول أبي النجم «وشعري شعري» كأنه قال وشعري ما انتهى إليك وسمعت بفصاحته وقد جعل السابقون تأكيدا وأولئك المقربون خبرا وليس بذاك» هذا ما ذكره الزمخشري وليس بعيدا بل لعلّه أقعد بالفصاحة، ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله: أولئك المقربون فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف وبين الإخبار عنه بقوله المقربون المعرّف بالألف واللام العهدية. وننقل فيما يلي نص ما أورده أبو حيان قال: «والسابقون السابقون جوّزوا أن يكون مبتدأ وخبرا نحو قولهم أنت أنت وقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري، أي الذين انتهوا في السبق أي الطاعات وبرعوا فيها وعرفت حالهم وأن يكون السابقون تأكيدا لفظيا والخير فيما بعد ذلك» . وعبارة أبي البقاء «قوله تعالى والسابقون الأول مبتدأ والثاني(9/426)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
خبره أي السابقون بالخير السابقون إلى الجنة وقيل الثاني نعت للأول أو تكرر توكيدا والخبر أولئك» (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) خبر ثان أو حال من الضمير في المقربون أو متعلق به أي قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه كما يقال: دار الضيافة ودار الدعوة ودار العدل (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلّة من الأولين ومن الأولين نعت وقليل عطف على ثلّة ومن الآخرين نعت لقليل واختار الجلال أن يرتفع ثلّة على الابتداء لوصفه والخبر على سرر الآتية (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) إما خبر على القول بأن ثلّة مبتدأ أو نعت ثان لثلّة على القول بأنها خبر لمبتدأ مضمر (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) حالان من الضمير في عليها أي استقروا عليها متكئين متقابلين لا ينظر بعضهم إلى بعض.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 17 الى 26]
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
اللغة:
(مُخَلَّدُونَ) باقون لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون وقيل من الخلد وهو القرط، قال امرؤ القيس:(9/427)
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ... قليل الهموم ما يبيت بأوجال
والولدان جمع وليد كصبيان بمعنى مولود والولد يجمع على أولاد.
(مَعِينٍ) خمر جارية من منبع لا يفيض ولا ينقطع أبدا.
(لا يُصَدَّعُونَ) لا يحصل لهم صداع بسببها قال الزمخشري:
«وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها» والصداع هو الداء المعروف الذي يلحق الإنسان في رأسه والخمر تؤثر قال علقمة في وصف الخمر:
تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها ... ولا يخالطها في الرأس تدويم
(يُنْزِفُونَ) بفتح الزاي وكسرها من نزف الشارب وأنزف يقال نزف الرجل بالبناء للمجهول أي ذهب عقله سكرا ونزف الرجل دما: رعف فخرج دمه كله وكلاهما وارد.
الإعراب:
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الجملة مستأنفة ويجوز أن تكون حالية وعليهم متعلقان بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت ولدان، والمعنى: يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون ولا يتغيرون بل شكلهم شكل الولدان دائما (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) بأكواب متعلقان بيطوف ما وبعده عطف عليه ومن معين صفة لكأس (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ)
الجملة مستأنفة أو حال من الضمير في عليهم ولا نافية ويصدعون بالبناء للمجهول والواو نائب فاعل وعنها متعلقان به ولا ينزفون عطف على لا يصدعون (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) عطف على ما تقدم أي وكأس، ومما نعت لفاكهة وجملة يتخيرون صلة (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) عطف على ما تقدم أيضا (وَحُورٌ عِينٌ) يقرأ(9/428)
بالرفع، وفيه أوجه: أحدها هو معطوف على ولدان أي يطفن عليهم للتنعيم لا للخدمة، والثاني هو مبتدأ خبره محذوف أي لهم حور أو وثم حور، والثالث هو خبر لمبتدأ محذوف أي ونساؤهم حور، ويقرأ بالنصب على تقدير يعطون أو يجازون حورا، ويقرأ بالجر عطفا على أكواب في اللفظ دون المعنى لأن الحور لا يطاف بهنّ، وقيل هو معطوف على جنات أي في جنات وفي حور. وعين صفة لحور (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) كأمثال نعت ثان لحور واللؤلؤ مضاف إليه والمكنون نعت (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء مفعول من أجله أي يفعل بهم ذلك كله جزاء أو مفعول مطلق لفعل محذوف أي جزيناهم جزاء وبما متعلقان بجزاء وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يعملون خبرها (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) لا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعله وفيها متعلقان بيسمعون ولغوا مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية وتأثيما عطف على لغوا أي فاحشا من القول أو مما يؤثم (إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) إلا أداة استثناء والاستثناء منقطع وقيلا مستثنى منقطع واجب النصب وسلاما سلاما فيه أوجه أحدها أنه بدل من قيلا أي لا يسمعون فيها إلا سلاما سلاما، والثاني أنه نعت قيلا، والثالث أنه منصوب بقيلا لأنه مصدر أي إلا أن يقولوا سلاما سلاما واختاره الزجّاج، والرابع أن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف أي سلّموا سلاما.
البلاغة:
1- في قوله «كأمثال اللؤلؤ المكنون» تشبيه مرسل مجمل، ووجه الشبه محذوف وهو الصون، قال الشاعر يصف امرأة بالصون وعدم الابتذال فشبّهها بالدرّة المكنونة في صدفتها فقال:
قامت تراءى بين سجفي كلة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد(9/429)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
أو درّة صدفية غوّاصها ... بهج متى يرها يهلّ ويسجد
2- وفي قوله «لا يصدعون عنها ولا ينزفون» فن الإيجاز وقد تقدم، فجمع في هاتين الكلمتين جميع عيوب الخمر في الدنيا.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
اللغة:
(سِدْرٍ) السدر شجر النبق.
(مَخْضُودٍ) أصل الخضد عطف العود اللين فمن هاهنا المخضود الذي لا شوك له لأن الغالب أن الرطب اللين لا شوك له وفي المختار:
«خضد الشجر قطع شوكة وبابه ضرب فهو خضيد ومخضود» ، وقال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ... فيها الكواعب سدرها مخضود
(طَلْحٍ) الطلح: شجر الموز، وقال أبو عبيدة: هو كل شجر عظيم كثير الشوك، قال بعض الحداة:(9/430)
بشرها دليلها وقالا ... غدا ترين الطلح والجبلا
وقال الزجّاج: الطلح شجر أم غيلان فقد يكون على أحسن حال.
(مَنْضُودٍ) اسم مفعول من نضدت المتاع أي جعلت بعضه فوق بعض.
(أَبْكاراً) البكر التي لم يفترعها الرجل فهي على خلقتها الأولى من حال الإنشاء، ومنه البكرة لأول النهار والباكورة لأول الفاكهة والبكر الفتى من الإبل وجمعه بكار وبكارة وجاء القوم على بكرتهم وبكرة أبيهم.
(عُرُباً) جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها عشقا له.
(أَتْراباً) جمع ترب وهو اللذة الذي ينشأ مع مثله في حال الصبا وهو مأخوذ من لعب الصبي بالتراب أي هم كالصبيان الذين هم على سنّ واحدة، قال عمر بن أبي ربيعة:
أبرزوها مثل المهاة تهادى ... بين عشر كواعب أتراب
الإعراب:
(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمل أولا، وأصحاب مبتدأ وما اسم استفهام للتعظيم في محل رفع مبتدأ وأصحاب اليمين خبر ما والجملة خبر أصحاب والرابط إعادة المبتدأ بلفظه كما تقدم (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) خبر ثان لأصحاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر ومخضود نعت لسدر (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ(9/431)
وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ)
عطف على وله في سدر ولا في لا مقطوعة للنفي كقولك مررت برجل لا طويل ولا قصير ولذلك لزم تكرارها (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) إن واسمها وجملة أنشأناهنّ خبر وإنشاء مفعول مطلق وعبارة الكشاف «إنّا أنشأناهنّ إنشاء: ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة فإما أن يراد اللاتي ابتدئ إنشاؤهنّ أو اللاتي أعيد إنشاؤهنّ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أم سلمة سألته عن قوله تعالى:
إنّا أنشأناهنّ إنشاء، فقال: يا أم سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا جعلهنّ الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء كلما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا فلما سمعت عائشة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قالت: وأوجعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هناك وجع (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) الفاء عاطفة وجعلناهنّ فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وأبكارا مفعول به ثان وعربا أترابا نعتان لأبكارا (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) لأصحاب اليمين متعلقان بأنشأناهنّ (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ثلّة خبر لمبتدأ محذوف ومن الأولين نعت لثلّة وثلّة من الآخرين عطف على ما تقدم.
البلاغة:
1- في قوله «وفرش مرفوعة» إن فسرت الفرش بأنها جمع فراش كان معناها على حقيقته أي مرفوعة على السرر وإن أريد بها النساء كانت كناية عن موصوف والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا ويدل على هذا التأويل قوله «إنّا أنشأناهنّ إنشاء» .
2- وفي قوله «عربا أترابا» كناية أيضا عن عودتهنّ أو نشأتهنّ في سنّ صغيرة، قالت عجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: إن الجنة لا تدخلها العجائز، فولّت وهي تبكي(9/432)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
فقال عليه الصلاة والسلام أخبروها أنها ليست بعجوز، وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم: يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين» والعرب جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها، قال المبرد: هي العاشقة لزوجها، وقال زيد بن أسلم: هي الحسنة الكلام والأتراب: هنّ اللواتي على ميلاد واحد وسنّ واحدة.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
اللغة:
(سَمُومٍ) السموم: الريح الحارّة التي تدخل في مسام البدن، ومسام البدن خروقه ومنه أخذ السمّ الذي يدخل في المسام.(9/433)
(يَحْمُومٍ) اليحموم هو الدخان الأسود البهيم، وفي المختار:
«وحممه تحميما سخم وجهه بالفحم والحمم الرماد والفحم وكل ما احترق من النار الواحدة حممة واليحموم الدخان» .
(الْحِنْثِ) الذنب ويعبّر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم: لم يبلغوا الحنث، وإنما قيل ذلك لأن الإنسان عند بلوغه يؤاخذ بالحنث أي الذنب، وتحنث فلان أي جانب الحنث وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم يتحنث بنار حراء، أي يتعبد لمجانبته الإثم، فتفعّل في هذه كلها للسلب.
(الْهِيمِ) الإبل العطاش التي لا تروى من الماء لداء يصيبها والواحد أهيم والأنثى هيماء، وأصل هيم هيم بضم الهاء بوزن حمر، لكن قلبت الضمة كسرة لمناسبة الياء، وعبارة السمين: «والهيم جمع أهيم وهيماء وهو الجمل والناقة التي أصابها الهيام وهو داء معطش تشرب الإبل منه إلى أن تموت أو تسقم سقما شديدا» .
الإعراب:
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) تقدم إعراب نظيرها قريبا فجدّد به عهدا والكلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمله من أحوالهم بعد أن فصّل حال أصحاب اليمين (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) خبر ثان أو خبر لمبتدأ مضمر وقد تقدم نظيره (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) عطف على ما تقدم (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) الجملة تعليلية لا محل لها من الإعراب وإن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها والظرف متعلق بمحذوف حال أو بمترفين ومترفين خبر كانوا (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة يصرّون خبرها وعلى الحنث متعلقان بيصرّون والعظيم نعت (وَكانُوا(9/434)
يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)
عطف أيضا وكان واسمها وجملة يقولون خبرها والهمزة للاستفهام وإذا ظرف للشرط متعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون، ألا ترى أن إذا ظرف من الزمان فلا بدّ له من فعل أو معنى فعل يتعلق به ولا يجوز أن يتعلق بقوله متنا لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف وإذا لم يجز حمله على هذا الفعل ولا على ما بعد إن من حيث لم يعمل ما بعد إن فيما قبلها كما لا يعمل ما بعد لا فيما قبلها فكذلك لا يجوز أن يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله علمت أنه يتعلق بشيء دلّ عليه قوله أإنا لمبعوثون وذلك نحشر أو نبعث ونحوهما مما يدلّ عليه هذا الكلام.
ومتنا فعل وفاعل وكنّا عطف على متنا وكان واسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام وإن واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف وآباؤنا معطوف على الضمير المستكن في مبعوثون وحسن العطف على الضمير من غير تأكيد نحن لوجود الفاصل الذي هو الهمزة وقيل المعطوف عليه محل إن واسمها بعد ملاحظة تقدم المعطوف على الخبر والتقدير أإنا أو آباؤنا مبعوثون والأولون نعت لآباؤنا (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) كلام مستأنف مسوق للردّ على إنكارهم وتحقيقا للحق، وإن واسمها والآخرين عطف على الأولين واللام المزحلقة ومجموعون خبر إن، وإن واسمها وخبرها في محل نصب مقول القول وإلى ميقات يوم متعلقان بمجموعون ومعلوم نعت ليوم، وقد ضمن الجمع معنى السوق فعدّي بإلى وإلا فكان الظاهر تعديته بفي (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي داخل في حيز القول وإن واسمها وأيها منادى نكرة مقصودة والضالون بدل من أيها والمكذبون نعت للضالون (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) اللام المزحلقة وآكلون خبر إنكم ومن شجر متعلقان بآكلون ومن زقوم بدل(9/435)
من قوله من شجر أو عطف بيان أو نعت (فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الفاء حرف عطف ومالئون معطوف على آكلون ومنها متعلقان بمالئون والبطون مفعول لاسم الفاعل وأنت ضمير الشجر لأنه اسم جنس واسم الجنس يجوز تذكيره وتأنيثه (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون معطوف على آكلون وعليه متعلقان بمحذوف حال ومن الحميم متعلقان بشاربون (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) الفاء حرف عطف وشاربون عطف على ما تقدم وشرب الهيم مفعول مطلق وصحّ عطف الشيء على نفسه لأنهما في الحقيقة مختلفان فالأول شرب للحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع الأمعاء وهو أمر عجيب في حدّ ذاته والثاني شرب للحميم على ذلك كما تشرب الهيم الماء وهو أمر أعجب وأشد غرابة. وفي هذا التشبيه فائدتان: إحداهما التنبيه على شربهم منه والثانية عدم جدوى الشرب وأن المشروب لا ينجع فيه كما ينجع في الهيم (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) هذا مبتدأ ونزلهم خبر ويوم الدين الظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا في ذلك اليوم العصيب.
البلاغة:
1- في قوله «لا بارد ولا كريم» فن الاحتراس وقد تقدم تعريفه، وهنا لمّا قال وظل من يحموم أوهم أن الظل ربما جلب لهم شيئا من الراحة بعد التعب فنفي عنه صفتي الظل يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال التي تنشر البرد والروح وتجلب النفع لمن يأوي إليه ويتفيأ تحته ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه فقوله لا بارد ولا كريم صفتان للظل لا لقوله من يحموم، وهنا يرد اعتراض بأن الفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، ونقول نصّ الرضي على أنه غير واجب مع أنه هنا يفضي إلى عدم توازن الفاصلتين وجعلهما نعتين ليحموم لا يلائم(9/436)
البلاغة القرآنية كما أن فيه فن التعريض وهو أن الذين يستأهلون الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأدعى لتحسرهم، ولهذه النكت جميعها علل استحقاقهم هذه العقوبة بقوله «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» قال الرازي: «والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل أنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك للتنبيه على أن الثواب منه تعالى فضل والعقاب منه عدل والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يوهم بالمتفضل نقصا ولا ظلما وأما العدل فإنه إن لم يذكر سبب العقاب يظن أنه ظالم ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين جزاء بما كانوا يعملون كما قال في السابقين لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء بحقه» وهذا كلام جميل جدا فتدبره ولا تنس المقابلة الخفيّة الكامنة فيما بين سطور هذا الكلام العجيب فهؤلاء الذين أمسّوا بهذه المثابة كانوا في الدنيا يعيشون غارقين في الترف، متقلبين في أعطافه فإذا بهم وقد لفّهم السموم واليحموم يتذكرون ما كانوا فيه ويقابلون بينه وبين حالتهم الراهنة والتجسيد والتخييل حاضران مهيآن أمامهم، تتقراهما أيديهم بلمس على حدّ قول البحتري.
2- وفي الآية «هذا نزلهم يوم الدين» فن التهكم وقد مرّ أيضا، فقد سمّى الجحيم وما فيه من صنوف العذاب وضروب الأهوال نزلا تهكما بهم لأن النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له كما في قوله تعالى «فبشّرهم بعذاب أليم» وكقول أبي الشعراء الضبّي:
وكنّا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
أي إذا نزل بنا الجبار مع جيشه نزول الضيف، وفيه تهكم به(9/437)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
حيث جاء محاربا فشبهه بمن جاء للمعروف طالبا ورشح ذلك التشبيه بجعل الرماح والسيوف المرهفة المسنونة نزلا له وهو الطعام المعدّ للضيف.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
اللغة:
(تُمْنُونَ) أمنى يمني ومنى يمني: قذف المني في الرحم وهو(9/438)
النطفة، وقرأ ابن السماك تمنون بفتح التاء والأصل من المني وهو التقدير، قال الشاعر:
لا تأمنّ وإن أمسيت في حرم ... حتى تلاقي ما يمني لك الماني
ومنه المنية لأنها مقدّرة تأتي على مقدار وفي المختار: «وقد منى من باب رمى وأمنى أيضا» .
(قَدَّرْنا) بالتشديد والتخفيف قال:
ومفرهة عنس قدرت لساقها ... فخرت كما تتايع الريح بالقفل
والمعنى قدرت ضربي لساقها فضربتها فخرت، ومثله في المعنى:
وإن تعتذر بالمحلّ من ذي ضروعها ... على الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
(حُطاماً) الحطام: الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء وأصل الحطم الكسر، والحطم السوّاق بعنف يحطم بعضها على بعض، قال:
قد لفّها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم (تَفَكَّهُونَ) التفكّه أصله تناول ضروب الفواكه للأكل والفكاهة المزاح ومنه حديث زيد: كان من أفكه الناس مع أهله، ورجل فكه طيب النفس، وقد استعير هنا للتنقل في الحديث، وقيل معناه تندمون، وحقيقته تلقون الفكاهة عن أنفسكم ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن فهو من باب تحرّج وتأثم، وقيل تفكهون: تعجبون وقيل تتلاومون وقيل تتفجعون وكله من باب التفسير باللازم.(9/439)
(لَمُغْرَمُونَ) جمع مغرم، والمغرم هو الذي ذهب ماله بغير عوض وأصل الباب اللزوم والغرام العذاب اللازم قال الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي
(تُورُونَ) الإيراء إظهار النار بالقدح يقال أورى يوري ووريت بك زنادي أي أضاء بك أمري ويقال: قدح فأورى إذا ظهرت النار فإذا لم يور يقال قدح فأكبى، وفي المصباح: «ورى الزند يري وريا من باب وعى وفي لغة وري يري بكسرهما وأورى بالألف وذلك إذا أخرج ناره» وفي المختار: «وأوراه غيره أخرج ناره» وفي معاجم اللغة: تستخرجون النار من الزناد وهو جمع زند والزند العود الذي يقدح به النار وهو الأعلى والزندة السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعتا قيل زندان والجمع زناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر.
(الْمُزْنِ) السحاب جمع مزنة وفي القاموس: «المزن بالضم السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، القطعة مزنة» .
(أُجاجاً) في المختار: «ماء أجاج مرّ شديد الملوحة، وقد أجّ الماء يؤج أجوجا بالضم» .
(لِلْمُقْوِينَ) للمسافرين أي جعلناها ينتفع بها المسافرون وخصّوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين، وقال قطرب: «المقوي من الأضداد يقال للفقير مقو لخلوّه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريده» وقيل المقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد وأقوت الدار خلت من أهلها، قال النابغة:
أقوى وأقفر من نعم وغيّرها ... هوج الرياح بهابي الترب موار
وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم(9/440)
الإعراب:
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ) نحن مبتدأ وجملة خلقناكم خبر والفاء حرف عطف ولولا حرف تحضيض وتصدقون فعل مضارع مرفوع والواو فاعله (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة ورأيتم فعل ماض وفاعله ومعناه أخبروني وما اسم موصول بمعنى الذي مفعول رأيتم الأول وجملة تمنون صلة (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لرأيتم وأنتم مبتدأ وجملة تخلقونه خبر ويجوز إعراب أنتم فاعلا لفعل مقدّر أي أتخلقونه أنتم فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضمير وهو من باب الاشتغال ولعله من جهة القواعد أمكن لأجل أداة الاستفهام وأم حرف عطف وهي منقطعة لأن بعدها جملة والمنقطعة تقدّر ببل وهمزة الاستفهام فيكون الكلام مشتملا على استفهامين الأول أأنتم تخلقونه وجوابه لا والثاني مأخوذ من أم أي بل نحن الخالقون وجوابه نعم، ويجوز أن تكون أم متصلة فهي معادلة ويؤيد هذا الوجه أن الكلام يئول إلى أي الأمرين واقع والجملة بعدها في تأويل المفرد، ونحن مبتدأ والخالقون خبر (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ)
نحن مبتدأ وجملة قدرنا خبر وقدرنا فعل وفاعل والظرف متعلق بقدرنا والموت مفعول به أي أوجبناه وكتبناه عليكم والواو عاطفة أو اعتراضية وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومسبوقين مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ)
على حرف جر وأن نبدل في تأويل مصدر مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بمسبوقين أي ولم يسبقنا أحد على تبديلنا أمثالكم ويجوز تعليقهما بقدّرنا بينكم أي قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أي يموت أناس ويخلفهم أناس آخرون فتكون جملة وما نحن بمسبوقين اعتراضية،(9/441)
وننشئكم عطف على نبدل وفيما متعلقان بننشئكم وجملة لا تعلمون صلة أي ننشئكم في صور لا تعلمونها من الحيوانات الممتهنة المرتطمة بالأقذار كالقردة والخنازير (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمتم فعل وفاعل والنشأة مفعول به والأولى نعت، فلولا: الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض وتذكرون فعل مضارع وفاعل (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) لو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن واللام واقعة في جواب لو وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وحطاما مفعول جعل الثاني والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وظلتم فعل ماض ناقص وأصله ظللتم بكسر اللام حذفت العين تخفيفا والتاء اسمها وجملة تفكهون خبرها وتفكهون فعل مضارع حذفت منه إحدى تاءيه (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) إن واسمها واللام المزحلقة ومغرمون خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول قول محذوف في محل نصب على الحال تقديره فظللتم تفكهون قائلين أو تقولون إنّا لمغرمون أي لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) بل حرف إضراب وعطف ونحن مبتدأ ومحرومون خبر والجملة معطوفة على سابقتها (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) تقدم إعراب نظيرها والذي صفة للماء وجملة تشربون صلة والعائد محذوف (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) تقدم إعرابها، وسيأتي سر حذف اللام في هذه الآية وذكرها في الآية الأولى في باب البلاغة (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) تقدم إعراب نظيرها (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) نحن مبتدأ وجملة جعلناها خبر وتذكرة مفعول به ثان ومتاعا عطف على تذكرة وللمقوين متعلقان بمتاعا أو(9/442)
صفة له (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذه العوارف والآلاء الباهرة فسبّح، وسبّح فعل أمر وفاعله أنت وباسم متعلق بسبّح أو بمحذوف حال أي متبركا وقيل اسم مقحم والعظيم صفة لربك.
البلاغة:
1- في الآيات الآنفة الذكر فن صحة الأقسام وقد سبق ذكره في هذا الكتاب وأنه عبارة عن استيفاء المتكلم جميع الأقسام للمعنى المذكور الآخذ فيه بحيث لا يغادر منه شيئا، فقد عدل عن لفظ الحرمان والمنع إلى لفظ هو ردفه وتابعه وهو لفظ الجعل إذ قال «أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما» وكذلك جاء لفظ الاعتداد بالماء حيث قال «لو نشاء جعلناه أجاجا» بلفظ الجعل عند ذكر الحرمان وما هو في معناه وجاء العطاء بلفظ الزرع في الحرث وفي الماء بلفظ الإنزال، فإن قيل: لم أكد الفعل باللام في قوله في الزرع: «لو نشاء لجعلناه حطاما» ولم يؤكده في الماء حيث قال: (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) ؟ قلت: لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما فما يحتمل أن يتوهم أنه من فعل الزراع ولهذا قال سبحانه:
«أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون» أو يتوهم أن خصبه من سقي الماء وأن جفافه من حرارة الشمس وعدم السقي أو تواتر مرور الإعصار فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك كله على الحقيقة وأنه قادر على جعله لو شاء حطاما في حالة نموّه وزمن شبيبته ونضارته فلما كان هذا التوهم محتملا أوجبت البلاغة توكيد فعل الجعل فيه وإسناده لزارعه على الحقيقة ومنشئه لرفع هذا التوهم، ولما كان إنزال الماء من السماء محالا بما لا يتطرق احتمال توهم متوهم أن أحدا من جميع الخلق قادر عليه لم(9/443)
يحتج إلى توكيد الفعل في جعله أجاجا فإنه لا يمكن أن يتوهم أحد أن أحدا ينزل الماء من السماء أجاجا ولا عذبا الذي هو أسهل من الأول وأهون.
وعبارة الزمخشري في هذا الصدد هذا نصها: «فإن قلت لم أدخلت اللام على جواب لو في قوله لجعلناه حطاما ونزعت منه هاهنا؟
قلت: إن لو لما كانت داخلة على جملتين معلقة ثانيتهما بالأولى تعلق الجزاء بالشرط ولم تكن مخلصة للشرط كإن ولا عاملة مثلها وإنما سرى فيها معنى الشرط اتفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيهما أن الثاني امتنع لامتناع الأول افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلق فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه فلأن الشيء إذا علم وشهر موقعه وصار مألوفا ومأنوسا به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السامع، ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنه كان يقول خير لمن قال له: كيف أصبحت؟ فحذف الجار لعلم كل أحد بمكانه وتساوي حالي حذفه وإثباته لشهرة أمره وناهيك بقول أوس:
حتى إذا الكلّاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طلبا»
أقول وفي بيت أوس بن حجر أو للنمر بن تولب حذف لا يستقيم إلا به أي قال لها لم أنظر كاليوم مطلوبا والضمير لكلبة الصيد والكلّاب معلّم الكلاب أو الصياد أي ليس المطلوب والطلب في هذا اليوم مثلها في غيره بل أعظم، ثم يتابع الزمخشري: «ويجوز أن يقال إن هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن أمر المطعوم مقدّم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم، ألا ترى أنك إنما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه ولو عكست قعدت تحت قول أبي العلاء:(9/444)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
إذا سقيت ضيوف الناس محضا ... سقوا أضيافهم شبما زلالا
وسقي بعض العرب فقال أنا لا أشرب إلا على ثميلة، ولهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب» والثميلة: اللبن الخالص.
ونعود إلى بيت أبي العلاء فنقول هو من قصيدة يمدح بها سعد الدولة أبا الفضائل، وعيب عليه حيث مدح بسقي الضيوف الماء قبل ذكر الطعام والمخض اللبن المنزوع زبده فهو بمعنى الممخوض ويروي محضا بالحاء المهملة أي خالصا حلوا أو حامضا والشبم البارد والزلال العذب.
هذا وحيث جعل علماء البلاغة للمقام مدخلا في الدلالة على المراد نقول إن معنى البيت إذا عجّلت الناس اللبن لأضيافهم واكتفوا به عن الإسراع بالطعام عجّلوا هم بالطعام لاستعدادهم للضيفان فيحتاجون لشرب الماء فيسقونهم ماء قبل إطعام غيرهم الضيفان فسقيهم الماء يفيد تعجيل الطعام قبله بمعونة المقام لأنه يلزمه عادة فلا عيب فيه.
2- وفي هذه الآيات أيضا فن التسهيم وهو أن يكون ما تقدم من الكلام دليلا على ما يتأخر منه أو بالعكس، فقوله «أفرأيتم ما تحرثون» إلى قوله «أفرأيتم النار التي تورون» تقتضي أوائل هذه الآيات أن أواخرها اقتضاء لفظيا ومعنويا كما ائتلفت الألفاظ فيها بمعانيها المجاورة الملائم بالملائم والمناسب بالمناسب لأن ذكر الحرث يلائم ذكر الزرع والاعتداد بكونه سبحانه لم يجعله حطاما ملائم لحصول التفكّه به وعلى هذه الآية يقاس نظم أختها.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 87]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)(9/445)
اللغة:
(بِمَواقِعِ النُّجُومِ) بمساقطها ومغاربها وقيل بمنازلها وقيل بانكدارها وانتثارها وسيأتي مزيد تفسير لها في باب الإعراب.
(مُدْهِنُونَ) قال الراغب: «والإدهان في الأصل مثل التدهين لكن جعل عبارة عن المداراة والملاينة وترك الجدّ» وقال المؤرج: المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره، والإدهان والمداهنة التكذيب والنفاق وأصله اللين وأن يضمر خلاف ما يظهر.
الإعراب:
(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) الفاء استئنافية ولا زائدة والمعنى فاقسم ولا تزاد في القسم فيقال لا والله ولا أفعل قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
والمعنى وأبيك وإنما زيدت للتأكيد وتقوية الكلام. وقيل نافية.(9/446)
والمنفي محذوف وهو كلام الكافر والجاحد تقديره فلا صحة لما يقول الكافر ثم ابتدأ فقال أقسم، وقيل هي لام الابتداء دخلت على جملة من مبتدأ وخبر وهي أنا أقسم كقولك لزيد منطلق ثم حذف المبتدأ فاتصلت اللام بخبره تقديره فلأقسم باللام فقط، وقال أبو حيان: والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف كقوله «أعوذ بالله من العقارب» وسيرد مزيد من هذا البحث في كتابنا، وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وبمواقع النجوم متعلقان بأقسم (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) الواو اعتراضية وإن واسمها واللام المزحلقة وقسم خبرها ولو شرطية وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعظيم صفة قسم وجملة لو تعلمون معترضة بين الموصوف وصفته وجملة إنه لقسم لو تعلمون عظيم لا محل لها لأنها معترضة بين القسم وجوابه فهما اعتراضان متعاقبان وجواب لو محذوف والتقدير لو كنتم من ذوي العلم لعلمتم (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) الجملة جواب القسم لا محل لها وإن واسمها واللام المزحلقة وقرآن خبر إنه وكريم صفة أولى لقرآن (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) في كتاب صفة ثانية لقرآن ومكنون صفة لكتاب (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) لا نافية ويمسّه فعل مضارع ومفعوله وإلا أداة حصر والمطهرون فاعل يمسّه والجملة صفة ثالثة لقرآن، وقيل لا ناهية ويمسّه فعل مضارع مجزوم بلا ولكنه لما أدغم حرّك آخره لأجل الإدغام وكانت الحركة ضمة اتباعا الهاء ولا داعي لهذا التكلف فالأولى ما ذكرناه وهو الأشبه بتناسق الصفات ويؤيد ما ذهبنا إليه قراءة عبد الله بن مسعود ما يمسّه بما النافية وفي مسّه كناية عن لازمه وهي نفي الاطّلاع عليه وعلى ما فيه (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) صفة رابعة ومن رب العالمين نعت لتنزيل (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي، والفاء عاطفة وبهذا متعلقان بمدهنون والحديث بدل من اسم الإشارة وأنتم مبتدأ ومدهنون خبر (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) الواو حرف عطف(9/447)
وتجعلون رزقكم فعل مضارع والواو فاعل ورزقكم مفعول تجعلون الأول وأن واسمها وجملة تكذبون خبرها وأن وما في حيزها في موضع المفعول الثاني ولا بدّ من تقدير مضاف أي شكر رزقكم (فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) الفاء استئنافية ولولا حرف تحضيض بمعنى هلّا ولا يقع بعدها الفعل فيكون التقدير فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم فالعامل في إذا هو الفعل الواقع بعد لولا وهو ترجعونها، وبلغت فعل ماض وفاعله مستتر تقديره النفس أي إذا بلغت النفس الحلقوم عند الموت (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ)
الواو حالية وأنتم مبتدأ وحين ظرف أضيف إلى مثله وهو إذ والتنوين فيه عوض عن الجملة المضافة إليها أي إذا بلغت النفس الحلقوم وجملة تنظرون خبر أنتم وجملة وأنتم حينئذ تنظرون حال من فاعل بلغت (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) الواو حالية ونحن مبتدأ وأقرب خبر وإليه ومنكم متعلقان بأقرب والواو عاطفة ولكن مخفّفة مهملة للاستدراك ولا نافية وتبصرون فعل مضارع مرفوع من البصيرة أي العلم (فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض مؤكد للولا الأولى وإن شرطية وكنتم كان واسمها وغير مدينين خبر أي غير مجزيين بأن تبعثوا أي غير مبعوثين وترجعونها هو العامل في إذا فقدم الظرف على عامله المتعلق به الشرطان وهما إن كنتم غير مدينين وإن كنتم غير صادقين ومعنى تعلقهما به أنه جزاء لهما أي لكلّ منهم ففي الكلام قلب والمعنى هلّا ترجعونها إن نفيتم البعث صادقين في نفيه. وملخص الكلام: إن صدقتم في نفي البعث فردّوا روح المحتضر إلى جسده لينتفي عنه الموت فينتفي البعث.(9/448)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
البلاغة:
الاستعارة المكنية في قوله «فإذا بلغت الحلقوم» كأنما الروح شيء مجسم يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 96]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
اللغة:
(فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) الروح بالفتح الراحة والرحمة ونسيم الريح والريحان الرحمة والرزق كما في المختار وفي القاموس: «والريحان نبت طيب الرائحة أو كل نبت كذلك أو أطرافه أو ورقه والولد والرزق» .
(تَصْلِيَةُ) احتراق.
الإعراب:
(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة، وأما حرف شرط(9/449)
وتفصيل وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر أي المتوفّى ومن المقربين خبر كان.
(فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) الفاء رابطة لجواب أما وجواب إن محذوف لدلالة المذكور عليه، وحذف جواب إن شائع كثيرا، وروح مبتدأ خبره محذوف مقدّم عليه أي فله روح وما بعده عطف عليه (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) عطف على ما تقدم مساو له في إعرابه، وسلام مبتدأ لما فيه من معنى الدعاء ولك خبر سلام ومن أصحاب اليمين نعت أو حال (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) عطف على جملة فأما إن كان، والإعراب هو نفسه فجدّد به عهدا (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) الفاء رابطة لجواب أما ونزل مبتدأ حذف خبره المقدم ومن حميم نعت لنزل وتصلية جحيم عطف على نزل (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ وحق اليقين خبر إن أو خبر هو والجملة الاسمية خبر إن وإضافة حق إلى اليقين من إضافة الموصوف إلى صفته (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) تقدم إعرابه ونعيده لإضافة بعض الفوائد عليه، فسبّح فعل أمر بمعنى نزّه ولفظ اسم زائد أي نزّه ربك العظيم ويجوز أن تكون الباء للحال أي فسبّح ملتبسا باسم ربك أو متبركا ويجوز أن تكون الباء للتعدية بناء على أن سبّح يتعدى تارة بنفسه وتارة أخرى بحرف الجر.(9/450)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
(57) سورة الحديد مدنيّة وآياتها تسع وعشرون
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)(9/451)
الإعراب:
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبّح فعل ماض مبني على الفتح ولله متعلقان بسبّح وقيل اللام زائدة في المفعول، وقد تقدم القول في هذا الفعل وأنه قد يتعدى بنفسه تارة وباللام أخرى، وجاء هذا الفعل في بعض الفواتح ماضيا كهذه الفاتحة وفي بعضها مضارعا وفي بعضها أمرا للإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبّحة في كل الأوقات، وما فاعل سبّح وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول والأرض عطف على السموات والواو حالية أو مستأنفة وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان وعبّر بما دون من تغليبا للأكثر (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) له خبر مقدّم وملك السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات وجملة يحيي حال من الضمير في له أو مستأنفة وجملة له ملك السموات مستأنفة لا محل لها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وقدير خبره والجار والمجرور متعلقان بقدير (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هو مبتدأ والأول خبره وما بعده عطف عليه وهو مبتدأ وعليم خبره وبكل شيء متعلقان بعليم (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة خلق السموات والأرض صلة الموصول لا محل لها وفي ستة أيام متعلقان بخلق وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واستوى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله وعلى العرش متعلقان باستوى (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) جملة يعلم حالية أو مستأنفة ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج منها عطف على ما يلج في الأرض ومنها متعلقان بيخرج (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) وما عطف على ما الأولى وما يعرج فيها(9/452)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
عطف أيضا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو حرف عطف وهو مبتدأ ومعكم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بجوابه المحذوف، وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله أي فهو معكم وكنتم تامة، والله مبتدأ وبصير خبر وبما تعملون متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة الموصول لا محل لها (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) له خبر مقدم وملك السموات خبره وإلى الله متعلقان بترجع وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الجملة حالية أو مستأنفة والليل مفعول يولج وفي النهار متعلقان بيولج وما بعده عطف عليه (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو عاطفة وهو مبتدأ وعليم خبره وبذات الصدور متعلقان بعليم.
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 10]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)(9/453)
الإعراب:
(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في مخاطبة كفّار قريش وأمرهم بالإيمان بعد أن ذكر أنواعا من الدلائل على التوحيد. وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالله متعلقان بآمنوا ورسوله عطف عليه وأنفقوا عطف على آمنوا ومما متعلقان بأنفقوا وجملة جعلكم صلة الموصول والكاف مفعول أول ومستخلفين مفعول ثان لجعل وفيه متعلقان بمستخلفين أي من مال مقتنى وعتاد مجتنى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) الفاء استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومنكم حال وأنفقوا عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة ولهم خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وكبير نعت وجملة لهم أجر كبير خبر الذين (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) الواو استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تؤمنون في محل نصب على الحال وبالله متعلقان بتؤمنون والمعنى أي شيء استقر لكم غير مؤمنين والواو حالية والرسول مبتدأ وجملة يدعوكم خبر والجملة في محل نصب على الحال من الواو في تؤمنون (لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اللام للتعليل وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيدعوكم وبربكم متعلقان بتؤمنوا والواو حالية وقد حرف تحقيق وأخذ ميثاقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يدعوكم على التداخل أيضا، وفي قراءة أخذ بالبناء(9/454)
للمجهول فيكون ميثاقكم نائب فاعل أي نصب لكم من الأدلة والتمكّن من النظر بمثابة أخذ الميثاق وقيل إشارة إلى إشهادهم على أنفسهم بقوله «ألست بربكم قالوا بلى» وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فالآن ظهرت أعلام اليقين ووضّحت الدلائل والبراهين ولزمتكم الحجج العقلية والسمعية، ومؤمنين خبر كنتم (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة ينزل صلة لا محل لها وعلى عبده متعلقان بينزل وآيات مفعول به وبيّنات صفة واللام للتعليل ويخرجكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بينزل ومن الظلمات متعلقان بيخرجكم أي من الكفر وإلى النور متعلقان بيخرجكم أيضا أي إلى الإيمان (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة وإن واسمها وبكم متعلقان برءوف واللام المزحلقة ورءوف خبر إن الأول ورحيم خبر إن الثاني (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو استئنافية وما اسم استفهام إنكاري مبتدأ ولكم خبر وأن حرف مصدري ونصب ولا نافية وتنفقوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل نصب بنزع الخافض أي في أن لا تنفقوا أو من أن لا تنفقوا والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وفي سبيل الله متعلقان بتنفقوا والواو حالية ولله خبر مقدّم وميراث السموات مبتدأ مؤخر والأرض عطف على السموات والجملة في محل نصب حال من فاعل الاستقرار أو مفعوله أي وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله والحال أن ميراث السموات والأرض له (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) كلام مستأنف مسوق لبيان تفاوت درجات المنفقين، ولا نافية ويستوي فعل مضارع مرفوع ومنكم حال ومن فاعله وجملة أنفق صلة الموصول لا محل لها ومن قبل الفتح متعلقان بأنفق وقاتل عطف على أنفق، وفي(9/455)
الكلام حذف سيأتي ذكره في باب البلاغة (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) أولئك مبتدأ والإشارة إلى من أنفق وأعظم خبر ودرجة تمييز ومن الذين متعلقان بأعظم وجملة أنفقوا صلة ومن بعد متعلقان بأنفقوا وقاتلوا عطف على أنفقوا (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى) والله فاعل وعد والحسنى مفعول به ثان والله مبتدأ وخبير خبره وبما تعملون متعلقان بخبير.
البلاغة:
1- الحذف: الحذف في هذه الآيات كثير ونلخصة فيما يلي:
- حذف مفعول أنفقوا للمبالغة في الحثّ على الإنفاق وعدم البخل بالمال.
- حذف مفعول «تنفقوا في سبيل الله» لما تقدم ولتشديد التوبيخ أي: وأي شيء لكم في أن لا تنفقوا ما هو قربة إلى الله تعالى.
- حذف ثاني الاستواءين لأن الاستواء لا يتم إلا بعد شيئين فلا بدّ من حذف مضاف تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقوة الإسلام ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوح الدلالة عليه، وعبارة أبي حيان بهذا الصدد: «والظاهر أن «من» فاعل «لا يستوي» وحذف مقابله وهو «ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل» لوضوح المعنى أولئك أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء المسلمين على أم القرى وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله صلى الله عليه وسلم: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل(9/456)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق أي لا يستوي هو الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده ومن أنفق مبتدأ وأولئك مبتدأ خبره ما بعده والجملة في موضع رفع خبر من وهذا فيه تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثير» وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعد الفتح لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر وهم أقل وأضعف.
2- في قوله «في سبيل الله» استعارة تصريحية أي طاعته، وسبيل الله كل خير يوصلهم إليه.
[سورة الحديد (57) : الآيات 11 الى 15]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)(9/457)
اللغة:
(انْظُرُونا) أمر من النظر، والنظر هو تقليب العين إلى الجهة التي فيها المرئي والمراد رؤيته، ومما يدل على ذلك قوله:
فيا ميّ هل يجزى بكائي بمثله ... مرارا وأنفاسي إليك الزوافر
وإني متى أشرف على الجانب الذي ... به أنت من بين الجوانب ناظر
فلو كان النظر الرؤية لم يطلب عليه الجزاء لأن المحبّ لا يستثيب من النظر إلى محبوبه شيئا بل يريد ذلك ويتمناه، ويدلّ على ذلك قول الآخر:
ونظرة ذي شجن وامق ... إذا ما الركائب جاوزن ميلا
وأما قوله سبحانه: ولا ينظر إليهم يوم القيامة فالمعنى أنه سبحانه لا ينيلهم رحمته، وقد تقول نظر إليّ فلان إذا كان ينيلك شيئا، ويقول القائل: انظر إليّ نظر الله إليك يريد أنلني خيرا أنالك الله، ونظرت فعل يستعمل وما تصرّف منه على ضروب:
1- أحدها أن تريد به: نظرت إلى الشيء، فتحذف الجار وتصل الفعل، ومن ذلك ما أنشده أبو الحسن:
ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما ينظر الأراك الظباء(9/458)
والمعنى ينظرن إلى الأراك، فحذف الجار، ولهذا قال أبو حيان:
«إن النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشعر وإنما يتعدى بإلى» .
2- والثاني: أن تريد به تأملت وتدبرت وهو فعل غير متعدّ فمن ذلك قولهم اذهب فانظر زيدا أبو من هو، فهذا يراد به التأمّل، ومن ذلك قوله: انظر كيف ضربوا لك الأمثال، وانظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض وقد يتعدى هذا بالجار كقوله تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت» فهذا حضّ على التأمل، وقد يتعدى هذا بفي نحو قوله:
أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض، فأما قول امرئ القيس:
فلما بدا حوران والآل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينك منظرا
فيجوز أن يكون نظرت فلم تر بعينك منظرا إلى الآل أي السراب، وقد جوّز أن يعني بالنظر الرؤية على الاتّساع لأن تقليب البصر نحو المبصر تتبعه الرؤية وقد يجري على الشيء لفظ ما يتبعه ويقترن به كقولهم للمزادة راوية، وقد يكون نظرت فلم تنظر مثل تكلمت ولم تتكلم، أي لم تأت بكلام على حسب ما يراد فكذلك نظرت فلم تنظر بعينك منظرا كما تريد أو تر منظر ما يروق.
3- والثالث: أن تريد به انتظرته من ذلك قوله: غير ناظرين إناه، ومثله قول الفرزدق:
نظرت كما انتظرت الله حتى ... كفاك الماحلين لك المحالا
يريد انتظرت كما انتظرت.
4- والرابع أن يكون أنظرت بمعنى انتظرت تطلب بقولك انظرني(9/459)
التنفيس الذي يطلب الانتظار فمن ذلك قول عمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
ومن ذلك قوله «فأنظرني إلى يوم يبعثون» إنما هو طلب الإمهال والتسويف وعلى ذلك قراءة حمزة أنظرونا بقطع الهمزة وكسر الظاء.
(يُقْرِضُ) القرض ما تعطيه غيرك ليقضيكه فهو قطعه عن مالكه بإذنه على ضمان ردّ مثله، والعرب تقول: لي عندك قرض صدق وقرض سوء إذا فعل به خيرا أو شرّا، قال الشاعر:
ويقضي سلامان بن مفرج قرضها ... بما قدّمت أيديهم وأزلت
وسيأتي المزيد من معناه هنا في باب البلاغة.
الإعراب:
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) فيه أوجه أحدها أن تكون من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا اسم إشارة خبره والذي صفة له أو بدل منه، ويصحّ أن يكون من ذا استفهاما برأسه مرفوع المحل بالابتداء والذي خبره، ويصحّ أن تكون ذا مبتدأ والذي يقرض الله صفة ومن خبر المبتدأ قدم عليه لما فيه من معنى الاستفهام. ويقرض فعل مضارع وفاعله مستتر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول والله مفعوله وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت والفاء سببية ويضاعفه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء على جواب الاستفهام وقرئ بالرفع على الاستئناف أو العطف، ولأبي حيان هنا كلام لطيف نورده فيما يلي: «وقرأ عاصم فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام وفي ذلك قلق قال أبو علي الفارسي لأن السؤال لم يقع على القرض وإنما وقع السؤال على فاعل القرض وإنما تنصب(9/460)
الفاء فعلا مردودا على فعل مستفهم عنه لكن هذه الفرقة يعني من القرّاء حملت ذلك على المعنى كأن قوله من ذا الذي يقرض بمنزله أن لو قال أيقرض الله أحد فيضاعفه، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي- من أنه إنما تنصب الفاء فعلا مردودا عى فعل مستفهم عنه- ليس بصحيح بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو من يدعوني فأستجيب له وأين بيتك فأزورك ومتى تسير فأرافقك وكيف تكون فأصحبك، فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال لا عن الفعل، وحكى ابن كيسان عن العرب: أين ذهب زيد فنتبعه وكذلك كم مالك فنصرفه ومن أبوك فنكرمه، بالنصب بعد الفاء وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة والفعل واقع صلة للذي والذي صفة لذا وذا خبر له وإذا جاز النصب في نحو هذا فجوازه في المثل السابقة أحرى» وله متعلقان بيضاعفه والواو حالية وله خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وكريم صفة (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يوم ظرف متعلق بالاستقرار العامل في وله أجر أي استقر له أجر في ذلك اليوم أو بمضمر تقديره يؤجرون منصوب بأذكر فيكون مفعولا به، وقال أبو البقاء: العامل فيه فيضاعفه وجملة ترى المؤمنين والمؤمنات في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة يسعى نورهم حال لأن الرؤية بصرية ونورهم فاعل يسعى والظرف متعلق بيسعى وبأيمانهم عطف على أيديهم (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم، وبشراكم مبتدأ واليوم ظرف متعلق بالقول المحذوف، وجنات خبر بشراكم وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين حال والعامل فيها المضاف المحذوف إذ التقدير بشراكم دخولكم جنات خالدين فيها فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب وأضيف المصدر لمفعوله فصار دخول جنات ثم حذف(9/461)
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب، وفيها متعلقان بخالدين وذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والفوز خبره والجملة خبر ذلك والعظيم نعت للفوز (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) الظرف بدل من يوم قبله، وقال ابن عطية «ويظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم كأنه يقول أن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمود عدوه أبدع وأفخم» وردّه أبو حيان، وجملة يقول المنافقون في محل جر بإضافة الظرف إليها والمنافقات عطف على المنافقون وللذين متعلقان بيقول وجملة آمنوا صلة وجملة انظرونا مقول القول وهذا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به ونقتبس فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب أي نأخذ الإضاءة ومن نوركم متعلقان بنقتبس (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) قيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على المؤمنين أو الملائكة الموكلين بهم وارجعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول ووراءكم ظرف متعلق بارجعوا أي ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوا نورا آخر إذ لا سبيل لكم إلى هذا النور، واختار أبو البقاء أن يكون وراءكم اسم فعل أمر فيه ضمير فاعل أي ارجعوا ارجعوا، ومنع
أن يكون ظرفا لارجعوا قال: لقلة فائدته لأن الرجوع لا يكون إلا إلى وراء وليس هذا بسديد، والفاء عاطفة والتمسوا فعل أمر معطوف على ارجعوا ونورا مفعول به (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) الفاء عاطفة وضرب فعل ماض مبني للمجهول وبسور في محل رفع نائب فاعل وقيل الظرف هو نائب الفاعل وقيل الباء زائدة في نائب الفاعل أي ضرب بينهم سور والجملة معطوفة على قوله: قيل ارجعوا فإن المؤمنين أو الملائكة لما منعوهم من اللحاق بهم للاقتباس من نورهم، بقي(9/462)
أولئك المنافقون في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس، وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة، وله خبر مقدّم وباب مبتدأ مؤخر والجملة صفة لسور وباطنه مبتدأ وفيه خبر مقدم والرحمة مبتدأ مؤخر وجملة فيه خبر لباطنه والجملة صفة ثانية لسور أو صفة لباب ولعله أولى لقربه والضمير يعود على الأقرب إلا بقرينة وهي غير متعينة هنا، وظاهره الواو عاطفة وظاهره مبتدأ ومن قبله خبر مقدم والعذاب مبتدأ مؤخر والجملة خبر ظاهره والجملة كلها معطوفة على سابقتها (يُنادُونَهُمْ: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) جملة ينادونهم مستأنفة وقيل حالية من الضمير في الظرف والهمزة حرف استفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم ونكن فعل مضارع ناقص واسمها مستتر تقديره نحن ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر وجملة الاستفهام مفسّرة لا محل لها أو منصوبة بقول مقدّر (قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ) قالوا فعل وفاعل وبلى حرف جواب ولكنكم لكن واسمها وجملة فتنتم أنفسكم خبر لكنكم، وتربصتم وارتبتم معطوفان على فتنتم، ومتعلق الأفعال الثلاثة محذوف أي فتنتم أنفسكم بالنفاق وتربصتم بالمؤمنين الدوائر وارتبتم في الدين (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الواو عاطفة وفعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر، وجاء أمر الله فعل وفاعل أي الموت وغرّكم عطف على وغرتكم وبالله متعلقان بغرّكم والغرور فاعل أي الشيطان (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء الفصيحة أي إن شئتم أن تعرفوا مآلكم ومصائركم فاليوم، واليوم ظرف متعلق بيؤخذ ولا نافية ويؤخذ فعل مضارع مبني للمجهول ومنكم متعلقان بيؤخذ أيضا وفدية نائب فاعل وذكر الفعل لأن التأنيث مجازي وقرئ تؤخذ بالتاء، ولا من الذين كفروا عطف على منكم وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مأواكم النار خبر مقدّم ومبتدأ مؤخر أو بالعكس وهي(9/463)
مبتدأ ومولاكم خبر، ومولاكم يصح أن يكون بمعنى أولى بكم قال لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها
وهو من معلقته يصف بقرة وحشية والفرج: موضع المخافة وما بين قوائم الدواب فما بين اليدين فرج وما بين الرجلين فرج، وقال ثعلب إن المولى في هذا البيت بمعنى الأولى بالشيء كقوله تعالى: «مأواكم النار هي مولاكم» أي أولى بكم، يقول: فغدت تلك البقرة وهي تحسب أن كلا فرجيها مولى المخافة أي موضعها وصاحبها أو تحسب أن كل فرج من فرجيها هو الأولى بالمخافة منه أي بأن يخاف منه، وقال الأصمعي:
أراد بالمخافة الكلاب وبمولاها صاحبها أي غدت وهي لا تعرف أن الكلاب والكلاب خلفها أم أمامها فهي تظن كل جهة من الجهتين موضعا للكلاب، والضمير الذي هو اسم إن عائد إلى كلا وهو مفرد اللفظ وإن كان يتضمن معنى التثنية ويجوز حمل الكلام بعده على لفظه مرة، وعلى معناه أخرى والحمل على اللفظ أكثر وتمثيلهما كلا أخويك سبّني وكلا أخويك سبّاني وقال الشاعر:
كلاهما حين جدّ الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
حمل أقلعا على معنى كلا وحمل رابيا على لفظه وقال الله عزّ وجلّ: «كلتا الجنتين قد آتت أكلها» حملا على لفظ كلتا وخلفها وأمامها خبر مبتدأ محذوف تقديره هو خلفها وأمامها ويجوز أن يكون بدلا من كلا الفرجين وتقديره فغدت كلا الفرجين خلفها وأمامها تحسب أنه مولى المخافة وحقيقة مولاكم محراكم ومقمنكم يقال هو حري أن يفعل كذا وهو قمين أن يفعله أي جدير بذلك وحقيق به أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل: أنه لكريم فيكون اسم مكان لا كغيره من أسماء الأمكنة فإنها(9/464)
مكان للحدث بقطع النظر عمّن صدر عنه وهذا مثل للمفضل على غيره الذي هو صفته فهو ملاحظ فيه معنى أولى لأنه مشتق منه كما أن المئنة مأخوذة من إن وليست مشتقة منها ويجوز أن يراد هو ناصركم أي لا ناصر لكم إلا النار وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي النار.
البلاغة:
1- في قوله «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا» استعارة تصريحية تبعية، فقد شبّه الإنفاق في سبيل الله بإقراضه ثم حذف المشبّه وأبقى المشبه به، والجامع بينهما إعطاء شيء بعوض ومعنى كونه حسنا أي خالصا من شوائب الرياء. أما القرض الذي يدفع إلى الإنسان من المال بشرط ردّ بدله فهو سنّة مؤكدة وقد يجب للمضطر ويحرم على من يستعين به على معصية.
2- وفي قوله «يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم» استعارة تصريحية أصلية» فالنور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه فحذف المشبّه وأبقى المشبّه به.
3- وفي قوله «خالدين فيها» بعد قوله «بشراكم اليوم» التفات من الخطاب إلى الغيبة، وقد تقدم القول في الالتفات كثيرا.
4- وفي قوله «فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب» فنّان رفيعان أولهما الاستعارة التمثيلية، شبّه بقاء المنافقين في حندس نفاقهم وظلامه بمن ضرب بينهم وبين النور الهادي سور يحجب كل نور، والفن الثاني المقابلة فقد طابق بين باطنه وظاهره وبين الرحمة والعذاب.(9/465)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 20]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
اللغة:
(يَأْنِ) مضارع أنى يأني من باب رمى فهو معتل حذفت منه الياء التي هي لامه للجازم كما يأتي في الإعراب ومعنى أنى إذا جاء إناه أي وقته، وأنشد ابن السكّيت:(9/466)
ألما يأن لي أن تجلّى عمايتي ... وأقصر عن ليلى بلى قد أنى لنا
الإعراب:
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) الهمزة للاستفهام ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأن فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وللذين متعلقان بمحذوف تقديره أعني، فهي للتبيين، وهذا ما اختاره أبو البقاء ولا داعي له، فيتعلق الجار والمجرور بيأن، وجملة آمنوا صلة الموصول لا محل لها وأن وما في حيزها فاعل يأن أي ألم يقرب وقت خشوع قلوبهم ويجيء وقته، ومنه قول الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا
ولذكر الله متعلقان بتخشع والواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على ذكر الله وجملة نزل صلة ومن الحق متعلقان بمحذوف حال (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الواو حرف عطف ولا نافية ويكونوا عطف على تخشع ويجوز أن تكون لا ناهية ويكون ذلك انتقالا إلى نهي المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم ويكونوا فعل مضارع ناقص والواو اسمها وكالذين خبرها وجملة أوتوا صلة والكتاب مفعول به ثان ومن قبل متعلقان بأوتوا، فطال عطف على أوتوا وعليهم متعلقان بطال والأمد فاعل (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) فقست قلوبهم عطف على فطال عليهم الأمد وكثير مبتدأ ومنهم صفة لكثير ولذلك ساغ الابتداء به وفاسقون خبر كثير (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) كلام مستأنف مسوق لخطاب المؤمنين المذكورين على طريق الالتفات، واعلموا فعل أمر مبني على حذف(9/467)
النون والواو فاعل وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وأن واسمها وجملة يحيي الأرض خبر أن والظرف متعلق بيحيي وموتها مضاف إليه (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) قد حرف تحقيق وبينّا فعل وفاعل ولكم متعلقان ببيّنّا والآيات مفعول ولعلّ واسمها وجملة تعقلون خبرها (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) إن واسمها والمصدقات عطف على المصدقين وأقرضوا عطف على معنى الفعل في المصدقين لأن اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى اصدّقوا كأنه قيل إن الذين اصدّقوا وأقرضوا، ولفظ الجلالة مفعول به وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت ويضاعف فعل مضارع مبني للمجهول ولهم قائم مقام الفاعل ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا يعود على ضمير التصدّق ولا بدّ من حذف مضاف أي ثواب التصدّق، ولهم متعلقان بيضاعف والواو عاطفة ولهم خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وكريم نعت (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وبالله متعلقان بآمنوا ورسله عطف على الله وأولئك مبتدأ ثان، وهم يجوز أن يكون فصلا والصدّيقون خبر أولئك وأولئك وخبره خبر الأول ويجوز أن يكون هم مبتدأ ثالثا والصدّيقون خبرهم وهو مع خبره خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) يجوز أن تنسق الشهداء على ما قبله فالوقف عنده تام، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صدّيقون شهداء، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والشهداء مبتدأ ولك في خبره وجهان أحدهما أنه الظرف بعده والثاني أنه قوله لهم أجرهم ولهم خبر مقدّم وأجرهم مبتدأ مؤخر ونورهم عطف على أجرهم والظرف متعلق بمحذوف حال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وكذبوا عطف على كفروا وبآياتنا متعلقان بكفروا وأولئك مبتدأ وأصحاب(9/468)
الجحيم خبره (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) كلام مستأنف مسوق لتحقير الدنيا وهوان أمرها، واعلموا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وأن ما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي اعلموا وأنما هنا كافّة ومكفوفة والحياة مبتدأ والدنيا نعت لها ولعب خبر الحياة وما بعدها منسوق عليها وبينكم ظرف متعلق بمحذوف صفة لتفاخر وفي الأموال نعت لتكاثر (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) الكاف خبر لمبتدأ محذوف أو الجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف أو في موضع نصب حال من معنى ما تقدم أي ثبتت لها هذه الصفات مشبهة بغيث، وجملة أعجب نعت لغيث والكفّار مفعول مقدّم لأعجب وهم الزارع ونباته فاعل مؤخر ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويهيج فعل مضارع مرفوع وفاعله هو يعود إلى النبات أي ييبس وهاج الثلاثي معناه يبس، فتراه عطف على يهيج وفاعل تراه أنت والهاء مفعول به مصفرّا حال لأن الرؤية بصرية، ثم يكون حطاما عطف على ما تقدم (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) الواو
عاطفة وفي الآخرة خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد نعت لعذاب ومغفرة عطف على عذاب ومن الله صفة لمغفرة ورضوان عطف على مغفرة، وسيأتي المزيد من أسرار هذا التركيب في باب البلاغة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) الواو عاطفة وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا نعت للحياة وإلا أداة حصر والغرور مضاف إليه والإضافة بيانية والغرور بالضم ما اغترّ به الشخص من متاع الدنيا.
البلاغة:
1- الاستعارة التمثيلية: في قوله «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها» استعارة تمثيلية، شبّه تليين القلوب بالذكر والتلاوة بعد قساوتها(9/469)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
ونبوّها عن استماع الحق والعمل بأوامره بإحياء الأرض الميتة بالغيث من حيث اشتمال كل واحد منهما على بلوغ الشيء إلى كماله المتوقع بعد خلوّه عنه أو يكون استعارة تمثيلية لإحياء الأموات بأنه شبّه إحياءها بإحياء الأرض الميتة، وأن من قدر على الثاني قادر على الأول فحقّه أن تخشع القلوب لذكره.
2- وفي قوله «كمثل غيث أعجب الكفّار نباته» الآية استعارة تمثيلية أيضا، فهو تمثيل للحياة الدنيا في سرعة انقضائها وقلّة جدواها بحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث أو الكافرون- على خلاف بين المفسرين- لأن هؤلاء وأولئك أشدّ إعجابا بزينة الحياة الدنيا.
3- الطباق: وطابق في قوله «وفي الآخرة عذاب» بين العذاب، والمغفرة في قوله «ومغفرة من الله ورضوان» ولكنه طباق بين واحد وشيئين فهو من باب لن يغلب عسر يسرين وسيأتي تفصيله في سورة الانشراح.
[سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 25]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)(9/470)
الإعراب:
(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أسباب وذرائع المفاخرة الحقيقية التي يصحّ التفاخر بها، وسابقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى مغفرة متعلقان بسابقوا ومن ربكم نعت لمغفرة (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) وجنة عطف على مغفرة وعرضها مبتدأ وكعرض السموات خبر والجملة نعت لجنة والأرض عطف على السموات وأعدّت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل المستتر تقديره هي والجملة نعت ثان لجنة ويجوز أن تكون مستأنفة وللذين متعلقان بأعدّت وجملة آمنوا صلة للموصول لا محل لها وبالله متعلقان بآمنوا ورسله عطف على بالله (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذلك مبتدأ وفضل الله خبر وجملة يؤتيه في محل نصب حال ويؤتيه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ومن اسم موصول في محل نصب مفعول ثان وجملة يشاء صلة من والله مبتدأ وذو الفضل العظيم خبر (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) ما نافية وأصاب فعل ماض، ومن مصيبة: من حرف جر(9/471)
زائد ومصيبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل أصاب وذكر الفعل لأن تأنيث المصيبة مجازي، وفي الأرض نعت لمصيبة أو متعلقان بأصاب أو بنفس مصيبة، ولا في أنفسكم عطف على في الأرض وإلا أداة حصر وفي كتاب حال من مصيبة لتخصصها بالوصف أو بالعمل إذا علق في الأرض بها أو بمحذوف تقديره إلا هي كائنة في كتاب فهو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف ومن قبل متعلقان بما تعلق به قوله في كتاب أي إلا ثابتة في كتاب من قبل أن نبرأها، ونبرأها فعل مضارع منصوب بأن والفاعل مستتر يعود على الله تعالى والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به وهو يعود على المصيبة وقيل على الأنفس وقيل على الأرض وأن وما في حيزها في محل جر بإضافة الظرف إليها والجملة في محل جر صفة لكتاب والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى جميع ذلك ومعنى نبرأها نخلقها (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) إن واسمها وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر إن (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) اللام حرف جر وكي حرف مصدري بمنزلة أن وليست للتعليل لأنها لو كانت كذلك لم يدخل عليها حرف تعليل آخر ولا نافية وتأسوا فعل مضارع منصوب بكي وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل وأصله تأسيون تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصار تأساون فالتقى ساكنان الألف والواو التي هي الفاعل فحذفت الألف لالتقاء الساكنين. وفي المصباح: وأسي أسى من باب تعب حزن فهو أسي على فعيل مثل حزين. واللام الجارّة وما في حيزها متعلقان بمحذوف تقديره: وأعلمناكم أو أخبرناكم وقدّره بعضهم اختبرناكم، والواو حرف عطف ولا نافية وتفرحوا عطف على تحزنوا وبما متعلقان بتفرحوا وجملة آتاكم صلة ومتعلق فاتكم وآتاكم محذوف تقديره من النعم (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) والله مبتدأ وجملة لا يحبّ خبر وكل مختال مفعول به وفخور نعت (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ(9/472)
النَّاسَ بِالْبُخْلِ)
الذين بدل من قوله كل مختال فخور كأنه قال: لا يحبّ الذين يبخلون ويجوز أن يكون محله رفعا على الابتداء ويكون خبره محذوفا والتقدير فإنهم يستحقون العذاب ويصحّ أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين أو منصوبا على الذم بفعل محذوف تقديره أذمّ وهذه الأوجه كلها متساوية في الترجيح وجملة يبخلون صلة الموصول لا محل لها ويأمرون عطف على يبخلون والناس مفعول به وبالبخل متعلقان بيأمرون. واستبعد بعضهم البدلية والوصفية وجعله كاملا مستأنفا لا تعلق له بما قبله (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتولّ فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاء رابطة لجواب الشرط لوقوعه جملة اسمية وإن واسمها وهو ضمير فصل وفي قراءة بسقوطه مما يرجح كونه فعلا لا مبتدأ والغني خبر إن والحميد خبر ثان
والجملة في محل جزم جواب الشرط (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلنا مفعول به وبالبيّنات حال والجملة استئنافية (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) وأنزلنا عطف على أرسلنا ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي وأنزلنا الكتاب حال كونه آئلا وصائرا لأن يكون معهم إذا وصل إليهم في الأرض، والكتاب مفعول به والميزان عطف على الكتاب واللام للتعليل ويقوم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبالقسط أي بالعدل متعلقان بمحذوف حال أي قاسطين عادلين، ولك أن تعلقه بيقوم واللام ومجرورها متعلقان بأرسلنا وأنزلنا لأنها علّة الإرسال والإنزال (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) الواو عاطفة وأنزلنا فعل وفاعل والحديد مفعول به وفيه خبر مقدّم وبأس مبتدأ مؤخر والجملة حالية من الحديد وشديد صفة أي فيه قوة ومنعة، والكلام في ذلك طويل، ومنافع للناس عطف على بأس شديد، وقلّما تخلو صناعة من الحديد (وَلِيَعْلَمَ(9/473)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)
الواو عاطفة وليعلم معطوف على محذوف دلّت عليه جملة فيه بأس شديد فهو علّة للتعليل لا علّة للإرسال والإنزال وبذلك تعلم فساد قول بعض المعربين كالجلال وغيره أنه معطوف على ليقوم، والله فاعل ومن مفعول به وجملة ينصره صلة من ورسله عطف على الهاء أي وينصر رسله أيضا وبالغيب حال من هاء ينصره أي غائبا عنهم في الدنيا وإن واسمها وخبراها.
الفوائد:
العطف على الظاهر والضمير: يعطف على الظاهر والضمير المنفصل مرفوعا كان أو منصوبا، والضمير المتصل المنصوب بلا شرط كقام زيد وعمرو وأنا وأنت قائمان وإياك والأسد، والعطف على الضمير المتصل المنصوب نحو جمعناكم والأولين فالأولين عطف على الكاف، ولا يحسن العطف على الضمير المرفوع المتصل بارزا كان أو مستترا إلا بعد توكيده بضمير منفصل نحو «لقد كنتم أنتم وآباؤكم» ونحو «اسكن أنت وزوجك الجنة» وقد أشار ابن مالك في الخلاصة إلى ذلك بقوله:
وإن على ضمير رفع متصل ... عطفت فافصل بالضمير المنفصل
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)(9/474)
اللغة:
(وَقَفَّيْنا) التقفية جعل الشيء في إثر الشيء على الاستمرار فيه ولهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على إثره مستمرة في غيره على منهاجه، وفي المختار: «قفا أثره اتبعه وبابه عدا وقفى على أثره بفلان أي اتبعه إياه ومنه قوله تعالى: ثم قفينا على آثارهم برسلنا ومنه الكلام المقفى» .
(وَرَهْبانِيَّةً) الرهبانية: المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي وقرئت بالضم كأنها نسبت إلى الرهبان جمع راهب كراكب وركبان، وعبارة القاموس: «والراهب واحد رهبان النصارى ومصدره الرهبة والرهبانية أو الرهبان بالضم قد يكون واحد وجمعه رهابين(9/475)
ورهابنة ورهبانون ولا رهبانية في الإسلام هي كالإخصاء واعتناق السلاسل ولبس المسوح وترك اللحم ونحوها» واكتفى صاحب المنجد بالقول: «الرّهبانية والرهبانية: طريقة الرهبان» وعرف الراهب بقوله:
«من اعتزل الناس إلى دير طلبا للعبادة» وسيأتي المزيد من معناها في باب الإعراب.
(كِفْلَيْنِ) نصيبين ضخمين والكفل الحظ ومنه الكفل الذي يتكفل به الراكب وهو كساء أو نحوه يحويه على الإبل إذا أراد أن يرقد فيحفظه من السقوط ففيه حظ من التحرّز من الوقوع.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) الواو حرف عطف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وتكرير القسم لإظهار مزيد العناية بالأمر، وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به وإبراهيم عطف على نوحا، وجعلنا عطف على أرسلنا وفي ذريتهما في موضع المفعول الثاني والنبوّة مفعول جعلنا الأول والكتاب عطف على النبوّة وأراد بالكتاب الجنس أي الكتب الأربعة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدّم ومهتد مبتدأ مؤخر وكثير مبتدأ ومنهم نعت لكثير وفاسقون خبر كثير (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وقفينا فعل وفاعل وعلى آثارهم متعلقان بقفينا والباء حرف جر زائد ورسلنا مجرور لفظا منصوب محلا (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وقفينا عطف على قفينا الأولى وبعيسى الباء حرف جر زائد وعيسى مجرور لفظا مفعول به محلا وبن بدل ومريم مضاف إليه، وآتيناه الواو عاطفة وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والإنجيل مفعول به ثان (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً(9/476)
وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ)
وجعلنا فعل وفاعل وفي قلوب في موضع المفعول الثاني والذين مضاف إليه وجملة اتبعوه من الفعل والفاعل والمفعول به صلة ورأفة مفعول به أول ورحمة مفعول به ثان، ورهبانية فيها وجهان: 1- أولهما أنها منسوقة على رأفة ورحمة وجملة ابتدعوها نعت لها وإنما خصّت بذكر الابتداع لأن الرحمة والرأفة في القلب أمر غريزي لا تكسّب للإنسان فيه بخلاف الرهبانية فإنها من أفعال البدن وللإنسان فيها تكسّب. 2- الثاني أنها منصوبة بفعل مقدّر يفسّره الظاهر فتكون المسألة من باب الاشتغال وإلى هذا الإعراب نحا الزمخشري وأبو علي الفارسي والمعتزلة، وذلك أنهم يقولون ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرأفة والرحمة لما كانتا من فعل الله نسب خلقهما أو تصييرهما إليه والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى بل من فعل العبد نسب خلقها إليه وإلى القارئ نص عبارة أبي حيان: «ورهبانية معطوف على ما قبله فهي داخلة في الجمل وجملة ابتدعوها جملة في موضع الصفة لرهبانية وخصّت الرهبانية بالابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها بخلاف الرهبانية فإنها أفعال بدن مع شيء في القلب ففيها موضع للتكسّب، قال قتادة: الرحمة من الله والرهبانية هم ابتدعوها» والرهبانية رفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهنّ واتخاذ الصوامع، وجعل أبو علي الفارسي ورهبانية مقتطعة من العطف على ما قبلها من رأفة ورحمة فانتصب عنده ورهبانية على إضمار فعل يفسّره ما بعده فهو من باب الاشتغال أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها واتبعه الزمخشري فقال:
«وانتصابها بفعل مضمر يفسّره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية ابتدعوها يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها» وهذا إعراب المعتزلة وكان أبو علي معتزليا وهم يقولون ما كان مخلوقا لله لا يكون مخلوقا للعبد، والرأفة والرحمة من خلق الله والرهبانية من ابتداع الإنسان فهي مخلوقة(9/477)
له، وهذا الإعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية لأن مثل هذا مما لا يجوز فيه الرفع بالابتداء ولا يجوز الابتداء هنا بقوله ورهبانية لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة. وقال ابن المنير متعقبا الزمخشري: «في إعراب هذه الآية تورّط أبو علي الفارسي وتحيز إلى فئة الفتنة وطائفة البدعة فأعرب رهبانية على أنها منصوبة بفعل مضمر يفسّره الظاهر وعلّل امتناع العطف فقال: ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على جعلنا مع وصفها بقوله ابتدعوها لأن ما يجعله هو تعالى لا يبتدعونه هم، والزمخشري أيضا ورد مورده الذميم وأسلمه شيطانه الرجيم فلما أجاز ما منعه أبو علي من جعلها معطوفة أعذر لذلك بتحريف الجعل إلى معنى التوفيق فرارا مما فرّ منه أبو علي من اعتقاد أن ذلك مخلوق لله تعالى وجنوحا إلى الإشراك واعتقاد أن ما يفعلونه هم لا يضلّه الله تعالى ولا يخلقه وكفى بما في هذه الآية دليلا بعد الأدلة القطعية والبراهين العقلية على بطلان ما اعتقداه فإن ذكر محل الرحمة والرأفة مع العلم بأن محلها النصب فجعل قوله في قلوب الذين اتبعوه تأكيدا لخلقه هذه المعاني وتصويرا لمعنى الخلق بذكر محله، ولو كان المراد أمرا غير مخلوق في قلوبهم لله تعالى كما زعما لم يبق لقوله في قلوب الذين اتبعوه موقع ويأبى الله أن يشتمل كتابه الكريم على ما لا موقع له» . أما أبو البقاء فقد جمع بين الرأيين فقال: «قوله تعالى: ورهبانية هو منصوب بفعل دلّ عليه ابتدعوها لا بالعطف على الرحمة لأن ما جعله الله تعالى لا يبتدعونه، وقيل هو معطوف عليها وابتدعوها نعت له والمعنى فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ولهذا قال: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله» . أما ابن هشام فقد قال في المغني: «وقول الفارسي في ورهبانية ابتدعوها أنها من باب زيدا ضربته واعترضه ابن الشجري بأن المنصوب في هذا الباب شرطه أن يكون مختصّا ليصحّ رفعه بالابتداء والمشهور أنه عطف(9/478)
على ما قبله وابتدعوها صفة ولا بدّ من تقدير مضاف أي وجد رهبانية وإنما لم يحمل أبو علي الآية على ذلك لاعتزاله فقال: لأن ما يبتدعونه لا يخلقه الله عزّ وجلّ» . وخلاصة الخلاف أنه لو جعل ورهبانية عطفا على ما قبله لكان في الكلام تناقض وذلك أن مفاد الكلام يقتضي أن تكون الرهبانية مخلوقة لله والوصف بالابتداع يقتضي أنها مخلوقة لهم وما كان مخلوقا لهم لا يخلقه الله فهو تناقض فعدل الفارسي وتبعه الزمخشري عن العطف وجعله من باب الاشتغال. وإنما أوردنا هذه الأقوال لنريك ما للإعراب من تأثير في توجيه المعتقد ولهذا لم نر لأنفسنا مساغا للترجيح فتدبر. ونعود إلى تتمة إعراب الآية فنقول: وجملة ابتدعوها إما صفة لرهبانية وإما مفسّرة على القولين وما نافية وكتبناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة صفة لرهبانية على كل حال ويجوز أن تكون مستأنفة وإلا أداة استثناء إذا اعتبرنا الاستثناء منقطعا أو أداة حصر إذا اعتبرناه متصلا، فعلى الأول تعرب ابتغاء استثناء منقطعا وتكون إلا بمعنى لكن والمعنى لم نفرضها عليهم ولكنهم ابتدعوها، وعلى الثاني تعرب ابتغاء مفعولا من أجله والمعنى ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله ويكون كتب بمعنى قضى. واكتفى الزمخشري بالوجه الأول (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) الفاء عاطفة وما نافية ورعوها فعل وفاعل ومفعول به وحق رعايتها مفعول مطلق (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) الفاء حرف عطف وآتينا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومنهم حال وأجرهم مفعول به ثان وكثير مبتدأ ومنهم نعت وفاسقون خبر (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والذين بدل وجملة آمنوا صلة واتقوا الله فعل أمر
وفاعل ومفعول به وآمنوا فعل أمر معطوف على اتقوا وبرسوله متعلقان بآمنوا ويؤتكم فعل(9/479)
مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والكاف مفعول به أول وكفلين مفعول به ثان ومن رحمته نعت لكفلين (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) عطف على يؤتكم ولكم متعلقان بيجعل أو في موضع المفعول الثاني ونورا مفعول يجعل وجملة تمشون به نعت لنورا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) اللام لام التعليل وأن حرف مصدري ونصب ولا زائدة ويعلم فعل مضارع منصوب بأن أي ليعلم أعمالكم بذلك فاللام متعلقة بمحذوف مقتبس من معنى الجملة الطلبية وأهل الكتاب فاعل يعلم وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولا نافية وجملة يقدرون خبر أن والمعنى أنهم لا يقدرون وعلى شيء متعلقان بيقدرون ومن فضل الله نعت لشيء وأن وما في حيزها سدّت مسدّ مفعولي يعلم (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) الواو عاطفة وأن وما في حيزها عطف على أن لا يقدرون داخل في حيّز المعلوم وأن واسمها وبيد الله خبر أن وجملة يؤتيه مستأنفة أو خبر ثان لأن والهاء مفعول به أول ومن مفعول به ثان وجملة يشاء صلة (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) الله مبتدأ وذو الفضل خبره والعظيم نعت للفضل.
الفوائد:
قد يعترض الكلام نفي فيلزم إظهار «أن» بعد لام التعليل التي لحقتها «لا» ولو أضمرت «أن» هنا لم يجز لأن إضمارها يؤدي إلى مباشرة حرف الجر حرف النفي وذلك غير جائز.(9/480)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
[المجلد العاشر]
(58) سورة المجادلة مدينة وآياتها ثنتان وعشرون
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)(10/5)
اللغة:
(يَظْهَرُونَ) مضارع ظاهر وقرىء يظهرون بتشديد الظاء والهاء، ويتظاهرون مضارع تظاهر ويتظهرون مضارع تظهر والمراد به كله الظهار وهو قول الرجل لزوجته أنت عليّ كظهر أمي يريد في التحريم كأنه إشارة إلى الركوب إذ عرفه في ظهور الحيوان والمعنى أنه لا يعلوها كما لا يعلو أمه، وفي القاموس: «والظهار قوله لامرأته أنت عليّ كظهر أمي وقد ظاهر منها وتظهّر وظهّر» وسيأتي المزيد من بحث هذه المادة في باب الفوائد.
الإعراب:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ) قد حرف تحقيق وسمع الله فعل ماض وفاعل وأدغم الكسائي الدال في السين، وقول مفعول به والتي اسم موصول في محل جر بالإضافة وجملة تجادلك لا محل لها لأنها صلة الموصول وتجادلك فعل مضارع والفاعل مستتر يعود إلى المرأة المذكورة، وسيأتي حديثها في باب الفوائد، والكاف مفعول به- ولهذا سمّيت السورة المجادلة بكسر الدال على أنها اسم فاعل وقيل بفتحها وكسرها كما في حاشية الشهاب على البيضاوي والكسر أرجح على كل حال لأنه أنسب بالسياق- وفي زوجها متعلقان بتجادلك ولا بدّ من حذف مضاف أي في شأن زوجها وتشتكي عطف على تجادلك ويجوز أن تكون الواو حالية والجملة في موضع نصب على الحال وإلى الله متعلقان بتشتكي (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الواو حالية والله مبتدأ وجملة يسمع خبر والفاعل مستتر يعود على الله وتحاوركما مفعول به والحوار في الكلام معروف وفي المصباح: «وحاورته راجعته الكلام وتحاورا وأحار الرجل الجواب(10/6)
بالألف ردّه وما أحاره: ما ردّه» وإن واسمها وخبراها والجملة تعليلة لما قبلها (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحكام المظاهر، والذين مبتدأ وجملة يظاهرون صلة لا محل لها ومنكم حال أي حال كونهم منكم أيّها العرب ولا يخفى ما في هذه الحال من التهجين لعاداتهم والتوبيخ لهم، ومن نسائهم متعلقان بيظاهرون أي يحرمون نساءهم على أنفسهم كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم وما نافية حجازية وهنّ اسمها وأمهاتهم خبرها ونصب بالكسرة نيابة عن الفتحة لأنه جمع مؤنث سالم والجملة خبر المبتدأ الذي هو الموصول (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) إن نافية وأمهاتهم مبتدأ وإلا أداة حصر واللائي اسم موصول في محل رفع خبر وجملة ولدنهم صلة وولدنهم فعل وفاعل ومفعول به (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) الواو عاطفة وانهم إن واسمها واللام المزحلقة ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة خبر أنهم ومنكرا صفة لمصدر محذوف أي قولا منكرا وزورا عطف على منكرا (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وعفوّ خبر أول وغفور خبر ثان (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) كلام مستأنف مسوق لتفصيل حكم الظهار بعد بيان كونه منكرا ولك أن تعطف الكلام على ما تقدم لينتظم الحكم انتظاما أوليا، والذين مبتدأ وجملة يظاهرون صلة ومن نسائهم متعلقان بيظاهرون وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويعودون عطف على يظاهرون ولما اللام حرف جر وما مصدرية والمصدر المؤول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بيعودون أي يعودون لقولهم ولك أن تجعل ما موصولة والجملة صلتها والعائد محذوف أي لما قالوه، والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وتحرير رقبة مبتدأ خبره محذوف أي عليه تحرير رقبة والجملة خبر الذين ومن قبل متعلق(10/7)
بمحذوف حال وأن وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ذلكم مبتدأ والإشارة إلى الحكم المذكور وجملة توعظون خبر فإن الغرامات زواجر عن اقتراف الجنايات والله مبتدأ وبما متعلق بخبير وجملة تعملون صلة وخبير خبر الله (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) الفاء عاطفة ومن اسم موصول مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجد فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره هو، فصيام الفاء رابطة وصيام مبتدأ وشهرين مضاف إليه ومتتابعين صفة والخبر محذوف أي عليه والجملة خبر من، ومن قبل أن يتماسّا تقدم إعرابها (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) تقدم إعرابها ومسكينا تمييز (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى ما سلف من البيان والتعليم، ولتؤمنوا لام التعليل ومدخولها خبر ذلك ويجوز أن تعرب اسم الإشارة نصبا بمضمر أي فعلنا ذلك لتؤمنوا وبالله متعلقان بتؤمنوا ورسوله عطف على الله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو
عاطفة وتلك مبتدأ وحدود الله خبر والواو عاطفة وللكافرين خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت لعذاب.
البلاغة:
في آية الظهار فن عجيب من فنون البلاغة وهو السلب والإيجاب وقد تقدمت الإشارة إليه وأنه بناء الكلام على نفي الشيء من جهته وإيجابه من جهة أخرى أو أمر بشيء من جهة ونهي عنه من جهة ثانية وفي قوله «الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هنّ أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم» نفي لصيرورة المرأة أما بالظهار وإثبات الأمومة للتي ولدت الولد.(10/8)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
الفوائد:
قال في الكشاف: «قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كلّمت المجادلة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع وقد سمع لها، وعن عمر أنه كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال: قد سمع الله لها» أما المرأة فهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت ابن عمّها رآها تصلّي وكانت قسيمة حسنة الجسم فلما سلّمت طلب وقاعها فأبت فغضب وكان به لمم فقال: أنت عليّ كظهر أمي فأتت رسول الله وشكت إليه أمرها، وروي أنها قالت له إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا فقال: ما عندي في أمرك شيء، وروي أيضا أنه قال لها: ما أراك إلا قد حرّمت عليه ولم أؤمر في شأنك بشيء فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فنزلت هذه الآيات. وأحكام الظهار ومذاهب الأئمة فيه مبسوطة في كتب الفقه فارجع إليها إن شئت.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)(10/9)
اللغة:
(يُحَادُّونَ) يعادون ويشاقون، وعبارة الزجّاج: المحادة أن تكون في حدّ يخالف حدّ صاحبك، فتكون المحادة كناية عن المعاداة لكونها لازمة للمعاداة. وفي معاجم اللغة «حاده: عاداه وغاضبه» .
(كُبِتُوا) أخذوا وأهلكوا وقيل ذلّوا وفي المصباح: «كبت الله العدو كبتا من باب ضرب أهانه وأذلّه وكبته لوجهه صرعه» .
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق لزفّ البشرى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بكبت أعدائهم وإذلالهم وفصم عراهم وشقّ عصاهم. وإن واسمها وجملة يحادون صلة والله مفعول به ورسوله عطف على الله وجملة كبتوا خبر إن وكما نعت لمصدر محذوف وجملة كبت لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي والذين نائب فاعل ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وأنزلنا فعل وفاعل وآيات مفعول به وبيّنات صفة لآيات وللكافرين خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين نعت (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) يجوز أن يتعلق الظرف بمهين وقيل عامله عذاب وقيل عامله الاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو للكافرين وقيل منصوب بإضمار اذكر، وجملة يبعثهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والله فاعل يبعثهم وجميعا حال، فينبئهم(10/10)
عطف على يبعثهم وبما عملوا في موضع المفعول الثاني وجملة عملوا صلة الموصول وجملة أحصاه الله استئنافية والواو حالية وجملة نسوه في محل نصب على الحال من مفعول أحصى بإضمار قد أو بدونها (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر الله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وأن واسمها وجملة يعلم خبرها وقد سدّت مسدّ مفعولي تر وما مفعول يعلم وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة الموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير سعة علمه تعالى وتبيان كيفيته، وما نافية ويكون فعل مضارع تام ومن حرف جر زائد ونجوى مجرور بمن لفظا فاعل يكون محلا وثلاثة مضاف لنجوى وإلا أداة حصر وهو مبتدأ ورابعهم خبر والجملة في محل نصب على الحال فالاستثناء مفرغ من أعمّ الأحوال، ولا خمسة إلا هو ساسدهم عطف على ما تقدم (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) الواو عاطفة ولا نافية وأدنى عطف على لفظ نجوى وقرىء بالرفع عطفا على محلها وقيل على الابتداء، ومن ذلك متعلق بأدنى، ولا أكثر عطف على ولا أدنى وإلا أداة حصر وهو مبتدأ ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والجملة حالية على قراءة النصب أو العطف على المحل وخبر للمبتدأ على قراءة الرفع وأينما ظرف مكان متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معهم أي مصاحب لهم بعلمه في أي مكان استقروا فيه وكانوا فعل وفاعل فهي كان التامة والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها لأن «ما» زيدت فيه، ويجوز أن تكون ما مصدرية فتكون الجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ثم(10/11)
حرف عطف للترتيب وينبئهم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله وبما في موضع المفعول الثاني وجملة عملوا لا محل لها ويوم القيامة متعلق بينبئهم وإن واسمها وخبرها.
البلاغة:
في قوله تعالى «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم» فن الانفصال وقد تقدمت الإشارة إليه ونعيده هنا لإتمام الفائدة فنقول: هو فنّ فحواه أن يقول المتكلم كلاما يتوجه عليه فيه دخل فلا يقتصر عليه حتى يأتي بما ينفصل به عن ذلك إما ظاهرا أو باطنا يظهره التأويل، فإن هذه الآية الكريمة يتوجه على ظاهرها عدد من الأسئلة منها:
1- لم ألغي فيها الابتداء بالإثنين وهي أول رتبة بين المتناجيين؟
2- لم انتقل من الثلاثة إلى الخمسة وعدل عن الترتيب في الانتقال من الثلاثة إلى الأربعة؟
3- لم لم يتجاوز الخمسة كما تجاوز الثلاثة؟
4- لم لم يقل من نجوى ثلاثة ويقف عند ذلك ويستغني بقوله بعدها «ولا أدنى من ذلك ولا أكثر» فيتناول الأدنى من الاثنين والأكثر من الأربعة إلى ما لا نهاية له من الأعداد؟
5- لم عدل عن الأوجز إلى الأطول مع توفية الأوجز بالمعنى المراد؟ وقبل أن نبيّن الانفصال عن ذلك لا بدّ من ذكر لمحة تاريخية ينجلي بها الرين وقد اختلف في سبب نزولها فقيل:
اجتمع المشركون جماعات على هذين العددين ثلاثة ثلاثة(10/12)
وخمسة خمسة يتناجون في رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يظنّون أن ذلك يخفى عنه فنزلت ليعلم الله نبيّه بحالهم.
وقيل: إنه اجتمع ثلاثة نفر من قريش وهم ربيعة وحبيب ابنا عمرو وصفوان بن أمية يوما كانوا يتحدثون فقال أحدهم: أترى الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم الكل فنزلت، وقد صحّح أهل التفسير هذه الرواية الثانية.
وقال الزمخشري في الجواب عن بعض ما تقدم من الاعتراض على ظاهر الآية بعد نقل سبب النزول الذي ذكرناه أن البارئ عزّ وجلّ قصد وهو أعلم أن يذكر ما جرت به العادة من أعداد أهل النجوى وأهل الشورى والمنتدبون لذلك ليسوا كل الناس وإنما هم طائفة مجتباة من أهل النهي والأحلام ورهط من أولي التجارب والرأي وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى الستة على ما تقتضيه الحال ويحكم به الاستصواب، ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ترك الشورى في ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع، هذا نص كلام الزمخشري حكيته بلفظه، لم أغادر منه شيئا، ولم تتبدل فيه لفظة بلفظة، وأما ما حكاه من الرواية الأولى فلا إشكال فيه ولا دخل عليه وأما الرواية الثانية التي وقع التصحيح فيها وهي مرويّة عن ابن عباس رضي الله عنه فيتوجه عليها الإشكال. وأما قول الزمخشري: إن الكلام جاء على عادة العرب في أهل النجوى وأهل الشورى لأن عدد هاتين الطائفتين لا يتجاوز الستة، وأما استشهاده بقضية عمر وجعله الشورى في ستة وتأكيده ذلك بقوله:
ألا تراه لم يتجاوز بها معنى الشورى إلى سابع فما أدري من أين له ذلك؟ وكيف تصحّ دعواه في أن عادة العرب إنما يكون أهل النجوى وأهل الشورى على هذين العددين دون سائر الأعداد، وقد جاء القرآن(10/13)
العزيز بخلاف ذلك قال الله تعالى في الإخبار عن أولاد يعقوب: «فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا» وكانوا عشرة فسمى سبحانه محاورتهم تناجيا، وقال عزّ وجلّ حكاية عن ملأ فرعون وأسروا النجوى «إن هذان لساحران» وكانوا لا يحصون كثرة وقال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة» ومناجوا الرسول يحتمل أن يكونوا هم الاثنين فصاعدا إلى منتهى عدد الأمة، فإن الخطاب لكافة المؤمنين والمناجون لم يحصر سبحانه عددهم في كمية معينة، وقال سبحانه: «فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول» غير حاصر ذلك في عدد مضبوط وقال سبحانه: «وأمرهم شورى بينهم» لغير عدد معين، وبعض هذه الآيات وإن نزلت في واقعة مخصوصة فقد أنزل الله معناها بلفظ العموم لتتناول كل الأمة فالحكم فيها عام، وأما قضية عمر رضي الله عنه فمن المعلوم أنه لم يجعل الأمر شورى في تلك الستة مراعاة لهذا العدد وإنما راعى من يصلح للأمر فإن الستة الذين جعل الأمر فيهم هم أعيان الصحابة وأفضل من بقي بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعد الشيخين وأنه لا يجوز أن يخرج هذا الأمر عنهم ولا يتجاوزهم إلى غيرهم ولو كان الصلحاء لهذا الأمر أكثر من هذا العدد أو أقل لجعل الأمر فيهم ولم يقل نقصوا عن هذه العدّة أم زادوا عليها والذي يصلح أن يكون جوابا ينفصل به عن الإشكال المقرر في أول الكلام أن يقال: الذين صحّ نزول الآية فيهم هم الثلاثة الذين سمّاهم ابن عباس رضي الله عنهما ولما كان هذا العدد أعني الثلاثة هو المقصود بالآية ذكر مقدما فيها على العدد الأخير ليعلم أئمتهم به فإن المتكلم إذا كانت له عناية بشيء قدّم ذكره في كلامه على غيره في مثل هذه المعاني، ثم ذكر الأدنى والأكثر ليرفع الاحتمال الذي قدّمناه وإذا كانت هذه هي الواقعة التي نزلت الآية بسببها سقط السؤال الأول الذي(10/14)
قيل فيه: لم لم يذكر أول رتب المتناجين واستغنى بذكر الأدنى بعد ذكر الثلاثة ليتناول الاثنين أو الأكثر لتناول ما فوق الثلاثة.
والجواب عن قوله ما الفائدة في ذكر الخمسة بعد ذكر الثلاثة وقوله تعالى: «ولا أكثر» يغني عنها وعن غيرها إلى ما لا يتناهى أنه سبحانه أراد أن يعرّفنا كيفية التنقل في هذه الأعداد صاعدا من الثلاثة إلى الخمسة ليعلم أن الإشارة إلى جميع رتب الأعداد وأن كيفية التنقل في البقية ككيفية في الخمسة فإن قيل: فلم كان هذا التعريف بالأربعة التي ألفيت وكان ذكرها أولى لأن الانتقال من الثلاثة إلى الأربعة أصحّ من الانتقال من الثلاثة إلى الخمسة فإن مجيء العدد على ترتيب أصح من مجيئه على غير ترتيب وكان يحصل الغرض من تعريف كيفية الانتقال بذلك؟ قلت: منع من ذلك أمران: أحدهما الخشية من مجيء نظم الكلام معيبا لثقله على النطق والسمع لبشاعة تكرار لفظ التربيع بغير حاجز تباعد أحد اللفظين عن الآخر فإنه لو قيل «إلا هو رابعهم» ولا أربعة، لثقل الكلام لمجاورة لفظتين فيهما أربعة أحرف من حروف الحلق وهما العينان والهاءان وقد عاب الآمدي على أبي تمام مثل هذا في قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
وسمّاه معاظلة وهي أفظع العيوب التي نفاها عمر بن الخطاب عن شعر زهير حين وضعه وإن كان غير الآمدي قد عدّ المعاظلة غير هذا، والأمر الثاني الذي منع من ذكر الأربعة فرار ناظم الكلام البليغ من تكرار المعاني والألفاظ بغير فائدة ولو انتقل إلى الأربعة لتكرار الحكم فإن الحكم عليها قد جرى في الخمسة، فإن الخمسة أربعة وزيادة فالأربعة داخلة فيها، فما جرى عليها من الأحكام جرى على الأربعة، وللفرار أيضا من ذكر الشفع والعدول عنه إلى ذكر الوتر من المزايا التي(10/15)
يستوجب بها الذكر دون الشفع ما ليس لغيره وفي هذا الجواب الذي جاء عن السؤال الثاني جواب عن السؤال الثالث، وأما الجواب عن السؤال الرابع وهو قوله: لم لم ينتقل من الخمسة إلى السبعة كما انتقل من الثلاثة إلى الخمسة وينتهي إلى ذلك الحد ولا يهمل هذا العدد المختص بخصائص أودعها الله تعالى فيه من أجلها جاء وفقه عدد السموات والأرض وأيام الدهر وأقاليم الأرض وأشياء لا يتّسع المكان لذكرها فنقول: كان المراد تعريف كيفية الانتقال وقد حصل ذلك بذكر الخمسة فإعادته في عدد آخر إطالة لا فائدة فيها قد استغني عنها بما قبلها، ولو روعي للسبعة ما لها من الخصائص لوجب أن يراعى للتسعة ما لها من الخصائص أيضا وليس المراد من الآية التنبيه على خصائص الأعداد إنما المراد ما ذكرناه وإلا متى اعتبرت خصائص الأعداد وجدت الخمسة مختصّة بما لم يختصّ بها غيرها من العدد، فمن خصائصها التي انفردت بها أنها أول عدد جمع ثلاثة أوتار الواحد والثلاثة والخمسة ومنها أن عدد أوتارها وتر وهذا ليس لغيرها من جميع أعداد مرتبة الآحاد ولا ما بني على أصلها وتفرّع منه فإن الثلاثة إنما جمعت وترين وعدد أوتارها شفع كذلك، والسبعة فإن جمعت أربعة أوتار فعدد أوتارها شفع وهي مركبة بالنسبة إلى الخمسة لأنها خمسة وزيادة والخمسة بسيطة بالنسبة إليها والبسيط أصل المركب والتسعة وإن جمعت أكثر من السبعة وجاء عدد أوتارها وترا فهي مركبة بالنسبة إلى السبعة التي هي مركبة بالنسبة إلى الخمسة فالخمسة بالنسبة إليها أصل الأصل ولما كانت بهذه المثابة كان ذكرها أولى من ذكر السبعة ووجب الإتيان به لينبّه على ما لها من الشرف والفضل دون غيرها ويجب الوقوف عندها ويقتصر في تعريف الانتقال عليها، وبذلك يتحقق أن مجيء نظم الآية على ما جاء عليه أبلغ مما توهمه مورد السؤال ومفرد الإشكال.
وقال الكرخي: «وخصّ الثلاثة والخمسة بالذكر لأن قوما من(10/16)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
المنافقين تخلّفوا للتناجي وكانوا بعدّة العدد المذكور مغايظة للمؤمنين فنزلت الآية بصفة حالهم وتعريفا بهم، أو لأن العدد المفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر يحب الوتر فخصّ العددان المذكوران بالذكر تنبيها على أنه لا بدّ من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور ثم بعد ذكرهما زيد عليهما ما يعمّ غيرهما من المتناجين» .
وللخازن عبارة لطيفة نوردها فيما يلي استيفاء للبحث قال: «فإن قلت: لم خصّ الثلاثة والخمسة؟ قلت: لأن أقل ما يكفي في المشاورة ثلاثة حتى يتم الغرض فيكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات والثالث كالمتوسط الحاكم بينهما فحينئذ تحمد المشاورة ويتم الغرض وكذا كل جمع يجتمع للمشاورة لا بدّ من واحد يكون حكما بينهم مقبول القول، وقيل إن العدد الفرد أشرف من الزوج فلهذا خصّ الله تعالى الثلاثة والخمسة» .
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)(10/17)
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان نمط آخر من تناجيهم وتغامزهم فيما بينهم وهم اليهود والمنافقون كلما رأوا المؤمنين يريدون بذلك إثارتهم وإذكاء حفيظتهم وطالما نهاهم النبي صلّى الله عليه وسلم عن ذلك بيد أنهم لا يكادون ينتهون حتى يعودوا لمثل فعلهم. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وإلى الذين متعلقان بتر وجملة نهوا لا محل لأنها صلة الموصول ونهوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعن النجوى متعلقان بنهوا، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ويعودون فعل مضارع مرفوع، وعدل عن صيغة الماضي المناسبة للعطف لسر لطيف وهو استحضار صورة العود وتجدده وتجسيده، ولما متعلقان بيعودون وجملة نهوا صلة وعنه متعلقان بنهوا (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) الواو عاطفة ويتناجون فعل مضارع معطوف على يعودون، وفي صيغة المضارع ما تقدم آنفا من تجسيد واستحضار وتجدد، وبالإثم متعلقان بيتناجون والعدوان عطف على الإثم ومعصية الرسول عطف أيضا (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة جاءوك في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو فاعل والكاف مفعول به وجملة حيّوك لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وبما متعلقان بحيّوك أي خاطبوك ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحيك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول به(10/18)
والله فاعل أي بما لم يشرّعه الله ويأذن به، وفي المصباح: «وحيّاه تحية أصله الدعاء بالحياة ومنه التحيات لله أي البقاء وقيل الملك ثم كثر حتى استعمل في مطلق الدعاء ثم استعمله الشرع في دعاء مخصوص وهو سلام عليك» (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ) الواو عاطفة أو حالية ويقولون فعل مضارع والواو فاعل وفي أنفسهم حال ولولا حرف تحضيض أي هلّا ويعذبنا الله فعل مضارع ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر وبما متعلقان بيعذبنا وما مصدرية أي بقولنا ويجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي نقوله والجملة مقول القول (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) حسبهم مبتدأ وجهنم خبر وجملة يصلونها حال والفاء الفصيحة وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة تناجيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا ولا ناهية وتتناجوا فعل مضارع مجزوم بلا والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبالإثم متعلقان بتتناجوا والعدوان عطف على قوله بالإثم ومعصية الرسول عطف أيضا (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الواو عاطفة وتناجوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالبرّ متعلقان بتناجوا والتقوى عطف على البرّ، واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به والذي صفة لله وإليه متعلقان بتحشرون وتحشرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة لا محل لأنها صلة الموصول (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما كافّة ومكفوفة والنجوى مبتدأ ومن الشيطان خبر واللام لام التعليل ويحزن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام واللام ومجرورها خبر ثان، ويقال حزنه وأحزنه بمعنى، والذين مفعول به وجملة آمنوا لا محل لها(10/19)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
لأنها صلة وقيل إن الموصول فاعل يحزن (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو حالية وليس فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو والباء حرف جر زائد وضارّهم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الضرر وإلا أداة حصر وبإذن الله متعلقان بضارّهم (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وعلى الله متعلقان بيتوكل.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)
اللغة:
(تَفَسَّحُوا) توسعوا ولا تتضايقوا وفي الأساس: «افسحوا لأخيكم في المجلس وتفسحوا له وأما لك في هذا المكان منفسح» .
(انْشُزُوا) انهضوا للتوسعة على المقبلين وفيه الأساس: «علوت(10/20)
نشزا من الأرض ونشزا وأنشازا، ونشز الشيء ارتفع ونشز عن مكانه ارتفع ونهض وإذا قيل انشزوا فانشزوا وأنشزه رفعه من مكانه» وللنون مع الشين فاء وعينا خاصة عجيبة وهي الدلالة على السرعة والارتفاع يقال:
أنشأ الله الخلق فنشئوا وأنشأ قصيدة وشعرا وعمارة وأنشأ يفعل كذا ومن أين نشأت وأنشأت أي نهضت، ونشب العظم في الحلق والصيد في الحبالة ومخالب الجارح في الأخيذة وتنشب وأنشب فيه مخالبه ورماه بنشابة وتراموا بالنّشّاب والنشاشيب وفي جميع ذلك يبدو معنى السرعة واضحا ونشب الشر والحرب بينهم نشوبا ولم ينشب أن قال بمعنى ما لبث، ونشج الباكي نشيجا وهو الغصص بالبكاء وارتفاعه وتردده في الصدر، وأنشدني شعرا إنشادا حسنا لأن المنشد يرفع بالمنشد صوته، ونشر الثواب والكتاب ونشّر الثياب والكتب وصحف منشّرة وملاء منشّر ونشر الله الموتى نشرا وله نشر طيب وهو ما انتشر وارتفع من رائحته قال المرقش يصف نساء:
النشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عنم
ونشّ اللحم في المقلاة نشيئا والخمر تنش إذا أخذت تغلي، ورجل نشيط طيب النفس للعمل مسرع فيه، ونشع الصبي الدواء وأنشعه أوجره فانتشعه والإسراع ملحوظ فيه وإنه لمنشوع بأكل اللحم إذا كان مشغوفا به، ونشف الماء بنفسه أسرع في النضوب، ونشق الظبي في الحبالة نشب فيها وقد مرّ معنى ذلك واستنشقت الريح وتنشقتها قال المتلمس:
فلو أن محموما بخيبر مدنفا ... تنشّق رياها لأقلع صالبه
ونشل اللحم من القدر بالمنشل والمنشال وهو حديدة في رأسها(10/21)
عقّافة، ونشّم اللحم أسرع إليه الفساد وأروح قال علقمة:
وقد أصاحب فتيانا طعامهم ... خضر المزاد ولحم فيه تنشيم
أي يطعمون الماء المطحلب واللحم المروح، غلّب فقال طعامهم، ونشّموا في الشر ودقوا بينهم عطر منشم قال زهير:
تداركتما عبسا وذبيان بعد ما ... تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم
ورجل نشوان أسرعت النشوة إليه وامرأة نشوى وقوم نشاوى ونشيت منه رائحة طيبة واستنشيت وهذا من عجائب ما تتميز به اللغات.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولكم متعلقان بقيل وتفسحوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وجملة تفسحوا مقول القول وفي المجالس متعلقان بتفسحوا والفاء رابطة لجواب الشرط غير الجازم والجملة لا محل لها وافسحوا فعل أمر والواو فاعل ويفسح فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر الواقع جوابا للشرط والله فاعل ولكم متعلقان بيفسح والمراد بالمجالس مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقرىء بالإفراد أي في المجلس وقيل هو المجلس من مجالس القتال ومراكز الغزاة وقيل هو مطلق في كل ما يبتغيه الناس للمنفعة وفي كل مجلس أو ناد وهو الأولى والأقرب لأسلوب القرآن الكريم في تعليم الأدب الرفيع (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ)
الواو عاطفة، وإذا قيل انشزوا فانشزوا: تقدم إعراب نظيرها، ويرفع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب(10/22)
الطلب والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة والذين معطوف على الذين الأولى أو هو منصوب بفعل مضمر تقديره ويخصّ الذين أوتوا العلم وجملة أوتوا صلة وأوتوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان ومنكم حال ودرجات ظرف أو منصوب بنزع الخافض (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما تعملون متعلقان بخبير وخبير خبر إن (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ناجيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها وناجيتم فعل وفاعل والرسول مفعول به والفاء رابطة وقدّموا فعل أمر والواو فاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبين ظرف متعلق بقدّموا ويدي مضاف إليه وعلامة جرّه الياء ونجواكم مضاف ليدي وصدقة مفعول به لقدموا وسيأتي مزيد بحث في باب البلاغة حول هذه الآية (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى تقديم الصدقة على المناجاة وخير خبر ولكم متعلقان بخير وأطهر عطف على خير (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون وهو فعل الشرط والفاء رابطة لجواب محذوف أي فلا تثريب عليكم وجملة إن الله غفور رحيم تعليل لرفع الحرج والتثريب (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الهمزة للاستفهام التقريري وأشفقتم فعل وفاعل أي أخفتم وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي من أن تقدموا والجار والمجرور متعلقان بأشفقتم وقيل مفعول من أجله ومفعول تقدموا هو صدقات ومفعول أشفقتم محذوف (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الفاء استئنافية وإذ فيها أقوال: 1- أنها ظرف لما مضى من الزمن والمعنى أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامة الصلاة وإيتاء(10/23)
الزكاء. 2- أنها ظرف بمعنى إذا كقوله تعالى: «إذ الأغلال في أعناقهم» وقد تقدم القول فيها مبسوطا فارجع إليها إن شئت. 3- أنها بمعنى إن الشرطية.
ولم حرف نفي وقلب وجزم وتفعلوا فعل مضارع مجزوم بلم، وتاب الواو حالية أو استئنافية أو اعتراضية والجملة معترضة بين الشرط وجوابه وتاب الله فعل وفاعل وعليكم متعلقان بتاب والفاء رابطة وأقيموا الصلاة فعل أمر وفاعل ومفعول به وآتوا الزكاة عطف على فأقيموا الصلاة وكذلك قوله وأطيعوا الله ورسوله (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) ابتداء وخبر وجملة تعملون صلة ما والجار والمجرور متعلقان بخبير.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات» تعميم ثم تخصيص وتفصيل ذلك أن الجزاء برفع الدرجات هنا مناسبة للعمل لأن المأمور به تفسيح المجالس كيلا يتنافسوا في القرب من المكان الرفيع حوله صلّى الله عليه وسلم فيتضايقوا وذلك لا يليق بآداب المجلس التي من أولها تفادي إزعاج المجالسين وترنيق صفوهم، واجتناب ما يكدّر صفاءهم وينغص بالهم، ولما كان المتمثّل لذلك الأمر يخفض نفسه عمّا يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات، ثم لما علم أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصّهم بالذكر عند الجزاء ليسهّل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله تعالى، وفي هذا التخصيص إلماع إلى فضل العلم، وحسبنا أن نورد حديث ابن مسعود رضي الله عنه وهو أنه كان إذا تلا هذه الآية قال:
يا أيّها الناس افهموا هذه الآية ولترغبكم في العلم، وعنه صلّى الله عليه(10/24)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
وسلم: «بين العالم والعابد مائة درجة ما بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة:
الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» فأعظم بمرتبة بين النبوّة والشهادة، وعن الأحنف: كاد العلماء يكونون أربابا وكل عزّ لم يوطد بعلم فإلى ذلك ما يصير.
وما دمنا بصدد العلم ودرجته السامية فلا بدّ من الإشارة إلى نكتة بليغة وهي أنه قرن حين خصّ العلماء برفع الدرجات لما جمعوا بين العلم والعمل فإن العلم مع سموّ درجته وأنافة مرتبته يقتضي العمل المقرون به.
2- وفي قوله «بين يدي نجواكم» استعارة ممّن له يدان وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة في آية الحجرات فجدّد بها عهدا.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف(10/25)
مسوق للتعجب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء يناصحونهم ويفشون إليهم بأسرار المؤمنين وقال السدي: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نفيل من المنافقين، والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وإلى الذين متعلقان بتر وجملة تولوا صلة لا محل لها والواو فاعل وقوما مفعول به وجملة غضب الله عليهم نعت لقوما (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) الجملة مستأنفة أو صفة ثانية لقوما أو حال من فاعل تولوا وما نافية حجازية وهم اسمها ومنكم خبرها، ولا الواو حرف عطف ولا نافية ومنهم عطف على منكم (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة ويحلفون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والجملة معطوفة على تولوا فهي داخلة في حيّز الصلة وعلى الكذب حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة يعلمون خبرهم والجملة حال (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فعل وفاعل ومفعول به وإن واسمها وخبرها (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الجملة مستأنفة أو صفة ثالثة لقوما أو حال واتخذوا فعل ماض والواو فاعل وأيمانهم مفعول به أول وجنة مفعول به ثان لاتخذوا أي سترا ووقاية لأنفسهم وأموالهم، فصدّوا الفاء عاطفة وصدّوا فعل ماض وفاعل وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) الفاء عاطفة ولهم خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين نعت لعذاب أي ذو إهانة (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) لن حرف نفي ونصب واستقبال وتغني فعل مضارع منصوب بلن وعنهم متعلقان بتغني وأموالهم فاعل ولا أولادهم عطف على أموالهم ومن الله متعلقان بتغني على حذف مضاف أي من عذاب الله، وشيئا مفعول مطلق أي قليلا من الإغناء (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(10/26)
أولئك مبتدأ وأصحاب النار خبره وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم.
البلاغة:
ذكر علماء البلاغة في حدّ الصدق والكذب أقوالا أربعة:
1- أن الصدق مطابقة حكم الخبر للواقع والكذب عدم مطابقته له ولو كان الاعتقاد بخلاف ذلك في الحالين.
2- وهو للنظام من كبار المعتزلة: أن الصدق المطابقة لاعتقاد المخبر ولو خطأ والكذب عدم مطابقته للاعتقاد ولو صوابا وما الاعتقاد معه على هذا القول داخل في الكذب لا واسطة.
3- وهو للجاحظ أحد شيوخ المعتزلة أيضا: أن الصدق المطابقة للخارج مع اعتقاد المخبر المطابقة والكذب عدم المطابقة للواقع مع اعتقاد عدمها وما عدا ذلك ليس بصدق ولا كذب أي واسطة بينهما، وهو أربع صور: المطابق ولا اعتقاد لشيء والمطابق مع اعتقاد عدم المطابقة وغير المطابق مع اعتقاد المطابقة وغيره ولا اعتقاد.
4- وهو للراغب، وهو مثل قول الجاحظ غير أنه وصف الصور الأربع بالصدق والكذب باعتبارين فالصدق باعتبار المطابقة للخارج أو للاعتقاد والكذب من حيث انتفاء المطابقة للخارج أو للاعتقاد.
هذا واستدل النظام بقوله تعالى: «إن المنافقين لكاذبون» أي في قولهم: «إنك لرسول الله» لعدم مطابقته لاعتقادهم وردّ استدلاله بأن المراد لكاذبون في الشهادة أي في ادّعائهم مواطأة القلب للسان لتضمن قولهم: إنك إلخ ... شهادتنا من صميم القلب وهذا كذب.(10/27)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
واستدلّ الجاحظ بقوله تعالى: «افترى على الله كذبا أم به جنة» لأن الإخبار حال الجنة غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم يعتقدون عدم صدقه فثبتت الواسطة ورد بأن المعنى أم لم يغتر فعبّر عن عدم الافتراء بالجنة من جهة أن المجنون لا افتراء له لأن الافتراء الكذب عن عمد فهذا حصر للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه أي الكذب عن عمد ولا عن عمد.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 18 الى 22]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)(10/28)
اللغة:
(اسْتَحْوَذَ) استولى وغلب من حاذ الحمار العانة أي جمعها وساقها غالبا لها ومنه كان أحوذيا نسيج وحده، وهو أحد ما جاء على الأصل نحو استصوب واستنوق يعني على خلاف القياس فإن القياس استحاذ بقلب الواو ألفا كاستعاذ واستقام ولكن استحوذها هنا أجود.
(يُحَادُّونَ) يخالفون.
الإعراب:
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) يوم منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر والجملة مستأنفة وجملة يبعثهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والله فاعل يبعثهم وجميعا حال والفاء عاطفة ويحلفون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وله متعلقان بيحلفون وكما نعت لمصدر محذوف وجملة يحلفون لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي ولكم متعلقان بيحلفون (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) الواو حالية وجملة يحسبون حال من الواو في يحلفون له أي والحال أنهم يحسبون في الآخرة أن حلفهم فيها يجديهم من عذابها، وأن وما بعدها في تأويل مصدر سدّت مسدّ مفعولي يحسبون وعلى شيء خبر أنهم وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير متصل أو مبتدأ والكاذبون خبر إنهم على الأول وخبرهم على الثاني والجملة خبر إنهم (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان استيلاء الشيطان عليهم حتى جعلهم أتباعه ورعيته، وعليهم متعلقان باستحوذ والشيطان فاعله، فأنساهم عطف على استحوذ والهاء مفعول به أول وذكر الله مفعول به ثان (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أولئك(10/29)
مبتدأ وحزب الشيطان خبر وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير فصل أو مبتدأ والخاسرون خبر على الحالين كما تقدم (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) إن واسمها وجملة يحادون صلة والله مفعول به ورسوله عطف على الله وأولئك مبتدأ وفي الأذلين خبر أولئك والجملة خبر إن (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) كتب الله فعل وفاعل وقد تضمن فعل كتب معنى القسم واللام جواب له وأغلبنّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وأنا تأكيد لفاعل أغلبنّ المستتر ورسلي عطف على الضمير وإن واسمها وخبراها والجمل لا محل لها (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) قال الزمخشري: «من باب التخييل خيّل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم» ولا نافية وتجد فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت وقوما مفعول به أول وجملة يؤمنون بالله واليوم الآخر نعت لقوما وجملة يوادّون مفعول ثان لتجد إن كان بمعنى تعلم وإن كان بمعنى تصادف فالجملة حال أو صفة ثانية لقوما ويوادّون فعل وفاعل ومن مفعول به وجملة حاد الله صلة لا محل لها وحاد الله فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ورسوله عطف على الله (وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) الواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وآباءهم خبرها وما بعده عطف عليه وسيأتي سر الترتيب في باب البلاغة (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أولئك مبتدأ وجملة كتب خبر وفي قلوبهم متعلقان بكتب والإيمان مفعول به وأيدهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبروح متعلقان بأيدهم ومنه صفة لروح (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها)(10/30)
الواو عاطفة ويدخلهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار نعت لجنات وخالدين حال وفيها متعلقان بخالدين (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) رضي فعل ماض والله فاعل وعنهم متعلقان برضي ورضوا عنه عطف على ما تقدم. وأولئك مبتدأ وحزب الله خبر وألا أداة استفتاح وتنبيه وإن واسمها وهم ضمير فصل أو مبتدأ والمفلحون خبر وقد تقدم أمثال هذا كثيرا.
البلاغة:
في قوله «ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم» روعي ترتيب عجيب فقد بدأ أولا بالآباء لأنهم أدعى إلى الاهتمام بهم لوجوب إخلاص الطاعة لهم ومع ذلك نهاهم عن موادّتهم قال تعالى:
«وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا» وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بحبات القلوب، ثم ثلث بالإخوان لأنهم هم المثابة عند الحاجة والناصر عند نشوب الأزمات كما قيل:
أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
ثم ربع بالعشيرة لأنها المستغاث في الشدائد وهي الموئل والمفزع في النوائب وهم المسرعون إلى النجدة قال:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
والمقصود في الآية أبا عبيدة لأنه قتل أباه يوم أحد، وأبا بكر لأنه دعا ابنه للبراز يوم بدر فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقعود، ومصعب بن عمير لأنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد، وعليّا وغيره ممّن قتلوا عشائرهم.(10/31)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
(59) سورة الحشر مدنيّة وآياتها اربع وعشرون
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
اللغة:
(يَحْتَسِبُوا) يخطر ببالهم ويظنوا.
(الْجَلاءَ) الخروج من الوطن، قال الرازي: «الجلاء أخصّ من(10/32)
الخروج لأنه لا يقال إلا للجماعة والإخراج يكون للجماعة والواحد» وفي المختار «الجلاء بالفتح والمد: الأمر الجلي تقول منه جلا الخبر يجلو جلاء وضح والجلاء أيضا الخروج من البلد والإخراج أيضا وقد جلوا عن أوطانهم وجلاهم غيرهم يتعدى ويلزم» وعبارة المصباح:
«والفاعل من الثلاثي حال مثل قاض والجماعة جالية ومنه قيل لأهل الذمّة الذين أجلاهم عمر رضي الله عنه من جزيرة العرب جالية ثم نقلت الجالية إلى الجزية التي أخذت منهم ثم استعملت في كل جزية تؤخذ وإن لم يكن صاحبها جلا عن وطنه فيقال استعمل فلان على الجالية والجمع الجوالي» وفي الأساس: «وجلوا عن بلادهم جلاء وقع عليهم الجلاء وأجليناهم عنها وجلوناهم ويقال للقوم إذا كانوا مقبلين على شيء محدقين به ثم انكشفوا عنه قد أخرجوا عنه وأجلوا عنه» .
الإعراب:
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سبّح فعل ماض ولله متعلقان بسبّح وقيل اللام زائدة وما فاعل وفي السموات متعلقان بمحذوف هو صلة الموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) الجملة مستأنفة أو حالية وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أخرج صلة والذين مفعول به وجملة كفروا صلة الذين ومن أهل الكتاب حال من الذين كفروا وهم بنو النضير، ومن ديارهم متعلقان بأخرج ولأول الحشر هذه اللام تتعلق بأخرج وهي لام التوقيت كقوله تعالى لدلوك الشمس أي عند أول الحشر وعبارة الزمخشري: «ولأول الحشر تتعلق بأخرج وهي اللام في قوله تعالى يا ليتني قدّمت لحياتي وقولك جئته لوقت كذا»(10/33)
(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) ما نافية وظننتم فعل وفاعل وأن حرف مصدري ونصب ويخرجوا فعل مضارع منصوب بأن وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظننتم (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) الواو عاطفة وظنوا فعل ماض من أفعال القلوب والواو فاعل وأن واسمها وقد سدّت مسدّ مفعولي ظنوا ومانعتهم خبر أنهم وحصونهم فاعل مانعتهم ويجوز أن يكون مانعتهم خبرا مقدما وحصونهم مبتدأ مؤخرا والجملة خبر أنهم ومن الله متعلقان بمانعتهم (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) الفاء للعطف مع التعقيب وأتاهم الله فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر أي أتاهم أمره أو عذابه ومن حرف جر وحيث ظرف مكان مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بأتاهم ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحتسبوا فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وقذف عطف على فأتاهم وفي قلوبهم متعلقان بقذف والرعب مفعول به والرعب يقرأ بضم العين وسكونها (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة كأنها تفسير للرعب، وأن تكون حالية من الضمير في قلوبهم. ويخربون فعل مضارع وفاعل وبيوتهم مفعول به وبأيديهم متعلقان بيخربون وأيدي عطف على بأيديهم والمؤمنين مضاف إلى أيدي وقرىء يخربون بالتخفيف من أخرب وبالتشديد من خرّب (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الفاء الفصيحة أي إن تدبرتم هذا وعقلتموه فاتعظوا بحالهم ولا تغدروا، واعتبروا فعل أمر وفاعل ويا حرف نداء وأولي منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والأبصار مضاف إليه (وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وأن مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ خبره محذوف تقديره موجود وكتب الله فعل وفاعل وعليهم متعلقان بكتب(10/34)
والجلاء مفعول به واللام واقعة في جواب لولا وعذبهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفي الدنيا متعلقان يعذبهم (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) الواو استئنافية ولهم خبر مقدّم وفي الآخرة حال وعذاب النار مبتدأ مؤخر يعني إن نجوا من عذاب الدنيا فإن عذاب الآخرة لهم بالمرصاد، ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة لأن ذلك يؤدي إلى عطف الجملة على عذبهم في الدنيا وذلك يقتضي أن ينجوا من عذاب الآخرة أيضا لأن لولا تقتضي انتفاء الجزاء بحصول الشرط (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المذكور من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وبأنهم خبر ذلك وأن واسمها وجملة شاقوا خبرها والواو فاعل والله مفعول به ورسوله عطف على الله (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويشاق فعل الشرط والله مفعول به والجواب محذوف تقديره يعاقب والفاء تعليلية وإن واسمها وخبرها ولك أن تجعل الفاء رابطة والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ.
الفوائد:
روى التاريخ أن بني النضير وهم رهط من اليهود نزلوا المدينة انتظارا منهم لمحمد صلّى الله عليه وسلم فغدروا بالنبي بعد أن عاهدوه وصاروا عليه مع المشركين فحاصرهم رسول الله حتى رضوا بالجلاء وكانوا أول من أجلي من أهل الذمّة من جزيرة العرب ثم أجلي آخرهم في زمن عمر بن الخطاب فكان جلاؤهم أول حشر من المدينة وآخر حشر جلاء عمر لهم، وقيل أن أول الحشر إخراجهم من حصونهم إلى خيبر وآخر الحشر إخراجهم من خيبر إلى الشام، قال ابن العربي:
«الحشر أول وأوسط وآخر فالأول: إجلاء بني النضير والأوسط إجلاء أهل خيبر والآخر هو يوم القيامة» .(10/35)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
[سورة الحشر (59) : الآيات 5 الى 7]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
اللغة:
(لِينَةٍ) اللينة بالكسر في اللغة مصدر لان والمراد بها هنا النخلة من الألوان وهي ضروب النخل ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخيل. وياؤها عن واو قلبت لكسرة ما قبلها كالديمة، وقيل اللينة النخلة الكريمة كأنهم اشتقوها من اللين قال ذو الرمّة:
كأن قتودي مؤتها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها
يصف ناقته، والقتود عيدان الرحل تتخذ من القتاد وهو شجر صلب ذو شوك واللينة النخلة والسوقاء طويلة الساق والجنوب نوع من الريح والضمير للّينه، شبّه عيدان الرحل فوق الناقة بعشّ الطائر فوق النخلة. وتجمع اللّينة على لين.(10/36)
(أَفاءَ) جعله فيئا أي غنيمة.
(أَوْجَفْتُمْ) أسرعتم، وفي المصباح: «وجف الفرس والبعير وجيفا عدا وأوجفته بالألف أعديته وهو العنق في السير» .
(رِكابٍ) الركاب: الإبل واحدتها راحلة وتجمع على ركب وركائب وركابات وركاب السحاب الرياح والركاب أيضا ما يعلق في السرج فيجعل الراكب رجله فيه وقال الفرّاء: «العرب لا يطلقون لفظ الراكب إلا على راكب البعير ويسمّون راكب الفرس فارسا» .
(دُولَةً) بضم الدال وقرىء بفتحها لغتان ما يدول للإنسان أي يدور من الجد يقال دالت له الدولة وأديل لفلان.
الإعراب:
(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ) ما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدّم لقطعتم وقطعتم فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط ومن لينة حال واو حرف عطف وتركتموها عطف على قطعتم وقائمة مفعول ثان لترك وعلى أصولها متعلقان بقائمة والفاء رابطة لجواب الشرط وبإذن جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فقطعها بإذن الله والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) الواو عاطفة والمعطوف عليه محذوف تقديره أذن في قطعها ليسرّ المؤمنين ويغرّهم ويخزي المنافقين والفاسقين ويذلّهم واللام لام التعليل ويخزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بالمحذوف المقدّر والفاسقين مفعول يخزي (وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال ما أخذ(10/37)
من أموالهم وما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة أفاء صلة والله فاعل وعلى رسوله متعلقان بأفاء ومنهم حال والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وما نافية وأوجفتم فعل وفاعل وعليه متعلقان بأوجفتم ومن حرف جر زائد وخيل مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أوجفتم ولا ركاب عطف على خيل (وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب والله اسمها وجملة يسلط خبرها ورسله مفعول به ليسلط وعلى من يشاء متعلقان بيسلط وجملة يشاء صلة من (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر الله (ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كلام مستأنف مسوق لبيان مصارف الفيء، وسيأتي سر الفصل فيه، وما اسم موصول مبتدأ وجملة أفاء صلة والله فاعل وعلى رسوله متعلقان بأفاء ومن أهل القرى حال، قال مقاتل: يعني قريظة والنضير وخيبر، والفاء رابطة لما يتضمنه الموصول من معنى الشرط ولله خبر ما وللرسول وما بعده عطف على قوله لله (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) كي حرف تعليل وجر بمعنى اللام ولا نافية ويكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد كي واسم يكون مستتر يعود على الفيء ودولة خبرها وبين الأغنياء ظرف متعلق بمحذوف صفة لدولة أي يتداولونه بينهم ومعكم حال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الواو عاطفة وما اسم موصول في محل نصب مفعول به لفعل محذوف دلّ عليه خذوه، ويجوز أن تعرب جملة فخذوه خبر، وجملة أتاكم صلة والكاف مفعول به والرسول فاعل والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وخذوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، وما نهاكم عنه فانتهوا عطف على ما تقدم (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول وإن واسمها وخبرها.(10/38)
البلاغة:
في قوله: «ما أفاء الله على رسوله» الآية. الفصل وهو ترك عطف جملة على أخرى، وضدّه الوصل وهو عطف بعض الجمل على بعض وهذا الباب أغمض أبواب المعاني حتى قيل لبعضهم: ما البلاغة؟
فقال: معرفة الفصل والوصل قال:
الفصل ترك عطف جملة أتت ... من بعد أخرى عكس وصل قد ثبت
ولكلّ منهما مواضع نلخصها فيما يلي:
مواضع الفصل: يجب الفصل في خمسة مواضع:
1- أن يكون بين الجملتين اتحاد تام بأن تكون الثانية بدلا من الأولى كالآية التي نحن بصددها، أو بيانا لها نحو «فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد» أو مؤكدة لها نحو «فمهل الكافرين أمهلهم رويدا» ويقال في هذا الموضع إن بين الجملتين كمال الاتصال.
2- أن يكون بين الجملتين تباين تام بأن تختلفا خبرا وإنشاء كقوله:
لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد يغني عن الخبر
وقول الآخر:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فحتف كل امرئ يجري بمقدار
فلم يعطف نزاولها على أرسوا لأنه خبر لفظا ومعنى، وأرسوا إنشاء لفظا ومعنى، والرائد هو الذي يتقدم القوم لطلب الماء والكلأ للنزول عليه، وقوله أرسوا أي أقيموا بهذا الكلأ الملائم للحرب وهو(10/39)
مأخوذ من أرسيت السفينة أي حبستها بالمرساة، وقوله نزاولها أي نحاول أمر الحرب ونعالجها، وقوله فحتف إلخ تعليل لمحذوف يفيده ما قبله أي ولا يمنعكم من محاولة إقامة الحرب بمباشرة أعمالها خوف من الحتف وهو الموت فكل إلخ ... هذا وقد اختلف في إعراب جملة نزاولها فقيل لا محل لها لأنها تعليل لما قبلها فهي جواب عن سؤال مقدّر فليس الفصل لكمال الانقطاع بل لشبه كمال الاتصال وقيل حال أي أقيموا في حال مزاولة الحرب فلذلك ليس الفصل لكمال الانقطاع بل لأن الحال لا يعطف على الجملة المقيدة به أو بأن لا يكون بينهما مناسبة في المعنى كقولك عليّ كاتب، الحمام طائر، ويقال في هذا الموضع إن بين الجملتين كمال الانقطاع.
3- كون الجملة الثانية جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الأولى كقوله تعالى «وما أبرىء نفسي إن النفس لأمّارة بالسوء» ويقال إن بين الجملتين شبه كمال الاتصال.
4- أنه تسبق جملة بجملتين يصحّ عطفها على إحداهما لوجود المناسبة وفي عطفها على الأخرى فساد فيترك العطف دفعا للوهم كقوله:
وتظنّ سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم
فجملة أراها يصحّ عطفها على تظن لكن يمنع من هذا توهم العطف على جملة أبغي بها فتكون الجملة الثالثة من مظنونات سلمى مع أنه ليس مرادا ويقال إن بين الجملتين شبه كمال الانقطاع.
5- أن لا يقصد تشريك الجملتين في الحكم لقيام مانع كقوله تعالى: «وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم» فجملة الله يستهزىء بهم لا يصحّ عطفها على إنّا(10/40)
معكم لاقتضائه أنه من مقولهم ولا على جملة قالوا لاقتضائه أن استهزاء الله بهم مقيد بحال خلوّهم إلى شياطينهم ويقال إن بين الجملتين في هذا الموضع توسطا بين الكمالين.
مواضع الوصل: ويجب الوصل في المواضع التالية:
1- إذا اتفقت الجملتان خبرا أو إنشاء وكان بينهما جهة جامعة أي مناسبة تامة ولم يكن ثمة مانع من العطف كقوله تعالى: «إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجّار لفي جحيم» والجامع بينهما التضاد ونحو «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» والجامع بينهما التضاد أيضا وهو وهي وذلك لأن الوهم ينزل التضاد عنده منزلة التضايف عند العقل فكما أن العقل لا يحضره أحد المتضايفين إلا ويحضره الآخر فكذا الوهم لا يحضره أحد المتضادّين إلا ويحضره الآخر.
2- إذا أوهم ترك العطف خلاف المقصود كما إذا قيل لك: هل برىء علي من المرض؟ وقلت: لا وأردت أن تدعو للسائل فلا بدّ من الوصل فتقول لا ورعاك الله إذ لو فصلت لتوهم أنه دعاء على المخاطب بعدم الرعاية ولولا هذا الإيهام لوجب الفصل لاختلافهما خبرا وإنشاء.
3- أن يكون للأولى محل من الإعراب كأن تكون خبرا ويقصد تشريك الثانية لها في حكم ذلك الإعراب نحو: زيد قام أبوه وقعد أخوه.
هذا والجوامع ثلاثة: عقلي ووهمي وخيالي، ومعنى كونه عقليا أنه يصل بين الجملتين ويجمعهما عند القوة المفكرة بسبب العقل كالتماثل، فإن العقل إذا توجه إلى المثلين في الحقيقة وجردهما من العوارض ارتفع التعدد وصارا شيئا واحدا في تلك الحقيقة فيجتمعان في العطف ولكن المراد بالتماثل هنا أن يكون لهما حقيقة مخصوصة(10/41)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
بوصف زائد، ومعنى كونه وهميا أن يحتال الوهم في جمعهما عند المفكرة كالتقارب للشبه الذي بين البياض والصفرة فإن الوهم يتوصل به إلى جمعهما وإن كان ذلك التشابه عقليا لأنه يأخذه من العقل ويجمع به ولولا الوهم ما صحّ الجمع لأن العقل ينفي الجمع لإدراك التباين معه والوهم يجعله كالتماثل، ومعنى كونه خياليا أن يحتال الخيال في الجمع عند المفكرة وهو التقارن بين المتعاطفين في المفكرة وإن كان التقارن عقليا لكن الوهم يأخذه منه فيجمع به ولما كان الجامع الخيالي هو هذا التقارن اختلف باختلاف الناس فربّ إنسان يتقارن عنده صور ولا تصحّ في خلد آخر أصلا.
الفوائد:
روى التاريخ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما نزل باليهود من بني النضير وقد تحصّنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك وقالوا: يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح، أمن الصلاح قطع الشجر وقطع النخيل وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم من قولهم شيئا وخشوا أن يكون ذلك فسادا واختلفوا في ذلك فقال بعضهم لا تقطعوا فإنه مما أفاء الله علينا، وقال بعضهم بل نغيظهم بقطعه فأنزل الله «ما قطعتم من لينة» الآية.
[سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)(10/42)
اللغة:
(خَصاصَةٌ) حاجة وخلّة وأصلها خصاص البيت أي فروجه.
(يُؤْثِرُونَ) الإيثار: تقديم الغير على النفس يقال آثرته بكذا أي خصصته به وفضّلته.
(شُحَّ) الشح الحرص على المال، والفرق بينه وبين البخل أن الشحّ غريزة والبخل المنع نفسه فهو أعمّ لأنه قد يوجد البخل ولا شحّ له ولا ينعكس وفي الصحاح: «والشحّ البخل مع حرص» .
الإعراب:
(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ) اختلفت أقوال المعربين في تعليق الجار والمجرور فمن جنح إلى مذهب أبي حنيفة جعله بدلا من قوله لذي القربى والمعطوف عليه ومقتضاه اشتراط الفقر فيه وعلى هذا الإعراب نهج الزمخشري وأبو البقاء، ومن جنح(10/43)
إلى مذهب الشافعي علّقه بمحذوف تقديره أعجبوا ومقتضاه عدم اشتراط الفقر وإن الاستحقاق يكون بالقرابة وعلى هذا نهج السيوطي وغيره وعبارة أبي حيان: «وإنما جعله الزمخشري بدلا من قوله ولذي القربى لأنه مذهب أبي حنيفة والمعنى أنه يستحق ذو القربى الفقير فالفقر شرط على مذهب أبي حنيفة ففسّره الزمخشري على مذهبه وأما الشافعي فيرى أن سبب الاستحقاق هو القرابة فيأخذ ذو القربى الغني لقرابته. والسر في التعجب أن السياق يدلّ عليه والمعنى أعجبوا لهؤلاء المهاجرين حيث تركوا أوطانهم وأموالهم وتكبدوا شظف العيش ومرارة الغربة في حبّ النبي والإسلام. والمهاجرين نعت للفقراء والذين نعت ثان وجملة أخرجوا صلة وهو فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن ديارهم متعلقان بأخرجوا وأموالهم عطف على ديارهم وساغ التعبير عنه بالخروج منه لأن المال بمثابة الظرف الذي يستر صاحبه فناسب التعبير عنه بالخروج (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) الجملة حالية أي حال كونهم طالبين منه تعالى فضلا ورضوانا، وفضلا مفعول به ومن الله متعلقان بيبتغون أو بمحذوف نعت لفضلا ورضوانا عطف على فضلا (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الجملة معطوفة على جملة يبتغون والله مفعول ينصرون ورسوله عطف على الله وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ والصادقون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) كلام مستأنف مسوق لمديح الأنصار الذين حدبوا على المهاجرين وأحلّوهم دارهم، ولك أن تجعله منسوقا على الفقراء فالذين على هذين الوجهين إما مبتدأ وإما معطوف على الفقراء فهو في محل جر وجملة تبوءوا صلة والدار مفعول به والإيمان مفعول به لفعل محذوف تقديره وأخلصوا على حدّ قوله: علفتها تبنا وماء باردا. ويكون العطف من عطف الجمل لأن الإيمان لا يتخذ منزلا فاختصر الكلام، وقيل هو على(10/44)
حذف مضاف والمعنى دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه، أو منصوب بتبوءوا بعد تضمينه معنى لزموا كأنه قال لزموا الدار ولزموا الإيمان وقيل هو من عطف المفردات على أن يكون التجوّز واقعا في الإيمان على طريق الاستعارة وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة، ومن قبلهم حال وجملة يحبّون خبر الذين ومن مفعول به وجملة هاجر صلة وإليهم متعلقان بهاجر (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) الواو عاطفة ولا نافية ويجدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وفي صدورهم متعلقان بيجدون وحاجة مفعول به ومما نعت لحاجة وجملة أوتوا صلة لما. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) عطف على ما تقدم وعلى أنفسهم متعلقان بيؤثرون والواو حالية ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص وبهم خبر كان المقدم وخصاصة اسمها المؤخر. قال ابن عمر: أهديت لرجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم شاة فقال: أخي فلان أحوج إليها وبعث بها إليه فلم يزل يبعث بها واحد بعد واحد حتى تداولها تسعة أبيات ورجعت إلى الأول فنزلت. (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الواو استئنافية ومن شرطية في محل رفع مبتدأ ويوق فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلّة وهو فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وشحّ مفعول به ثان والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والمفلحون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة فأولئك إلخ في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) الذين مبتدأ وجملة جاءوا صلة ومن بعدهم متعلقان بجاءوا وجملة يقولون خبر الذين وربنا منادى مضاف واغفر فعل دعاء وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة مقول القول(10/45)
ولإخواننا عطف على لنا، والذين نعت لإخواننا وجملة سبقونا صلة الذين وبالإيمان متعلقان بسبقونا (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) الواو عاطفة ولا ناهية وتجعل فعل مضارع مجزوم بلا وفي قلوبنا في موضع المفعول الثاني لتجعل وغلّا مفعولها الأول وللذين نعت لغلّا أي حقدا. (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ربنا منادى مضاف وإن واسمها ورءوف خبر إن الأول ورحيم خبرها الثاني.
البلاغة:
في قوله «والذين تبوءوا الدار والإيمان» فن الإيجاز، وقد تقدم بحثه مفصلا، وهو هنا نوع تختصر فيه بعض الألفاظ ويأتي كله بلفظ الحقيقة، لكن اختصاره من اختصار ألفاظ المجاز، وبعضهم يسمّيه اختصار الاتباع، فإن التقدير كما قدّمنا في باب الإعراب: تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان، كما قال ذو الرمّة:
لما حططت الرحل عنها واردا ... علفتها تبنا وماء باردا
أي وسقيتها، وكقول عبد الله بن الزبعرى:
ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا
أي ومتقلدا رمحا.
الفوائد:
للإعراب في قوله «للفقراء» أثر كبير في توجيه المعتقد، فمذهب أبي حنيفة رحمه الله أن استحقاق ذوي القربى لسهمهم من الفيء موقوف على الفقراء حتى لا يستحقه أغنياؤهم، وقد أغلظ الشافعي رحمه الله، فيما نقله عنه إمام الحرمين، الردّ على هذا المذهب بأن الله(10/46)
تعالى علّق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة، وعدم اعتبار القرابة مضادّة محادّة، واعتذر إمام الحرمين لأبي حنيفة بأن الصدقات لما حرّمت عليهم كان فائدة ذكرهم في خمس الفيء والغنيمة أنه لا يمنع صرف ذلك إليهم امتناع صرف الصدقات، ثم أتبع هذا العذر بأن قال:
لا ينبغي أن يعبّر به فإن صيغة الآية ناصّة على الاستحقاق لهم تشريفا لهم وتنبيها على عظم أقدارهم، فمن حمل ذلك على جواز الصرف إليهم مع معارضة هذا الجواز بجواز حرمانهم فقد عطّل فحوى الآية، ثم استعظم الإمام وقع ذلك عليهم لأنهم يذهبون إلى اشتراط الإيمان في رقبة الظهار زيادة على النصّ فيأتون في إثبات ذلك بالقياس لأنه يستنتج وليس من شأنه الثبوت بالقياس، قال فكذلك يلزمهم أن يعتقدوا أن اشتراط الفقر في القرابة واشتراط الحاجة لقرب ما ذكروه بغرض القرب، فأما وأن أصلهم المخصوصون من نسب الرسول عليه الصلاة والسلام والنابتون من شجرته كالعجمة فلا يبقى مع هذا لمذهبهم وجه.
انتهى كلام الإمام، وإنما أوردته ليعلم أن معارضته لأبي حنيفة على أن اشتراط الحاجة عند أبي حنيفة مستند إلى قياس أو نحوه من الأسباب الخارجة عن الآية فلذلك ألزمه أن يكون زيادة على النصّ فأما وقد تلقى أبو حنيفة اعتبار الحاجة من تقييد هذا البدل المذكور في الآية فإنما يسلك معه واد غير هذا فيقول هو بدل من المساكين لا غير، وتقديره أنه سبحانه أراد أن يصف المساكين بصفات تؤكد استحقاقهم وحمد الأغنياء على إيثارهم وأن لا يجدوا في صدورهم حاجة مما أوتوا فلما قصد ذلك وقد فصّل بين ذكرهم وبين ما يقصد من ذكر صفاتهم بقوله:
«كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم» إلى قوله: «شديد العقاب» طرّى ذكرهم ليكون توطئة للصفات المتتالية بعده فذكر بصفة أخرى مناسبة للصفة الأولى مبدلة منها وهي الفقر لتشهد التطرية على فائدة الجمع لهم بين صفتي المسكنة والفقر ثم تليت صفاتهم على أثر ذلك وهي(10/47)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
إخراجهم من ديارهم وأموالهم مهاجرين وابتغاؤهم الفضل والرضوان من الله، فإن ذوي القربى ذكروا بصفة الإطلاق فالأصل بقاؤهم على ذلك حتى يتحقق أنهم مرادون بالتقييد وما ذكرناه من صرف ذلك إلى المساكين يكفي في إقامة وزن الكلام فيبقى ذوو القربى على أصل الإطلاق وتلك قاعدة لا يسع الحنفية مدافعتها فإنهم يرون الاستثناء المتعقب للجمل يختصّ بالجملة الأخيرة لأن عوده إليها يقيم وزن الكلام ويبقى ما تقدمهنّ على الأصل ولا فرق بين التعقيب بالاستثناء والبدل وكل ما سوى هذا مع أنه لو جعل بدلا من ذوي القربى مع ما بعده لم يكن إبداله من ذوي القربى إلا بدل بعض من كل فإن ذوي القربى منقسمون إلى فقراء وأغنياء ولم يكن إبداله من المساكين إلا بدلا للشيء من الشيء وهما لعين واحدة، فيلزم أن يكون هذا البدل محسوسا بالنوعين المذكورين في حالة واحدة وذلك متعذر لما بين النوعين من الاختلاف والتباين وكلّ منهما يتقاضى ما يأباه الآخر فهذا القدر كان إن شاء الله تعالى وعليه أعرب الزجّاج الآية فجعله بدلا من المساكين خاصة والله تعالى الموفّق للصواب.
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)(10/48)
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية ما جرى بين المنافقين والكفّار من أقوال كاذبة ومحاورات متهافتة، والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت أي تنظر وإلى الذين متعلقان بتر وجملة نافقوا صلة وجملة يقولون مستأنفة لبيان المتعجب منه والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة القول وتجدده ولإخوانهم متعلقان بيقولون والذين نعت لإخوانهم وجملة كفروا صلة الذين ومن أهل الكتاب حال (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) الجملة مقول قول قولهم واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأخرجتم فعل ماض مبني(10/49)
للمجهول في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل واللام جواب القسم أيضا ونخرجن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وجواب إن الشرطية محذوف، والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط، ومعكم ظرف متعلق بنخرجنّ والواو حرف عطف ولا نافية ويطع فعل مضارع مرفوع لأنه معطوف على جملة لئن أخرجتم وكذلك قوله وإن قوتلتم فمقول قولهم ثلاث جمل وجاء الفعل مرفوعا هو وما بعده لأنها راجعة على حكم القسم لا على حكم الشرط وفقا للقاعدة المتفق عليها من أنه إذا تقدم القسم على الشرط كان الجواب للقسم، وفيكم متعلقان بنطيع على حذف مضاف أي في خذلانكم وأحدا مفعول به وأبدا ظرف للنفي متعلق بنطيع أيضا (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) الواو عاطفة وإن شرطية حذفت قبلها اللام الموطئة للقسم وقوتلتم فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط واللام جواب القسم وننصرنّكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجواب إن محذوف والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وقد تقدم القول في ذلك (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) والله مبتدأ وجملة يشهد خبر وإن حرف مشبّه بالفعل وكسرت همزتها لوقوع اللام المزحلقة في خبرها والهاء اسمها وكاذبون خبرها (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية وأخرجوا فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وجواب إن محذوف دلّ عليه جواب القسم وهو جملة لا يخرجون ومعهم ظرف متعلق بيخرجون (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف أيضا وقوله ليولّنّ:
اللام جواب القسم ويولّنّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والأدبار(10/50)
مفعول به وثم حرف عطف ولا نافية وينصرون فعل مضارع معطوف على يولّنّ مرفوع مثله والضمائر عائدة على اليهود أو على المنافقين (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) اللام لام الابتداء وأنتم مبتدأ وأشد خبر ورهبة تمييز وهو مصدر رهب المبني للمجهول هنا لأن المخاطبين مرهوب منهم لا راهبون فلا يرد السؤال كيف يستقيم التفضيل بأشدية الرهبة مع أنهم لا يرهبون من الله لأنهم لو رهبوا منه لتركوا الكفر والنفاق، وفي صدورهم نعت لرهبة ومن الله متعلقان برهبة (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ذلك مبتدأ وبأنهم خبر وأن واسمها وقوم خبرها وجملة لا يفقهون نعت لقوم (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) لا نافية ويقاتلونكم فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به وجميعا حال أي مجتمعين وإلا أداة حصر وفي قرى متعلقان بيقاتلونكم والضمير يعود لليهود ومحصنة نعت لقرى وأو حرف عطف ومن وراء عطف على في قرى وجدر مضاف إليه وهو جمع جدار وقرىء بالإفراد (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) الجملة مستأنفة لبيان حالهم أي أنهم في غاية القوة والشجاعة إذا حارب بعضهم بعضا ولكنهم إذا حاربوكم ضعفوا وجبنوا، وبأسهم مبتدأ وبينهم ظرف متعلق بشديد وشديد خبر وجملة تحسبهم استئنافية أيضا وتحسبهم فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره وأنت والهاء مفعول به أول وجميعا مفعول به ثان والواو حالية وقلوبهم مبتدأ وشتى خبره والجملة حالية (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) تقدم إعراب نظيرتها قريبا (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) كمثل خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلهم والذين مضاف إليه ومن قبلهم صلة الذين وقريبا ظرف متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به من قبلهم ولك أن تعلقه بذاقوا وعلقه الزمخشري بمضاف مقدّر في الخبر أي كوجود مثل أهل بدر قريبا أي مثل اليهود من بني النضير فيما وقع لهم من الإجلاء والذل(10/51)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
والمهانة كمثل أهل مكة فيما وقع لهم أيضا يوم بدر من الهزيمة والأسر والقتل وليس قوله ببعيد، وذاقوا فعل وفاعل ووبال أمرهم مفعول (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الواو استئنافية ولهم خبر مقدّم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم نعت أي في الآخرة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) كمثل خبر لمبتدأ محذوف أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ولك أن تعلقه بمحذوف على أنه حال من مثل الشيطان كأنه بيان له وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وللإنسان متعلقان بقال وجملة اكفر مقول القول (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فكفر فلما كفر، ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة كفر في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإن واسمها وبريء خبرها ومنك متعلقان ببريء (إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) الجملة تعليل كاذب لبراءته منه وإلا فهو لا يخاف الله، وإن واسمها وجملة أخاف الله خبرها ورب العالمين بدل من الله أو نعت له (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وكان فعل ماض ناقص وعاقبتهما خبرها المقدّم أي الغاوي والمغوى، وأن وما في حيّزها هو الخبر وأن واسمها وفي النار خبرها خالدين حال وفيها متعلقان بخالدين والواو استئنافية وذلك مبتدأ والإشارة إلى العذاب وجزاء الظالمين خبر ذلك.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)(10/52)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) كلام مستأنف مسوق لمخاطبة المؤمنين وإسداء الموعظة لهم، واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعوله والواو حرف عطف واللام لام الأمر وتنظر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر ونفس فاعل وما مفعول تنظر وجملة قدّمت صلة ما والعائد محذوف أي(10/53)
قدّمته ولغد متعلقان بقدّمت وأطلق الغد على يوم القيامة تقريبا له وسيأتي مزيد بحث عن معنى الغد في باب البلاغة (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) كرر الأمر بالتقوى تأكيدا له، وجملة إن الله خبير بما تعملون تعليل للأمر بالتقوى وإن واسمها وخبرها (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو واسمها وكالذين خبرها وجملة نسوا الله صلة الموصول، فأنساهم الفاء عاطفة وأنساهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأنفسهم مفعول به ثان (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والفاسقون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) لا نافية ويستوي فعل مضارع مرفوع وأصحاب النار فاعل وأصحاب الجنة عطف على أصحاب النار (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية عدم الاستواء وأصحاب الجنة مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والفائزون خبر على كل حال وقد تقدم نظيره تقريبا (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للتشبيه ولو شرطية وأنزلنا فعل وفاعل وهذا مفعول به والقرآن بدل وعلى جبل متعلقان بأنزلنا واللام رابطة لجواب لو ورأيته فعل وفاعل ومفعول به وخاشعا مفعول ثان أو حال لأن الرؤية تحتمل القلبية والبصرية ومتصدعا حال ثانية أو نعت لخاشعا ومن خشية الله متعلقان بمتصدعا (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) الواو استئنافية وتلك مبتدأ والأمثال بدل وجملة نضربها خبر وللناس متعلقان بنضربها ولعل واسمها وجملة يتفكرون خبرها (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو مبتدأ والله خبر أول والذي نعت وجملة لا إله إلا هو صلة وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصّلا في البقرة فجدّد به عهدا (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ)(10/54)
أخبار متعددة لله وقد تقدمت أسماء الله الحسنى (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وعمّا متعلقان بسبحان وجملة يشركون صلة (هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) هو مبتدأ وما بعده من الأسماء الحسنى أخبار (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) له خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى نعت والحسنى مؤنث الأحسن الذي هو اسم تفضيل لا مؤنث أحسن المقابل لامرأة حسناء، وفي القاموس «ولا تقل رجل أحسن في مقابل امرأة حسنا وعكسه غلام أمرد ولا تقل جارية مرداء وإنما يقول هو الأحسن على إرادة أفعل التفضيل وجمعه أحاسن والحسنى بالضم ضد السوءى» (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم في أول السورة.
البلاغة:
في قوله «ولتنظر نفس ما قدّمت لغد» تنكير النفس والغد، أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة، وأما تنكير الغد فلتعظيمه وإبهام أمره كأن قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه.(10/55)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
(60) سورة الممتحنة مدنيّة وآياتها ثلاث عشرة
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ(10/56)
بِالْمَوَدَّةِ)
يا حرف نداء وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والذين بدل من أيدي وجملة آمنوا صلة ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعدوي مفعول به، وهو يقع على الواحد فما فوقه لأنه بزنة المصدر، وعدوكم عطف على عدوي وأولياء مفعول به ثان وجملة تلقون حال من فاعل تتخذوا ويجوز أن تكون في موضع نصب صفة لأولياء ويجوز أن تكون تفسيرية لا محل لها لموالاتهم إياهم وقيل هي استئناف مسوق للإخبار بذلك وتلقون فعل وفاعل والمفعول به محذوف تقديره إخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقيل الباء زائدة والمودّة هي المفعول به ولا حذف وإليهم متعلق بتلقون (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل والجملة حال من لا تتخذوا أو من تلقون والمعنى لا توادوهم وهذه حالهم وبما متعلقان بكفروا وجملة جاءكم صلة ومن الحق حال (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) جملة يخرجون مستأنفة أو مفسّرة لكفرهم فلا محل لها على الحالين ويجوز أن تكون حالا من فاعل كفروا والرسول مفعول وإياكم عطف على الرسول وأن تؤمنوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول لأجله أي لإيمانكم بالله وبالله متعلق بتؤمنوا وربكم بدل (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة خرجتم خبر كنتم وجهادا مفعول لأجله أي لأجل الجهاد ويجوز أن يكون النصب على الحال أي حال كونكم مجاهدين وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله لا تتخذوا (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) جملة تسرون إما مستأنفة وإما تابعة لتلقون إليهم على أنها بدل بعض من كل لأن إلقاء المودّة أعمّ من السرّ والجهر، وتسرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف وبالمودّة متعلقان بتسرون أو الباء زائدة في(10/57)
المفعول على غرار ما تقدم في تلقون إليهم بالمودّة والواو حالية وأنا مبتدأ وأعلم خبر على أنه اسم تفضيل وبما متعلقان بأعلم وجملة أخفيتم صلة ما ويجوز أن تكون أعلم فعلا مضارعا وما أعلنتم عطف على بما أخفيتم (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) الواو عاطفة أو مستأنفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعله فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط لاقترانه بقد وضلّ فعل وفاعله هو وسواء السبيل مفعوله وقيل ضلّ لازم فينصب سواء السبيل على الظرفية المكانية (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) إن شرطية ويثقفوكم فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به ويكونوا جواب الشرط وعلامة جزمه حذف النون أيضا والواو اسمها وأعداء خبرها ولكم حال وفي المصباح:
«ثقفت الشيء ثقفا من باب تعب أخذته وثقفت الرجل في الحرب أدركته وثقفته ظفرت به وثقفت الحديث فهمته بسرعة والفاعل ثقيف» (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) عطف على يكونوا وإليكم متعلقان بيبسطوا وأيديهم مفعول به وألسنتهم عطف على أيديهم وبالسوء حال (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) عطف أيضا على جملة الشرط والجزاء فيكون تعالى قد أخبر بخبرين: بما تضمنته الجملة الشرطية وبودادتهم كفر المؤمنين وسيأتي سر العدول عن المضارع إلى الماضي، ولو مصدرية وتكفرون فعل مضارع مرفوع ولو وما في حيّزها مصدر في محل نصب مفعول ودّوا (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) كلام مستأنف مسوق للإعلام بأن أرحامهم وأولادهم لن ينفعوهم، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتنفعكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به مقدم وأرحامكم فاعل مؤخر ولا أولادكم عطف على أرحامكم ويوم القيامة ظرف متعلق بما قبله أي لن ينفعكم يوم القيامة فيوقف عليه أو متعلق بما بعده أي يفصل بينكم يوم القيامة، ويفصل فعل مضارع(10/58)
وفاعله هو أي الله تعالى وقرىء يفصل بالبناء للمجهول وبينكم ظرف متعلق بيفصل على كل حال (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الله مبتدأ وبما متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة وبصير خبر الله.
البلاغة:
عدل عن المضارع المناسب لما قبله في قوله «وودّوا لو تكفرون» إلى الماضي مع أن السياق يتطلب أن يكون مضارعا مستقبلا لاعتباره قد كان أي أن ودادتهم كفركم هو المهم لديهم ولا شيء يعدله في الرجحان، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم جميع مضار الدنيا والدين وارتدادكم كفّارا أسبق المضار لكم لأنهم يعلمون أن الدين أعزّ عليكم من أرواحكم وهذا من بديع التعبير.
الفوائد:
وقد آن أن ننقل إليك خلاصة وافية للقصة التي نزلت السورة بسببها لما فيها من متعة وفائدة فقد روى الأئمة واللفظ لمسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ- بالصرف وعدمه- موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادي خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة فقلنا اخرجي الكتاب فقالت: ما معي كتاب فقلنا لتخرجنّ الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تعجل عليّ يا رسول(10/59)
الله إنّي كنت امرأ ملصقا في قريش- قال سفيان: كان حليفا لهم ولم يكن من أنفسها- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وإن كتابي لا يغني عنهم شيئا وأنّ الله ناصرك عليهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: صدق فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا وما يدريك لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عزّ وجلّ: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» الآية. قيل اسم المرأة سارة وهي مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم.
نص الكتاب:
أما نص كتاب حاطب فهو «أما بعد فإن رسول الله قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ولأنجز له موعده فيكم فإن الله وليّه وناصره» .
وذكر القشيري والثعلبي أن حاطب بن أبي بلتعة كان رجلا من أهل اليمن وكان في مكة حليف بني أسد بن عبد العزّى رهط الزبير بن العوّام وقيل كان حليفا للزبير بن العوّام فقدمت من مكة سارة إلى المدينة ورسول الله يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله: أمهاجرة جئت يا سارة؟ فقالت: لا فقال: أمسلمة جئت؟ قالت: لا قال: فما جاء بك؟
قالت: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشير وقد ذهب بعض الموالي يعني قتلوا يوم بدر وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني فقال عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من شباب مكة وكانت(10/60)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
مغنية قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله بني عبد المطلب على إعطائها فكسوها وحملوها وأعطوها فخرجت إلى مكة وأتاها حاطب فقال أعطيك عشرة دنانير وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم إلى آخر القصة.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 7]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)(10/61)
اللغة:
(أُسْوَةٌ) بضم الهمزة وكسرها وقد قرىء بها أيّ القدوة وما يتعزى به والجمع أسى بضم الهمزة وكسرها أيضا.
(بَراءٌ) جمع بريء كظريف وظرفاء ويجمع أيضا على براء بكسر الباء كظريف وظرف وعلى براء بضم الباء كتؤام وظؤار وعلى أبراء وأبرياء والبريء الخالص والخالي وخلاف المذنب والمتهم.
الإعراب:
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثال الجدير بالاحتذاء في النهي عن موالاة الكفّار والركون إلى الأعداء وأن الصدور المطوية على الضغن يجب أن تبقى على عدائها حتى يزول السبب القائم فإذا زال انقلبت العداوة مودّة والبغضاء محبة. وقد حرف تحقيق وكانت فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وأسوة اسمها المؤخر وحسنة نعت لأسوة، وفي إبراهيم:
لك أن تعلقه بمحذوف صفة ثانية لأسوة أو حال منها لأنها وصفت، وعبارة أبي البقاء «فيه أوجه: أحدها هو نعت آخر لأسوة والثاني هو متعلق بحسنة تعلق الظرف بالعامل والثالث أن يكون حالا من الضمير في حسنة والرابع أن يكون خبرا لكان ولكم تبيين ولا يجوز أن يتعلق بأسوة لأنها قد وصفت» وقد ردّ على أبي البقاء عدد من المعربين الوجه الأخير لأن الظروف يغتفر فيها ما لا يغتفر بغيرها، والذين عطف على إبراهيم ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو الصلة للذين (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) إذ ظرف لما مضى من الزمن أي حين قالوا وهو بدل اشتمال من إبراهيم والذين معه وهذا أولى الأعاريب المتكلفة التي ذكرها أبو البقاء وغيره، وجملة قالوا في محل(10/62)
جر بإضافة الظرف إليها ولقومهم متعلقان بقالوا وإن واسمها وبرآء خبرها والجملة مقول قولهم ومنكم متعلق ببرآء ومما عطف على منكم وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال (كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) الجملة مفسّرة للتبرؤ منهم ومما يعبدون ولك أن تجعلها حالا أي تبرأنا منكم حال كوننا كافرين بكم، وكفرنا فعل وفاعل وبكم متعلق بكفرنا وبدا فعل ماض وبيننا ظرف متعلق ببدا وبينكم ظرف معطوف على بيننا والعداوة فاعل والبغضاء عطف على العداوة وأبدا ظرف متعلق ببدا أيضا وحتى حرف غاية وجر وتؤمنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وبالله متعلقان بتؤمنوا ووحده حال (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) إلا أداة استثناء وقول إبراهيم مستثنى من أسوة حسنة لأن القول من جملة الأسوة فهو استثناء متصل فكأنه قيل لكم فيه أسوة حسنة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وقيل هو استثناء منقطع والمعنى لكن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك فلا تتأسّوا فيه وعبارة أبي حيان: والظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلا بما قبل الاستثناء وهو من جملة ما يتأسى به فيه، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه. ولأبيه متعلقان بقول، ولأستغفرنّ اللام موطئة للقسم وأستغفرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا والجملة مقول القول ولك متعلقان بأستغفرنّ والواو للحال أو للعطف لأن الجملة من تمام قول إبراهيم فهي في محل نصب على الحال من فاعل أستغفرنّ أي أستغفر لك وليس في طاقتي إلا الاستغفار فهو مبني على ما قبله مرتب عليه بطريق الحالية ويجوز العطف أيضا، وما نافية وأملك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ولك متعلقان بأملك ومن الله حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه(10/63)
مفعول أملك (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) تتمة مقول قول الخليل إبراهيم والذين معه فهو من جملة المستثنى منه فيتأسى به فيه فهو في المعنى مقدّم على الاستثناء وجملة الاستثناء اعتراضية في خلال المستثنى منه وعبارة الكشاف «فإن قلت بم اتصل قوله تعالى: ربنا عليك توكلنا قلت بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة ويجوز أن يكون المعنى: قولوا ربنا أمرا من الله تعالى للمؤمنين بأن يقولوه وتعليما منه لهم تتميما لما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم وبين الكفّار والائتساء بإبراهيم وقومه في البراءة منهم وتنبيها على الإثابة إلى الله والاستعاذة به من فتنة أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم» أي فهو مقول قول محذوف وربنا منادى مضاف وعليك متعلقان بتوكلنا وإليك متعلقان بأنبنا والواو عاطفة وإليك خبر مقدّم والمصير مبتدأ مؤخر (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ربنا منادى مضاف أيضا ولا ناهية والمقصود به الدعاء وتجعلنا فعل مضارع مجزوم بلا ونا مفعول به أول وفتنة مفعول به ثان وهو مصدر بمعنى الفاعل أي لا تجعلنا فاتنين لهم بأن ينتصروا علينا فتقصف عقولهم وتفتتن وتسوّل لهم أنفسهم أنهم على حق، أو بمعنى المفعول كما قرر البيضاوي أي لا تجعلنا
مفتونين بهم بأن تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا طاقة لنا باحتماله، وللذين متعلقان بفتنة على الحالين وجملة كفروا صلة الموصول وربنا منادى مضاف كرره للتأكيد وإن واسمها وأنت ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن والحكيم خبر ثان على كل حال (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) الجملة تابعة لجملة قد كانت لكم أسوة تأكيد لها أتى بها للمبالغة في التحريض على الحكم. واللام موطئة لقسم مقدّر وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدّم وفيهم حال وأسوة اسم كان المؤخر وحسنة نعت لأسوة ولمن(10/64)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
بدل بعض من كل من لكم بإعادة الجار وقيل بدل اشتمال وجملة كان صلة لمن واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يرجو الله خبر كان واليوم الآخر عطف على الله (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويتول فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلّة والفاء رابطة للجواب والجواب محذوف تقديره فإن وبال توليه على نفسه وإن واسمها وخبراها تعليل للجواب (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) عسى فعل من أفعال الرجاء والله اسمها وأن يجعل في موضع الخبر وبينكم ظرف في موضع المفعول الثاني ليجعل وبين الذين عاديتهم عطف على الظرف ومودّة مفعول يجعل الأول ومنهم حال من الذين عاديتم (وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) مبتدأ وخبر وعطف عليهما مثيلهما.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 9]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
الإعراب:
(لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) كلام مستأنف مسوق لبيان الترخيص في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين ولم يخرجوهم(10/65)
من ديارهم ولا نافية وينهاكم الله فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وعن الذين متعلقان بينهاكم وجملة لم يقاتلوكم صلة الموصول وفي الدين متعلقان بيقاتلوكم أي لأجله (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ولم يخرجوكم عطف على لم يقاتلوكم ومن دياركم متعلقان بيخرجوكم وأن تبرّوهم في موضع جر بدل اشتمال من الذين، وتقسطوا إليهم عطف على تبروهم وإن واسمها وجملة يحبّ المقسطين خبرها وجميل قول الزمخشري بهذا الصدد «وناهيك بتوصية الله المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به ويتحاموا ظلمهم مترجمة عن حال مسلم يجترىء على ظلم أخيه المسلم» (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إنما كافّة ومكفوفة وينهاكم الله فعل مضارع ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر وعن الذين متعلقان بينهاكم وجملة قاتلوكم صلة الذين وفي الدين متعلقان بقاتلوكم (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) وأخرجوكم عطف على قاتلوكم ومن دياركم متعلقان بأخرجوكم وظاهروا عطف أيضا وعلى إخراجكم متعلقان بظاهروا أي عاونوا على إخراجكم وأن وما في حيّزها بدل اشتمال من الذين وقد تقدم نظيره (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويتولهم فعل الشرط والفاء رابطة وجملة أولئك هم الظالمون في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.(10/66)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
اللغة:
(فَامْتَحِنُوهُنَّ) فابتلوهنّ واختبروهن ولذلك سمّيت السورة الممتحنة بكسر الحاء أي المختبرة، أراد المرأة أو الجماعة الممتحنة فقد ذكر فيها أمر جماعة المؤمنين بالامتحان، وإن فتحت الحاء يكون المعنى سورة المرأة المهاجرة التي نزلت فيها آية الامتحان وسيأتي حديثها في باب الفوائد.(10/67)
(بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) العصم جمع عصمة وهي هنا عقد النكاح وكل ما عصم به الشيء فهو عصام وعصمة وقد مرّت خصائص العين والصاد فاء وعينا، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة، وعبارة أبي حيان «وقال الكرخي: الكوافر يشمل الرجال والنساء فقال له أبو علي الفارسي النحويون لا يرون هذا إلا في النساء جمع كافرة فقال أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة قال أبو علي: فبهت فقلت هذا تأييد» والكرخي هذا معتزلي فقيه وأبو علي معتزلي أيضا فأعجبه هذا التخريج وليس بشيء لأنه لا يقال كافرة في وصف الرجال إلا تابعا لموصوفها أو يكون محذوفا مرادا أما بغير ذلك فلا يجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها والمؤمنات فاعل مؤخر ومهاجرات حال والفاء رابطة وجملة امتحنوهنّ لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به (اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) الله مبتدأ وأعلم خبر وبإيمانهنّ متعلقان بأعلم لأنه أفعل تفضيل والفاء عاطفة وإن شرطية وعلمتموهنّ فعل الشرط وهو فعل وفاعل ومفعول به أول ومؤمنات مفعول به ثان والفاء رابطة للجواب لأنه جملة طلبية ولا ناهية وترجعوهنّ فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وإلى الكفّار متعلقان بترجعوهنّ (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) الجملة لا محل لها لأنها تعليلية لقوله فلا ترجعوهنّ، ولا نافية(10/68)
وهنّ مبتدأ وحلّ خبر ولهم متعلقان بحل ولا هم يحلّون لهنّ عطف على الجملة الآنفة مماثلة لها (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة وآتوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والضمير يعود إلى الكفّار أي أعطوا أزواجهنّ الكفّار ما أنفقوا عليهن، وما مفعول به ثان وجملة أنفقوا صلة ما أي ما أنفقوا عليهنّ من المهور (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) الواو عاطفة ولا نافية للجنس وجناح اسمها المبني على الفتح وعليكم خبر لا وأن حرف مصدري ونصب وتنكحوهنّ فعل مضارع منصوب بأن والمصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض أي في أن تنكحوهنّ والجار والمجرور متعلقان بجناح وإذا ظرف متضمن معنى الشرط وجملة آتيتموهنّ في محل جر بإضافة الظرف إلها وأجورهنّ مفعول ثان لآتيتموهنّ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسكوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وبعصم الكوافر متعلقان بتمسكوا (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة واسألوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وما مفعول به وجملة أنفقتم لا محل لها لأنها صلة ما، وليسألوا الواو عاطفة واللام لام الأمر ويسألوا فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وما مفعول به وجمل أنفقوا صلة (ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ذلكم مبتدأ والاشارة إلى الحكم الوارد في الآيات وحكم الله خبر وجملة يحكم استئنافية أو حالية من حكم الله وبينكم ظرف متعلق بيحكم والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) الواو عاطفة لتتساوق الأحكام، وإن شرطية وفاتكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وشيء فاعل فاتكم ومن أزواجكم فيه وجهان أولهما يجوز أن يتعلق بفاتكم أي من جهة أزواجكم ويراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج لأنه ورد أن الرجل المسلم إذا فرّت زوجه إلى الكفار أمر الله المؤمنين أن يعطوه ما غرمه(10/69)
وثاني الوجهين أنه يتعلق بمحذوف على أنه صفة لشيء ثم يجوز في شيء أن يراد به ما تقدم من المهور ولكن على هذا لا بدّ من حذف مضاف أي من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته ويجوز أن يراد بالشيء النساء أي نوع وصنف منهنّ، وإلى الكفار متعلقان بمحذوف حال أي ذاهبات أو سابقات، فعاقبتم الفاء عاطفة وعاقبتم فعل وفاعل أي فغزوتم وغنمتم وأصبتموهم في القتال، فآتوا الفاء رابطة وآتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط والذين مفعول به وجملة ذهبت أزواجهم صلة ومثل مفعول به ثان وما موصول مضاف لمثل وجملة أنفقوا صلة (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به والذي نعت وأنتم مبتدأ وبه متعلق بمؤمنون ومؤمنون خبر أنتم والجملة لا محل لها لأنها صلة الذي (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجمل جاءك في محل جر بإضافة الظرف إليها والكاف مفعول به والمؤمنات فاعل ويبايعنك فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون
النسوة والنون فاعل والكاف مفعول به والجملة حالية أي حال كونهنّ طالبات للمبايعة وعلى حرف جر وأن وما في حيّزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بيبايعنك وشيئا مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك (وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ) كلام معطوف على أن لا يشركن ومعنى يقتلن أولادهنّ كما كان الحال في زمن الجاهلية من وأد البنات، وببهتان متعلقان بيأتين وجملة يفترينه حالية وبين أيديهنّ وأرجلهنّ الظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير المنصوب في يفترينه أي يأتين بولد ملقوط ينسبنه إلى الزوج، وجميل وصفه بصفة الولد الحقيقي فإن الولد متى وضعته أمه سقط بين يديها ورجليها، فبايعهنّ الفاء رابطة(10/70)
لجواب إذا وجملة بايعهنّ لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة واستغفر فعل أمر ولهنّ متعلقان باستغفر والله مفعول به وجملة إن الله غفور رحيم تعليل للأمر بالاستغفار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) كلام مستأنف مسوق لاختتام السورة بمثل ما ابتدأها من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء، ولا ناهية وتتولوا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون وقوما مفعول به وجملة غضب الله عليهم نعت لقوما (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) الجملة نعت ثان لقوما أو حال بعد أن وصف، وقد حرف تحقيق ويئسوا فعل وفاعل ومن الآخرة متعلقان بيئسوا وكما نعت لمصدر محذوف ويئس الكفار فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول الحرفي ومن أصحاب القبور فيه وجهان أحدهما أن من لابتداء الغاية كالأولى والمعنى أنهم لا يوقنون ببعث الموتى البتة فيأسهم من الآخرة كيأسهم من موتاهم لاعتقادهم عدم بعثهم والثاني أن من لبيان الجنس يعني أن الكفّار هم أصحاب القبور فيكون متعلق الجار والمجرور بمحذوف حال ومتعلق يئس الثاني محذوفا والمعنى أن هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار حال كونهم من أصحاب القبور من خير الآخرة.
البلاغة:
في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» فن الاستطراد وهو فن رفيع من فنون البيان وقد ذكر الحاتمي أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر وسمّاه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى ومنه في القرآن المجيد «ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود» فقد(10/71)
استطرد، وفي الآية التي نحن بصددها ذمّ اليهود واستطرد ذمّهم بذمّ المشركين على نوع حسن من النسبة، والاستطراد في اللغة مصدر استطرد الفارس من قرنه في الحرب وذلك أن يفرّ من بين يديه يوهمه الانهزام ثم يعطف عليه على غرّة منه، وفي الاصطلاح أن تكون في غرض من أغراض الشعر توهم أنك مستمر فيه ثم تخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ولا بدّ من التصريح باسم المستطرد بشرط أن لا يكون قد تقدم له ذكر ثم ترجع إلى الأول، أو يكون آخر الكلام وقيل إن أول شاهد ورد في هذا النوع وسار مسير الأمثال قول السموأل:
وإنّا لقوم لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
فانظر إلى خروجه الداخل في الافتخار إلى الهجو وحسن عوده إلى ما كان عليه من الافتخار بقوله:
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
ومنه قول حسان بن ثابت:
إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
فانظر كيف خرج من الغزل إلى هجو الحارث بن هشام وهو أخو أبي جهل أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه ومات يوم اليرموك بالشام، ومنه أيضا قول البحتري من قصيدة في وصف فرس:
كالهيكل المبني إلا أنه ... في الحسن جاء كصورة في هيكل
ملك العيون فإن بدا أعطيته ... نظر المحب إلى الحبيب المقبل
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول
ومثله قول بعضهم يصف خمرا طبخت حتى راقت وصفت:(10/72)
لم يبق منها وقود الطابخين لها ... إلا كما أبقت الأنواء من داري
فما أحلى استطراده من وصف الخمر إلى وصف داره بالخراب.
ومن الغريب في هذا الباب الاستطراد من الهجو إلى الهجو كقول جرير يهجو الفرزدق:
لها برص بأسفل أسكيتها ... كعنفقة الفرزدق حين شابا
الفوائد:
اشتملت هذه السورة على فوائد تاريخية وتشريعية نورد منها ما يتعلق بموضوع كتابنا ونحيل القارئ إلى كتب الفقه والتفاسير المطوّلة:
1- روى التاريخ أنه لما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم من مبايعة الرجال يوم فتح مكّة أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه يبايعهنّ بأمره ويبلغهنّ عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد فقالت: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال رسول الله ولا يسرقن فقالت إن أبا سفيان شحيح وإني أصبت من ماله هنات فما أدري أتحلّ لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف ما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال ولا يزنين فقالت أو تزني الحرة؟
وفي رواية: ما زنت منهنّ امرأة فقال عليه الصلاة والسلام: ولا يقتلن أولادهنّ فقالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم(10/73)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: ولا يأتين ببهتان فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا يعصينك في معروف فقالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
2- ذكروا في كيفية وأد البنات روايات شتى نرى أن أقربها إلى المنطق ما روي عن ابن عباس قال: «كانت المرأة في الجاهلية إذا قربت ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وردّت التراب عليها وإذا ولدت غلاما أبقته، وكان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية أي بنت ست سنين يقول لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيذهب بها إلى البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب.(10/74)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
(61) سورة الصّفّ مدنيّة وآياتها أربع عشرة
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
اللغة:
(مَقْتاً) قال في الأساس: «مقته مقتا وهو بغض عن أمر قبيح وفيه قيل لنكاح الرجل رابّته: نكاح المقت «إنه كان فاحشة ومقتا» ومقت إلى الناس مقاتة نحو بغض بغاضة وهو ممقوت ومقيت» .
(مَرْصُوصٌ) ملزق بعضه على بعض كأنما بني بالرصاص وقيل المرصوص: المتلاحم الأجزاء المستويها وقيل: المعقود بالرصاص وقيل المتضام من تراصّ الأسنان وفي المصباح: «والرص اتصال بعض البناء بالبعض واستحكامه وبابه ردّ» ومن غريب أمر الراء والصاد إذا(10/75)
وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على معنى التضام والاستحكام، والتهيؤ للأمر، تقول: رصدته وارتصدته وترصدته: قعدت له على طريقه أترقبه وتراصد الرجلان قال ذو الرمة:
يراصدها في جوف حدباء ضيق ... على المرء إلا ما تخرّق حالها
وسبع رصيد: يرصد ليثب وأنا لك بالمرصد والمرصاد أي لا تفوتني، وقد أرصدت هذا الجيش للقتال وهذا الفرس للطراد وهذا المال لأداء الحقوق إذا أعددته لذلك وجعلته بسبيل منه، ورصع التاج: حلّاه بكواكب الحلية ورصّع الطائر عشه بالقضبان والريش قارب بعضه من بعض ونسجه وأسنانه مرتصعة مرتصّة وتراصع العصفوران: تسافدا وراصع الطائر أنثاه، ورصف الحجارة ورصّفها وجرى الماء على الرّصف والرّصاف وهي الصخر المرصوف وتراصفوا في الصلاة والقتال وتقول: تراصفوا ثم تقاصفوا ورصف إحدى قدميه إلى الأخرى ضمّها وتراصفت أسنانه تراصفا وهو تنضّدها ومن المجاز: امرأة رصوف ضيقة الهن ورجل رصيف محكم العمل ويقال: أجاب بجواب مترّص حصيف، بين رصيف، ليس بسخيف ولا خفيف، ورصن البناء وغيره رصانة فهو رصين ومن المجاز له رأي رصين، وكلام متين رصين.
الإعراب:
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم إعراب هذه الآية في مستهل سورة الحشر فجدد به عهدا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) لم: اللام حرف جر وما اسم استفهام يفيد الإنكار والتوبيخ وقد تقدم أن حرف الجر إذا دخل على ما الاستفهامية حذف ألفها نحو بم وفيم ومم وإلام وعلام وعمّ وحتام وإنما حذفت الألف لأن ما وحرف الجر يشبهان الشيء الواحد وقد وقع(10/76)
استعمالها كثيرا في كلام المستفهم محذوفة الألف وجاء استعمال الأصل قليلا، والجار والمجرور متعلقان بتقولون وتقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وما مفعول به ولا نافية وجملة تفعلون صلة ما (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) كبر فعل ماض أي عظم ومقتا تمييز محوّل عن الفاعل وعند الله الظرف متعلق بمحذوف صفة لمقتا أو حال وأن تقولوا مصدر مؤول في محل رفع فاعل كبر والأصل كبر مقت قولهم أي المقت المترتب على قولهم ما لا يفعلون ويجوز أن يكون كبر من باب نعم وبئس فيكون الفاعل ضميرا مستترا مفسّرا بالتمييز النكرة، وأن تقولوا مبتدأ خبره الجملة قبله لأنه المخصوص بالذم وقد تقدم بحث ذلك كله، وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب في باب البلاغة (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) إن واسمها وجملة يحب خبرها والذين مفعول به وجملة يقاتلون لا محل لها لأنها صلة الموصول وهو فعل مضارع والواو فاعل وفي سبيله متعلقان بيقاتلون وصفا حال من الواو في يقاتلون وكأن واسمها وبنيان خبرها ومرصوص نعت لبنيان والجملة حال ثانية من الضمير في صفا لأنه بمعنى صافّين أنفسهم فهي حال متداخلة.
البلاغة:
1- في قوله «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» المبالغة والتكرير ولهذا اعتبرت هذه الجملة من أفصح الكلام وأبلغه في معناه لأمور:
1- قصد إلى التعجب بغير صيغة التعجب لتعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارق للعادة والنظائر.(10/77)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
2- أسند إلى أن تقولوا ونصب مقتا على تفسيره للدلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا مشوب فيه.
3- اختيار لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه حتى قيل نكاح المقت كما تقدم في باب اللغة.
4- ثم لم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا حتى جعله أشدّه وأفحشه وقوله عند الله أبلغ من ذلك لأنه إذ ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدّته وانجابت عنه الشكوك.
5- التكرار لقوله ما لا تفعلون وهو لفظ واحد في كلام واحد، ومن فوائد التكرار التهويل والإعظام وإلا فقد كان الكلام مستقلا لو قيل كبر مقتا عند الله ذلك فما إعادته إلا لمكان هذه الفائدة.
2- اندراج الخاص بالعام، وقد ورد النهي العام عن القول غير المؤيد بالفعل والمقصود اندراج الأمر الخاص الذي ورد عقب ذلك وهو قوله: «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنهم بنيان مرصوص» وفي ذكره ذلك عقب النهي العام مباشرة دليل على أن المقت قد تعلق بقول الذين وعدوا الثبات في قتال الكفار فلم يفوا كما تقول للمقترف جرما بعينه لا تفعل ما يلصق العار بك ولا تشاتم زيدا وفائدة مثل هذا النظم النهي عن الشيء الواحد مرتين مندرجا في العموم ومفردا بالخصوص وهو أولى من النهي عنه على الخصوص مرتين فإن ذلك معدود في خير التكرار وهذا لا يتكرر مع ما في التعميم من التعظيم والتهويل.
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 6]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)(10/78)
الإعراب:
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) كلام مستأنف مسوق لتسلية نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلم وتوطينه على الصبر. وإذ مفعول لفعل محذوف تقديره اذكر وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وموسى فاعل ولقومه متعلقان بقال، ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام وقد تقدم السر في حذف الألف من ما الاستفهامية إذا سبقها حرف جر وتؤذونني فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به والواو حالية وقد حرف تحقيق وإن دخلت على المضارع وإنما عبّر بالمضارع للدلالة على استصحاب الحال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وأني رسول الله أن واسمها وخبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي تعلمون وإليكم متعلقان برسول وجملة وقد تعلمون إلخ في محل نصب حال. والمعنى أن من عظّم الله عظّم رسوله (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الفاء عاطفة ولما رابطة أو حينية وزاغوا فعل وفاعل وجملة أزاغ الله قلوبهم لا محل لها والله مبتدأ وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبر (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) الظرف مفعول بفعل محذوف تقديره اذكر وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها(10/79)
وعيسى فاعل وابن مريم بدل من عيسى ويا بني إسرائيل منادى مضاف، ولم يقل يا قوم لأنه لا يمتّ إليهم بنسبة ما دام ليس له أب لأن النسب لا يكون إلا من جهته وإن كانت أمه مريم من أشرفهم نسبا، وإن واسمها ورسول الله إليكم خبرها والجملة مقول القول (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) مصدّقا:
حال من الضمير المستكن في رسول الله لتأويله بمرسل ولما متعلقان بمصدقا والظرف متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول ويدي مضاف لبين وعلامة جره الياء لأنه مثنى ومبشّرا عطف على مصدّقا فهو حال مثله وبرسول متعلقان بمبشّرا وجملة يأتي صفة لرسول ومن بعدي متعلقان بيأتي واسمه مبتدأ وأحمد خبره والجملة صفة ثانية (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الفاء استئنافية ولما رابطة أو حينية وجاءهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وبالبيّنات متعلقان بجاءهم وجملة قالوا لا محل لها وجملة هذا سحر مبين من المبتدأ والخبر في محل نصب مقول قولهم.
الفوائد:
أهل العربية يقولون أن «قد» تصحب الماضي لتقريبه من الحال ومنه قول المؤذّن قد قامت الصلاة وتشتمل المصاحبة للماضي أيضا على معنى التوقع فلذلك قال سيبويه قد فعل جواب لما يفعل وقال الخليل هذا الخبر لقوم ينتظرونه وأما مع المضارع فإنها تفيد التقليل مثل ربما كقولهم إن الكذوب قد يصدق، فإذا كان معناها مع المضارع التقليل وقد دخلت في الآية على مضارع فالوجه أن يكون هذا من الكلام الذي يقصدون به الإفراط فيما ينعكس عنه، وتكون «قد» في هذا المعنى نظير ربما في قوله «ربما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين»(10/80)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
فإنها في هذا الموضع أبلغ من كم في التكثير فلما أوردت ربما في التكثير على عكس معناه الأصلي في التقليل فكذلك إيراد «قد» هاهنا لتكثير علمهم أي تحقيق تأكيده على عكس معناها الأصلي في التقليل.
[سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 13]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
الإعراب:
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام معناه النفي أي لا أحد في محل رفع(10/81)
مبتدأ وأظلم خبر وممّن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة لا محل لها وعلى الله متعلقان بافترى والكذب مفعول به، وهو: الواو للحال وهو مبتدأ وجملة يدعى خبر هو والجملة في محل نصب على الحال أي يدعوه ربه على لسان نبيّه إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله ويدعى فعل مضارع مبني للمجهول وإلى الله متعلقان بيدعى (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) يريدون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل، وليطفئوا: ذكر المعربون في هذه اللام أوجها أقواها ثلاثة:
1- أنها مزيدة في مفعول الإرادة قال الزمخشري: «أصله يريدون أن يطفئو كما جاء في سورة براءة وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك كما زيدت اللام في لا أبا لك تأكيدا لمعنى الإضافة في لا أباك» وقال ابن عطية مؤيدا هذا الرأي: «واللام في ليطفئوا لام مؤكدة دخلت على المفعول لأن التقدير يريدون أن يطفئوا» .
2- أنها لام التعليل والمفعول محذوف أي يريدون إبطال القرآن أو رفع الإسلام أو هلاك الرسول ليطفئوا.
3- أنها بمعنى أن الناصبة وأنها ناصبة للفعل بنفسها، قال الفرّاء: العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر وإليه ذهب الكسائي أيضا.
وعبارة أبي حيان بعد أن أورد قول الزمخشري وابن عطية الآنفي الذكر قال: وما ذكره ابن عطية من أن هذه اللام أكثر ما تلزم المفعول إذا تقدم ليس بأكثر بل الأكثر زيدا ضربت من لزيد ضربت وأما قولهما(10/82)
إن اللام للتأكيد وأن التقدير أن يطفئوا فالإطفاء مفعول يريدون فليس بمذهب سيبويه والجمهور» .
(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) الواو للحال والله مبتدأ ومتمّ خبر ونوره مضاف إليه والجملة حالية من فاعل يريدون أو يطفئوا والواو للحال أيضا ولو شرطية وكره الكافرون فعل وفاعل والجملة حالية من الحالية المتقدمة فهي متداخلة وجواب لو محذوف والتقدير: أتمّه وأظهره (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل صلة ورسوله مفعول به وبالهدى متعلقان بأرسل أو بمحذوف حال ودين الحق عطف على الهدى واللام للتعليل ويظهره فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به والجار والمجرور متعلقان بأرسل وعلى الدين متعلقان بيظهره وكله تأكيد وجملة ولو كره المشركون حال ومفعول كره محذوف أي إظهاره وجواب لو محذوف أيضا والتقدير أظهره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) هل حرف استفهام معناه الإخبار والإيجاب أي سأدلّكم وإنما أورده في صيغة الاستفهام تشويقا وإلهابا للرغبة، وأدلكم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى تجارة متعلقان بأدلكم وجملة تنجيكم صفة لتجارة ومن عذاب متعلقان بتنجيكم وأليم صفة لعذاب، وسيأتي حديث نزولها الممتنع في باب الفوائد (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) الجملة خبر لمبتدأ محذوف أي هي تؤمنون أو مستأنفة في جواب سؤال مقدّر كأنه قيل ما هي التجارة؟ وتؤمنون فعل مضارع مرفوع ولكنه بمعنى الأمر ويدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا، وفائدة العدول عن الأمر إلى الإخبار الإشعار بوجوب الامتثال وكأنهم امتثلوا فهو يخبر عن(10/83)
إيمان وجهاد موجودين، وبالله متعلقان بتؤمنون ورسوله عطف على بالله وتجاهدون عطف على تؤمنون وفي سبيل الله متعلقان بتجاهدون أو بمحذوف حال وبأموالكم متعلقان بتجاهدون وأنفسكم عطف على أموالكم (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب الشرطية محذوف تقديره فافعلوه وحذف مفعول تعلمون اختصارا للعلم به أي أنه خير لكم (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) يغفر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب المفهوم من قوله تؤمنون كما تقدم وقيل جواب شرط مقدّر أي إن تفعلوه يغفر وعبارة أبي البقاء: «يغفر لكم في جزمه وجهان أحدهما هو جواب شرط محذوف دلّ عليه الكلام تقديره إن تؤمنوا يغفر لكم وتؤمنون بمعنى آمنوا والثاني هو جواب لما دلّ عليه الاستفهام والمعنى هل تقبلون إن دللتكم، وقال الفرّاء هو جواب الاستفهام على اللفظ وفيه بعد لأن دلالته إياهم لا توجب المغفرة» . وعبارة الزمخشري «فإن قلت هل لقول الفرّاء أنه جواب هل أدلكم وجه؟ قلت وجهه أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسّرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل: هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم» وتعقبه ابن المنير فقال: «إنما وجه إعراب الفرّاء بما ذكر لأنه لو جعله جوابا لقوله هل أدلكم فإنكم إن أدلكم على كذا وكذا أغفر لكم فتكون المغفرة حينئذ مترتبة على مجرد دلالته إياهم على الخير وليس كذلك إنما تترتب المغفرة على فعلهم لما دلّهم عليه لا على نفس الدلالة فليس أوّل هل أدلكم على تجارة بتأويل هل تتجرون بالإيمان والجهاد حتى تكون المغفرة مترتبة على فعل الإيمان والجهاد لا على الدلالة وهذا التأويل غير محتاج إليه فإن حاصل الكلام إذا صار إلى هل أدلكم أغفر لكم التحق ذلك بأمثال قوله تعالى: «قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة» فإنه رتب فعل الصلاة على الأمر بها(10/84)
حتى كأنه قال فإنك إن تقل لهم أقيموا يقيموها» (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ويدخلكم عطف على يغفر والكاف مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري نعت لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) ومساكن عطف على جنات وطيبة نعت لمساكن وفي جنات عدن نعت ثان (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المغفرة وإدخال الجنات والفوز خبر والعظيم نعت للفوز (وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو
حرف عطف وأخرى مبتدأ مؤخر وخبره المقدم محذوف أي لكم نعمة أو مثوبة أخرى ويجوز أن يكون منصوبا على إضمار فعل تقديره ويمنحكم أخرى وجملة تحبونها صفة لأخرى أو منصوبا بفعل مضمر يفسره تحبونها فيكون من باب الاشتغال وحينئذ لا تكون جملة تحبونها صفة لأنها مفسّرة للعامل قبل أخرى ونصر خبر لمبتدأ محذوف أي تلك النعمة الأخرى نصر من الله أو بدل من أخرى إذا أعربته مبتدأ ومن الله نعت لنصر وفتح عطف على نصر وقريب نعت، وبشّر الواو عاطفة وبشّر فعل أمر وهو معطوف على تؤمنون لأنه في معنى الأمر كما تقدم.
البلاغة:
وفي قوله «يريدون ليطفئوا نور الله» استعارة تمثيلية تمثيلا لحالتهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم، وقيل الاستعارة تصريحية والإطفاء ترشيح.
الفوائد:
قال مقاتل نزلت هذه الآية وهي «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم(10/85)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
على تجارة تنجيكم من عذاب أليم» إلى قوله «وبشّر المؤمنين» في عثمان بن مظعون وذلك أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لو أذنت لي فطلّقت خولة وترهبت واختصيت وحرمت اللحم ولا أنام الليل أبدا ولا أفطر نهارا أبدا فقال صلّى الله عليه وسلم: إن من سنّتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيّبات ما أحلّ لكم ومن سنّتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنّتي فليس منّي فقال عثمان وددت يا نبي الله أن أعلم أيّ التجارات أحبّ إلى الله فأتجر فيها فنزلت.
[سورة الصف (61) : آية 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ) كونوا فعل أمر ناقص والواو اسمها وأنصار الله خبرها ولفظ الجلالة مضاف لأنصار وقرىء أنصارا لله فيكون لله نعتا لأنصارا (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) اختلف المعربون في هذه الكاف اختلافا كثيرا وحاصل ما ذكروه أنها تحتمل ثلاثة أوجه: 1- في موضع نصب على إضمار القول أي قلنا لهم ذلك كما قال عيسى. 2- أنها نعت لمصدر محذوف قيل وفيه نظر إذ لا يؤمرون بأن يكونوا كونا. 3- أنه كلام محمول على معناه(10/86)
دون لفظه وإليه نحا الزمخشري فإنه قال: «فإن قلت ما وجه صحة التشبيه وظاهره تشبيه كونهم أنصارا بقول عيسى من أنصاري إلى الله؟
قلت: التشبيه محمول على المعنى وعليه يصحّ والمراد كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله» .
وقد تقدم في آل عمران معنى أنصاري إلى الله وتعدّي هذا اللفظ بإلى. ومن اسم استفهام مبتدأ وأنصاري خبر وإلى الله متعلقان بمحذوف حال أي متوجها إلى نصر الله وفيما يلي نص عبارة الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى قوله من أنصاري إلى الله قلت:
يجب أن يكون معناه مطابقا لجواب الحواريين بقولهم نحن أنصار الله والذي يطابقه أن يكون المعنى من جندي متوجها إلى نصرة الله وإضافة أنصاري خلاف إضافة أنصار الله فإن معنى نحن أنصار الله نحن الذين ينصرون الله ومعنى من أنصاري من الأنصار الذين يختصّون بي ويكونون معي في نصرة الله ولا يصحّ أن يكون معناه من ينصرني مع الله لأنه لا يطابق الجواب والدليل عليه قراءة من قرأ: من أنصار الله» (قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) قال الحواريون فعل وفاعل والحواريون أصفياؤه وهم أول من آمن وتقدم القول في هذا اللفظ مفصلا، ونحن مبتدأ وأنصار الله خبر والجملة مقول القول وهو من إضافة الوصف إلى مفعوله أي نحن الذين ننصر الله أي دنيه (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) الفاء عاطفة على جمل محذوفة لا بدّ من تقديرها أي فلما رفع عيسى إلى السماء افترق الناس فيه فرقتين فآمنت طائفة، وطائفة فاعل آمنت ومن بني إسرائيل نعت لطائفة وكفرت طائفة عطف على فآمنت طائفة (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) الفاء عاطفة على محذوف أيضا أي فاقتتلت الطائفتان، وأيدنا فعل وفاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وعلى عدوهم متعلقان بأيدنا فأصبحوا عطف على فأيدنا والواو اسمها وظاهرين خبرها أي غالبين قاهرين.(10/87)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
(62) سورة الجمعة مدنيّة وآياتها إحدى عشرة
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
اللغة:
(الْقُدُّوسِ) بضم القاف وتشديد الدال من أسماء الله تعالى ويفتح أي الطاهر أو المبارك وكل فعول مفتوح غير قدوس وسبوح وذرّوح وفرّوج فبالضم ويفتحن.(10/88)
(أَسْفاراً) جمع سفر بكسر السين وهو الكتاب الكبير لأنه يسفر ويكشف إذا قرىء عمّا فيه من المعاني.
الإعراب:
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يسبّح فعل مضارع مرفوع ولله متعلقان به أو اللام زائدة في المفعول وما فاعل وغلب الأكثر على الأقل وفي السموات متعلقان بمحذوف هو الصلة للموصول وما في الأرض عطف على ما في السموات وما بعده صفات أو بدل من الله (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة بعث صلة الذي وفي الأميّين متعلقان ببعث وقد تقدم القول مسهبا في معنى الأميين في آل عمران ورسولا مفعول بعث ومنهم نعت رسولا (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) جملة يتلو نعت ثان أو حال وعليهم متعلقان بيتلو وآياته مفعول به ويزكيهم عطف على يتلو وهو فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ويعلمهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان والحكمة عطف على الكتاب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو حالية وإن مخففة من الثقيلة مهملة وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها ومن قبل حال واللام الفارقة المختصّة بإن المخفّفة وفي ضلال خبر كانوا ومبين نعت لضلال (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وآخرين مجرور عطفا على الأميّين أي وبعثه في آخرين من الأميّين أو منصوب عطفا على الضمير المنصوب في يعلمهم أي ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم ومنهم حال من آخرين أي حال كون الآخرين من مطلق الأميين ولما حرف نفي وجزم ويلحقوا فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل(10/89)
والجملة نعت لآخرين، والواو استئنافية وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان (ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى الأمر العظيم وهو كون الرسول وقومه مفضلين على غيرهم وفضل الله خبر ويؤتيه فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والهاء مفعول به والجملة في محل رفع خبر ثان لذلك ومن مفعول به ثان وجملة يشاء صلة من والله مبتدأ وذو الفضل خبر والعظيم نعت للفضل (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل لليهود عند ما تركوا العمل بالتوراة ولم يؤمنوا بمحمد ومثل مبتدأ والذين مضاف إليه وجملة حملوا صلة للذين وحملوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والتوراة مفعول به ثان، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويحملوها فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به ومعنى الحمل هنا ليس من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة، والحميل هو الكفيل قال في المختار: «حمل بدين ودية من باب ضرب حمالة بفتح الحاء أي كفل وحمل الرسالة تحميلا كلفه حملها وتحمل الحمالة حملها» وكمثل الحمار خبر مثل وجملة يحمل أسفارا في محل نصب على الحال من الجار وأجازوا أن تكون في محل جر نعتا للحمار لجريانه مجرى النكرة إذ المراد به الحبس فهو من وادي قوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وسيأتي المزيد من بحث هذا التشبيه في باب البلاغة وأسفارا مفعول به (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) بئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم ومثل القوم فاعل بئس والذين صفة وجملة كذبوا صلة وبآيات الله متعلقان بكذبوا والمخصوص بالذم محذوف أي هذا المثل(10/90)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الله مبتدأ وجملة لا يهدي خبر والقوم مفعول به والظالمين نعت للقوم.
البلاغة:
في قوله «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا» تشبيه تمثيلي فقد شبّه اليهود حيث لم ينتفعوا بما في التوراة من الدلالة على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلم والإلماع إلى بعثته بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ووجه الشبه عدم الانتفاع بما هو حاصل وكائن فالحمار يمشي في طريقه وهو لا يحسّ بشيء مما يحمله على ظهره إلا بالكد والتعب وكذلك اليهود قرءوا التوراة وحفظوها ثم أشاحوا عمّا انطوت عليه من دلائل وإرهاصات على نبوّة محمد بن عبد الله.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 11]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)(10/91)
الإعراب:
(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يا أيها الذين تقدم إعرابها كثيرا وجملة هادوا صلة وهو فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل أي اتخذوا اليهودية دينا وإن شرطية وزعمتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وأن وفي حيّزها سدّت مسدّ مفعولي زعمتم وأن واسمها وأولياء الله خبرها ولله متعلقان بمحذوف نعت لأولياء أو بنفس أولياء ومن دون الناس نعت ثان أو حال والفاء رابطة للجواب لأنه جملة طلبية وتمنّوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والموت مفعول به وإن شرطية وكان واسمها وخبرها والجواب محذوف أي فتمنّوه (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الواو حرف عطف ولا نافية ويتمنّونه فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والهاء مفعول به وأبدا ظرف متعلق بيتمنّونه وبما متعلقان بما في معنى النفي لأنها سبب لنفي التمنّي وجملة قدّمت صلة وأيديهم فاعل والله مبتدأ وعليم خبر وبالظالمين متعلقان بعليم (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) قل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وإن واسمها والذي نعت للموت وجملة تفرّون صلة ومنه متعلقان بتفرّون والفاء رابطة لما تضمنه الموصول من معنى الشرط، وإن واسمها وملاقيكم خبرها وجملة فإنه ملاقيكم خبر إن(10/92)
الأولى وقد منع هذا قوم منهم الفرّاء وجعلوا الفاء زائدة وقيل الخبر هو نفس الذي وما بعده استئناف كأنه قيل إن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه وإلى هذا نحا الزمخشري وتؤيده قراءة زيد بن علي بدون فاء (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وتردّون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلى عالم الغيب متعلقان بتردّون، فينبئكم عطف على تردّون وبما في موضع نصب مفعول ينبئكم الثاني وجملة كنتم صلة لا محل لها وجملة تعملون خبر كنتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة نودي في محل جر بإضافة الظرف إليها وللصلاة متعلقان بنودي ومن يوم الجمعة متعلقان بمحذوف حال لأنها بمثابة البيان لإذا والتفسير لها قال الزمخشري: «فإن قلت «من» في قوله من يوم الجمعة ما هي قلت هي بيان لإذا وتفسير له» وسيأتي القول في الجمعة في باب الفوائد مسهبا، وقال أبو البقاء: «أن «من» بمعنى في» أي في يوم الجمعة فتتعلق بنودي، والنداء يراد به هنا الأذان والفاء رابطة لجواب إذا، واسعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى ذكر الله متعلقان باسعوا وذروا فعل أمر والواو فاعل والبيع مفعول به (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلكم مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من السعي وترك الاشتغال بأمور الدنيا وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وجملة تعلمون خبر كنتم وجواب إن محذوف دلّ عليه ما قبله (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قضيت في محل جر بإضافة الظرف إليها والصلاة نائب فاعل والفاء رابطة وانتشروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة لا محل لها وفي الأرض(10/93)
متعلقان بانتشروا وابتغوا عطف على فانتشروا ومن فضل الله متعلقان بابتغوا (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واذكروا عطف على فانتشروا ولفظ الجلالة مفعول به وكثيرا نعت لمصدر محذوف أو ظرف زمان ولعلّ واسمها وجملة تفلحون خبرها (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) عطف على ما تقدم وجملة انفضّوا إليها لا محل لها وقال الزمخشري: «فإن قلت كيف قال إليها وقد ذكر شيئين قلت:
تقديره إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها أو لهوا انفضوا إليه فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه» وتركوك فعل ماض وفاعل ومفعول به وقائما مفعول به ثان ويجوز إعرابه حالا وجملة تركوك قائما حالية من فاعل انفضّوا وقد مقدّرة ولك أن تجعلها معطوفة منسوقة على سوابقها (قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وخير خبر ومن اللهو متعلقان بخير ومن التجارة عطف على من اللهو والله مبتدأ وخير الرازقين خبر.
الفوائد:
قرأ العامة الجمعة بضمتين وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو حيان وأبو عمرو في رواية بسكون الميم فقيل هي لغة في الأولى وسكنت تخفيفا وهي لغة تميم وقيل هو مصدر بمعنى الاجتماع وقل لما كان بمعنى الفعل صار كرجل هزأة أي يهزأ به فلما كان في الجمعة معنى التجمع سكن لأنه مفعول به في المعنى أو يشبهه وكانت العرب تسمّيه العروبة وقيل سمّاه كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه وإليه وفي الكشاف: «وقيل إن الأنصار قالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله فيه(10/94)
ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه فأنزل الله آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة، وعن بعضهم: أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله: «فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين» وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبّههم بالحمار يحمل أسفارا وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
هذا ومن يرد الإطالة والإفاضة فليراجع كتب السنّة والفقه ومطولات التفاسير.(10/95)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
(63) سورة المنافقون مدنيّة وآياتها إحدى عشرة
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)
الإعراب:
(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة جاءك في محل جر بإضافة الظرف إليها والمنافقون فاعل جاءك وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب الشرط وهي عاملة في الظرف وجملة نشهد مقول القول وإن واسمها وكسرت همزة إن لدخول اللام المزحلقة على خبرها ورسول الله خبر إن. ومعنى نشهد نحلف فهو يجري مجرى القسم (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) الواو للاعتراض والله مبتدأ وجملة يعلم خبر والجملة معترضة بين قولهم(10/96)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
نشهد إنك لرسول الله وبين قوله والله يشهد، وإن واسمها واللام المزحلقة ورسوله خبر وإن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يعلم وإنما كسرت همزتها لوقوع اللام داخلة على الخبر والله مبتدأ وجملة يشهد خبر وإن واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) اتخذوا فعل وفاعل وأيمانهم مفعول به أول وهو جمع يمين وجنة مفعول به ثان أي وقاية وترسا والجملة مستأنفة مسوقة لبيان كذبهم وحلفهم عليه وعبّر عن الحلف بالشهادة لأن كل واحد منهما إثبات لأمر معين والفاء عاطفة وصدّوا فعل وفاعل وعن سبيل الله متعلقان بصدّوا (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن واسمها وجملة ساء خبر وما فاعل ساء وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يعملون خبر كان (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) ذلك مبتدأ والباء حرف جر وأن ومدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور خبر ذلك أي بسبب إيمانهم ثم كفرهم والفاء حرف عطف وطبع فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وعلى قلوبهم متعلقان بطبع والفاء حرف عطف وهم مبتدأ وجملة لا يفقهون خبر.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 4 الى 6]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)(10/97)
الإعراب:
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رأيتهم في محل جر بإضافة الظرف إليها والظرف متعلق بالجواب وهو تعجبك وجملة تعجبك أجسامهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو عاطفة وإن شرطية ويقولوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وتسمع جواب الشرط ولقولهم متعلقان بتسمع ولا بدّ من تضمين تسمع معنى تصغي وتميل تبريرا لتعديته باللام (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) الجملة مستأنفة أو خبر لمبتدأ محذوف أو حالية من الضمير في قولهم، وكأن واسمها وخبرها ومسندة نعت لخشب وفي المصباح» الخشب معروف الواحدة خشبة والخشب بضمتين وإسكان الثاني» (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) الجملة مستأنفة أيضا ويحسبون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وكل صيحة مفعول به أول وعليهم متعلقان بمحذوف مفعول به ثان ليحسبون أي كائنة عليهم وهم مبتدأ والعدو خبر والجملة مستأنفة والفاء الفصيحة أي إن عرفت صفتهم وماهية أحوالهم فاحذرهم، ويجوز أن يكون المفعول الثاني ليحسبون قوله هم العدو ويكون قوله عليهم متعلقان بصيحة أو صفة لها (قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) قاتلهم فعل ومفعول به والله فاعل وأنّى بمعنى كيف فهو اسم استفهام في موضع نصب على الحال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول. ومعنى قاتلهم الله لعنهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة قيل في محل جر بالإضافة إليها ونائب الفاعل مستتر ولهم متعلقان بقيل وتعالوا(10/98)
فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والجملة مقول القول ويستغفر جواب الأمر مجزوم بالسكون، ولكم متعلقان بيستغفر ورسول الله فاعل والواو فعل ماض والواو فاعل وقرىء بالتخفيف أي عطفوا رؤوسهم وأمالوها ورءوسهم مفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب إذا. وعبارة السمين «وهذه المسألة عدّها النحاة من الأعمال وذلك أن تعالوا يطلب رسول الله مجرورا بإلى أي تعالوا إلى رسول الله ويستغفر يطلبه فاعلا فأعمل الثاني ولذلك رفعه وحذف الأول إذ التقدير تعالوا إليه ولو أعمل الأول لقيل إلى رسول الله فيضمر في يستغفر فاعل ويمكن أن يقال ليست هذه من الأعمال في شيء لأن قوله تعالوا أمر بالإقبال من حيث هو لا بالنظر إلى مقبل عليه» (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) الواو عاطفة ورأيتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به والرؤية بصرية وجملة يصدّون حال من الهاء في رأيتهم وجملة وهم مستكبرون حال من الواو في يصدّون (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) سواء خبر مقدّم وعليهم متعلقان بسواء والهمزة للتسوية وقد تقدم بحثها وهي مؤولة مع ما بعدها بمصدر مبتدأ مؤخر وقد استغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل أي سواء استغفارك وعدمه، ولهم متعلقان باستغفرت وأم هي المعادلة لهمزة التسوية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتستغفر فعل مضارع مجزوم بلم ولهم متعلقان بتستغفر (لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) لن حرف نفي ونصب واستقبال ويغفر فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ولهم متعلقان بتغفر وإن واسمها وجملة لا يهدي خبرها والقوم مفعول به والفاسقين نعت.
البلاغة:
في قوله: كأنهم خشب مسنّدة تشبيه مرسل تمثيلي فالمشبه هم أي رؤساء المنافقين من المدينة وكانوا يحضرون مجلس النبي صلّى الله(10/99)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
عليه وسلم ويستندون فيه إلى الجدر وكان النبي ومن حضر يتعجبون من هياكلهم المنصوبة، والمشبه به هو الخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط، ووجه الشبه كون الجانبين أشباحا خالية عن العلم والنظر على حدّ قول حسان:
لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير
وفي قوله: «يحسبون كل صيحة عليهم» تشبيه تمثيلي أيضا أي أنهم لجبنهم وهلع نفوسهم واضطراب قلوبهم إذا نادى مناد في المعسكر أو انفلتت دابة أو أنشدت ضالة وجفت قلوبهم، وزايلهم رشدهم وحسبوا أن هناك شرّا يتربص بهم وكيدا ينتظر الإيقاع بأرواحهم، وقد رمق الأخطل سماء هذا المعنى فقال:
ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالا
يقول الأخطل: لا زلت يا جرير تظن كل شيء بعد خذلان قومك خيلا تكرّ أي ترجع بسرعة عليهم لكثرة ما يساورك من الخوف، وغلا المتنبي في هذا المعنى فقال:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
ويمكن أن يقال أن وجه الشبه هو عزوب أحلامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان ولم يكتف بالتشبيه بالخشب بل جعلها مسندة إلى الحائط للانتفاع بها لأنها إذا كانت في سقف أو مكان ينتفع بها.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)(10/100)
الإعراب:
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) كلام مستأنف جار مجرى التعليل لفسقهم، وهم مبتدأ والذين خبر وجملة يقولون صلة الذين ولا الناهية وتنفقوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والجملة مقول القول وعلى من جار ومجرور متعلقان بتنفقوا والظرف متعلق بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة من ورسول الله مضاف إليه وحتى حرف تعليل ونصب وينفضّوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والمعنى لأجل أن ينفضّوا أي يذهب كل واحد منهم لطيته وشغله (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو حالية ولله خبر مقدم وخزائن السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة نصب على الحال (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) لكن واسمها وجملة لا يفقهون(10/101)
خبرها (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) كلام معطوف في المعنى على يقولون قبله لأن سبب المقالتين واحد واللام موطئة للقسم وإن شرطية ورجعنا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وإلى المدينة متعلقان برجعنا، واللام واقعة في جواب القسم ويخرجن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجوبا والأعزّ فاعله والأذل مفعوله، أرادوا بالأعز أنفسهم وبالأذل محمدا صلّى الله عليه وسلم، ومنها متعلقان بيخرجن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولله خبر مقدم والعزّة مبتدأ مؤخر ولرسوله عطف على لله، ولكن الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) يا حرف نداء للمتوسط وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذين بدل وجملة آمنوا صلة ولا ناهية وتلهكم فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وأموالكم فاعل ولا أولادكم عطف على أموالكم وعن ذكر الله متعلقان بتلهكم (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وذلك مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والخاسرون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة فأولئك إلخ في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) الواو عاطفة وأنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومما متعلقان بأنفقوا ومن تبعيضية والمراد الإنفاق الواجب وجملة رزقناكم لا محل لها لأنها صلة ومن قبل حال وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بالإضافة وأحدكم مفعول به مقدّم والموت مبتدأ مؤخر (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الفاء العاطفة السببية لأنه مسبّب عن أن يأتي، ويقول(10/102)
فعل مضارع معطوف على أن يأتي والفاعل مستتر يعود على أحدكم ولولا تحضيضية بمعنى هلّا وأخّرتني فعل ماض مبني على السكون ولكنه بمعنى المضارع لأن لولا التحضيضية تختص بالماضي المؤول بالمضارع إذ لا معنى لطلب التأخير في الزمن الماضي والتاء فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به وإلى أجل متعلقان بأخّرتني وقريب نعت والفاء في فأصدّق عاطفة وأكن فعل مضارع مجزوم بالعطف على محل فأصدّق فكأنه قيل إن أخّرتني أصدّق وأكن، وقرىء بنصب أكون وإثبات الواو فتكون الواو للسببية وأصدّق منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية في جواب الطلب أي التحضيض، واسم أكن مستتر تقديره أنا ومن الصالحين خبرها (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة والكلام معطوف على مقدّر أي فلا يؤخر هذا الأحد المتمنّي لأنه لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها أية كانت. ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويؤخر فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ونفسا مفعول به وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أجلها في محل جر بإضافة الظرف إليها والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله أي فلن يؤخر نفسا حان حينها والله مبتدأ وخبير خبر وبما متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة ما وقرىء يعملون بالياء.
البلاغة:
في قوله «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل» فن يسمى القول بالموجب، وهو أن يخاطب المتكلم مخاطبا بكلام فيعمد المخاطب إلى كل كلمة مفردة من كلام المتكلم فيبني عليها من كلامه وما يوجب عكس معنى المتكلم لأن حقيقة القول بالموجب ردّ الخصم كلام خصمه من فحوى كلامه فإن موجب قول(10/103)
المنافقين الآنف الذكر في الآية إخراج الرسول المنافقين من المدينة وقد كان ذلك، ألا ترى أن الله تعالى قال على إثر ذلك: «ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون» ومن أمثلته قول ابن حجاج البغدادي:
قلت: ثقلت إذ أتيت مرارا ... قال: ثقلت كاهلي بالأيادي
قلت: طولت قال لي: بل تطو ... لت وأبرمت قال: حبل ودادي(10/104)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
(64) سورة التغابن مدنيّة وآياتها ثمانى عشرة
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
الإعراب:
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يسبّح فعل مضارع مرفوع ولله متعلقان بيسبّح أو اللام زائدة في المفعول وقد تقدم القول فيها وما فاعل وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) له خبر مقدّم والملك مبتدأ مؤخر والجملة حال وله الحمد عطف على له الملك وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر هو(10/105)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة خلقكم صلة والفاء عاطفة ومنكم خبر مقدم وكافر مبتدأ مؤخر ومنكم مؤمن عطف على فمنكم كافر (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ وبما متعلقان ببصير وجملة تعملون صلة وبصير خبر الله (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) خلق فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق حال أي ملتبسا بالحق فالباء للملابسة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة وصوركم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، فأحسن عطف على وصوركم، وصوركم مفعول به وإليه خبر مقدّم والمصير مبتدأ مؤخر (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) يعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما وما في الأرض عطف، ويعلم ما تسرّون وما تعلنون عطف أيضا.
البلاغة:
1- في قوله «له الملك وله الحمد» التقديم فقد قدّم الخبر فيهما للدلالة على اختصاص الأمرين به تعالى.
2- وفي الآيات المتقدمة الطباق بين السموات والأرض وبين كافر ومؤمن وبين تسرّون وتعلنون.
3- وللزمخشري سؤال وجواب في منتهى الطرافة ننقلهما فيما يلي: «فإن قلت: كيف أحسن صورهم؟ قلت جعلهم أحسن الحيوان كله وأبهاه بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب كما قال عزّ وجلّ: في أحسن تقويم، فإن قلت: فكم من دميم مشوّه(10/106)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
الصورة سمج الخلقة تقتحمه العيون؟ قلت لا سماجة ثم ولكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بيّنا وإضافتها إلى الموفي عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة عن حدّه ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن منها فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتنانك بها وتهالكك عليها، وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما الجمال والبيان» .
[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)(10/107)
اللغة:
(وَبالَ أَمْرِهِمْ) الوبال في الأصل الثقل ومنه الوبيل للطعام الذي يثقل على المعدة والوابل للمطر الثقيل ثم استعير للعقوبة لأنها كالشيء الثقيل المحسوس، وفي معاجم اللغة: الوبال مصدر وبل يقال وبل من باب ظرف يوبل وبلا ووبالا ووبولا ووبالة المكان وخم والشيء اشتد ووبل من باب ضرب يبل وبلا فلانا بالعصا ضربه ضربا متتابعا والصيد طرده طردا شديدا ووبلت السماء أمطرت الوبل واستوبل استيبالا المكان استوخمه واستوبلت الإبل تمارضت من وبال مرتعها.
(زَعَمَ) الزعم ادّعاء العلم وهو يتعدى إلى مفعولين ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «زعموا مطية الكذب» وعن شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، والأكثر في زعم وقوعه على أن بتخفيف النون أو أن بتشديدها مع فتح الهمزة فيهما.
(التَّغابُنِ) تفاعل من الغبن وليس من اثنين بل هو من واحد كتواضع وتحامل، والغبن أخذ الشيء بدون قيمته أو بيعه كذلك وقيل الغبن: الخفاء ومنه غبن البيع لاستخفائه يقال غبن الثوب وخبنته إذا أخذت ما طال منه عن مقدارك فمعناه النقص، وسيأتي المزيد من بحث التغابن في باب البلاغة.
هذا وللغين مع الباء فاء وعينا للكلمة خاصة الدلالة على الخفاء والغياب والاستسرار: يقال لحم غاب أي بائت وفيه معنى الخفاء، وسمّيت الغابة لأنها تخفي من تضمّه لاكتظاظها بالأشجار وزرته غبا أي حينا بعد حين ولا يخفى ما فيه من الخفاء عن صاحبه قال حميد بن ثوب:
زور مغب ومأمول أخو ثقة ... وسائر من ثناء الصدق مشهور(10/108)
وتقول: الحب يزيد مع الإغباب وينقص مع الإكباب وماء غب ومياه أغباب أي بعيدة لا يوصل إليها إلا بعد غب والمغبة عاقبة الشيء وهي خافية لا تعلم إلا بالظنون، والغابر الماضي ولا امتراء في غيبته وهو يأتي بمعنى الباقي فهو من الأضداد واغبرّ بتشديد الراء صار أغبر واليوم اشتد غباره ويقال للذين ينشدون الشعر بالألحان فيطرّبون ويرقصون ويرهجون: المغبّرة ولتطريبهم التغبير ومن عادتهم الاختفاء والاستسرار وعن الشافعي: أرى الزنادقة وضعوا هذا التّغبير ليصدّوا الناس عن ذكر الله وقراءة القرآن وجاء على ظهر الغبراء والغبيراء أي على ظهر الأرض يعني راجلا «وما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر» ويقال للمحاويج: بنو الغبراء قال طرفة:
رأيت بني الغبراء لا ينكرونني ... ولا أهل هذاك الطراف الممدّد
وزففن إليّ ذئبة غبساء وتقول: لن يبلغ دبيس ما غبا غبيس وهو علم للجدي سمّي لخفائه، وخرج في الغبش ونحن في أغباش الليل وهي بقاياه وفلان يتغبش الناس أي يظلمهم وبديه أنه لن يبادهم بالظلم مبادهة، وغبط الكبش جسّ ظهره ليعرف سمنه وغبطه من بابي ضرب وعلم عظم في عينه وتمنى مثل حاله دون أن يريد زوالها عنه والغبيط الرحل يشدّ عليه الهودج فيخفي الظعينة، قال امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
وغبقه من بابي نصر وضرب وسقاه الغبوق وهو الخمر تشرب في العشي حيث يخيفهم الليل، وغبي يغبى غبا وغباوة الشيء وعنه لم يفطن له أو جهله والشيء عليه خفي عليه ولم يعرفه ويقال في فلان غباوة ترزقه والأغنياء أكثرهم أغبياء ولا يغبى عليّ ما فعلت والغباء الخفاء من الأرض. وهذا من أعاجيب لغتنا فتدبره.(10/109)
الإعراب:
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي أو التقريري التوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتكم فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول به ونبأ فاعل والذين مضاف إليه وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الموصول ومن قبل حال والفاء حرف عطف وذاقوا فعل ماض مبني على الضم والواو فاعل ووبال أمرهم مفعول به والواو حرف عطف ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم نعت لعذاب (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ذلك مبتدأ والإشارة إلى عذابي الدنيا والآخرة، وبأنه خبر وأن واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت مستتر يعود على الرسل وجملة تأتيهم خبر ورسلهم فاعل تأتيهم وبالبيّنات متعلقان بتأتيهم (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) الفاء عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل وهو معطوف على كانت والهمزة للاستفهام الإنكاري وبشر مبتدأ ساغ الابتداء به لدخول الاستفهام عليه وأجازوا أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل مضمر يفسره ما بعده فالمسألة من باب الاشتغال والتقدير أيهدينا بشر وجملة يهدوننا في محل رفع خبر على الأول ولا محل لها من الإعراب لأنها مفسّرة وجملة الاستفهام مقول القول (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) الفاء عاطفة وتفيد السببية لا التعقيب أي فكفروا بسبب هذا القول، وتولّوا عطف على فكفروا، واستغنى الله فعل وفاعل والله مبتدأ وغني خبر أول وحميد خبر ثان (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) زعم فعل ماض والذين فاعله وجملة كفروا صلة وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال والجملة خبر أن وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي زعم وقل فعل أمر وبلى حرف جواب(10/110)
لإثبات النفي والواو واو القسم وربي مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل القسم المحذوف واللام واقعة في جواب القسم وتبعثنّ فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه حذف النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين واو الجماعة وهي ضمير متصل في محل رفع فاعل (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولتنبؤن عطف على لتبعثنّ وبما في محل نصب مفعول به وجملة عملتم صلة وذلك مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من البعث والحساب وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر ذلك (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) الفاء الفصيحة لأنها واقعة في جواب شرط مقدّر أي إذا كان الأمر كذلك فآمنوا، وآمنوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبالله متعلقان بآمنوا ورسوله عطف على الله والنور عطف أيضا والذي نعت وجملة أنزلنا صفة والعائد محذوف أي أنزلناه (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة وخبير خبر الله (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) يوم ظرف متعلق بخبير أو بمحذوف دلّ عليه سياق الكلام أي تتفاوتون يوم يجمعكم وقيل هو مفعول به لفعل محذوف أي اذكروا وجملة يجمعكم في محل جر بإضافة الظرف إليها وليوم الجمع متعلقان بيجمعكم سمي بذلك لأن الله يجمع فيه بين الأولين والآخرين لإجراء الحساب والجزاء وذلك مبتدأ والإشارة إلى يوم الجمع ويوم التغابن خبره أي يغبن المؤمنون الكافرين بأخذ منازلهم، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان التغابن وتفصيله ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وبالله متعلقان بيؤمن ويعمل عطف على يؤمن وصالحا مفعول به أو نعت لمصدر محذوف أي عملا صالحا ويكفّر جواب الشرط وعنه متعلقان بيكفّر وسيئاته مفعول به وفعل الشرط(10/111)
والجزاء خبر من (وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ويدخله عطف على يكفّر والهاء مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار نعت لجنات وخالدين حال
وجمع لأنه أعاد على معنى من وهو الجمع وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف متعلق بخالدين وذلك مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من التكفير وإدخال الجنات والفوز خبر والعظيم نعت الفوز (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وكذبوا عطف على كفروا وبآياتنا متعلقان بكذبوا وأولئك مبتدأ وأصحاب النار خبر وخالدين حال وفيها متعلق بخالدين وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي أي النار.
البلاغة:
1- في قوله «ذلك يوم التغابن» استعارة تمثيلية، شبّهت حال الفريقين المتمكنين من اختيار ما يؤدي إلى سعادة الآخرة فاختار كل فريق ما يشتهيه مما كان قادرا عليه بدل ما اختاره الآخر وشبّهه بحال المتبادلين بالتجارة وشبّه ما يتفرع عليه من نزول كلّ منهما منزلة الآخر بالتغابن لأن التغابن تفاعل من الغبن وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته وهو لا يكون إلا في عقد المعاوضة ولا معاوضة في الآخرة، فإطلاق التغابن على ما يكون فيها إنما هو بطريق الاستعارة التمثيلية، وعبارة الزمخشري: «التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضا لنزول السعداء ومنازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء» .(10/112)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
2- وفي الآية أيضا فن التهكّم وقد مرّ فيما مضى، وهنا يتهكم بالأشقياء لأن نزولهم ليس بغبن وفي الحديث: «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» وفي حديث آخر: «الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها ومبتاع نفسه فموبقها» .
[سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)(10/113)
الإعراب:
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق للرد على الكفّار الذين قالوا: لو كان المسلمون على حق لصانهم الله من المصائب في الدنيا. وما نافية وأصاب فعل ماض ومن حرف جر زائد ومصيبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومفعول أصاب محذوف أي أحدا وإلا أداة حصر وبإذن الله متعلقان بأصاب (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الواو حرف عطف ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وبالله متعلقان بيؤمن ويهد جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وقلبه مفعول به وفعل الشرط والجزاء خبر من والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر الله (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو حرف عطف وأطيعوا فعل أمر والواو فاعل والله مفعول به وأطيعوا الرسول عطف على أطيعوا الله والفاء استئنافية وإن حرف شرط جازم وتوليتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف تقديره فلا ضير على رسولنا في توليكم والفاء حرف تعليل وإنما كافّة ومكفوفة وعلى رسولنا مقدّم والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين نعت للبلاغ (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الله مبتدأ وجملة لا إله إلا هو خبر وقد تقدم إعراب كلمة الشهادة مفصلا، وعلى الله متعلقان بيتوكل والفاء عاطفة واللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم باللام والمؤمنون فاعل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) يا أيها الذين آمنوا تقدم إعرابها كثيرا، وإن حرف مشبه بالفعل ومن أزواجكم خبر إن المقدم وأولادكم عطف على أزواجكم وعدوا اسم إن المؤخر ولكم نعت لعدوا والفاء الفصيحة أي إن عرفتم ذلك فاحذروهم، واحذرهم فعل أمر وفاعل ومفعول به (وَإِنْ تَعْفُوا(10/114)
وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
الواو عاطفة وإن حرف شرط جازم وتعفوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون وتصفحوا عطف على على تعفوا وتغفروا عطف أيضا والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وإن واسمها وخبراهاِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
إنما كافّة ومكفوفة وأموالكم مبتدأ وأولادكم عطف على أموالكم وفتنة خبرَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
الواو استئنافية والله مبتدأ وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وأجر مبتدأ مؤخر وعظيم نعت لأجر والجملة خبر لله (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر أي إن علمتم أنه تعالى جعل أموالكم وأولادكم فتنة لكم شاغلة عن أمور الآخرة فاتقوا الله، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر منصوب بفعل محذوف أي جهدكم واستطاعتكم، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا أفعال أمر معطوفة على اتقوا، وخيرا فيه:
1- قول سيبويه أنه منصوب بفعل محذوف أي وائتوا خيرا لأنفسكم كقوله: «انتهوا خيرا لكم» وقد اقتصر عليه الزمخشري وأبو البقاء.
2- قول أبي عبيدة أنه خبر ليكن مقدرة أي يكن الاتفاق خيرا.
3- قول الكسائي والفرّاء أنه نعت مصدر محذوف أي إنفاقا خيرا.
4- قول الكوفيين أنه حال.
5- قول بعضهم أنه مفعول به لقوله أنفقوا على تقدير موصوف محذوف أي مالا خيرا.
ولأنفسكم متعلقان بخبيرا (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ(10/115)
ويوق فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة ونائب الفعل مستتر تقديره هو وشحّ نفسه مفعول به ثان والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة فأولئك هم المفلحون في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) إن شرطية وتقرضوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والله مفعوله وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت، ويضاعفه جواب الشرط والهاء مفعوله ولكم متعلقان بيضاعفه (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) ويغفر عطف على الجواب تبعه في الجزم ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وشكور خبر أول وحليم خبر ثان (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف والعزيز خبر ثان والحكيم خبر ثالث.(10/116)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
(65) سورة الطّلاق مدنيّة وآياتها اثنتا عشرة
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة طلقتم النساء في محل جر بإضافة(10/117)
الظرف وإنما جمع لأن النداء موجّه للنبي مع أمته أو أن لفظ النبي أطلق والمراد أمته، وقال الزمخشري: «خصّ النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعمّ بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتبارا بتقدمه وإظهارا لترؤسه بكلام حسن» والفاء رابطة للجواب وطلّقوهنّ فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي تعليق اللام خلاف كبير بين مذاهب الفقهاء وأولى ما يقال فيها أنها متعلقة بمحذوف حال أي مستقبلين بطلاقهنّ العدّة أي الوقت الذي يشرعن فيه فيها. وعبارة البيضاوي: «لعدتهنّ أي في وقتها وهو الطهر فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت ومن عدد العدّة بالحيض- وهو أبو حنيفة- علّق اللام بمحذوف مثل مستقبلات، وظاهره يدلّ على أن العدّة بالأطهار وأن طلاق المعتدّة بالإقرار ينبغي أن يكون في الطهر وأنه يحرم في الحيض من حيث أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ولا يدل على عدم وقوعه إذ النهي إذا كان لأمر خارج لا يستلزم الفساد» .
وعلّق زاده في حاشيته على البيضاوي على هذا الكلام فقال: «وقوله علّق اللام بمحذوف أي لأنه لا يمكنه جعل اللام للتأقيت للإجماع على أن الإطلاق في حال الحيض منهي عنه بل يعلقها بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام أي فطلقوهنّ مستقبلات لعدتهنّ أي متوجهات إليها وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم على القرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدّتها والمراد أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ثم يتركن حتى تنقضي عدّتهنّ وأيد هذا بقراءة فطلقوهنّ من قبل عدّتهنّ» . أما أبو حيان فقد أفاض في الموضوع وناقش الزمخشري مناقشة ممتعة وهذا نص عبارته: «واللام للتوقيت نحو كتبته لليلة بقيت من شهر كذا وتقدير الزمخشري هنا حالا محذوفة يدل عليها المعنى ويتعلق بها الجار والمجرور، وليس بجيد، أي مستقبلات لعدّتهنّ، لأنه قدّر عاملا خاصا ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصا بل إذا(10/118)
كان كونا مطلقا لو قلت زيد عندك أو في الدار تريد ضاحكا عندك أو ضاحكا في الدار لم يجز فتعليق اللام بقوله فطلقوهنّ ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح» يريد أبو حيان بتقدير المضاف أي لاستقبال عدّتهنّ. ولم يتعرض أبو البقاء لتعليق اللام، وقد رأيت تعقيبا لابن المنير قاله ردّا على الزمخشري نورده أيضا فيما يلي: «ونظر الزمخشري اللام فيها باللام في قولك مؤرخا: أتيته لليلة بقيت من المحرم وإنما يعني أن العدّة بالحيض كل ذلك تحامل لمذهب أبي حنيفة في أن الإقراء الحيض ولا يتم له ذلك فقد استدل أصحابنا بالقراءة المستفيضة وأكدوا الدلالة بالشاذّة على أن الإقراء الاطهار ووجه الاستدلال لها على ذلك أن الله تعالى جعل العدّة وإن كانت في الأصل مصدرا ظرفا للطلاق المأمور به، وكثيرا ما تستعمل العرب المصادر ظرفا مثل خفوق النجم ومقدّم الحاج وإذا كانت العدّة ظرفا للطلاق المأمور به وزمانه هو الطهر وفاقا فالظهر عدّة إذن ونظير اللام هنا على التحقيق اللام في قوله يا ليتني قدّمت لحياتي وإنما تمنّى أن لو عمل عملا في حياته» (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) وأحصوا فعل أمر معطوف على الأمر قبله والعدّة مفعول به أي احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق لتراجعوا قبل فراغها ولتعرفوا زمن النفقة والسكنى وحلّ النكاح لأخت المطلّقة ونحو ذلك من الفوائد المبسوطة في كتب الفقه (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) لا ناهية وتخرجون فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به ومن بيوتهنّ متعلق بتخرجوهنّ، ولا يخرجن الواو حرف عطف ولا ناهية أيضا ويخرجن فعل مضارع مبني على السكون في محل جزم ونون النسوة فاعل وإنما جمع بين النهيين إشارة إلى أن الزوج لو أذن لها في الخروج لا يجوز لها الخروج، وإلا أداة حصر وأن مصدرية ويأتين فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب بأن وهي مع ما في حيّزها في محل نصب على(10/119)
الحال من فاعل لا يخرجن ومن مفعول لا تخرجوهنّ أي لا يخرجن ولا تخرجوهنّ في حال من الحالات إلا في حال كونهنّ آتيات بفاحشة وبفاحشة متعلقان بيأتين ومبينة نعت لفاحشة (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) الواو استئنافية وتلك مبتدأ والإشارة إلى المذكورات وحدود الله خبر والواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويتعدّ فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وحدود الله مفعول به والفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وظلم نفسه فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجزاؤه خبر من (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) جملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون الشرط، وسيأتي مزيد من الحديث عن هذا الالتفات في باب البلاغة، ولا نافية وتدري فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت ولعلّ واسمها وجملة يحدث خبرها وبعد ذلك ظرف متعلق بيحدث وأمرا مفعول يحدث وجملة لعلّ الله إلخ سدّت مسدّ مفعولي تدري المعلقة عن العمل بالترجّي واستشكل بأن النحاة لم يعدّوا الترجّي من المعلقات فتكون الجملة مستأنفة (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بلغن في محل جر بالإضافة وأجلهنّ مفعول به والفاء رابطة
وأمسكوهنّ فعل أمر وفاعل ومفعول به وبمعروف حال أو فارقوهنّ بمعروف عطف على ما تقدم (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) وأشهدوا فعل أمر وفاعل وذوي مفعول به وهو تثنية ذا بمعنى صاحب ومنكم صفة لذوي عدل، وأقيموا عطف على أشهدوا والشهادة مفعول به ولله متعلقان بأقيموا أي لوجهه (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ذلكم مبتدأ وجملة يوعظ خبر وبه متعلقان بيوعظ ومن نائب فاعل وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يؤمن خبر كان وبالله متعلقان بيؤمن واليوم الآخر عطف على بالله (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ(10/120)
مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)
الواو للاستئناف والجملة مستأنفة سيقت استطرادا عند ذكر المؤمنين وبعضهم جعلها معترضة، ومن شرطية مبتدأ ويتّق فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة والله مفعول به ويجعل جواب الشرط وله متعلقان بيجعل أو في موضع المفعول الثاني ومخرجا مفعول يجعل ويرزقه عطف على يجعل ومن حيث متعلقان بيرزقه وجملة لا يحتسب في محل جر بإضافة الظرف وهو حيث إليها (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) عطف على ما تقدم ومن شرطية مبتدأ ويتوكل فعل الشرط وعلى الله متعلقان بيتوكل والفاء رابطة وهو مبتدأ وحسبه خبر والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من (إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) الجملة تعليل لما تقدم وإن واسمها وبالغ خبرها وأمره مضاف إليه وقرىء بالغ بالتنوين وأمره بالنصب مفعول به لبالغ لأنه اسم فاعل وقد حرف تحقيق وجعل الله فعل وفاعل ولكل شيء متعلقان بجعل إذا كانت بمعنى الخلق أو في موضع المفعول الثاني المقدّم إذا كانت بمعنى التصيير وأمرا مفعول به على كل حال.
البلاغة:
في قوله «لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا» التفات من الغيبة إلى الخطاب، والفائدة منه مشافهة المتعدي بالخطاب لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدّي، وقد تورط بعضهم فحسب أن الخطاب للنبي والمعنى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وأضربها، فأنت لا تدري أيّها المتعدّي مغبّة الأمر وما عسى أن يسفر عنه لعلّ الله يحدث في قلبك بعد ذلك الذي أقدمت عليه من التعدّي أمرا يقتضي خلاف ما فعلت فيبدل ببغضها محبة وبالإعراض عنها إقبالا عليها وبالصدود رضا.(10/121)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 7]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
الإعراب:
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) الواو استئنافية واللائي اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة يئسن صلة ومن المحيض متعلقان بيئسن ومن نسائكم حال وإن شرطية وارتبتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وعدّتهنّ مبتدأ وثلاثة أشهر خبره والشرط وجوابه خبر المبتدأ وقيل الجواب خبر اللائي وجواب الشرط محذوف تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر وتكون(10/122)
جملة الشرط وجوابه معترضة والأول أولى لسهولته وللاستغناء عن الحذف (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الواو عاطفة واللائي مبتدأ خبره محذوف تقديره فكذلك أو مثلهنّ أي فعدتهن ثلاثة أشهر ولو قيل أنه معطوف على اللائي يئسن عطف المفردات وأخبر عن الجميع بقوله فعدتهنّ لكان وجها حسنا، وجملة لم يحضن صلة وأولات الأحمال مبتدأ ولك أن تنسقه على ما تقدم وأجلهنّ مبتدأ وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر خبر أجلهنّ وحملهنّ مفعول والجملة خبر أولات، والأحمال جمع حمل بفتح الحاء كصحب وأصحاب وهو ما كان في البطن أو على رأس شجر والحمل بالكسر ما كان على ظهر أو رأس (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) تقدم إعرابها مرارا فجدد به عهدا ومن أمره حال (ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) ذلك مبتدأ والإشارة إلى المذكور في العدّة وتفاصيلها وأمر الله خبر وجملة أنزله إليكم حال، ومن يتّق الله اسم شرط وفعله ويكفّر جوابه وعن سيئاته متعلقان بيكفر، ويعظم له أجرا عطف على الجواب وله متعلق بيعظم وأجرا مفعول به (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) الجملة مفسرة لما شرط من التقوى في قوله تعالى: «ومن يتق الله» وأسكنوهنّ فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به ومن حيث متعلقان بأسكنوهنّ فتكون من لابتداء الغاية وقال الزمخشري «هي من التبعيضية مبعضها محذوف معناه أسكنوهنّ مكانا من حيث سكنتم أي بعض مكان سكناكم كقوله تعالى: يغضّوا من أبصارهم أي بغضّ أبصارهم، قال قتادة: إن لم يكن إلا بيت واحد فأسكنها في بعض جوانبه» وقال الرازي والكسائي: «من صلة والمعنى أسكنوهنّ حيث سكنتم» فيكون الظرف متعلقا بأسكنوهنّ ولكن زيادة من في الموجب لا تتمشى مع مذهب البصريين. وجملة سكنتم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن(10/123)
وجدكم بدل من الجار والمجرور قبله بإعادة الجار، وقال الزمخشري عطف بيان وتعقبه أبو حيان بأن تكرير العامل لم يعهد في عطف البيان، والوجد بضم الواو الوسع والطاقة وفي المختار: «ووجد في المال وجدا بضم الواو وفتحها وكسرها وجدة أيضا بالكسر أي استغنى» (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتضارّوهنّ فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به واللام للتعليل وتضيّقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بتضارّوهم ومفعول تضيّقوا محذوف تقديره المساكن أو النفقة وعليهنّ متعلقان بتضيّقوا (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) الواو عاطفة وإن شرطية وكنّ فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والنون اسمها وأولات حمل خبرها والفاء رابطة للجواب وأنفقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وعليهنّ متعلقان بأنفقوا وحتى حرف غاية وجر ويضعن فعل مضارع مبني على السكون في محل نصب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى ونون النسوة فاعل وحتى ومجرورها متعلقان بأنفقوا (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأرضعن فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط ونون النسوة فاعل ولكم متعلقان بأرضعن ومفعول أرضعن محذوف تقديره ولدا منهنّ والفاء رابطة للجواب وآتوهنّ فعل ماض وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وأجورهنّ مفعول به ثان، وائتمروا فعل أمر معطوف على آتوهنّ أي ليأمر بعضكم بعضا والائتمار بمعنى التآمر وكالاشتوار بمعنى التشاور وبينكم ظرف متعلق بائتمروا وبمعروف
متعلقان بائتمروا أيضا (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) الواو عاطفة وإن شرطية وتعاسرتم، أي تضايقتم، فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط(10/124)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
والفاء رابطة للجواب والسين حرف استقبال وترضع فعل مضارع مرفوع والجملة في محل جزم جواب الشرط وله متعلقان بسترضع وأخرى فاعل والضمير في له عائد على الأب (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) اللام لام الأمر وينفق فعل مضارع مجزوم باللام وذو سعة فاعل ومن سعته متعلقان بينفق والواو حرف عطف ومن اسم شرط جازم مبتدأ وقدّر بالبناء للمجهول فعل ماض في محل جزم فعل الشرط أي ضيّق عليه رزقه وعليه متعلقان بقدر ورزقه نائب فاعل والفاء رابطة للجواب واللام لام الأمر وينفق فعل مضارع مجزوم باللام والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجزاؤه خبر من ومما متعلقان بينفق وجملة آتاه الله صلة ما (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) الجملة مستأنفة ولا نافية ويكلف فعل مضارع مرفوع والله فاعل ونفسا مفعول به وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان وجملة آتاها صلة ما (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) كلام مستأنف أيضا مسوق لتأكيد الوعد للفقراء بفتح أبواب الرزق، والسين حرف استقبال ويجعل فعل مضارع مرفوع والله فاعل وبعد عسر ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني ليجعل ويسرا مفعول يجعل الأول.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)(10/125)
الإعراب:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) كلام مستأنف مسوق لتصديق وعد الله بالفتح، وكأين خبرية بمعنى كم، وقد تقدم الكلام عليها مفصلا في آل عمران، ومن قرية تمييز كأين وهي في محل رفع مبتدأ وجملة عتت أي أعرضت خبر وعن أمر ربها متعلقان بعتت ورسله عطف على ربها (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) الفاء عاطفة وحاسبناها فعل ماض وفاعل ومفعول به وحسابا مفعول مطلق وشديدا نعت، وعذبناها عطف على حاسبناها وعذابا مفعول مطلق ونكرا نعت وهي بضم الكاف وسكونها وهما قراءتان أي شنيعا قبيحا جاوز الحد (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) الفاء عاطفة وذاقت فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والفاعل مستتر يعود على قرية ووبال أمرها مفعول به وكان فعل ماض ناقص وعاقبة أمرها اسمها وخسرا خبرها (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ)
الجملة مفسّرة لما تقدم تأكيدا للوعيد، وأعدّ الله فعل ماض وفاعل ولهم متعلقان بأعدّ وعذابا مفعول به وشديدا نعت والفاء الفصيحة أي(10/126)
إن عرفتم ذلك فاتقوا الله ويا حرف نداء وأولي الألباب منادى مضاف منصوب بالياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) الذين نعت للمنادى أو بدل منه وجملة آمنوا صلة وقد حرف تحقيق وأنزل الله فعل وفاعل وإليكم متعلقان بأنزل وذكرا مفعول به (رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ) في نصب رسولا أوجه تكاد تكون متساوية نوردها لك فيما يلي:
1- منصوب بالمصدر المنوّن قبله وهو ذكرا كما عمل «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما» وكما قال الشاعر:
بضرب السيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهنّ عن المقيل
وإلى هذا الإعراب ذهب الزجّاج والفارسي.
2- بدل من ذكرا وجعل نفس الذكر مبالغة، وإليه جنح الزمخشري.
3- بدل من ذكرا على حذف مضاف من الأول تقديره ذا ذكر رسولا.
4- مفعول به لفعل محذوف أي أرسل رسولا لدلالة ما تقدم عليه.
5- أن يكون مفعولا به لفعل محذوف على طريقة الإغراء أي اتبعوا والزموا رسولا هذه صفته.
وجملة يتلو عليكم في محل نصب صفة وعليكم متعلقان بيتلو وآيات الله مفعول به ومبينات حال.
(لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) اللام للتعليل ويخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيتلو، والذين مفعول به وما بعده صلة ومن الظلمات(10/127)
متعلقان بيخرج وإلى النور متعلقان بيخرج أيضا (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وبالله متعلقان بيؤمن ويعمل عطف على يؤمن وصالحا نعت لمصدر محذوف أي عملا صالحا أو مفعول به ويدخله جواب الشرط والهاء مفعول به أول وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وخالدين حال من الهاء وروعي معنى «من» بعد مراعاة لفظها، وفيها متعلقان بخالدين وكذلك الظرف أبدا (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً) الجملة حال ثانية وقد روعي لفظ من وقد حرف تحقيق وأحسن الله فعل وفاعل وله متعلقان بأحسن ورزقا مفعول به (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة خلق صلة وسبع سموات مفعول ومن الأرض حال ومثلهنّ معطوف على سبع سموات أو منصوب بفعل مقدّر بعد الواو أي وخلق مثلهنّ من الأرض وقرىء مثلهنّ بالرفع على أنه مبتدأ مؤخر والجار والمجرور قبله خبر مقدم (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الجملة مستأنفة ويتنزل الأمر فعل وفاعل أي الوحي وبينهنّ متعلقان بيتنزل واللام لام التعليل وتعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل واللام ومجرورها متعلقان بيتنزل أيضا وإن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي تعلموا (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) الواو عاطفة وأن واسمها وجملة قد أحاط خبرها وبكل شيء متعلقان بأحاط وعلما تمييز محوّل عن الفاعل.
البلاغة:
1- في قوله «وكأين من قرية عتت عن أمر ربها» مجاز مرسل(10/128)
علاقته المحلية، من إطلاق المحل وإرادة الحال وقد تقدمت له نظائر كثيرة.
2- وفي قوله «ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور» استعارتان تصريحيتان شبّه الكفر بالظلمات ثم حذف المشبّه وأبقى المشبّه به وشبّه الإيمان بالنور وحذف المشبّه وأبقى المشبّه به أيضا.(10/129)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
(66) سورة التحريم مدنيّة وآياتها اثنتا عشرة
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)(10/130)
اللغة:
(تَحِلَّةَ) مصدر لحلل مضعفا نحو تكرمة وهذان ليسا بمقيسين فإن قياس مصدر التفعيل إذا كان صحيحا غير مهموز فأما المعتل اللام نحو زكّى والمهموز اللام نحو نبأ فمصدرهما تزكية وتنبئة على أنه قد جاء التفعيل كاملا في المعتل نحو:
باتت تنزي دلوها تنزيا ... كما تنزي شهلة صبيا
وأصله تحللة كتكرمة فأدغمت.
(تَظاهَرا) بإدغام التاء الثانية في الأصل في الظاء وفي قراءة بدونها أي تتعاونا.
(قانِتاتٍ) مطيعات.
(ثَيِّباتٍ) جمع ثيّب من ثاب يثوب أي رجع كأنها ثابت بعد زوال عذرتها وأصلها ثيوب كسيد وميت أصلهما سيود وميوت فأعلّا الإعلال الذي يأتي في باب الفوائد.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يا أيها النبي تقدّم إعرابها كثيرا، ولم: اللام حرف جر وما اسم استفهام في محل جر باللام وقد تقدم أن ما الاستفهامية إذا دخل عليها حرف جر حذف ألفها، والجار والمجرور متعلقان بتحرم وما مفعول به وجملة أحلّ الله صلة ولك متعلقان بأحلّ وجملة تبتغي حالية من فاعل تحرم ومرضاة أزواجك مفعول به والله مبتدأ وغفور خبر ورحيم خبر ثان (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) قد حرف تحقيق وفرض الله(10/131)
فعل وفاعل ولكم متعلقان بفرض وتحلّة مفعول به وأيمانكم مضاف إليه أي شرع الله لكم تحليل أيمانكم بما هو مبسوط في كتب التشريع (وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة والله مبتدأ ومولاكم خبر وهو مبتدأ والعليم خبر أول والحكيم خبر ثان (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) الواو استئنافية وإذ مفعول به لفعل محذوف أي اذكر وجملة أسرّ النبي في محل جر بإضافة الظرف إليها وحديثا مفعول به (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) الفاء عاطفة ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة نبأت في محل جر بإضافة الظرف إليها والأصل في أنبأ ونبأ وأخبر وخبّر وحدّث أن تتعدى إلى واحد بأنفسها وإلى ثان بحرف الجر ويجوز حذفه فتقول نبأت به المفعول الأول محذوف أي غيرها ومن أنبأك هذا أي بهذا قال نبّأني أي نبأني به أو نبأنيه فإذا ضمنت معنى أعلم تعدّت إلى ثلاثة مفاعيل نحو قوله:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إليّ غرائب الأشعار
وقد تعدى نبأت في الآية لاثنين حذف أولهما والثاني مجرور بالباء أي نبأت به غيرها، وأظهره: الواو حرف عطف وأظهره أي أطلعه فعل ومفعول به والله فاعل وعليه متعلقان بأظهره وجملة عرف لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبعضه مفعول به وأعرض عطف على عرف وعن بعض متعلقان بأعرض ومفعول عرف الثاني محذوف أي عرفها بعض ما فعلت وفي قراءة عرف بالتخفيف أي جازى بالعتب واللوم كما تقول لمن يؤذيك لأعرفنّ لك ذلك أي لأجازينّك (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) الفاء حرف عطف ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال ونبأها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة قالت لا محل لها ومن اسم(10/132)
استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أنبأك خبر والكاف مفعول أول وهذا مفعول ثان وقال فعل ماض وجملة نبأني العليم الخبير مقول القول والعليم فاعل نبأني والخبير صفة (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) إن شرطية وتتوبا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل وإلى الله متعلقان بتتوبا وجواب الشرط محذوف تقديره يتب عليكما والفاء تعليلية وقد حرف تحقيق وصغت أي مالت فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والتاء تاء التأنيث الساكنة وقلوبكما فاعل صغت (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية وتظاهرا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل وعليه متعلقان بتظاهرا وجواب الشرط محذوف تقديره يجد ناصرا والفاء تعليلية وإن واسمها وهو ضمير فصل ومولاه خبران والوقف هنا، وجبريل مبتدأ وصالح المؤمنين عطف على جبريل وصالح اسم جنس لا جمع ولذلك جاء من غير واو بعد الحاء وجوّزوا أن يكون جمعا بالواو والنون وحذفت النون للإضافة وكتبت دون واو اعتبارا بلفظ لأن الواو ساقطة لالتقاء الساكنين ولا داعي لهذا التكلّف، ويجوز أن تعطف جبريل وصالح المؤمنين على محل إن واسمها فالخبر عن الجميع مولاه وعلى الابتداء يكون الخبر قوله ظهير لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والجمع كما تقدم (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) لك أن تعطف الملائكة على ما تقدم أو تعربها مبتدأ خبره ظهير، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) عسى فعل ماض من أفعال الرجاء وربه اسمها وإن شرطية وطلقكنّ فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به في محل جزم فعل الشرط وأن حرف مصدري ونصب ويبدله بالتخفيف وقرىء بالتشديد فعل مضارع منصوب بأن وأن وما في حيّزها خبر عسى والهاء مفعول به أول وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله أي فعسى، وأزواجا مفعول به(10/133)
ثان وخيرا صفة ومنكنّ متعلقان بخيرا وفصل بين عسى وخبرها بالشرط اهتماما بالأمر وتخويفا لهنّ (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) مسلمات نعت لأزواجا ثان ويجوز أن يعرب حالا ونصبه بعضهم على الاختصاص وهو جميل وما بعده صفات متعددة، ووسطت الواو بين ثيّبات وأبكارا لتنافي الوصفين فيه دون سائر الصفات وليست هي واو الثمانية كما توهم بعضهم وقد مرّ بحث ذلك مفصلا.
البلاغة:
أتى بالجمع في قوله «قلوبكما» وساغ ذلك لإضافته إلى مثنى وهو ضميراهما والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى والتثنية دون الجمع كما قال:
فتخالسا نفسيهما بنوافذ ... كنوافذ العبط التي لا ترفع
وهذا كان القياس وذلك أن يعبّر عن المثنى بالمثنى ولكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع لأن التثنية جمع في المعنى والإفراد لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقوله:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من العز الفوادي مطيرها
يريد بطني.
الفوائد:
لم يجعل الرسول من هيبة النبوّة سدّا رادعا بينه وبين نسائه بل أنساهنّ برفقه وإيناسه، أنهنّ يخاطبن رسول الله في بعض الأحايين، فكانت منهنّ من تقول له أمام أبيها: تكلم ولا تقل إلا حقا، ومن تراجعه أو تغاضبه سحابة نهارها، ومن تبلغ الاجتراء عليه ما يسمع به(10/134)
رجل كعمر بن الخطاب في شدّته فيعجب له ويهمّ بأن يبطش بابنته حفصة لأنها تجترىء كما تجترىء الزوجات الأخريات، والقصة التالية نموذج صحيح لهذه المعاملة السامية، قال معظم المفسرين ما خلاصته: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها اكتمي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي أمر أمتي فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين، وقيل خلا بها في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلّقها واعتزل نساءه ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية، وروي أن عمر قال لها: لو كان في آل الخطاب خير لما طلّقك فنزل جبريل عليه السلام وقال: راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها من نسائك في الجنة.
وروي أنه شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له: إنّا نشم منك ريح المغافير والمغافير جمع مغفور بالضم كعصفور أي صمغ حلوله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط بضم العين المهملة والفاء يكون بالحجاز له رائحة كرائحة الخمر وكان صلّى الله عليه وسلم يكره أن يوجد منه الريح الكريه فحرّم العسل.
وقد تجرأ الزمخشري فأطلق في حق النبي صلّى الله عليه وسلم ما لا يسوغ إطلاقه مما لا يسيغ نقله، وقد ردّ عليه ابن المنير ردّا صائبا وحلّل هذا التحريم تحليلا لطيفا ونكتفي بنقله ضاربين صفحا عن بقية الأقوال المتعددة قال ابن المنير:
«ما أطلقه الزمخشري في حق النبي صلّى الله عليه وسلم تقوّل وافتراء والنبي منه براء، وذلك أن تحريم ما أحلّ الله على وجهين:
اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه فهذا بمثابة اعتقاد حكم التحليل فيما(10/135)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
حرّمه الله عزّ وجلّ وكلاهما محظور لا يصدر من المتّسمين بسمة الإيمان وإن صدر سلب المؤمن حكم الإيمان واسمه، الثاني الامتناع مما أحلّه الله عزّ وجلّ وحمل التحريم بمجرده صحيح لقوله وحرّمنا عليه المراضع من قبل أي منعنا لا غير وقد يكون مؤكدا باليمين مع اعتقاد حلّه وهذا مباح صرف، وعلى القسم الثاني تحمل الآية والتفسير الصحيح يعضده فإن النبي صلّى الله عليه وسلم حلف بالله لا أقرب مارية ولما نزلت الآية كفّر عن يمينه ويدلّ عليه: قد فرض الله لكم تحلّة أيمانكم وهذا المقدار مباح ليس في ارتكابه جناح وإنما قيل له لم تحرّم ما أحلّ الله لك رفقا به وشفقة عليه وتنويها لقدره ولمنصبه صلّى الله عليه وسلم أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشقّ عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى بنبيّه ورفعه عن أن يخرج بسبب أحد من البشر الذين هم أتباعه ومن أجله خلقوا ليظهر الله كمال نبوّته بظهور نقصانهم عنه، والزمخشري لم يحمل التحريم على هذا الوجه لأنه جعله زله فيحمل على المحمل الأول ومعاذ الله وحاش لله وأن آحاد المؤمنين حاش أن يعتقد تحريم ما أحلّ الله فكيف لا يربأ بمنصب النبي عمّا يرتفع عنه منصب عامّة الأمة وما هذه من الزمخشري إلا جراءة على الله ورسوله وإطلاق القول من غير تحرير وإبراز الرأي الفاسد بلا تخمير» .
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)(10/136)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قوا فعل أمر من الوقاية فوزنه عوا لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة وهذا محمول عليه واللام حذفت حملا له على المجزوم وبيانه أن أوقوا كاضربوا فحذفت الواو التي هي فاء الكلمة لما تقدم وحذفت همزة الوصل لحذف مدخولها الساكن واستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضم ما قبل الواو لتصحّ، والواو فاعل وأنفسكم مفعول به أول وأهليكم عطف على أنفسكم وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ونارا مفعول به ثان ووقودها مبتدأ والناس خبر أو بالعكس والحجارة عطف على النار وجملة وقودها الناس صفة لنارا (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) الجملة صفة ثانية لنارا وعليها خبر مقدّم وملائكة مبتدأ مؤخر وغلاظ نعت لملائكة وشداد نعت ثان ولا نافية ويعصون الله فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به وما مصدرية وأمرهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وما مع مدخولها في تأويل مصدر في محل نصب بدل اشتمال من الله كأنه قيل لا يعصون أمره(10/137)
وأجاز أبو حيان نصبه على نزع الخافض أي فيما أمرهم، ويفعلون الواو عاطفة ويفعلون فعل مضارع مرفوع وفاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة يؤمرون صلة والعائد محذوف أي به، قال الزمخشري: «فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها ومعنى الثانية أنهم يؤدّون ما يؤمرون به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه» فحصلت المغايرة، وأما البيضاوي فقد أجاب عن هذا السؤال بقوله «وقيل لا يعصون الله فيما مضى ويفعلون ما يؤمرون فيما يستقبل» (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) لا ناهية وتعتذروا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية واليوم ظرف متعلق بتعتذروا والجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم ذلك عند دخول النار وإنما كافّة ومكفوفة وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وما مفعول به ثان وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) توبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى الله متعلقان بتوبوا وتوبة مفعول مطلق ونصوحا نعت لتوبة (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) عسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء وربكم اسمها وأن وما في حيّزها في موضع نصب خبر عسى وعنكم متعلقان بيكفر وسيئاتكم مفعول به (وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ويدخلكم عطف على يكفر والكاف مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري نعت لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل تجري (يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) الظرف متعلق بيدخلكم أو بفعل محذوف تقديره اذكر فيكون مفعولا به ولا نافية ويخزي الله فعل مضارع وفاعل والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها والنبي مفعول به (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) يجوز أن تكون الواو عاطفة والذين في محل نصب نسقا على النبي فيكون نورهم مبتدأ(10/138)
وجملة يسعى خبر والجملة مستأنفة أو حالية، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والذين مبتدأ وجملة نورهم يسعى خبره وبين أيديهم الظرف متعلق بيسعى وبأيمانهم عطف على الظرف متعلق بما تعلق به (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) الجملة خبر ثان أو حالية وربنا منادى مضاف وجملة النداء وفعل الأمر بعدها وفاعله ومفعوله مقول القول (وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عطف على ما تقدم.
البلاغة:
1- في قوله «توبة نصوحا» إسناد مجازي، أسند النصح إلى التوبة مجازا وإنما هو من التائب للمبالغة، وقد تقدم نظيره كثيرا.
2- في قوله «لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» فن عجيب سمّوه «السلب والإيجاب» وهو بناء الكلام على نفي الشيء من جهة وإيجابه من جهة أخرى أو أمر بشيء من جهة ونهي عنه من غير تلك الجهة وقد تقدم بحثه فيما مضى، وهو في الآية ظاهر فقد سلب عزّ وجلّ عن هؤلاء الموصوفين العصيان وأوجب لهم الطاعة، فإن قيل على ظاهر هذه الآية إشكال من جهة التداخل والتكرار فإن معنى عجزها داخل في معنى صدرها فهو مكرر وإن اختلف لفظه وهذا عيب يتحاشى عن نظم الكتاب العزيز فإن من لا يعصي يطيع، ولم أر من تعرّض لهذا الإشكال وأجاب عنه إلا الإمام فخر الدين الرازي فقال «لا يعصون الله في الحال ويفعلون ما يؤمرون في المستقبل» وهو على كل حال جواب لا يحلّ الإشكال بل يبقى واردا وأجاب ابن أبي الإصبع بقوله:
«الوصف بالطاعة والعصيان على ثلاثة أقسام: تقول: زيد لا يعصي ويطيع ونقيضه لا يطيع ويعصي والواسطة لا يعصي ولا يطيع والأول وصف أعلى والثاني وصف أدنى والثالث وصف متوسط والحق سبحانه(10/139)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
أراد، وهو أعلم، أن يصف هؤلاء الملائكة بالوصف الأعلى فلو اقتصر عزّ وجلّ على قوله لا يعصون احتمل أن يوصل بقولك ولا يطيعون فلا يوفي ذلك بالمعنى المراد فإن المراد وصفهم بأعلى الأوصاف فوجب أن يقول ويفعلون فتكمل الوصف والله أعلم» .
وأورد الزمخشري هذا الإشكال وأجاب عنه بما يلي: «فإن قلت أليست الجملتان في معنى واحد؟ قلت: لا فإن معنى الأولى يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ومعنى الثانية أنهم يؤدّون ما يؤمرون، به ولا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه، فإن قلت قد خاطب الله المشركين المكذبين بالوحي بهذا بعينه في قوله تعالى: فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة، وقال: أعدّت للكافرين فجعلها معدّة للكافرين فما معنى مخاطبته به المؤمنين؟ قلت:
الفسّاق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفّار فإنهم مساكنون للكفّار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الكفّار الذين أعدّت لهم هذه النار الموصوفة، ويجوز أن يأمرهم بالتوقّي من الارتداد والندم على الدخول في الإسلام.
وتعقبه ابن المنير المالكي في كتابه الانتصاف فقال: «جوابه الأول مفرع على قاعدته الفاسدة في اعتقاد خلود الفسّاق في جهنم ولعلّه إنما أورد السؤال ليتكلف عنه بجواب ينفّس عمّا في نفسه مما لا يطيق كتمانه من هذا الباطل» .
[سورة التحريم (66) : الآيات 9 الى 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)(10/140)
اللغة:
(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) شدّد عليهم في الخطاب ولا تأخذك هوادة أو لين في معاملتهم. وفي القاموس: «الغلظة مثلته والغلاظة بالكسر وكعنب ضد الرقّة، والفعل ككرم وضرب فهو غليظ وغلاظ كغراب وأغلظ له في القول خشن» .
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) يا أيها النبي تقدّم إعرابها كثيرا وجاهد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والكفّار مفعول به والمنافقين عطف على الكفّار واغلظ فعل أمر معطوف على جاهد وعليهم متعلقان بأغلظ (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) كلام مستأنف مسوق لإيراد حالة(10/141)
غريبة ليعرف على ضوئها حالة غريبة أخرى مشاكلة لها في الغرابة.
وضرب الله فعل وفاعل ومثلا مفعول به ثان مقدّم واللام ومجرورها متعلقة بمحذوف صفة لمثلا وامرأة نوح مفعول به أول وامرأة لوط عطف على امرأة نوح (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) الجملة مستأنفة مسوقة لتفسير ضرب المثل، وكان فعل ماض ناقص والتاء تاء التأنيث الساكنة والألف اسم كان وتحت عبدين الظرف متعلق بمحذوف خبر كان ومن عبادنا نعت لعبدين، فخانتاهما عطف وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به، وسيأتي اسم المرأتين وحديثهما في باب الفوائد (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويغنيا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والألف فاعل وعنهما متعلقان بيغنيا ومن الله حال وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقيل عطف على ما تقدم وهو فعل ماض مبني للمجهول وجملة ادخلا مقول القول والنار مفعول به على السعة ومع الداخلين ظرف متعلق بادخلا والفعل الماضي قيل مضارع في المعنى أي ويقال لهما (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) عطف على ما تقدم وإذ ظرف متعلق بمثلا ولعلّ الأولى أن يقال أنه متعلق بمحذوف بدل من مثلا وجملة قالت في محل جر بإضافة الظرف إليها وربّ منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وابن فعل أمر للدعاء مبني على حذف حرف العلة ولي متعلقان بابن وعندك ظرف متعلق بمحذوف حال من ضمير المتكلم أو من بيتا لتقدمه عليه وفي الجنة عطف بيان أو بدل لقوله عندك أو متعلقان بابن (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ونجّني عطف على ابن ومن فرعون متعلقان بنجّني وعمله عطف ومن القوم متعلقان بنجّني والظالمين نعت للقوم (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) ومريم عطف على امرأة فرعون وابنة بدل أو نعت(10/142)
لمريم وعمران مضاف وجر بالفتحة لأنه لا ينصرف للعلمية وزيادة الألف والنون والتي نعت لمريم وجملة أحصنت فرجها صلة التي أي حفظته وصانته من الرجال، فنفخنا عطف على أحصنت وفيه متعلقان بنفخنا ومن روحنا صفة لمفعول به محذوف أي روحا من روحنا ومن للتبعيض، وقد مرّ معنى النفخ فيما تقدم (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) وصدّقت عطف على محذوف مقدّر مناسب للسياق أي فحملت بعيسى وصدّقت، وبكلمات متعلقان بصدّقت وربها مضاف إليه وكتبه عطف على كلمات وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي ومن القانتين خبر، ويجوز في من وجهان أحدهما أنها لابتداء الغاية والثاني أنها للتبعيض والتذكير للتغليب.
البلاغة:
في ضرب المثل تعريض بحفصة وعائشة المذكورتين في أول السورة وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما كرهه وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين وأن لا تتكلا على أنهما زوجتا رسول الله فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين، والتعريض بحفصة لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله، قال ابن عطية: «إن في المثلين عبرة لزوجات النبي صلّى الله عليه وسلم حين تقدّم عتابهنّ وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفّار يبعد هذا» .
الفوائد:
ذكر المفسرون أن امرأة نوح كانت تقول لقومه إنه مجنون واسمها واهلة بتقديم الهاء على اللام وقيل بالعكس وامرأة لوط تدل قومه على(10/143)
أضيافه إذا نزلوا به ليلا بإيقاد النار ونهارا بالتدخين واسمها واعلة بتقديم العين على اللام وقيل بالعكس. أما امرأة فرعون واسمها آسية بنت مزاحم وكانت ذات فراسة صادقة في يوسف حين قالت قرّة عين لي ولك، ومن فضائلها أنها اختارت القتل على الملك وعذاب الدنيا على النعيم الذي كانت ترفل فيه.
هذا وقد وقع الإجماع على أنه ما زنت امرأة نبي قط، وقيل كانت خيانتهما النفاق، وقيل خانتاهما بالنميمة.(10/144)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
(67) سورة الملك مكيّة وآياتها ثلاثون
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
اللغة:
(طِباقاً) جمع طبقة كرحبة ورحاب أو جمع طبق كجمل وجمال وجبل وجبال، وفي المصباح «وأصل الطبق الشيء على مقدار الشيء مطبقا له من جميع جوانبه» .
(فُطُورٍ) صدوع وشقوق وفي المختار: «والفطر الشق يقال فطره فانفطر وتفطر الشيء تشقّق وبابه نصر» .
(حَسِيرٌ) في المختار: «حسر بصره انقطع نظره من طول مدى وما(10/145)
أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضا وبابه جلس» وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور وهو الإعياء.
الإعراب:
(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تبارك فعل ماض أي تنزّه عن صفات المحدّثين والذي فاعل وبيده خبر مقدّم والملك مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر هو وهذه الجملة معطوفة على الصلة مقررة لمضمونها (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) الذي بدل من اسم الموصول الأول وجملة خلق الموت والحياة لا محل لها لأنها صلة، وليبلوكم اللام للتعليل ويبلو فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والفاعل هو والكاف مفعول به وأيّكم مبتدأ وأحسن خبر وعملا تمييز والجملة الاسمية في محل نصب مفعول ثان ليبلوكم ولام التعليل ومجرورها متعلقان بخلق من حيث تعلقه بالحياة إذ هي محل الاختبار والتكليف وأما الموت فلا شيء من ذلك فيه. وفي الكلام استعارة تمثيلية تبعية على تشبيه حالهم في تكليفه تعالى لهم بتكاليفه، وخلق الموت والحياة لهم وإثابته لهم وعقوبته بحال المختبر مع من جرّبه واختبره لينظر مدى طاعته أو عصيانه فيكرمه أو يهينه (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) مبتدأ وخبراه (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الذي بدل ثان من اسم الموصول وقيل من العزيز الغفور وقيل نعت لهما أو أنه في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أو منصوب على المدح وجملة خلق صلة وسبع سموات مفعول به وطباقا صفة لسبع سموات أو منصوب بفعل مقدّر أي طبقت طباقا فيكون مصدر طابق مطابقة وطباقا (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)(10/146)
كلام مستأنف مسوق لتوكيد استقامة خلقه تعالى وما نافية وترى فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على من يصلح للخطاب وفي خلق الرحمن متعلقان بتري ومن حرف جر زائد وتفاوت مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول ترى وقرىء تفوت بالتشديد للواو دون ألف، والتفاوت عدم التناسب لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر، ومن الغريب أن الزمخشري جعل هذه الجملة صفة متابعة لقوله طباقا قال:
«وهذه الجملة المنفية صفة لقوله طباقا وأصلها ما ترى فيهنّ فوضع مكان الضمير خلق الرحمن تعظيما لخلقهنّ وتنبيها على سبب سلامتهنّ وهو خلق الرحمن» وفي هذا من التعسّف ما فيه لانفلات الكلام بعضه من بعض.
فارجع: الفاء تعليلية لأن قوله فارجع البصر متسبّب عن قوله ما ترى، وارجع البصر فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وهل حرف استفهام وترى فعل مضارع مرفوع ومن حرف جر زائد وفطور مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به والجملة الاستفهامية في موضع نصب بفعل محذوف وهذا الفعل معلق بالاستفهام أي هل ترى (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وارجع البصر فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وكرتين نصب على المصدر كمرتين وهو وإن كان مثنى لا يقصد به التثنية بل المقصود به التكثير، وينقلب فعل مضارع مجزوم لأنه وقع جوابا للطلب وإليك متعلقان بينقلب والبصر فاعل وخاسئا حال والواو حالية وهو مبتدأ وحسير خبر والجملة حال إما من صاحب الأولى وإما من الضمير المستكن في الحال قبلها فتكون حالا متداخلة.(10/147)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
[سورة الملك (67) : الآيات 5 الى 11]
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
اللغة:
(رُجُوماً) الرجوم جمع رجم وهو مصدر سمّي به المفعول أي ما يرجم به ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته ويقدّر مضاف أي ذات رجوم وإنما جمع المصدر باعتبار أنواعه.
الإعراب:
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر دلائل أخرى على تمام قدرته تعالى واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وزينّا فعل وفاعل والسماء مفعول به والدنيا نعت أي القربى إلى الأرض وبمصابيح متعلقان بزينّا، وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به ورجوما مفعول به ثان وللشياطين متعلقان برجوما أو نعت له (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ)(10/148)
وأعتدنا عطف على زينّا ولهم متعلقان بأعتدنا وعذاب السعير مفعول به (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة وللذين خبر مقدّم وجملة كفروا صلة وبربهم متعلقان بكفروا وعذاب جهنم مبتدأ مؤخر وبئس المصير فعل جامد لإنشاء الذم وفاعله، والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) إذا ظرف زمان مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بسمعوا وجملة ألقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها و. لقوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بألقوا والجملة مستأنفة وجملة سمعوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولها متعلقان بمحذوف حال من شهيقا لأنه في الأصل صفته وتقدم عليه وشهيقا مفعول سمعوا والواو حالية وهي مبتدأ وجملة تفور خبر والجملة حالية من الهاء في لها (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) الجملة مستأنفة كأنها وقعت جوابا لسؤال سائل، وتكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره هي وجملة تميّز خبر، وتميّز أصلها تتميّز فعل مضارع أي تتقطع فحذفت إحدى التاءين، ومن الغيظ في محل نصب على التمييز أي غيظا وكلما ظرف زمان متعلق بجوابه وهو سألهم وقد مرّ تفصيل إعرابها، وألقي فعل ماض مبني للمجهول وفيها متعلقان بألقي وفوج نائب فاعل وجملة سألهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو فعل ماض ومفعول به وخزنتها فاعل والهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتكم فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به ونذير فاعل وجملة الاستفهام مفعول به ثان لسأل (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) قالوا فعل وفاعل وقد حرف تحقيق وجاءنا فعل ماض ومفعول به مقدّم ونذير فاعل مؤخر والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل: فماذا قالوا بعد السؤال، فقال: قالوا بلى قد جاءنا نذير وجملة قد جاءنا في محل نصب مقول القول (فَكَذَّبْنا وَقُلْنا(10/149)
ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)
الفاء حرف عطف وكذبنا فعل وفاعل وقلنا عطف على كذبنا وما نافية ونزل فعل ماض والله فاعل ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به والجملة مقول القول (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) إن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر أنتم وكبير نعت (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) الواو عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل ولو شرطية وكان واسمها وجملة نسمع خبرها وأو حرف عطف ونعقل عطف على نسمع وما نافية وكان واسمها وفي أصحاب السعير خبرها والجملة لا محل لها وجملة الشرط وجوابه مقول القول (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) الفاء عاطفة واعترفوا فعل وفاعل وبذنبهم متعلقان باعترفوا والفاء عاطفة وسحقا منصوب على المصدر تقديره سحقهم الله سحقا فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو جدعا له وعقرا فلا يجوز إظهاره وقيل هو مفعول به لفعل محذوف أي ألزمهم الله سحقا وفي المختار:
«والسحق البعد يقال سحقا له والسحق بضمتين مثله وقد سحق الشيء بالضم سحقا بوزن بعد فهو سحيق أي بعيد وأسحقه الله أي أبعده» وكان القياس إسحاقا فجاء بالمصدر على المحذوف، واللام في لأصحاب السعير للبيان كما في هيت لك.
البلاغة:
1- في قوله «ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح» استعارة تصريحية، شبّه الكواكب والنجوم بمصابيح وحذف المشبه وأبقى المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية الأصلية لأن الناس يزيّنون مساجدهم ودورهم بإثقاب المصابيح ولكنها مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة.(10/150)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
2- وفي قوله: «تكاد تميز من الغيظ» استعارة مكنية تبعية، شبّه جهنم بالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه لأن المغتاظة تتميز وتتقصف غضبا ويكاد ينفصل بعضها عن بعض لشدة اضطرابها ويقولون فلان يتميز غيظا إذا وصفوه بالإفراط في الغضب. وفي هذه الآية أيضا فن حسن الاتباع فقد جرى الشعراء على نهجها فولعوا بإسناد أفعال من يعقل إلى ما لا يعقل وقد أوردنا له أمثلة في الكهف وفي الفرقان فجدّد بها عهدا.
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 17]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)
اللغة:
(ذَلُولًا) فعوّل بمعنى مفعول أي مذللة مسخرة منقادة لما تريدون منها.
(مَناكِبِها) المناكب جمع منكب وهو مجتمع رأس الكتف والعضد يقال: تشابهت منهم المناكب والرءوس أي ليس فيهم مفضل، ويقال:(10/151)
هزّ منكبه لكذا أي فرح به وفلان معي على حدّ منكب أي كلما رآني التوى ولم يتلقني بوجهه، والمنكب أيضا: ناحية كل شيء وجانبة يقال سرنا في منكب من الأرض أو الجبل أي في ناحية والمنكب من القوم عريفهم أو عونهم والمنكب من الأرض: الطريق والموضع المرتدم وفي القرآن الكريم «فامشوا في مناكبها» أي في مواضعها المرتفعة فعلى هذا يكون الكلام حقيقة وعلى الأول يكون فيه استعارة تصريحية وإلى هذا جنح الزمخشري فقال: «المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه فإذا جعلها من الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئا منها إلا قد ذلله» وقال الزجّاج «معناه سهّل لكم السلوك في جبالها فإذا أمكنكم السلوك في جبالها فهو أبلغ في التذليل» وقيل جوانبها.
(تَمُورُ) تتحرك بكم وفي المختار: «مار من باب قال تحرّك وجاء وذهب ومنه: يوم تمور السماء مورا، قال الضحّاك: تموج موجا» .
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) إن واسمها وجملة يخشون صلة الذين وربهم مفعول به وبالغيب حال من الواو في يخشون والباء بمعنى في ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر وأجر عطف على مغفرة وكبير نعت لأجر والجملة الاسمية خبر إن (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الواو استئنافية وأسرّوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وقولكم مفعول به وأو حرف عطف واجهروا فعل أمر وفاعل وبه متعلقان باجهروا وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم وجملة إن وما في حيّزها تعليل للأمر(10/152)
بتساوي السر والجهر بالنسبة إلى علمه تعالى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الهمزة للاستفهام ولا نافية ويعلم فعل مضارع مرفوع ومن اسم موصول في محل نصب مفعول به والفاعل مستتر يعود على الله تعالى والمعنى أينتفي علمه بمن خلق وهو الذي أحاط بمكنونات الأمور وجليّاتها وأجاز الزمخشري ورجحه الجمل في حاشيته نقلا عن شيخه أبو البقاء وغيرهما أن يكون من فاعل يعلم والمفعول محذوف كأنه قال ألا يعلم الخالق سرّكم وجهركم والاستفهام معناه الإنكار وعبارة الزمخشري: «ويجوز أن يكون من خلق منصوبا بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله وروي أن المشركين كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيظهر الله رسوله عليها فيقولون أسرّوا قولكم لئلا يسمعه إله محمد، فنبّه الله على جهلهم فإن قلت قدّرت في ألّا يعلم مفعولا على معنى ألا يعلم ذلك المذكور فما أضمر في القلب وأظهر باللسان من خلق فهلّا جعلته مثل قولهم: هو يعطي ويمنع وهلّا كان المعنى ألا يكون عالما من هو خالق لأن الخلق لا يصحّ إلا مع العلم قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله وهو اللطيف الخبير لأنك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا لأن ألا يعلم معتمد على الحال والشيء ولا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء» . وقد تعقب ابن المنير المالكي الزمخشري وناقشه مناقشة قيّمة قال فيها: «هذه الآية ردّ على المعتزلة وتصحيح للطريق التي يسلكها أهل السنّة في الردّ عليهم فإن أهل السنّة يستدلون على أن العبد لا يخلق أفعاله بأنه لا يعلمها وهو استدلال بنفي اللازم الذي هو العلم على نفي الملزوم الذي هو الخلق وبهذه الملازمة دلّت الآية فإن الله تعالى أرشد إلى الاستدلال على ثبوت العلم له عزّ وجلّ بثبوت الخلق وهو استدلال بوجود الملزوم على وجود اللازم فهو نور واحد يقتبس منه ثبوت العلم للبارىء عزّ وجلّ وإبطال خلق العبد(10/153)
لأفعاله وإعراب الآية ينزل على هذا المعنى فإن الوجه فيها أن يكون من فاعلا مرادا به الخالق ومفعول العلم محذوف تقديره ذلك إشارة إلى السر والجهر ومفعول خلق محذوف ضميره عائد إلى ذلك والتقدير في الجميع ألا يعلم السر والجهر من خلقهما ومتى حذونا غير هذا الوجه من الإعراب ألقانا إلى مضايق التكلّف والتعسّف فمن المحتمل أن يكون من مفعولة واقعة على فاعل السر والجهر والتقدير ألا يعلم الله المسرّين والجاهرين وليس مطابقا للمفصل فإنه لم يقع على ذوات الفاعلين وإنما وقع على أفعالهم من السرّ والجهر وعليه وقع الاستدلال ويحتمل غير ذلك أبعد منه والأول هو الأولى لفظا ومعنى والله الموفّق» والواو حالية وهو مبتدأ واللطيف خبر أول والخبير خبر ثان (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة جعل صلة ولكم متعلقان بذلولا والأرض مفعول جعل الأول وذلولا مفعولها الثاني إذا كانت بمعنى صيّر وإن كانت بمعنى خلق يعرب حالا والفاء الفصيحة أي إن عرفتم ذلك فامشوا والأمر أمر إباحة وفي مناكبها متعلقان بامشوا وكلوا فعل أمر وفاعل ومن رزقه متعلق بكلوا وإليه خبر مقدم والنشور مبتدأ مؤخر (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وأمنتم فعل وفاعل ومن مفعول به وهي عبارة
عن الله تعالى وفي السماء متعلقان بمحذوف صلة الموصول وأن يخسف المصدر المؤول في محل نصب بدل اشتمال من «من» وبكم متعلقان بيخسف والأرض مفعول به والفاء عاطفة وإذا الفجائية وقد تقدم القول فيها وهي مبتدأ وجملة تمور خبر (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أم عاطفة بمعنى بل كأنه أضرب عن التهديد الأول لينتقل إلى تهديد آخر وأمنتم فعل وفاعل ومن مفعول به وفي السماء صلة وأن وما في حيّزها بدل اشتمال من «من» وحاصبا مفعول به(10/154)
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
والفاء الفصيحة والسين حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وكيف اسم استفهام خبر مقدّم ونذيري مبتدأ مؤخر وحذفت ياء المتكلم رسما والجملة المعلقة في محل نصب مفعول تعلمون.
[سورة الملك (67) : الآيات 18 الى 22]
وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
اللغة:
(الطَّيْرِ) في المصباح: «جمع الطائر طير مثل صاحب وصحب وراكب وركب وجمع الطير طيور وأطيار وقال أبو عبيدة وقطرب: ويقع الطير على الواحد والجمع وقال ابن الأنباري: الطير جماعة وتأنيثها أكثر من تذكيرها ولا يقال للواحد طير بل طائر وقلّما يقال للأنثى طائرة» وفي القاموس واللسان وغيرهما ما خلاصته: الطير مصدر وجمع طائر وقد يقع على الواحد والاسم من التطيّر ومنه قولهم: لا طير إلا طير الله وطير الله لا طيرك كما يقال: صباح الله لا صباحك ويقال أيضا: كأنّ على رءوسهم الطير أي هم ساكنون هيبة وأصله أن الغراب يقع على رأس(10/155)
البعير فيلقط منه القراد فلا يتحرك البعير لئلا ينفر عنه الغراب، وازجر أحناء طيرك أي جوانب خفتك وطيشك.
(صافَّاتٍ) باسطات أجنحتهنّ في الجو عند طيرانها.
(وَيقبضنها) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهنّ، وسيأتي المزيد في باب البلاغة.
(لَجُّوا) تمادوا.
(مُكِبًّا) اسم فاعل من أكب اللازم المطاوع لكبه يقال كبّه الله على وجهه في النار فأكبّ أي سقط وهذا على خلاف القاعدة في أن الهمزة إذا دخلت على اللازم تصيّره متعديا، وهنا قد دخلت على اللازم فصيّرته لازما، هذا ما ذكره اللغويون وأنكره الزمخشري قال: «يجعلون أكبّ مطاوع كبّه يقال: كببته فأكبّ من الغرائب والشواذ ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع وما هو كذلك ولا شيء من بناء أفعل مطاوعا ولا يتقن هذا إلا حملة كتاب سيبويه وإنما أكبّ من باب أنغض وألأم ومعناه دخل في الكب وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع ومطاوع كب وقشع انكبّ وانقشع» وفي الصحاح ما يؤيد قول الزمخشري قال: «أنغض القوم هلكت أموالهم وانفضّوا أيضا مثل أرملوا فني زادهم» وفيه أيضا: «ألأم الرجل إذا صنع ما يدعوه الناس عليه لئيما» .
وقال أبو حيان: «ومكبّا حال من أكبّ وهو لا يتعدى وكب متعد قال تعالى: فكبت وجوههم في النار، والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة ومطاوع كب: انكب تقول كببته فانكب» .
وفي القاموس: «كبه قلبه وصرعه كأكبّه وكبكبه فأكبّ وهو لازم ومتعدّ» .(10/156)
وعبارة الأساس: «أكبّ لوجهه وعلى وجهه فانكبّ: أفمن يمشي مكبّا على وجهه، وكببته وهو مكبوب ومكبوت وكببته في الهوّة وكبكبته وكذلك إذا رمى به من رأس جبل أو حائط، والفارس يكبّ الوحوش وهم يكبّون العشار قال:
يكبّون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تسكت المائة الوليدا
ورجل أكب لا يزال يعثر قال عدي:
إن يصبني بعض الهنات فلا وا ... ن ضعيف ولا أكبّ عثور
ومن المجاز: أكبّ على عمله وهو مكبّ عليه لازم له لا يفارقه قال لبيد:
جنوح الهالكي على يديه ... مكبّا يجتلي نقب النصال
وأكبّ فلان على فلان يطلبه»
الإعراب:
(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكذب فعل ماض والذين فاعل ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول والفاء حرف عطف وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان مقدّم وكان فعل ماض ناقص ونكير اسمها وحذفت الياء اتّباعا لرسم المصحف أي إنكاري عليهم (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو عاطفة على مقدّر أي أغفلوا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وإلى الطير متعلقان بيروا وفوقهم ظرف متعلق بصافّات وصافّات حال، ويقبضن الواو عاطفة ويقبضن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة ونون النسوة فاعل،(10/157)
وسيأتي سر عطف المضارع على الاسم المشتق في باب البلاغة، ومفعول يقبض محذوف أي أجنحتهنّ (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) الجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن وأعربها أبو البقاء بدلا من الضمير في يقبضن ولم أر لهذا الإعراب مساغا، وما نافية ويمسكهنّ فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به وإلا أداة حصر والرحمن فاعل وإن واسمها وبكل شيء متعلقان ببصير وبصير خبر إن والجملة تعليل للقدرة التي تدخل كل شيء في نطاق علمها (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أم حرف عطف بمعنى بل فهي منقطعة ومن اسم استفهام مبتدأ وهذا اسم إشارة خبر والذي بدل من هذا أو صفة لاسم الإشارة وهو مبتدأ وجند خبر ولكن نعت والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة وجملة ينصركم نعت ثان أو حال ومن دون الرحمن متعلقان بمحذوف حال من فاعل ينصركم (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) إن نافية والكافرون مبتدأ وإلا أداة حصر وفي غرور خبر المبتدأ والجملة معترضة لا محل لها (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) عطف على ما تقدم وإن شرطية وأمسك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دلّ عليه ما تقدم ورزقه مفعول به (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) بل حرف إضراب وعطف ولجوا فعل ماض وفاعل وفي عتو متعلقان بلجوا ونفور عطف على عتو (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الهمزة للاستفهام التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف مقدّر ومن اسم موصول مبتدأ وجملة يمشي صلة ومكبّا حال من فاعل يمشي وعلى وجهه متعلق بمكبّا وأهدى خبر وأم حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام ومن عطف على من الأولى وجملة يمشي صلة وسويا حال وعلى صراط مستقيم متعلقان بيمشي.(10/158)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
البلاغة:
1- في قوله «أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضن» عطف الفعل على الاسم والسياق يقتضي أن يقول قابضات وذلك لسرّ لطيف، فإن أصل الطيران هو رصف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مدّ الأطراف وبسطها وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرّك فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهنّ صافّات ويكون منهنّ القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح، وخلاصة القول أن الغالب هو البسط فكأنه هو الثابت فعبّر عنه بالاسم والقبض متجدّد فعبّر عنه بالفعل.
2- وفي قوله «أفمن يمشي مكبّا على وجهه أهدى أم من يمشي سويّا على صراط مستقيم» استعارة تمثيلية وهو مثل للمؤمن والكافر، فالكافر أعمى لا يهتدي إلى الطريق بل يمشي متعسفا فلا يزال يتعثر وينكب على وجهه والمؤمن صحيح البصر يمشي في طريق واضحة مستقيمة سالما من العثور والخرور على وجهه. وهكذا تتجلى طريقة القرآن في التجسيد.
[سورة الملك (67) : الآيات 23 الى 30]
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)(10/159)
اللغة:
(زُلْفَةً) الزلفة: القرب.
الإعراب:
(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) هو مبتدأ والذي خبر وجملة أنشأكم صلة والجملة الاسمية مقول القول وجعل عطف على أنشأكم ولكم متعلقان بجعل أو في محل نصب مفعول به لجعلنا، وقد تقدم الفرق بين الجعل بمعنى الخلق والجعل بمعنى التصيير، والسمع مفعول به والأبصار عطف على السمع والأفئدة عطف أيضا وقليلا صفة مصدر مقدّم وما زائدة لتأكيد التقليل وتشكرون فعل مضارع مرفوع ويجوز إعراب قليلا ظرف متعلق بتشكرون والجملة في محل نصب حال مقدّرة (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة ذرأكم صلة والجملة مقول القول وفي الأرض متعلقان بذرأكم وإليه متعلقان بتحشرون وتحشرون فعل مضارع مرفوع والواو نائب فاعل (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو عاطفة ويقولون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب ظرف زمان والظرف متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدم وهذا(10/160)
مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وكان واسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من أمر القيامة والحشر فبيّنوا وقته على وجه التحديد (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إنما كافّة ومكفوفة والعلم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر المبتدأ وإنما عطف على إنما الأولى وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين نعت والجملتان مقول القول (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الفاء الفصيحة لأنها أعربت عن جملتين مقدرتين كأنه قيل وقد أتاهم ما وعدوا به فرأوه فلما رأوه، ولما حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط ورأوه فعل ماض وفاعل ومفعول به وزلفة حال من مفعول رأوه وهو اسم مصدر لأزلف وهو بمعنى اسم الفاعل وأجاز الزمخشري إعرابها ظرفا أي مكانا ذا زلفة، وجملة سيئت لا محل لها لأنها جواب لما ووجوه نائب فاعل والذين مضاف إليه وجملة كفروا صلة (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر أي قال الخزنة لهم، وهذا مبتدأ والذي اسم موصول في محل رفع صفة للخبر المحذوف أي هذا العذاب الذي وجملة كنتم صلة وكان واسمها وبه متعلقان بتدعون وجملة تدعون خبر كنتم (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا) أرأيتم الهمزة للاستفهام الإنكاري ورأيتم بمعنى أخبروني فعل وفاعل وإن شرطية وأهلكني الله فعل ماض ومفعول به وفاعل والجملة الشرطية التالية سدّت مسدّ مفعولي أرأيتم وقد تقدمت لهذا الإعراب نظائر وإن شرطية وأهلكني فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به والله فاعل وجواب الشرط محذوف تقديره فلا فائدة لكم ولا نفع يعود عليكم والواو حرف عطف ومن عطف على الياء ومعي ظرف متعلق بمحذوف صلة من وأو حرف عطف ورحمنا فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ(10/161)
عَذابٍ أَلِيمٍ)
الفاء تعليلية ومن اسم استفهام معناه النفي، أي لا أحد، في محل رفع فاعل وجملة يجير خبر والكافرين مفعول ومن عذاب أليم متعلقان بيجير (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) هو مبتدأ والرحمن خبر وجملة آمنّا به خبر ثان وبه متعلقان بآمنّا وعليه متعلقان بتوكلنا والجملة عطف على آمنّا به (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الفاء الفصيحة والسين حرف استقبال وتعلمون فعل وفاعل ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وهو ضمير فصل وفي ضلال مبين خبر من والجملة الاستفهامية سادّة مسدّ مفعولي تعلمون المعلقة بالاستفهام (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أرأيتم تقدم قريبا إعرابها فجدّد به عهدا، والجملة الشرطية سدّ مسدّ مفعوليها وماؤكم اسم أصبح وغورا خبر أي غائرا ذاهبا في مسارب الأرض لا تناله الدلاء والأرشية والفاء رابطة ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يأتيكم خبر والجملة في محل جزم جواب الشرط
، وبما متعلقان بيأتيكم ومعين صفة لماء أي ظاهر تتراءاه العيون وأصله معيون بوزن مفعول كمبيع أصله مبيوع فنقلت ضمة الياء إلى العين قبلها فالتقى ساكنان الياء والواو فحذفت الواو ثم كسرت العين لتصح الياء، وقيل هو من معن الماء أي كثر فهو على هذا الاعتبار فعيل لا مفعول والميم أصلية أما على الأول فالميم زائدة لأن الفعل عين.
البلاغة:
في قوله: «آمنّا به وعليه توكلنا» التقديم والتأخير فقد قدّم المفعول في قوله وعليه توكلنا وأخّره في قوله آمنّا به، وقال الزمخشري بصدده:
«فإن قلت لم أخّر مفعول آمنّا وقدّم مفعول توكلنا؟ قلت لوقوع آمنّا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل آمنّا ولم نكفر كما كفرتم ثم قال وعليه توكلنا خصوصا لم نتوكل على ما أنتم متوكلون عليه من رجالكم وأموالكم» .(10/162)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
(68) سورة القلم مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
الإعراب:
(ن، وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ن تقدم القول في إعراب فواتح السور، ونضيف ما قاله الزمخشري في الرد على المتعسفين، قال: هذا الحرف من حروف المعجم وأما قولهم هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي ولا يخلو إذا كان اسما للدواة من أن يكون جنسا أو علما فإن كان جنسا فأين الإعراب والتنوين وإن كان علما فأين الإعراب وأيّهما كان فلا بدّ له من موقع في تأليف الكلام فإن قلت هو مقسم به(10/163)
وجب إن كان جنسا أن تجرّه وتنوّنه ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة كأنه قيل ودواة والقلم، وإن كان علما أن تصرفه وتجرّه أو لا تصرفه وتفتحه للعملية والتأنيث وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان أو يجعل علما للبهموت الذي يزعمون والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنة. وأكد أبو حيان أنه لا يصحّ شيء من ذلك.
والواو حرف قسم وجر والقلم مقسم به والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وأقسم تعالى بالقلم تعظيما لأمره وتنويها بشأنه ولما فيه من الفوائد والمنافع التي لا يحيط بها الوصف أي فالمراد به جنس القلم الشامل للأقلام التي يكتب بها، قال تعالى «وربك الأكرم الذي علّم بالقلم» وبأنه ينتفع به كما ينتفع بالمنطق ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين. والواو حرف عطف وما موصولة أو مصدرية وعلى كل حال هي معطوفة على القلم فأقسم أولا بالقلم ثم بسطر الملائكة أو بمسطورهم فالمقسم به شيئان على ثلاثة أشياء نفي الجنون عنه وثبوت الأجر له وكونه على الملّة الحنيفية السمحاء (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) جملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم وما نافية حجازية وبنعمة ربك متعلقان بمعنى النفي المدلول عليه بما والباء للسبب والباء حرف جر زائد ومجنون مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والمعنى انتفى عنك الجنون بسبب إنعام ربك عليك بالنبوّة وغيرها، وسيأتي مزيد بيان لتعلق الجار والمجرور والظرف بمعنى النفي في باب الفوائد (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) الواو حرف عطف والجملة وما بعدها عطف على جملة جواب القسم فهما من جملة المقسم عليه كما تقدم آنفا وإن حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم واللام المزحلقة وأجرا اسمها وغير ممنون نعت أي غير مقطوع (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وعلى خلق خبر وعظيم نعت (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) الفاء استئنافية والسين حرف استقبال وتبصر فعل(10/164)
مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت ويبصرون عطف على ستبصر (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) اختلف المعربون فيها اختلافا شديدا ونورد أرجح الأقوال وهي أربعة: 1- أن الباء مزيدة في المبتدأ والتقدير أيّكم المفتون فزيدت الباء كزيادتها في نحو بحسبك زيد 2- أن الباء بمعنى في فهي ظرفية كقولك زيد بالبصرة أي فيها والمعنى في أيّ فرقة وطائفة منكم المفتون 3- أنه على حذف مضاف أي بأيّكم فتن المفتون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وتكون الباء سببية 4- أن المفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور والتقدير بأيّكم الفتون والجملة على كل حال في محل نصب معمولة لما قبلها لأنه معلق بأداة الاستفهام وسيأتي مزيد بحث في هذا الصدد في باب الفوائد (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل لما تقدم لأن ما قبلها أنبأ بظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد، وإن واسمها وهو مبتدأ وأعلم خبر والجملة خبر إن، ولك أن تعرب هو ضمير فصل وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم وجملة ضلّ صلة وعن سبيله متعلقان بضل وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم.
البلاغة:
في قوله «ن والقلم وما يسطرون» إلى قوله «غير ممنون» فن المناسبة اللفظية، وهي عبارة عن الإتيان بلفظات متّزنات مقفّات.
الفوائد:
1- منع جمهور النحاة تعليق الجار والمجرور والظرف بأحرف المعاني، وأجازه بعضهم وفصّل بعضهم، فقال إن كان نائبا عن فعل(10/165)
حذف جاز ذلك على سبيل النيابة لا الأصالة وإلا فلا، قال ابن هشام في المغني: ومن ذلك قوله تعالى: ما أنت بنعمة ربك بمجنون، الباء متعلقة بالنفي إذ لو علقت بمجنون لأفاد نفي جنون خاص وهو الذي يكون من نعمة الله وليس في الوجود جنون هو نعمة. هذا ما ذكره ابن الحاجب وغيره وهو كلام بديع إلا أن جمهور النحويين لا يوافقون على صحة التعلّق بالحرف فينبغي أن يقدّر على قولهم أن التعلق بفعل دلّ عليه النافي أي انتفى ذلك بنعمة ربك وقد ذكرت في شرحي لقصيدة كعب بن زهير عند الكلام على قوله:
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
إن المختار تعلق الظرف بمعنى التشبيه الذي تضمنه البيت وذلك على أن الأصل وما كسعاد إلا ظبي أغن على التشبيه المعكوس للمبالغة لئلا يكون الظرف متقدما في التقدير على اللفظ الحامل لمعنى التشبيه وإذا جاز لحرف التشبيه أن يعمل في الحال في نحو قوله:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
مع أن الحال شبيهة بالمفعول به فعمله في الظرف أجدر.
أما الزمخشري فقد سلك مسلكا غريبا في تعليق بنعمة قال: «فإن قلت: بم تتعلق الباء في بنعمة ربك وما محله؟ قلت يتعلق بمجنون منفيا كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك: أنت بنعمة الله عاقل مستويا في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك ضرب زيد عمرا وما ضرب زيد عمرا تعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا كأنه قال: ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي» وقد تبع الزمخشري معظم المفسرين، قال(10/166)
النسفي: «الباء تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها بمجنون» .
وتعقب أبو حيان الزمخشري فيما ذهب إليه فقال: «وما ذهب إليه الزمخشري من أن بنعمة ربك متعلق بمجنون وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به وذلك له معمول ففي ذلك طريقان أحدهما أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط والآخر أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك تقول ما زيد قائم مسرعا فيتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه فيكون قد قام غير مسرع والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه أي لا قيام فلا إسراع وهذا الذي قررناه لا يتأتّى معه قول الزمخشري بوجه بل يؤدي إلى ما لا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلّى الله عليه وسلم.
2- ذكر صاحب المغني أن الباء في «بأيّكم المفتون» زائدة، قال في مواضع الباء الزائدة: «الثالث المبتدأ وذلك في قولهم بحسبك درهم وخرجت فإذا بزيد وكيف بك إذا كان كذا وكذا ومنه عند سيبويه: بأيّكم المفتون وقال أبو الحسن بأيّكم متعلق باستقرار محذوف يخبر به عن المفتون ثم اختلف فقيل المفتون مصدر بمعنى الفتنة وقيل الباء ظرفية أي في أي طائفة منكم المفتون» .
هذا وقد قال أبو حيان: «لا ينبغي حمله عليه لقلته» فالمعروف أن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا إذا كان لفظ «حسب» قياسا، وقال ابن يعيش: «أما زيادتها في المبتدأ ففي موضع واحد وهو بحسبك» وذكر الكافيجي: «إن زيادتها في بحسبك زيادة في الخبر وجعل درهم مبتدأ مؤخرا وبحسبك هو الخبر لأنه هو محطّ الفائدة والمعنى درهم واحد(10/167)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
كافيك» قال تلميذه السيوطي: «وهو من الحسن بمكان ولا أعلم في اختياراته في العربية أحسن منه» والمسوغ حينئذ هو تقدم الخبر وهو جار ومجرور.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
اللغة:
(تُدْهِنُ) أصل الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام وجعله الزمخشري في أساس البلاغة من المجاز قال: «ومن المجاز أدهن في الأمر وداهن صانع ولاين» .
(هَمَّازٍ) عياب أي مغتاب وقيل الهمّاز الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمّاز باللسان وفي المختار: «اللمز العيب وأصله الإشارة بالعين ونحوها وبابه ضرب ونصر وقرىء بهما في قوله تعالى: ومنهم من يلمزك في الصدقات ورجل لمّاز ولمزة بوزن همزة أي عياب» وفيه أيضا: «الهمز كاللمز وزنا ومعنى وبابه ضرب والهامز والهمّاز العيّاب والهمزة مثله يقال رجل همزة وامرأة همزة أيضا وهمزات الشيطان خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان والمهماز حديدة تكون في مؤخر خفّ الرائض» .(10/168)
(مَشَّاءٍ) صيغة مبالغة أي ساع بالكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم.
(بِنَمِيمٍ) النميم قيل هو مصدر كالنميمة وقيل هو اسم جنس لها كتمرة وتمر وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ويحرش بين الناس لتأريث نار البغضاء في الصدور وفي المصباح: «نم الرجل الحديث نما من بابي قتل وضرب سعى به ليوقع فتنة أو وحشة فالرجل نم تسميته بالمصدر ونمّام مبالغة والاسم النميمة والنميم أيضا» وقال الزمخشري:
والنميم والنميمة السعاية، وأنشدني بعض العرب:
تشبّبي تشبّب النميمة ... تمشي بها زهر إلى تميمه
والبيت الذي استشهد به الزمخشري لأعرابي يخاطب النار والتشبّب التوقد والنميمة تزوير الكلام وتزويقه للإفساد بين الناس وثوب منمنم ومنمّم أي منقّش محسّن وزهر اسم امرأة اشتهرت بالنميمة وتميمة قبيلة معروفة، نزّل النار منزلة العاقل فأمرها وقال: اشتعلي كاشتعال التميمة حال كونها تمشي بها هذه المرأة إلى بني تميم وكانت كثيرة الإفساد بين العرب حتى ضرب بها المثل، وبين نميمة وتميمة الجناس اللاحق.
(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بالمال والخير هنا يراد به عموم ما يطلق عليه.
(عُتُلٍّ) غليظ جاف قيل في الطبع وقيل في الجسم وقال أبو عبيدة: هو الفاحش اللئيم وقيل الغليظ الجافي ويقال عتلته وعتنته.
(زَنِيمٍ) دعي، قال حسّان بن ثابت:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
يخاطب حسان بهذا البيت الوليد بن المغيرة فيقول إنه زنيم أي معلّق في آل هاشم كالزنمة في الإهاب وهي قطعة جلد صغيرة تترك(10/169)
معلقة بطرفه فشبهه بها وشبّهه بالقدح المنفرد الفارغ المعلق خلف الراكب وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده وقيل بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية، جعل جفاءه ودعوته أشدّ معايبه لأنه إذا جفا وغلظ قسا قلبه واجترأ على كل معصية ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ومن ثم جاء في الحديث: «لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» ويروى أنه لما نزلت قال الوليد لأمه: إن محمدا وصفني بتسع صفات أعرفها غير التاسع منها فإن لم تصدقيني الخبر ضربت عنقك فقالت له:
إن أباك عنين فخفت على المال فمكنت الراعي من نفسي فأنت منه، هذا ما قاله المفسرون والذي نراه ورجحه أبو حيان أن هذه الأوصاف ليست لمعين ألا ترى إلى قوله كل حلّاف فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات التي جاءت للمبالغة وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة.
(سَنَسِمُهُ) نضع العلامة على الوجه.
(الْخُرْطُومِ) أنف السباع وغالب ما يستعمل في أنف الفيل والخنزير، وفي القاموس: «الخرطوم كزنبور الأنف أو مقدمه أو ما ضممت عليه الحنكين كالخرطم القنفذ» .
الإعراب:
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) الفاء الفصيحة لأنها عطفت على محذوف دلّ عليه السياق وينبىء عنه ما قبله والنهي بمنابه التهييج وإلهاب التصميم على معاصاتهم، ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والمكذبين مفعول به (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ودّوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة ولو حرف مصدري للتمنّي على رأي البصريين لوقوعه بعد فعل الودادة وقد تقدم(10/170)
القول فيه مفصّلا في قوله تعالى «يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة» وهي وما في حيّزها في تأويل مصدر مفعول ودّوا وقيل إن مفعول ودّوا محذوف أي ودّوا إدهانكم وحذف لدلالة ما بعده عليه ولو باقية على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره وجوابها عندئذ محذوف تقديره لسرّوا بذلك والفاء حرف عطف ويدهنون فعل مضارع معطوف على تدهن فهو في حيّز لو فهو من المتمنى، والمتمنى شيئان ثانيهما متسبّب عن الأول أو هو خبر لمبتدأ مضمر أي فهم يدهنون، وفي الكشاف: «فإن قلت لم رفع فيدهنون ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمنّي قلت قد عدل به إلى طريق آخر وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون» (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وكل حلّاف مفعول به ومهين نعت لحلّاف (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) صفات مسرودة سيأتي الحديث عنها في باب البلاغة وبنميم متعلق بمشاء وللخير متعلقان بمنّاع (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) الظرف متعلق بزنيم وهذه البعدية في الرتبة أي هذا الوصف وهو زنيم متأخر في الرتبة والشناعة عن الصفات السابقة فبعد هنا كثم التي للترتيب والتراخي في الرتبة (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أن مصدرية وهي وما في حيّزها في موضع نصب بنزع الخافض أي لأن كان وهو متعلق بما دلّ عليه إذا تتلى أي كذب بها ولا يصحّ أن يكون معمولا لفعل الشرط لأن إذا تضاف إلى الجملة بعدها والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ولا يصحّ أن يكون معمولا لقال الذي هو جواب الشرط لأن ما بعد أداة الشرط لا يعمل فيما قبلها وقال الزمخشري «متعلق بقوله ولا تطع يعني ولا تطعه مع هذه المثالب لأنه كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا» وقال أبو حيان: «ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متموّلا مستظهرا بالبنين كذب آياتنا» وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وذا مال خبرها وبنين(10/171)
عطف على مال (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه وجملة تتلى عليه في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأساطير الأولين خبر لمبتدأ مضمر أي هي أساطير الأولين (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) جملة مستأنفة كأنه لما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد، والسين حرف استقبال ونسمه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى الخرطوم متعلقان بنسمه.
البلاغة:
1- في مجيء هذه الصفات مسرودة على نمط عجيب خلّاب فن المناسبة، فجاء حلّاف وبعده مهين لأن النون فيها مع الميم تراخ ثم جاء همّاز مشّاء بنميم بصفتي المبالغة ثم جاء منّاع للخير معتد أثيم وبعد ما عدّله من المثالب والنقائص أتى بصفتين من أشدّ معايبه وقد دلّت البعدية لتدل على ذلك.
2- وفي قوله «سنسمه على الخرطوم» كناية عن المهانة وأحطّ دركات الذل إذ لما كان الوجه أشرف ما في الإنسان والأنف أكرم ما في الوجه جعلوه مكان العزّة والحمية واشتقوا منه الأنفة ومن أقوالهم:
حمي الأنف شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه وكان أيضا مما تظهر السمات فيه لعلوه، قال سنسمه على الخرطوم وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف وإذا كان الوسم في الوجه شينا فكيف به في أكرم عضو فيه وقد قيل: الجمال في الأنف قال بعضهم:
وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا(10/172)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
وجعلها الرازي استعارة، استعار الخرطوم للأنف ولا أرى له مناسبة. وتعسف النضر بن شميل فقال إن الخرطوم الخمر وإنه سيحد على شربها وهذا منتهى التعسف في التأويل وإن كان الخرطوم من أسماء الخمر وقيل للخمر الخرطوم لأنها تطير في الخياشيم.
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)(10/173)
اللغة:
(بَلَوْناهُمْ) امتحناهم واختبرناهم.
(لَيَصْرِمُنَّها) الصرم القطع والمراد يقطعون ثمرتها يقال صرم العذق عن النخلة وأصرم النخل أي حان صرامه مثل اركب المهر وأحصد الزرع أي حان ركوبه وحصاده، وفي المختار: «صرم النخل جذه وبابه ضرب وأصرم النخل حان له أن يصرم، والانصرام الانقطاع والتصارم التقاطع والتصرّم التقطع» .
(طائِفٌ) قال الفرّاء هو الأمر الذي يأتي ليلا وردّ عليه بقوله تعالى «إذا مسّهم طائف من الشيطان» وذلك لا يختصّ بليل ولا نهار ولكنه غلب في الشر.
(الصريم) قيل، هو الليل الشديد الظلمة وسمى الليل صريما لانصرامه وانفصاله عن النهار وانقطاعه عنه كما يسمى النهار صريما أيضا لانصرامه عن الليل وله معان عديدة أيضا منها البستان الذي صرم ثماره بحيث لم يبق فيه شيء فهو فعيل بمعنى مفعول وقطعة ضخمة من الرمل منصرمة عن سائر الرمال.
(يَتَخافَتُونَ) يتسارّون فيما بينهم وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم.
(حَرْدٍ) منع أو قصد والحرد بالتحريك الغضب وفي المختار:
«حرد قصد وبابه خرب وقوله تعالى: «وغدوا على حرد قادرين» أي على قصد وقيل على منع والحرد بالتحريك الغضب وقال أبو نصر صاحب الأصمعي هو مخفّف فعلى هذا بابه فهم وقال ابن السكّيت وقد يحرّك فعلى هذا بابه طرب فهو حارد وحردان» وفي السمين: والحرد فيه أقوال كثيرة قيل الغضب والحنق وقيل المنع من حاردت الإبل قلّ لبنها والسنة(10/174)
قلّ ماؤها قاله أبو عبيد ويقال حرد بالكسر يحرد حردا وقد يفتح فيقال حرد فهو حردان وحارد ويقال أسد حارد وليوث حوارد وقيل الحرد والحرد الانفراد يقال حرد بالفتح يحرد بالضم حرودا وحردا وحرد انعزل ومنه كوكب حارد أو منفرد وقيل الحرد القصد يقال حرد حردك أي قصد قصدك.
الإعراب:
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) إن واسمها وجملة بلوناهم خبرها وهو فعل وفاعل ومفعول به والهاء تعود على أهل مكة، وكما الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف أي بلوناهم بلاء وما مصدرية وقيل بمعنى الذي وإذ ظرف ماض متعلق ببلونا وجملة أقسموا في محل جر بإضافة الظرف إليها واللام واقعة في جواب القسم ويصرمنّها فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل أي ليصرموننها ومصبحين حال من فاعل ليصرمنّها وهو اسم فاعل من أصبح التامة (وَلا يَسْتَثْنُونَ) الواو استئنافية أو حالية ولا نافية ويستثنون فعل مضارع مرفوع أي لا يستثنون في إيمانهم ويضعف كون الواو حالية من حيث أن المضارع المنفي بلا كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإلا فبإضمار مبتدأ قبله ومعنى لا يستثنون لا يثنون عزمهم عن الحرمان وقيل لا يقولون إن شاء الله تعالى وسمي استثناء وهو شرط لأن معنى لأخرجنّ إن شاء الله ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) الفاء عاطفة وطاف فعل ماض وعليها متعلقان به وطائف فاعل ومن ربك نعت لطائف والواو حالية وهم مبتدأ ونائمون خبر (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) الفاء عاطفة وأصبحت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي وكالصريم خبر (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) الفاء عاطفة(10/175)
وتنادوا فعل ماض وفاعل ومصبحين حال والجملة عطف على أقسموا (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أن مفسّرة لأنها مسبوقة بما فيه معنى القول دون حروفه ولك أن تجعلها مصدرية فتكون هي وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن أغدو، واغدوا فعل أمر ناقص والواو اسمها وعلى حرثكم خبر وعدّي بعلى لأنه متضمن معنى أقبلوا، قال الزمخشري: «فإن قلت هلّا قيل اغدوا إلى حرثكم وما معنى على؟ قلت لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه كما تقول غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم يغدى عليهم بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين» وردّ أبو حيان قول الزمخشري الأول بقوله «واستسلف الزمخشري أن غدا يتعدى بإلى ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلا فيه ويتأول ما خالفه، والذي في حفظي أنه يتعدى بعلى كقول الشاعر:
بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعودا عليه بالصريم عواذله
وإن شرطية وجوابها محذوف أي إن كنتم صادقين فاغدوا (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) الفاء عاطفة وانطلقوا فعل ماض وفاعل والواو حالية وهم مبتدأ وجملة يتخافتون خبر والجملة نصب على الحال (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أن مفسرة أو مصدرية وقد تقدمت نظيرتها ولا نافية ويدخلنها فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والهاء مفعول به على السعة واليوم ظرف متعلق بيدخلنّها وعليكم متعلقان بيدخلنّها أيضا ومسكين فاعل (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) الواو عاطفة وغدوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وعلى حرد متعلقان بقادرين وقادرين خبر غدوا ويجوز أن تكون غدوا تامة وتكون قادرين حالا من فاعل غدوا وعلى حرد متعلقان به وأن يكون على حرد هو(10/176)
الحال وقادرين حال ثانية أو حال من ضمير الحال الأولى فتكون حالا متداخلة (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجملة رأوها في محل جر بإضافة الظرف إليها ورأوها فعل وفاعل ومفعول به وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإن واسمها واللام المزحلقة وضالّون خبرها وإن واسمها وخبرها مقول القول (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) بل حرف إضراب وعطف ونحن مبتدأ ومحرومون خبر (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ) قال فعل ماض وأوسطهم فاعل، ومعنى أوسطهم أمثلهم وأعقلهم، والهمزة للاستفهام الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم وأقل فعل مضارع مجزوم بلم ولولا حرف تحضيض أي هلّا وتسبحون فعل مضارع وفاعل ومفعوله محذوف أي الله وذلك بالتوبة له (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) قالوا فعل ماض وفاعل وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وربنا مضاف إليه وإن واسمها وجملة كنّا خبرها وظالمين خبر كنّا وجملة إنّا كنّا تعليل للتنزيه اعترفوا به بظلمهم في منع المعروف وترك الاستثناء (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) الفاء عاطفة وأقبل بعضهم فعل ماض وفاعل وعلى بعض متعلقان بأقبل وجملة يتلاومون حال (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) يا حرف نداء وويلنا منادى مضاف، نادوا على أنفسهم بالويل أي يا ويلنا هذا وقت حضورك إلينا فإنك الآن مثابتنا وعلالتنا وإن واسمها وجملة كنّا خبرها وطاغين خبر كنّا (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) عسى فعل ماض ناقص من أفعال الرجاء وربنا اسمها وأن وما في حيّزها خبرها وخيرا مفعول به ثان وإن واسمها وإلى ربنا متعلقان براغبون وراغبون خبر إنّا، رجوا أن يقبل الله توبتهم ويبدلهم خيرا من جنتهم (كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) كذلك خبر مقدّم والعذاب مبتدأ مؤخر والواو حالية أو استئنافية. واللام لام الابتداء وعذاب الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية(10/177)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف دل عليه سياق الكلام تقديره لما فرط منهم ما سلف من ظلم وإحجام عن الاستثناء.
البلاغة:
في قوله «فطاف عليها طائف من ربك» تنكير طائف والفائدة منه الإبهام تعظيما لما أصاب جنتهم ومعنى كالصريم أي لهلاك ثمرها وقيل الصريم الليل لأنها احترقت واسودّت وقيل النهار لأنها صارت خالية فارغة ومنه البياض من الأرض أي الخالية من الشجر ومعنى صارمين حاصدين ومعنى يتخافتون يسرّون حديثهم خيفة من ظهور المساكين عليهم والحرد من حاردت السنة إذا منعت خيرها المعنى وغدوا على نكد ومنع وقيل الحرد السرعة أي غدوا مسارعين نشيطين لما عزموا عليه من الحرمان قال:
أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
يصف سيلا بالكثرة وحذفت الألف قبل الهاء من لفظ الجلالة لأنه جائز في الوقف ومعنى يحرد حرد الجنة المغلة: يسرع إسراع الجنة أي البستان المغلة أي كثيرة الغلّة والخير ومعنى إسراعها ظهور خيرها قبل غيرها في زمن يسير بسبب السيل الذي داهمها فأمرعها وأخصبها.
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)(10/178)
الإعراب:
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) إن حرف مشبه بالفعل وللمتقين خبرها المقدّم وعند ربهم الظرف متعلق بمحذوف حال من جنات أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وجنات النعيم اسم إن المؤخر والجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما أعدّ الله للمتقين يوم القيامة وللرد على صناديد قريش الذين كانوا يقولون إن صحّ أنّا بنبعث لم تكن حالنا وحال المؤمنين إلا مثل ما هي في الدنيا (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء حرف عطف والجملة معطوفة على مقدّر يقتضيه السياق أي أنحيف في الحكم فجعل المسلمين كالكافرين، ونجعل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر والمسلمين مفعول به أول وكالمجرمين في موضع المفعول الثاني وهذا أول توبيخ وتقريع للكافرين وستتلوه خمسة توبيخات أخرى (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وهذا هو التقريع الثاني وما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وتحكمون فعل مضارع وفاعل والجملة حالية وهي التقريع الثالث (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أم حرف عطف للإضراب الانتقالي والهمزة التي في ضمنها للاستفهام(10/179)
الإنكاري التوبيخي وهو التقريع الرابع ولكم خبر مقدّم وكتاب مبتدأ مؤخر وفيه متعلقان بتدرسون وتدرسون فعل مضارع مرفوع وفاعل وجملة تدرسون حالية أو مستأنفة (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) الجملة مفعول به لتدرسون لأنها هي المدروسة وكان الظاهر فتح همزة ان لكن لما جيء باللام المختصة بالمكسورة كسرت وعلقت الفعل عن العمل في لفظ الجملة ودخله التعليق وإن الدرس من أفعال القلوب لتضمنه معنى الحكم، ولكم خبر إن المقدم وفيه حال واللام المزحلقة جيء بها للتأكيد وما اسم إن المؤخر وجملة تخيرون صلة، وأصل تخيرون تتخيرون بمعنى تختارون (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) هذا هو التقريع الخامس ولكم خبر مقدم وأيمان مبتدأ مؤخر وعلينا صفة لأيمان وبالغة صفة ثانية وإلى يوم القيامة متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو لكم أو ببالغة أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه وفي قوله أم لكم إلخ معنى القسم كأنه قيل أقسمنا لكم أيمانا موثقة (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) الجملة جواب القسم الملحوظ فلا محل لها وإن حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم واللام المزحلقة للتأكيد وما اسم إن المؤخر وجملة تحكمون صلة (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الجملة مستأنفة وسل فعل أمر وفاعله المستتر ومفعوله الأول وأيّهم مبتدأ وبذلك متعلقان بزعيم وزعيم خبر أيّهم والجملة في محل نصب مفعول ثان لسل لأنها تنصب مفعولين وعلقت عن العمل بالاستفهام الذي هو التقريع السادس (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) هذا هو التقريع السابع ولهم خبر مقدم وشركاء مبتدأ مؤخر وهذه الجملة معطوفة في المعنى على جملة أيّهم بذلك زعيم، والفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدّر والتقدير إن كان ذلك كذلك فليأتوا واللام لام الأمر ويأتوا فعل مضارع مجزوم باللام والواو فاعل وبشركائهم متعلقان بيأتوا وإن شرطية وكانوا فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والواو(10/180)
اسمها وصادقين خبرها والجواب محذوف دلّ عليه ما تقدم أي فليأتوا بشركائهم (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) الظرف مفعول به لأذكر مقدرة أو هو متعلق بقوله فليأتوا وقال الزمخشري «وناصب الظرف فليأتوا أو إضمار اذكر أو يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ» وجملة يكشف في محل جر بإضافة الظرف إليها ويكشف بالبناء للمجهول وعن ساق ناب مناب نائب الفاعل، ويدعون الواو عاطفة ويدعون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل وإلى السجود متعلقان بيدعون والفاء عاطفة ولا نافية ويستطيعون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) خاشعة حال من ضمير يدعون أي ذليلة وأبصارهم فاعل خاشعة وجملة ترهقهم حال ثانية وترهقهم فعل مضارع ومفعول به مقدّم وذلّة فاعل مؤخر (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وجملة يدعون خبر كانوا وإلى السجود متعلقان بيدعون والواو حالية وهم مبتدأ وسالمون خبر.
البلاغة:
1- الاستفهام الإنكاري التقريعي: تقدم في الإعراب أن الاستفهامات التي وردت في هذه الآيات سبعة وقد خرجت عن معناها الأصلي إلى الإنكار والتوبيخ والتقريع على ما أرجفوا به من زعمهم أن الله فضّلنا عليكم في الدنيا فلا بدّ من أن يفضّلنا عليكم في الآخرة أو على الأقل إن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة ففند الله مزاعمهم الفائلة مقرّعا وموبّخا وجاءت متعاقبة: أولها أفنجعل، والثاني ما لكم، والثالث كيف تحكمون، والرابع أم لكم كتاب، والخامس أم(10/181)
لكم أيمان، والسادس أيّهم بذلك زعيم، والسابع أم لهم شركاء، وقد انتظمت في سلك من الفصاحة والبيان يعنو له كل بيان.
2- وفي قوله «يوم يكشف عن ساق» استعارة تمثيلية، وأصل هذا الكلام يقال لمن شمّر عن ساقه عند العمل الشاق لأن من وقع في شيء يحتاج إلى الجدّ يشمّر عن ساقه فاستعير الساق والكشف عنها لشدّة الأمر، وعبارة الزمخشري: «الكشف عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهنّ في الهرب وإبداء خدامهنّ عند ذلك» .
وقول الزمخشري: والإبداء عن الخدام جمع خدمة وهي الخلخال وذلك كرقاب جمع رقبة قال حاتم:
أخو الحرب إن غصّت به الحرب عضّها ... وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
وقال ابن الرقيات:
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
والتشمير عن الساق كناية عن اشتداد الأمر وصعوبته وأصله أن يسند للإنسان لأن تشمير الثوب عن الساق لخوض لجة أو جري أو نحوه فأسند للحرب لتشبيهها بالإنسان على طريق الاستعارة، أما البيت الثاني فقبله:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
والخدام الخلخال والعقيلة الكريمة وعقيلة كل شيء أكرمه ومن النساء المخدرة التي عقلت في خدرها.(10/182)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
3- وفي تنكير الساق إبهام للمبالغة في الدلالة على أنه أمر مبهم في الشدّة منكر خارج عن المألوف المعتاد.
4- وفي نسبة الخشوع إلى الأبصار مجاز عقلي لأن ما في القلب يعرف من العين.
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
اللغة:
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نأخذهم قليلا قليلا، يقال: استدرجه إلى كذا:
قرّبه إليه ورقّاه من درجة إلى درجة وجعله يدرج على الأرض قال الخطيب: «سنستدرجهم أي سنأخذهم بعظمتنا على التدريج لا على غرّة في عذاب لا شك فيه» .(10/183)
(مَكْظُومٌ) مملوء غمّا أو كربا، قال الماوردي: «والفرق بينهما أن الغم في القلب والكرب في الأنفاس» وقيل مكظوم: محبوس والكظم الحبس وقال المبرد: «إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس» .
(لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) أي ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد يصرعك ويسقطك من مكانك.
الإعراب:
(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) الفاء عاطفة لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية ولك أن تجعلها فصيحة لأنها جواب شرط مقدّر والتقدير إذا كانت أحوالهم كذلك فذرني، وذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت يعود على الرسول صلّى الله عليه وسلم والياء في محل نصب مفعول به والواو حرف عطف ومن عطف على الياء أو الواو للمعية ومن في محل نصب مفعول معه والأول أرجح وجملة يكذب صلة للموصول لا محل لها وبهذا متعلقان بيكذب والحديث بدل من اسم الإشارة (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الأمر السابق إجمالا والضمير لمن، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يكذب باعتبار لفظها، ونستدرجهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ومن حرف جر وحيث ظرف مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بنستدرجهم وجملة لا يعلمون في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) الواو عاطفة وأملي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا لأنه معطوف على سنستدرجهم ولهم متعلقان بأملي والإملاء الإمهال ومرادفة النعم والآلاء ليغترّوا، وسيأتي إيضاح هذا المجاز في باب البلاغة، وإن واسمها وخبرها والجملة بمثابة التعليل للإملاء(10/184)
(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) عطف على ما تقدم من قوله أم لهم شركاء أي أم أتلتمس منهم ثوابا على ما تدعوهم إليه من الهداية والإيمان، وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وأجرا مفعول به ثان والفاء عاطفة وهم مبتدأ ومن مغرم متعلقان بمثقلون ومثقلون خبر أي مكلفون حملا ثقيلا ينوءون تحته (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) عطف أيضا وعندهم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم والغيب مبتدأ مؤخر والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يكتبون خبر (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) الفاء الفصيحة واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والواو حرف عطف ولا ناهية وتكن فعل مضارع مجزوم بلا واسمها مستتر تقديره أنت وكصاحب الحوت خبر يعني يونس عليه السلام وقد تقدم حديثه وإذ ظرف منصوب بمضاف محذوف أي ولا يكن حالك كحاله وقصتك كقصته في وقت ندائه والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلى بلاءه وجملة نادى في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو حالية وهو مبتدأ ومكظوم خبر والجملة حال من ضمير نادى (لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) لولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وأن حرف مصدري ونصب وتداركه فعل ماض والهاء مفعول به ونعمة فاعل وذكر الفعل لأن تأنيث النعمة غير حقيقي ومن ربه نعت لنعمة وأن وما في حيّزها في موضع رفع مبتدأ خبره محذوف وجوبا، واللام واقعة في جواب لولا ونبذ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وبالعراء متعلقان بنبذ أي بالأرض الفضاء الجرداء والواو حالية وهو مبتدأ ومذموم خبر والجملة حال من ضمير نبذ (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الفاء عاطفة على مقدّر أي فأدركته نعمة من ربه فاجتباه، واجتباره فعل ماض ومفعول به وربه فاعله أي فجمعه إليه وقرّبه بالتوبة عليه، فجعله عطف على(10/185)
فاجتباه والهاء مفعول به أول ومن الصالحين في موضع المفعول الثاني (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) الواو استئنافية وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أو هي مهملة على الأرجح ويكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة والذين اسمها وجملة كفروا صلة واللام الفارقة ويزلقونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به وبأبصارهم متعلقان بيزلقونك ولما رابطة أو حينية ظرفية وسمعوا فعل وفاعل والذكر مفعول به والمعنى أنهم من شدّة تحديقهم وإرسال النظر الشزر إليك يكادون يزلّون قدمك أو يهلكونك قال:
يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطىء الأقدام
وجواب لما محذوف للدلالة عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) الواو عاطفة ويقولون عطف على يزلقونك وإن واسمها واللام المزحلقة ومجنون خبرها والجملة مقول قولهم (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) الواو حالية وما نافية مهملة لانتقاض النفي بإلا وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر هو وللعالمين نعت لذكر.
البلاغة:
1- في قوله «وأملي لهم إن كيدي متين» مجاز مرسل فقد سمى إمهاله إياهم ومرادفة النعم والآلاء عليهم كيدا لأنه سبب التورط والهلاك لأن حقيقة الكيد ضرب من الاحتيال، والاحتيال أن تفعل ما هو نفع وحسن في الظاهر وأنت تريد ضده وما حصل من سعة أرزاقهم وبلهنية عيشهم وطول أعمارهم هو في الظاهر إحسان عليهم والمقصود به الضرر والهلكة.(10/186)
2- وفي قوله «وهو مذموم» مجاز مرسل أيضا لأن اللوم في الحقيقة سبب للذم فالعلاقة السببية، وجميل قول الرازي: «وهو مذموم على كونه فاعلا للذنب قال والجواب من ثلاثة أوجه: الأول أن كلمة لولا دالّة على أن هذه المذمومية لم تحصل، الثاني لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، الثالث لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوّة» وحمل الآية على المجاز أولى من تكلف هذه الاحتمالات.(10/187)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
(69) سورة الحاقة مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8)
اللغة:
(الْحَاقَّةُ) القيامة والساعة الواجبة الوقوع وهو اسم فاعل من حق الشيء وجب، وسيأتي مزيد حديث عنها في باب البلاغة.
(القارعة) القيامة والساعة أيضا لأنها تقرع القلوب بأهوالها، والقرع في اللغة نوع من الضرب وهو إمساس جسم لجسم بعنف وفي المصباح: «وقرعت الباب من باب نفع طرقته ونقرت عليه» .
(بِالطَّاغِيَةِ) بالواقعة المجاوزة للحدّ والمراد بها الصيحة.(10/188)
(صَرْصَرٍ) الصرصر: الشديدة الصوت وقيل الباردة وتكرير الصاد والراء إشعار بتكريرهما.
(عاتِيَةٍ) قوية شديدة وسيأتي مزيد بحث عنها.
(حُسُوماً) سيأتي ذكرها في الإعراب والفوائد.
الإعراب:
(الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ) الحاقة مبتدأ أو هي نعت لمنعوت وما اسم استفهام تعظيمي في محل رفع مبتدأ والحاقة خبرهما والجملة الاسمية خبر الحاقة والرابط هو إعادة المبتدأ بلفظه (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) الواو عاطفة وما اسم استفهام للتعظيم في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر ما وما الثانية اسم استفهام للتعظيم أيضا في محل رفع مبتدأ والحاقة خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول أدراك الثاني والثالث لأن أدرى ينصب ثلاثة مفاعيل ومعناه أعلم، وقد علقت أدراكم عن العمل بالاستفهام وعبارة أبي حيان: «وما استفهام أيضا مبتدأ وأدراك الخبر والعائد على ما ضمير الرفع في أدراك وما مبتدأ والحاقة خبر والجملة في موضع نصب بأدراك وأدراك معلقة وأصل درى يتعدى بالباء وقد تحذف على قلة فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر فقوله ما الحاقة بعد أدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر» (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) كلام مستأنف مسوق لبسط بعض أحوال الحاقة وكذبت ثمود فعل ماض وفاعل وعاد عطف على ثمود وبالقارعة متعلقان بكذبت (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) الفاء عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل وثمود مبتدأ والفاء رابطة لجواب أما وأهلكوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل، وبالطاغية متعلقان بأهلكوا والجملة خبر ثمود (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ(10/189)
عاتِيَةٍ)
عطف على الجملة السابقة وصرصر وعاتية صفتان لريح (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) الجملة صفة ثالثة لريح وسخرها فعل ماض ومفعول به والفاعل يعود على الله وعليهم متعلقان بسخرها وسبع ليال نصب على الظرفية الزمانية وثمانية أيام عطف على سبع ليال وحسوما نعت لسبع ليال وثمانية أيام أو مصدر منصوب بفعل من لفظه أي تحسمهم حسوما أو حال من مفعول سخرها أي ذات حسوم أو مفعول لأجله، وعبارة الزمخشري في هذا الصدد جيدة ننقلها فيما يلي لنفاستها: الحسوم لا يخلو من أن يكون جمع حاسم كشهود وقعود أو مصدر كالشكور والكفور، فإن كان جمعا فمعنى قوله حسوما نحسات حسمت كل خير واستأصلت كل بركة أو متتابعة هبوب الرياح ما خفتت ساعة حتى أتت عليهم تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء كرّة بعد أخرى حتى ينحسم، وإن كان مصدرا فإما أن ينتصب بفعله مضمرا أي تحسم حسوما بمعنى تستأصل استئصالا، أو يكون صفة كقولك ذات حسوم، أو يكون مفعولا له أي سخرها عليهم للاستئصال، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:
ففرّق بين بينهم زمان ... تتابه فيه أعوام حسوم
أقول: فبينهم ظرف للتفريق إلا أنه أراد المبالغة بجعل التفرق بين أجزاء هذا الظرف أيضا فقال ففرّق بين بينهم زمان وإذا فرق بين الظرف فقد فرّق بين أصحابه بالضرورة فهو من باب الكناية (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) الفاء عاطفة وترى القوم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفيها متعلقان بتري والضمير يعود على الأيام والليالي أو على الريح وأعاده الزمخشري على مهابها وصرعى حال لأن الرؤية هنا بصرية، وكأنهم كأن واسمها وأعجاز نخل خبرها وخاوية نعت لنخل أي ساقطة وجملة كأنهم حال من القوم ولك أن تجعلها مستأنفة(10/190)
(فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي أي لا ترى لهم وجعله بعضهم للإنكار ولا مساغ للإنكار هنا وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان بتري ومن حرف جر زائد وباقية مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول ترى أي من بقية أو من نفس باقية أو من بقاء كالطاغية بمعنى الطغيان.
البلاغة:
1- في قوله «الحاقة ما الحاقة» فنان رفيعان أولهما الإسناد المجازي للزمان على حد ليل قائم فالمراد بها الزمان الذي يحق أن يتحقق فيه ما أنكر في الدنيا من البعث فيصير فيها محسوسا مشاهدا بالعيان، وقيل سمّيت حاقة لأنها تكون من غير شك وقيل سمّيت بذلك لأن كل إنسان يصير فيها حقيقا بجزاء عمله فلا يكون في الكلام مجاز على هذين الوجهين، وقال الأزهري: «يقال حاققته فحققته أحقه أي غالبته فغلبته فالقيامة تحقّ كل محاق في دين الله بالباطل أي كل مخاصم» وفي الصحاح: «وحاقه أي خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق فإذا غلبه قيل حقه والتحاق التخاصم والاحتقاق الاختصام والحاقة والحقة والحق ثلاث لغات» وفي الاستفهام تعظيم لشأن الحاقة وتهويل لأمرها وهناك فن ثالث وهو وضع الظاهر موضع المضمر فلم يقل ما هي والفائدة منه زيادة التهويل والتفخيم لشأنها.
2- وفي قوله «حسوما» مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي لمطلق التتابع وقيل هو استعارة تصريحية تبعية فقد شبّه تتابع الريح المستأصلة بتتابع الكي القاطع للداء.
3- وفي قوله «كأنهم أعجاز نخل خاوية» تشبيه مرسل، فقد شبّههم بالجذوع لطول قاماتهم وكانت الريح تقطع رءوسهم كما تقطع(10/191)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
رءوس النخل المتطاولة خلال تلك الأيام الثمانية أو الليالي السبع قيل هي أيام العجوز وذلك أن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل هي أيام العجز وهي آخر الشتاء وأسماؤها: الصّن والضبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر ومكفىء الظعن.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 9 الى 18]
وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
اللغة:
(وَالْمُؤْتَفِكاتُ) هي قرى قوم لوط وقد تقدم الحديث عنها.
(بِالْخاطِئَةِ) أي بالفعلة أو الفعلات الخاطئة أو بالخطأ فيكون مصدرا جاء على فاعلة كالعاقبة أو أنها صيغة نسب كتامر وباقل، قال في الخلاصة:
ومع فاعل وفعال فعل ... في نسب أغنى عن اليا فقل(10/192)
(رابِيَةً) زائدة في شدّتها على غيرها يقال ربا الشيء يربو إذا زاد.
(واعِيَةٌ)
حافظة لما تسمع.
(فَدُكَّتا) الدك فيه تفرق الأجزاء والدق فيه اختلاط الأجزاء.
(أَرْجائِها) جوانبها جمع رجا ويكتب بالألف لأنه من ذوات الواو لقولهم في التثنية رجوان ومن غريب أمر هذه اللفظة أنها تعذب في الجمع وتسمج في المفرد ولعلك لا تجدها في كلام شاعر فصيح ولم تستعمل إلا مجموعة لأن الجمع يلبسها ثوبا من الحسن لم يكن لها في حال كونها موحدة وقد تستعمل موحدة بشرط الإضافة وهي بهذا تخالف الأرض فإنها تعذب مفردة وتجمع مجموعة ولهذا لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة فإذا ذكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة معها في كل موضع من القرآن ولما أريد أن يؤتى بها مجموعة قيل: «ومن الأرض مثلهنّ» في قوله تعالى «الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهنّ» وهذا مردّه إلى الذوق السليم لأنه الحاكم في الفرق بين الألفاظ.
الإعراب:
(وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) كلام مستأنف أو معطوف على سابقه، وجاء فرعون فعل ماض وفاعله ومن عطف على فرعون وقبله ظرف زمان متعلق بمحذوف لا محل له لأنه صلة من وقرىء قبله بكسر القاف وفتح الباء أي ومن هو في جهته والمؤتفكات عطف أيضا وبالخاطئة متعلقان بجاء (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) الفاء حرف عطف وعصوا فعل ماض وفاعل ورسول ربهم مفعول به، فأخذهم عطف على فعصوا وأخذة مفعول مطلق ورابية نعت وفتح(10/193)
همزة أخذة لأنها مصدر مرة وليست مصدر هيئة وإنما معنى الهيئة مستفاد من النعت (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) إن واسمها ولما ظرفية حينية أو رابطة وطغى الماء فعل وفاعل وجملة حملناكم خبر إنّا والمراد آباؤكم وفي الجارية متعلقان بحملناكم (لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
اللام للتعليل ونجعلها فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بحملناكم والهاء مفعول أول لنجعلها ولكن حال وتذكرة مفعول به ثان وتعيها منصوب بالعطف على نجعل ولكم حال وتذكرة مفعول به ثان وتعيها منصوب بالعطف على نجعل وأذن فاعل وواعية نعت لأذن والضمير في لنجعلها عائد للفعلة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر تفاصيل أحوال القيامة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة نفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفحة نائب الفاعل وهو مصدر متصرف لكونه مرفوعا ومختص لكونه موصوفا بواحدة، وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث، وواحدة نعت (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) وحملت فعل ماض مبني للمجهول معطوف على نفخ والأرض نائب فاعل والجبال عطف على الأرض، فدكّت عطف أيضا ودك فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة والألف نائب فاعل ودكة مفعول مطلق وواحدة نعت ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة والأرض كالجملة الواحدة (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) الفاء رابطة للجواب ويوم ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة مكوّنة من جملتي نفخ وحملت والظرف متعلق بوقعت ووقعت الواقعة فعل وفاعل (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) الواو عاطفة وانشقت السماء فعل وفاعل والفاء عاطفة وهي مبتدأ ويومئذ ظرف مضاف إلى مثله متعلق بواهية والتنوين عوض عن جملة وقد تقدم ذلك وواهية خبر هي (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) والملك(10/194)
مبتدأ وعلى أرجائها خبر ويحمل فعل مضارع مرفوع وعرش ربك مفعول به وفوقهم ظرف متعلق بمحذوف حال من العرش أي حال كونه فوق الملائكة ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بيحمل وثمانية فاعل أي يحمله فوق رؤوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك وقيل ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله عزّ وجلّ (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) يومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بتعرضون وتعرضون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ولا نافية وتخفى فعل مضارع مرفوع ومنكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لخافية وخافية فاعل والجملة حال من الواو في تعرضون.
البلاغة:
1- في قوله «إنّا لما طغى الماء حملناكم في الجارية» استعارة تمثيلية وهي من باب استعارة المعقول للمحسوس للاشتراك في أمر معقول وهي الاستعارة المركبة من الكثيف واللطيف، فالمستعار الطغي وهو الاستعلاء المنكر، والمستعار منه كل مستعل متكبر متجبر مضر، والمستعار له الماء، والطغي معقول والماء محسوس والمستعار منه محسوس.
2- في قوله «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» تكرر حذف الفاعل في هذه الآيات، ومن الظواهر الأسلوبية اللافتة في البيان المعجز ظاهرة الاستغناء عن الفاعل التي توزعت في دراساتنا وكتبنا بين أبواب شتى متباعدة لا تعطي سر هذا الاستغناء، فأنت تقرأ في الصرف كيفية بناء الفعل للمجهول وصيغ المطاوعة وفي النحو أحكام نائب الفاعل أما لماذا حذف الفاعل فذلك موضوع آخر ندرسه في علم آخر هو علم المعاني التي انفصلت عن الإعراب فعاد هذا الإعراب صنعة(10/195)
وهو في الأصل من صميم المعنى كما ندرس في علم البيان إسناد الفعل إلى فاعله على سبيل المجاز دون أن نحاول جمع هذا الشتات المنتشر للظاهرة الأسلوبية لاجتلاء سرّها الذي من أجله تستغني العربية عن الفاعل فتسنده إلى غير فاعله بالبناء للمجهول أو بالمطاوعة أو بالإسناد المجازي، ومما يلفت النظر اطّراد هذه الظاهرة في البيان القرآني في موقف واحد هو موقف القيامة وفي الآيات المكيّة بنوع خاص كما سترى وغاية ما يقوله البلاغيون أنه قد يحذف الفاعل للخوف منه أو عليه وللعلم أو للجهل به وقد مضى المفسرون على تقدير فاعل محذوف لأحداث القيامة هو الله سبحانه أو ملك من ملائكته مع وضوح العمد في البيان القرآني إلى صرف النظر عن الفاعل والاستغناء عن ذكره وأكثر ما قالوه في تأويل ذلك أن الفاعل محذوف للعلم به فما سرّ ظاهرة الاستغناء عنه في أحداث القيامة.
الفوائد:
يشترط في نيابة المصدر عن الفاعل أن يكون متصرفا مختصا بصفة أو غيرها نحو فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، وغير المتصرف من المصادر ما لزم النصب على المصدرية نحو سبحان الله، وغير المختص المبهم نحو سير سير فيمتنع سبحان الله بالضم على أن يكون نائب فاعل فعله المقدر على أن الأصل يسبّح سبحان الله لعدم تصرفه ويمتنع سير سير لعدم الفائدة إذ المصدر المبهم مستفاد من الفعل فيتحد معنى المسند والمسند إليه ولا بدّ من تغايرهما بخلاف ما إذا كان مختصّا فإن الفعل مطلق ومدلول المصدر مقيد فيتغايران فتحصل الفائدة وإذا امتنع سير سير مع إظهار المصدر فامتناع سير بالبناء للمفعول على إضمار ضمير المصدر أحقّ بالمنع لأن ضمير المصدر المؤكد أكثر إبهاما(10/196)
من ظاهره خلافا لمن أجازه كالكسائي وهشام فيما نقل ابن السيد أنهما أجازا جلس بالبناء للمفعول وفيه ضمير مجهول، قال ثعلب: أراد أن فيه ضمير المصدر وتبعهما أبو حيان في النكت الحسان فقال ومضمر المصدر يجري مجرى مظهره فيجوز أن تقول: قيم وقعد فتضمر المصدر كأنك قلت قيم القيام وقعد القعود انتهى، والصحيح المنع، وأما قول امرئ القيس:
وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب
فالنائب عن الفاعل بيتعلل ضمير مصدر مختص بلام العهد أو بصفة محذوفة والمعنى ويعتلل الاعتلال المعهود أو اعتلال ثم خصّصه أخرى محذوفة للدليل الدّال عليها وهو عليك المذكورة قبل الفعل وحذفت كما تحذف الصفات المخصصة للموصوفات للدليل كقوله تعالى: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، أي نافعا لأن أعمالهم توزن بدليل ومن خفّت موازينه الآية قاله في المغني وإضمار ضمير المصدر النوعي أجازه سيبويه لأن الفعل لا يدل عليه قاله ابن خروف في شرح كتاب سيبويه ويسؤك من الإساءة جواب الشرط الأول وتدرب بالدال المهملة من الدربة وهي العادة جواب الشرط الثاني والاعتلال الاعتذار يقال اعتلّ عليه بعلة اعتذر له عن قضاء غرضه بعذر وبذلك التوجيه يوجّه وحيل بينهم بالنصب فيكون المعنى وحيل هو أي الحول المعهود أو حول بينهم إلا أن الصفة هنا مذكورة وبذلك يوجه أيضا قول طرفة بن العبد:
فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله
فيكون المعنى حيل هو أي الحول المعهود أو حول دونها وليس النائب الظرف فيهما لأنه غير متصرف عند جمهور البصريين، وعن(10/197)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
الأخفش أنه أجاز في لقد تقطع بينكم ومنا دون ذلك أن يكون الظرف في موضع رفع مع فتحه ثم قال أبو علي وتلميذه ابن جنّي فتحة إعراب واستشكل وقال غيرهما فتحة بناء وهو المشهور.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 37]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
الإعراب:
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الفاء استئنافية وأما حرف شرط أو تفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة أوتي صلة وأوتي(10/198)
فعل ماض مبني للمجهول وكتابه مفعول به ثان والأول نائب الفاعل المستتر وبيمينه متعلق بأوتي (فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) الفاء رابطة لجواب أما وجملة يقول خبر من وهاؤم فيها استعمالان:
1- أنها تكون فعلا صريحا.
2- أنها تكون اسم فعل ومعناها في الحالين خذوا.
فإن كانت اسم فعل وهي المذكورة ففيها لغتان المدّ والقصر تقول هاء درهما يا زيد وها درهما يا زيد ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث وتتصل بهما كاف الخطاب اتصالها باسم الإشارة فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي أن الكاف ضمير المخاطب تقول: هاك هاءك هاك هاءك إلى آخره ويخلف كاف الخطاب همزة متصرفة تصرف كاف الخطاب فتقول هاء يا زيد، هاء يا هند، هاؤما، هاؤم، هاؤن، وهي لغة القرآن. وإذا كانت فعلا صريحا لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاث لغات إحداها أنها تكون مثل عاطى يعاطي فيقال: هاء يا زيد هائي يا هند هائيا يا زيدان أو يا هندان هاءوا يا زيدون، هائين يا هندات، الثانية أن تكون مثل هب فيقال هأهيء هآهئوا هئن مثل هب هبي هبا هبوا هبن، الثالثة أن تكون مثل خف أمرا من الخوف فيقال هأهائي هاءا هاءوا هأن مثل خف خافي خافا خافوا خفن، واختلف في مدلولها والمشهور أنها بمعنى خذوا وقيل معناها تعالوا فتتعدى بإلى وقيل معناها القصد.
وعبارة البحر: «هاء بمعنى خذ وقال الكسائي وابن السكيت: والعرب تقول: هاء يا رجل وللاثنين رجلين وامرأتين هاؤما وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة من غير ياء وللنساء هاين، وقيل: هاؤم كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه عليه الصلاة والسلام هاؤم(10/199)
بصولة صوته، وزعم قوم أنها مركبة في الأصل والأصل هاء أموا ثم نقله التخفيف والاستعمال وزعم قوم أن هذه الميم ضمير جماعة الذكور» .
واقتصر في الكشاف على قوله: «هاء صوت يصوّت به فيفهم منه معنى خذ كأفّ وحس وما أشبه ذلك» وهذا هو المشهور فيها. واقرءوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكتابيه تنازع فيه هاؤم واقرءوا فأعمل الأول عند الكوفيين والثاني عند البصريين وأضمر في الآخر أي هاؤموه اقرءوا كتابيه أو هاؤم اقرءوه كتابيه وأصله كتابي فأدخلت عليه هاء السكت لتظهر فتحة الياء وقد تقدم بحث هاء السكت والجملة مقول القول (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) إن واسمها وجملة ظننت خبرها وأن واسمها سدّ مسدّ مفعولي ظننت وملاق بخبر أني وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وحسابيه مفعول به لملاق لأنه اسم الفاعل والياء مضاف إليه والهاء للسكت (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) الفاء الفصيحة وهو مبتدأ وفي عيشة خبر وراضية نعت لعيشة وفيها ثلاثة أقوال: 1- أنها على النسب أي ذات رضا نحو لابن وتامر لصاحب اللبن والتمر أي ثابت لها الرضا ودائم لها لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبّر عن أكثر السعادات بأكثر من العيشة الراضية بمعنى أن أهلها راضون بها والمعتبر في كمال اللذة الرضا.
2- أنها على إظهار جعل المعيشة راضية لمحلها وحصولها في مستحقها وأنه لو كان للمعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها فهي من باب المجاز. 3- وقال أبو عبيدة والفرّاء إن هذا مما جاء فيه فاعل بمعنى مفعول نحو ماء دافق بمعنى مدفوق بمعنى أن صاحبها يرضى بها ولا يسخطها كما جاء مفعول بمعنى فاعل كما في قوله تعالى: حجابا مستورا أي ساترا، وعبارة أبي عبيدة في كتابه «مجاز القرآن» ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل إن العرب وصفوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل والمعنى أنه مفعول وفي القرآن: في عيشة راضية وإنما(10/200)
يرضى بها الذي يعيش فيها. (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) الجار والمجرور بدل من قوله في عيشة وعالية صفة أي مرتفعة المكان والدرجات (قُطُوفُها دانِيَةٌ) مبتدأ وخبر والجملة صفة ثانية لجنة والقطوف جمع قطف بكسر القاف بمعنى مفعول كالذبح بمعنى المذبوح وهو ما يقطفه القاطف من الثمار وأما القطف بفتح القاف فهو المصدر (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ)
الجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم ذلك وهنيئا حال أي مهنئين وقال الزمخشري: «هنيئا أكلا وشربا هنيئا أو هنيتم هنيئا على المصدر» ولا يجوز ذلك إلا على تقدير الإضمار عند من يجيز ذلك أي أكلا هنيئا وشربا هنيئا وقد تقدم القول مفصلا في هنيئا، وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية أو موصولة والجار والمجرور متعلقان بهنيئا وجملة أسلفتم لا محل لها على كل حال وفي الأيام متعلقان بأسلفتم والخالية نعت للأيام (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) الجملة معطوفة على الجملة السابقة، ويا حرف نداء والمنادى محذوف أو لمجرد التنبيه وليت حرف مشبّه بالفعل للتمنّي والنون للوقاية والياء اسمها وجملة لم أوت خبر وكتابيه مفعول به ثان والأول نائب الفاعل المستتر (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وأدر فعل مضارع مجزوم بلم وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وحسابيه خبرها والهاء للسكت والجملة سدّت مسدّ مفعولي أدر المعلقة عن العمل بالاستفهام ومعنى الاستفهام التعظيم والتهويل (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) الياء للنداء أو للتنبيه وقد تقدمت وليت واسمها والضمير يعود على الموتة في الدنيا وجملة كانت خبر ليت واسم كان ضمير مستتر يعود على الموتة والقاضية خبر كانت (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) ما نافية وأغنى فعل ماض وعنّي متعلقان بأغنى وماليه فاعل أغنى ومفعول أغنى محذوف للتعميم، ولك أن تعرب ما استفهامية في محل نصب مفعول مطلق لأغنى فيكون الاستفهام للتوبيخ وبّخ نفسه أي أيّ(10/201)
إغناء أغنى ما كان لي من اليسار في الدنيا الذي ضننت به على الفقراء، وبعضهم يعربها مفعولا به مقدما لأغني أي أيّ شيء، فيهمل المصدر والعودة إليه والأول أرجح ويجوز في ماليه أن تكون ما اسم موصول هي فاعل أغنى واللام حرف جر والياء في محل جر والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول أي الذي ثبت واستقر لي والأول أرجح (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) هلك فعل ماض وعني متعلقان به وسلطانيه فاعل هلك والياء في محل جر بالإضافة والهاء للسكت (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) الجملة مقول قول مقدّر وجملة القول مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدّر كأنه قيل: وما يفعل به بعد هذا التحسّر الصادر عنه فقيل يقال خذوه، وخذوه فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والهاء مفعول به، فغلّوه عطف على خذوه والخطاب للزبانية الموكلين بالعذاب (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والجحيم مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده وصلوه فعل أمر وفاعل ومفعول به (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفي سلسلة متعلقان باسلكوه ولم تمنع الفاء من ذلك لأنه قدّم للاهتمام والتخصيص، وذرعها مبتدأ وسبعون خبره وذراعا تمييز والفاء عاطفة أيضا واسلكوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، ثم إن كلمتي ثم والفاء الواقعتين في الجملة الأخيرة إن كانتا لعطف جملة فاسلكوه لزم اجتماع حرفي العطف على معطوف واحد فينبغي أن تكون كلمة ثم لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل
قوله خذوه أي قيل لخزنة جهنم خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم قيل لهم في سلسلة إلخ وتكون الفاء لعطف المقول على المقول وثم لعطف القول على القول وعبارة الزمخشري: «ومعنى ثم الدلالة على تفاوت ما بين الغلّ والتصلية بالجحيم وما بينها وبين السلك في السلسلة لا على تراخي المدة» (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) الجملة تعليلة مسوقة لتعليل هذا العذاب(10/202)
الشديد الذي يلقاه وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر يعود عليه وجملة لا يؤمن خبر كان وبالله متعلقان بيؤمن والعظيم نعت لله وعبارة الزمخشري «أنه تعليل على طريق الاستئناف وهو أبلغ كأنه قيل:
ما له يعذب هذا العذاب الشديد فأجيب بذلك» (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) الواو عاطفة لتجمع بين الأمرين المستوبلين وهما الكفر والبخل وهما أقبح العقائد والرذائل، ولا نافية ويحضّ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وعلى طعام المسكين متعلق بيحضّ (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إن شئت أن تعرف مصيره بعد الحالة الدينية التي ارتطم فيها فليس. وليس فعل ماض ناقص وله خبر مقدّم واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال أو متعلق بما في الخبر من معنى الاستقرار وها للتنبيه وهنا اسم إشارة في محل نصب على الظرفية متعلق بما تعلق به اليوم أيضا وحميم اسم ليس ولا يصحّ أن يكون اليوم خبر ليس لأنه زمان والمخبر عنه جثة وحميم اسم ليس (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) الواو حرف عطف ولا نافية وطعام عطف على حميم وإلا أداة حصر ومن غسلين نعت لطعام فدخل الحصر على الصفة كقولك ليس عندي رجل إلا من بني تميم إذ المراد بالحميم الصديق فعلى هذا الصفة مختصة بالطعام أي ليس له صديق ينفعه ولا طعام إلا من كذا، ونون غسلين وياؤه زائدتان وهو ما يجري من الجراح إذا غسلت، ومن الغريب أن يجيز أبو البقاء جعل من غسلين صفة للحميم كأنه أراد به الشيء الذي يحم البدن من صديد النار على أنه عاد فذكر قوله «وقيل من الطعام والشراب لأن الجميع يطعم بدليل قوله ومن لم يطعمه فعلى هذا يكون قوله إلا من غسلين صفة لحميم ولطعام» وما أكثر ما للنقل من آفات (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) الجملة صفة لغسلين ولا نافية ويأكله فعل مضارع ومفعول به مقدم وإلا أداة حصر والخاطئون فاعل ليأكله.(10/203)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
البلاغة:
في تقديم السلسلة على السلك نكتة بلاغية هامة وهي التخصيص وكذلك تقديم الجحيم على التصلية أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق في الجحيم، وفي تخصيص الطول بسبعين ذراعا مبالغة في إرادة الوصف بالطول كما قال إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة لأن السلسلة كلما طالت كان الإرهاق أشد والعذاب أمضّ. والعدد عند الجاحظ لا يحمل في القرآن معنى التحديد الكمّي، إنما المقصود التعدّد والكثرة.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
اللغة:
(تَقَوَّلَ) التقوّل: افتعال القول لأن فيه تكلفا من المفتعل، وقال(10/204)
أبو حيان: «التقوّل: أن يقول الإنسان عن آخر إنه قال شيئا لم يقله» .
(الْأَقاوِيلِ) جمع الجمع وهو أقوال كبيت وأبيات وأبابيت، وقال الزمخشري وسمى الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول.
(الْوَتِينَ) عرق في القلب يجري منه الدم إلى العروق كلها ويجمع على وتن وأوتنة.
الإعراب:
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) الفاء استئنافية ولا زائدة وقد تقدم الكلام في لا قبل القسم في قوله فلا أقسم بمواقع النجوم، وأقسم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبما متعلقان بأقسم وتبصرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة صلة وفي البيضاوي «فلا أقسم لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق بالقسم أو فأقسم ولا مزيدة أو فلا رد لإنكارهم البعث وأقسم مستأنف» ويرد قول البيضاوي الأول أي جعلها نافية للقسم تعيين المقسم به بقوله بما تبصرون وما لا تبصرون (وَما لا تُبْصِرُونَ) عطف على ما تبصرون (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وقول رسول خبرها وكريم صفة لرسول والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم فهو المحلوف عليه والضمير يعود على القرآن أي قاله الرسول تبليغا عن الله (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وهو اسمها والباء حرف جر زائد وقول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما الحجازية وشاعر مضاف إليه وقليلا صفة لمصدر محذوف فهو مفعول مطلق أو صفة لزمان محذوف فهو ظرف زمان أي تؤمنون إيمانا قليلا أو زمانا قليلا، وما يحتمل أن تكون نافية فينتفي أيمانهم البتة ويحتمل أن تكون مصدرية(10/205)
والمتّصف بالقلّة هو الإيمان اللغوي ويكون المصدر المؤول في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويحتمل أن تكون زائدة مؤكدة ولعل هذا الوجه أصوب الوجوه لأنه المناسب لتأكيد القلّة والمعنى أنهم آمنوا بأشياء يسيرة مما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلم من الخير كالصلة والعفاف وإنما آمنوا بهذه الأشياء لأنها جارية وفق طباعهم منسجمة مع مقتضيات مروءاتهم (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل ومن رب العالمين متعلقان بتنزيل (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) الواو عاطفة ولو شرطية وتقوّل فعل ماض وفاعله يعود على النبي صلّى الله عليه وسلم وتأدب أبو حيان فقال أنه يعود على المتقوّل المضمر وليس عائدا على الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلم لاستحالة وقوع ذلك منه قال أبو حيان «فنحن نمنع أن يكون ذلك على سبيل الفرض في حقه عليه الصلاة والسلام» وعلينا متعلقان بتقول وبعض الأقاويل نائب مفعول مطلق (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) اللام واقعة في جواب لو وأخذنا فعل وفاعل ومنه متعلقان بأخذنا وباليمين يجوز أن تكون الباء على أصلها غير مزيدة والمعنى لأخذناه بقوة منّا فالباء حالية والحال من الفاعل وتكون منه في حكم الزائدة ويجوز أن تكون الباء زائدة والمعنى لأخذنا منه يمينه (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولقطعنا عطف على لأخذنا ومنه متعلقان بقطعنا أو بمحذوف حال والوتين مفعول به (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الفاء عاطفة وما نافية حجازية ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد فلما تقدم صار حالا ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه اسم ما وعنه متعلقان بحاجزين وحاجزين خبر ما لأنه هو محطّ الفائدة وقال الحوفي والزمخشري حاجزين نعت لأحد على اللفظ وجمع على المعنى لأنه(10/206)
في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث وعلى هذا الإعراب يكون أحد مبتدأ والخبر منكم وقد ضعف أبو حيان هذا الإعراب قال: «ويضعف هذا القول لأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز وإذا كان حاجزين خبرا تسلط النفي عليه وصار المعنى ما أحد منكم يحجزه عمّا يريد به من ذلك والضمير في عنه للقتل أي لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك ويدفعه عنه أو لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أي لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل وتحولوا بينه وبينه والخطاب للناس» وعبارة الجلال «حاجزين مانعين خبر ما وجمع لأن أحدا في سياق النفي بمعنى الجمع وضمير عنه للنبي صلّى الله عليه وسلم أي لا مانع لنا عنه من حيث العقاب» وعبارة أبي البقاء: «من زائدة وأحد مبتدأ وفي الخبر وجهان أحدهما حاجزين وجمع على معنى
أحد وجر على لفظ أحد وقيل هو منصوب بما ولم يعتد بمنكم فصلا وأما منكم على هذا فحال من أحد وقيل تبيين والثاني الخبر منكم وعن يتعلق بحاجزين» (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة والكلام معطوف على جواب القسم السابق فهو من جملة المقسم به وما بينهما اعتراض وإن واسمها والضمير يعود على القرآن واللام المزحلقة وتذكرة خبر وللمتقين متعلقان بتذكرة (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) عطف أيضا وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة نعلم خبر وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي نعلم ومنكم خبر أن المقدم ومكذبين اسمها المؤخر (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) عطف أيضا وإن واسمها وخبرها وعلى الكافرين نعت لحسرة أو متعلق به (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) عطف أيضا وإن واسمها وخبرها (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الفاء الفصيحة وسبّح فعل أمر وباسم ربك متعلقان بسبّح أو الباء زائدة وقد تقدم إعراب نظيره والعظيم نعت لربك.(10/207)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
(70) سورة المعارج مكيّة وآياتها أربع وأربعون
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10)
اللغة:
(الْمَعارِجِ) المصاعد جمع معرج.
(المهل) : دردي الزيت أو ذائب الفضة وقد تقدم ذكره في سورة الدخان.
(العهن) الصوف على الإطلاق دون تقييد أو المصبوغ بالأحمر أو بشتى الألوان أقوال.(10/208)
الإعراب:
(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) سأل فعل ماض مبني على الفتح متضمن معنى دعا ولذلك عدّي تعديته وسائل فاعله وبعذاب متعلقان بسأل وواقع نعت وقيل هو على بابه والباء بمعنى عن واختاره أبو البقاء، وقال أبو علي الفارسي: «وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر فيكون التقدير سأل سائل الله أو النبي صلّى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أي عن عذاب» والسائل هو النضر بن الحارث حين قال: اللهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، وهو ممّن قتل يوم بدر وقال الواحدي: «الباء في بعذاب للتوكيد كقوله: وهزي إليك بجذع النخلة والمعنى سأل سائل عذابا واقعا» (لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) في الجار والمجرور أقوال أحدها أنه متعلق بسأل مضمنا معنى دعا أي دعا لهم، والثاني أن يتعلق بواقع واللام للعلّة أي نازل لأجلهم، والثالث أن تكون اللام بمعنى على أي واقع على الكافرين وعلى هذا فهي متعلقة بواقع أيضا وجملة ليس له دافع نعت ثان لعذاب أو حال من عذاب لأنه وصف. وليس فعل ماض ناقص وله خبرها المقدّم ودافع اسمها المؤخر (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) متعلق بواقع أي واقع من عنده ومن جهته أو متعلق بدافع بمعنى ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته وذي المعارج نعت لله (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) كلام مستأنف مسوق لتأكيد العلو البعيد، وتعرج الملائكة فعل مضارع وفاعل والروح عطف على الملائكة وأراد به جبريل فهو من عطف الخاص على العام وإليه متعلقان بتعرج وفي يوم متعلقان بمحذوف دلّ عليه واقع أي يقع العذاب بهم في يوم القيامة(10/209)
وكان واسمها وخمسين خبرها وألف سنة تمييز خمسين أو متعلق بتعرج أيضا (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا وتدبرت فحواه فاصبر، واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وصبرا مفعول مطلق وجميلا نعت (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) إن واسمها وجملة يرونه خبرها والضمير للعذاب وبعيدا مفعول به ثان لأن الرؤية علمية والجملة تعليلية لا محل لها (وَنَراهُ قَرِيباً) عطف على الجملة السابقة داخلة في حيّز الخبر (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) الظرف متعلق بقريبا أو بمحذوف يدل عليه واقع أي يقع يوم تكون وجملة تكون في محل جر بإضافة الظرف إليها والسماء اسمها وكالمهل خبرها (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الواو عاطفة ولا نافية ويسأل حميم فعل مضارع وفاعله وحميما مفعول يسأل الأول والمفعول الثاني محذوف والتقدير شفاعته ونصره وقيل حميما منصوب بنزع الخافض ويسأل لا حاجة لها إلى مفعول.
البلاغة:
1- في قوله «يوم تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» فن التمثيل فليس المراد حقيقة ذلك العدد بل المراد الإشارة إلى أنه يبدو للكافر طويلا لما يلقاه خلاله من الهول والشدائد فلا تنافي مع آية السجدة «في يوم كان مقداره ألف سنة» والعرب تصف أيام الشدّة بالطول وأيام الفرح بالقصر قال:
فقصارهنّ مع الهموم طويلة ... وطوالهنّ مع السرور قصار
وقال آخر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر(10/210)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
2- وفي قوله «يوم تكون السماء كالمهل» تشبيه مرسل ووجه الشبه التلوّن وكذلك قوله «وتكون الجبال كالعهن» ووجه الشبه التطاير والتناثر وقد رمق أبو العلاء هذه السماء العالية من البلاغة إذ قال في رثاء أبيه:
فيا ليت شعري هل يخفّ وقاره ... إذا صار أحد في القيامة كالعهن
[سورة المعارج (70) : الآيات 11 الى 23]
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15)
نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20)
وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
اللغة:
«وفصيلته» الفصيلة العشيرة وقال ثعلب الآباء الأدنون فهي فعيلة بمعنى مفعولة أي مفعول منها.
(لَظى) اسم جهنم لأنها تتلظى أي تتلهب على من يصلاها.
(لِلشَّوى) الشوى جمع شواة وهي جلدة الرأس.(10/211)
الإعراب:
(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) الجملة مستأنفة أو حالية، وأجاز الزمخشري أن تكون صفة أي حميما مبصرين، ويبصرونهم فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والهاء مفعول به ثان، وعدّي بالتضعيف إلى مفعول ثان وقام الأول مقام الفاعل وإنما جمع الضميران في يبصرونهم وهما للحميمين حملا على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياق النفي وفيه دليل على أن الفاعل والمفعول الواقعين في سياق النفي يعمّان كما التزم في قوله والله لا أشرب ماء من أداوة إنه يعمّ المياه والأداوي خلافا لبعضهم في الإداوة أي يبصر الأصحّاء بعضهم بعضا ويتعارفون ولكنهم لا يتبادلون الكلام لتشاغلهم بأنفسهم، ويودّ المجرم فعل مضارع وفاعل والجملة حالية ولو مصدرية بمعنى أن لأنها وقعت بعد فعل الودادة وهي مع ما في حيّزها في تأويل مصدر مفعول يودّ أي يودّ افتداء ومن عذاب متعلقان بيفتدي ويومئذ ظرفان مضافان والتنوين عوض عن جمل محذوفة والتقدير يوم إذ تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما، وببنيه متعلقان بيفتدي أيضا (وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) عطف على بنيه وجملة تؤويه صلة أي تضمه في النسب (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) عطف أيضا وفي الأرض صلة الموصول وجميعا حال وثم حرف عطف للتراخي لشدة الهول وينجيه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أي يودّ لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، وثم لاستبعاد الإنجاء يعني تمنى لو كان هؤلاء جميعا في متناول يده وبذلهم في فداء نفسه وهيهات (كَلَّا إِنَّها لَظى) كلا حرف ردع وزجر لودادتهم الافتداء وتنبيه على أن ذلك التمنّي غير وارد وليس بذي طائل وإن واسمها ولظى خبرها والضمير للنار الدّال عليها العذاب (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) حال مؤكدة أو(10/212)
مبينة أو نصبت على الاختصاص للتهويل وعلى الحال يكون العامل فيها ما دلّت عليه لظى من معنى الفعل أي تتلظى نزّاعة وقرىء بالرفع فهو خبر ثان أي خبر لمبتدأ محذوف أي هي نزّاعة وقيل هي بدل من لظى وقيل كلاهما خبر وقيل لظى بدل من اسم إن ونزّاعة خبرها (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) الجملة حالية من الضمير في نزّاعة وفاعل تدعو مستتر يعود على لظى ومن موصول مفعول به وجملة أدبر لا محل لها لأنها صلة وتولى عطف على أدبر، وسيأتي مزيد بيان لهذه الدعوة في باب البلاغة (وَجَمَعَ فَأَوْعى) عطف على أدبر وتولى ومعنى أوعى جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد به حق الله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) الجملة بمثابة التعليل لما تقدم وإن واسمها وأل في الإنسان جنسية وجملة خلق خبر إن ونائب الفاعل مستتر يعود على الإنسان وهلوعا حال مقدّرة لأنه ليس متصفا بهذه الصفات قبل ولادته ووقت خلقه (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) إذا ظرف متعلق بجزوعا وجملة مسّه في محل جر بإضافة الظرف إليها والشر فاعل وجزوعا حال من الضمير في هلوعا ولك أن تجعله نعتا لهلوعا (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) استثناء من الإنسان المراد به الجنس فهو استثناء متصل (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) الذين نعت للمصلين وهم مبتدأ وعلى صلاتهم متعلقان بدائمون ودائمون خبرهم والجملة الاسمية صلة الذين.
البلاغة:
في قوله «تدعو من أدبر وتولى» مجاز عقلي عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم، وقد تقدم بحث المجاز العقلي في هذا الكتاب، أو استعارة مكنية، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا وحشيا:(10/213)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب
ووهبين اسم موضع وكذلك ذو الفوارس والربب بموحدتين جمع ربة وهي أول ما ينبت من الكلأ والدعاء الطلب وهو هنا مجاز عن التسبّب في الأمر لأن النبات الصغير سبب في وصول أنفه للأرض ليرعاه. ويجوز أن يكون الدعاء من باب الاستعارة، شبّه الربب بالداعي وحذف المشبّه به وأخذ شيئا من خصائصه.
ومنه أيضا قول ذي الرمة:
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب
وليالي منصوب على الظرفية واللهو مبتدأ وطباه يطبوه ويطبيه إذا دعاه وجذبه أي اللهو يدعوني في ليال كثيرة فأتبعه كأني سابح في لجّة من الماء تغمر القامة. ولعب خبر ثان والظرف متعلق بيطبيني وقيل هو متعلق بما قبلها والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها.
[سورة المعارج (70) : الآيات 24 الى 35]
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)(10/214)
الإعراب:
(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) والذين عطف على الذين الأولى وفي أموالهم خبر مقدّم وحق مبتدأ مؤخر ومعلوم نعت والمراد به الزكاة المفروضة والجملة الاسمية صلة الموصول (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) نعت لحق (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) عطف أيضا وجملة يصدقون صلة الموصول وبيوم الدين متعلقان بيصدقون أي يوم الجزاء (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) عطف أيضا وهم مبتدأ ومشفقون خبره ومن عذاب ربهم متعلقان بقوله مشفقون والجملة صلة (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) الجملة تعليل للإشفاق وإن واسمها وغير مأمون خبرها (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) عطف أيضا وهم مبتدأ وحافظون خبره ولفروجهم متعلقان بحافظون أي عن المحرمات والمحظورات (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) إلا أداة استثناء وعلى أزواجهم استثناء من أعمّ الأحوال واو حرف عطف وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت صلة وأيمانهم فاعل والمراد بما ملكت أيمانهم الإماء، فإنهم الفاء عاطفة وإن واسمها وغير ملومين خبرها (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وابتغى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر يعود على من ووراء مفعول به لابتغى فقد خرجت وراء عن الظرفية أي طلب وراء ذلك أي الاستمتاع بالنكاح وملك اليمين ولك أن تبقيها على الظرفية وتعلقها بمحذوف صفة للمفعول به المحذوف أي فمن طلب أمرا كائنا وراء ذلك والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك اسم إشارة في محل رفع مبتدأ وهم ضمير فصل والعادون خبر أولئك والجملة في محل(10/215)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
جزم جواب الشرط، ولك أن تجعل هم مبتدأ ثانيا والعادون خبره والجملة خبر أولئك (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وراعون خبره ولأماناتهم متعلقان براعون والجملة الاسمية صلة الموصول (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) عطف أيضا وفي قراءة بالإفراد (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) عطف أيضا (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أولئك مبتدأ وفي جنات خبر ومكرمون خبر ثان ولك أن تعلّق في جنات بمكرمون.
البلاغة:
في تكرير الصلاة مبالغة لا تخفى اهتماما بشأنها وتنويها بفضلها، ويضاف إلى التكرير تصدير الجملة بالضمير وبناء الجملة عليه وتقديم الجار والمجرور على الفعل وفعلية الخبر فتفيد الجملة الاسمية الدوام والاستمرار وتفيد الجملة الفعلية التجدّد مع الاستمرار، وهذا نمط عجيب انفرد به كتاب الله.
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)(10/216)
اللغة:
(مُهْطِعِينَ) مسرعين نحوك مادّي أعناقهم مقبلين بأبصارهم عليك فهي من الكلمات التي يحتاج تفسيرها إلى جمل، وفي القاموس:
«هطع كمنع هطعا وهطوعا أسرع مقبلا خائفا وأقبل ببصره على الشيء لا يقلع عنه وهطع مدّ عنقه وصوّب رأسه كاستهطع، وكأمير: الطريق الواسع، وكمحسن: من ينظر في ذل وخضوع لا يقلع بصره أو الساكت المنطلق إلى من هتف به، وبعير مهطع في عنقه تصويب خلقة» وقد تقدم شرح هذه المادة في سورة إبراهيم.
(عِزِينَ) جمع عزة، قال أبو عبيدة: جماعات في تفرقة وقيل الجمع اليسير كثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وقال الأصمعي: في الدار عزون أي أصناف من الناس وقال الكميت:
ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتّى عزينا
وعزة مما حذفت لامه فقيل هي واو وأصله عزوة كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فهم متفرقون ويقال عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت عزة بالواو والنون كما جمعت سنّة وأخواتها بذلك وقيل هي ياء إذ يقال عزيته بالياء أعزيه بمعنى عزوته وقد تقدم بحث ما ألحق بجمع المذكر السالم.
(نُصُبٍ) تقدم القول فيه مفصلا ونضيف إليه هنا أنه قرىء نصب(10/217)
بالفتح والإسكان وقراءتنا بضمتين وقرىء بفتحتين وقرىء بضم فسكون، فالأول اسم مفرد بمعنى العلم المنصوب الذي يسرع الشخص نحوه وقال أبو عمرو: هو شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته، وأما الثانية فتحتمل ثلاثة أوجه: أحدها أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة والثاني أنه جمع نصاب ككتب جمع كتاب والثالث أنه جمع نصب كرهن في رهن وسقف في سقف وجمع الجمع أنصاب، وأما الثالثة ففعل بمعنى مفعول أي منصوب كالقبض بمعنى المقبوض والرابعة تخفيف من الثانية.
(يُوفِضُونَ) يسرعون إلى الداعي مستبقين.
الإعراب:
(فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) الفاء استئنافية وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وللذين خبر ما أي فأي شيء ثبت لهم وحملهم على النظر إليك والتفرّق، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلّي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكانوا يحتفون به حلقا حلقا يسمعون ويستهزئون بكلامه ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّها قبلهم فنزلت. وقبلك ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أو بمهطعين أي كائنين في الجهة التي تليك عن اليمين وعن الشمال ومهطعين حال من الذين (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) الجار والمجرور حال من الموصول أيضا وقيل متعلق بمهطعين وعزين حال من الموصول أيضا فالأربعة أحوال من الموصول وقيل حال من الضمير في مهطعين فتكون حالا متداخلة، وعلّق أبو البقاء عن اليمين وعن الشمال بعزين وأعرب بعضهم عزين صفة لمهطعين (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويطمع فعل مضارع وكل امرئ فاعله(10/218)
ومنهم صفة لامرىء وأن وما في حيّزها في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بيطمع أي أيطمع في الدخول ونائب فاعل يدخل مستتر تقديره هو وجنة نعيم مفعول به ثان على السعة (كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) كلا حرف ردع وزجر عن طمعهم الأشعبي بدخول الجنة وجملة إنّا خلقناهم تعليل للردع وإن واسمها وجملة خلقناهم خبرها ومما متعلقان بخلقناهم وجملة يعلمون صلة والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمن لم يتحلّ بالإيمان ويرحض عنه الأقذار بالعمل الصالح وأضاف الكمالات لم يكن أهلا لدخول الجنان أو هو استدلال بالنشأة الأولى على النشأة الثانية وإن من قدر على الخلق الأول لم تعجزه الإعادة (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) الفاء استئنافية ولا زائدة وأقسم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبرب المشارق والمغارب متعلقان بأقسم وجملة إنّا لقادرون لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وقادرون خبرها (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أن وما في حيّزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادرون وخيرا مفعول نبدل ومنهم متعلقان بخيرا والواو حرف عطف وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومسبوقين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبرها والجملة معطوفة على جواب القسم داخلة في ضمن المقسم عليه (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) الفاء الفصيحة أي إذا تبين أنه لا يفوتنا ولا يعجزنا إنزال ما نريده بهم فذرهم، وذرهم فعل أمر مات ماضيه وفاعل مستتر ومفعول به ويخوضوا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ويلعبوا عطف على يخوضوا وحتى حرف غاية وجر ويلاقوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل ويومهم مفعول به والذي نعت ليومهم وجملة يوعدون صلة الموصول وهو فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل (يَوْمَ(10/219)
يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ)
يوم بدل من يومهم وجملة يخرجون في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن الأجداث متعلقان بيخرجون وسراعا حال من الواو وجملة كأنهم حال ثانية من الواو أيضا فتكون مترادفة أو من الضمير في سراعا فتكون متداخلة وكأن واسمها وإلى نصب متعلقان بيوفضون وجملة يوفضون خبر كأنهم (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) خاشعة حال من فاعل يوفضون أو من فاعل يخرجون والأول أقرب وأبصارهم فاعل بخاشعة وجملة ترهقهم ذلة حال ثانية ولك أن تجعلها مستأنفة وذلك مبتدأ واليوم خبره والذي صفة وكان واسمها وجملة يوعدون خبرها والجملة صلة وجملة ذلك اليوم مستأنفة أو مفسرة وعلى كل حال لا محل لها.(10/220)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)
(71) سورة نوح مكيّة وآياتها ثمان وعشرون
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
اللغة:
(وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) وتغطوا بها كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو(10/221)
تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى من ينصحهم في دين الله.
الإعراب:
(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها ونوحا مفعول به وإلى قومه متعلقان بأرسلنا (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يجوز أن تكون أن مصدرية فتكون مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأرسلنا والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر ويجوز أن تكون مفسّرة لأن الإرسال فيه معنى القول وأنذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وقومك مفعول به ومن قبل متعلقان بأنذر وأن وما في حيّزها في تأويل مصدر في محل جر بالإضافة ويأتيهم فعل مضارع منصوب بأن والهاء مفعول به وعذاب فاعل وأليم نعت (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم بحث المنادى المضاف إلى ياء المتكلم وإن واسمها ولكم متعلقان بنذير ونذير خبر ومبين نعت (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) أن مصدرية أو مفسّرة وقد تقدم القول فيها آنفا واعبدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والله مفعول به واتقوه وأطيعون معطوفان على اعبدوا وحذفت ياء المتكلم لمناسبة رءوس الآي أي وأطيعوني (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يغفر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب ولكم متعلقان بيغفر ومن ذنوبكم في موضع نصب مفعول يغفر لأن من للتبعيض أي بعض ذنوبكم لأن الإيمان يجبّ ما قبله من الذنوب لا ما بعده وقيل لابتداء الغاية وقيل زائدة وهو مذهب الأخفش لأنه يجيز زيادتها في الموجب وغيره والبصريون ومعظم الكوفيين يشترطون لزيادتها أن يسبقها نفي أو نهي أو(10/222)
استفهام وأن تدخل على النكرة، ويؤخركم عطف على يغفر والكاف مفعول به وإلى أجل متعلقان بيؤخركم ومسمى نعت لأجل، وسنورد مناقشة طريفة حول هذا التأخير للعذاب في باب الفوائد (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجملة تعليل لما تقدم وإن واسمها وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه متعلق بجوابه وجملة جاء في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لا يؤخر لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولو شرطية وكنتم كان واسمها وجملة تعلمون خبرها وجواب لو محذوف كما حذف مفعول تعلمون أي لو كنتم تعلمون ذلك لآمنتم (قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً) ربّ منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وحذف حرف النداء وإن واسمها وجملة دعوت خبرها وقومي مفعول به وليلا ونهارا ظرفان متعلقان بدعوت والجملة مقول القول (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويزدهم فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به أول ودعائي فاعل وإلا أداة حصر وفرارا مفعول به ثان والاستثناء مفرغ (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) الواو عاطفة وإن واسمها وكلما ظرف متعلق بجعلوا أو ما مصدرية أو نكرة ودعوتهم فعل وفاعل ومفعول به واللام للتعليل وتغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام للتعليل والجار والمجرور متعلقان بدعوتهم وجملة جعلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهو كلما وأصابعهم مفعول جعلوا الأول وفي آذانهم في موضع المفعول الثاني (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) واستغشوا عطف على جعلوا وثيابهم مفعول به وأصرّوا واستكبروا معطوفان أيضا واستكبارا مفعول مطلق (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإن واسمها وجملة دعوتهم خبرها وجهارا مفعول مطلق على أنه مصدر من المعنى لأن الدعاء يكون جهارا وغيره(10/223)
فهو من باب رجع القهقرى وقعد القرفصاء ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرا وذا جهار وجعل نفس المصدر مبالغة (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) عطف على ما تقدم وإسرارا مفعول مطلق.
البلاغة:
في قوله «واستغشوا ثيابهم» كناية عن المبالغة في إعراضهم عمّا دعاهم إليه فمنهم بمثابة من سدّ سمعه وغشى بصره كيلا يسمع ويرى، يقال لبس فلان ثياب العداوة، وقيل الكلام حقيقي ومعنى استغشوا ثيابهم غطّوا بها وجوههم لئلا يروني أو جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان.
وفي التراخي وتكرير الدعوة بيان وتوكيد، وننقل بهذا الصدد عبارة الزمخشري لنفاستها قال: «فإن قلت ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا ثم دعاهم جهارا ثم دعاهم في السر والعلن فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصحّ العطف قلت: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد فافتتح بالمناصحة في السر فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان ومعنى ثم الدلالة على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما» وهذا كلام بديع قلّما يكتنه غوره أحد فإنه يعلم من قوله: ثم إني دعوتهم جهارا أن الدعوة السابقة بالإسرار فأفادت ثم التفاوت بين الجهار والإسرار السابق وأفادت ثم الثانية أن الجمع بينهما أغلظ من إفراد كلّ منهما.(10/224)
الفوائد:
هذا وقد وعدناك بإيراد مناقشة ممتعة شجرت بين أكابر المفسّرين حول قوله: ويؤخركم إلى أجل مسمى فقد قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف قال ويؤخركم مع إخباره بامتناع تأخير الأجل وهل هذا إلا تناقض؟ قلت: قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة فقيل لهم آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى أي إلى وقت سمّاه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه وهو الوقت الأطول تمام الألف ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت ولم تكن لكم حيلة فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير» .
وقال ابن عطية: «ويؤخركم إلى أجل مسمى مما تعلقت المعتزلة به في قولهم إن للإنسان أجلين قالوا: لو كان واحدا محددا لما صحّ التأخير إن كان الحدّ قد بلغ ولا المعالجة إن كان لم يبلغ» قال: «وليس لهم في الآية تعلق لأن المعنى أن نوحا عليه السّلام لم يعلم هل هم ممّن يؤخر أو ممّن يعاجل ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد حان لكم لكن سبق في الأزل أنهم إما ممّن قضي له بالإيمان والتأخير وإما ممّن قضي له بالكفر والمعالجة ثم تشدّد هذا المعنى ولاح بقوله: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر» .
وقد جلا السيوطي الغموض الذي تحيف هذا التعبير بقوله في تفسيره الممتع «ويؤخركم بلا عذاب» أي في الدنيا فلا يخالف قوله إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لأن المنفي تأخيره فيه هو الأجل نفسه فلا تخالف بين هذين المحلين.
وعبارة الكرخي في حاشيته على الجلالين: «قوله ويؤخركم بلا(10/225)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
عذاب جواب كيف، قال ويؤخركم إلى أجل مسمى خطابا لقوم نوح لأنه إن كان المراد تأخيرهم عن الأجل المقدّر أزلا فهو محال لقوله تعالى: ولن يؤخّر الله نفسا إذا جاء أجلها، أو تأخيرهم إلى مجيء أجلهم المقدّر منهم كغيرهم سواء آمنوا أم لا، وإيضاحه أن معناه يؤخركم عن العذاب إلى منتهى آجالكم على تقدير الإيمان فلا يعذبكم في الدنيا إن وقع منكم ذنب كما عذب غيركم من الأمم الكافرة فيها» .
[سورة نوح (71) : الآيات 10 الى 20]
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
اللغة:
(مِدْراراً) كثير الدرور ويستوي فيه المذكر والمؤنث ويطّرد هذا الاستواء في وزن مفعال صيغة للمبالغة.
(أَطْواراً) جمع طور وهو الحال والتارة، وفي المصباح: «والطور(10/226)
بالفتح التارة وفعل ذلك طورا بعد طور أي مرة بعد مرة والطور الحال والهيئة والجمع أطوار مثل ثوب وأثواب وتعدى طوره أي حاله التي تليق به» .
(فِجاجاً) واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع وقيل هو المسلك بين الجبلين.
الإعراب:
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) الفاء عاطفة وقلت فعل وفاعل واستغفروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وربكم مفعول به وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وغفارا خبرها وجملة استغفروا مقول القول وجملة إنه كان غفارا لا محل لها لأنها تعليل للاستغفار، وفي الشهاب: «وليس المراد بالاستغفار مجرد قول استغفر الله بل الرجوع عن الذنوب وتطهير الألسنة والقلوب» (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) يرسل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر يعود على الله تعالى والسماء مفعول به وعليكم متعلقان بيرسل ومدرارا حال من السماء (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) ويمددكم عطف على يرسل والكاف مفعول به وبأموال متعلقان بيمددكم وبنين عطف على أموال ويجعل فعل مضارع مجزوم عطف على ويمددكم ولكم في موضع المفعول الثاني وجنات مفعول به ويجعل لكم أنهارا عطف على الجملة السابقة والمراد بجنّات الدنيا البساتين (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولكم خبر ولا نافية وترجون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وجملة لا ترجون حال من الكاف في لكم ولله حال لأن اللام للتبيين ولو تأخرت لكانت صفة للوقار، ووقارا مفعول به لترجون أي توقيرا وتعظيما، وسيأتي مزيد بيان لهذا التعبير في(10/227)
باب الفوائد (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) الواو للحال وقد حرف تحقيق وخلقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة حالية من فاعل ترجون وأطوارا حال مؤولة بالمشتق أي متنقلين من حال إلى حال (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) الهمزة للاستفهام الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والرؤية علمية أي لم تعتبروا وتتفكروا، وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال والعامل فيها خلق، وخلق الله فعل ماض وفاعل والجملة سدّت مسدّ مفعولي تروا المعلقة عن العمل بالاستفهام وسبع سموات مفعول به وطباقا نعت لسبع أي بعضها فوق بعض أو منصوب بفعل محذوف أي طبقت طباقا فيكون مصدر طابقت مطابقة وطباقا وقد ذكر ذلك في سورة الملك (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) الواو عاطفة وجعل القمر فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفيهن حال ونورا مفعول به ثان وجعل الشمس سراجا عطف على الجملة السابقة (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) الواو عاطفة والله مبتدأ وجملة أنبتكم خبر ومن الأرض متعلقان بأنبتكم ونباتا مفعول مطلق ويجوز أن يكون مصدرا لأنبت على حذف الزوائد ويسمى اسم مصدر ويجوز أن يكون مصدرا لنبتم مقدرا أي فنبتم نباتا فيكون منصوبا بالمطاوع المقدّر، وعبارة الزمخشري «والمعنى أنبتكم فنبتم نباتا أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم» (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) عطف على ما تقدم (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) الواو حرف عطف والله مبتدأ وجملة جعل خبر ولكم حال والأرض مفعول به أول وبساطا مفعول به ثان (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) اللام لام التعليل وتسلكوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعل ومنها حال من سبلا أي كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها وسبلا مفعول به وفجاجا نعت.(10/228)
البلاغة:
1- في قوله «يرسل السماء عليكم مدرارا» مجاز مرسل علاقته المحلية، فقد أراد بالسماء المطر لأن المطر ينزل منها قال:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والمراد بالبيت وصف شجاعتهم لأنهم إذا اجترءوا على رعي نبات القوم الغضاب فهم أحرى بأن يجترئوا على غيرهم، وفي البيت أيضا استخدام فقد أطلق السماء وأعاد عليها الضمير بمعنى النبات لأنها سببه.
2- وفي قوله «والله أنبتكم من الأرض نباتا» استعارة تصريحية لأنه شبّههم بالنبات، فقد استعار الإنبات للإنشاء كما يقال زرعك الله للخير، وكانت هذه الاستعارة ذات فائدة لأنها دلّت على الحدوث فإنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات وفيه قيل للحشوية النباتية والنوابت لحدوث مذهبهم في الإسلام.
الفوائد:
اختلفت أقاويل المفسرين في قوله: «ما لكم لا ترجون لله وقارا» ونحن نورد هنا مقتطفات من أقوالهم ثم نعقب عليها بما يجلو غامضها، فالرجاء معناه الأمل والخوف، فقال أبو عبيدة: «لا ترجون: لا تخافون» قالوا والوقار بمعنى العظمة والسلطان فالكلام وعيد وتخويف، وعبارة الزمخشري «والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب، ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار ... أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا وقيل ما لكم لا تخافون لله عظمة، وعن ابن عباس لا تخافون لله عاقبة لأن العاقبة حال استقرار(10/229)
الأمور وثبات الثواب والعقاب من وقر إذا ثبت واستقر» وعبارة أبي حيان: «وقيل ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله وتلقاءه وقارا ويكون على هذا منهم كأنه يقول تؤدة منكم وتمكنا في النظر لأن الفكر مظنة الخفة والطيش وركوب الرأس» وقال قطرب: هذه لغة حجازية، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج لم أبال.
وعبارة أبي السعود: «ما لكم لا ترجون لله وقارا إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارا على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد ولا ترجون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيها معنى الاستقرار في لكم ولله متعلقان بمضمر وقع حالا من وقارا ولو تأخر لكان صفة له أي أيّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالإيمان به والطاعة له وقد خلقكم أطوارا أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهي أنكم تعلمون أنه تعالى خلقكم تارة عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم أنشأكم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذه شئونه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بها مما لا يكاد يصدر عن العاقل» .
والذي يتحصل معنا من هذا كله: هو أن القوم كانوا يبالغون في احتقاره عليه السلام والاستهزاء به والتندّر عليه فأمرهم الله بالتزام الجدّ في توقيره واحترامه والصدوف عن هذه المعاملة غير اللائقة، أي أنكم إذا وقرتم نوحا وتركتم الاستخفاف به والتندّر عليه كان ذلك طاعة لله وتقربا إليه وامتثالا لأوامره فما لكم لا تهتبلون هذه الفرصة فتفوزوا برضا الله بتوقيره واحترامه؟(10/230)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 28]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
اللغة:
(كُبَّاراً) بضم الكاف وتشديد الباء وهو بناء مبالغة أبلغ من كبار بالضم والتخفيف. (ود، سواع، يَغُوثَ، يَعُوقَ، نسر) أسماء أصنام كانوا يعبدونها.
(دَيَّاراً) قال الزمخشري: من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال ما بالدار ديار وديور كقيام وقيوم وهو فيعال من الدوار أو من الدار وأصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت ولو كان فعالا لكان دوارا» وعبارة أبي حيان: «ديارا من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ووزنه فيعال أصله ديوار اجتمعت الياء والواو وسبقت أحداهما بالسكون فأدغمت» وفي القاموس: «وما به داريّ وديّار ودوريّ وديّور: أحد» .(10/231)
(تَباراً) هلاكا.
الإعراب:
(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) قال نوح فعل ماض وفاعل ورب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها وجملة عصوني خبرها والجملة مقول القول (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) واتبعوا عطف على عصوني ومن مفعول به ولم حرف نفي وقلب وجزم ويزده فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به وماله فاعل وولده عطف على ماله وإلا أداة حصر وخسارا مفعول به ثان ليزده (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) الواو عاطفة ومكروا فعل ماض وفاعل ومكرا مفعول مطلق وكبارا نعت لمكرا أي عظيما جدا (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) الواو عاطفة وقالوا فعل ماض وفاعل ولا ناهية وتذرن فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وآلهتكم مفعول به، ولا تذرن عطف على لا تذرن الأولى وودّا وما عطف عليه مفعول تذرن ويغوث ويعوق ممنوعان من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين والعلمية والعجمة إن كانا أعجميين، وقرىء ولا يغوثا ويعوقا مصروفين لأمرين أحدهما أن صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان منصرفان وبعدهما اسم منصرف والثاني أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا وهي لغة حكاها الكسائي. (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) الواو عاطفة وجملة قد أضلّوا مقول قول محذوف معطوف على قال السابقة أي قال إنهم عصوني وقال قد أضلّوا. وأضلّوا فعل وفاعل وكثيرا مفعول به والواو عاطفة على القول المحذوف قال الزمخشري: «فإن قلت علام عطف قوله ولا تزد(10/232)
الظالمين قلت على قوله رب إنهم عصوني على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قال وبعد الواو النائبة عنه ومعناه قال رب إنهم عصوني وقال لا تزد الظالمين إلا ضلالا أي قال هذين القولين وهما في محل النصب لأنهما مفعولا قال» ولا ناهية وتزد فعل مضارع مجزوم بلا والظالمين مفعول وإلا أداة حصر وضلالا مفعول به وعبارة أبي حيان: «ولا تزد عطف على قد أضلّوا لأنها محكية بقال مضمرة ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة بل يعطف خبر على طلب وبالعكس خلافا لمن اشترطه» وعبارة الشهاب الخفاجي: «يعني لا تزد مقول ثان لنوح عليه السلام، عطف الله أحد مقوليه على الآخر والواو فيه من كلامه تعالى لا من كلام نوح لاستلزامه عطف الإنشاء على الإخبار فحكى الله أحد مقوليه بتصديره بلفظ قال وحكى قوله الآخر بعطفه على قوله الأول بالواو النائبة عن لفظ قال» (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) من حرف جر وما زائدة وخطيئاتهم مجرور بمن التعليلية والجار والمجرور متعلقان بأغرقوا وأغرقوا فعل ماض مبني للمجهول، فأدخلوا عطف على أغرقوا وجعل دخولهم النار متعقبا لإغراقهم نظرا لاقترابه ولأنه كائن لا محالة فكأنه قد كان ونارا مفعول به ثان على السعة (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً) عطف متعقب أيضا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجدوا فعل مضارع مجزوم بلم ولهم في موضع المفعول الثاني ليجدوا ومن دون الله حال وأنصارا مفعول يجدوا الأول (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الواو عاطفة وقال نوح فعل ماض وفاعل ورب منادى محذوف منه حرف النداء وهو مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة ولا ناهية وتذر فعل مضارع مجزوم بلا وعلى الأرض متعلقان بتذر ومن الكافرين حال لأنه كان في الأصل صفة لديارا وديارا مفعول تذر (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) إن واسمها والجملة تعليل لطلب نوح عليه السّلام، فإن قيل كيف علم أن أولادهم(10/233)
يكونون مثلهم أجيب بأنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فاكتنه دخائلهم وسبر أغوارهم فقد كان الرجل منهم ينطلق بابنه ويقول له:
احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي قد حذرني منه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ما كان والده قد لقنه وعلمه من قبل. وإن شرطية وتذرهم فعل الشرط والهاء مفعول به ويضلّوا جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر إنك وعبادك مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية ويلدوا فعل مضارع معطوف على يضلوا والواو فاعل وإلا أداة حصر وفاجرا مفعول يضلّوا وكفّارا نعت (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) رب منادى مضاف وقد تقدمت له نظائر، واغفر فعل دعاء ولي متعلقان باغفر ولوالدي عطف على لي ولمن عطف أيضا وجملة دخل بيتي صلة الموصول ومؤمنا حال وللمؤمنين والمؤمنات عطف أيضا (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) الواو عاطفة ولا ناهية دعائية وتزد فعل مضارع مجزوم بلا والظالمين مفعول به أول وإلا أداة حصر وتبارا مفعول به ثان والاستثناء مفرغ وفي المصباح «وتبر يتبر من بابي قتل وتعب إذ هلك ويتعدى بالتضعيف فيقال تبره والاسم التبار، والفعال بالفتح يأتي كثيرا من فعّل نحو كلم كلاما وسلّم سلاما وودّع وداعا» .
البلاغة:
في قوله «ولا يلدوا إلا فاجرا كفّارا» مجاز مرسل علاقته ما يئول إليه لأنهم لم يفجروا وقت الولادة بل بعدها بزمن طويل على كل حال.(10/234)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
(72) سورة الجنّ مكيّة وآياتها ثمان وعشرون
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
اللغة:
(نَفَرٌ) النفر: الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة وفي القاموس(10/235)
«والنفر الناس كلهم وما دون العشرة من الرجال كالنفير والجمع أنفار» وفي شرح القاموس: «قال أبو العباس النفر والرهط والقوم هؤلاء معناها الجمع لا واحد لها من لفظها والنسب إليه نفري قال الزجّاج النفير جمع نفر كالعبيد» .
(جَدُّ رَبِّنا) عظمته من قولك جدّ فلان في عيني أي عظم وفي حديث عمر رضي الله عنه كان الرجل منّا إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا، وسيأتي مزيد من بحثه في باب البلاغة.
الإعراب:
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد وأوحي فعل ماض مبني للمجهول وإليّ متعلقان بأوحي وأن وما في حيّزها في محل رفع نائب فاعل وأن واسمها وجملة استمع خبرها ونفر فاعل استمع ومن الجن صفة لنفر، فقالوا عطف على استمع وإن واسمها وجملة سمعنا خبر إنّا وقرآنا مفعول به وعجبا نعت أي يتعجب منه لفصاحته وبلاغته وما ينطوي عليه من معان سامية وغير ذلك (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) جملة يهدي إلى الرشد صفة ثانية لقرآنا وإلى الرشد متعلقان بيهدي، فآمنّا عطف على سمعنا وبه متعلقان بآمنّا، ولن الواو حرف عطف ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونشرك فعل مضارع منصوب بلن وبربنا متعلقان بنشرك وأحدا مفعول به لنشرك (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) الواو حرف عطف وأن وما في حيّزها عطف على ما تقدم وأن واسمها وتعالى فعل ماض وجدّ ربنا فاعل والجملة معترضة بين الاسم والخبر وجملة ما اتخذ خبر أن ولا ولدا عطف على صاحبة (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً) عطف على(10/236)
ما تقدم وأن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وسفيهنا فاعل وعلى الله متعلقان بيقول وشططا نعت لمصدر محذوف أي قولا شططا أي غلوا في الكذب وذلك بوصفه بالصاحبة والولد وجملة يقول خبر كان (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً) وأنّا عطف على ما تقدم وأن واسمها وجملة ظننا خبرها، وظن فعل ماض من أفعال القلوب ونا فاعل وأن مخففة واسمها ضمير الشأن وجملة لن تقول خبرها ولن حرف نفي ونصب واستقبال والإنس فاعل والجن عطف على الإنس وعلى الله متعلقان بتقول وكذبا نعت لمصدر محذوف (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) وأنه عطف أيضا وأن واسمها وجملة كان خبرها ورجال اسم كان ومن الإنس نعت لرجال وجملة يعوذون خبر كان وبرجال متعلقان بيعوذون ومن الجن نعت لرجال، فزادوهم عطف على كان رجال وزادوهم فعل وفاعل ومفعول به أول ورهقا مفعول ثان (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً) وأنهم عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها وجملة ظنوا خبرها وكما نعت لمصدر محذوف وجملة ظننتم لا محل لها لأنها موصولة للموصول الحرفي وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظنوا وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويبعث فعل مضارع منصوب بلن والجملة خبر أن والله فاعل يبعث وأحدا مفعوله (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها وجملة لمسنا خبرها والسماء مفعول به، وسيأتي معنى لمس السماء في البلاغة، والفاء حرف عطف ووجدناها فعل وفاعل ومفعول به وجملة ملئت مفعول به ثان وملئت فعل ماض مبني للمجهول والتاء تاء التأنيث الساكنة ونائب الفاعل مستتر تقديره هي أي السماء وحرسا تمييز وشديدا نعت وشهبا عطف على حرسا وقيل وجدناها هنا متعدية لواحد فجملة(10/237)
ملئت حال لأن معناها صادفناها (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها وجملة كنّا خبرها وكان واسمها وجملة نقعد خبر كنّا ومنها متعلقان بمقاعد ومقاعد ظرف مكان متعلق بنقعد وللسمع متعلقان بمضمر هو صفة لمقاعد أي مقاعد كائنة للسمع والفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويستمع فعل الشرط والآن ظرف حالي مستعار للاستقبال وهو متعلق بيستمع ويجد جواب الشرط وله في موضع المفعول الثاني ليجد وشهابا مفعول يجد الأول ورصدا نعت لشهابا وهو بمعنى اسم المفعول أي أرصد وأعدّ له.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «تعالى جدّ ربنا» استعارة تصريحية لأنها استعارة من الحظ الذي هو البخت والدولة لأن الأغنياء هم المجدودون، والمعنى وصفه بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته واستغنائه.
2- وفي قوله: «وأنّا لمسنا السماء» مجاز مرسل لأن المسّ هو اللمس، واللامس هو طالب متعرف قال:
مسسنا من الآباء شيئا وكلنا ... إلى نسب في قومه غير واضع
والبيت ليزيد بن الحاكم الكلابي ومسسنا أي نلنا، فالمسّ مجاز مرسل فكلّ منّا ينتمي إلى نسب في قومه غير منخفض ويروى إلى حسب فاستوينا من جهة الآباء في التفاخر فلما بلغنا فيه ذكر الأمهات وجدتم أقاربكم كرام المضاجع كناية عن الأزواج أو عبر باسم المحل عن الحال فيه وهنّ الأزواج مجازا مرسلا وكرم النساء مذموم لأنه كناية(10/238)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
عن الخنا، كما يكنّى ببخلهنّ عن العفّة فلسنا سواء في الأمهات وبعده:
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع
[سورة الجن (72) : الآيات 10 الى 19]
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
اللغة:
(قِدَداً) جمع قدّة بالكسر وهي الطريقة وفي المصباح: «والقدّة الطريقة والفرقة من الناس والجمع قدد مثل سدرة وسدر وبعضهم يقول(10/239)
الفرقة من الناس إذا كان هوى كل واحد على حدة» ويؤخذ من اللسان وغيره أنه يقال: كنّا طرائق قددا أي فرقا مختلفة الأهواء وتجمع أيضا على أقدّة.
(الْقاسِطُونَ) الجائرون بكفرهم والقاسط الجائر لأنه عدل عن الحق والمقسط العادل إلى الحق من قسط إذا جار وأقسط الرباعي بمعنى عدل وعن سعيد بن جبير أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل فقال القوم: ما أحسن ما قال حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل فقال الحجاج: يا جهلة إنه سمّاني ظالما مشركا وتلا لهم قوله تعالى: «وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» «ثم الذين كفروا بربهم يعدلون» .
(تَحَرَّوْا رَشَداً) أي قصدوا هداية وطلبوها باجتهاد وفيه التحرّي في الشيء يقال حرى الشيء يحريه أي قصد حراه أي جانبه وتحرّاه كذلك. كذلك قال الراغب والذي في المعاجم أن حرى الشيء نقص.
(غَدَقاً) الغدق بفتح الدال وكسرها لغتان في الماء الغزير ومنه الغيداق للماء الكثير وللرجل الكثير العدو والكثير النطق وفي المصباح:
«غدقت العين غدقا من باب تعب كثر ماؤها فهي غدقة وفي التنزيل:
لأسقيناهم ماء غدقا أي كثيرا وأغدقت إغداقا كذلك وغدق المطر غدقا وأغدق إغداقا مثله وغدقت الأرض تغدق من باب ضرب إذا ابتلت بالغدق» .
(صَعَداً) بفتح الصاد والعين مصدر صعد بكسر العين كفرح.
(لِبَداً) بكسر اللام وقرىء بفتحها فهما لغتان جمع لبدة بكسر اللام كسدرة وسدر على اللغة وعلى اللغة الثانية كغرفة وغرف وفي المختار: «اللبد بوزن الجلد واحد اللبود واللبدة أخصّ منه قلت(10/240)
وجمعها لبد ومنه قوله تعالى: كادوا يكونون عليه لبدا» وعبارة القرطبي:
«قال مجاهد لبدا أي جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا فقد لبدته ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد ويقال للجراد الكثير لبد وفيه أربع لغات وهي قراءات: بفتح الباء وكسر اللام وهي قراءة العامة وضم اللام وفتح الباء وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام من أهل الشام واحدتها لبدة بضم اللام وكسرها وبضم اللام والباء وهي قراءة أبي حيان وأبي الأشهب والعقيلي والجحدري وأحدها لبد مثل سقف في سقف ورهن في رهن وبضم اللام وتشديد الباء المفتوحة وهي قراءة الحسن وأبي العالية والجحدري أيضا واحدها لا بدّ مثل راكع وركع وساجد وسجد» .
الإعراب:
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) وأنا عطف على ما تقدم وأن واسمها وجملة لا ندري خبرها وأشر فيه وجهان: الرفع بفعل مضمر على الاشتغال والثاني الرفع على الابتداء وجملة أريد هي الخبر والأول أرجح لتقدّم ما هو طالب للفعل وهو همزة الاستفهام وبمن متعلقان بأريد ونائب فاعل أريد مستتر وعلى الوجه الأول تكون جملة أريد مفسّرة لا محل لها وفي الأرض صلة من وأم حرف عطف معادلة وبهم متعلقان بأراد وربهم فاعل ورشدا مفعول به، وسيأتي مزيد من بحث هذه الآية في باب البلاغة (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) عطف أيضا ومنّا خبر مقدم والصالحون مبتدأ مؤخر والجملة خبر أنّا ومنّا خبر مقدم ودون ظرف متعلق بمحذوف هو المبتدأ المؤخر والتقدير ومنّا فريق أو فوج دون ذلك وأجاز الأخفش وغيره أن تكون دون بمعنى غير أي ومنّا غير الصالحين وهو مبتدأ وإنما فتح(10/241)
لإضافته إلى غير متمكّن كقوله: لقد تقطع بينكم في قراءة من نصب على أحد الأقوال والأول أرجح وحذف الموصوف مع من التبعيضية كثير كقولهم منّا ظعن ومنّا أقام أي منّا فريق ظعن ومنّا فريق أقام، وذلك مضاف إليه (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) فيه أوجه أحدها أن التقدير كنّا ذوي طرائق أي ذوي مذاهب مختلفة، الثاني أن التقدير كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة، الثالث أن التقدير كنّا في طرائق مختلفة، الرابع أن التقدير: كانت طرائقنا قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه، وعلى كل حال كان واسمها وطرائق خبرها وقددا نعت، وعلى الوجه الثالث تكون طرائق منصوبة بنزع الخافض والجار والمجرور خبر كنّا، ولم يرتض أبو حيان هذا الوجه وقال: «وأما التقدير الثالث وهو أن ينتصب على إسقاط «في» فلا يجوز ذلك إلا في الضرورة وقد نصّ سيبويه على أن عسل الطريق شاذ فلا يخرج القرآن عليه» أراد أبو حيّان بعسل الطريق قول ساعدة ابن جؤية في وصف رمح:
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
والشاهد فيه قوله عسل الطريق حيث حذف حرف الجر ونصب الاسم الذي كان مجرورا به، وأصل الكلام عسل في الطريق وهو ضرورة (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) عطف أيضا وظننا فعل وفاعل وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة لن نعجز الله خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظننا وفي الأرض حال ولن نعجزه عطف على لن نعجز الله وهربا مصدر في موضع الحال تقديره لن نعجزه كائنين في الأرض أينما تنقلنا فيها ولن نعجزه هاربين إلى السماء موغلين فيها (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) عطف أيضا وأن واسمها ولما رابطة أو حينية وسمعنا فعل(10/242)
وفاعل والهدى مفعول به وجملة آمنّا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبه متعلق بآمنّا (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويؤمن فعل الشرط وفاعله هو وبربه متعلقان بيؤمن والفاء رابطة ولا نافية ويخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله هو وجملة لا يخاف خبر لمبتدأ محذوف أي فهو لا يخاف والجملة الاسمية المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط وبخسا مفعول به ولا رهقا عطف على بخسا، وسيأتي سبب رفع الفعل وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له في باب البلاغة (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) عطف على ما تقدم أيضا وأن واسمها ومنّا خبر مقدم والمسلمون مبتدأ مؤخر والجملة خبر أنّا ومنّا القاسطون عطف على منّا المسلمون (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وأسلم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وأولئك مبتدأ وجملة تحرّوا خبر ورشدا مفعول بهَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)
الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل والقاسطون مبتدأ والفاء واقعة في جواب الشرط غير الجازم وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها والجملة خبر القاسطون ولجهنم حال لأنه كان في الأصل صفة لحطبا وتقدمت وحطبا خبر كانوا والجملة خبر القاسطون (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) عطف أيضا على أنه استمع وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف أي وأوحي إليّ أن لو استقاموا، ولو شرطية وجملة استقاموا خبر أن وعلى الطريقة متعلقان باستقاموا واللام واقعة في جواب لو وأسقيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وماء مفعول به ثان وعذقا نعت لماء (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) اللام لام التعليل ونفتنهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأسقيناهم وفيه متعلقان بنفتنهم والمعنى لنختبرهم في الماء فنعلم علم(10/243)
ظهور للخلائق كيف يشكرون وكيف يكفرون وإلا فهو سبحانه عالم لا يخفى عليه شيء، والواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويعرض فعل الشرط وعن ذكر ربه متعلقان بيعرض ويسلكه جواب الشرط والهاء مفعول به أي يدخله وعذابا منصوب بنزع الخافض والأصل نسلكه في عذاب كقوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا، وصعدا نعت وصعدا مصدر صعد بكسر العين كفرح ووصف به العذاب على تأويله باسم الفاعل أي عذابا عاليا يغمره ويعلو عليه ويجتاحه (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) عطف على أنه استمع أي أوحي إليّ أن المساجد لله أي مختصّة به، وأن واسمها ولله خبرها والفاء عاطفة ولا ناهية وتدعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون ومع الله ظرف متعلق بتدعوا وأحدا مفعول تدعوا (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) عطف على أنه استمع أيضا وأن واسمها ولما رابطة أو ظرفية حينية متضمنة معنى الشرط وقام عبد الله فعل ماض وفاعل وجملة يدعوه حال أي داعيا والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلم أي مصليا صلاة الصبح أو مجرد العبادة ببطن نخلة، وجملة كادوا لا محل لها لأنها
جواب ولما وشرطها وجوابها خبر أنه وكاد من أفعال المقاربة والواو اسمها وجملة يكونون خبرها والواو في يكونون اسم يكون وعليه متعلقان بمحذوف حال ولبدا خبر يكونون.
البلاغة:
1- في قوله «وأنّا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا» اختلاف صورة الكلام لاختلاف الأحوال فإن ما قبل أم صورة من الكلام تخالف صورة ما بعدها لأن الأولى فيها فعل الإرادة مبني للمجهول والثانية فيها فعل الإرادة مبني للمعلوم والحال الداعي لذلك نسبة الخير إليه سبحانه في الثانية ومنع نسبة الشر إليه في الأولى(10/244)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قال ابن المنير: «ومن عقائدهم- أي الجن- إن الرشد والضلال جميعا مرادان لله تعالى بقولهم: وأنّا لا ندري «الآية» ولقد أحسنوا الأدب في ذكر إرادة الشر محذوفة الفاعل والمراد بالمريد هو الله عزّ وجلّ وإبرازهم لاسمه عند إرادة الخير والرشد فجمعوا بين العقيدة الصحيحة والآداب المليحة» وعبارة أبي حيان: «ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا: وأنا لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا، فيؤمنون به فيرشدون وحين ذكروا أشرّ لم يسندوه إلى الله تعالى وحين ذكروا الرشد أسندوه إليه تعالى» .
2- وفي قوله: «وأنّا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا» فن الإيضاح وقد تقدم القول فيه وأنه حلّ للإشكال الوارد في ظاهر الكلام وهو يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها ومعاني النفس دون الفنون وقد ذكرنا مفصلا في آل عمران فإن الظاهر جزم الاستغناء عن الفاء وجزم الفعل تفاديا من تقدير المبتدأ قبله ولكنه عدل عمّا هو الظاهر لفائدة وهي أنه إذا فعل ذلك فكأنه قيل فهو لا يخاف فكان دالّا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره، ومن جهة ثانية فإن الجملة الاسمية أدلّ وآكد من الفعلية على تحقيق مضمون الجملة.
[سورة الجن (72) : الآيات 20 الى 28]
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)(10/245)
اللغة:
(مُلْتَحَداً) : الملتحد: الملتجأ وقيل محيصا وقيل معدلا وعبارة القاموس: «وألحد إليه مال كالتحد والملتحد المتلجأ» وفي المصباح:
«والملتحد بالفتح اسم الموضع وهو الملجأ» .
(وَأَحْصى) أصل الإحصاء أن المحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد كالعشرة والمائة والألف وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العقد فينبي على ذلك حسابه.
الإعراب:
(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) كلام مستأنف مسوق للرد على الكفّار المتظاهرين عليه القائلين له: إنك قد أقدمت على أمر عظيم لم يخطر على بال غيرك الإقدام عليه فارفق بنفسك واصدف عنه ونحن نجيرك. وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على النبي عليه السّلام وإنما كافّة ومكفوفة وأدعو ربي فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول(10/246)
به والواو حرف عطف ولا نافية وأشرك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبه متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به وقرىء قل على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) كلام مستأنف أيضا مسوق للرد عليهم ولبيان عجزه عن شئون نفسه وأن الأمر كله بيد الله، وإن واسمها وجملة لا أملك خبرها ولكم متعلقان بضرّا وضرّا مفعول به ولا رشدا عطف على ضرّا وجملة إني لا أملك مقول القول (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) إن واسمها وجملة لن يجيرني خبر ومن الله متعلقان بيجيرني وأحد فاعل يجيرني ولن أجد عطف على لن يجيرني ومن دونه في موضع المفعول الثاني ليجدني وملتحدا هو المفعول الأول (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) إلا أداة استثناء، وبلاغا فيه أوجه: 1- أنه استثناء من مفعول أملك أي من مجموع الأمرين وهما ضرّا ورشدا بعد تأويلهما بشيئا كأنه قال لا أملك لكم شيئا إلا بلاغا فهو استثناء متصل، وعلى هذا ففي نصبه وجهان:
أولهما أنه بدل من ملتحدا لأن الكلام غير موجب وثانيهما النصب على الاستثناء.
2- أنه استثناء منقطع لأن البلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله: ولن أجد من دونه ملتحدا ولأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله وبإعانته.
3- أنه استثناء من قوله: لا أملك لكم ضرّا، وقدّره الزمخشري فقال: «أي لا أملك إلا بلاغا من الله وقل إني لن يجيرني جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه وبيان عجزه على معنى أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما لم يصحّ أن يجيره منه أحد أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه» واستبعد أبو حيان هذا الوجه، وفيما يلي نص عبارته لنفاستها: «إلا بلاغا قال الحسن هو(10/247)
استثناء منقطع أي لن يجيرني أحد لكن إن بلغت رحمتي بذلك، والإجارة للبلاغ مستعارة إذ هو سبب إجارة الله ورحمته وقيل على هذا المعنى هو استثناء متصل أي لن يجيرني أحد لكن لم أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني الله فيجوز نصبه على الاستثناء من ملتحدا وعلى البدل وهو الوجه لأن ما قبله نفي وعلى البدل خرجه الزجّاج وقال أبو عبد الله الرازي: هذا الاستثناء منقطع لأنه لم يقل ولم أجد ملتحدا بل قال من دونه والبلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله من دونه ملتحدا لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه، وقال قتادة: التقدير لا أملك إلا بلاغا إليكم فأما الإيمان والكفر فلا أملك انتهى وفيه بعد لطول الفصل بينهما وقيل إلا في تقدير الانفعال إن شرطية ولا نافية وحذف فعلها لدلالة المصدر عليه والتقدير إن لم أبلغ بلاغا من الله ورسالته وهذا كما تقول: إن لا قياما قعودا أي إن لم تقم قياما فاقعد قعودا وحذف هذا الفعل قد يكون لدلالته عليه بعده أو قبله كما حذف في قوله:
فطلقها فلست لها بكفء ... وإلا يعل مفرقك الحسام
والتقدير وإن لا تطلقها فحذف تطلقها لدلالة فطلقها عليه ومن لابتداء الغاية» واقتصر أبو البقاء على الاستثناء المنقطع لأنه من غير الجنس. ومن الله صفة لبلاغا ورسالاته عطف على بلاغا وقد اختاره الزمخشري وقال: «كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالة والمعنى إلا أن أبلغ عند الله فأقول قال الله كذا ناسبا قوله إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان» ورجح أبو حيان والسمين والكرخي أن يكون معطوفا على الله أي إلا عن الله وعن رسالاته وكلاهما سديد (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويعص فعل الشرط وفاعله مستتر(10/248)
تقديره هو ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف عليه والفاء رابطة للجواب وإن حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم ونار جهنم اسمها المؤخر وخالدين حال من الضمير في له والعامل في هذه الحال الاستقرار المحذوف وجمع خالدين حملا على معنى الجمع في من وفيها متعلق بخالدين وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين أيضا (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) حتى هنا حرف ابتداء أي يصلح أن يجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ومع ذلك فيها معنى الغاية قال الزمخشري: «فإن قلت بم تعلق حتى وجعل ما بعده غاية له؟ قلت: بقوله يكونون عليه لبدا على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة فسيعلمون حينئذ أنهم أضعف ناصرا وأقل عددا ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّت عليه الحال من استضعاف الكفّار له واستقلالهم لعدده كأنه قال: لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال المشركون متى يكون هذا الموعود إنكارا له فقيل: قل إنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه فإن الله قد وعد ذلك وهو لا يخلف الميعاد وأما وقته فما أدرى متى يكون لأن الله لم يبيّنه لما رأى في إخفاء وقته من المصلحة» وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة رأوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ورأوا فعل ماض وفاعل وما اسم موصول مفعول به وجملة يوعدون لا محل لها لأنها صلة الموصول والفاء رابطة للجواب والسين حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وهنا إشكال لم ينبّه عليه أحد ممّن تصدّوا لتفسير هذه الآية وإعرابها وهو أن السين حرف استقبال ووقت رؤية العذاب يحصل فور علم الضعيف من القوي والسين تقتضي أنه يتأخر عنه ولا مفر من هذا الإشكال إلا بجعل السين حرفا للتأكيد المجرد لا(10/249)
للاستقبال، هذا ويجوز تعليق حتى إذا بمحذوف دلّت عليه الحال من استضعاف الكفّار له واستقلالهم لعدده كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال المشركون متى يكون هذا الموعود إنكارا له فقيل لهم قيل أنه كائن لا ريب فيه فلا تنكروه فإن الله قد وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد وأما وقته فلا أدري متى يكون وعبارة الجلال «حتى إذا رأوا ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدّر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا ما يوعدون من العذاب فسيعلمون عند حلوله بهم» ومن يجوز أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء وأضعف خبره والجملة في موضع نصب سادّة مسدّ مفعولي يعلمون لأنها معلقة للعلم قبلها ويجوز أن تكون موصولة في محل نصب مفعول به وأضعف خبر لمبتدأ محذوف أي هو أضعف والجملة صلة ويكون العلم على هذا الوجه بمعنى العرفان فلا تحتاج لمفعولين وناصرا تمييز وأقل عددا عطف على أضعف ناصرا. هذا وقد أورد أبو حيان اعتراضا على هذا الإعراب الذي أوردناه ننقله بنصّه قال في معرض ردّه على الزمخشري:
«قوله بم تعلق إن عنى تعلّق حرف الجر فليس بصحيح لأنها حرف ابتداء فما بعدها ليس في موضع جر خلافا للزجّاج وابن درستويه فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر وإن عنى بالتعليق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها فهو صحيح وأما تقديره أنها تتعلق بقوله يكونون عليه لبدا فهو بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وقال التبريزي: حتى جاز أن تكون غاية لمحذوف ولم يبيّن ما المحذوف، وقيل: المعنى دعهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من الساعة فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا أهم أم أهل الكتاب؟ والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم بكينونة النار لهم كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار لهم والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته(10/250)
لهم فسيعلمون فقوله فإن له نار جهنم هو وعيد لهم بالنار ومن أضعف مبتدأ وخبر في موضع نصب لما قبله وهو معلق عنه لأن من استفهام ويجوز أن تكون موصولة في موضع نصب بسيعلمون وأضعف خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن وتقديره هو أضعف وحسن حذفه طول الصلة بالمعمول وهو ناصرا» (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإن نافية وأدري فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا والهمزة للاستفهام وقريب خبر مقدم وما توعدون مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام وما توعدون فاعل به أي أقرب الذي توعدون نحو أقائم أبواك، وما يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف وجملة توعدون صلة وأن تكون مصدرية فلا عائد وأم متصلة ويجعل فعل مضارع مرفوع وله في موضع المفعول الثاني وربي فاعل وأمدا مفعول يجعل الأول والجملة المعلقة بالاستفهام في محل نصب سدّت مسدّ مفعولي أدري (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) خبر لمبتدأ محذوف أي هو عالم ويجوز أن يعرب بدلا من ربي والفاء عاطفة لترتيب عدم الإظهار على تفرده بعلم الغيب على الإطلاق ولا نافية ويظهر فعل مضارع مرفوع وعلى غيبه متعلقان بيظهر وأحدا مفعول به (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) إلا أداة حصر والاستثناء منقطع أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي، ومن اسم موصول أو شرطية مبتدأ على كل حال وعلى الشرطية تكون جملة «فإنه» في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا أي إلا رسولا ارتضاه فتعرب من بدلا من أحد ومن بين يديه متعلقان بيسلك ومن خلفه عطف على من بين يديه ورصدا مفعول يسلك وجملة يسلك خبر إنه أي يسلك ملائكة رصدا (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) اللام(10/251)
لام التعليل ويعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيسلك غاية له من حيث أنه مترتب على الإبلاغ المترتب عليه، وعلّقه القرطبي بمحذوف وعبارته «وفيه حذف تتعلق به اللام أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ الرسالة، وأن محففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وقد حرف تحقيق وجملة أبلغوا رسالات ربهم خبر أن (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) عطف على مقدّر أي فعلم ذلك وأحاط فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وبما متعلقان بأحاط ولديهم ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وأحصى عطف على أحاط وكل شيء مفعول أحصى وعددا تمييز محول عن المفعول أي أحصى عدد كل شيء، وأعربه الزمخشري حالا وعبارته:
«وعددا حال أي وضبط كل شيء معدودا محصورا أو مصدر في معنى إحصاء» وبدأ أبو البقاء بالمصدرية وأجاز التمييز، وعبارة أبي حيان:
«عددا أي معدودا وانتصابه على الحالية من كل شيء وإن كان نكرة لاندراج المعرفة في العموم ويجوز أن ينتصب نصب المصدر لأحصى لأنه في معنى إحصاء» .
الفوائد:
شجر بين أهل السنّة والاعتزال خلاف حول كرامات الأولياء فقد قال الزمخشري بصدد الحديث عن قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا» بعد كلام طويل: «وفي هذا إبطال للكرامات لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطّلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط» .(10/252)
وتعقبه ابن المنير فقال: «ادعى عاما واستدل خاصا فإن دعواه إبطال الكرامات بجميع أنواعها والمدلول عليه بالآية إبطال اطّلاع الولي على الغيب خاصة ولا يكون كرامة وخارق العادة إلا الاطّلاع على الغيب لا غير وما القدرية إلا ولهم شبهة في إبطالها وذلك أن الله عزّ وجلّ لا يتخذ منهم وليّا أبدا وهم لم يحدثوا بذلك عن أشياعهم قطّ فلا جرم أنهم يستمرون على الإنكار ولا يعلمون أن شرط الكرامة الولاية وهي مسلوبة عنهم اتفاقا أما سلب الإيمان فمسألة خلاف.... وهو يريد الكرامة لأنه لم يؤتها» .
ونحا القرطبي نحوا آخر فقال: «قال العلماء لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم» ثم ذكر استدلالا على بطلان ما يقوله المنجم ثم قال باستحلال دم المنجم.
وقال الواحدي: «في هذا دليل على أن من ادّعى أن النجوم تدل على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن» .
وقال أبو عبد الله الرازي: «والواحدي تجوز الكرامات على ما قال صاحب الكشاف بجعلها تدل على المنع من الأحكام النجومية ولا تدل على الإلهامات مجرد تشبه، وعندي أن الآية لا تدل على شيء مما قالوه لأن قوله: على غيبه ليس فيه صفة عموم» إلى أن يقول: «واعلم أنه لا بدّ من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطّلع أحد على شيء من المغيبات إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام والذي يدل عليه وجوه:(10/253)
أحدها: أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلّى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرّف أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وثانيها: إطباق الأمم على صحة علم التعبير فيخبر المعبر عمّا يأتي في المستقبل ويكون صادقا.
وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها فقد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك، وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال: فحصت عن حالها منذ ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخبارا مطابقة موافقة.
ورابعها: أنّا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة وليس هذا مختصا بالأولياء فقد يوجد في السحرة وفي الأخبار النجومية ما يوافق الصدق وإن كان الكذب يقع منهم كثيرا وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن بالقرآن وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه» .
وتعقبه أبو حيان فقال: «وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكر من تلك الوجوه، أما قصة شق وسطيح فليس فيها شيء من الإخبار بالغيب لأنه فما يخبر به رئي الكهان من الشياطين مسترقة السمع كما جاء في الحديث أنهم يسمعون وبل الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة وتزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة(10/254)
وليس هذا من علم الغيب إذ تكلمت به الملائكة وتلقفها الجنّي وتلقفها منه الكاهن فالكاهن لم يعلم الغيب، وأما تعبير المنامات فالمعبر غير المعصوم لا يعبّر بذلك على سبيل القطع والبت بل على سبيل الحزر والتخمين فقد يقع ما يعبر وقد لا يقع، وأما الكاهنة البغدادية وما حكي عنها فحسبه عقلا أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه ليس عليه هذا وهو العالم المصنّف الذي طبق ذكره الآفاق وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف، وأما حكايته عن صاحب المعتبر فهو يهودي أظهر الإسلام وهو منتحل طريقة الفلاسفة، وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة فلي من العمر نحو من ثلاث وسبعين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح ولم أر أحدا منهم صاحب إلهام صادق، وأما الكرامات فإني لا أشك في صدور شيء منها لكن ذلك على سبيل الندرة وذلك فيما سلف من صلحاء هذه الأمة وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامة ولله تعالى أن يخصّ من شاء بما شاء» .(10/255)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
(73) سورة المزّمل مكيّة وآياتها عشرون
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)(10/256)
اللغة:
(الْمُزَّمِّلُ) المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي ونحوه المدّثر في المتدثر، يقال تزمّل في ثوبه التفّ وزمل لف قال امرؤ القيس:
كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل
وقال ذو الرمّة:
وكائن تخطّت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن ليلها متزمل
وفي المصباح «زملته بثوبه تزميلا فتزمل مثل لففته فتلفف، وزملت الشيء حملته، ومنه قيل للبعير زاملته بالهاء للمبالغة لأنه يحمل متاع المسافر» وسيأتي المزيد من معناه في باب الفوائد.
(ناشِئَةَ اللَّيْلِ) القيام بعد النوم فهي صفة لمحذوف أي إن النفس الناشئة بالليل التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي ترتفع وتنهض من نشأت السحابة إذا ارتفعت وقيل أنها مصدر بمعنى القيام من نشأ إذا قام ونهض فتكون كالعاقبة وفي المختار: «وناشئة الليل أول ساعاته وقيل ما ينشأ فيه من الطاعات» .
(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) انقطع إليه وتبتيلا مصدر على غير المصدر وهو واقع موقع التبتل لأن مصدر تفعّل تفعلا، نحو تصرف تصرفا وتكرم تكرما وأما التبتيل فمصدر تبل نحو صرف تصريفا قال في الخلاصة:
وغير ذي ثلاثة مقيس ... مصدره كقدس التقديس
قال في الكشاف: «فإن قلت كيف قيل تبتيلا مكان تبتلا قلت:
لأن معنى تبتل بتل نفسك فجيء به على معناه مراعاة لحق الفواصل»(10/257)
وعبارة أبي البقاء: «قوله تعالى تبتيلا مصدر على غير المصدر واقع موقع تبتل وقيل المعنى بتل نفسك تبتيلا» .
(النَّعْمَةِ) بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرّة.
(أَنْكالًا) قيودا ثقالا جمع نكل بكسر النون.
(كَثِيباً) رملا مجتمعا.
(مَهِيلًا) سائلا بعد اجتماعه وهو من هال يهيل وهو اسم مفعول أصله مهيول استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الهاء وحذفت الواو ثاني الساكنين لزيادتها وقلبت الضمة كسرة لمجانسة الياء وفي المختار «هال الدقيق في الجراب صبّه من غير كيل وكل شيء أرسله إرسالا من رمل أو تراب أو طعام ونحوه فقد هاله فانهار أي جرى وانصبّ وبابه باع وأهال لغة فيه فهو مهال ومهيل» .
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) يا حرف نداء وأيها منادى مبني على الضم لأنه نكرة مقصودة والهاء للتنبيه والمزمل بدل أو نعت وقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والليل ظرف لقم وإن استغرقه الحدث الواقع فيه وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من الليل وفيه دليل على أن المستثنى قد يكون مبهم المقدار (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) جوّز المعربون في نصفه أن يكون بدلا من الليل ومن قليلا فإذا كان بدلا من الليل كان الاستثناء منه وكان المأمور بقيامه نصف الليل إلا قليلا منه والضمير في منه وعليه عائد على النصف فيصير المعنى قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص من نصف الليل قليلا أو زد على نصف الليل فيكون قوله أو أنقص من نصف الليل قليلا تكرارا لقوله إلا قليلا من نصف(10/258)
الليل وذلك تركيب غير فصيح ينزّه القرآن عنه. قال الزمخشري: «نصفه بدل من الليل وإلا قليلا استثناء من النصف كأنه قال: قم أقل من نصف والضمير في منه وعليه للنصف والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البتّ وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه» وقال أبو حيان تعقيبا على إعراب الزمخشري: «فلم ينتبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول لأنه على تقديره قم أقل من نصف الليل كان أو أنقص من نصف الليل تكرارا، وإذا كان نصفه بدلا من قوله إلا قليلا فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو الليل لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول إذ التقدير إلا قليلا نصف القليل وهذا لا يصح له معنى البتة وإن عاد الضمير على الليل فلا فائدة من الاستثناء من الليل إذ كان يكون أخصر وأوضح وأبعد عن الالتباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه وقد أبطلنا قول من قال: إلا قليلا استثناء من البدل وهو نصفه وإن التقدير قم الليل نصفه إلا قليلا منه أي من النصف وأيضا ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليلا وأن الضمير في نصفه عائد على الليل إطلاق القليل على النصف ويلزم أيضا أن يصير التقدير إلا نصفه فلا تقمه أو أنقص من النصف الذي لا تقومه أو زد عليه النصف الذي لا تقومه وهذا معنى لا يصحّ وليس المراد من الآية قطعا» وقال الزمخشري أيضا «وإن شئت جعلت نصفه بدلا من قليلا وكان تخييرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه وإنما وصف النصف بالقلّة بالنسبة إلى الكل وإن شئت قلت: لما كان معنى قم الليل إلا قليلا نصفه إذا أبدلت النصف من الليل قم أقل من نصف الليل رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف فكأنه قيل: قم أقل من نصف الليل وقم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه(10/259)
وبين الثلث ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا وفسّرته به أن تجعل قليلا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قيل أو أنقص منه قليلا نصفه وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل أو زد عليه قليلا نصفه ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث فتكون تخييرا بين النصف والثلث والربع» . وتعقبه أبو حيان كعادته فقال: «وما أوسع خيال هذا الرجل فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد والقرآن لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب» وممّن نصّ على جواز أن يكون نصفه بدلا من الليل أو من قليلا الزمخشري كما ذكرنا عنه وابن عطية أورده مورد الاحتمال وأبو البقاء قال: «أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلا من قليلا أو زد عليه والهاء فيهما للنصف فلو كان الاستثناء من النصف صار التقدير قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص منه قليلا والقليل المستثنى غير مقدّر فالنقصان منه لا يتحصل» وأما الخوفي فأجاز أن يكون بدلا من الليل ولم يذكر غيره.
وقال ابن عطية: «وقد يحتمل عندي قوله إلا قليلا أنه استثناء من القيام فيجعل الليل اسم جنس» ثم قال: «إلا قليلا، أي الليالي التي تخل بقيامها عند العذر البيّن وهذا النظر يحسن مع القول بالندب» . وقال أبو حيان معقّبا: «وهذا خلاف الظاهر وقيل المعنى أو نصفه كما تقول أعطه درهما درهمين ثلاثة تريد أو درهمين أو ثلاثة وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه» أو قال التبريزي: «الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قال قم الليل إلا قليلا ثم جعل نصفه بدلا من قليلا فصار القليل مفسّرا بالنصف من الثلثين وهو قليل من الكل فقوله أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلث قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه أي على الثلثين فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أو عاطفة(10/260)
للتخيير أي بين قيام نصف الليل وبين الزائد عليه إلى الثلثين وبين الناقص عنه إلى الثلث، وزد فعل أمر وعليه متعلقان بزد ورتل القرآن فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وترتيلا مفعول مطلق (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) الجملة اعتراض بين الأمر بقيام الليل وبين تعليله بقوله الآتي: إن ناشئة الليل إلخ وقيل مستأنفة وعبارة الزمخشري: «وهذه الآية اعتراض ويعني بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين وخاصة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه متحملها بنفسه ومحملها أمته فهي أثقل عليه وأبهظ له، وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن لأن الليل وقت السبات والراحة والهدوء فلا بدّ لمن أحياه من مضادة لطبعه ومجاهدة لنفسه» وإن واسمها وجملة سنلقي خبرها وعليك متعلقان بنلقي وقولا مفعول به وثقيلا نعت أي كلاما عظيما جليلا مهيبا ذا خطر وكل شيء له خطر ومقدار فهو ثقيل (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا) الجملة تعليل لما تقدم وإن واسمها وهي ضمير فصل أو مبتدأ وأشدّ خبر إن أو خبر هي والجملة خبر إن ووطئا تمييز وأقوم عطف على أشد وقيلا تمييز أي قولا (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) إن حرف مشبه بالفعل ولك خبر إن المقدّم وفي النهار حال لأنه كان في الأصل صفة لسبحا وسبحا اسم إن وطويلا اسمها المؤخر، وسيأتي معنى السبح في باب البلاغة (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) عطف على ما تقدم واسم ربك مفعول اذكر أي دم عليه ليلا ونهارا على أيّ حال ووجه وتبتل فعل أمر وإليه متعلقان به وتبتيلا مفعول مطلق (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) رب المشرق يقرأ بالرفع فهو خبر لمبتدأ محذوف ويقرأ بالجر على أنه بدل من ربك والقراءتان سبعيتان ولا إله إلا هو تقدم إعراب الشهادة في البقرة، والفاء الفصيحة أي إن عرفت ذلك(10/261)
وآمنت به فاتخذه، واتخذه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول ووكيلا مفعول به ثان (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) عطف على ما تقدم واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره هو وعلى ما متعلقان باصبر وجملة يقولون صلة ما واهجرهم عطف على اصبر وهجرا مفعول مطلق وجميلا نعت (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) عطف أيضا وذرني فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به والمكذبين مفعول معه أو عطف على المفعول به والمعنى أنا أكفيك أمرهم فلا تأس ولا تحزن، وأولي النعمة نعت للمكذبين، ومهّلهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وقليلا نعت لمصدر محذوف أو ظرف أي قليلا من الزمن (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً) إن حرف مشبّه بالفعل ولدينا ظرف متعلق بمحذوف خبرها المقدم وأنكالا اسمها المؤخر وجحيما عطف على أنكالا (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) عطف على أنكالا وذا غصة نعت وهو الزقوم أو الضريع يغصّ به في الحلق
وعذابا عطف أيضا (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) الظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لدينا ولك أن تعلقه بمحذوف نعت لعذابا أي عذابا واقعا يوم ترجف وجملة ترجف الأرض في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو حرف عطف وكانت الجبال كان واسمها وكثيبا خبرها ومهيلا نعت لكثيبا.
البلاغة:
1- في الآيات المتقدمة يبدو الطباق واضحا بين المشرق والمغرب.
2- وفي قوله «إن لك في النهار سبحا طويلا» استعارة تصريحية، فالسبح مصدر سبح وقد استعير من السباحة في الماء للتصرّف في مناحي العيش وحوائج الناس أي إن لك في النهار تصرفا وتقلبا في(10/262)
المهمات كما يتردد السابح في الماء قال الشاعر:
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وقرىء سبخا بالخاء المعجمة ومعناه خفه من التكاليف، والتسبيخ التخفيف وهو استعارة من سبخ الصوف إذا نفشه ونشر أجزاءه ومعناه انتشار الهمّة وتفرّق الخاطر في الشواغل ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبيخة ومنه قول الأخطل:
فأرسلوهنّ يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار
الفوائد:
اختلفت أقوال المفسرين في هذا الخطاب على ثلاثة أقوال:
1- قال عكرمة يا أيها المزمّل بالنبوّة والمتدثّر بالرسالة وعنه أيضا: يا أيها الذي زمّل هذا الأمر أي حمله ثم فتر.
2- قال ابن عباس: يا أيها المزمّل بالقرآن.
3- قال قتادة: يا أيها المزمّل بثيابه، وكان هذا في ابتداء ما أوحي إليه فإنه صلّى الله عليه وسلم لما جاءه الوحي في غار حراء رجع إلى خديجة زوجه يرجف فؤاده فقال: زمّلوني زمّلوني لقد خشيت على نفسي أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة وكل ذلك من الشيطان وأن يكون الذي ظهر بالوحي ليس الملك فقالت له خديجة وكانت وزيرة صدق كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك تصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
وقيل أنه صلّى الله عليه وسلم كان نائما في الليل متزمّلا في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة التي كان عليها من التزمّل في(10/263)
قطيفته، وقد تشبث الزمخشري بهذا الرأي وقال عبارة بليغة في حدّ ذاتها ولكنه أساء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وننقل فيما يلي عبارته وتعقيب ابن المنير عليها لطرافتهما ولكونهما من الأدب الرفيع:
قال الزمخشري: «وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم نائما بالليل متزمّلا في قطيفته فنودي بما يهجن إليه الحالة التي كان عليها من التزمّل في قطيفته واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمّه أمر ولا يعنيه شأن، ألا ترى إلى قول ذي الرمّة:
وكائن تخطّت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن ليلها متزمّل
يريد الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ولا يحمل نفسه المشاق والمتاعب ونحوه:
فأتت به حوش الفؤاد مبطنا ... سهدا إذا ما نام ليل الهوجل
وفي أمثالهم:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
فذمّه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجدّ والكيس وأمر بأن يختار على الهجود التهجد، وعلى التزمّل التشمّر والتخفّف للعبادة والمجاهدة في الله لا جرم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد تشمّر لذلك مع أصحابه حق التشمّر وأقبلوا على إحياء لياليهم ورفضوا له الرقاد والدعة وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم وظهرت السيما في وجوههم وترامى أمرهم إلى حد رحمهم له ربهم فخفف عنهم» ولعمري لقد أنصف الزمخشري النبي وأصحابه ووصف عبادتهم وإنضاء نفوسهم وصفا يليق بهم بيد أن العبارات الأولى موهمة قليلا لذلك أخذها عليه ابن المنير بقوله:(10/264)
«أما قوله الأول أن نداءه تهجين للحالة التي ذكر أنه كان عليها واستشهاده بالأبيات المذكورة فخطأ وسوء أدب ومن اعتبر عادة خطاب الله تعالى له في الإكرام والإجلال علم بطلان ما تخيله الزمخشري فقد قال العلماء أنه لم يخاطب باسمه نداء وإن ذلك من خصائصه دون سائر الرسل إكراما له وتشريفا فأين نداؤه بصيغة مهجنة من ندائه باسمه واستشهاده على ذلك بأبيات قيلت ذمّا في جفاة حفاة من الرعاة فأنا أبرأ إلى الله من ذلك وأربأ به صلّى الله عليه وسلم» ولقد ذكرت بقوله «أوردها سعد وسعد مشتمل» ما وقفت عليه من كلام ابن خروف النحوي يردّ على الزمخشري ويخطىء رأيه في تصنيفه المفصل وإجحافه في الاختصار بمعاني كلام سيبويه حتى سمّاه ابن خروف البرنامج وأنشد عليه:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
أقول: ولا مندوحة عن القول أن ابن المنير قد تجنى على الزمخشري كثيرا وتجاهل ما أورده من الوصف الممتع الدقيق لتشميره صلّى الله عليه وسلم وعبادته ولكن إيراد الأبيات التي قيلت في الذم بهذا الصدد خطأ وقع فيه الزمخشري وربّ خطأ نشأ عن صواب ولا بأس بعد هذا من إيراد عبارة السهيلي بهذا الصدد فقد بلغ بها الغاية في التعليل والتأويل والتلطف في التحليل قال: «ليس المزمّل باسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام يعرف به وإنما هو مشتق من حالته التي كان التبس بها حالة الخطاب والعرب إذا قصدت الملاطفة بالمخاطب تترك المعاتبة نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبي صلّى الله عليه وسلم لعلي كرّم الله وجهه: وقد نام ولصق بجنبه التراب: قم أبا تراب إشعارا بأنه ملاطف له فقوله يا أيها المزمّل فيه تأنيس وملاطفة» .(10/265)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
[سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 20]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
اللغة:
(وَبِيلًا) ثقيلا شديدا من قولهم كلأ وبيل وضم لا يستمرأ لثقله والوبيل العصا الضخمة ومنه الوابل للمطر العظيم وفي المصباح:
«وبلت السماء وبلا من باب وعد ووبولا اشتد مطرها وكان الأصل وبل(10/266)
مطر السماء فحذف للعلم به ولهذا يقال للمطر وابل والوبيل الوضيم وو معنى» .
الإعراب:
(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا) كلام مستأنف مسوق لخطاب أهل مكة على طريق الالتفات مر الغيبة في قوله واصبر على ما يقولون وقوله والمكذبين، وإن واسمها وجملة أرسلنا خبرها وإليكم متعلقان بأرسلنا ورسولا مفعول به وشاهد نعت لرسولا وعليكم متعلقان بشاهدا وكما نعت لمصدر محذوف أي إرسالا كإرسالنا إلى فرعون رسولا وما مصدرية وجملة أرسلنا لا محل لها وإلى فرعون متعلقان بأرسلنا ورسولا مفعول به وإنما خصّ موسى وفرعون بالذكر لأن أخبارهما كانت منتشرة بمكة (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) الفاء عاطفة وعصى فرعون الرسول فعل ماض وفاعل ومفعول به وإنما عرف الرسول لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت معرفة بأل العهدية والعرب إذا قدّمت اسما ثم حكت عنه ثانيا أتوا به معرّفا بأل وأتوا بضميره لئلا يلتبس بغيره نحو رأيت رجلا فأكرمت الرجل ولو قلت فأكرمت رجلا لتوهم أنه غير الأول وسيأتي تحقيق هذا عند قوله: إن مع العسر يسرا وقوله صلّى الله عليه وسلم لن يغلب عسر يسرين، وعبارة أبي البقاء: «إنما أعاده بالألف واللام ليعلم أنه الأول فكأنه قال فعصاه فرعون» فأخذناه عطف على فعصى وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وأخذا مفعول مطلق ووبيلا نعت (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وتتقون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإن شرطية وكفرتم فعل ماض وفاعل في محل جزم فعل الشرط والجواب(10/267)
محذوف دلّ عليه ما قبله أي فكيف تتقون ويوما مفعول تتقون أي فكيف تقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر ولم تؤمنوا وتعملوا صالحا ويجوز أن يكون ظرفا أي فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم قاله الزمخشري وردّ عليه السمين بأنه لا يجوز أن ينتصب ظرفا لأنهم لا يكفرون في ذلك اليوم بل يؤمنون فيه لا محالة ويجوز أن ينتصب بنزع الخافض أي إن كفرتم بيوم القيامة. وجملة يجعل صفة ليوما والولدان مفعول به أول وشيبا مفعول به ثان، وسيأتي مزيد من معنى هذا الوصف في باب البلاغة (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) الجملة صفة ثانية ليوما والسماء مبتدأ ومنفطر به خبر وقد يسأل سائل لم لم تؤنّث الصفة فيقال منفطرة ويجاب بأجوبة منها أن هذه الصيغة صيغة نسب أي ذات انفطار نحو امرأة مرضع وحائض أي ذات إرضاع وذات حيض ومنها أنها لم تؤنّث لأن السماء بمعنى السقف قال تعالى: وجعلنا السماء سقفا محفوظا، قال الزمخشري: «وصف لليوم بالشدّة أيضا وإن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق والمعنى ذات انفطار أو على تأويل السماء بالسقف والباء في به مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به» فتكون على رأي الزمخشري للاستعانة وقيل سببية، وقال القرطبي إنها بمعنى في والجميع سواء.
وكان فعل ماض ناقص ووعده اسمها ومفعولا خبرها والوعد مصدر مضاف لفاعله فيكون الضمير في به عائدا على الله تعالى ويجوز أن يعود على اليوم فيكون الوعد مصدرا مضافا إلى مفعوله أي وعد يوم القيامة والفاعل محذوف (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) إن واسمها والإشارة إلى الآيات الناطقة بالوعد والوعيد وتذكرة خبرها والفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف تقديره فمن شاء النجاة، واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وإلى ربه حال(10/268)
لأنه كان في الأصل صفة لسبيلا وسبيلا مفعول اتخذ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) جملة مستأنفة مسوقة لإيضاح ما أجمل في أول السورة وإن واسمها وجملة يعلم خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يعلم والكاف اسم أن وجملة تقوم خبر أنك وأدنى ظرف زمان أي وقتا أدنى ومن ثلثي الليل متعلقان بأدنى وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة إذا دنت بين الشيئين قلّ ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) أوضح الزمخشري هذا الإعراب بقوله: «وقرىء ونصفه وثلثه بالنصب على أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف والثلث وهو مطابق لما مرّ في أول السورة من التخيير بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين وقرىء ونصفه وثلثه بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث وهو مطابق للتخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين والثلث وهو أدنى من النصف والربع وهو أدنى من الثلث وهو الوجه الأخير» (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) الواو حرف عطف وطائفة عطف على ضمير تقوم وجاز من غير تأكيد للفصل وقيام طائفة من أصحابه كذلك للتأسّي به ومنهم من كان لا يدري كم صلّى من الليل وكم بقي منه فكان يقوم الليل كله احتياطا فقاموا حتى انتفخت أقدامهم سنة أو أكثر فخفّف الله عنهم، ومن الذين صفة لطائفة ومعك ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يقدّر الليل والنهار خبر (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) علم فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة لن تحصوه خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي علم والضمير في تحصوه قال الزمخشري «المصدر يقدّر أي علم أنه لا يصحّ منك ضبط الأوقات ولا يتأتى حسابها بالتعديل والتسوية إلا أن تأخذوا بالأوسع(10/269)
للاحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم» وهذا أحسن من قول الجلال وغيره يعود إلى الليل لأنه المحدّث عنه أول السورة وإن كان المعنى واحدا. فتاب عطف على علم وعليكم متعلقان بتاب والفاء عاطفة واقرءوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به وجملة تيسر صلة ومن القرآن متعلقان به (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) الجملة مستأنفة وأن مخففة من الثقيلة أي أنه وجملة سيكون خبرها ومنكم خبر يكون المقدّم ومرضى اسمها المؤخر وآخرون مبتدأ ومنكم حال وجملة يضربون في الأرض خبر أي يسافرون (يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) جملة يبتغون حالية من الضمير في يضربون ومن فضل الله متعلقان بيبتغون وآخرون مبتدأ وجملة يقاتلون في سبيل الله خبر وهذه الفرق الثلاث يشقّ عليهم ما ذكر من قيام الليل (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) الفاء عاطفة واقرءوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به وجملة تيسر صلة ومنه متعلقان بتيسر، وأقيموا الصلاة فعل أمر وفاعل ومفعول به وآتوا الزكاة عطف على أقيموا الصلاة (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) وأقرضوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول وقرضا مفعول مطلق وحسنا نعت والواو عاطفة
وما شرطية في محل نصب مفعول مقدم لتقدموا وتقدموا فعل الشرط ولأنفسكم متعلقان بتقدموا ومن خير حال وتجدوه جواب الشرط وعند الله ظرف لتجدوه وهو ضمير فصل أو تأكيد للضمير، ووهم أبو البقاء فيجاز أن يكون بدلا من الهاء ولو كان بدلا لطابق في النصب فكان يكون إياه. وخيرا مفعول به ثان لتجدوه وأعظم عطف على خيرا وأجرا تمييز وجاز أن يكون هو فصلا وإن لم يقع بين معرفتين لأنه وقع بين معرفة ونكرة ولكن النكرة يشبه المعرفة لامتناعه من التعريف بأداة التعريف ووجه امتناعه من التعريف بها أنه اسم تفضيل ولا يجوز دخول أل عليه إذا كان معه «من»(10/270)
لفظا أو تقديرا وهنا «من» مقدرة أي خيرا مما خلفتم (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عطف على ما تقدم وإن واسمها وخبراها جملة اسمية تعليلية للاستغفار أي استغفروه في جميع أحوالكم فإن الإنسان مستهدف للتفريط.
البلاغة:
في قوله «يوما يجعل الولدان شيبا» مجاز إسنادي كناية عن شدة الهول، يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال وأصله أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت في الإنسان واستحوذت عليه أسرع فيه الشيب، وقد تعلق أبو الطيب بأهداب هذا المجاز فقال:
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم
الفوائد:
قرأ أبو الشمائل وابن السميقع: هو خير، برفعهما على الابتداء والخبر، قال أبو زيد هو لغة بني تميم يرفعون ما بعد الفاصلة يقولون:
كان زيد هو العاقل بالرفع فهذا البيت لقيس بن ذريح وهو:
تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر
قال أبو عمرو الجرمي: أنشد سيبويه هذا البيت شاهدا للرفع والقوافي مرفوعة قلت وبهذا يتخرج بيت أبي نواس الذي لحنه بعضهم، وهو:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء(10/271)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
(74) سورة المدّثر مكيّة وآياتها ستّ وخمسون
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 31]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31)(10/272)
اللغة:
(الْمُدَّثِّرُ) لابس الدثار وهو ما فوق الشعار أي الثوب الذي يلي الجسد وأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال كما تقدم في المزمل أي المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه، روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض، يعني الملك الذي ناداه، فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني فنزل جبريل وقال يا أيها المدثر.
(الرُّجْزَ) بكسر الراء وهي قراءة الجمهور وقرأ حفص ومجاهد والسلمي وغيرهم بضمها فقيل هما بمعنى واحد يراد بهما الأصنام والأوثان، وقيل: الكسر لتبيين النقائض والفجور والضم لضمين أساف(10/273)
ونائلة وقال الحسن كل معصية والمعنى في الأمر اثبت ودم على هجره لأنه صلّى الله عليه وسلم كان بريئا منه، وقال النخعي الإثم، وقال القتبي: العذاب أي اهجر ما يؤدي إليه، وأخذ به الزمخشري قال:
«والرجز بالكسر والضم وهو العذاب ومعناه اهجر ما يؤدي إليه من عبادة الأوثان وغيرها من المآثم. والمعنى الثبات على هجره لأنه كان بريئا منه» . وفي القاموس «الرجز بالكسر والضم القذر وعبادة الأوثان والشرك» والزاي منقلبة عن السين والعرب تعاقب بينهما والمعنى واحد.
(النَّاقُورِ) النقر الصوت قال الشاعر:
أخفضه بالنقر لما علوته ... ويرفع طرفا غير خاف غضيض
والناقور فاعول منه كالجاسوس مأخوذ من التجسس والمراد هنا الصور وهو القرن.
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد في الأصل التسوية والتهيئة ويتجوز به عن بسط المال والجاه، قال في الكشاف: «وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه» .
(عَبَسَ) يعبس عبسا وعبوسا قطب وجهه وبابه جلس والعبس ما يبس في أذناب الإبل من البعر والبول.
(بَسَرَ) بسر يبسر بسرا وبسورا إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء واسود وجهه منه وبابه دخل ويقال وجه باسر أي منقبض أسود وقال الراغب: «البسر استعجال الشيء قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته: طلبها في غير أوانها، وماء بسر: متناول من غدير قبل سكونه، ومنه قيل للذي لم يدرك من الثمر بسر وقوله تعالى: (عَبَسَ وَبَسَرَ) أي أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته فإن قيل: فقوله تعالى: «ووجوه يومئذ باسرة» ليس يفعلون ذلك قبل الوقت وقد قلت إن ذلك فيما يقع قبل(10/274)
وقته قيل أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء إلى النار فحص لفظ البسر تنبيها على أن ذلك مع ما ينالهم منه يجري مجرى التكليف ومجرى ما يفعل قبل وقته ويدل على ذلك قوله تظن أن يفعل بها فاقرة» .
(سَقَرَ) اسم من أسماء جهنم وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث.
(لَوَّاحَةٌ) محرقة لظاهر الجلد وهي بناء مبالغة وفيها معنيان أحدهما من لاح يلوح أي ظهر أي أنها تظهر للبشر وثانيهما وهو الأرجح أنها من لوّحه أي غيّره وسوّده، وعبارة الزمخشري: «لواحة من لوح الهجير قال:
تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر
قيل تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل والبشر عالي الجلود.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) تقدم إعراب يا أيها المدثر في يا أيها المزمل، وقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت فأنذر عطف على قم. وقال الزجاج: «إن الفاء في فكبر دخلت على معنى الجزاء كما دخلت في فأنذر قال ابن جني: هو كقولك زيدا فاضرب أي زيدا اضرب فالفاء زائدة» . والواو عاطفة وربك مفعول به مقدم والفاء رابطة لشرط مقدر يقتضيه السياق كأنه قيل وأيا ما كان فلا تدع تكبيره ونحوه قولك زيدا فاضربه، قال النحاة تقديره تنبه فاضرب زيدا فالفاء جواب الأمر إما على أنه مضمن معنى الشرط وإما على أن الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عندهم، وكبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت. (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) الواو عاطفة وثيابك مفعول مقدم(10/275)
والفاء تقدم القول فيها قريبا، وطهر فعل أمر. (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) عطف أيضا على ما تقدم. (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمنن فعل مضارع مجزوم بلا وتستكثر فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة نصب على الحال أي ولا تعط مستكثرا، وقرىء مجزوما على أنه جواب النهي أو على البدلية من تمنن والتقدير على جعله جوابا للنهي أي أنك إن لا تمنن بعملك أو بعطيتك تزدد من الثواب لسلامة ذلك من الإبطال بالمن على حد قوله تعالى: «لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى» ووجه الإبدال أنه كقوله تعالى: «ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب» ، وفي قراءة من جزم بدلا من قوله يلق وكقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) الواو عاطفة ولربك متعلقان باصبر. (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) الفاء للتسبيب والعلة كأنه قال اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه مغبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وهو متعلق بما يدل عليه الإشارة في قوله فذلك لأنه إشارة إلى النقر ويجوز أن يتعلق بما دل عليه عسير ولا يعمل فيه عسير نفسه لأن الصفة لا تعمل فيما قبلها والتقدير اشتد الأمر وعسر، ونقر فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي إسرافيل.
والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي الناقور متعلقان بنقر.
(فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) الفاء رابطة لجواب إذا وذلك مبتدأ والإشارة إلى وقت النقر ويومئذ بدل من ذلك وبني لإضافته إلى غير متمكن وهو إذ والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ نفخ في الصور، ويوم خبر المبتدأ وعسير نعت. (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) على الكافرين متعلقان بعسير وغير يسير نعت ثان ليوم، وللزمخشري تعليل طريف قال: «فإن(10/276)
قلت فما فائدة قوله غير يسير وعسير مغن عنه، قلت لما قال على الكافرين فقصر العسر عليهم قال غير يسير ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هنيا ليجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا» . (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ذرني فعل أمر والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول ومن الواو للمعية ومن مفعول معه ويجوز أن تكون الواو عاطفة ومن معطوفة على المفعول في ذرني وجملة خلقت صلة الموصول والعائد محذوف أي خلقته، ووحيدا حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير النصب في ذرني أو من التاء في خلقت أي خلقته وحيدا لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه ولا أحتاج إلى نصير، قيل الأول أولى لأن المراد به الوليد بن المغيرة المخزومي والد خالد بن الوليد لأنه كان يزعم أنه وحيد قومه في رياسته ويساره وتقدمه في الدنيا وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب شهر به وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به وقيل هو عام. (وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) عطف على ما تقدم وله متعلقان بمحذوف هو المفعول الثاني ومالا هو المفعول الأول وممدودا نعت وقيل هو ما كان للوليد بمكة والطائف من الزروع والضروع والتجارة. (وَبَنِينَ شُهُوداً) عطف على مال قيل كان للوليد عشرة أولاد ذكور أو سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام وعمارة ونقل عن ابن حجر في الإصابة: أن عمارة مات كافرا وذكر بدله الوليد بن الوليد فهم خالد وهشام والوليد. وشهودا نعت لنبين جمع شاهد بمعنى حاضر فهم يشهدون مع أبيهم الأندية والمجتمعات. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) عطف على ما تقدم وله متعلقان بمهدت وتمهيدا مفعول مطلق.
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وفيه استبعاد(10/277)
واستنكار بطمعه وحرصه وتهالكه على زيادة المال والنعمة ويطمع فعل مضارع مرفوع معطوف على جعلت ومهدت وفاعله مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض متعلق بيطمع أي يطمع في الزيادة على ما ذكر من المال والبنين والتمهيد. (كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) كلا ردع وزجر له لقطع رجائه وطمعه وتهالكه، وإن وما بعدها جملة تعليلية للردع لأن معاندة آيات المنعم مع وضوحها وكفرانها مع شيوعها من موبقات النفس وموجبات الحرمان وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ولآياتنا متعلقان بعنيدا وعنيدا خبرها والعين الجاحد والمعرض والمجانب للحق والهدى ويجمع على عند. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) السين حرف استقبال وأرهقه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وصعودا مفعول به ثان لأن أرهقه متضمن معنى أكلفه، والصعود في اللغة العقبة الشاقة وإذا لم يتضمن أرهقه معنى أكلفه كانت صعودا في موضع نصب بنزع الخافض أي سأعنته بمشقة وعسر. (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) تعليل لاستحقاقه هذا الوعيد الآنف الذكر وإن واسمها وجملة فكر خبر وقدر عطف على فكر. روي أن الوليد حاجّ أبا جهل وجماعته من قريش في أمر القرآن وقال: إن له لحلاوة وإن أسفله لمفرقه وإن فرعه لجناه وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى ونحو هذا الكلام فخالفوه وقالوا: هو شعر فقال: والله ما هو بشعر وقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه قالوا فهو كاهن قال: والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان قالوا: هو مجنون قال: والله ما هو بمجنون لقد رأينا المجنون وخنقه قالوا: هو سحر قال: أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه وروي غير ذلك بما لا يخرج عن هذه المعاني مما يرجع إليه في المطولات. (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الفاء عاطفة وقتل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ومعناه لعن وقيل غلب وقهر، قال امرؤ القيس:(10/278)
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
أي مذلل مقهور بالحب. فإذا كان معناه لعن فالجملة دعائية وإذا كان معناه غلب وقهر فالجملة معطوفة على ما تقدم وكيف اسم استفهام منصوبة على الحال من الضمير في قدر والمقصود من الاستفهام التعجب من تقديره وتوبيخه والاستهزاء به. (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وأتي بها للدلالة على أن هذه الجملة أبلغ من الجملة الأولى فهي للتفاوت في الرتبة وهي مؤكدة لنظيرتها المتقدمة فالتكرار للتأكيد. (ثُمَّ نَظَرَ) ثم حرف عطف أيضا للترتيب مع التراخي أي نظر في وجوه الناس مغضبا مما قالوه فيه وهو أنه صبأ ومال إلى محمد. (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) عطف أيضا أي ثم قطب وجهه ثم تشاوس وتخازر مستكبرا. (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) عطف أيضا أي أدبر عن الإيمان وتكبر عن اتباع النبي فهو عطف مساو في المعنى. فقال: (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) الفاء عاطفة وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر وجملة يؤثر صفة لسحر أي منقول عن السحرة. (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) هذه الجملة تأكيد للجملة السابقة أي ملتقط من أقوال الناس. (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) السين حرف استقبال وأصليه فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا ومفعول به أول وسقر مفعول به ثان والجملة كلها بدل من قوله سأرهقه صعودا. (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وأدراك فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو ومفعول به أول والجملة خبر ما أي أيّ شيء أعلمك، وما اسم استفهام مبتدأ وسقر خبره والجملة سادة مسد المفعول الثاني لأدراك المعلقة عن العمل بالاستفهام وقد مرّ نظيره في الحاقة. (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) الجملة حالية والعامل فيها معنى التهويل والتعظيم لأمرها لأن الاستفهام بقوله ما سقر للتعظيم فالمعنى استعظموا سقر في هذه الحال ولا نافية وتبقي فعل(10/279)
مضارع وفاعله مستتر تقديره وهي وتذر عطف على تبقي ومفعول تبقي وتذر محذوف أي لا تبقي ما ألقي
فيها ولا تذره بل تهلكه ولك أن تجعلها جملة مستأنفة. (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) لواحة خبر لمبتدأ محذوف وللبشر متعلقان بلواحة والجملة حال ثانية وقرئت لواحة بالنصب على الحال فقيل هي حال من سقر وقيل هي حال من الضمير في لا تبقي وقيل من الضمير في لا تذر واختار الزمخشري نصبها على الاختصاص للتهويل.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) الجملة حال ثالثة أو مستأنفة كما تقدم في لواحة للبشر وعليها خبر مقدم وتسعة عشر جزءان عدديان مبنيان على الفتح في محل رفع مبتدأ مؤخر، وسيأتي المزيد من معنى هذا العدد في باب البلاغة. (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) الواو استئنافية والكلام استئناف مسوق للرد على أبي الأشد به كلدة بن خلف الجمحي قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: «عليها تسعة عشر» قال أبو جهل لقريش:
ثكلتكم أمهاتكم محمد يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الشجعان أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم؟ فقال أبو الأشد: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر: عشرة على ظهري وسبعة على بطني وأكفوني أنتم اثنين فنزلت. وما نافية وجعلنا فعل ماض وفاعل وأصحاب النار مفعول به أول وإلا أداة حصر وملائكة مفعول به ثان أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم تغالبونهم وإنما جعلناهم ملائكة لا يطاقون. (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة وما نافية وجعلنا فعل ماض وفاعل وعدتهم مفعول به وإلا أداة حصر وفتنة مفعول به ثان على حذف مضاف أي سبب فتنته وليست مفعولا من أجله كما يتوهم، وللذين متعلقان بفتنة وجملة كفروا صلة الموصول. (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) اللام لام التعليل ويستيقن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل وهو متعلق بجعلنا الثانية لا بفتنة لأن الفتنة ليست معلولة للاستيقان بل المعلول جعل العدة(10/280)
سببا لفتنة الذين أوتوا الكتاب، وقيل ليستيقن متعلق بفعل مضمر أي فعلنا ذلك ليستيقن، والذين فاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والكتاب مفعول أوتوا الثاني لأن الواو نائب فاعل أوتوا ويزداد عطف على ليستيقن والذين فاعل وجملة آمنوا صلة وإيمانا مفعول به ثان. (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة ولا نافية ويرتاب الذين فعل مضارع وفاعل وجملة أوتوا الكتاب صلة والمؤمنون عطف على الذين.
(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) عطف على ما تقدم واللام لام التعليل والذين فاعل وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة الذين وماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لأراد وبهذا متعلقان بأراد ومثلا حال من هذا أي حال كونه مشابها للمثل، ولك أن تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وأراد الله صلة للموصول وجملة ماذا أراد إلخ مقول القول. (كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كذلك نعت لمصدر محذوف يضل إضلالا مثل ذلك والله فاعل يضل ومن مفعوله وجملة يشاء صلة والعائد محذوف ويهدي من يشاء عطف على الجملة السابقة. (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) الجملة مستأنفة. (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) الواو عاطفة وما نافية وهي ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ والضمير يعود إلى سقر وإلا أداة حصر وذكرى خبر وللبشر متعلقان بذكرى.
البلاغة:
1- في قوله تعالى: (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) فن الإبهام وقد تقدم الإلماع إليه في هذا الكتاب ونعيده هنا بمزيد من التفصيل لأهمية هذه الآية ولكثرة ما خاض علماء البلاغة والمفسرون فيها، فنقول: الإبهام(10/281)
فن من فنون البلاغة، وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يصح إلا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المؤتلفة المفيدة ويختص بالفنون كالمدح والهجاء والعتاب والاعتذار والفخر والرثاء والنسيب وغير ذلك، ومنه نوع آخر يقع لأحد أمرين: إما لامتحان جودة الخاطر وإما لامتحان قوة الإيمان وضعفه، وهذه الآية التي نحن بصددها من هذا النوع أي امتحان قوة الإيمان وضعفه فإنه معنى (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) مبهم أشدّ الإبهام، فإن لقائل أن يقول: ما النكتة في ذكر هذا العدد؟
ولا يقال إن هذا السؤال ساقط فإنه يرد على أي عدد فرض بحيث لو قيل عليها خمسة عشر أو أحد عشر أو عشرون أو غير ذلك ورد السؤال عليه وما كان بهذه المثابة فهو ساقط لأنّا نقول: هذا فيما يرد من المخلوق الذي يدخل خبره الخلف وليس بمعصوم من الكذب أما البارئ سبحانه الذي لا يدخل خبره الخلف وإذا أخبر بشيء كان خبره على ما أخبر به فإنه إذا أخبر بعدد لا يجوز أن يقال فيه لو قال غيره ورد عليه السؤال لأنه الحق الواقع الذي لا مرية فيه وإذا كان ذلك كذلك يمكن لقائل أن يقول: ما الحكمة في جعل ملائكة العذاب على هذه العدة؟
فيكون السؤال واردا مستحقا للجواب ليزول هذا الإبهام الذي على ظاهر الكلام، هذا ونورد خلاصة لما قاله كبار الأعلام في تفسير هذا الإبهام ثم نورد بعد ذلك رأيا آثرناه على غيره ليكون في ذلك إيراد للذهن وحفز للقرائح، على أننا لم نورد ما رأيناه غير جدير بالعناية.
أما الإمام فخر الدين بن الخطيب فقد رأى رأيا فيه كثير من السداد والحصافة قال: «لما كان المكلف عبارة عن حواس ظاهرة وحواس باطنة وهي عشر وطبائع وقوى خمس وهي الهاضمة والغازية(10/282)
والماسكة والدافقة. وكانت هذه الأشياء هي التي تدعو إلى الاشتغال بالملاذ الدنيوية والشهوات البهيمية ودفع المضارّ البدنية عن الاشتغال بما يدني من الجنان ويباعد من النيران وكانت عدة هذه الأشياء تسعة عشر جعلت الملائكة الموكلة بتعذيب الإنسان وفق هذه العدة ليكون بإزاء كل شيء من هذه الأشياء ملك موكل باستيفاء ما يجب على ذلك الشيء الذي هو أحد الأسباب المانعة من الخير» .
هذا ما ذكره الرازي وهو على وجاهته ونفاسته لا يخلو من التكلف. أما الكرخي فقد اختصر ما ذكره الرازي وزاد عليه من جهة ثانية فقال: «وخص هذا العدد بالذكر لأنه موافق لعدد أسباب فساد النفس الإنسانية وهي القوى الإنسانية والطبيعية إذ القوى الإنسانية اثنتا عشرة الخمسة الظاهرة والخمسة الباطنة والشهوة والغضب، والقوى الطبيعية سبعة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والعادية والنامية والمولدة والمجموع تسعة عشر» .
أما الأقدمون وعلى رأسهم الزمخشري فقد استنبطوا استنباطا بيانيا جميلا، قال الزمخشري: «إن حال هذه العدة الناقصة واحدا من عقد العشرين أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن وإن خفي عليه وجه الحكمة كأنه قيل ولقد جعلنا عدتهم عدة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمن وحيرة الكافر واستيقان أهل الكتاب لأن عدتهم تسعة عشر في الكتابين فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنه منزل من الله وازدياد المؤمنين إيمانا لتصديقهم بذلك كما صدقوا سائر ما أنزل ولما رأوا من يسلم أهل الكتاب» وهذا على وجاهته لا يخلو من اعتراض.
أما القرطبي فلم يخرج عن الحدود السمعية ولم يلجأ إلى الاجتهاد فقال بعد كلام طويل: «قلت والصحيح إن شاء الله أن هؤلاء(10/283)
التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء وأما جملتهم فالعبارة تعجز عنها كما قال تعالى: (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) .
أما أبو حيان فقد أطال ودندن ووثب حينا وأسف حينا ومما نختاره من عبارته: «عليها تسعة عشر التمييز محذوف والمتبادر إلى الذهن أنه ملك ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك» ، ونقل الرواية التي أوردناها ثم قال: «وقيل التمييز المحذوف صنفا من الملائكة وقيل نقيبا ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء» ويكاد هذا يكون نفس ما قاله القرطبي.
أما رأي الرازي والكرخي فلا يخلو من دخل عليه لما فيه من التعسف والتكلف كما ترى ووجه الدخل عليه أنه يلزم أن يكون لكل إنسان مثل هذه العدة من الملائكة ولم تكن هي جملة عدة الملائكة لجهنم ولجميع من حوت من المعذبين.
أما الجواب الفني الذي يحل الإبهام حلا أدنى إلى المنطق وأقرب إلى الإقناع وأشبه ببلاغة القرآن الكريم فهو أن يقال: إنه لا مرية في أن أهل النار يزيدون على أهل الجنة بأضعاف مضاعفة ولأن المؤمنين من كل أمة عشر معشار كفارها، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنة أن عرضها السموات والأرض فما ظنك بطولها والطول من كل شيء في معترف العادة أكثر من العرض فأهلها على هذا لا يحصيهم العد ولا يحصرهم الحد، وقد تبين أن أهل النار أضعافهم فهم إلى تجاوز الحدّ في العد أقرب وأقلّ ما يظنّ بالملائكة الموكلين بعذابهم أن تكون عدتهم وفق عدتهم ليكون بإزاء كل معذّب معذّب وهذا عدد لا نهاية له ولا لكميته، فلما أراد الحق الإخبار بعدة هذه الملائكة عدل عن ذكر عددهم الذي هو معلوم عنده، وإن تجاوز النهاية(10/284)
بالنسبة إلينا لئلا يخرج الكلام بكثرة الألفاظ وطول الفصول عن حد البلاغة إلى إشارة يفهم منها أن عدة هذه الملائكة عدد لا يتناهى مرتبة، فاقتصر سبحانه على ذكر آخر مرتبة الآحاد من العدد وأول مرتبة العشرات منه فإن مراتب العدد أربع آحاد وعشرات ومئون وألوف، الأصول منها الآحاد وأول مرتبته فإن نهاية مرتبة الآحاد التسعة وهي عبارة عن تكرار الواحد تسع مرات ثم ينتقل إلى ذكر العشرة التي هي أول مرتبة العشرات ثم يكررها كما كرر الواحد من العشرين إلى التسعين كما فعل في المرتبة الأولى ثم ينتقل إلى مرتبة الألوف فيكررها تكرير الواحد بلفظ الآحاد وهكذا إلى غير النهاية وإذا انتهت مرتبة الألوف عاد إلى مرتبة العشرات فقال: عشرة آلاف إلى ما لا نهاية له لا يزيد على أن يضيف إلى الألف لفظ الآحاد والعشرات فيعود إلى أصول الأعداد فدلّ ذلك على أن أصول جميع الأعداد التي لا تتناهى الآحاد وهي تسعة وأول العشرات هي العشرة فالاقتصار على ذكرهما للعرب الواضعين لهذه الأسماء يشير إلى أعداد لا نهاية لها، واستغنى عن ذكر لفظتي المائة والألف لما جاء في الكلام من المثال الذي يحتذى على مثاله والأصل الذي يقاس الفرع عليه واللفظتان يعني المائة والألف عند المخاطب معروفتان والطريق في التكرير قد وضحت.
2- في قوله: «وربك فكبر» فن طريف ابتدعه المتأخرون وأساءوا فيه، لأنه لا يأتي جيدا إلا في الندرة، أما تكلفه فيؤدي إلى إسفافه، وقد وضع له علماء البديع اسم «ما لا يستحيل بالانعكاس» وسماه بعضهم «القلب» وبعضهم الآخر سماه «المقلوب المستوي» وهو أن يكون الكلام بحيث إذا قلبته وابتدأت من حرفه الأخير إلى الحرف الأول كان الحاصل هو هذا الكلام عينه وهو قد يكون في النظم وقد يكون في النثر أما في النظم فمنه قول القاضي الأرجاني:(10/285)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
مودته تدوم لكل هول ... وهل كلّ مودته تدوم
وقد يكون ذلك في شطر بيت كقول القائل:
ولما تبدى لنا وجهه ... أرانا الإله هلالا أنارا
والشاهد في المصراع الثاني أما في النثر فقال الله تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) ، (رَبَّكَ فَكَبِّرْ) ويحكى عن العماد الكاتب أنه لقي القاضي الفاضل يوما وهو راكب فرسا فقال له: سر فلا ركبا بك الفرس، فقال له القاضي: دام علا العماد، وهذا كله مستاغ لا تكلف فيه فلذلك أتى مستملحا جاريا في حدود الطبع، أما ما تكلفوه فقد ضربنا عنه صفحا لأنه لا يمت إلى البلاغة بأي نسب.
3- في قوله تعالى: «وثيابك فطهر» إن أريد الثياب الحقيقة الظاهرة على البدن فالكلام جار على الحقيقة وليس فيه شيء من فنون البلاغة لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة وإن أريد القلب كان الكلام كناية على حد قول امرئ القيس:
وإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي
أي قلبي من قلبك وقيل كنى عن النفس بالثياب، قال عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم عن القنا بمحرم
وقيل كنى بها عن الجسم، قالت ليلى وقد ذكرت إبلا:
رموها بأثواب خفاف فلا نرى ... لها شبها إلا النعام المنضرا
أي ركبوها فرموها بأنفسهم.
[سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56]
كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)(10/286)
اللغة:
(قَسْوَرَةٍ) القسورة: جماعة الرماة الذين يتصيدونها وقيل: الأسد يقال: ليوث قساور وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وفي وزنه الحيدرة من أسماء الأسد، وفي المختار: «القسور والقسورة: الأسد» وفي القاموس: «والقسورة: العزيز والأسد كالقسور ونصف الليل أو أوله أو معظمه ونبات سهلي والجمع قسور والرماة من الصيادين الواحد قسور» وتعقبه شارحه التاج بقوله: «قوله الواحد قسور هكذا قاله الليث وهو خطأ لا يجمع قسور على قسورة إنما القسورة اسم جامع للرماة ولا(10/287)
واحد لها من لفظها» وعبارة أبي حيان: «القسورة الرماة والصيادون قاله ابن كيسان أو الأسد قاله جماعة من اللغويين قال:
مضمر تحدره الأبطال ... كأنه القسورة الريبال
أو الرجال الشداد، قال لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا ... أتانا الرجال الصائدون القساور
أو ظلمة أول الليل لا ظلمة آخره، قاله ابن الأعرابي وثعلب.
الإعراب:
(كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) كلا حرف ردع وزجر لمن ينكر أن تكون إحدى الكبر نذيرا للبشر والواو حرف قسم وجرّ والقمر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم ولا معنى لما قاله الجلال: «كلا استفتاح بمعنى ألا» ولا لما قاله القرطبي نقلا عن الفراء «إنها صلة للقسم والتقدير إي والقمر» والليل جار ومجرور والواو للقسم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بفعل القسم وجملة أدبر في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) الواو حرف قسم وجر والصبح مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف زمان متعلق بفعل القسم المحذوف وجملة أسفر في محل جر بإضافة الظرف إليها (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وإحدى الكبر خبر إنها (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) حال من إحدى الكبر وأعربها الزمخشري تمييز من إحدى الكبر على معنى أنها إحدى الدواهي إنذارا كما تقول هي إحدى النساء عفافا وننقل فيما يلي عبارتي السمين وأبي البقاء ونترك لك الخيار. «وقوله تعالى: «نذيرا للبشر» فيه أوجه: أحدها أنه تمييز من إحدى لما تضمنته من معنى التعظيم كأنه قيل: أعظم الكبر إنذارا فنذير بمعنى الإنذار، والثاني أنه مصدر بمعنى(10/288)
الإنذار أيضا ولكنه نصب بفعل مقدّر قاله الفرّاء، الثالث أنه فعيل بمعنى مفعل وهو حال من الضمير في إنها قاله الزجّاج، الرابع أنه حال من الضمير في إحدى لما تضمنت من معنى التعظيم كأنه قيل أعظم الكبر منذرة، الخامس أنه حال من فاعل قم فأنذر أول السورة، السادس أنه مصدر منصوب بأنذر أول السورة، السابع أنه حال من الكبر، الثامن أنه حال من ضمير الكبر، التاسع هو حال من إحدى الكبر قاله ابن عطية، العاشر أنه منصوب بإضمار أعني وقيل غير ذلك» . أما عبارة أبي البقاء فهي: «قوله تعالى: نذيرا في نصبه أوجه أحدها هو حال من الفاعل في قوله: قم في أول السورة، والثاني من الضمير في فأنذر حال مؤكدة، والثالث هو حال من الضمير في إحدى، والرابع هو حال من نفس إحدى، والخامس حال من الكبر أو من الضمير فيها، والسادس حال من اسم إن، والسابع أن نذيرا في معنى إنذارا أي فأنذر إنذارا أو أنها لإحدى الكبر لإنذار البشر، وفي هذه الأقوال ما لا نرتضيه ولكن حكيناها والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت عليه نذيرا» . أما أبو حيان فبعد أن أورد هذه الأوجه قال: «قال أبو البقاء والمختار أن يكون حالا مما دلّت عليه الجملة تقديره عظمت نذيرا وهو قول لا بأس به» . وقرىء نذير بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي نذير (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) لمن بدل من قوله للبشر بإعادة الجار وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة من ومنكم حال وأن وما في حيّزها في موضع نصب بشاء وفاعل شاء يعود على من وقيل الفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي لمن شاء هو أي الله تعالى. وقال الزمخشري: أن يتقدم في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدّم عليه كقولك: لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم والتأخر أن يتقدم أو يتأخر والمراد بالتقدم السبق إلى الخير والتخلّف عنه وهو كقوله: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر انتهى، وهو معنى لا يتبادر(10/289)
إلى الذهن وفيه حذف (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) كلام مستأنف لبيان أن كل نفس رهن بما كسبت وكل نفس مبتدأ وبما متعلقان برهينة وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة ما ورهينة خبر وهي مصدر بمعنى رهن كالشتيمة بمعنى الشتم وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء ولو قصدت الصفة لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه بيت الحماسة:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
أأذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل
والبيتان لزياد بن مسور الحارثي وقيل لعبد الرحمن بن زيد قتل أبوه زياد فعرض عليه فيه سبع ديّات فأبى إلا الثأر، والاستفهام إنكاري والنعف بالفتح الجبل والمكان المرتفع وقيل ما يستقبلك من الجبل وكويكب جبل بعينه وفي هذا الإبدال من التفصيل بعد الإجمال ما ينبئ عن تفخيم المحل والحال أي أبعد قتل أبي المدفون في ذلك الموضع حال كونه محتبسا في رمس وقيل رهينة بالجر بدل من الذي فهو اسم ملحق بالجواحد بمعنى الرهن ويقال رمست الشيء رمسا إذا دفنته في التراب فأطلق المصدر وأريد مكانه وهو القبر والجندل الحجارة وكررت همزة الاستفهام في قوله أأذكر توكيدا للأولى لأنها داخلة على هذا الفعل تقديرا أيضا ويحتمل أنها داخلة على مقدّر أي أبعد أبي أفرح بالديّة والبقيا الإبقاء على الشيء أي لا أذكر بين الناس بأني أبقيت على قاتل أبي والحال إن إبقائي عليه كوني جاهدا أو مصمّم العزم على الفتك به غير حالف على ذلك لأني غير محتاج إلى الحلف في تنفيذ أموري أو غير مقصر في الاجتهاد لأن الائتلاء يجيء بمعنى الحلف وبمعنى التقصير (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) إلا أداة استثناء وأصحاب اليمين مستثنى قيل هو متصل لأن الله تعالى جعل تكليف عباده كالدين عليهم ونفوسهم تحت استيلائه وقهره فهي رهينة فمن وفى دينه الذي كلّف به(10/290)
خلّص نفسه من عذاب الله تعالى الذي نزل منزلة علامة الرهن وهو أخذه في الدين ومن لم يوف عذّب وقيل هو منقطع إذ المراد بهم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقيل الملائكة (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) في جنات خبر لمبتدأ محذوف أي هم في جنات والجملة مستأنفة كأنها نشأت جوابا لسؤال نشأ من الاستثناء والتقدير فما شأنهم وحالهم وجملة يتساءلون خبر ثان واختار أبو البقاء أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين وأن يكون حالا من الضمير في يتساءلون وأن يتعلق بيتساءلون فيكون ظرفا للفعل ومعنى يتساءلون يسأل بعضهم بعضا وعن المجرمين متعلقان بيتساءلون ولا بدّ من تقدير مضاف أي عن حال المجرمين (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) الجملة مقول قول محذوف أي قائلين فجملة القول في محل نصب حال وما اسم استفهام مبتدأ والاستفهام للتوبيخ والتعجب من حالهم وجملة سلككم خبر وفي سقر متعلقان به (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) قالوا فعل وفاعل ولم حرف نفي وقلب وجزم ونك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف لأنها تحذف من مضارع كان المجزوم إذا لم يله ساكن وقد تقدم نظيره واسم نك ضمير مستتر تقديره نحن ومن المصلّين خبرها (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) عطف على ما تقدم وكان واسمها وجملة نخوض خبرها ومع ظرف مكان متعلق بنخوض والخائضين مضاف إليه أي نشرع في الباطل مع الخائضين وهذا تحذير لكل من تسوّل له نفسه أن يسرع في الإجابة عمّا لا يعلمه (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) عطف على ما تقدم أيضا (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) حتى حرف غاية وجر وأتانا اليقين فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر والغاية للأمور الأربعة الآنفة (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وتنفعهم فعل مضارع ومفعول به وشفاعة(10/291)
الشافعين فاعل والمعنى لا شفاعة لهم وسيأتي المزيد من معناها في باب البلاغة (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) الفاء استئنافية وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ ولهم خبر وعن التذكرة متعلقان بمعرضين ومعرضين حال من الضمير المجرور باللام ووهم من جعله حالا من الضمير المستكن في الخبر لأنه عائد على ما وهي عبارة عن شيء وسبب ومعرضين وصف للأشخاص أنفسهم فلا يصحّ كونه وصفا لأسباب الإعراض على القاعدة في أن الحال وصف لصاحبها (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) الجملة حالية من الضمير المستكن في معرضين فهي حال متداخلة وكأن واسمها وحمر خبرها ومستنفرة نعت وقرئ في السبع بكسر الفاء وفتحها فالأول بمعنى نافرة والثاني بمعنى نفرها الأسد أو الصياد (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) الجملة نعت ثان لحمر وفرت فعل ماض والفاعل
مستتر يعود على الحمر والتاء تاء التأنيث الساكنة ومن قسورة متعلقان بفرت (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) بل إضراب انتقالي عن محذوف هو جواب الاستفهام السابق كأنه قيل: فلا جواب لهم عن هذا السؤال أي لا سبب لهم في الإعراض بل يريد، ويريد فعل مضارع مرفوع وكل امرئ فاعل ومنهم نعت وأن وما في حيّزها في موضع نصب مفعول به ويؤتى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وصحفا مفعول به ثان ومنشرة نعت لصحفا أي منشورة غير مطويّة يقرؤها كلّ من رآها (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) كلا ردع عن الإرادة وبل إضراب انتقالي لبيان سبب هذا التعنت ولا نافية ويخافون الآخرة فعل مضارع وفاعل ومفعول به (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) كلا ردع عن الإعراض وإن واسمها أي القرآن وتذكرة خبرها (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف تقديره أن يذكره وذكره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والجملة جواب الشرط والشرط وجوابه(10/292)
خبر المبتدأ (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) الواو عاطفة وما نافية ويذكرون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة استثناء وأن يشاء الله المصدر استثناء من أعمّ الأحوال أطلق نفي الذكر ثم استثنى منه حال المشيئة المطلقة وهو مبتدأ وأهل التقوى خبره وأهل المغفرة عطف على أهل التقوى.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» فن تقدم الإلماع إليه وهو «نفي الشيء بإيجابه» وهو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه بشرط أن يكون المثبت مستعارا ثم ينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي حقيقة في باطن الكلام وقد تحدثنا عنه طويلا في البقرة عند قوله لا يسألون الناس إلحافا وفي غافر عند قوله «ولا شفيع يطاع» وهنا تعريف أكثر إيضاحا وهو أن تذكر كلاما يدل ظاهره أنه نفي لصفة موصوف وهي نفي للموصوف أصلا واعتاد البلاغيون أن يمثلوا له بقول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود الديافي جرجرا
فقوله لا يهتدى لمناره أي إن له منارا إلا أنه لا يهتدى به وليس المراد ذلك بل المراد أنه لا منار له يهتدى به وهنا ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفعهم شفاعة من يشفع لهم وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب «على لاحب لا يهتدي بمناره» أي لا منار له فيهتدي به وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات ينتفع بها.
2- في قوله «كأنهم حمر مستنفرة، فرّت من قسورة» تشبيه مرسل، شبّههم بالحمر المستنفرة وفي ذلك مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم وشهادة عليهم بالبله وقلة العقل ولا ترى مثل نفار حمر الوحش واطّرادها في العدو إذا رابها رائب.(10/293)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
(75) سورة القيامة مكيّة وآياتها أربعون
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)(10/294)
اللغة:
(بَنانَهُ) البنان أطراف الأصابع جمع أو اسم جمع لبنانة قولان وفي المختار: «البنانة واحد البنان وهي أطراف الأصابع ويقال بنان مخضّب لأن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء فإنه يؤنّث ويذكّر» .
(بَرِقَ) يبرق من باب دخل برقا وبروقا وبرقانا وبريقا البرق: ظهر والشيء: لمع وتلألأ والسماء: بدا منها البرق والرجل: توعّد وبرق يبرق من باب تعب برقا تحيّر ودهش فلم يبصر وقد قرئ بهما معا.
(خَسَفَ) أظلم وذهب ضوءه.
(وَزَرَ) ملجأ يتحصن به وكل ما التجأت إليه من جبل أو غيره وتخلصت به فهو وزرك.
الإعراب:
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) قال الزمخشري: إدخال لا على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس:
ولا وأبيك ابنة العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أفرّ
وإنما كان دخول لا النافية قبل القسم شائعا في لسان العرب لأنه غالبا يكون لردّ دعوى الخصم ونفيها فالتقدير: ولا يحصل ذلك وحق أبيك، وقال غوية بن سلمى:
ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي
وقال الزمخشري: «وفائدتها توكيد القسم وقالوا إنها صلة مثلها في «لئلا يعلم أهل الكتاب» واعترضوا عليه بأنها إنما تزاد في وسط(10/295)
الكلام لا في أوله، وأجابوا بأن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض والاعتراض صحيح لأنها لم تقع مزيدة إلا في وسط الكلام ولكن الجواب غير سديد، ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته والوجه أن يقال هي للنفي والمعنى أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك على ذلك قوله تعالى: «فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم» فكأنه بإدخال حرف النفي يقول:
إن إعظامي له بإقسامي به كلا إعظام يعني أنه يستأهل فوق ذلك وقيل إن لا نفي لكلام وردّ له قبل القسم كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا أي ليس الأمر على ما ذكرتم ثم قيل أقسم بيوم القيامة» وقيل هي ردّ لكلامهم حيث أنكروا البعث كأنه قال: ليس الأمر كما ذكرتم أقسم بيوم القيامة، وهذا قول الفراء وكثير من النحويين. وقد تقدم الكلام عليها في الواقعة فجدّد به عهدا. وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وبيوم القيامة متعلقان بأقسم (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) عطف على الجملة السابقة واللوّامة نعت للنفس أي التي تلوم نفسها في يوم القيامة على ما فرط منها من قصور أو التي لا تزال تلوم نفسها في الدنيا، وقد روي أنه عليه السّلام قال: «ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت: كيف لم أزدد وإن عملت شرّا قالت: ليتني كنت أقصرت عن الشر» وجواب القسم محذوف أي لتبعثنّ دلّ عليه ما بعده وهو: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي ويحسب فعل مضارع مرفوع والإنسان فاعل وأن مخفّفة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن وما في حيّزها في موضع الخبر والفاصل هنا حرف النفي وأن المخففة وما في حيّزها سادّة مسدّ مفعولي يحسب وعظامه مفعول نجمع للبعث والإحياء. قال النحّاس: وإنما خصّ العظام لأنها قالب الخلق.
(بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) بلى حرف جواب وهو إيجاب لما بعد(10/296)
النفي المنسحب عليه الاستفهام وقادرين حال من فاعل الفعل المقدّر المدلول عليه بحرف الجواب أي بلى نجمعها قادرين وهذا هو الوجه، وقال بعضهم هو منصوب على أنه خبر كان مضمرة أي بلى كنّا قادرين في الابتداء وليس بذاك. وقرئ قادرون رفعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي بلى نحن قادرون، وعلى حرف جر وأن المصدرية وما في حيّزها في تأويل مصدر مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادرين وفاعل نسوّي ضمير مستتر تقديره نحن وبنانه مفعول به. وعند سيبويه تنتصب قادرين بفعل مقدّر تقديره نجمعها قادرين. (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) بل حرف عطف للإضراب الانتقالي ويريد معطوف على أيحسب فيجوز أن يكون مثله استفهاما وأن يكون إيجابا ويجوز أن تكون بل لمجرد الإضراب الانتقالي من غير عطف كأنه أضرب عن الكلام الأول وأخذ في آخر، ويريد الإنسان فعل مضارع وفاعل ومفعول يريد محذوف والمعنى بل يريد الإنسان الثبات والديمومة على ما هو عليه من عدم التقيد بقيد الإيمان ليسترسل على فجوره ويدوم على غيّه واللام للتعليل ويفجر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وأمامه ظرف مكان استعير للزمان أي ليستمر في فجوره ويدوم عليه فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه ولا يتنصّل منه ولام التعليل متعلقة بيريد، وأعربه الجلال وغيره على وجه آخر خلاصته أن اللام زائدة ويفجر منصوب بأن مقدرة والمصدر المنسبك منه ومن أن مفعول يريد ولا داعي لزيادة اللام فالوجه الأول هو الصحيح (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) الجملة في موضع نصب على الحال أي يريد أن يستمر في فجوره في حال كونه سائلا على سبيل الاستهزاء أيان يوم القيامة وقيل مستأنفة وقال أبو البقاء تفسير ليفجر فتكون مفسّرة مستأنفة أو بدلا من الجملة قبلها لأن التفسير يكون بالاستئناف وبالبدل وأيان اسم استفهام في محل نصب على الظرفية(10/297)
الزمانية وهو متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدّم ويوم القيامة مبتدأ مؤخر (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب وهو يقول وجملة برق البصر جملة فعلية في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) عطف على برق البصر وهو فعل ماض وفاعل (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) عطف أيضا داخل في حيز فعل الشرط وجمعهما من آيات الله الكبرى (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) جملة يقول الإنسان لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويوم ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بيقول والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ برق البصر إلخ وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان والظرف متعلق بمحذوف في محل رفع خبر مقدم والمفر مبتدأ مؤخر والمفر مصدر ميمي بمعنى الفرار او اسم مكان للفرار والأول مفتوح الفاء والثاني مكسورها وقد قرئ بهما (كَلَّا لا وَزَرَ) كلا حرف ردع وزجر عن طلب الفرار ولا نافية للجنس ووزر اسمها المبني على الفتح وخبرها محذوف أي موجود متاح لهم (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)
إلى ربك خبر مقدم ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بفعل مقدّر دلّ عليه المستقر أي يستقر الأمر إلى ربك يوم إذ كانت هذه الأمور المذكورة ولا يجوز أن يتعلق بالمستقر لأنه إن كان مصدرا فلتقدمه وإن كان مكانا فلا عمل له البتّة، والمستقر مبتدأ مؤخر (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)
الجملة تفسيرية مستأنفة كما تقدم وينبأ فعل مضارع مبني للمجهول والإنسان نائب فاعل ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بينبأ وبما في موضع المفعول الثاني وجملة قدّم وأخّر المعطوفة عليها لا محل لها لأنها صلة ما أي يخبر الإنسان يوم إذ كانت هذه الأمور الثلاثة وهي برق البصر وخسف القمر والجمع بين الشمس والقمر بما قدّم من عمل عمله وبما أخّر منه لم يعمله (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)
بل حرف عطف وإضراب انتقالي والإنسان مبتدأ وعلى نفسه متعلقان ببصيرة وبصيره(10/298)
يجوز فيها أن تكون خبرا للإنسان وهو الأرجح والمعنى بل الإنسان بصيرة على نفسه
وعلى هذا يرد السؤال الآتي: لماذا أنّث الخبر؟ وقد اختلف النحاة في الإجابة فقال بعضهم الهاء فيه ليست للتأنيث بل للمبالغة وقال الأخفش: هو كقولك فلان عبرة وحجّة وقيل: المراد بالإنسان الجوارح فكأنه قال: بل جوارحه بصيرة أي شاهدة ويجوز أن تكون بصيرة مبتدأ مؤخرا وعلى نفسه خبرا مقدما والجملة خبر عن الإنسان وعلى هذا تكون بصيرة صفة لمحذوف أي عين بصيرة أو جوارح والتاء على هذا الوجه للتأنيث وإلى هذا ذهب الزمخشري فقال: «بصيرة: حجة بيّنة وصفت بالبصارة على المجاز كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله: فلما جاءتهم آياتنا مبصرة، أو لأعين بصيرة» ويجوز أن يكون على نفسه خبرا وبصيرة فاعل به والأصل في الإخبار الإفراد والأوجه الثلاثة متساوية في القوة والأرجحية. (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)
الواو حالية من الفاعل المستكن في بصيرة ولو شرطية وألقى فعل ماض وهو فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ومعاذيره مفعول به وجواب الشرط محذوف أي ما ساغت وما قبلت والمعاذير جمع معذرة على غير قياس كملاقيح ومذاكير جمع لقحة وذكر، وللنحويين في هذا ونحوه قولان: أحدهما أنه جمع للملفوظ به وهو لقحة والثاني أنه جمع لغير بملفوظ به بل مقدّر أي ملقحة ومذكار قال الزمخشري: «فإن قلت أليس قياس المعذرة أن يجمع على معاذر معاذير؟ قلت المعاذير ليست جمع معذرة بل اسم جمع لها ونحوه المناكير في المنكر» وقال أبو حيان معقبا: «وليس هذا البناء من أبنية اسم الجموع وإنما هو من أبنية جمع التكسير فهو كمذاكير وملاميح والمفرد منهما لمحة وذكر ولم يذهب أحد إلى أنهما من أسماء الجموع وقيل هما جمع للمحة وذكر على غير قياس أو هما جمع لمفرد لم ينطق به وهو مذكار وملمحة» (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ(10/299)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)
الجملة مقول قول محذوف مستأنف ولا ناهية وتحرك فعل مضارع مجزوم بلا وبه متعلقان بتحرك ولسانك مفعول به واللام لام التعليل وتعجل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام وما في حيّزها متعلقة بتحرك وبه متعلقان بتعجل والضمير للقرآن أي بقراءته وحفظه على عجلة لئلا يفلت منك، ثم علّل النهي عن العجلة بقوله: إن علينا جمعه. وإن وخبرها المقدّم واسمها المؤخر وقرآنه عطف على جمعه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)
الفاء عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملته قرأناه في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة لجواب إذا واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وقرآنه مفعول به أي فكن مقفيا فيه ولا تراسله وطامن نفسك أنه لا يبقى غير محفوظ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإن حرف مشبه بالفعل وعلينا خبر إن المقدّم وبيانه اسم إن المؤخر.
البلاغة:
في قوله: «لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوّامة» فن «صحة الأقسام» وسمّاه صاحب المثل السائر «التناسب بين المعاني» وقد مرّت أمثلة كثيرة منه في هذا الكتاب كما تحدّثنا عنه بإسهاب والآية التي نحن بصددها تعدّ من محاسن التقسيم لتناسب الأمرين المقسم بهما، فقد أقسم بيوم البعث أولا ثم أقسم بالنفوس المجزية فيه على حقيقة البعث والجزاء، فسبحان المتكلم بهذا الكلام.
[سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 40]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39)
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)(10/300)
اللغة:
(ناضِرَةٌ) من النضرة حسنة مضيئة والنضرة هي التنعم ومنه غصن ناضر، يقال: نضر ينضر من باب دخل ونضر ينضر من باب تعب ونضر ينضر من باب ظرف نضرا ونضرة ونضرا ونضورا ونضارة الوجه أو اللون أو الشجر وغيرها: نعم وحسن وكان جميلا فهو ناضر ونضر ونضير، وأنضر العود أيضا قال الكميت:
ورت بك عيدان المكارم كلها ... وأورق عودي في ثراك وأنضرا
وفي الأساس: «ولها سوار من نضر ونضار وهو الذهب وقيل: كل خالص نضار من ذهب وغيره، وقدح من نضار وهو أثل ورسيّ اللون بغور الحجاز، ومن المجاز: نضر وجهه: حسن وغضّ وجارية غضة(10/301)
ناضرة وغلام غضّ: ناضر ونضر الله وجهه وأنضره: حسّنه وقد يقال نضره بالتخفيف ووجه منضور وليس بذاك، قال:
نضّر الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
وفي الحديث «نضّر الله من سمع مقالتي فوعاها» ونجار نضار: خالص، قال الأفوه:
كرم الفعل إذا ما فعلوا ... ونجار في اليمانين نضار»
(فاقِرَةٌ) داهية عظيمة تكسر الظهر أو فقاره والفقار بفتح الفاء كما في القاموس وهو جمع فقارة بفتح الفاء وفي المصباح: «وفقرت الداهية الرجل فقرا من باب قتل نزلت به فهو فقير فعيل بمعنى مفعول وفقارة الظهر بالفتح الخرزة والجمع فقار بحذف الهاء مثل سحابة وسحاب، قال ابن السكيت: ولا يقال فقارة بالكسر والفقرة لغة في الفقارة وجمعها فقر وفقرات مثل سدرة وسدر وسدرات» وفي القاموس: «والفقر بالكسر والفقرة والفقارة بفتحهما ما يتصل من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب» .
(التَّراقِيَ) جمع الترقوة وهي العظم الذي في أعلى الصدر بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان والجمع التراقي والترايق ويقال: ترقاه ترقاة أي أصاب ترقوته وقد بلغت روحه التراقي إذا شارف الموت.
(راقٍ)
اسم فاعل إما من رقي بالفتح في الماضي والكسر في المضارع من الرقية وهي كلام معد للاستشفاء يرقى به المريض ليشفى وفي الحديث: وما أدراك أنها رقية يعني الفاتحة وهي من أسمائها وإما من رقي بالكسر في الماضي والفتح في المضارع من الرقي وهو الصعود أي إن الملائكة تقول: من يصعد بهذه الروح.
(يَتَمَطَّى) مضارع تمطى وفيه قولان: أحدهما أنه من المطا وهو الظهر ومعناه يتبختر أي يمدّ مطاه ويلويه تبخترا في مشيته والثاني أن أصله يتمطط من تمطط أي تمدّد ومعناه أنه يتمدد في مشيته تبخترا ومن(10/302)
لازم التبختر ذلك فهو يقرب من معنى الأول ويفارقه في مادته إذ مادة المطا م ط وو مادة الثاني م ط ط وإنما أبدلت الطاء الثانية ياء كراهة اجتماع الأمثال والمطيطاء التبختر ومدّ اليدين في المشي والمطيط الماء الخاثر أسفل الحوض لأنه يتمطط أي يمتد فيه وفي الحديث: إذا مشيت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم وفي كتب اللغة: ومن المجاز تمطي الليل إذا طال قال امرؤ القيس:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازا وناء بكلكل
وقال بيهس:
كلما قلت قد تقضّى تمطّى ... حالك اللون دامسا يحموما
(سُدىً) هملا لا يكلف بالشرائع يقال إبل سدى أي مهملة وأسديت حاجتي أي ضيعتها ومعنى أسدى إليه معروفا أنه جعله بمعنى الضائع عند المسدى إليه لا يذكره ولا يمنّ به عليه، وفي المصباح «والسدى وزان الحصى من الثوب خلاف اللحمة وهو ما يمدّ طولا في النسج وأسديت الثوب أقمت سداه والسدى أيضا ندى الليل وبه يعيش الزرع وسديت الأرض فهي سدية من باب تعب كثر سداها وسدا الرجل سدوا من باب قال: مدّ يده نحو الشيء وسدّ البعير سدوا مدّ يده في السير وأسديته بالألف تركته سدى أي مهملا وأسديت إليه معروفا اتخذته عنده» .
وفي اللسان والأساس وغيرهما: «جمل سدى وإبل سدى مهملة وقوم سدى وأرض سدى لا تعمر ووقع السندي والسدى وهو ما يقع باليل وهذا الثوب سداه حرير، وأسديته وأسدى الحائك الثوب وسدّاه ومن المجاز: قد أسديت فألحم، وأسرجت فألجم وأسدى إليه معروفا وسدّى منطقا حسنا وسدّى عليه الوشاة، قال عمر بن أبي ربيعة:(10/303)
وإنّا لمحقوقون أن لا تردّنا ... أقاويل ما سدّوا علينا ولصّقوا
وأسدى بين القوم: أصلح وما أنت بلحمة ولا سداة: لا تضرّ ولا تنفع والريح تسدي المعالم وتنيرها، قال عمر بن أبي ربيعة:
لمن الديار كأنهنّ سطور ... تسدي معالمها الصبا وتنير
وتسداه: علاه وأخذه من فوقه كما يفعل سدى الليل قال:
وما أبو سمرة بالرث ألوان ... يوم تسدى الحكم بن مروان
وذلك أنه أخذ بناصيته وهو على فرس.
(تَمَنَّى) تصب في الرحم، والمني: ما يخرج عن الجماع من الماء الدافق.
الإعراب:
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) حرف ردع وزجر وبل إضراب انتقالي وتحبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والخطاب لكفّار قريش والإنسان عموما وقرىء بالتاء على سبيل الالتفات وبالياء على طريق الغيبة والعاجلة مفعول به أي الدنيا (وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) عطف على الجملة السابقة وقرىء بالتاء والياء أيضا على ما تقدم (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) وجوه مبتدأ وناضرة نعت له ويومئذ منصوب على الظرفية بناضرة وإلى ربها متعلقان بناظرة وناظرة خبر وجوه والمعنى أن الوجوه الحسنة يوم القيامة ناظرة إلى ربها وهذا معنى صحيح وتخريج سهل، ويجوز أن يكون وجوه مبتدأ أيضا وناضرة خبره ويومئذ ظرف منصوب بناضرة وسوّغ الابتداء بالنكرة هنا كون الموضع موضع تفصيل ويكون ناظرة نعتا لوجوه أو خبرا ثانيا أو خبرا لمبتدأ محذوف وإلى ربها متعلقان(10/304)
بناظرة ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ تقوم القيامة، وسيأتي مزيد من الكلام على هاتين الآيتين في باب الفوائد (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) عطف على ما تقدم وقد تقدم القول في الإعراب ولا بدّ من التنبيه إلى أن يومئذ ليست تخصيصا للنكرة فيسوغ الابتداء بها لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة وإنما هو معمول لباسرة كما ذكرنا أنه معمول لناضرة فيما تقدم وجملة تظن يجوز أن تكون خبرا على الوجه الأول أو خبرا بعد خبر وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي تظن وبها متعلقان بيفعل وفاقرة نائب فاعل ليفعل ومعنى الظن هنا الإيقان أو التوقع مع غلبة الاعتقاد وذلك لأنه وقت رفع الشكوك (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير لهم بما يئولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة بلغت في محل جر بإضافة الظرف إليها وفاعل بلغت مستتر تقديره هي يعود إلى النفس الدّال عليها سياق الكلام وإن لم يجر لها ذكر كما قال حاتم:
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وتقول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يذكرون السماء. والتراقي مفعول به (وَقِيلَ مَنْ راقٍ)
الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي من حوله ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وراق خبره وهو مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وجملة من راق مقول القول ولا أدري معنى قول السمين «وهذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل» (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) الواو عاطفة وظن فعل ماض معناه أيقن وسمي اليقين ظنا لأن الإنسان ما دامت روحه في بدنه فإنه يطمع في(10/305)
ديمومة الحياة لشدة حبه لها وتعلقه بها، وأن واسمها والظرف خبرها وأن وما في حيّزها في موضع نصب سدّت مسدّ مفعولي ظن (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) عطف أيضا، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم ويومئذ ظرف متعلق بالمساق وقد أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جمل أربع: وهي بلغت الروح التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفّت الساق بالساق. والمساق مبتدأ مؤخر وجواب إذا الذي هو العامل فيها يدل على قوله إلى ربك يومئذ المساق أي تساق إلى حكم ربها ومشيئته والمساق مفعل من السوق فهو اسم مصدر (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) عطف على قوله أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ولا نافية وصدق فعل ماض وهو دليل على جواز دخول لا النافية على الماضي وفاعله مستتر تقديره هو أي الإنسان ولا صلّى عطف على فلا صدق وقيل عطف على جملة يسأل أيّان يوم القيامة (وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) عطف أيضا ولكن مخففة مهملة وكذب فعل ماض أي الإنسان وتولى عطف عليه (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والسر الاستبعاد لأن من صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله فيمشي خائفا متطأمنا ولكن هذا يمشي متبخترا متعجرفا يطاول أعنان السماء وهو أهون قدرا وأخسّ مكانا، وإلى أهله متعلقان بذهب وجملة يتمطى حالية من فاعل ذهب (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) تقدم الكلام مطولا حول إعراب هذه الكلمة في سورة القتال (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) عطف على ما تقدم والتكرير للتأكيد وزيادة التهديد، وقد تشبثت الخنساء بأهداب هذا التكرير فقالت:
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) الهمزة للاستفهام الإنكاري(10/306)
ويحسب الإنسان فعل وفاعل وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يحسب ونائب الفاعل مستتر تقديره وهو سدى حال من الضمير في يترك (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) الهمزة للاستفهام التقريري الإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدّرة على النون المحذوفة للتخفيف واسم يك مستتر تقديره هو أي الإنسان ونطفة خبرها ومن مني نعت وجملة يمنى بالبناء للمجهول نعت لمني وقرىء بالتاء (ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) عطف على ما تقدّم وعطف بثم للتراخي وامتداد المدة لأن بين الخلق الثاني الذي هو خلق النسل وبين الخلق الأول تراخيا وأمدا بعيدا فوجب عطفه بثم، وكان واسمها المستتر وعلقة خبرها والفاءان للترتيب مع التعقيب (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) عطف أيضا وفيه التعقيب وجعل فعل ماض ومنه في موضع المفعول الثاني والزوجين مفعول جعل الأول والذكر بدل والأنثى عطف عليه (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري وذلك اسم ليس أي الفعال والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا منصوب محلا خبر ليس وعلى أن يحيي الموتى متعلقان بقادر.
البلاغة:
1- الاستعارة التمثيلية في قوله: «والتفّت الساق بالساق» استعارة تمثيلية لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنهما يومان قد التفا ببعضهما واختلطا بالكرب كما تلتف الساق على الساق كما يقال شمّرت الحرب عن ساق استعارة لشدّتها وقيل التفافهما لشدّة المرض لأنه يقبض ويبسط ويركب هذه على هذه، وعبارة الزمخشري: «والتفّت ساقه بساقه والتوت عليها عند علز الموت» وهو الرعدة تأخذ المريض.(10/307)
2- وفي قوله: «والتفّت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق» التجنيس الناقص المسمى أيضا جناس التبديل وهو الذي يوجد في إحدى كلمتيه حرف لا يوجد في الأخرى وجميع حروف الأخرى يوجد في أختها على استقامتها وهو ثلاثة أقسام: قسم تقع الزيادة منه في أول الكلمة كزيادة الميم في المساق وقسم تقع الزيادة وسط الكلمة كقوله تعالى: وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد، وقسم تقع الزيادة منه في آخر الكلمة كقوله تعالى: ثم كلي من كل الثمرات.
الفوائد:
لا نطيل في مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة فهي مسألة مذكورة في أصول الدين، ودلائل الطريقين أهل السنّة وأهل الاعتزال معروفة، ولما كان الزمخشري من المعتزلة ومذهبه أن تقديم المفعول به يدل على الاختصاص قال في صدد قوله تعالى «إلى ربها ناظرة» : «ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلائق كلهم فاختصاصه بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال فوجب حمله على معنى يصحّ معه الاختصاص والذي يصحّ معه أن يكون من قول الناس: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي يريد معنى التوقع والرجاء ومنه قول القائل:
وإذا نظرت إليك من ملك ... والبحر دونك زدتني نعما
وسمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهيرة حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عيينتي ناظرة إلى الله وإليكم والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلا من ربهم كما كانوا في الدنيا ولا يخشون ولا يرجون إلا إياه» قال ابن عطية: «ذهبوا يعني المعتزلة إلى أن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة أو إلى ثوابه أو ملكه(10/308)
فقدّروا مضافا محذوفا وهذا وجه سائغ في العربية كما تقول فلان ناظر إليك في كذا أي إلى صنعك» .
وقد عقب ابن المنير كعادته على الزمخشري فقال: «ما أقصر لسانه عند هذه الآية فكم له يدندن ويطيل في جحد الرؤية ويشقق القباء ويكثر ويتعمق فلما فغرت هذه الآية فاه صنع في مصامتها بالاستدلال على أنه لو كان المراد الرؤية لما انحصرت بتقديم المفعول لأنها حينئذ غير منحصرة على تقدير رؤية الله تعالى وما يعلم أن المتمتع برؤية جمال وجه الله تعالى لا يصرفه عنه طرفه، ولا يؤثر عليه غيره، ولا يعدل به عزّ وجلّ منظورا سواه، وحقيق له أن يحصر رؤيته إلى من ليس كمثله شيء، ونحن نشاهد العاشق في الدنيا إذا أظفرته برؤية محبوبه لم يصرف عنه لحظة ولم يؤثر عليه فكيف بالمحب لله عزّ وجلّ إذا أخطأه النظر إلى وجهه الكريم نسأل الله العظيم أن لا يصرف عنّا وجهه وأن يعيذنا من مزالق البدعة ومزلّات الشبهة وهو حسبنا ونعم الوكيل» .(10/309)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
(76) سورة الإنسان مدنية وآياتها احدى وثلاثون
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)(10/310)
اللغة:
(أَمْشاجٍ) أخلاط أي من ماء الرجل وماء المرأة المختلطين الممتزجين، ووقع الجمع صفة لمفرد أي لنطفة لأنه في معنى الجمع أو جعل كل جزء من النطفة نطفة فاعتبر ذلك فوصف بالجمع وفي المختار: «مشج بينهما خلط وبابه ضرب والشيء مشيج والجمع أمشاج كيتيم وأيتام ويقال نطفة أمشاج لماء الرجل يختلط بماء المرأة ودمها» وعبارة الزمخشري: «نطفة أمشاج كبرمة أعشار وبرد أكباش وهي ألفاظ مفردة غير جموع ولذلك وقعت صفات للأفراد ويقال أيضا نطفة مشج قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ... على مشج سلالته مهين
ولا يصحّ أمشاج أن يكون تكسيرا له بل هما مثلان في الإفراد لوصف المفرد بهما ومشجه ومزجه بمعنى، والمعنى: من نطفة امتزج فيها الماءان» .
(كافُوراً) الكافور: نبت طيب وكأن اشتقاقه من الكفر وهو الستر لأنه يغطي الأشياء براحته والكافور أيضا كمام الشجر التي تغطي ثمرتها.
(مُسْتَطِيراً) : فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ من استطار الحريق واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر يقال: استطار يستطير استطارة فهو مستطير وهو استفعل من الطيران وقال الفراء: «المستطير:
المستطيل» كأنه يريد أنه مثله في المعنى إلا أنه أبدل من اللام راءه، والفجر فجران مستطيل كذنب السرحان وهو الكاذب ومستطير وهو الصادق لانتشاره في الأفق.
(قَمْطَرِيراً) القمطرير: الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه قال الزجّاج: يقال قمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها وزقت(10/311)
بأنفها فاشتقته من القطر وجعل الميم زائدة، وقال أسد بن ناعصة:
واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشر قمطرير الصباح
وفي القاموس: «ويوم قماطر كعلابط وقمطرير شديد واقمطرّ اشتد» .
الإعراب:
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في هل وجهان: أحدهما هي بمعنى قد والثاني هي استفهام على بابها والاستفهام هنا للتقرير وللتوبيخ. وعبارة السمين: «في هل هذه وجهان: أحدهما أنها على بابها من الاستفهام المحض وقال مكّي في تقرير كونها على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير: وهو تقرير لمن أنكر البعث فلا بدّ أن يقول نعم قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه فيقال له: من أحدثه بعد أن لم يكن وكونه بعد عدمه كيف يمتنع عليه بعثه وإحياؤه بعد موته؟ وهو معنى قوله: ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أي فهلّا تذكرون فتعلمون أن من أنشأ شيئا بعد أن لم يكن قادرا على إعادته بعد موته وعدمه فقد جعلها للاستفهام التقريري لا للاستفهام المحض وهذا هو الذي يجب أن يكون لأن الاستفهام لا يرد من الله تعالى ألا على هذا النحو وما أشبهه، الثاني أنها بمعنى قد» . أما الزمخشري فقال: «هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قوله: «أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم» فالمعنى قد أتى على التقرير والتقريب جميعا أي أتى على الإنسان قبل زمان قريب» أما شطر البيت الذي أورده الزمخشري فهو عجز البيت:
سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم(10/312)
والبيت لزيد الخيل الذي سمّاه النبي صلّى الله عليه وسلم زيد الخير، وسائل فعل أمر بمعنى اسألهم وراجعهم في السؤال لتتيقن حقيقة الحال ويربوع أبو حي، والباء بمعنى عن أي سلهم عن قوتنا والأصل في الاستفهام الهمزة ولذلك كان لها تمام التصدير في الكلام وأصل هل بمعنى قد لكن لكثرة الاستعمال فيه صارت الهمزة نسيا منسيا في حيز الإهمال والاستفهام هنا للتقرير. وأتى فعل ماض وعلى الإنسان متعلقان بأتى وحين فاعل ومن الدهر نعت لحين، وجملة لم يكن فيها وجهان أحدهما أنها في موضع نصب على الحال من الإنسان أي هل أتى عليه حين في هذه الحالة والثاني أنها في موضع رفع نعتا لحين بعد نعت وعلى هذا فالعائد محذوف تقديره حين لم يكن فيه شيئا مذكورا والأول أرجح، وعبارة الزمخشري «فإن قلت: ما محل لم يكن شيئا مذكورا قلت محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين كقوله يوما لا يجزي والد عن ولده» ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره هو يعود على الإنسان وشيئا خبرها ومذكورا نعت لشيئا (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان كيفية خلق الإنسان وإن واسمها وجملة خلقنا الإنسان خبرها ومن نطفة متعلقان بخلقنا وأمشاج نعت لنطفة، وقد تقدم في باب اللغة سر وقوع الجمع صفة لمفرد على أن أبا البقاء أجاز أن تكون بدلا من نطفة، وجملة نبتليه فيها وجهان أحدهما أنها حال من فاعل خلقنا أي خلقناه حال كوننا مبتلين له والثاني أنها حال من الإنسان وصحّ ذلك لأن في الجملة ضميرين كلّ منهما يعود على ذي الحال ثم هذه الحال يجوز أن تكون مقارنة إن كان المعنى نبتليه بتصريفه في بطن أمه نطفة ثم علقة وأن تكون مقدّرة إن كان المعنى نبتليه نختبره بالتكليف لأنه وقت خلقه غير مكلّف (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً(10/313)
بَصِيراً)
الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وسميعا بصيرا مفعول به ثان، وقد نزلت الكلمتان منزلة الكلمة الواحدة لأنهما كناية عن التمييز والفهم إذ آلتهما سبب لذلك وهما أشرف الحواس تدرك بهما أعظم المدركات أي جعلناه بسبب الابتلاء حين تأهله له سميعا بصيرا ليتمكن من مشاهدة الدلائل واستماع الآيات فالعطف على إرادة الابتلاء لا الابتلاء فيه فلا يرد السؤال الآتي: كيف عطف على نبتليه ما بعده بالفاء مع أن الابتلاء متأخر عنه (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) الجملة تعليل للابتلاء وإن واسمها وجملة هديناه من الفعل والفاعل والمفعول خبر إنّا والسبيل مفعول به ثان أو في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بهديناه وإما حرف شرط وتفصيل وشاكرا وكفورا حالان من الهاء في هديناه أي مكّناه وأقدرناه على حالتيه جميعا أو دعوناه إلى الإسلام بأدلة العقل والسمع وكان معلوما أنه يؤمن أو يكفر لإلزام الحجة، ويجوز أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا كقوله وهديناه النجدين ويكون وصف السبيل بالشكر والكفر مجازا، وسيأتي سر المخالفة بين اسم الفاعل وصيغة المبالغة في باب البلاغة (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) الجملة تعليل أيضا لأنه لما ذكر الفريقين اتبعهما الوعيد والوعد، وإن واسمها وجملة أعتدنا خبرها وللكافرين متعلقان بأعتدنا وسلاسل مفعول به ومنع من الصرف لأنه جمع على وزن مفاعل وقرئ بالصرف للمناسبة مع أغلالا وهما قراءتان سبعيتان. وعبارة أبي حيان: «وقرأ طلحة وعمرو بن عبيد وابن كثير وأبو عمرو وحمزة سلاسل ممنوع الصرف وقفا ووصلا وقيل عن حمزة وأبي عمرو الوقف بالألف وقرأ حفص وابن ذكوان بمنع الصرف واختلف عنهم في الوقف وكذا عن البزّي وقرأ باقي السبعة بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وهي قراءة الأعمش، قيل: وهذا على ما حكاه(10/314)
الأخفش من لغة من يصرف كلّ ما لا ينصرف إلا أفعل وهي لغة الشعراء ثم كثر حتى جرى في كلامهم وعلّل ذلك بأن
هذا الجمع لما كان يجمع فقالوا صواحبات يوسف ونواكسي الأبصار أشبه المفرد فجرى فيه الصرف وقال بعض الرجّاز:
والصرف في الجمع أتى كثيرا ... حتى ادّعى قوم به التخييرا
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) إن واسمها وجملة يشربون خبرها ومن كأس متعلقان بيشربون ومفعول يشربون محذوف أي خمرا من كأس، والكأس الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
وجملة كان مزاجها كافورا نعت لكأس وكان واسمها وخبرها (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) عينا أفاض النحاة في أوجه إعرابها والأوجه التي أوردوها تتناهى إلى السبعة ونوردها فيما يلي باختصار ثم نعمد إلى الترجيح: 1- بدل من كافورا لأن ماءها في بياض الكافور وفي رائحته وبرودته 2- بدل من محل من كأس، وقدّر الزمخشري على هذا الوجه حذف مضاف قال: «كأنه قيل يشربون فيها خمرا خمر عين» وأما أبو البقاء فجعل المضاف مقدّرا على وجه البدل من كافورا فقال:
«والثاني بدل من كافورا أي ماء عين أو خمر عين» 3- مفعول يشربون أي يشربون عينا من كأس 4- النصب على الاختصاص 5- منصوب بيشربون مقدّرا يفسّره ما بعده قاله أبو البقاء أيضا 6- منصوب بإضمار فعل تقديره يعطون 7- منصوب على الحال من الضمير في مزاجها قاله مكّي. ونرى أن الأول والرابع أرجح الأوجه وأدناها إلى السهولة على أن ذلك لا يمنع الاعتراف بصحة الأوجه التي أوردناها كلها. وجملة يشرب(10/315)
صفة لعينا وبها جار ومجرور متعلقان بيشرب والضمير يعود على الكأس أي يشربون العين بتلك الكأس والباء للإلصاق، قال الزمخشري: «فإن قلت لم وصل فعل الشرب بحرف الابتداء أولا وبحرف الإلصاق أخيرا؟
قلت: لأن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى يشرب عباد الله بها الخمر كما تقول شربت الماء بالعسل» وقيل: الباء زائدة أي يشربها ويدل له قراءة يشربها معدى إلى الضمير بنفسه وإنها بمعنى من فتكون للتبعيض أثبته الأصمعي وابن مالك والفارسي والقتبي وجعلوا منه هذه الآية وقوله تعالى فامسحوا برءوسكم وعليها بنى الشافعي مذهبه في مسح بعض الرأس في الوضوء لما قام عنده من الأدلة ويجوز أن تكون في موضع نصب على الحال أي ممزوجة ويجوز أن يتضمن يشربون معنى يلتذون بها شاربين أو يتضمن معنى يرتوي أي يرتوي بها عباد الله. وجملة يفجرونها في موضع نصب على الحال أي يجرونها حيث شاءوا من منازلهم فهي سهلة لا تمتنع عليهم أو نعت ثان لعينا وتفجيرا مفعول مطلق (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: بم استحقوا هذا النعيم؟ فقيل يوفون، ويوفون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وبالنذر متعلقان بيوفون ويوما مفعول به وجملة كان صفة ليوم وشره اسم كان ومستطيرا خبرها (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) عطف على يوفون ويخافون، والطعام مفعول به وعلى حبه متعلقان بمحذوف حال أي محبين له وعلى بمعنى مع أي للمصاحبة وحبه مصدر أضيف للمفعول فالضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه «وآتى المال على حبه» ويصحّ رجوع الضمير لله أي على حب الله أي لوجه وابتغاء مرضاته والأول أمدح أن فيه الإيثار على النفس والطعام محبوب للفقراء والأغنياء وأما على الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر ومسكينا مفعول به ثان وما بعده عطف عليه وخصّ هؤلاء(10/316)
بالذكر لسر يأتي في باب البلاغة (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) الجملة تعليل لبيان سبب الإطعام وإنما كافّة ومكفوفة ونطعمكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به ولوجه الله متعلقان بنطعمكم وجملة لا نريد إلخ حالية ولا نافية ونريد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومنكم متعلقان بنريد وجزاء مفعول به ولا شكورا عطف عليه (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) تعليل لقوله إنما نطعمكم وإن واسمها وجملة نخاف خبرها وفاعل نخاف ضمير مستتر تقديره نحن ومن ربنا متعلقان بنخاف ويوما مفعول به وعبوسا نعت وقمطريرا نعت ثان ليوما (فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) الفاء عاطفة لبيان السبب أي فبسبب خوفهم وقاهم الله أي دفع عنهم شرّ ذلك اليوم ووطأته، ووقاهم فعل ماض ومفعول به مقدّم والله فاعل مؤخر وشر مفعول به ثان وذلك مضاف إليه واليوم بدل من اسم الإشارة ولقاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ونضرة مفعول به ثان وسرورا عطف على نضرة (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) وجزاهم عطف أيضا وجزاهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بجزاهم وما مصدرية أي بصبرهم وجنة مفعول به ثان وحريرا عطف على جنة.
البلاغة:
1- في قوله: «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» لما كان الشكر قلّ من يتّصف به قال شاكرا فعبّر عنه باسم الفاعل للدلالة على قلته، ولما كان الكفر كثيرا من يتّصف به ويكثر وقوعه من الإنسان قال كفورا فعبّر عنه بصيغة المبالغة.
2- وفي قوله: «ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا»(10/317)
خصّ هؤلاء الثلاثة بالذكر لأن المسكين عاجز عن اكتساب قوته بنفسه واليتيم مات أبواه وهما اللذان يكتسبان وبقي عاجزا عن الكسب لصغره والأسير لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ولا نصرا ولا حيلة، قال عطاء:
نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وذلك أنه أجّر نفسه ليلة ليسقي نخلا بشيء من شعير حتى أصبح وقبض الشعير وطحنوا ثلثه فجعلوا منه شيئا ليأكلوه فلما تمّ نضجه أتى مسكين فأخرجوا له الطعام ثم صنع الثلث الباقي فلما تمّ نضجه أتى يتيم فأطعموه ثم الثالث فلما تمّ نضجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا يومهم ذلك فأنزل الله فيهم هذه الآيات.
3- في قوله «إنّا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا» مجاز إسنادي وقد تقدمت له نظائر كثيرة في هذا الكتاب، لأن وصف اليوم بالعبوس مجاز كما يقال نهاره صائم وليله قائم والمراد أهلهما.
الفوائد:
1- «كان» في القرآن على خمسة أوجه:
1- بمعنى الأول والأبد نحو «وكان الله عليما حكيما» .
2- بمعنى المضي المنقطع نحو «وكان في المدينة تسعة رهط» .
3- بمعنى الحال نحو «كنتم خير أمة» .
4- بمعنى الاستقبال نحو «ويخافون يوما كان شره مستطيرا» .
5- بمعنى صار نحو «وكان من الكافرين» .
2- ولإما خمسة معان:
1- الشك نحو: جاءني إما زيد وإما عمرو إذا لم تعلم الجائي منهما.(10/318)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
2- الإبهام نحو «وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم» أي إن الله تعالى عالم بحقيقة حالهم، وقصد الإبهام على السامع.
3- التخيير نحو «إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا» ولا يكون إلا بعد الطلب فيقدّر في الآية والأصل: يا ذا القرنين افعل فإما أن تعذب إلخ.
4- الإباحة نحو تعلّم إما فقها وإما نحوا.
5- التفصيل نحو: «إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا» .
[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)(10/319)
اللغة:
(زَمْهَرِيراً) في المختار: «الزمهرير: شدة البرد قلت: قال ثعلب الزمهرير أيضا القمر في لغة طيء وبه فسّر قوله تعالى: لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا أي فيها من الضياء والنور ما لا يحتاجون معه إلى شمس ولا قمر» .
وعبارة أبي حيّان: «الزمهرير أشد البرد وقال ثعلب هو القمر بلغة طيء وأنشد قول الراجز:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما ظهر
وعبارة الزمخشري: «يعني أن هواءها معتدل لا حرّ شمس يحمي ولا شدّة برد تؤذي وفي الحديث: هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ» .
(قَوارِيرَا) القارورة إناء صاف توضع فيه الأشربة قيل ويكون من الزجاج.
(زَنْجَبِيلًا) الزنجبيل قال الدينوري: نبت في أرض عمان عروق تسري وليس بشجر يؤكل رطبا وأجوده ما يحمل من بلاد الصين كانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيتلذذون به، قال الشاعر:
كأن القرنفل والزنجبي ... ل باتا بفيها وأريا مشورا
وقال المسيب بن علس:
وكأن طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر
والضمير في به يعود للفم وإذ ذقته أي حين ذقت ريقه فهو مجاز(10/320)
وسلافة الخمر أول ما يعصر من العنب وقال آخرون: الزنجبيل: نبات له عروق تسري في الأرض ويتولد فيها عقد حريفة الطعم وتتفرع هذه العروق من نبت كالقصب.
(سَلْسَبِيلًا) السلسبيل: ما سهل انحداره في الحلق وقال الزجّاج:
«هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة» وقال الزمخشري: «يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ودلّت على غاية السلاسة» وقال ابن الأعرابي:
«لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن» وقال مكّي: «هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف» ووزن سلسبيل مثل دردبيس وقيل فعفليل لأن الفاء مكررة وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث لأنها اسم لعين بعينها وعلى هذا فكيف صرفت في قراءة العامة ويجاب بأنها سمّيت بذلك لا على جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد أو يكون من باب تنوين سلاسل وقوارير كما تقدم وكما سيأتي.
(سُندُسٍ) السندس ما رقّ من الحرير ويكون أخضر وغير أخضر.
(إِسْتَبْرَقٌ) الإستبرق: ما غلظ من الديباج فهو البطائن والسندس الظهائر.
الإعراب:
(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) متكئين حال من مفعول جزاهم ووهم أبو البقاء فأجاز أن تكون صفة لجنة ولا أدري كيف سبق هذا إلى وهمه وازداد عجبي عند ما رأيت الزمخشري يجيز ذلك قال: «ويجوز أن تجعل متكئين ولا يرون ودانية كلها صفات لجنة» وذلك مردود لعدم بروز الضمير ليكون نعتا سببيا فلم(10/321)
يقل متكئين هم فيها وفيها حال أي في الجنة وعلى الأرائك متعلقان بمتكئين وجملة لا يرون حال ثانية من مفعول جزاهم ولك أن تجعلها حالا من الضمير في متكئين فتكون حالا متداخلة كما يجوز لك أن تجعلها صفة لجنة كما قرر أبو البقاء والزمخشري وفيها متعلقان بيرون وشمسا مفعول ولا زمهريرا عطف على شمسا (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) عطف على متكئين فيكون فيها ما فيها ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم كأنه قيل وجزاهم جنة جامعين فيها بين السلامة من الحرّ والقرّ وبين دنو الظلال عليهم ولك أن تجعلها منصوبة عطفا على محل لا يرون وقال الزجّاج صفة لجنة الملفوظ بها أما أبو البقاء فأغرب إذ أعربها صفة لجنة محذوفة أي وجنة دانية وهو تكلّف وتحكم لا مبرر لهما. وعليهم متعلقان بدانية، ولا بدّ من تضمين على معنى من لأن الدنو لا يتعدى بعلى وإنما لم يقل منهم لأن الظلال عالية عليهم، والواو عاطفة وذللت فعل ماض مبني للمجهول وعطف على دانية وإنما خولف بعطف الفعلية على الاسمية للإشارة إلى أن التظليل أمر دائم لا يزول لأنها لا شمس فيها بخلاف التذليل فإنه أمر متجدد طارئ، وقطوفها نائب فاعل وتذليلا مفعول مطلق (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا) الواو عاطفة ويطاف فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بيطاف وبآنية نائب مفعول لأنه هو المفعول به في المعنى ويجوز أن تكون عليهم هي النائبة وبآنية متعلقان بيطاف والآنية جمع إناء والأصل أأنية بهمزتين الأولى مزيدة للجمع والثانية فاء الكلمة فقلبت الثانية ألفا وجوبا وهذا نظير كساء وأكسية وغطاء وأغطية، ونظيره في الصحيح اللام حمار وأحمرة.
ومن فضة نعت لآنية وأكواب عطف على آنية من عطف الخاص على العام وجملة كانت نعت لأكواب واسم كانت مستتر يعود على الأكواب وقواريرا خبر كانت ويجوز أن تكون كانت تامة فيكون قواريرا حالا أي(10/322)
كونت، وعبارة أبي البقاء: «ويقرأان بالتنوين وبغير التنوين والأكثرون يقفون على الأول بالألف لأنه رأس آية (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قوارير بدل من قواريرا الأولى وقد منعت من الصرف ومن فضة نعت لقوارير وجملة قدّرت نعت ثان وتقديرا مفعول مطلق وقرئ قوارير بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي قوارير ومعنى التقدير أنها هيئت على قدر ريّ الشاربين أي شهوتهم لأنه لا ظمأ في الجنة من غير زيادة ولا نقص وذلك ألذ الشراب (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) الواو عاطفة ويسقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بيسقون وكأسا مفعول به ثان وجملة كان صفة لكأسا ومزاجها اسم كان وزنجبيلا خبرها (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) عينا بدل من زنجبيلا وقيل تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه أو يخلق الله طعمه فيها وعينا على هذا القول مبدلة من كأسا أو منصوبة على الاختصاص ولعلّ هذا هو الأرجح وعلى كل حال تطبق عليها الأوجه المطبقة على عينا الأولى وفيها نعت لعينا وجملة تسمى نعت ثان ونائب الفاعل مستتر تقديره هي وسلسبيلا مفعول به ثان (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) الواو عاطفة ويطوف فعل مضارع وعليهم متعلقان بيطوف وولدان فاعل ومخلدون نعت لولدان وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رأيتهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة حسبتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وحسبتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ولؤلؤا مفعول به ثان ومنثورا نعت أي متفرقا، وفي المصباح «نثرته نثرا من بابي قتل وضرب رميت به متفرقا فانتثر» (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة رأيت في محل جر بإضافة الظرف إليه ورأيت فعل وفاعل وليس له مفعول ظاهر ولا مقدّر لإشاعة الرؤية وتعميمها كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثم، وثم ظرف مكان مختص(10/323)
بالعبد متعلق بثم والمعنى وإذا صدرت منك الرؤية في ذلك المكان رأيت وجملة رأيت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونعيما مفعول رأيت الثانية وملكا كبيرا عطف على نعيما وقال الفراء ثم مفعول به لرأيت والتقدير وإذا رأيت ما ثم فحذفت ما وقامت ثم مقامها ولا داعي لهذا التكلّف (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) عاليهم: في إعرابه وجهان أحدهما أنه ظرف مكان لأنه بمعنى فوقهم وقد اعترض أبو حيان على هذا الإعراب فقال: «وعال وعالية اسم فاعل فيحتاج في كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب» وهذا اعتراض مردود لأنه وردت ألفاظ من صيغ أسماء الفاعلين ظروفا نحو خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها تقول جلست خارج الدار وكذا البواقي فكذلك هذا وإذا تقرر هذا فإن الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم وثياب سندس مبتدأ مؤخر وخضر نعت لثياب وإستبرق عطف على ثياب على حذف مضاف أي ثياب إستبرق وقرئ بجر إستبرق بالعطف على سندس لأن المعنى ثياب من سندس وثياب من إستبرق. والوجه الثاني وهو الذي جرى عليه الأكثرون أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو من مفعول حسبتهم أو من مضاف مقدّر أي رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم، فعاليهم حال من أهل المقدّر، وقد ذكر الزمخشري هذا القول وعبارته: «وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب ويجوز أن يراد أهل نعيم» وقرئ عاليهم بسكون الياء وكسر الهاء على أنها خبر مقدّم وثياب مبتدأ مؤخر كأنه قيل فوقهم ثياب. أما نص إعراب أبي البقاء فهو «قوله تعالى: عاليهم فيه قولان أحدهما هو فاعل وانتصب على الحال من المجرور في عليهم وثياب سندس مرفوع به أي يطوف عليهم في حال علو السندس ولم يؤنث
عاليهم لأن تأنيث الثياب غير حقيقي(10/324)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
والقول الثاني هو ظرف لأن عاليهم جلودهم وفي هذا القول ضعف ويقرأ بسكون الياء إما على تخفيف المفتوح المنقوص أو على الابتداء والخبر ويقرأ عاليتهم بالتاء وهو ظاهر وخضر بالجر صفة لسندس وبالرفع لثياب وإستبرق بالجر عطف على سندس وبالرفع على ثياب» . ولا أدري كيف استساغ أبو البقاء أن يستضعف وجه الظرف والخطب فيه أهون من الحال لوروده معرفة مهما قيل في تأويله (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) عطف على ويطوف عليهم وساغ عطف الماضي على المضارع لأنه مستقبل المعنى وللإيذان بتحقيقه وحلّوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأساور مفعول به ثان وقيل نصب بنزع الخافض لأنهم يعدّونه إلى واحد ومن فضة نعت لأساور وسقاهم عطف على حلّوا وربهم فاعل وشرابا مفعول به ثان وطهورا نعت لشرابا (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لأهل الجنة وإن واسمها وجملة كان خبرها ولكم متعلقان بجزاء واسم كان مستتر تقديره هو وجزاء خبرها وكان عطف على كان الأولى وسعيكم اسمها ومشكورا خبرها.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)(10/325)
الإعراب:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) إن واسمها ونحن ضمير فصل أو تأكيد لاسم إن وجملة نزلنا خبر إنّا وعليك متعلقان بنزلنا والقرآن مفعول به وتنزيلا مفعول مطلق ولك أن تجعل نحن مبتدأ فتكون جملة نزلنا خبر نحن والجملة خبر إن (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصبر، واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولحكم ربك متعلقان باصبر والواو حرف عطف ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت ومنهم حال وآثما مفعول به وأو حرف عطف وكفورا عطف على آثما وإنما جنح إلى «أو» دون الواو لإفهام النهي عن طاعتهما معا ولو عطف بالواو لأفهم جواز طاعة أحدهما وليس مرادا وعبارة الزجّاج: «أو هنا أوكد من الواو لأنك لو قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى» وعبارة أبي حيان: «والنهي عن طاعة كل واحد منهما أبلغ من النهي عن طاعتهما لأنه يستلزم النهي عن أحدهما لأن في طاعتهما طاعة أحدهما ولو قال لا تضرب زيدا وعمرا لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا لا عن ضرب أحدهما، وقال أبو عبيدة «أو» بمعنى الواو والكفور وإن كان آثما فإن فيه مبالغة في الكفر ولما كان وصف الكفور مباينا للموصوف لمجرد الإثم صلح التغاير فحسن العطف» (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) عطف على ما تقدم واذكر فعل أمر واسم ربك(10/326)
مفعول به وبكرة وأصيلا ظرفان متعلقان باذكر والمراد الدوام على الصلاة في أوقاتها (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) ومن الليل متعلقان باسجد ومعنى من التبعيض أي اسجد وصل له بعض الليل، واسجد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وله متعلقان باسجد أيضا وسبّحه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وليلا ظرف متعلق بسبّحه وطويلا نعت (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا) الجملة تعليل لما قبلها من النهي والأمر وعبارة الشهاب الخفاجي: «هذا التعليل لما قبله من النهي والأمر في قوله ولا تطع إلى هنا فكأنه قال: لا تطعهم واشتغل بالأهمّ من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة فالأول علّة للنهي عن طاعة الآثم والكفور والثاني علّة للأمر بالطاعة، وإن حرف مشبّه بالفعل وهؤلاء اسم إشارة مبني على الكسر في محل نصب اسمها وجملة يحبون خبرها والعاجلة مفعول به ويذرون عطف على يحبون ووراءهم ظرف مكان بمعنى قدّام متعلق بمحذوف حال من المفعول مقدم عليه ويوما مفعول به وثقيلا ظرف، وسيأتي معنى الثقل في باب البلاغة (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) نحن مبتدأ وجملة خلقناهم خبر وشددنا عطف على خلقناهم وأسرهم مفعول به أي قوينا أسرهم والأسر كما في القاموس «الشدة والغضب وشدة الخلق والخلق وشددنا أسرهم أي مفاصلهم» وفي المختار: «أسره من باب ضرب أي شدّه بالإسار بوزن الإزار وهو القدّ بالكسر وهو سير يقدّ من جلد غير مدبوغ ومنه سمي الأسير لأنهم كانوا يشدّونه بالقدّ فسمي كل مأخوذ أسيرا وإن لم يشدّ به وأسره الله خلقه وبابه ضرب ومنه: وشددنا أسرهم أي خلقهم والأسر بالضم احتباس البول كالحصر في الغائط وأسرة الرجل أهله لأنه يتقوى بهم» (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة شئنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة بدّلنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير(10/327)
جازم وأمثالهم مفعول به وتبديلا مفعول مطلق، ومفعول بدّلنا الثاني لأنها بمعنى جعلنا محذوف تقديره بدلا منهم. هذا وقد تورط الزمخشري ورطة كان له مندوحة عنها ذلك أنه قال «وحقه أن يؤتى بإن لا بإذا كقوله: وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، إن يشأ يذهبكم» ولم يعقب على ذلك بشيء فأوهم أنه يعني ورود القرآن في تعبيره بإذا على خلاف الحق والواقع أن إذا وإن تتعاوران فقد قالوا: إن إذا للمحقق وإن للممكن وهو تعالى لم يشأ فالظاهر أن تستعمل إن لكنه قد
توضع إذا موضع إن وإن موضع إذا كقوله: أفإن متّ فهم الخالدون (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) إن واسمها والإشارة إلى السورة وتذكرة خبرها والفاء عاطفة ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول شاء محذوف أي الخير لنفسه وحسن العاقبة واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وإلى ربه في موضع المفعول الثاني وسبيلا مفعول اتخذ الأول (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) الواو عاطفة وما نافية وتشاءون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول به محذوف أي الطاعة وإلا أداة حصر وأن يشاء الله المصدر المؤول في موضع نصب على الظرفية لأنه استثناء من أعمّ الظروف وأصله إلا وقت مشيئة الله وأجاز أبو البقاء أن يكون الاستثناء من أعمّ الأحوال فيكون المصدر حالا وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وعليما خبرها الأول وحكيما خبرها الثاني (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) الجملة حالية من الله ويدخل فعل مضارع مرفوع وفاعله هو ومن مفعول به وجملة يشاء صلة من وفي رحمته متعلقان بيدخل، والظالمين: الواو عاطفة والظالمين منصوب بفعل مقدّر يفسّره ما بعده وقدّره أبو البقاء:
ويعذب الظالمين، وجملة أعدّ مفسّرة ولهم متعلقان بأعدّ وعذابا مفعول به وأليما نعت.(10/328)
البلاغة:
في قوله «يوما ثقيلا» استعارة تصريحية، فقد استعير الثقل لشدة ذلك اليوم وهوله من الشيء الثقيل الباهظ لحامله ونحوه ثقلت في السموات والأرض.
خطأ وقياس في غير محله:
هذا ومن المضحك أن بعضهم علّق على قوله «وسبّحه ليلا طويلا» فقال هذه الآية رد على عدم ما قاله أهل علم المعاني والبيان إن الجمع بين الحاء والهاء مثلا يخرج الكلمة من فصاحتها وجعلوا من ذلك قول أبي تمام:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
وهذا خطأ من الناقد الذي ظن أنه يبرئ القرآن الكريم من العيوب المخلّة بالفصاحة بشجبه لما قرره علماء البلاغة وقياس في غير محله فالفرق واضح بين الآية والشعر وهو أن تكرار أمدحه هو الذي أخرجه عن مهيع الفصاحة لا مجرد اجتماع الحاء والهاء، وإذن فالآية سليمة من تنافر الحروف قال الشيخ مخلوف الميناوي في حاشيته على شرح الشيخ أحمد الدمنهوري لمتن الإمام الأخضري: «فإن منشأ الثقل هو تكرار أمدحه دون مجرد الجمع لوقوعه بين الحاء والهاء في التنزيل نحو فسبّحه» .
الفوائد:
«إن» و «إذا» يشتركان في إفادة تعليق حصول الجزاء في المستقبل(10/329)
بحصول الشرط فيه، لكن أصل إن، أي موضع استعمالها الحقيقي، الشك في وقوع الشرط، قيل والتوهم وقيل وكذا المظنون. وأصل إذا الجزم بوقوعه، ولا تستعمل إن في غير الشك وإذا في غير الجزم إلا لنكتة، كما أنهما لا يدخلان على ماض من شرط أو جزاء إلا لنكتة ولو لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط.(10/330)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
(77) سورة المرسلات مكيّة وآياتها خمسون
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
الإعراب:
(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قال أبو حيان في النهر: «هذه السورة مكية(10/331)
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدا وهي أنه ذكر أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين وهذا وعد منه صادق فأقسم على وقوعه فقال إن ما توعدون لواقع ولما كان للمقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها وقع الخلاف في تلك الموصوفات والذي يظهر أن المقسم به شيئان ولذلك جاء العطف بالواو في والناشرات والعطف بالواو يشعر بالتغاير وأما العطف بالفاء إذا كان في الصفات فيدل على أنها راجعة لموصوف واحد وإذا تقرر هذا فالظاهر أنه أقسم أولا بالرياح ويدل عليه عطف الصفة بالفاء والقسم الثاني فيه ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ويكون قوله فالفارقات فالملقيات من صفاتهم وإلقاؤهم للذكر وهو ما أنزل الله تعالى صحيح إسناده إليهم وما ذكر من اختلاف المفسرين في المراد بهذه الأوصاف ينبغي أن يحمل على التمثيل لا على التعيين وجواب القسم وما عطف عليه إن ما توعدون وما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه وهي اسم إن وقوله لواقع خبرها» وقد وطأنا بهذه اللمحة المفيدة جلاء للحقيقة ودفعا للالتباس الذي قد ينشأ عن اختلاف المفسرين ونعود بعدها إلى الإعراب. الواو للقسم والمرسلات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، وعرفا إما أن يكون من عرف الفرس وهو بضم العين أي شعر العنق للفرس فيعرب حالا من الضمير المستكن في المرسلات والمعنى على التشبيه أي حال كونها عرفا أي شبيهة بعرف الفرس من حيث تلاحقها وتتابعها كما أنه كذلك أو على أنه مصدر كأنه قال والمرسلات إرسالا أي متتابعة، وإما أن يكون من العرف وهو المعروف على حدّ قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وانتصابه على أنه مفعول من أجله أي أرسلت للإحسان والمعروف(10/332)
أو منصوب بنزع الخافض (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) الفاء عاطفة للتعقيب والعاصفات عطف على المرسلات وهي اسم فاعل من العصف بمعنى الشدّة وفي المصباح: «عصفت الريح عصفا من باب ضرب وعصوفا أيضا اشتدت» وعصفا مصدر مؤكد فهو مفعول مطلق (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) والناشرات عطف أيضا ونشرا مفعول مطلق، فالفارقات عطف أيضا وفرقا مفعول مطلق فالملقيات عطف أيضا وذكرا مفعول به للملقيات أي للملائكة تنزل بالوحي إلى الأنبياء (عُذْراً أَوْ نُذْراً) هما مصدران من عذر إذا محا الإساءة ومن أنذر إذا خوف على الكفر كالكفر والشكر، وهما منصوبان على أنهما مفعول من أجله، وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على البدل من ذكرا، وعبارة أبي البقاء:
«وفي عذرا أو نذرا وجهان أحدهما: هما مصدران يسكن أوسطهما ويضم والثاني هما جمع عذير ونذير فعلى الأول ينتصبان على المفعول له أو على البدل من ذكرا وعلى الثاني هما حالان من الضمير في الملقيات أي معذرين ومنذرين» (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن حرف مشبّه بالفعل وما اسم موصول اسم إن وجملة توعدون صلة واللام المزحلقة وواقع خبر إن والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط والنجوم نائب فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده وجملة طمست مفسّرة لا محل لها وفي جواب إذا قولان: أحدهما أنه محذوف تقديره فإذا طمست النجوم وقع ما توعدون لدلالة قوله إنما توعدون لواقع والثاني أنه لأي يوم أجلت على إضمار القول أي يقال لأي يوم أجلت فالفعل في الحقيقة هو الجواب، ومعنى طمست محيت ومحقت وذهب نورها (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) جمل معطوفة على جملة فإذا النجوم طمست ومعنى فرجت فتحت فكانت أبوابا ومعنى نسفت تفتتت كالرمل السائل ثم(10/333)
يطيرها الريح، وفي المصباح «نسفت الريح التراب نسفا من باب ضرب اقتلعته وفرقته» ومعنى أقتت وقتت وقد قرئ بهما أي جمعت لوقت معلوم قال الزجاج المراد بهذا التأقيت أو التوقيت تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم والواو إذا انضمت جاز جعلها همزة، وقال المبرد في كامله «قال الله عزّ وجلّ: وإذا الرسل أقتت والأصل وقتت ولو كان في غير القرآن لجاز إظهار الواو إن شئت» (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ) لأي يوم متعلق بأجلت أي أجلت لأي يوم والجملة مقول قول محذوف في محل نصب على الحال من مرفوع أقتت أي يقال لأي يوم أجلت أو لا محل لها لأنها جواب إذا كما تقدم وليوم الفصل بدل من لأي يوم بإعادة العامل ولك أن تعلقه بفعل محذوف أي أجلت ليوم الفصل (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبرها والكاف مفعول به أول وقوله ما يوم الفصل جملة من مبتدأ وهو ما الاستفهامية وخبر وهو يوم الفصل سادّة مسدّ المفعول الثاني لإدراك المعلقة بالاستفهام والاستفهام الأول معناه الاستبعاد والإنكار والثاني للتعظيم والتهويل (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) ويل مبتدأ سوّغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء، وعبارة الزمخشري: «فإن قلت كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله ويل يومئذ للمكذبين؟ قلت هو في أصله مصدر منصوب سادّ مسدّ فعله ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات معنى الهلاك ودوامه للمدعوّ عليهم، ونحوه سلام عليكم ويجوز ويلا بالنصب ولكنه لم يقرأ به» ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بويل أو صفة له والتنوين عوض عن جمل محذوفة تقتبس من السياق والتقدير يوم إذ طمست نجوم وكان ما بعدها، وللمكذبين خبر ويل (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري لأن الاستفهام في الأصل إنكاري وقد دخل على نفي ونفي النفي إثبات ويعبّر عنه بالاستفهام التقريري(10/334)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
ولم حرف نفي وقلب وجزم ونهلك فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأولين مفعول به وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونتبعهم فعل مضارع مرفوع استئنافا أي ثم نحن نتبعهم والآخرين مفعول به ثان (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الفعل الفظيع نفعل وبالمجرمين متعلقان بنفعل وويل يومئذ للمكذبين تقدم إعرابها وسيأتي سر تكرارها في باب البلاغة.
البلاغة:
تكررت آية «ويل يومئذ للمكذبين» في هذه السورة عشر مرات والسر فيها زيادة الترهيب، والتكرار في مقام الترغيب والترهيب مستساغ حسن لا سيما إذا تغايرت الآيات السابقات على المرات المكررة كما هنا.
الفوائد:
لا يجوز عطف «نتبعهم» على «نهلك» لأن العطف يوجب أن يكون أهلكنا الأولين لأن لم حرف نفي وقلب وجزم فيكون المعنى ثم أتبعناهم الآخرين في الهلاك وليس الأمر كذلك لأن هلاك الآخرين لم يقع بعد.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 20 الى 34]
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)(10/335)
اللغة:
(فَقَدَرْنا) بالتخفيف من القدرة وقرئ بالتشديد من التقدير ويدل على الأول فنعم القادرون وفي القرطبي: «قرأ نافع والكسائي فقدرنا بالتشديد وخفّف الباقون وهما لغتان بمعنى فقدرنا بالتخفيف» وفي المصباح «قدرت الشيء قدرا من بابي ضرب وقتل وقدّرته تقديرا بمعنى والاسم القدر بفتحتين» وقوله فاقدروا له أي قدروا عدد الشهر فكملوا شعبان ثلاثين يوما.
(كِفاتاً) قال الجلال «مصدر كفت بمعنى ضم» قال في القاموس:
«كفته يكفته صرفه عن وجهه فانكفت والشيء إليه ضمّه وقبضه ككفّته والطائر وغيره كفتا وكفاتا وكفيتا وكفتانا أسرع في الطيران والعدو» فهل كانت كفاتا مصدر كفت بمعنى ضم المتعدية أم مصدر كفت الطائر اللازمة؟! إن كلام صاحب القاموس موهم، وقال في القاموس بعد ذلك: «والكفات بالكسر الموضع يكفت فيه الشيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعلى هذا جرى الزمخشري وأبو حيان، وقد ردّ(10/336)
المفسرون على الجلال لأن كفت من باب ضرب فالحق أنه اسم مكان وفي المختار: «كفته ضمّه إليه وبابه ضرب والكفات بالكسر الموضع الذي يكفت فيه شيء أي يضم ويجمع والأرض كفات لنا» وعبارة السمين «الكفات اسم للوعاء الذي يكفت فيه الشيء أي يجمع يقال كفته يكفته أي جمعه وضمه» إلى أن قال: «وقيل كفاتا جمع كافت كصيام وقيام في جمع صائم وقائم وقيل بل هو مصدر كالكتاب والحساب» وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب الإعراب.
(كَالْقَصْرِ) من البناء في عظمه وارتفاعه.
(جِمالَتٌ) بكسر الجيم جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع يقال جمل وجمال وجمالة نحو ذكر وذكار وذكارة وحجر وحجار وحجارة وقيل هو اسم جمع كالذكارة والحجارة وقرئ جمالات ويجوز أن يكون جمعا لجمالة وأن يكون جمعا لجمال فيكون جمع الجمع ويجوز أن يكون جمعا لجمل كقوله: رجالات قريش، وسيأتي مزيد من هذا التقرير في باب البلاغة.
الإعراب:
(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونخلقكم فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به ومن ماء متعلقان بنخلقكم ومهين نعت لماء ومن الابتدائية إشارة إلى أنه تعالى قادر على الابتداء والقادر على الابتداء قادر على الإعادة (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) الفاء عاطفة وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به وفي قرار في موضع المفعول الثاني ومكين نعت لقرار أي مكان يحفظ فيه المني من الآفات المفسدة له(10/337)
كالهواء، والقرار هو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) إلى قدر الجار والمجرور في موضع الحال أي مؤخرا إلى قدر معلوم، ومعلوم نعت لقدر (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) الفاء عاطفة وقدرنا فعل وفاعل والفاء عاطفة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والقادرون فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي نحن (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به أول وكفاتا مفعول به ثان لنجعل لأنها للتصيير وأحياء وأمواتا منصوبان على أنهما مفعولان به لكفاتا إن تقرر أن كفاتا مصدر، أو جمع كافت لأنه اسم فاعل، وإن لم يكن مصدرا بل اسم موضع فيكون نصبهما بفعل مضمر يدل عليه كفاتا تقديره تكفت والمعنى تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها وعبارة أبي حيان:
«وانتصب أحياء وأمواتا بفعل يدل عليه ما قبله أي يكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها» وقال الزمخشري «ويجوز أن يكون المعنى تكفتكم أحياء وأمواتا فينتصبا على الحال من الضمير لأنه قد علم أنها كفات الإنس» (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) الواو حرف عطف وجعلنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بجعلنا إن كانت بمعنى خلقنا وفي موضع المفعول الثاني إن كانت جعلنا بمعنى صيّرنا ورواسي مفعول جعلنا وشامخات صفة لرواسي وأسقيناكم عطف على جعلنا وماء مفعول به ثان وفراتا نعت لماء، والفرات العذب (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) الجملة مقول قول محذوف مستأنف وانطلقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإلى ما متعلقان بانطلقوا وجملة كنتم لا محل لها لأنها صلة ما وكان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم والعائد الضمير في به (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) انطلقوا توكيد لانطلقوا الأول(10/338)
وإلى ظل متعلقان بانطلقوا وذي ثلاث شعب نعت لظل، وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ) لا نافية وظليل نعت منفي لأن الظل لا يكون إلا ظليلا فنفيه عنه للدلالة على أنه جعله ظلا تهكما بهم وسخرية منهم، ولا يغني من اللهب عطف على المنفي، ويغني فعل مضارع وفاعله هو الظل ومن اللهب متعلقان بيغني والجملة في محل جر أي غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الجملة بمثابة التعليل لعدم غناء الظل غير الظليل وإن واسمها والضمير يعود إلى جهنم لأن الحديث عنها وجملة ترمي خبر إن وبشرر متعلقان بترمي والشرر ما تطاير منها تقول: نار ذات شرار وشرر وطارت منها شرارة وشررة، وكالقصر نعت لشرر أي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها، وسيأتي المزيد من هذا التشبيه في باب البلاغة (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) الجملة نعت ثان لشرر وكأن واسمها وجمالة خبرها وصفر نعت لجمالة (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها.
البلاغة:
1- في قوله «أحياء وأمواتا» التنكير، فقد نكرهما مع أنها تكفت الأحياء والأموات جميعا للتفخيم كأنه قيل أحياء لا يعدّون وأمواتا لا يحصون على أن أحياء الإنس وأمواتهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات.
2- ونكر رواسي شامخات وماء فراتا لإفادة التبعيض لأن في السماء جبالا قال الله تعالى: «وينزل من السماء من جبال فيها من برد» وفيها ماء فرات كثير بل هي منبعه ومصبّه.
3- وفي قوله: «انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه الأقدمون اسم(10/339)
«العنوان» وقد تقدمت الإشارة إليه في هذا الكتاب وأنه عبارة عن أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو عتاب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون ثم يأتي بقصد تكميله بأمثلة من ألفاظ تكون عنوانا لأخبار متقدمة وقصص سالفة، ومن نوع عظيم جدا وهو ما يكون عنوانا للعلوم وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون بمثابة مفاتيح لعلوم ومداخل لها، وهذه الآية التي نحن بصددها من أصدق الدلائل على ذلك فإن قوله: «ظل ذي ثلاث شعب» عنوان للعلم المنسوب إلى إقليدس وهو فيلسوف يوناني وضع كتابا في علم الهيئة والهندسة والحساب ونقله إلى العربية الحجاج بن يوسف الكوفي وعلم الهندسة في الإسكندرية على أيام بطليموس ووضع مبادئ علم الهندسة السطحية وله كتاب الأصول أيضا شرحه ناصر الدين الطوسي وتوفي سنة 283 فإن الشكل المثلث أول الأشكال وهو أصلها ومنه تتركب بقية الأشكال وهو شكل إذا نصب في الشمس كيفما نصب على أي ضلع كان من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله سبحانه هؤلاء الجهنميين بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكما بهم وسخرية منهم.
4- التشبيه، فقد شبّه سبحانه الشرر بالقصر في عظمه وكبره وشبّهه ثانيا بالجمالة الصفر في الهيئة واللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة، وننقل هنا فصلا طريفا للزمخشري ثم نعقب عليه بإيجاز، قال في الكشاف: «شبّهت بالقصور ثم بالجمال لبيان التشبيه، ألا تراهم يشبّهون الإبل بالأفدان والمجادل» أي القصور جمع فدن ومجدل وكلاهما بمعنى القصر كما في الصحاح ثم قال: «وقرئ جمالات بالضم وهي قلوس الجسور وقيل قلوس سفن البحر الواحدة جمالة» والقلوس جمع قلس وهو حبل ضخم من قلوس السفن ثم قال:(10/340)
«وقيل: صفر لإرادة الجنس وقيل صفر سود تضرب إلى الصفرة وفي شعر عمران بن حطّان الخارجي:
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم ... بمثل الجمال الصفر نزاعة للشوى
وقال أبو العلاء:
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف
فشبّهها بالطراف وهو بيت الأدم، في العظم والحمرة، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن، ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله «حمراء» توطئة لها ومناداة عليها، وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمي، جمع الله له عمى الدارين، عن قوله عزّ وجلّ: «كأنه جمالات صفر» فإنه بمنزلة قوله: كبيت أحمر، على أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين: من جهة العظم، ومن جهة الطول في الهواء، وفي التشبيه بالجمالات وهي القلوس تشبيه من ثلاث جهات من جهة العظم، والطول، والصفرة، فأبعد الله إغرابه في طرافه، وما نفخ به شدقيه من استطرافه» .
وذكر صاحب نسمة السحر عن الزمخشري عند قوله تعالى:
«إنها ترمي بشرر كالقصر» أنه ذكر بيت أبي العلاء في صفة نار القرى من القصيدة الفائية التي رثى بها النقيب أبا أحمد الموسوي والد الشريف الرضي والمرتضى وهو:
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكلّ شرارة كطراف
وحمي عليه وقال: إنه أراد وقصد الزيادة على تشبيه القرآن العظيم بالقصر، قال: ولا أدري من أين له أنه قصد الزيادة على تشبيه القرآن فمن المعلوم أن القصر أعظم من الطراف، وهي خيمة من الأدم(10/341)
الأحمر يتخذها الأتراك البادون ومياسير العرب ولكن الزمخشري مع فضله كان حديد المزاج كثيرا» .
أقول: والزمخشري- رحمه الله- يتحكك بأبي العلاء في مواطن كثيرة وهو- كما نرى في نقده لبيت المعرّي الجميل- ظاهر التجانف والميل وقد تعودنا من الزمخشري أن يعرض لخصوم المعتزلة، وليس أبو العلاء منهم، ولكن الزمخشري كان رجلا أديبا قرأ رسائل المعرّي ووطن لموقفه من النحاة فحمله كرهه على التحرّش به.
وهذه الخصومة النحوية قد جنت على أبي العلاء فإن النحاة أهملوا شعره وندر جدا أن تعرضوا له بشرح أو استشهاد أو نقد وقد عنوا بشعر أبي تمام والمتنبي لما فيهما من تصرّف في اللغة وفي الأساليب النحوية وقد كان في شعر أبي العلاء وما يغريهم بدرسه ولكنهم أعرضوا عنه، وقد مرّ في هذا الكتاب نقد أبي العلاء للنحاة فجدّد به عهدا.
فأما تشبيه الإبل بالأفدان وهي القصور فكثير جدا في شعرهم قال عنترة:
فوقفت فيها ناقتي فكأنها ... فدن لأقضي حاجة المتلوم
والمعرّي استهواه وصف الإبل فحاول اقتفاء آثارهم ولكنه أغرب في ذلك إغرابا شديدا كقوله من قصيدة له في سقط الزند يخاطب بها خازن دار العلم ببغداد:
وحرف كدال تحت ميم ولم يكن ... براء يؤم الرسم غيره النقط
فالحرف الناقة والدال تشبيه لها والميم الراكب المنحني من جهة التشبيه لا من جهة التفسير اللغوي والرائي ضارب الرئة من رآه إذا أصاب رئته والرسم أثر الديار والنقط المطر وإنما استطردنا إلى هذا(10/342)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
لنعرض لإغراب المعري الذي لم يعد الزمخشري الحقيقة في نقده.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 35 الى 50]
هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
الإعراب:
(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان الحالة في ذلك اليوم وهذا مبتدأ ويوم خبره وجملة لا ينطقون في محل جر بإضافة الظرف إليها وقرئ بفتح الميم وهو نصب على الظرف وهو متعلق بمحذوف خبر هذا والواو حرف عطف ولا نافية ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ولهم متعلقان بيؤذن والفاء حرف عطف ويعتذرون فعل مضارع معطوف على(10/343)
يؤذن منتظم في سلك النفي من غير تسبب عنه ولهذا لم ينصب لأنه لو نصب لكان مسببا عنه لا محالة، وعبارة السمين: «وفي رفع فيعتذرون وجهان: أحدهما أنه مستأنف أي فهم يعتذرون، قال أبو البقاء: ويكون المعنى أنهم لا ينطقون نطقا ينفعهم أو ينطقون في بعض المواقف ولا ينطقون في بعضها والثاني أنه معطوف على يؤذن فيكون منفيا ولو نصب لكان مسببا عنه» وقال البيضاوي: عطف يعتذرون على يؤذن ليدل على نفي الإذن والاعتذار عقبه مطلقا ولو جعله جوابا لدلّ على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن وأوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال لهم هذا، وهذا مبتدأ، ويوم الفصل خبره وجملة جمعناكم مفسّرة موضّحة لقوله هذا يوم الفصل لأنه إذا كان يوم الفصل بين السعداء والأشقياء وبين الأنبياء وأممهم فلا بدّ من جمع الأولين والآخرين حتى يقع ذلك الفصل بينهم والواو عاطفة أو للمعية والأولين معطوف على الكاف أو مفعول معه (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) الفاء عاطفة وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وكيد اسمها المؤخر والفاء رابطة لجواب الشرطية لأنه جملة طلبية وكيدون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية وياء المتكلم المحذوفة مفعول به (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر أحوال المؤمنين على سبيل الإيجاز بعد أن ذكر أحوال الكفّار على سبيل الإطناب ليتم التعادل بين هذه السورة والسورة التي قبلها وهي هل أتى على الإنسان فقد ذكر في تلك السورة أحوال الكفار على سبيل الإيجاز وأطنب في ذكر أحوال المؤمنين، وإن واسمها وفي ظلال خبرها وعيون عطف على ظلال (وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) عطف على ظلال وعيون ومما نعت لفواكه وجملة يشتهون لا محل لها لأنها صلة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً(10/344)
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
الجملة مقول قول محذوف وهذا المقول في محل نصب على الحال من ضمير المتقين في الظرف الذي هو في ظلال أي هم مستقرون في ظلال مقولا لهم ذلك وهنيئا تقدم إعرابها كثيرا أي حال أي متهنئين وبما متعلقان بهنيئا والباء سببية وما موصولة وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبرها (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل للأمر بالأكل والشرب أي أن ذلك ديدننا ودأبنا نكافىء المحسن على إحسانه كما نجزي المسيء على مساءته، وإن واسمها وكذلك نعت مقدّم لمصدر محذوف وجملة نجزي خبر إنّا والمحسنين مفعول به (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) الجملة مقول قول محذوف وهذا المحذوف في محل نصب على الحال من المكذبين أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم كلوا وتمتعوا وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون وتمتعوا عطف عليه وقليلا منصوب على الظرف الزمانية والتي لا تلبث أن تنتهي بموتكم ودثوركم وهو على كل حال ومهما امتد وأنسئ فيه قليل زائل، ووشيك مسرع، إذا ما قيس إلى مدد الآخرة وأيامها الطويلة، وجملة إنكم مجرمون تعليل للتهديد المفهوم من الأمر بالأكل والتمتع بظل زائل، ولون حائل، وسراب غرار، وإن واسمها ومجرمون خبرها. وعبارة الكشاف: «فإن قلت: كيف يصحّ أن يقال لهم ذلك في الآخرة؟ قلت: يقال لهم ذلك في الآخرة إيذانا بأنهم كانوا في الدنيا أحقاء بأن يقال لهم وكانوا من أهله تذكيرا بحالتهم السمجة وبما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم والملك الخالد وفي طريقته قوله:
إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا
يريد كنتم أحقاء في حياتكم بأن يدعى لكم بذلك وعلّل ذلك بكونهم مجرمين دلالة على أن كل مجرم ما له إلا الأكل والتمتع أياما(10/345)
قلائل ثم البقاء في الهلاك أبدا ويجوز أن يكون كلوا وتمتعوا كلاما مستأنفا خطابا للمكذبين في الدنيا» أي فيكون راجعا إلى ما قبل قوله إن المتقين وإلى هذا ذهب الجلال وأيده القرطبي وأبو حيان (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) الواو عاطفة متصلة بقوله للمكذبين كأنه قيل ويل للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا أو بقوله إنكم مجرمون على طريق الالتفات كأنه قيل هم أحرياء بأن يقال لهم كلوا وتمتعوا ثم بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اركعوا مقول القول وجملة لا يركعون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تقدم إعرابها (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة أي إن لم يؤمنوا بالقرآن فيؤمنون بأي شيء؟ وبأي متعلقان بيؤمنون وحديث مضاف إليه وبعده ظرف متعلق بمحذوف نعت لحديث ويؤمنون فعل مضارع مرفوع.
البلاغة:
1- في قوله: «إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون» مجاز مرسل علاقته المحلية وهي الجنة لأن الظلال تمتد والعيون تجري والفواكه تنضج فيها.
2- وفي قوله: «وإذا قيل لهم اركعوا» مجاز مرسل أيضا علاقته البعضية لأنه سمّى الصلاة باسم جزء من أجزائها وهو الركوع وإنما خصّ الركوع بالذكر مع أن الصلاة تشتمل على أفعال كثيرة لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود، قال مقاتل: نزلت في ثقيف قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حطّ عنّا الصلاة فإنّا لا ننحني إنها مسبّة(10/346)
فأبى وقال: لا خير في دين لا صلاة فيه، وفي رواية لا ركوع فيه ولا سجود.
الفوائد:
قال النحاة: في نحو «ما تأتينا فتحدّثنا» يجوز في الثاني النصب والرفع فالنصب من وجهين يجمعهما أن الثاني مخالف للأول فأحد المعنيين ما تأتينا محدّثا والوجه الآخر ما تأتينا فكيف تحدّثنا، وأما الرفع فعلى وجهين أحدهما أن يكون الفعل شريكا للأول داخلا معه في النفي كأنك قلت: ما تأتينا وما تحدّثنا فهما جملتان منفيتان والوجه الثاني أن يكون معنى ما تأتينا فتحدّثنا أي ما تأتينا فأنت تحدّثنا، قال تعالى: هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون أي فلا يعتذرون، ومنه قول جميل بن معمر العذري:
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق
فقد قطع ينطق مما بعده ورفعه على الاستئناف أي فهو ينطق على كل حال قال سيبويه: «لم يجعل الأول سبب الآخر ولكنه جعله ينطق على كل حال» .(10/347)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
(78) سورد النبإ مكيّة وآياتها أربعون
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
اللغة:
(سُباتاً) راحة لأبدانكم وفي المختار: «السبات النوم وأصله الراحة ومنه قوله تعالى: وجعلنا نومكم سباتا وبابه نصر» وفي المصباح:
«والسبات بالضم كغراب: النوم الثقيل وأصله الراحة يقال منه سبت يسبت من باب قتل وسبت بالبناء للمفعول غشي عليه وأيضا مات»(10/348)
وعبارة الزمخشري: «سباتا موتا والمسبوت الميت من السبت وهو القطع لأنه مقطوع عن الحركة والنوم أحد التوفيين وهو على بناء الأدواء» أما أبو حيان فقال «والسبات علّة معروفة يفرط على الإنسان السكوت حتى يصير قاتلا» .
(الْمُعْصِراتِ) المعصر: قال الفراء: السحاب الذي يجلب المطر ولما يجتمع مثل الجارية المعصر قد كادت تحيض ولما تحض، وقال نحوه ابن قتيبة وقال أبو النجم العجلي:
تمشي الهوينى مائلا خمارها ... قد أعصرت أو قد دنا إعصارها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
(ثَجَّاجاً) الثج: الانصباب بكثرة وشدة وفي الحديث: «أحب العمل إلى الله العج والثج فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دماء الهدي، ويقال ثج الماء بنفسه أي انصبّ وثججته أنا أي صببته ثجا وثجوجا فيكون لازما ومتعديا، وفي المختار: «ثج الماء والدم سال وبابه رد ومطر ثجاج أي منصب جدا والثج أيضا سيلان دماء الهدي وهو لازم تقول منه: ثج الدم يثج بالكسر ثجا بالفتح، قلت: وقد نقل الأزهري عن أبي عبيدة مثل هذا» .
(أَلْفافاً) ملتفة وفي الأساس «لفّ الثوب وغيره ولفّ الشيء في ثوبه ولففه ولفّ رأسه في ثيابه والتفّ في ثيابه وتلفف والتفّ النبت وفي الأرض تلافيف من عشب، وجنات ألفافا: ملتفة وبه لفف من الأشجار قال الطرماح:
ولقد عرتني منك جدوى أنبتت ... خضرا إلى لفف من الأشجار(10/349)
ورجل ألف وامرأة لفّاء وقد لفّت تلفّ لففا وهو تداني الفخذين من السمن وهو عيب في الرجل مدح في المرأة، قال نصر بن سيار ملك خراسان:
ولو كنت القتيل وكان حيّا ... تشمّر لا ألفّ ولا سؤوم
وقال يصف نساء:
عراض القطا ملتفة ربلاتها ... وما اللفّ أفخاذا بتاركة عقلا»
وقال الزمخشري: «ألفافا: ملتفة لا واحد له وقيل الواحد لفّ بكسر اللام» فيكون نحو سر وأسرار وقيل أنه جمع لفيف قاله الكسائي ومثله شريف وأشراف وشهيد وأشهاد.
الإعراب:
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) عن حرف جر وما اسم استفهام مجرور بعن وقد تقدم حذف ألف ما في الاستفهام إذا دخل عليها حرف جر في الأكثر وقرئ عمّا بإثبات الألف وقد تقدم أنه يجوز ضرورة أو في قليل من الكلام، وعليه قول حسان بن ثابت:
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
والظاهر أن عمّ متعلق بيتساءلون والاستفهام لتفخيم الشأن كأنه قال عن أيّ شيء يتساءلون ونحوه كقوله زيد ما زيد جعلته لانقطاع نظيره كأنه شيء خفي عليك فأنت تسأل عن جنسه وتفحص عن كنهه وجوهره تقول: ما الغول وما العنقاء؟ تريد أي شيء من الأشياء هذا ثم جرد للعبارة عن التفخيم حتى وقع في كلام الله تعالى الذي لا تخفى(10/350)
عليه خافية، وعن النبإ العظيم كلام مستأنف مسوق لبيان ذلك الشيء فهو متعلق بمحذوف دلّ عليه يتساءلون وليس صلة ليتساءلون لأن عم صلة أي يتساءلون عن النبإ العظيم فهو عطف بيان نحوي والذي صفة ثانية للنبإ وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمختلفون ومختلفون خبر هم والجملة صلة الذي (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع ووعيد للمتسائلين هزؤا وفيه معنى الوعيد والتهديد فالردع بكلمة كلا والوعيد بكلمة سيعلمون ومفعول سيعلمون محذوف تقديره ما يحلّ بهم وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وكلا سيعلمون تأكيد لفظي للجملة السابقة ولا يضر توسط حرف العطف، والنحويون يأبون إلا أن يكون عطفا وإن أفاد التأكيد ويمكن أن يجاب بأن ثمة تغايرا ملحوظا وهو أن الوعيد الثاني أشد من الأول وبهذا الاعتبار صار مغايرا لما قبله ولذا عطف بثم (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً) كلام مستأنف مسوق لبيان قدرته سبحانه على البعث وإيراد الدلائل عليه وذكر منها تسعة والوجه فيها أنه إذا كان قادرا على هذه الأشياء فهو بحكم البديهة قادر على البعث، والهمزة للاستفهام التقريري أي جعلنا الأرض مهادا ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به أول ومهادا مفعول به ثان لأن الجعل بمعنى التصيير ويجوز أن يكون بمعنى الخلق فيكون مهادا حالا مقدرة والجبال أوتادا عطف على الأرض مهادا (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) عطف على ما تقدم وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به وأزواجا حال أي متجانسين متشابهين ذكورا وإناثا (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) عطف أيضا وجعلنا فعل ماض وفاعل ونومكم مفعول جعلنا الأول وسباتا مفعول جعلنا الثاني (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) عطف أيضا والجملة مماثلة لما قبلها في الإعراب (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) عطف أيضا وهي مماثلة لما قبلها أيضا ومعاشا مصدر ميمي بمعنى المعيشة وقد وقع هنا ظرفا للزمان أي وقت معاش (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ(10/351)
سَبْعاً شِداداً)
عطف أيضا وبنينا فعل ماض وفاعل وفوقكم ظرف متعلق ببنينا وسبعا مفعول به أي سبع سموات وشدادا صفة (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) عطف أيضا وسراجا مفعول جعلنا ووهاجا صفة والجعل هنا بمعنى الخلق (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) عطف أيضا وأنزلنا فعل وفاعل ومن المعصرات متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به وثجاجا صفة (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) اللام لام التعليل ونخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وهي متعلقة بأنزلنا أيضا وبه متعلقان بنخرج وحبا مفعول نخرج ونباتا عطف على حبا (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) عطف على حبا وعلامة نصبه الكسرة لأنه جمع مؤنث سالم وألفافا نعت لجنان أي بساتين ملتفة.
البلاغة:
في قوله «وجعلنا الليل لباسا» تشبيه بليغ، ووجه الشبه الستر لأن كلّا من اللباس والليل يستر المتلبس به أي يستركم عن العيون إذا أردتم النجاة بأنفسكم من عدو يلاحقكم أو بياتا له إذا أردتم إنزال الوقيعة به في منأى عن العيون أو يعينكم على إخفاء ما لا ترغبون في أن يطّلع عليه أحد، وقد رمق أبو الطيب هذه السماء العالية كعادته فقال:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
وقال رد الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب
والمانوية نسبة إلى ماني مؤسّس مذهب المانوية بمبدأين بالوجود مبدأ الخير ومبدأ الشر: النور والظلام، دخل ماني في التصوير الفارسي ونسق التصوير الصيني ورسم الملائكة والشياطين وتوفي سنة 276 م وإيضاح مسألة المانوية أنهم قالوا: تجد في العالم خيرا كثيرا وشرا كثيرا(10/352)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
والواحد لا يكون خيّرا شريرا، فكلّ من الخير والشر فاعل مستقل، قالوا فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هو الظلمة فاعتقدوا أنهما جسمان قديمان حسّاسان سميعان بصيران وكل ذلك ظاهر البطلان.
وقال أبو الطيب أيضا متشبثا بأهداب هذه البلاغة العالية:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري
وقال ابن زيدون:
سرّان في خاطر الظلماء يكتمان ... حتى يكاد لسان الصبح يغشينا
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 40]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31)
حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)(10/353)
اللغة:
(سَراباً) السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأن ماء تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها، ويضرب به المثل في الكذب والخداع يقال «هو أخدع من السراب» يعني أنها تصير شيئا كلا شيء لتفرّق أجزائها وانبثاث جواهرها كقوله تعالى: «فانت هباء منبثا» ، وسيأتي المزيد من معناه في باب البلاغة.
(أَحْقاباً) جمع حقب بضم الحاء ويجمع أيضا على أحقب:
ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة أو السنون وسيأتي مزيد من المراد به في باب الإعراب.
(بَرْداً) البرد هو مسّ الهواء القرّ أي لا يمسّهم منه ما يستلذ أو ينفس حرّ النهار عنهم وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ النحوي البرد هنا: النوم والعرب تسمّيه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد البرد وقال الشاعر:
فلو شئت حرّمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقّاخا ولا بردا
النقاخ: الماء البارد والبرد النوم وفي كتاب اللغات في القرآن أن(10/354)
البرد هو النوم بلغة هذيل، وقد أوردت المعاجم اللغوية البرد بمعنى النوم ولكن وروده بهذا المعنى في الآية تكلّف والصواب ما قاله الجمهور من أن البرد هو الشراب البارد وهو مناسب لكلمة الذوق ومنه قوله:
أماني من سعدى حسان كأنما ... سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلّا فقد عشنا بها زمنا رغدا
والذوق على هذا حقيقة لا مجاز.
(غَسَّاقاً) قرئ بالتخفيف والتشديد وقد تقدم ذكره وأنه ما يسيل من صديد أهل النار.
الإعراب:
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) كلام مستأنف مسوق للرد على سؤال قد يرد بعد أن أثبت الله البعث بالأدلة المتقدمة وهو: ما وقت البعث فقال: إن يوم إلخ، وإنّ واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وميقاتا خبرها (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) يوم بدل من يوم الفصل وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلا من ميقاتا أو منصوب بفعل محذوف تقديره أعني وجملة ينفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفخ فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على إسرافيل الذي ينفخ في الصور، فتأتون عطف على ينفخ وأفواجا حال من الواو (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) عطف على فتأتون وإنما عدل عن المضي إلى المضارع لتحقق الوقوع وقيل الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال أي فتأتون والحال أن السماء قد فتحت والسماء نائب فاعل، فكانت عطف على فتحت واسم كان مستتر تقديره(10/355)
هي وأبوابا خبرها وقرئ فتحت بالتشديد (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) عطف أيضا وسيّرت فعل ماض مبني للمجهول والجبال نائب فاعل، فكانت عطف على سيّرت وسرابا خبر كانت (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) كلام مستأنف مسوق للشروع في وصف أهوال جهنم بعد أن فرغ من وصف الأحوال العامة ليوم القيامة، وإن واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت مستتر تقديره هي أي جهنم ومرصادا خبر كانت أي راصدة للمعذبين فيها مترقبة لهم أو مرصدة بمعنى معدّة لهم فهي إما من رصد الثلاثي بمعنى ترقب وإما من أرصد الرباعي أي أعدّ، والمرصاد في معاجم اللغة: الطريق والممر، وعبارة الزمخشري: المرصاد الحدّ الذي يكون فيه الرصد (لِلطَّاغِينَ مَآباً) للطاغين متعلقان بمرصادا ومآبا خبر ثان لكانت أي مثابة لهم ومرجعا يثوبون ويرجعون إليها ويجوز تعلق للطاغين بمرصاد (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) لابثين حال مقدّرة من الضمير المستكن في للطاغين وأحقابا ظرف متعلق بلابثين، فإن قيل: إن الأحقاب مهما امتدت وتراخى بها الزمن فهي متناهية على كل حال وعذاب الكفّار غير متناد قيل في الجواب عن هذا السؤال وجوه منها:
1- ما روي عن الحسن قال: «إن الله تعالى لم يجعل لأهل النار مدة بل قال: لابثين فيها أحقابا فو الله ما هو إلا أنه إذا مضى حقب دخل حقب إلى الأبد وليس للأحقاب مدة إلا الخلود» . 2- إن لفظ الأحقاب لا يدل على نهاية والحقب الواحد متناه والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، فالتوقيت لأنواع العذاب لا توقيت للّبث والمكوث. (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) جملة لا يذوقون حال من الضمير في لابثين أي لابثين غير ذائقين فهي حال متداخلة أو صفة لأحقابا وقيل مستأنفة ولا نافية ويذوقون فعل مضارع مرفوع وفيها متعلقان بيذوقون وبردا مفعول به والواو حرف عطف ولا نافية وشرابا عطف على بردا (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) إلا أداة حصر(10/356)
وحميما بدل من شرابا لأن الكلام غير موجب وغساقا عطف عليه، وهذا أسهل مما سلكه المفسرون فقد قال بعضهم أنه استثناء منقطع وعليه جرى في الكشاف قال: «لا يذوقون فيها بردا ينفّس عنهم حرّ النار ولا شرابا يسكن عطشهم ولكن يذوقون فيها حميما» وتبعه الجلال، وقال أبو حيان: «الظاهر أنه متصل من قوله ولا شرابا» (جَزاءً وِفاقاً) جزاء مصدر منصوب بفعل محذوف أي جوّزوا بذلك جزاء ووفاقا نعت لجزاء فتكون الجملة مستأنفة (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) الجملة تعليل لقوله جزاء وإن واسمها وجملة كانوا خبر إنهم وكان اسمها وجملة لا يرجون خبرها وحسابا مفعول يرجون أي محاسبة (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) الواو عاطفة وكذبوا فعل وفاعل وبآياتنا متعلقان بكذبوا وكذابا مفعول مطلق أي تكذيبا وفعّال في باب فعّل كله فاش في كلام فصحاء العرب لا يكادون يقولون غيره، قال الزمخشري: «وسمعني بعضهم أفسّر آية فقال: لقد فسّرتها فسارا ما سمع بمثله وقرىء بالتخفيف وهو مصدر كذب بدليل قوله:
فصدقتها وكذّبتها ... والمرء ينفعه كذابه»
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) الواو عاطفة وكل شيء منصوب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء أحصيناه وهذه الجملة معترضة بين السبب ومسبّبه فإن قوله الآتي: فذوقوا مسبّب عن تكذيبهم وفائدة الاعتراض تقرير ما ادّعاه من قوله جزاء وفاقا، وجملة أحصيناه مفسّرة لا محل لها وأحصيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وكتابا يجوز أن يكون مصدرا من معنى أحصيناه أي إحصاء وأحصيناه بمعنى كتبنا لالتقاء الإحصاء والكتبة في معنى الضبط والتحصيل أو يكون مصدر لأحصينا ويجوز أن يكون حالا بمعنى مكتوبا (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) الفاء تعليلية لأنه- كما قلنا- مسبّب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات،(10/357)
وذوقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومعنى الأمر الإهانة والتحقير، والفاء عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونزيدكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به أول وإلا أداة حصر وعذابا مفعول به ثان (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال أهل الجنة وللمتقين خبر إن المقدم ومفازا اسم إن المؤخر والمفاز مصدر ميمي أو اسم مكان لموضع الفوز، وفي المختار «الفوز النجاة والظفر بالخير وهو الهلاك أيضا وبابهما قال» وعلى هذا فإطلاق المفازة على الفلاة الخالية من الماء حقيقي لأنها مهلكة لأن من معاني الفوز الهلاك كما رأيت، وفي القاموس: «الفوز: النجاة والظفر بالخير والهلاك ضد فاز مات وبه ظفر ومنه نجا» (حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً وَكَأْساً دِهاقاً) حدائق جمع حديقة وهي القطعة المستديرة من الأرض ذات النخل والماء، وهي بدل بعض من كل من مفازا، وأعنابا وما بعده عطف على حدائق ولا معنى لعطفها على مفازا بحجة أنها ذكرت بعد الحدائق تنويها بشأنها فذلك بعيد عن سهولة القرآن وعدم تعسّف الكلام فيه (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) الجملة حال من المتقين ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وفيها متعلقان بيسمعون ولغوا مفعول به ولا كذابا عطف على لغوا (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) جزاء مفعول مطلق لفعل محذوف أي جزاهم الله بذلك جزاء ومن ربك نعت لجزاء وعطاء بدل من جزاء وفي هذا البدل سر لطيف وهو الإلماع إلى أن ذلك تفضّل وعطاء وجزاء مبني على الاستحقاق، وأعربه الزمخشري منصوبا بجزاء نصب المفعول به أي جزاهم عطاء، وحسابا نعت لعطاء والمعنى كافيا فهو مصدر أقيم مقام الوصف أو باق على مصدريته مبالغة (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) رب بالجر على أنه بدل من ربك وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب وما عطف على السموات والأرض وبينهما ظرف مكان(10/358)
متعلق بمحذوف صلة ما والرحمن بدل أو نعت لرب أيضا وجملة لا يملكون مستأنفة ومنه متعلقان بيملكون وخطابا مفعول وقرىء برفع الرحمن فيكون مبتدأ وجملة لا يملكون خبره (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) يوم ظرف متعلق بلا يملكون أو بلا يتكلمون وجملة يقوم الروح والملائكة في محل جر بإضافة الظرف إليها وصفا حال أي مصطفّين وجملة لا يتكلمون تأكيد لقوله لا يملكون أو مستأنفة وإلا أداة حصر ومن بدل من الواو في يتكلمون أو نصب على الاستثناء لأن الكلام غير موجب وجملة أذن صلة من وله متعلقان بأذن والرحمن فاعل وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وصوابا صفة لمصدر محذوف أي قولا صوابا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) ذلك مبتدأ واليوم بدل والحق خبر ذلك ولك أن تجعل اليوم خبرا والحق نعتا للخبر، فمن الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط محذوف كأنه قيل وإذا كان الأمر بهذه المثابة وكما ذكر من تحقق اليوم المذكور فمن، ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومفعول المشيئة محذوف واتخذ فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وإلى ربه متعلقان بمآبا ومآبا مفعول اتخذِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً)
إن واسمها وجملة أنذرناكم خبرها وأنذرناكم
فعل وفاعل ومفعول به أول وعذابا مفعول به ثان وقريبا نعتَ وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)
يوم ظرف متعلق بعذابا وجملة ينظر المرء في محل جر بإضافة الظرف إليها وما مفعول به وجملة قدّمت يداه صلة ما ويقول الكافر عطف على ينظر المرء ولك أن تجعلها مستأنفة أو حالية ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وليتني ليت واسمها وجملة كنت خبرها وترابا خبر كنت.(10/359)
البلاغة:
التشبيه كثير في هذه السورة ونشير هنا إلى قوله «وسيّرت الجبال فكانت سرابا» وهو تشبيه بليغ حذفت منه الأداة وحذف وجه الشبه أيضا وهو أن المرئي خلاف الواقع فكما يرى السراب من بعيد للظامىء الملتاح كأنه ماء فيستبشر به ويخفّ إليه حتى إذا أدركه بعد طول الأين لم يجده شيئا، وكذلك ترى الجبال كأنها جبال وليست كذلك في نفس الأمر.(10/360)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
(79) سورة النّازعات مكيّة وآياتها ستّ وأربعون
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
اللغة:
(الرَّاجِفَةُ) في المختار: «الرجفة الزلزلة وقد رجفت الأرض من باب نصر» وسيأتي مزيد من معناها في باب البلاغة.
(الرَّادِفَةُ) التابعة، وفي القاموس: «ردفه كسمعه ونصره تبعه كأردفه» .
(الْحافِرَةِ) الحالة الأولى يعنون الحياة بعد الموت قال(10/361)
الزمخشري: «فإن قلت: ما حقيقة هذه الكلمة؟ قلت: يقال: رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفرا كما قيل حفرت أسنانه حفرا إذا أثر الأكال في أسناخها والخط المحفور في الصخر، وقيل حافرة كما قيل عيشة راضية أي منسوبة إلى الحفر والرضا أو كقولهم نهارك صائم ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته أي إلى طريقته وحالته الأولى قال:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار»
أنشده ابن الأعرابي والهمزة للإنكار والحافرة في الأصل الطريق المحفور بالسير فتسميته حافرة مجاز عقلي أو على معنى النسب أي ذات حفر ثم استعملت في كل حال كنت فيه ثم رجعت إليه وهي نصب بمحذوف أي أأرجع حافرة أي في طريقتي الأولى من الشباب والصبا أو على نزع الخافض أي أأرجع إليها والصلع انحسار شعر الجبهة ويغلب في الهرم.
(الساهرة) الأرض البيضاء المستوية سمّيت بذلك لأن السراب يجري فيها، من قولهم عن ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة، قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحي السراب مجللا ... لأقطارها قد جئتها متلثما
الإعراب:
(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) الواو واو القسم أقسم تعالى بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد وجواب القسم بهذه الأمور التي(10/362)
أقسم الله بها محذوف أي والنازعات وكذا وكذا لتبعثنّ، وغرقا يجوز فيه أن يكون مصدرا على حذف الزوائد بمعنى إغراقا وانتصابه بما قبله لملاقاته له في المعنى أو بفعل محذوف وإما على الحال أي ذوات إغراق، وعبارة أبي البقاء «غرقا مصدر على المعنى لأن النازع هو المغرق في نزع السهم أو في جذب الروح وهو مصدر محذوف الزيادة أي إغراقا» وعبارة الزمخشري «أقسم سبحانه بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد» إلى أن يقول «غرقا: إغراقا في النزع أي تنزعها من أقاصي الأجساد» وقيل النازعات الخيل أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها لأنها عراب، والناشطات نشطا عطف على والنازعات غرقا وكذلك قوله والسابحات سبحا، وفي المختار: «السباحة بالكسر العوم وقد سبح يسبح بالفتح والسبح الفراغ والسبح أيضا التصرّف في المعاش وبابه قطع وقتل» فالسابقات سبقا عطف على ما تقدم وكذلك فالمدبرات أمرا، والفاء فيهما للدلالة على ترتبهما بغير مهلة وأمرا مفعول به بالمدبرات وجواب هذه الأقسام محذوف كما تقدم (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) يوم ظرف زمان متعلق بالجواب المحذوف ولك أن تعلّقه بما دلّ عليه قوله الآتي «قلوب يومئذ واجفة» أي يوم ترجف وجفت القلوب، وجملة ترجف الراجفة في محل جر بإضافة الظرف إليها (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) الجملة في محل نصب حال من الراجفة أي ترجف تابعة لها الرادفة والرادفة فاعل تتبعها (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ) قلوب مبتدأ وسوّغ الابتداء بالنكرة أنه موصوف ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بواجفة وواجفة صفة لقلوب وأبصارها مبتدأ وخاشعة خبر أبصارها والجملة الاسمية خبر قلوب، وأضيفت الأبصار إلى القلوب على حذف مضاف أي أبصار أصحابها (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) الجملة خبر لمبتدأ مضمر أي هم يقولون، ويقولون فعل مضارع مرفوع وفاعل والهمزة للاستفهام(10/363)
الإنكاري لأنهم أنكروا الرد ونفوه، وإن واسمها واللام المزحلقة ومردودون خبر إنّا وفي الحافرة متعلقان بمردودون وفي بمعنى إلى أي إلى الحافرة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال وتكون «في» باقية على معناها ويكون معنى الحافرة الأرض التي قبورهم فيها والمعنى أإنا لمردودون ونحن في الحافرة وفيما يلي عبارة الراغب عن الحافرة: «وقوله في الحافرة مثل لمن يرد من حيث جاء أي أنرد إلى الحياة بعد أن نموت وقيل الحافرة الأرض التي قبورهم فيها ومعناه أإنا لمردودون ونحن في الحافرة أي في القبور وقوله في الحافرة على هذا في موضع الحال، وقيل رجع فلان على حافرته ورجع الشيخ إلى حافرته أي هرم كقوله تعالى: ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، والحافرة قيل فاعلة بمعنى مفعولة وقيل على النسب أي ذات حفر والمراد الأرض، والمعنى: أإنا لمردودون في قبورنا أحياء، وقيل: الحافرة جمع حافر بمعنى القدم أي أنمشي أحياء على أقدامنا ونطأ بها الأرض» (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) الاستفهام تأكيد لمضمون إنكار الرد ونفيه بنسبته إلى حال منافية له، وإذا ظرف مستقبل والعامل فيه يدل عليه مردودون أي أئذا كنّا عظاما بالية نردّ ونبعث مع كوننا أبعد شيء عن الحياة (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) كلام مستأنف مسوق لحكاية كفر آخر متفرع على كفرهم السابق، وتلك مبتدأ والإشارة إلى الرجعة والردّة في الحافرة وإذا حرف جواب وجزاء لا عمل لها جيء بها لإفادة تأكيد الرجعة الخاسرة وكرة خبر تلك وخاسرة نعت لكرة (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) الفاء متعلقة بمحذوف معناه لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة بمعنى لا تحسبوا الكرة صعبة على الله تعالى فإنما هي سهلة هينة بقدرته تعالى. وإنما كافّة ومكفوفة وهي مبتدأ وزجرة خبر وواحدة نعت لزجرة أي نفخة واحدة وسمّيت النفحة زجرة لأنه يفهم منها النهي عن المنع والتخلّف عنه (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن(10/364)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
شرط مقدّر أي فإذا نفخت وإذا فجائية وقد تقدم القول فيها وهم مبتدأ وبالساهرة خبر.
البلاغة:
1- في قوله: «يوم ترجف الراجفة» مجاز إسنادي، فقد جعل سبب الرجف راجفا وفي القرطبي: «وأصل الرجفة الحركة قال الله تعالى: يوم ترجف الأرض، وليست الرجفة هاهنا من الحركة فقط بل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفا ورجيفا أي أظهر الصوت والحركة ومنه سمّيت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها وإفاضة الناس إليها» .
2- وفي قوله «تلك إذا كرة خاسرة» مجاز إسنادي، فقد أسند الخسار للكرة والمراد أصحابها والمعنى إن كان رجوعنا إلى القيامة حقا فتلك الرجعة رجعة خاسرة.
3- وكذلك في قوله «فإذا هم بالساهرة» أسند السهر إلى الأرض البيضاء مجازا كما أسندوا إليها النوم في ضدها، قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحي السراب مجللا ... لأقطارها قد جبتها متلثما
والساهرة الأرض البيضاء لأن السراب يجري فيها ووصفت بالسهر لأن السائر فيها ساهر لا ينام خوف الهلكة فهو مجاز عقلي ومجللا خبر يضحي أي ساترا لأقطارها وجوانبها يقول: رب مفازة يسترها النهار بسراب يشبه حبل الفرس قد أتيتها لابسا اللثام خوف الحر والريح.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)(10/365)
الإعراب:
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) كلام مستأنف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم على تكذيب قومه له، وهل بمعنى قد وقيل هي للاستفهام التقريري والمعنى أليس قد أتاك حديث موسى وأتاك فعل ماض ومفعول به وحديث موسى فاعل (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بحديث موسى لا بأتاك كما يتوهم لاختلاف وقتيهما وجملة ناداه في محل جر بإضافة الظرف إليها وناداه فعل ماض ومفعول به وربه فاعل وبالواد متعلقان بناداه وحذفت ياء الوادي اتباعا لرسم المصحف، والمقدس صفة للوادي وطوى بدل وقد تقدم الكلام فيه مطوّلا، وقد قرىء بالتنوين وتركه قال الجوهري:
«وطوى اسم موضع بالشام تكسر طاؤه وتضم ويصرف ولا يصرف فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة» (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) الجملة مقول قول محذوف تقديره فقال اذهب ويجوز أن تكون جملة مفسّرة للنداء وإلى فرعون متعلقان باذهب وإن واسمها وجملة طغى خبرها وجملة إنه طغى تعليل للأمر بالذهاب (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) الفاء عاطفة وقل فعل(10/366)
أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وهل حرف استفهام معناه العرض لاستدعائه بالملاطفة والملاينة والمداراة ولك خبر لمبتدأ محذوف تقديره رغبة وإلى أن تزكى متعلقان بالمبتدأ المضمر أي هل لك رغبة في التزكية ومثله هل لك في الخير أي هل لك رغبة في الخير، وأصل تزكي تتزكى حذفت إحدى التاءين أي تتطهر من الشرك وجملة الاستفهام مقول القول وأن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بإلى كما تقدم (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) الواو حرف عطف وأهديك عطف على تزكى والكاف مفعول به وإلى ربك متعلقان بأهديك، فتخشى عطف على أهديك، جعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر وجمّاع التقوى ومتى خشي الإنسان ربه لم يصدر عنه إلا الخير (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) الفاء عاطفة على محذوف يعني فذهب فأراه، وأراه فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والهاء مفعول أرى الأول والآية مفعول أرى الثاني والكبرى صفة للآية وهي قلب العصا حيّة أو اليد (فَكَذَّبَ وَعَصى) عطف على ما تقدم (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأتى بها لأن إبطال الإيمان ونقضه يقتضي زمانا طويلا وجملة يسعى حال من الضمير في أدبر (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) عطف أيضا وجملة أنا ربكم الأعلى مقول القول (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) الفاء عاطفة وأخذه الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ونكال الآخرة والأولى مفعول مطلق فهو مصدر لأخذ والتجوّز إما في الفعل أي نكل بالأخذ نكال الآخرة والأولى وإما في المصدر أي أخذه أخذ نكال ويجوز أن يكون مفعولا لأجله أي لأجل نكاله، واقتصر الزمخشري على المصدرية المؤكدة قال: «هو مصدر مؤكد كوعد الله وصبغة الله كأنه قيل نكل الله به نكال الآخرة والأولى» ويجوز أن يكون انتصاب نكال بنزع الخافض أي بنكال، ورجح الزجّاج أنه مصدر مؤكد وفي المصباح «ونكل به ينكل من باب قتل نكلة قبيحة(10/367)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
أصابه بنازلة ونكل به بالتشديد مبالغة والاسم النكال» والآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون. فالكلمة الآخرة هي قوله أنا ربكم الأعلى والكلمة الأولى قوله قبلها: ما علمت لكم من إله غيري، وكان بين الكلمتين- على ما قيل- أربعون سنة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم واللام لام الابتداء المؤكدة وعبرة اسم إن المؤخر ولمن صفة لعبرة وجملة يخشى صلة من.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 46]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)(10/368)
اللغة:
(سَمْكَها) رفعها يقال سمك يسمك من باب نصر الشيء رفعه ويقال سمك الله السماء، وقال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول
والسمك مصدر سمك والسقف أو من أعلى البيت إلى أسفله والقامة من كل شيء.
(فَسَوَّاها) جعلها مستوية ملساء ليس فيها ارتفاع ولا انخفاض.
(وَأَغْطَشَ) في القاموس: «غطش الليل يغطش من باب ضرب أظلم كأغطش وأغطشه الله» وقال الراغب: «وأصله من الأغطش وهو الذي في عينه عمش والتغاطش التعامي» ويقال أغطش الليل قاصرا كأظلم فأفعل فيه متعدّ ولازم.
(دَحاها) دحا الأرض يدحوها دحوا ودحى يدحى أي بسطها ومدّها فهو من ذوات الواو والياء فيكتب بالألف والياء.
الإعراب:
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) الهمزة للاستفهام التقريعي والتوبيخي وأنتم مبتدأ وأشد خبر وخلقا تمييز وأم حرف عطف والسماء عطف على أنتم وجملة بناها حالية كأنها بيان لكيفية خلقها ويجوز أن تكون مفسّرة لا محل لها ويجوز أن تعرب السماء مبتدأ خبره محذوف تقديره أشد خلقا (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) الجملة بدل من جملة بناها تابعة لها ورفع سمكها فعل ماض ومفعول به وفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى، فسوّاها عطف على رفع (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ(10/369)
ضُحاها)
عطف على ما تقدم وليلها مفعول أغطش وضحاها مفعول أخرج (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) الواو عاطفة والأرض منصوب على الاشتغال بفعل محذوف يفسّره ما بعده وبعد ذلك ظرف متعلق بدحاها وجملة دحاها مفسّرة (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) الجملة مفسّرة لما لا بدّ منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها، ويجوز أن تكون حالية بإضمار قد أي مخرجا وهو قول الأكثرين وإن كنت أميل إلى القول الأول ومنها متعلقان بأخرج وماءها مفعول به ومرعاها عطف على ماءها والمرعى هنا مصدر ميمي بمعنى المفعول (وَالْجِبالَ أَرْساها) الواو عاطفة والجبال نصب على الاشتغال أيضا كما تقدم والجملة معطوفة على الأولى (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) متاعا مفعول لأجله أي فعل ذلك تمتيعا لكم واختار زاده في حاشيته على البيضاوي أن يكون مصدرا لفعله المحذوف المدلول عليه بسياق الكلام أي متّعناكم بها تمتيعا وليس ببعيد، ولكم متعلقان بمتاعا ولأنعامكم عطف على لكم (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) الفاء عاطفة للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها كما ينبىء عليه لفظ المتاع وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وجملة جاءت في محل جر بإضافة الظرف إليها والطامة فاعل والكبرى نعت للطامة والطامة القيامة وفي المختار: «جاء سيل فطم الركية أي دفنها وسوّاها وكل شيء كثر حتى علا وغلب فقد طمّ من باب ردّ يقال فوق كل طامّة طامّة، ومنه سمّيت القيامة طامة والطم بالكسر الجرّ يقال جاء بالطم والرّم أي بالماء الكثير» وعبارة الزمخشري «الطامة: الداهية التي تطم على الدواهي أي تعلو وتغلب وفي أمثالهم: جرى الوادي فطم على القرى» وهي القيامة لطمومها على كل هائلة وقيل هي النفخة الثانية» وجواب إذا محذوف يدل عليه التفصيل المذكور والتقدير كان من عظائم الأمور ما لا يخطر في بال ولا تراه عين ولا تسمع به أذن.(10/370)
(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) يوم بدل من إذا بدل بعض من كل وجملة يتذكر في محل جر بالإضافة والعائد محذوف تقديره يتذكر الإنسان فيه ولك أن تجعله بدلا مطابقا أو كلّا من كل يعني إذا رأى أعماله مدوّنة في كتابه تذكرها وكان قد نسيها والإنسان فاعل يتذكر وما موصولة أو مصدرية (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) عطف على جاءت وبرزت فعل ماض مبني للمجهول والجحيم نائب فاعل ولمن متعلقان ببرزت وجملة يرى لا محل لها لأنها صلة من (فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان حال الناس في الدنيا ولهذا كان جعل الفاء جوابا لإذا متهافتا غير وارد وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة طغى لا محل لها وآثر عطف على طغى والحياة مفعول به والدنيا نعت للحياة والفاء واقعة في جواب أما وإن حرف مشبّه بالفعل والجحيم اسمها وهي ضمير فصل أو مبتدأ والمأوى خبر إن والجملة خبر من وأل في المأوى عوض عن الضمير العائد على من وقيل العائد محذوف أي هي المأوى له والأول مذهب الكوفيين والثاني مذهب البصريين (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) الجملة عطف على الجملة السابقة وعبارة الرازي: «وهذان الوصفان مضادّان للوصفين المتقدمين فقوله: وأما من خاف مقام ربه ضد قوله: فأما من طغى وقوله ونهى النفس عن الهوى ضد قوله وآثر الحياة الدنيا فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين جميع الطاعات» (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية نوع آخر من
تعنتهم، ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن الساعة متعلقان بيسألونك وأيان اسم استفهام في محل نصب على الظرف الزماني متعلق بمحذوف خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها تفسير لسؤالهم عن الساعة أي متى إرساؤها أي إقامتها(10/371)
وإثباتها أو منتهاها ومستقرها من مرسى السفينة وهو حيث تنتهي إليه وتستقر عنده (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) فيم خبر مقدّم وتقدم حذف ألف ما الاستفهامية إذا سبقت بحرف جر وأنت مبتدأ مؤخر ومن ذكراها متعلقان بما تعلق به الخبر والمعنى أنت في أي شيء من ذكراها والجملة لا محل لها كأنها إنكار وردّ لسؤالهم عن الساعة وبيان لبطلان السؤال وقيل: فيم إنكار لسؤالهم وما بعده من الاستئناف تعليل للإنكار أي فيم هذا السؤال ثم ابتدئ فقيل أنت من ذكراها أي ففيم ليس خبرا مقدما لما بعده بل هو خبر مبتدأ محذوف أي فيم هذا السؤال الواقع من الكفرة فتم الكلام عنده ثم استأنف بجملة أنت من ذكراها بيانا لسبب الإنكار عن سؤالهم كأنه قيل إنها قريبة غير بعيدة لأنك علامة من علاماتها فإرسالك يكفيهم دليلا على دنوها والاهتمام بتحصيل الاعتداد لها فلا معنى لسؤالهم عنها فمعنى أنت من ذكراها أنت من علاماتها ومذكراتها (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) إلى ربك خبر مقدّم ومنتهاها مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) إنما كافّة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومنذر خبر ومن مضاف إليه وجملة يخشاها صلة من لا محل لها (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) كأن واسمها ويوم ظرف زمان متعلق بما في كأن من معنى التشبيه وجملة يرونها في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لم يلبثوا خبر كأنهم وإلا أداة حصر وعشية ظرف زمان متعلق بيلبثوا وأو حرف عطف وضحاها عطف على عشية وعبارة الزمخشري «فإن قلت كيف صحّت إضافة الضحى إلى العشية؟
قلت: لما بينهما من الملابسة لاجتماعهما في نهار واحد فإن قلت:
فهلّا قيل إلا عشية أو ضحى وما فائدة الإضافة؟ قلت: للدلالة على أن مدة لبثهم كأنها لم تبلغ يوما كاملا ولكن ساعة منه عشيته أو ضحاه فلما ترك اليوم أضافه إلى عشيته فهو كقوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار» .(10/372)
البلاغة:
1- في قوله: «أخرج منها ماءها ومرعاها» مجاز مرسل لأنه أطلق المرعى على ما يأكله الناس فاستعمل المرعى في مطلق المأكول للإنسان وغيره والعلاقة استعمال المقيد في المطلق، ويجوز أن يكون استعارة تصريحية حيث شبّه أكل الناس برعي الدواب وإلى هذا جنح الزمخشري فقال: «وأراد بمرعاها ما يأكل الناس والأنعام واستعير الرعي للإنسان كما استعير الرتع في قوله نرتع ونلعب» .
2- في قوله: «فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى» فن المقابلة وقد تقدمت عبارة الرازي في هذا الصدد.
3- في قوله «أيان مرساها» استعارة تصريحية فقد استعار الإرساء وهو لا يستعمل إلا فيما له ثقل.(10/373)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
(80) سورة عبس مكيّة وآياتها ثنتان وأربعون
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17)
اللغة:
(تَصَدَّى) أصلها تتصدى أي تتعرض بالإقبال عليه والمصاداة المعارضة ويقال: تصدى أي تعرض وأصله تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علّة وقيل هو من(10/374)
الصدى وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة وقيل من الصدى وهو العطش والمعنى على التعرّض.
الإعراب:
(عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) عبس وتولى فعلان ماضيان مبنيان على الفتح وفاعلهما مستتر تقديره هو وإنما جيء في هذين الموضعين وفي موضع ثالث بعدهما إجلالا له عليه الصلاة والسلام ولطفا به لما في المشافهة والمجابهة بتاء الخطاب ما لا يخفى، وأن جاءه في موضع نصب مفعول لأجله وناصبه إما عبس وإما تولى، وجاءه فعل ماض ومفعول به والأعمى فاعل والأولى أن يقال أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بعبس لأن المجيء ليس من أفعال القلوب فاحتل شرط من شروط نصب المفعول لأجله (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) الواو عاطفة وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يدريك خبر والكاف في موضع المفعول الأول ليدري وجملة الترجّي في موضع المفعول الثاني، ولعله لعلّ واسمها وجملة يزّكّى أي يتطهر خبر لعل وقيل مفعول يدريك الثاني محذوف مقدّر والتقدير وما يدريك أمره ومغبة حاله وجملة لعله يزكّى ابتدائية وأو حرف عطف ويذكر عطف على يزّكّى والفاء هي فاء السببية وتنفعه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والهاء مفعول به والذكرى فاعل، وقرىء فتنفعه بالرفع على أن الفاء عاطفة وتنفعه بالرفع عطف على أو يذكر (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة استغنى صلة لا محل لها والفاء رابطة وأنت ضمير بارز منفصل في محل رفع مبتدأ وله متعلقان بتصدى وجملة تصدى خبر(10/375)
أنت والجملة الاسمية خبر من والواو حالية وما نافية وعليك خبر مقدم وأن وما في حيّزها مبتدأ مؤخر أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته بالإسلام، واختار أبو حيان أن تكون ما استفهامية للإنكار فتكون مبتدأ وعليك خبرها وألا يزكّى منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بما تعلق به عليك أي الاستقرار والجملة حال من الضمير في تصدى (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى، وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة جاءك لا محل لها لأنها صلة من وجملة يسعى حال من فاعل جاءك والواو حالية وهو مبتدأ وجملة يخشى خبر والجملة حال من فاعل يسعى فهي حال متداخلة والفاء رابطة لجواب أما وأنت مبتدأ وعنه متعلقان بتلهى وتلهى أي تتلهى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة خبر وجملة أنت عنه تلهى خبر من أي تتشاغل أي هو من لهى بكذا يلهى أي تشاغل به وليس هو من اللهو في شيء لأنه مسند إلى ضمير النبي ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب إليه الفعل من اللهو بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر عنه في بعض الأحيان، وفي القاموس «لها لهوا لعب كالتهى وألهاه ذلك ولهي به كرضي أحبه، وعنه سلا وغفل وترك ذكره ولها كدعا لهّيا ولهيانا وتلهى» (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) كلا حرف ردع وزجر لكل إنسان عن ارتكاب مثل المعاتب عليه، روي أنه عليه السلام ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قطّ ولا تصدى لغني، وإن واسمها وتذكرة خبر إن والضمير للموعظة أو السورة والفاء اعتراضية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله هو والمفعول محذوف أي الاتعاظ وذكره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وهو في محل جزم جواب الشرط والجملة اعتراضية لا محل لها (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) في صحف خبر ثان لإنها ومكرمة وما بعدها نعت(10/376)
لصحف وبأيدي نعت أيضا أو خبر لمبتدأ محذوف وسفرة مضاف إليه وما بعده نعت والسفرة جمع سافر وهو الكاتب ومثله كاتب وكتبة وسفرت بين القوم أسفر سفارة أصلحت بينهم وفي المختار: «وسفر الكتاب كتبه وبابه ضرب» . (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) الجملة دعائية لا محل لها ومعنى قتل لعن وعذب والإنسان نائب فاعل وما نكرة تامة بمعنى شيء
في محل رفع مبتدأ وأكفر فعل ماض وفاعله مستتر وجوبا تقديره هو «هنا خاصة» والهاء مفعول به، قالوا: قاتله الله ما أخبثه وأخزاه الله ما أظلمه والمعنى أعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا، وقيل ما استفهامية مبتدأ وجملة أكفره خبر أي أيّ شيء دعاه إلى الكفر وهو استفهام توبيخ ولا داعي لهذا لأنه تعجب من إفراطه في كفره والتعجب بالنسبة إلى المخلوقين إذ هو مستحيل في حق الله تعالى أي هو ممن يقال فيه ما أكفره وللزمخشري عبارة مستحسنة قال «ما أكفره تعجب من إفراطه في كفران النعمة ولا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أخشن مسّا ولا أدلّ على سخط ولا أبعد شوطا في المذمّة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه» .
الفوائد:
روى التاريخ: أن عبد الله بن أم مكتوم بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي، وأم مكتوم أم أبيه واسمها عاتكة بنت عامر المخزومي وهو ابن خالة خديجة بنت خويلد، الذي في النووي على مسلم أن ابن أم مكتوم اسمه عبد الله بن عمرو وأم مكتوم زوجة عمرو فهي أم عبد الله وقيل اسمه عمرو واسم أبيه زائد، جاءه وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى(10/377)
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
الإسلام رجاء أن يسلم أولئك الأشراف الذين كان يخاطبهم فيتأيّد بهم الإسلام ويسلم بإسلامهم أتباعهم فتعلو كلمة الله تعالى فقال: يا رسول الله أقرئني وعلّمني مما علّمك الله تعالى وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول له: هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين. قال القرطبي: «وهذا كله غلط من المفسرين لأن أمية والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما وماتا كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ولم يقصد قطّ أمية المدينة ولا حضر معه مفردا ولا مع أحد» . وقال أبو حيان:
«والغلط من القرطبي كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما وهو وهم منه وكلهم من قريش وكان ابن أم مكتوم بها والسورة مكية كلها بالإجماع وكيف يقول: وابن أم مكتوم بالمدينة كان أولا بمكة ثم هاجر إلى المدينة وكانوا جميعا بمكة حين نزول هذه الآية» . وهناك رواية أخرى ذهب إليها بعضهم وهي أن المحدّث عنه بالعبوس ليس النبي صلّى الله عليه وسلم بل هو رجل من بني أمية وهو الذي عبس لما أتى ابن أم مكتوم لأن العبوس كما يقول الشريف المرتضى ليس من صفاته صلّى الله عليه وسلم مع الأعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. وهذا كله يراه القارئ في المطولات فليرجع إليها إن شاء.
[سورة عبس (80) : الآيات 18 الى 42]
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27)
وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)(10/378)
اللغة:
(غُلْباً) جمع أغلب كحمر في أحمر وحمراء يقال: حديقة غلباء أي غليظة الشجر ملتفة الحدائق فالحدائق ذات أشجار غلاظ فهو مجاز مرسل كالمرسن بمعنى الغليظ مطلقا وفيه تجوّز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها، وعبارة الزمخشري:
«ويحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء فيريد تكاتفها وكثرة أشجارها وعظمها كما تقول: حديقة ضخمة وأن يجعل شجرها غلبا أي عظاما غلاظا والأصل في الوصف بالغلب الرقاب فاستعير: قال عمرو بن معد يكرب:(10/379)
يمشي بها غلب الرقاب كأنهم ... بزل كسّين من الكحيل جلالا»
ويقال أسد أغلب أي غليظ العنق والقلب جمعه ثم استعير لكل غليظ، والبزل جمع بازل للمذكر والمؤنث من الإبل إذا انفطر نابه وذلك في السنة التاسعة، والكحيل القطران، والجلال جمع جلّ، يصف مفازة تمشي فيها أسود غلاظ الأعناق كأنها فتيات من الإبل دهنت بالقطران حتى صار عليها كالجلال، فكسين استعارة مصرّحة والجلال ترشيح ويروى كأنهم باستعارة ضمير العقلاء لغيرهم.
وفي الأساس واللسان ما خلاصته: «بينهما غلاب أي مغالبة وتغالبوا على البلد وغلبته على الشيء: أخذته منه وهو مغلوب عليه وأ يغلب أحدكم أن يصاحب الناس معروفا بمعنى أيعجز وهو رجل حر وقد أبى أفنغلبه على نفسه: أفنكرهه، وشاعر مغلّب: غلب كثيرا أو غلّب فهو ذم ومدح، قال امرؤ القيس:
فإنك لم يفخر عليك كعاجز ... ضعيف ولم يغلبك مغلّب
ومن المجاز: هضبة غلباء وعزة غلباء واغلولب العشب وحدائق غلبا» .
(أَبًّا) في المصباح: «الأبّ: المرعى الذي لم يزرعه الناس مما تأكله الدواب والأنعام» ويبدو أنه مأخوذ من أبه إذا قصده لأنه يؤم وينتجع له أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهيىء للرعي وعبارة الزمخشري: «والأب المرعى لأنه يؤب أي يؤم وينتجع والأب والأم أخوان، قال:
جذمنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأبّ به والمكرع»
والجذم بالكسر وقد يفتح الأصل الذي يقتطع منه غيره والأب(10/380)
والأم بالفتح والتشديد بمعنى المرعى لأنه يؤبّ ويؤمّ أي يقصد والمكرع: المنهل. يقول: نحن من قبيلة قيس ونجد هي دارنا ولنا به أي في نجد المرعى والمروي وفيه تمدح بالشرف والشجاعة.
وقيل إن الصحابة وهم أهل الحجاز وأصحاب اللغة التي نزل بها القرآن لم يفهموا بعض الغريب في آيات الكتاب، من ذلك ما أخرجه أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: «وفاكهة وأبا» فقال: أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «وفاكهة وأبا» فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب؟
ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر، وفي رواية ثم رفض عصا كانت بيده وقال: هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأبّ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه. وقد علّق الزمخشري على كلمة عمر تعليقا بديعا نورده فيما يلي:
«فإن قلت فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته قلت: لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك ولم يشكل مما عدّد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ ومعرفة البنات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصّى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن» .(10/381)
كيف بدأ تفسير القرآن؟
ونرى استيفاء لهذا البحث الهام أن نعرض لهذا الموضوع بشيء من التفصيل لعلاقته التامة بالمنهج الذي جرينا عليه في هذا الكتاب فالواقع أن القرآن شغل طوائف كثيرة من الناس فترة من الزمن، شغل به أهل الإيمان، وتتبعه أهل الكفر كلّ من ناحية اهتمامه، وأول ما بدأت دراسات القرآن وتفسيره زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم ففي عهده نرى أعرابيا يسأله في معنى بعض ألفاظ القرآن في مثل قوله تعالى «ولم يلبسوا إيمانهم بظلم» قائلا: وأيّنا لم يظلم نفسه؟ وفسّره النبي صلّى الله عليه وسلم بالشرك واستشهد عليه بقوله تعالى: «إن الشرك لظلم عظيم» وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في كتب الحديث كالبخاري ومسلم وغيرها كثير من الأحاديث التي تتعلق بتفسير القرآن وبعضها ينحصر في ذكر فضائله وتفسير بعض آياته تفسيرا مختصرا يبيّن وجه التشريع أو الموعظة في الآية وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» على أنه قد لا يوضع موضع الاعتبار كل ما جاء من الحديث في التفسير، فأحمد بن حنبل- في القرن الثالث الهجري- يقول: ثلاثة أشياء لا أصل لها: التفسير والملاحم والمغازي، ولعلّه يقصد بالتفسير الذي خلط فيه الناس بين الصحيح وغير الصحيح من الحديث مما كان مدار أخذ وردّ وقول كثيرين في عصره.
على أن الصحابة وقفوا في صدر الإسلام موقفين: متحرّج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد الله بن عمر وغيرهم وكان عبد الله يأخذ على ابن عباس تفسيره القرآن بالشعر والقسم الثاني الذين لم يتحرّجوا وفسّروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب(10/382)
فهمهم الخاص بالمقارنة إلى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة إلى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على ابن عباس ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق.
وفي كامل المبرد وأغاني أبي الفرج الأصبهاني أنه دخل عمر بن أبي ربيعة وهو غلام على ابن عباس وعنده نافع بن الأرزق فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شيئا من شعرك يا ابن أخي؟ فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أوم رائح فمهجر
حتى أتمّها وهي ثمانون بيتا فقال له الأزرق: لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين ويأتيك غلام من قريش ينشدك سفها فتسمعه فقال: تالله ما سمعت سفها فقال: أما أنشدك؟
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وأما بالعشي فيخسر
فقال: ما هكذا قال إنما قال: فيضحى وأما بالعشي فيخصر، قال: أو تحفظ الذي قال؟ فقال والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ثم أنشدها من أولها إلى آخرها فقيل له: ما رأينا أروى منك فقال: ما سمعت شيئا قطّ فنسيته وإني لأسمع صوت النائحة فأسدّ أذني كراهة أن أحفظ ما تقول، ثم إن نافعا اتفق له أنه سأل ابن عباس عن قوله تعالى «لا تظمأ فيها ولا تضحى» قال: لا تعرق فيها من شدة حرّ الشمس قال:
وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر «فيضحى» ومن هؤلاء الصحابة الذين يذهبون هذا المذهب ابن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم.(10/383)
(الصَّاخَّةُ) في المختار: «الصاخة: الصيحة تصمّ بشدتها تقول صخ الصوت من باب ردّ ومنه سمّيت القيامة الصاخة» وقال الزمخشري: «صخ لحديثه مثل أصاخ له فوصفت النفخة بالصاخة مجازا لأن الناس يصخون لها» وقال أبو بكر بن العربي: «الصاخة هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهذا من بديع الفصاحة كقوله:
أصمّهم سرّهم أيام فرقتهم ... فهل سمعتم بسر يورث الصمما
وقول أبي تمام:
أصم بك الناعي وإن كان اسمعا ... وأصبح مغنى الجود بعدك بلقعا
ولعمر الله أن صيحة القيامة مسمعة تصمّ عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة.
(تَرْهَقُها) في المختار: «رهقه غشيه باب طرب ومنه قوله تعالى:
ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلّة، وفي الحديث: إذا صلّى أحدكم على الشيء فليرهقه أي فليغشه ولا يبعد عنه» .
(قَتَرَةٌ) سواد كالدخان ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه.
الإعراب:
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان ما أنعم عليه بعد المبالغة في وصفه بكفران نعم خالقه، ومن أيّ شيء متعلقان بخلقه والاستفهام للتقرير مع التحقير جمع بينهما بعض المفسرين فقال: «هنا الاستفهام لتقرير التحقير، ومن(10/384)
نطفة بدل بإعادة الجار من قوله من أي شيء خلقه والفاء للترتيب في الذكر وقدّره فعل ماض وفاعل مستتر جوازا تقديره هو ومفعول به (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي والسبيل منصوب على الاشتغال بفعل مقدّر تقديره ثم يسّر السبيل يسّره والتعريف لإفادة العموم، وجملة يسّره مفسّرة، وعبارة السمين: قوله ثم السبيل يسّره يجوز أن يكون الضمير للإنسان والسبيل ظرف أي يسّر للإنسان الطريق أي طريق الخير أو الشر كقوله وهديناه النجدين، وقال أبو البقاء: ويجوز أن ينتصب بأنه مفعول ثان ليسّره والهاء للإنسان أي يسّره للسبيل أي هداه له قلت فلا بدّ من تضمينه معنى أعطى حتى ينصب اثنين أو يحذف حرف الجر أي يسّره للسبيل أي هداه له. وما بعده عطف عليه، وقال فأقبره ولم يقل فقبره لأن القابر هو الدافن بيده والمقبر هو الله تعالى يقال:
قبر الميت إذا دفنه بيده وأقبره إذا أمر غيره أن يجعله في قبر، ومفعول المشيئة محذوف والتقدير إذا شاء إنشاره (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) ردع وزجر للإنسان المسترسل في عمايته المغترّ باغتراره المتطاول تيها بعجبه ولما حرف نفي جازم ويقض فعل مضارع مجزوم بلما وعلامة جزمه حذف حرف العلة وجزم بلما للدلالة على أن العجب والكبر ما زالا يلازمان الإنسان حتى الساعة التي هو فيها وما مفعول به وجملة أمره صلة والعائد محذوف أي به (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تعداد النعم المترادفة على الإنسان واللام لام الأمر وينظر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والإنسان فاعل وإلى طعامه متعلقان بينظر (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أنّا بفتح الهمزة وهي وما بعدها في تأويل مصدر في محل جر بدل اشتمال من طعامه والمعنى أن صبّ الماء سبب في إخراج الطعام فهو مشتمل عليه وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف المبين لكيفية إحداث الطعام وأن واسمها وجملة(10/385)
صببنا فعل وفاعل والماء مفعول به وصبا مفعول مطلق (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها، وسيأتي سرّ إسناد الشقّ له تعالى في باب البلاغة (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الفاء عاطفة وأنبتنا فعل وفاعل وفيها متعلقان بأنبتنا وحبا مفعول به وما بعده عطف عليه. والقضب والقضبة: الرطبة (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) متاعا مصدر مؤكد لأنبتنا لأن إنباته الأشياء إمتاع لجميع الكائنات الحيّة أو مفعول لأجله والعامل فيه محذوف تقديره فعل ذلك متاعا لكم، ولكم متعلقان بمتاعا ولأنعامكم عطف على لكم (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحوالهم يوم المعاد ولك أن تجعل الفاء عاطفة والكلام معطوف لترتيب ما بعدها على ما قبلها من النعم السوابغ والآلاء المترادفة، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب المحذوف المفهوم من قوله لكل امرئ والتقدير اشتغل كل واحد بنفسه، وجملة جاءت في محل جر بإضافة الظرف إليها والصاخة فاعل ويوم بدل من إذا أي يفرّ فيه وجملة يفرّ في محل جر بإضافة الظرف إليها والمرء فاعل ومن أخيه متعلقان بيفر وما بعده عطف على أخيه ولكل امرئ خبر مقدّم ومنهم نعت لامرىء ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بيفنيه والتنوين عوض عن أي يوم إذ حصلت هذه الأمور المتعددة وشأن مبتدأ مؤخر وجملة يغنيه نعت لشأن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) وجوه مبتدأ سوّغ الابتداء به مع أنه نكرة التنويع ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بمسفرة والتنوين عوض عن جملة ومسفرة خبر وجوه وضاحكة ومستبشرة خبران آخران لوجوه (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) الواو عاطفة ووجوه مبتدأ ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بترهقها وعليها خبر مقدم وغبرة مبتدأ(10/386)
مؤخر والجملة خبر وجوه وجملة ترهقها قترة خبر ثان لوجوه وترهقها فعل مضارع ومفعول به مقدم وقترة مبتدأ مؤخر (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والكفرة الفجرة خبران لأولئك أو لهم والجملة خبر أولئك.
البلاغة:
الإسناد المجازي في قوله: (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) إسناد مجازي، فقد أسند تعالى الشق إلى نفسه من باب إسناد الفعل إلى السبب وقيل الإسناد حقيقي وإن القول بمجازيته هو من أقوال المعتزلة، ولكن البيضاوي نفسه يتبع الزمخشري في مجازية الإسناد فيقول: أسند الشق إلى نفسه تعالى إسناد الفعل إلى السبب، والحق مع الزمخشري في هذا فإن مجازيته لا تعني أن أفعال العباد مخلوقة لهم لأن الفعل إنما يسند حقيقة لمن قام به لا لمن أوجده فالاعتراض عليه تعسّف.(10/387)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
(81) سورة التّكوير مكيّة وآياتها تسع وعشرون
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
اللغة:
(كُوِّرَتْ) لفّت وذهب بضوئها وفي المصباح: «كار الرجل العمامة كورا من باب قال أدارها على رأسه وكل دور كور تسميته بالمصدر والجمع أكوار مثل ثوب وأثواب، وكوّرها بالتشديد مبالغة ومنه يقال(10/388)
كورت الشيء إذا لففته على وجه الاستدارة وقوله تعالى: إذا الشمس كوّرت المراد به طويت كطي السجل» وعبارة الزمخشري: «في التكوير وجهان: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها أي يلف ضوءها لفّا فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف أو يكون لفّها عبارة عن رفعها وسترها لأن الثوب إذا أريد رفعه لفّ وطوي ونحوه قوله: يوم نطوي السماء، وأن يكون من طعنه فجوّره وكوّره إذا ألقاه أي تلقى وتطرح عن فلكها كما وصفت النجوم بالانكدار» ويتلخص مما أوردته معاجم اللغة ما يلي: «كار يكور كورا العمامة على رأس لفّها وأدارها وكور الله الليل على النهار: أدخل هذا في هذا وكورت الشمس جمع ضوءها ولفّ كما تلف العمامة قيل: اضمحلت وذهبت» .
(انْكَدَرَتْ) انقضت وتساقطت على الأرض والأصل في الانكدار الانصباب، وقال أبو عبيدة: انكدرت انصبّت كما تنصبّ العقاب إذا كسرت، قال العجاج يصف صقرا:
أبصر حرمات فلاة فانكدر ... تقصي البازي إذا البازي كسر
(الْعِشارُ) النوق الحوامل جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء وهي التي أتى على حملها عشرة أشهر ثم هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة وهي أنفس ما يكون عند أهلها، وروي أنه صلّى الله عليه وسلم مرّ في أصحابه بعشار من النوق فغضّ بصره فقيل له: هذه أنفس أموالنا فلم لا تنظر إليها فقال: قد نهاني الله عن ذلك ثم تلا: ولا تمدنّ عينيك الآية.
(سُجِّرَتْ) سجر يسجر سجرا من باب نصر التنور ملأه وقودا وأحماه وسجر الماء النهر ملأه وسجر البحر فاض وسجر الماء في حلقه صبّه وسجر الكلب شدّه بالساجور وسجر الشيء أرسله، هذا ما ذكرته(10/389)
معاجم اللغة بصدد هذه المادة وفي الأساس: «كلب مسجور ومسجّر ومسوجر وقد سجرته وسجّرته وسوجرته: طوقته الساجور وهو طوق من حديد مسمّر بمسامير حديدة الأطراف، وبحر مسجور ومسجّر، وعين مسجورة ومسجّرة: مفعمة وسجر السيل الآبار والأحساء ومررنا بكل حاجر وساجر وهو كل مكان مرّ به السيل فملأه وسجر التنور ملأه سجورا وهو وقوده وسجره بالمسجرة وهي المسعر. ومن المجاز:
سجرت الناقة سجرا وسجّرت تسجيرا: مدّت حنينتها في إثر ولدها وملأت به فاها قال:
حنّت إلى برك فقلت لها: قرّي ... بعض الحنين فإن سجرك شائقي
ومنه ساجرته مساجرة وهي المخالّة والمخالطة وهو سجيري وهم سجرائي لأن كل واحد منهما يسجر إلى صاحبه: يحنّ ومنه ماء أسجر وهو الذي خالطته كدرة وحمرة من ماء السماء يقال: إن فيه لسجرة وإنه لأسجر وقطرة سجراء وعين سجراء قال الحويدرة:
بغريض سارية أدرّته الصبا ... من ماء أسجر أطيب المستنقع
وعين سجراء: خالطت بياضها حمرة وإن في عينك لسجرة وفي أعناقهم السواجير أي الأغلال» وقد مرّ شيء من معنى هذه المادة في الطور وعلى هذا كثرت الأقوال في المراد بها هنا وقد أحصى القرطبي كعادته الأقوال فيه ونشير إليها بإيجاز:
1- وإذا البحار سجرت: أي ملئت من الماء فيفيض بعضها إلى بعض فتصير شيئا واحدا.
2- وقيل أرسل عذبها على مالحها حتى امتلأت.
3- وقيل صارت بحرا واحدا.
4- وقيل يبست فلا يبقى من مائها قطرة.(10/390)
5- وقيل أوقدت فصارت نارا.
6- وقيل: هي حمرة مائها حتى تصير كأنها الدم.
(الْمَوْؤُدَةُ) قال في الأساس: وأد ابنته أثقلها بالتراب «وإذا الموءودة سئلت» وقال الفرزدق:
وجدي الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوأد»
ووأد ابنته يئدها من باب ضرب: دفنها في التراب وهي حيّة فالابنة وئيد ووئيدة وموءودة. وقال الزمخشري في الكشاف: «وأد يئد مقلوب من آد يئود إذا أثقل، قال الله تعالى: ولا يئوده حفظهما لأنه إثقال بالتراب» وتعقبه أبو حيان في البحر فقال: لا يدعى في وأد أنه مقلوب من آد لأن كلّا منهما كامل التصرّف في الماضي والأمر والمضارع والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول وليس فيه شيء من مسوّغات ادّعاء القلب والذي تعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهد له بالأصالة والآخر ليس كذلك أو كونه مجردا من حروف الزيادة والآخر فيه مزيد أو كونه أكثر تصرفا والآخر ليس كذلك أو أكثر استعمالا من الآخر وهذا على ما قرر وأحكم في علم التصريف فالأول كيئس وأيس والثاني كطأمن واطمأن والثالث كشوائع وشواع والرابع كلعمري ورعملي» .
الإعراب:
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجوابها في الإثني عشر موضعا التي وقعت فيها قوله: علمت نفس كما سيأتي وهي متعلقة بجوابها والشمس نائب فاعل بفعل مقدّر يفسره ما(10/391)
بعده وإلى هذا جنح الزمخشري ومنع أن يرتفع بالابتداء لأن إذا تتقاضى الفعل لما فيها من معنى الشرط ولكن ما منعه الزمخشري من وقوع المبتدأ بعدها أجازه الكوفيون والأخفش من البصريين وجملة كورت مفسرة لا محل لها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) عطف على ما تقدم مماثلة لها في الإعراب ولكن النجوم هنا فاعل بفعل يفسّره قوله «انكدرت» (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) عطف أيضا والجبال والعشار نائبا فاعل بفعل محذوف ومعنى تعطيلها تركها بلا راع ولا حلب لما دهاهم من الأمر (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) عطف أيضا (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) عطف أيضا والمعنى ردّت الأرواح إلى أجسادها وهذا بناء على أن التزويج بمعنى جعل الشيء زوجا والنفوس على هذا بمعنى الأرواح، وقيل: يقرن كل امرئ بشيعته وكل مشاكل بمشاكله فيقرن بين الرجل الصالح والرجل الصالح في الجنة (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) عطف أيضا وبأي متعلقان بقتلت والجملة سدّت مسدّ مفعول سئلت الثاني وكان العرب إذا ولد لأحدهم بنت واستحياها ألبسها جبّة من صوف أو شعر وتركها ترعى الإبل والغنم وإذا أراد قتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال لأمها: طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر حفرة أو بئرا في الصحراء فيذهب بها إليها ويقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض، وقد افتخر الفرزدق وهو أبو فراس همّام بن غالب بن صعصعة بجدّه صعصعة إذ كان منع وأد البنات كما تقدم (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) عطف على ما تقدم أيضا (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) الجملة لا محل لها لأنها جواب إذا كما تقدم وعلمت نفس فعل ماض وفاعل وما مفعول به وجملة أحضرت لا محل لها لأنها صلة ما.(10/392)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
البلاغة:
التنكير:
في قوله «علمت نفس ما أحضرت» التنكير في نفس وفائدته العموم، وقد يعترض معترض بأن النكرة لا تفيد العموم إلا إذا كانت في سياق النفي، وعلى هذا فهي هنا واقعة في سياق الإثبات وهي فيه تكون للإفراد أو النوعية فكيف يتفق الإفراد والنوعية مع المقام الذي يناسبه العموم، والجواب عن هذا الاعتراض أن ما ذكر من كونها في سياق النفي والإثبات أكثري لا كلّي فلا ينافي أنه قد يقصد بها العموم بمعونة المقام وثمّة جواب آخر عن هذا الاعتراض وهو أن النكرة هنا وقعت في سياق الشرط وسياق الشرط كسياق النكرة في أن النكرة للعموم إذا وقعت في كلّ منهما.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
اللغة:
(بِالْخُنَّسِ) الخنس: الكواكب كلها والسيارات منها فقط أو بعضها(10/393)
من الخنس وهو الرجوع لأنها ترجع في مجراها وراءها والفعل خنس يخنس من باب دخل، وفي الصحاح: الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب ولأنها تخفى نهارا ويقال: هي الكواكب السيّارة منها دون الثابتة، وقال الفرّاء في قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس أنها النجوم الخمسة زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد لأنها تخنس في مجراها وتكنس كما تكنس الظباء في المغار، والخنس أيضا مأوى الظباء والظباء نفسها والبقر الوحشية.
(الْكُنَّسِ) في المصباح: وكناس الظبي بالكسر بيته وكنس الظبي كنوسا من باب نزل دخل كناسه، وتكنس الظبي تغيب واستتر في كناسه وتكنس الرجل: دخل في الخيمة وتكنست المرأة دخلت في الهودج.
(عَسْعَسَ) أقبل بظلامه أو أدبر قال العجاج:
حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
الإعراب:
(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) الفاء استئنافية ولا تقدم القول فيها فجدد به عهدا وأقسم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وبالخنس متعلق بأقسم والجواري نعت أو بدل والكنس نعت للجواري، والليل: الواو للقسم أيضا والليل مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وإذا ظرف متعلق بفعل القسم وجملة عسعس في محل جر بإضافة الظرف إليها، والصبح إذا تنفس عطف على الجملة السابقة وإنما لم نعطف الليل على الخنس لأن الواو ابتداء قسم فإن قيل فقد خالفتم سيبويه فإنه لا يرى الواو المتعقبة للقسم ابتداء قسم بل(10/394)
عاطفة وقد جعلتم الواو الأولى وهي متعقبة للقسم ابتداء قسم؟ قلنا إنما تكلم سيبويه في الواو وأما الآية فالقسم الأول فيها بالباء والفعل فجعلنا الواو بعد ذلك قسما وتبعا وهو أبلغ كأنه أقسم بشيئين مختلفين فإن قيل أجل إنما تكلم سيبويه على الواو المتعقبة للقسم فما الفرق بين الواو المتعقبة للقسم بالواو والواو المتعقبة للقسم بالباء وما هما إلا سواء فإن كل واحد منهما آلة له والتاء تدل على الباء فحكمهما واحد قلنا ليستا سواء فإن القسم متى صدر بالواو ولم تله واو أخرى فجعلها قسما الآخر فيه تكرار مستكره إذ الآلة واحدة ولا كذلك الآية إذ اختلفت الآلة فإن عاملة التكرار مأمونة إذا ألا ترى أنه لو صدر القسم بالواو ثم تلاه قسم بالباء لتحتم جعلهما قسمين مستقلين فكذلك لو خولف هذا الترتيب وأيضا فإنه إن كان المانع لسيبويه من جعل الواو الثانية قسما مستقلا فجيء الجواب واحدا واحتياج الواو الأولى إلى محذوف فالعطف يغني عن تقدير محذوف فلا يلزم اطّراد الباء لأنها أصل القسم لا سيما مع التصريح بفعل القسم ثم تأكيده بزيادة لا فإن في مجموع ذلك ما يغني عن إفراده بجواب مذكور ولا كذلك الواو فإنها ضعيفة المكنة في القسم بالنسبة إلى الباء فلا يلزم من حذف جواب تمكنت الدلالة عليه حذف جواب دونه في الوضوح. ونختم الكلام على هذا السؤال بنكتة بديعة:
وهي أنه إنما خصصت إيراد السؤال بالواو الثانية في قوله والليل إذا عسعس دون الثالثة لأنه غير متوجه عليها، ألا تراك لو جعلتها عاطفة لم يلزمك العطف على عاملين لأنك تجعلها نائبة عن الباء وتجعل إذا فيها منصوبة بالفعل مباشرة إذا لم يتقدم في جملة الفعل ظرف تعطف عليه إذا فتصير بمثابة قولك مررت بزيد وعمرو اليوم فاليوم منصوب بالفعل مباشرة وفهم من المثال أن مرورك بزيد مطلق غير مقيد بظرف وإنما المقيد باليوم مرورك بعمرو خاصة لكن يطابق الآية فإن الظرف فيها وإن عمل فيه الفعل مباشرة فهو مقيد للقسم بالليل لا للقسم بالخنس(10/395)
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وقول خبرها ورسول مضاف إليه وكريم نعت، وسيأتي المراد به في باب الفوائد (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) ذي قوة صفة ثانية لرسول وعند ذي العرش حال من مسكين لأنه كان في الأصل صفة له فلما قدم نصب حالا، ومكين صفة ثالثة ومطاع صفة رابعة وثم ظرف بمعنى هناك متعلق بمطاع وأمين صفة خامسة (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) الواو عاطفة والجملة عطف على إنه لقول رسول كريم وما نافية حجازية وصاحبكم اسمها والباء حرف جر زائد ومجنون مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) عطف على قوله إنه لقول إلخ فهو داخل في حيز المقسم به واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ورآه فعل ماض وفاعل مستتر وبالأفق متعلقان برآه والمبين نعت للأفق (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) عطف أيضا وما نافية حجازية وهو اسمها وعلى الغيب متعلقان بضنين والباء حرف جر زائد وضنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وعلى بمعنى الباء أي فلا يبخل به عليكم بل يخبركم به وقرىء بظنين بالظاء المعجمة أي بمتهم، وفي المصباح: «والظنة بالكسر التهمة وهي اسم من ظننته من باب قتل إذا اتهمته فهو ظنين فعيل بمعنى مفعول وفي السبعة وما هو على الغيب بظنين أي بمتهم» وفي المصباح أيضا: «ضن بالشيء يضنّ من باب تعب ضنا وضنّة بالكسر وضنانة بالفتح بخل فهو بخيل ومن باب ضرب لغة فيه» (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) عطف أيضا وهو نفي لقولهم أنه كهانة وسحر (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) الفاء عاطفة وأين اسم استفهام في محل نصب ظرف مكان مبهم لا مختص متعلق بتذهبون، وتذهبون فعل مضارع مرفوع وفاعل أي فأي طريق تسلكون (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر وللعالمين متعلقان(10/396)
بذكر أو نعت له ولمن بدل من قوله للعالمين بإعادة العامل وهو اللام وجملة شاء لا محل لها لأنها صلة من ومنكم حال وأن وما في حيّزها مفعول به لشاء (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتشاءون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وأن وما بعدها في موضع نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بتشاءون والله فاعل ورب العالمين بدل أو نعت لله واختار البيضاوي نصب المصدر المؤول على الظرفية وعبارته: «وما تشاءون الاستقامة يا من تشاءونها إلا أن يشاء الله أي إلا وقت أن يشاء الله مشيئتكم فله الفضل والحق عليكم باستقامتكم» .
الفوائد:
اختلف أهل التفسير فذهب منهم الجمّ الغفير إلى أن المراد بالرسول الكريم هاهنا إلى آخر النعوت محمد صلّى الله عليه وسلم، فإن يكن الأمر كذلك فذلك فضل الله المعتاد على نبيّه، وذهب منهم الجم الغفير أيضا إلى أن المراد به جبريل عليه السلام، وقد شجر الخلاف حول المفاضلة بين الملائكة والرسل، والمشهور عن أبي الحسن الأشعري تفضيل الرسل، ومذهب المعتزلة تفضيل الملائكة إلا أن المختلفين أجمعوا على أنه لا يسوغ تفضيل أحد القبيلين الجليلين بما يتضمن تنقيص معين من الملائكة ومعين من الرسل لأن التفضيل وإن كان ثابتا إلا أن في التعيين إيذاء للمفضول، وعليه حمل الحذّاق قوله صلّى الله عليه وسلم: لا تفضّلوني على يونس بن متى أي لا تعينوا مفضولا على التخصيص لأن التفضيل على التعميم ثابت بإجماع المسلمين، أي تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلم على جميع النبيين أجمعين. وكان ابن فارس، رحمه الله، يوضّح ذلك بمثال فيقول: لو(10/397)
قلت بحضرة جماعة من الفقهاء: فلان أفضل أهل عصره لكان في الجماعة احتمال لهذا التفضيل وإن لزم اندراجهم في المفضولين ولو عينت واحدا منهم وقلت: فلان أفضل منك لأسرع به الأذى إلى بعضك.
وقال القاضي البيضاوي: «واستدل به على فضل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام حيث عدّ فضائل جبريل واقتصر على نفي الجنون عنه صلّى الله عليه وسلم وهو ضعيف إذ المراد منه ردّ قولهم إنما يعلّمه بشر افترى على الله كذبا أم به جنة، لا تعداد فضلهما والموازنة بينهما» .
أما الكرخي فقال: «ثم إنك إذا أمعنت النظر وقفت على أن إجراء تلك الصفات على جبريل في هذا المقام إدماج لتعظيم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنه بلغ من المكانة وعلو المنزلة عند ذي العرش بأن جعل السفير بينه وبينه مثل هذا الملك المقرّب المطاع الأمين فالقول في هذه الصفات بالنسبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رفعة منزلة له كالقول في قوله ذي العرش بالنسبة إلى رفعة منزلة جبريل عليه السلام» .
أما الزمخشري فقد أتى بما لعل جبريل صلوات الله عليه ما كان ليرضى به من تقصير في حق البشير النذير بقوله: «وناهيك بهذا دليلا على مكانة جبريل عليه السلام وفضله على الملائكة ومباينة لمنزلة أفضل الإنس محمد صلّى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذكرين حين قرن بينهما وقايست بين قوله: إنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين وبين قوله: وما صاحبكم بمجنون» .
وقد ردّ ابن المنير كعادته على الزمخشري فقال: «ثم يعود الكلام(10/398)
على الآية بعد تسلم أن المراد جبريل وبعد أن نكله في تعيينه النبي صلّى الله عليه وسلم وعدّه مفضولا إلى الله فنقول: لم يذكر فيها نعت إلا وللنبي صلّى الله عليه وسلم مثله أو لها رسول كريم فقد قال في حقه صلّى الله عليه وسلم في آخر سورة الحاقة إنه لقول رسول كريم وقد قيل أيضا أن المراد جبريل إلا أنه يأباه قوله: وما هو بقول شاعر وقد وافق الزمخشري على ذلك فيما تقدم فهذا أول الفوت وأعظمها وأما قوله ذي قوة فليس محل الخلاف إذ لا نزاع في أن لجبريل عليه السلام فضل القوة الجسمية ومن يقتلع المدائن بريشة من جناحه لا مراء في فضل قوته على قوة البشر وقد قيل هذا في تفسير قوله: ذو مرة فاستوى وقوله عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فقد نبتت طاعة الملائكة أيضا لنبيّنا صلّى الله عليه وسلم وورد أن جبريل عليه السلام قال للنبي: إن الله يقرئك السلام وقد أمر ملك الجبال يطيعك عند ما آذته قريش فسلم عليه الملك وقال: إن أمرتني أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت فصبر النبي صلّى الله عليه وسلم واحتسب، وأعظم ذلك وأشرف مقامه المحمود في الشفاعة الكبرى يوم لا يتقدمه أحد إذ يقول الله تعالى له: ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع وأما أمين فقد قال والله إني لأمين في الأرض أمين في السماء وحسبك قوله: وما هو على الغيب بظنين إن قرأته بالظاء فمعناه أنه صلّى الله عليه وسلم أمين على الغيب غير متهم وإن قرأته بالضاد رجع إلى الكرم فكيف يذهب إلى التفضيل بالنعوت المشتركة بين الفاضل والمفضول سواء» .
البلاغة:
1- في قوله: «والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس» استعارة مكنية، فقد شبّه الليل بإنسان يقبل ويدبر ثم حذف المشبه وأخذ منه(10/399)
شيئا من لوازمه وهي لفظة عسعس أي أقبل وأدبر كما شبّه الصبح بكائن حي يتنفس فحذف المشبه وأتى بشيء من لوازمه وهو التنفس أي خروج النفس من الجوف، أو يقال أنه شبّه الليل بالمكروب الحزين الذي حبس بحيث لا يتحرك فإذا تنفس وجد راحته وهنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من الحزن كلية فعبّر عن ذلك بالتنفس.
2- وفي قوله «فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس» فن الالتزام فقد لزمت النون قبل السين.(10/400)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
(82) سورة الانفطار مكيّة وآياتها تسع عشرة
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)(10/401)
اللغة:
(بُعْثِرَتْ) قال الزمخشري: «بعثر وبحثر بمعنى وهما مركبان من البعث والبحث مع راء مضمومة إليهما والمعنى بحثت وأخرج موتاها وقيل لبراءة المبعثرة لأنها بعثرت أسرار المنافقين» وفي المختار: «بحثره فتبحثر أي بدده فتبدد وقال الفراء: بحثر متاعه وبعثره أي فرّقه وقلب بعضه على بعض وقال أبو الجراح: بحثر الشيء وبعثره أي استخرجه وكشفه» .
الإعراب:
(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه والسماء فاعل لفعل محذوف يدل عليه المذكور وجملة انفطرت مفسّرة وجملة انفطرت السماء في محل جر بإضافة الظرف إليها والظرف متعلق بالجواب وهو علمت وما بعده عطف عليه والبحار والقبور نائب فاعل لفعل محذوف وجملة علمت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعلمت نفس فعل وفاعل وما مفعول به وجملة أخّرت لا محل لها لأنها صلة ما (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) يا حرف نداء وأيّها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب بيا والهاء للتنبيه والإنسان بدل وما اسم استفهام مبتدأ وجملة غرّك خبره وبربك متعلقان بغرّك والكريم صفة لربك، وقرأ ابن جبير والأعمش ما أغرّك فاحتمل أن تكون أن استفهامية وأن تكون تعجبية. وإنما قال سبحانه: الكريم دون غيره من أسمائه الحسنى وصفاته لأنه تعالى كأنه لقنه الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) الذي صفة ثانية لربك مقرّة بالربوبية(10/402)
وجملة خلقك صلة الذي، فسوّاك عطف على خلقك وكذلك فعدلك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) الجار والمجرور متعلقان بركبك وما زائدة وجملة شاء صفة لصورة والمفعول به محذوف أي شاءها والمعنى وصفك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته من حسن ودمامة وطول وقصر وذكورة وأنوثة، وعدلك أي صيّرك معتدل القامة متناسب الخلقة من غير تفاوت. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال أي ركّبك حال كونك حاصلا في بعض الصور وقال الزمخشري: «ويجوز أن يتعلق بعدلك ويكون في أيّ معنى التعجب أي فعدلك في صورة عجيبة» (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) كلا حرف ردع وزجر وبل حرف إضراب انتقالي إلى بيان السبب الأصيل في اغترارهم، وعبارة الراغب: «بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل ليس هنا ما يقتضي أن يغرّهم به تعالى شيء ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه» وتكذبون فعل مضارع مرفوع وفاعل وبالدين متعلقان بتكذبون (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) الواو حالية مقررة للإنكار والجملة حالية من الواو في تكذبون أي تكذبون والكتبة يكتبون كل ما يصدر عنكم ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لإخبارهم بذلك ليرتدعوا عما هم عليه وإن حرف مشبّه بالفعل، وعليكم خبرها المقدّم واللام للتأكيد وحافظين اسم إن أو هو صفة لاسمها أي ملائكة، وكراما نعت لحافظين وكاتبين نعت ثان (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) الجملة نعت ثالث ويعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وما مفعول به وجملة تفعلون صلة والعائد محذوف أي تفعلونه (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) الجملة مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدّر تقديره لم يكتبون ذلك فكأنه قيل ليجازي الأبرار بالنعيم والفجّار بالجحيم. وإن واسمها واللام المزحلقة وفي نعيم خبرها وجملة وإن الفجّار إلخ عطف على الجملة السابقة مماثلة لها في إعرابها (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) الجملة حال من(10/403)
الضمير من الجار والمجرور وهو لفي جحيم، ويصلونها فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والهاء مفعول به ويوم الدين ظرف متعلق بيصلونها، ويجوز أن تكون جملة يصلونها مستأنفة مسوقة للإجابة عن سؤال مقدّر تقديره وماذا يئول إليه أمرهم في الجحيم (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أراد يصلون النار يوم الدين وما يغيبون عنها قبل ذلك أي في قبورهم (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) الواو عاطفة وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر وأدراك فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به أول وما اسم استفهام معناه التهويل والتعظيم في محل رفع مبتدأ ويوم الدين خبره والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني قال ابن عباس:
«كلّ ما في القرآن من قوله ما أدراك فقد أدراه وكل ما فيه من قوله وما يدريك فقد طوى عنه» (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) يوم مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر وجعله أبو البقاء ظرفا متعلقا بمحذوف تقديره يجازون، وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من يوم الدين، وجملة لا تملك في محل جر بإضافة الظرف إليها ونفس فاعل والتنوين للتعميم أي كل نفس وشيئا مفعول به والأمر مبتدأ ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بمحذوف حال والتنوين عوض عن جملة ولله خبر الأمر.
البلاغة:
1- في قوله «إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجّار لفي جحيم» الوصل وقد تقدم القول في الوصل والفصل وفيه من مقتضيات الوصل اتفاق الجملتين في الخبرية والإنشائية مع الاتصال أي الجامع بينهما وهو هنا التضاد.(10/404)
2- وفي هاتين الآيتين أيضا فن الترجيع وهو ضرب من السجع وذلك أن تكون كل لفظة في صدر البيت أو فقرة النثر موافقة لنظيرتها في الوزن والروي والإعراب ومما ورد منه شعرا قول أبي فراس:
وأفعالنا للراغبين كريمة ... وأموالنا للطالبين نهاب(10/405)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
(83) سورة المطفّفين مكيّة وآياتها ستّ وثلاثون
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
اللغة:
(لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف: البخس في الكيل والوزن لأن ما يبخس شيء طفيف حقير، وطفف المكيال نقصه قليلا وقال الزجّاج: «وإنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف لأنه يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف» .(10/406)
(اكْتالُوا) قال الفرّاء يقال اكتلت على الناس استوفيت منهم واكتلت منهم: أخذت ما عليهم فعلى بمعنى من.
(سِجِّينٍ) قال الزمخشري: «فإن قلت قد أخبر الله عن كتاب الفجار إنه في سجين وفسّر سجينا بكتاب مرقوم فكأنه قيل: إن كتابهم في كتاب مرقوم فما معناه؟ قلت: سجين كتاب جامع هو ديوان الشر دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة أو معلّم يعلم من رآه أنه لا خير فيه، فالمعنى أن ما كتب من أعمال الفجّار مثبت في ذلك الديوان، وسمي سجينا فعيلا من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم» إلى أن يقول: «فإن قلت: فما سجين أصفة هو أم اسم؟ قلت بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف» .
وعبارة أبي حيان: «وسجين قال الجمهور فعيل من السجن كسكير أو في موضع ساجن فجاء بناء مبالغة في سجين على هذا صفة لموضع محذوف قال ابن مقبل:
ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا»
ثم أورد ما قاله الزمخشري قال: «واختلفوا في سجين إذا كان مكانا اختلافا مضطربا حذفنا ذكره والظاهر أن سجينا هو كتاب ولذلك أبدل منه كتاب مرقوم وقال عكرمة: سجين عبارة عن الخسار والهوان كما تقول بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الجمود وقال بعض اللغويين سجين نونه بدل من لام وهو من السجل فتلخص من أقوالهم أن سجينا نونه أصلية أو بدل من لام وإذا كانت أصلية فاشتقاقه من السجن» .(10/407)
وأورد صاحب القاموس في مادة سجن ما نصّه: «وكسكين الدائم الشديد موضع فيه كتاب الفجّار وواد في جهنم أعاذنا الله تعالى منها أو حجر في الأرض السابعة» .
(مَرْقُومٌ) مكتوب مسطور وأصل الرقم الكتابة، ومنه قول الشاعر:
سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم
الإعراب:
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ويل مبتدأ وسوّغ الابتداء به كونه دعاء وللمطففين خبره، ولو نصب لجاز وقيل: «والمختار في ويل وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع ويجوز فيه النصب فإن كان مضافا أو معرّفا كان الاختيار فيه النصب نحو ويلكم لا تغترّوا» ، (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) الذين صفة للمطففين وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط وهو متعلق بالجواب المحذوف وتقديره قبضوا منهم وجملة اكتالوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وعلى الناس متعلقان باكتالوا وقيل متعلقان بيستوفون وإنما قدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية قال الزمخشري: «لما كان اكتيالهم اكتيالا يضرّهم ويتحامل فيه عليهم أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ويجوز أن يتعلق بيستوفون وقدّم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها» وقد جعل ابن هشام «على» بمعنى «من» موافقا بذلك الزمخشري. وجملة يستوفون في موضع نصب على الحال من فاعل الجواب المحذوف أي قبضوا منهم مستوفين (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بالجواب المحذوف وتقديره استوفوا(10/408)
لها وجملة كالوهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وكالوهم فعل ماض وفاعل والهاء منصوب بنزع الخافض أي كالوا لهم الطعام وأو حرف عطف ووزنوهم عطف على كالوهم موازن له في إعرابه وعبارة الزمخشري «والضمير في كالوهم أو وزنوهم ضمير منصوب راجع إلى الناس وفيه وجهان: أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذف الجار وأوصل الفعل كما قال:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن نبات الأوبر
فجنى لا يتعدى إلا لواحد وللثاني باللام فالأصل جنيت لك فحذف الجار وأوصل الضمير أو ضمنه معنى انجتك فعدّاه لهما، والأكمؤ جمع كمء كأفلس وهو واحد الكمأة وهي لنوع كبير من نبات يسمى شحمة الأرض سمي كمأة لاشتهاره بها والعساقل جمع عسقول كعصفور وكان حقه عساقيل فحذفت الياء للوزن وقيل أنه جمع عسقل وهو نوع صغير منها جيد أبيض ونبات أوبر نوع رديء منها أسود مزغب كأن عليه وبرا وقيل هو جنس يشبه القلقاس أو اللفت ونبات أوبر جمع ابن أوبر لأنه علم لما لا يعقل وأل فيه زائدة وقال المبرد: هو اسم جنس، والبيت هو من باب التمثيل لحال من اغري على الطيب فعدل إلى الخبيث ثم رجع يتندم على عاقبته. ونعود إلى ما نحن بصدده فنقول ومن أمثلة المنصوب بنزع الخافض قولهم الحريص يصيدك لا الجواد والأصل يصيد لك وما قيل من أن هم ضمير رفع مؤكد للواو في كالوهم خطأ. وأو حرف عطف ووزنوهم معطوف على كالوهم ويقال في إعرابه ما قيل في كلوهم أي وزنوا لهم، وعبارة أبي حيان: «وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر فتقول كلت لك ووزنت لك ويجوز حذف اللام كقولك نصحت لك ونصحتك وشكرت لك وشكرتك والضمير ضمير نصب أي كالوا لهم ووزنوا لهم فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه(10/409)
والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون» وجملة يخسرون حال من الجواب المحذوف (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ولا نافية ويظن فعل مضارع مرفوع والظن هنا بمعنى اليقين أي ألا يوقن أولئك ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن، وأولئك فاعل والإشارة للمطففين وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يظن وأن واسمها ومبعوثون خبرها وليوم متعلقان بمبعوثون أو هو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف وإنما بني على الفتح لإضافته إلى الفعل وعظيم نعت ويوم بدل من ليوم تابع له على المحل ومحله النصب بمبعوثون المذكور أو بمقدّر مثله لأن البدل على نية تكرير العامل وجملة يقوم الناس في محل جر بإضافة الظرف إليها ولرب العالمين متعلقان بيقوم، وعن ابن عمران قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله يوم يقوم الناس لرب العالمين بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده، وعن عبد الملك بن مروان أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ) كلا ردع وزجر لهم عن التطفيف والغفلة عن الحساب والبعث وإن واسمها واللام المزحلقة وفي سجين خبر إن وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبر وما اسم استفهام مبتدأ وسجين خبر والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني وكتاب بدل من سجين أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو كتاب مرقوم ومرقوم صفة كتاب، وإذا اعتبر سجين اسم موضع فالأرجح الخبرية أو تقدير مضاف من سجين ليندفع الاعتراض بأن سجينا اسم موضع فكيف يفسّر بكتاب مرقوم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) ويل مبتدأ كما تقدم ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بويل(10/410)
وللمكذبين خبر والذين نعت للمكذبين وجملة يكذبون لا محل لها لأنها صلة الذين وبيوم الدين متعلقان بيكذبون (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية ويكذب فعل مضارع مرفوع وبه متعلق بيكذب وإلا أداة حصر وكل معتد أثيم فاعل يكذب (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بجوابه وهو قال وجملة تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وعليه متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل تتلى وجملة قال لا محل لها لأنها جواب إذا وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف أي هي. وتقدم أن الأساطير جمع أسطورة أو أساطرة بالكسر وهي الحكاية التي سطرت قديما.
البلاغة:
في قوله «الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون» مقابلة أتت على أحسن وجه وأنظمه أي إذا كان الكيل من جهة غيرهم استوفوه وإذا كان الكيل من جهتهم خاصة أخسروه سواء باشروه أو لا، فالضمير لا يدل على مباشرة ولا إشعار أيضا بذلك والذي يدلك على أن الضمير لا يعطي مباشرة الفعل إن لك أن تقول: الأمراء هم الذين يقيمون الحدود لا السوقة لست تعني أنهم يباشرون ذلك بأنفسهم وإنما معناه أن فعل ذلك من جهتهم خاصة، قيل كان أهل المدينة تجّارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابزة والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأها عليهم وقال: خمس بخمس قيل: يا رسول الله: وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلا سلّط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت،(10/411)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر. وقيل نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، أي يأخذ بواحد ويعطي بآخر.
[سورة المطففين (83) : الآيات 14 الى 36]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)(10/412)
اللغة:
(رانَ) غلب وأحاط وغطى تغطية الغيم للسماء وفي المختار:
«الرين الطبع والدنس يقال ران ذنبه على قلبه من باب باع وريونا أيضا غلب وقال أبو عبيدة: كل ما غلبك فقد ران بك ورانك وران عليك ورين الرجل إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به» وعبارة الزمخشري: «ران على قلوبهم: ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها وهو أن يصرّ على الكبائر ويسوف التوبة حتى يطبع على قلبه فلا يقبل الخير ولا يميل إليه وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب، يقال ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا والذين الغيم ويقال ران فيه النوم رسخ فيه ورانت به الخمر ذهبت به» قلت: وران يائية وواوية وهي هنا يائية، يقال: ران يرين رينا وريونا الشيء فلانا وعليه وبه: غلب عليه تقول: ران هواه على قلبه أي غلب عليه ورانت نفسه: خبثت وغشت وران الموت عليه وبه ذهب ورين به: وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا طاقة له به ومات ووقع في غم وأران إرانة القوم هلكت ماشيتهم فهم مرينون والران حذاء كالخف إلا أنه أطول منه والرّينة: الخمر لغلبتها على العقل.
أما الواوية فيقال: ران يرون رونا من باب دخل الأمر: اشتد ورانت الليلة اشتد هولها أو غمّها والرّون بضم الراء المشددة الشدة والجمع رءون ورونة الشيء بالضم معظمه وشدته يقال كشف الله عنك رونة هذا الأمر أي شدّته وغمته والأرونان الصعب ويقال الأرونان والأروناني الشديد في كل شيء من حرّ وبرد وجلبة وصياح وحزن وفرح ومؤنثه أرونانة وأرونانية.(10/413)
(عِلِّيُّونَ) قال الزمخشري: «وعليون علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع عليّ فعيل من العلو كسجين من السجن سمي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة وإما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريما له وتعظيما» وعبارة أبي حيان: عليون جمع واحده عليّ مشتق من العلو وهو المبالغة قاله يونس وابن جنّي قال أبو الفتح وسبيله أن يقال عليّة كما قالوا للغرفة عليّة فلما حذفت التاء عوّضوا منها الجمع بالواو والنون وقيل هو وصف للملائكة فلذلك جمع بالواو والنون، وقال الفراء: هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظه كقوله عشرين وثلاثين والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء من واحده ولا تثنية قالوا في المذكر والمؤنث بالواو والنون، وقال الزجّاج أعرب هذا الاسم كإعراب الجمع هذه قنسرون ورأيت قنسرين وقال ابن هشام في بحث ما ألحق بجمع المذكر السالم «والرابع ما سمي به من هذه الجمع وما ألحق به كعليون» أي فإنه ملحق بهذا الجمع ومسمى به أعلى الجنة، وقال الراغب: قيل هو اسم أشرف الجنان كما أن سجين هو أشرف النيران وقيل بل ذلك في الحقيقة اسم سكانها وهذا أقرب إلى العربية إذا كان هذا الجمع يخصّ الناطقين والواحد عليّ ومعناه أن الأبرار في جملة هؤلاء.
الإعراب:
(كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) كلا حرف ردع وزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه، وبل حرف عطف وإضراب وران فعل ماض مبني على الفتح وعلى قلوبهم متعلقان بران وما فاعل وجملة كانوا لا محل لها لأنها صلة وكان واسمها(10/414)
وجملة يكسبون خبر كانوا (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) كلا حرف ردع وزجر أيضا عن الكسب الرائن على قلوبهم وإن واسمها وعن ربهم متعلقان بمحجوبون ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بمحجوبون أيضا ومحجوبون خبر إن والتنوين في إذ عوض عن جملة تقديرها يوم إذ يقوم الناس، وسيأتي معنى قوله محجوبون في باب البلاغة (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) ثم حرف عطف لتراخي الرتبة فإن صلي الجحيم أشد من الإهانة والحرمان من الرحمة والكرامة، وإن واسمها واللام المزحلقة وصالوا الجحيم خبر إن (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ثم حرف عطف للترتب والتراخي أيضا ويقال فعل مضارع مبني للمجهول ونائب لفاعل مستتر تقديره هو وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة كنتم صلة وكان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) كلا تأكيد للردع ووجوب الارتداع وإن واسمها واللام المزحلقة وفي عليين خبرها وعلامة جر عليين الياء نيابة عن الكسرة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والواو حرف عطف وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبر وما اسم استفهام للتفخيم والتعظيم مبتدأ وعليون خبر وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني (كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) كتاب بدل من عليون أو خبر لمبتدأ محذوف وهو الأولى ومرقوم نعت لكتاب وجملة يشهده نعت ثان والهاء مفعول به والمقربون فاعل (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في محاسن أحوالهم، وإن واسمها واللام المزحلقة وفي نعيم خبرها وعلى الأرائك متعلقان بينظرون وجملة ينظرون حالية من الضمير المستكن في خبر إن أو مستأنفة والمراد بالأرائك السرر في الحجال والحجال كما يقول الجوهري جمع حجلة بالتحريك واحده حجال(10/415)
العروس وهو بيت يزيّن بالثياب والأسرّة، وقال الشهاب: الحجلة بفتحتين بيت مربع من الثياب الفاخرة يرخى على السرير يسمى في عرف الناس بالناموسية أي الكلة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) كلام مستأنف مسوق لإيذان المخاطب بالالتفات إليهم والتأمل في آثار النعيم على وجوههم وقرىء بالبناء للمجهول فتكون نضرة النعيم نائب فاعل وفي وجوههم متعلقان بتعرف ونضرة النعيم مفعول به (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) يسقون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن رحيق متعلقان بيسقون ومختوم نعت، أي خمر خالصة من كل شائبة أو غش، وختامه مسك مبتدأ وخبر والجملة نعت ثان لرحيق والظاهر أن الرحيق ختم عليه لتوفير النظافة والرائحة المسكية كما فسّره بعد، وفي الصحاح: «الختام الطين الذي يختم به وكذا قال مجاهد وابن زيد ختم إناؤه بالمسك بدل الطين قال:
كأن مشعشعا من خمر بصرى ... نمته البحت مشدود الختام»
والواو حرف عطف وفي ذلك متعلقان بقوله فليتنافس والفاء عاطفة لزيادة الاهتمام واللام لام الأمر ويتنافس فعل مضارع مجزوم باللام والمتنافسون فاعل، وفي المختار: «ونفس الشيء من باب ظرف صار مرغوبا فيه ونافس في الشيء منافسة ونفاسا بالكسر إذا رغب فيه على وجه المباراة في الكرم وتنافسوا فيه أي رغبوا» (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) الواو عاطفة ومزاجه مبتدأ ومن تسنيم خبر وهو علم لعين بعينها سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه لأنها تأتيهم من فوق على ما روي أنها تجري في الهواء فيشربونها صرفا للمقربين وممزوجة لسائر أهل الجنة وقيل سميت بالتسنيم لأنها أرفع شراب في الجنة، وعينا منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح، وقال(10/416)
الزجّاج: نصب على الحال من تسنيم بوصفها علما، قال أبو البقاء:
«وقيل تسنيم مصدر وهو الناصب عينا» وقال الأخفش يسقون عينا.
وجملة يشرب نعت عينا وبها متعلقان بيشرب أي منها على أن التضمين في الحرف أو يكون التضمين بالفعل أي يلتذ بها، والمقربون فاعل يشرب (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) كلام مستأنف مسوق لتسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم بما أعدّ للأبرار في الجنة. وإن واسمها وجملة أجرموا لا محل لها لأنها صلة الذين وجملة كانوا خبر إن وكان واسمها ومن الذين متعلقان بيضحكون وجملة يضحكون خبر كانوا فقد كان مشركو مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم يضحكون من عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين ويستهزئون بهم وقيل جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في نفر من المؤمنين فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا رأينا اليوم الأصلع فضحكوا منه (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ)
الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بيتغامزون وجملة مروا بهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة يتغامزون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإذا ظرف مستقبل أيضا وجملة انقلبوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وإلى أهلهم متعلقان بانقلبوا وجملة انقلبوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفكهين حال أي معجبين وقرىء فاكهين أي فرحين ناعمين (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) الواو عاطفة أيضا وإذا ظرف مستقبل وجملة رأوهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قالوا لا محل لها والضمير المرفوع عائد على المؤمنين والمنصوب على المجرمين أي إذا رأى المؤمنون المجرمين ينسبونهم إلى الضلال ويجوز العكس، وإن واسمها وخبرها والجملة مقول قولهم (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) الواو حالية والجملة حال من الواو في قالوا(10/417)
وما نافية وأرسلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعليهم متعلقان بحافظين وحافظين حال (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) الفاء عاطفة للتفريع واليوم ظرف متعلق بيضحكون والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة ومن الكفّار متعلقان بيضحكون أيضا وجملة يضحكون خبر الذين وعلى الأرائك متعلقان بينظرون وجملة ينظرون حالية من الضمير في يضحكون أي يضحكون حال كونهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من التردّي والهوان (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي يقولون هل ثوب وأجازوا أن تكون الجملة معلقة بالاستفهام في محل نصب بنزع الخافض وثوب فعل ماض مبني للمجهول والكفار نائب فاعل وثوب هنا بمعنى الجزاء أي هل أثيبوا أو هو من ثاب بمعنى رجع لأن الثواب هو ما يرجع على الإنسان في مقابل عمله وما في موضع نصب مفعول به ثان وجملة كانوا صلة ما وجملة يفعلون خبر كانوا قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عنّي مثوب ... وحسبك أن يثني عليك وتحمدي
البلاغة:
في قوله «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على ذوي العلية والمراتب السامية إلا للمقربين المكرمين لديهم ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء الموسومون بالمهانة والقماءة والصغار، وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال مبررا احتجاب المعتصم عن الرعية:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء ترجى حين تحتجب(10/418)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
(84) سورة الانشقاق مكيّة وآياتها خمس وعشرون
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
اللغة:
(وَأَذِنَتْ) استمعت أمره يقال أذنت لك أي استمعت كلامك، وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء إذنه لنبي يتغنى بالقرآن» وقال الشاعر:(10/419)
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وفي المختار: «وأذن له استمع وبابه طرب ومنه قوله تعالى:
وأذنت لربها وحقّت» ويقال: أذن يأذن أذنا إليه وله استمع له معجبا أو عام ولرائحة الطعام اشتهاه وأذن بالشيء كسمع إذنا بالكسر ويحرّك وأذانا وأذانة علم به، فأذنوا بحرب أي كونوا على علم وآذنه الأمر وبه أعلمه وأذّن تأذينا أكثر الإعلام وفلانا عرك أذنه ورده عن الشرب فلم يسقه والنعل وغيرها جعل لها أذنا، وفعله بإذني وأذيني: بعلمي، وأذن له في الشيء كسمع إذنا بالكسر وأذينا أباحه له، واستأذنه: طلب منه الإذن إلى آخر هذه المادة العجيبة.
(كادِحٌ) جاهد في عملك والكدح جهد النفس في العمل والكد فيه حتى يؤثر فيها من كدح جلده إذا خدشه وفي المختار: «الكدح العمل والسعي والكد والكسب وهو الخدش أيضا وباب الكل قطع وقوله تعالى: إنك كادح إلى ربك أي ساع وبوجهه كدوح أي خدوش وهو يكدح لعياله ويكتدح أي يكتسب» ومن طريف أمر الكاف والدال إذا وقعا فاء وعينا للكلمة دلّت على الجهد والدأب والتأثير يقال فلان كدود: يكدّ نفسه في العمل ويتعبها. ومن المجاز كدّ لسانه بالكلام وقلبه بالفكر وكدّت الدواب الأرض بالحوافر وهي الكديد وكردت رأسي وجلدي بالأظفار إذا حككته حكا بإلحاح ومنه قول كثير:
غنيت فلم أرددكم عن بغيّة ... وجعت فلم أكددكم بالأصابع
أي لم ألح عليكم في السؤال وبئر كدود لا ينال ماؤها إلا بجهد وناقة كدود ورجل كدود: لا ينال درّها وخيره إلا بعد عسر، وكان ابن هبيرة يقول: كدوني فإني مكد أي سلوني فإني أعطي على السؤال، وكدر الماء عن ابن الأعرابي فيه اللغات الثلاث وماء أكدر وكدر بين(10/420)
الكدر ومن المجاز كدر عينه وتكدر وخذ ما ضفا ودع ما كدر وكدر عليّ فلان وهو كدر الفؤاد عليّ قال:
وإني لمشتاق إلى ظل صاحب ... يرق ويصفو إن كدرت عليه
وله كدس من الطعام وأكداس قال المتلمس:
لم تدر بصرى بما آليت من قسم ... ولا دمشق إذا ديس الكداديس
أراد الأكداس وهو اسم جمع وكدس الطعام فتكدس ولا يخفى ما فيه من الثقل والجهد. وكدمه عضّه بأدنى الفم وحمار مكدّم معضض.
وإنه لذو كدنة وعبالة وهي غلظ وثقله ومنه الكودن وهو البرذون التركي.
وأكدى الحافر بلغ الكدية وهي صلابة الأرض فمنعته كقولهم أجبل الحافر، ومن المجاز أكدى الرجل: أخفق ولم يظفر بحاجته وفلان مكد لا ينمى ماله إلى آخر ما جاء من هذه المادة.
(ثُبُوراً) الثبور الهلاك وفي المصباح: «وثبر الله الكافر ثبورا من باب قعد أهلكه وثبر هو ثبورا هلك يتعدى ولا يتعدى» .
(يَحُورَ) يرجع، قال الراغب: الحور التردد في الأمر ومنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور أي من التردد في الأمر بعد المضي فيه ومحاورة الكلام مراجعته، والحور العود الذي تجري فيه البكرة لترددها عليه، وفي المختار: «حار رجع وبابه قال ودخل» فالمصدر بوزن قول ودخول يقال حورا وحئورا ومحارا ومحارة. هذا وتأتي حار بمعنى صار فترفع الاسم وتنصب الخبر.
الإعراب:
(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) إذا ظرف لما يستقبل من(10/421)
الزمن والسماء فاعل بفعل محذوف يفسّره ما بعده والتقدير إذا انشقّت السماء انشقت لأن إذا الشرطية يختص دخولها بالجمل الفعلية وما جاء من هذا ونحوه فمؤول محافظة على قاعدة الاختصاص وقد تقدم القول مفصلا فيه في سورة التكوير، وجملة انشقت مفسّرة لا محل لها وجملة انشقت المحذوفة في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب إذا محذوف وإنما حذف تنبيها على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو ليذهب المقدّر كل مذهب وقيل جوابها ما دلّ عليه فملاقيه أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه وقيل لا جواب لها إذ هي قد نصبت باذكر نصب المفعول به فليست شرطا، والواو حرف عطف وأذنت فعل ماض ولربها متعلقان بأذنت أي استمعت له وحقّت فعل ماض مبني للمجهول، واعلم أن الفاعل في هذا التركيب هو الله تعالى أي حقّ الله عليها ذلك أي سمعه وطاعته يقال هو حقيق بكذا وتحقق به والمعنى وحقّ لها أن تفعل ذلك فالفاعل إذن محذوف وهو الله تعالى والمفعول به هو سمعها وطاعتها وهو غير مذكور بل الإسناد في الآية إنما هو للسماء نفسها فيحتاج إلى تقدير والتقدير وحقّت هي أي حقّ سمعها وطاعتها أي حقّه الله تعالى عليها وأوجبه وألزمها به هذا هو الظاهر، وأجاز البيضاوي أن يكون نائب الفاعل هو ضمير السماء المستكن في الفعل من غير تقدير ونص عبارته «وحقّت أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد» (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والإنسان بدل وإن واسمها وكادح خبرها وإلى ربك متعلقان بكادح، و «إلى» هنا معناها الغاية أي غاية كدحك في الخير والشر تنتهي بلقاء ربك وهو الموت، وكدحا مفعول مطلق والفاء حرف عطف وملاقيه عطف على كادح ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي فأنت ملاقيه(10/422)
فعلى الأول يكون من عطف المفرد على المفرد وعلى الثاني يكون من باب عطف الجمل (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الفاء استئنافية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة أوتي صلة لا محل لها ونائب الفاعل مستتر يعود على من وكتابه مفعول به ثان وبيمينه متعلقان بأوتي (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) الفاء رابطة لجواب أما وسوف حرف استقبال ويحاسب فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وحسابا مفعول مطلق ويسيرا نعت حسابا (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) الواو حرف عطف وينقلب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وإلى أهله متعلقان بينقلب ومسرورا حال وجملة سوف يحاسب خبر من (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) عطف على الجملة السابقة مماثل له في إعرابه ووراء ظهره منصوب بنزع الخافض أي يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره والفاء رابطة وجملة سوف يدعو ثبورا خبر من وثبورا مفعول يدعو أي ينادي هلاكه بقوله يا ثبوراه لأن نداء ما لا يعقل يراد به التمنّي فالدعاء بمعنى الطلب بالنداء (وَيَصْلى سَعِيراً) عطف على يدعو وسعيرا مفعول يصلّى (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) تعليل لما يلاقيه وإن واسمها وجملة كان خبرها وفي أهله حال ومسرورا خبر كان (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) تعليل ثان وإن واسمها وجملة ظن خبرها والظن هنا بمعنى العلم والتيقن وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويحور فعل مضارع منصوب بلن وجملة لن يحور خبر أن وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي ظن (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) بلى حرف جواب لإيجاب ما بعد النفي وإن واسمها وجملة كان خبرها وبه متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كان وجملة إن وما في حيّزها جواب قسم مقدّر أو تعليل لما أفادته بلى من إيجاب لما بعد لن.(10/423)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
البلاغة:
1- في قوله «وأذنت لربها وحقّت» استعارة مكنيّة فقد شبّهت حال السماء في انقيادها لتأثير قدرة الله تعالى حيث أراد انشقاقها بانقياد المستمع المطواع للأمر ثم حذف المشبه به واستعير لفظ الإذن والاستماع المستعمل في غايته.
2- في قوله «وألقت ما فيها وتخلت» استعارة مكنية فقد شبّهت حال الأرض بحال المرأة الحامل تلقي ما في بطنها عند الشدّة والهول ثم حذف المشبه به واستعير لفظ الإلقاء.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
اللغة:
(الشفق) قال الزمخشري «الشفق الحمرة التي ترى في المغرب بعد سقوط الشمس وبسقوطه يخرج وقت المغرب ويدخل وقت العتمة عند عامة العلماء إلا ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين أنه(10/424)
البياض وروى أسد بن عمرو أنه رجع عنه. وسمي شفقا لرقته ومنه الشفقة على الإنسان وهي رقة القلب عليه» وقال الراغب: «الشفق اختلاط ضوء النهار بسواد الليل عند غروب الشمس والإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدّي بعلى فمعنى العناية فيه أظهر» وقال السمين: «والشفق شفقان: الشفق الأحمر والشفق الأبيض والشفق والشفقة اسمان للاشفاق» وقال أبو حيان: «الشفق الحمرة بعد مغيب الشمس حين تأتي صلاة العشاء الآخرة قيل أصله من رقة الشيء يقال شيء مشفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رقّ قلبه والشفقة الاسم من الشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزال على الحرم»
وعبارة القاموس: «الشفق محركة الحمرة في الأفق من الغروب إلى العشاء الآخرة أو إلى قربها أو إلى قريب العتمة» وهذا هو الصحيح، ومنه قول الشاعر:
قم يا غلام أعنّي غير مرتبك ... على الزمان بكأس حشوها شفق
(وَسَقَ) جمع وضم يقال وسقه فانشق واستوسق ونظيره في وقوع افتعل واستفعل مطاوعين اتسع واستوسع وفي القاموس: «وسقه يسقه من باب ضرب جمعه وحمله ومنه والليل وما وسق» .
(اتَّسَقَ) اجتمع واستوى ليلة أربع عشرة، قال الفراء «وهو امتلاؤه واستواؤه ليالي البدر» وهو افتعل من الوسق وهو الضم والجمع كما تقدم وأمر فلان متسق أي مجتمع على ما يسر.(10/425)
الإعراب:
(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الفاء الفصيحة لأنها في جواب شرط مقدم أي إذا عرفت هذا أو إذا تحققت الرجوع بالبعث فلا أقسم وقد تقدم القول في لا أقسم فجدّد به عهدا، وبالشفق متعلقان بأقسم والليل عطف على الشفق والواو حرف عطف وما يجوز أن تكون موصولة اسمية ويجوز أن تكون نكرة موصوفة ويجوز أن تكون مصدرية وعلى كونها موصولة أو نكرة موصوفة فعائد الصلة أو الصفة محذوف أي وسقه أي جمعه والمعنى ضم ما كان ساربا بالنهار من أصناف الخلق وأنواع الكائنات لأن كل شيء منها في الليل يعود إلى مأواه، والقمر عطف أيضا وإذا ظرف خال من معنى الشرط متعلق بفعل القسم أي وقت اتّساقه واستوائه واللام جواب القسم وتركبن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال لأنه من الأفعال الخمسة والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة وطبقا حال أو مفعول به وعن طبق أي أمة من الناس صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا الطبق وعلى كون طبقا مفعولا به يكون على حذف مضاف أي لتركبن سنن أو طريقة طبقة بعد طبق، وعبارة الزمخشري: «فإن قلت ما محل عن طبق؟
قلت: النصب على أنه صفة لطبقا أي طبقا مجاوزا لطبق أو حال من الضمير في لتركبن أي لتركبن طبقا مجاوزين لطبق أو مجاوزا أو مجاوزة على حسب القراءة» وقال الزمخشري أيضا: «قرىء لتركبن على خطاب الإنسان في يا أيها الإنسان ولتركبن بالضم على خطاب الجنس لأن النداء للجنس ولتركبن بالكسر على خطاب النفس وليركبن بالياء على ليركبن الإنسان والطبق: ما طابق غيره يقال: ما هذا بطبق لذا أي لا يطابقه ومنه قيل للغطاء الطبق وإطباق الثرى ما تطابق منه ثم قيل للحال(10/426)
المطابقة لغيرها طبق ومنه قوله عزّ وجلّ: طبقا عن طبق، أي حالا بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدّة والهول ويجوز أن يكون جمع طبقة وهي المرتبة من قولهم هو على طبقات ومنه طبق الظهر لفقاره الواحدة طبقة على معنى لتركبنّ أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدّة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها» قلت ومن ورود الطبق بمعنى الأمة قول العباس بن عبد المطلب في رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة وما اسم استفهام مبتدأ ولهم خبر وجملة لا يؤمنون حال (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) الجملة معطوفة على الجملة الحالية السابقة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قرىء في محل جر بإضافة الظرف إليها والقرآن نائب فاعل وجملة لا يسجدون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) حرف إضراب انتقالي والذين مبتدأ وجملة كفروا لا محل لها لأنها صلة الذين وجملة يكذبون خبر الذين (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) الواو حرف عطف والله مبتدأ واعلم خبره وبما متعلقان بأعلم وجملة يوعون لا محل لها لأنها صلة ما أي يضمرون في قلوبهم من التكذيب (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعذاب متعلقان ببشرهم وأليم نعت (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) إلا حرف استثناء والاستثناء منقطع فهو بمعنى لكن والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على الصلة داخل في حيّزها ولهم خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وغير ممنون نعت أي غير مقطوع ولا منقوص والجملة الاسمية خبر الذين،(10/427)
هذا ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا فيكون الذين مستثنى.
البلاغة:
في قوله «والليل وما وسق والقمر إذا اتسق» فن الالتزام أو لزوم ما لا يلزم، ومنهم من يسمّيه الاعنات وقد تقدمت الإشارة إليه وهو أن يلتزم الشاعر في شعره والناثر في نثره حرفا أو حرفين فصاعدا قبل حرف الروي على قدر طاقته مشروطا بعدم الكلفة، وقلنا أن لأبي العلاء المعري ديوانا التزم فيه ما لا يلزم. أما في الآية فقد التزمت النون قبل القاف.(10/428)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
(85) سورة البروج مكيّة وآياتها ثنتان وعشرون
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
اللغة:
(الْبُرُوجِ) جمع برج وهو في الأصل الركن والحصن والقصر وكل بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع يكون منفردا أو قسما من بناية عظيمة والبرج أيضا أحد بروج السماء وهي حسب تعبير اللغويين اثنا عشر: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، وأصل التركيب للظهور(10/429)
يعني أن أصل معنى البرج الأمر الظاهر من التبرّج ثم صار حقيقة في العرف للقصر العالي لظهوره ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا.
(الْأُخْدُودِ) مفرد وجمعه أخاديد والخد بفتح الخاء بمعنى الأخدود وجمعه خدود وهو الشق في الأرض أو حفرة مستطيلة فيها ويجمع على أخاديد، والأخاديد أيضا: آثار الضرب بالسوط ومنه أخاديد الأرشية في البئر وهي تأثير جرّها فيه. ويقال للشيخ: قد تخدّد ويراد قد تشنج جلده.
الإعراب:
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) الواو حرف قسم وجر والسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وذات البروج نعت للسماء واليوم الموعود عطف على السماء أو قسم برأسه والمراد به يوم القيامة وقيل غير ذلك وارجع إلى المطولات، وشاهد ومشهود عطف أيضا والمراد به محمد صلّى الله عليه وسلم وقيل غير ذلك أيضا وجواب القسم محذوف واختلف فيه فقيل دلّ عليه قوله قتل أصحاب الأخدود كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود وقيل محذوف صدره والتقدير لقد قتل وإنما احتيج لهذا الحذف لأن المشهور عند النحاة أن الماضي المثبت المتصرّف الذي لم يتقدم معموله إذا وقع جوابا للقسم تلزمه اللام وقد لا يجوز الاقتصار على أحدهما إلا عند طول الكلام والتقدير لقد قتل فالجملة على ذلك خبرية لا دعائية (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) قتل فعل ماض مبني للمجهول وأصحاب الأخدود نائب فاعل والنار بدل اشتمال من الأخدود لأن الأخدود مشتمل على النار(10/430)
ولا بدّ من تقدير ضمير بدل الاشتمال والتقدير النار فيه وذات الوقود نعت للنار وقد اختلف في الرابط لأنهم اشترطوا في بدل الاشتمال أن يتصل بضمير يرجع إلى المبدل منه كما اشترطوا ذلك في بدل البعض من الكل ليربط البعض بكله فقيل الرابط محذوف متصل بغير البدل أي النار فيه وهو قول البصريين وقيل لا تقدير والأصل ناره ثم نابت أل عن الضمير وهو قول الكوفيين (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) إذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بقتل أي لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من حافات الأخدود، وهم مبتدأ وعليها متعلق بقعود وقعود جمع قاعد خبر هم والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها وهم مبتدأ وعلى ما يفعلون متعلقان بشهود وشهود خبرهم أي يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة وقيل على بمعنى مع وشهود بمعنى حضور والمعنى وهم على ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لقسوة قلوبهم وهذا التقدير أكثر ملاءمة لنظم القرآن وقد جرى عليه أبو نواس فقال:
أنت على ما بك من قدرة ... فلست مثل الفضل بالواجد
وعندئذ تكون في محل نصب على الحال أي حال فعلهم بالمؤمنين (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية ونقموا فعل ماض وفاعل ومنهم متعلقان بنقموا وإلا أداة حصر وأن يؤمنوا مصدر مؤول في محل نصب مفعول نقموا أي ما عابوا منهم وما أنكروا إلا الإيمان، وسيأتي مزيد بسط لهذا المعنى في باب البلاغة، وعبروا بالمستقبل بقوله يؤمنوا مع أن الإيمان وجد منهم في الماضي لأن تعذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم ليس للإيمان الماضي وإنما لديمومته متمكنا فيهم مركوزا في صدورهم فكأنه قيل إلا استمرارهم على إيمانهم. وبالله متعلقان بيؤمنون والعزيز الحميد صفتان(10/431)
لله ذكر الأوصاف التي يستحق بها أن يعبد وأن يؤمن به كل مخلوق ومنها العزّة والأنعام الذي يستحق عليه الحمد (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) الذي نعت ثالث وله خبر مقدّم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة والله مبتدأ وشهيد خبره وعلى كل شيء متعلقان بشهيد.
البلاغة:
في قوله: «وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد» فن توكيد المدح بما يشبه الذم، وقد تقدمت الإشارة إليه في المائدة وهو أن يستثني من صفة ذم منفية صفة مدح أو أن يثبت لشيء صفة مدح ويؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى، ومن الأول بيت النابغة في مديح الغسانيين:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهنّ فلول من قرع الكتائب
وقول ابن الرقيات وقد اقتبس لفظ القرآن ورمق سماء بلاغته:
ما نقموا من أمية إلا ... أنهم يحملون إن غضبوا
ومنه قول ابن نباتة المصري:
ولا عيب فيه غير أني قصدته ... فأنستني الأيام أهلا وموطنا
وقول المعرّي:
تعدّ ذنوبي عند قوم كثيرة ... ولا ذنب لي إلا العلا والفضائل
وأما الثاني فقليل في الشعر ومنه قول بعضهم:
ما فيك من الجمال سوى ... أنك من أقبح القبيحات(10/432)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
اللغة:
(فَتَنُوا) عذبوا والمراد هنا حرقوهم بالنار، يقال فتنت الشيء إذا حرقته بالنار والعرب تقول: فتن فلان الدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته وفي المختار: «الفتنة الاختبار والامتحان تقول: فتن الذهب يفتنه بالكسر فتنة ومفتونا أيضا إذا أدخله النار لينظر جودته ودينار مفتون، قال الله تعالى: إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي حرقوهم ويسمّى الصائغ الفتّان وكذا الشيطان وقال الخليل: الفتن الإحراق قال الله تعالى: يوم هم على النار يفتنون» وعبارة القاموس: «الفتن بالفتح الفن والحال ومنه العيش فتنان أي لونان حلو ومر، والإحراق ومنه «على النار(10/433)
يفتنون» والفتنة بالكسر الخبرة كالمفتون ومنه بأيّكم المفتون وإعجابك بالشيء، وفتنه يفتنه فتنا وفتونا وأفتنه، والضلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب وإذابة الذهب والفضة والإضلال والجنون والمحنة والمال والأولاد واختلاف الناس في الآراء، وفتنه يفتنه أوقعه في الفتنة كفتّنه وأفتنه فهو مفتن ومفتون ووقع فيها لازم ومتعدّ كافتتن فيهما وإلى النساء فتونا وفتن إليهنّ بالضم أراد الفجور بهنّ وكأمير الأرض الحرّة السوداء والجمع ككتب والفتان اللص والشيطان كالفاتن والصائع والفتانان الدرهم والدينار ومنكر ونكير والفتين النجار وفاتون خباز فرعون قتيل موسى والفتنان الغدوة والعشيّ والفتان ككتاب غشاء للرحل من أدم وكصاحب وزبير اسمان والمفتون المجنون» قال شارحه: «والمفتون المجنون وبه فسّر قوله تعالى: بأيّكم المفتون» وقال الجوهري: «الباء زائدة والمفتون الفتنة وهو مصدر كالمعقود والمجلود والمخلوف» . قال ابن برّي: «إذا كانت الباء زائدة فالمفتون الإنسان وليس بمصدر فإن جعلت غير زائدة فالمفتون مصدر» وإنما نقلنا المادة كلها لننفي وهما تورط به الشيخ الجمل في حاشيته على الجلالين إذا قال: «وفي القاموس: إن فتن بهذا المعنى من باب كتب فعلى هذا يكون له بابان» ومن مطالعة ما كتبناه ونقلناه عن القاموس يتضح هذا الوهم.
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) كلام مستأنف مسوق لذكر وعيد المجرمين أولا ثم يردفه بذكر ما أعد للمؤمنين. وإن حرف مشبّه بالفعل والذين اسمها وجملة فتنوا صلة الذين لا محل لها والمؤمنين مفعول به والمؤمنات عطف على المؤمنين وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي(10/434)
ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتوبوا فعل مضارع مجزوم بلم والجملة عطف على فتنوا وإنما استعمل ثم لأن التوبة مقبولة مهما يتراخ بها الزمن ويمتد، فلهم: الفاء رابطة لشرط مقدّر مفهوم من المبتدأ ولهم خبر مقدّم وعذاب جهنم مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدّم وعذاب الحريق مبتدأ مؤخر وجملة فلهم عذاب جهنم خبر إن الذين فتنوا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) كلام مستأنف كما تقدم مسوق لذكر ما أعدّ للمؤمنين، وإن واسمها وجملة آمنوا صلة الذين وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة داخلة في حيّزها ولهم خبر مقدّم وجنات مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن الذين آمنوا وجملة تجري نعت لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل وذلك مبتدأ والفوز خبر والكبير نعت، وتذكير الإشارة للتنبيه للمذكور من حيازتهم للجنة واستحقاقهم إيّاها ولام البعد جيء بها للإيذان بعلو درجته في الفضل (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) كلام مستأنف أيضا مسوق لتسلية النبي عمّا يكابده من كفّار قومه وإن أمرهم مغلول، ومكرهم سيزول. وإن واسمها واللام المزحلقة وشديد خبرها (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) إن واسمها وهو مبتدأ وجملة يبدىء خبر هو والجملة خبر إن ويجوز أن يكون هو ضمير فصل وجملة يبدىء خبر إنه ويعيد عطف على يبدىء أي من كان قادرا على الإبداء والإيجاد قادر بحكم الطبع والبداهة على الإعادة (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والغفور وما بعده أخبار، وبهذه الآية يستدل النحاة على تعدّد الخبر، وسلك الزمخشري طريقا آخر فقال: «فعال خبر مبتدأ محذوف وإنما قيل فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة» وقال الفرّاء: هو رفع على التكرير والاستئناف لأنه نكرة محضة (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ؟ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ؟ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير بطشه تعالى وفيه تسلية لرسول الله(10/435)
صلّى الله عليه وسلم أي هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وهل قيل هي بمعنى قد وقيل هي استفهام تقريري تعجبي وأتاك فعل ماض ومفعول به وحديث الجنود فاعل وفرعون وثمود بدل من الجنود على حذف مضاف لأنه أراد بفرعون إياه وآله وبل إضراب انتقالي للأشد والذين مبتدأ وفي تكذيب خبره وسيأتي مزيد من معناه في باب البلاغة (وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) الواو عاطفة والله مبتدأ ومن ورائهم متعلقان بمحيط ومحيط خبر الله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)
بل إضراب انتقالي عن شدة كفرهم إلى وصف القرآن وهو مبتدأ وقرآن خبر ومجيد صفة أي يسبح وحده في البلاغة والبيان وفي لوح صفة ثانية ومحفوظ صفة للوح.
البلاغة:
1- في قوله «إن بطش ربك لشديد» أورد الخبر الإنكاري وهو تأكيد الكلام وجوبا للمنكر، وقد أكد الكلام بأن واللام.
2- وفي قوله «بل الذين كفروا في تكذيب» مجاز مرسل علاقته الحالية لأن التكذيب معنى من المعاني ولا يحلّ الإنسان فيه وإنما يحلّ في مكانه فاستعمال التكذيب في مكانه مجاز أطلق فيه الحال وأريد المحل فعلاقته الحالية وعدل عن يكذبون إلى جعلهم في التكذيب وأنه لشدته أحاط بهم إحاطة البحر بالغريق والسوار بالمعصم وفي الوقت نفسه جاء بالتكذيب نكرة للدلالة على تعظيمه وتهويل أمره.
الفوائد:
قد يتعدد خبر المبتدأ الواحد فيكون أكثر من واحد لأن الخبر كالنعت فيجوز تعدده، وإلى ذلك أشار ابن مالك في الخلاصة قال:(10/436)
وأخبروا باثنين أو بأكثرا ... عن واحد كهم سراة شعرا
ويطّرد ذلك في وجهين: أحدهما أن يتعدد لفظا لا معنى نحو الرمان حلو حامض لأن معنى الخبرين راجع إلى شيء واحد إذ معناهما مز فهما بمنزلة اسم واحد، والثاني أن يتعدد لفظا ومعنى نحو زيد كاتب شاعر، وضابط الأول أنه لا يجوز عطف أحد الخبرين على الآخر لأنهما بمثابة اسم واحد، وضابط الثاني أنه يجوز أن يعطف الثاني على الأول وأن لا يعطف.(10/437)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
(86) سورة الطارق مكيّة وآياتها سبع عشرة
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
اللغة:
(وَالطَّارِقِ) أصله كل آت ليلا ومنه النجوم لطلوعها ليلا ومنه قول جرير:(10/438)
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
وقد نقدته سكينة بنت الحسين إذ قالت لرواية جرير قبح الله صاحبك وقبح الله شعره وأي وقت أشهى من الطروق وهو اسم فاعل من طرق طرقا وطروقا إذا جاء ليلا والمراد به هنا النجم وإنما سمي طارقا لطلوعه ليلا وكل من آتاك ليلا فقد طرقك ولا يكون الطروق إلا بالليل، قالت هند بنت عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
تريد أن أبانا كالنجم في علوّه وشرفه وأصل الطرق الدق ومنه سمّيت المطرقة وإنما سمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلى طرق الباب أي دقّه غالبا ثم اتسع به في كل ما ظهر بالليل كائنا ما كان ثم اتسع كل التوسع حتى أطلق على الآتي نهارا وفي المصباح: «طرقت الباب طرقا من باب قتل وطرقت الحديدة مددتها وطرقتها بالتثقيل مبالغة وطرق النجم طروقا من باب قعد طلع وكل ما أتى ليلا فقد طرق وهو طارق والمطرقة بالكسر ما يطرق به الحديد» أما ابن جنّي فقد منع أن يأتي الطروق نهارا قال: «وأما قول العامة: نعوذ بالله من طوارق الليل والنهار فغلط لأن الطروق لا يكون إلا بالليل والصواب أن يقال نعوذ بالله من طوارق الليل وجوارح النهار لأن العرب تقول طرقه إذا أتاه ليلا وجرحه إذا أتاه نهارا» . وفي الصحاح: «الطارق: النجم الذي يقال له كوكب الصبح» .
(الثَّاقِبُ) المضيء لثقبه الظلام، قال أبو عبيدة: العرب تقول:
أثقب نارك أي أضئها وقيل الثاقب العالي يقال ثقب الطائر إذا علا في الهواء وأسف إذا دنا من الأرض ودوّم إذا سكن جناحيه ليستقل وعبارة الأساس واللسان: ثقب الشيء بالمثقب وثقب القداح عينه ليخرج الماء(10/439)
النازل وثقّب اللّآل الدرّ ودرّ مثقّب وعنده در عذارى لم يثقّبن وثقبن البراقع لعيونهنّ قال المثقّب العبدي:
أرين محاسنا وكننّ أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون
وبه سمي المثقب. ومن المجاز كوكب ثاقب ودرّيّ شديد الإضاءة والتلألؤ كأنه يثقب بالظلمة فينفذ فيها ويدرؤها ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلا نظارا وثقب الطائر إذا حلق كأنه يثقب السكّاك وثقّب الشيب في اللحية: أخذ في نواصيها وباب الجميع دخل.
(الصُّلْبِ) الشديد يقال هو صلب في دينه وراع صلب العصا إذا كان يعنّف الإبل وعظم في الظهر ذو فقار يمتد من الكاهل إلى العجب أو أسفل الظهر ويجمع على أصلاب وأصلب وصلبة وهو المراد هنا ويقال هو من صلب فلان أي من نسله وولده وفيه أربع لغات بضم الصاد وسكون اللام والصلب بفتحتين والصلب بضمتين وقد قرىء بها جميعا وثمة لغة رابعة وهي الصالب.
(وَالتَّرائِبِ) الترائب عظام الصدر حيث تكون القلادة، وعن عكرمة الترائب ما بين ثديي المرأة وحكى الزجّاج أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدرة، وفي الحديث «إن الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم» ، وفي المختار: «والترائب جمع تريبة كصحيفة وصحائف» قال امرؤ القيس:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
يعني المرآة ويقال تريب بغير هاء، وأنشد للمثقب العبدي:
ومن ذهب يلوح على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون(10/440)
وسيأتي مزيد من معناه في باب البلاغة.
(السَّرائِرُ) ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيّات وما أخفي من الأعمال وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث، وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودّ يوم تبلى السرائر
فقال: ما أغفله عمّا في السماء والطارق، وفي المختار «السر الذي يكتم وجمعه أسرار والسريرة مثله والجمع سرائر» .
(الرَّجْعِ) المطر لأنه يعود كل حين فالسحاب تحمل الماء من الأمطار ثم ترجعه إلى الأرض ويسمى أوبا لأنه يئوب أي يرجع، قال المتنخل الهذلي:
رباء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل
يرثي ابنه أو يصف رجلا بأنه رباء أي طلاع من ربأ وارتبأ إذا طلع لينظر إلى أمر ومنه الربيئة وإضافته إلى شماء من إضافة الوصف لمفعوله وهي القلعة المرتفعة من الشمم وهو الارتفاع والقلة أعلى الجبل وقنته والأوب المطر سمي به بذلك لأن أصله من مياه البحار ثم يئوب إليها والسبل بالتحريك المطر من أسبلت الستر إذا أرسلته وأرخيته. وقال الواحدي: «الرجع المطر في قول جميع المفسرين» .
(الصَّدْعِ) الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع به وفي الأساس:
«وانصدعت الأرض بالنبات وصدعها الله تعالى: والأرض ذات الصدع» .
الإعراب:
(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ(10/441)
لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)
الواو حرف قسم وجر والسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والطارق قسم أيضا منسوق على ما قبله والواو حرف عطف وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبرها وما اسم استفهام والطارق خبرها والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني والنجم بدل من الطارق أو خبر لمبتدأ محذوف كأنه جواب للاستفهام الوارد قبله تفخيما له وجملة إن كل نفس لما عليها حافظ لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم وما بين القسم وجوابه اعتراض وإن بالتخفيف نافية وكل نفس مبتدأ ولما بالتشديد بمعنى إلا وعليها خبر مقدّم وحافظ مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر كل، وقرئت لما بالتخفيف فاللام الفارقة وإن مخففة من الثقيلة مهملة وما زائدة وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة فقال:
وخففت إن فقل العمل ... وتلزم اللام إذا ما تهمل
وقد تقدم نظيرها في يس (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الفاء الفصيحة واللام لام الأمر وينظر فعل مضارع مجزوم باللام والإنسان فاعل، وممّ: من حرف جر وما اسم استفهام في محل جر بمن وقد تقدم أن ما الاستفهامية قد يحذف ألفها إن سبقها حرف جر والجار والمجرور متعلقان بخلق وجملة خلق في موضع نصب بقوله فلينظر المعلّق عنها بالاستفهام وجواب الاستفهام خلق من ماء وجملة خلق من ماء دافق مستأنفة كأنها جواب سؤال مقدّر وخلق فعل ماض مبني للمجهول ومن ماء متعلق بخلق ودافق نعت لماء أي مدفوق أو هي من صيغ النسب كلابن وتامر أو هو مجاز بالإسناد فقد أسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة وجملة يخرج نعت ثان أو حالية ومن بين الصلب متعلقان بيخرج والترائب عطف على(10/442)
الصلب (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) إن واسمها وعلى رجعه متعلقان بقادر والضمير في إنه يعود على الله واللام المزحلقة وقادر خبر إن ويوم بظرف متعلق برجعه ولا يصحّ تعليقه بقادر لأنه تعالى قادر على رجعه في كل وقت من الأوقات ولا تختص قدرته بوقت دون وقت، وقيل هي معمول لمحذوف تقديره يرجعه يوم أو اذكر يوم ولعله أولى، وقال بعضهم متعلق بناصر وهو فاسد لأن ما بعد ما النافية وما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلهما. والفاء عاطفة وما نافية وله خبر مقدّم ومن حرف جر زائد وقوة مجرور بمن لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر والواو حرف عطف ولا نافية وناصر عطف على قوة وجملة تبلى السرائر في محل جر بإضافة الظرف إليها والسرائر نائب فاعل تبلى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) الواو حرف قسم وجر والسماء مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وذات الرجع نعت للسماء والأرض ذات الصدع عطف على الجملة المتقدمة (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وهي للتوكيد وقول خبر إن فصل نعت لقول والواو حرف عطف وما حجازية تعمل عمل ليس وهو اسمها والباء حرف جر زائد والهزل مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال نشأ من فحوى الكلام كأنه قيل وماذا تتسمى مكابرتهم وعنادهم فقيل انهم، وإن واسمها وجملة يكيدون خبرها وكيدا مفعول مطلق والفاء فصيحة أي إن شئت أن ترى مغبة أمرهم فلا تستعجل بالانتقام منهم، ومهل فعل أمر والكافرين مفعول به وأمهلهم كرر فعل الأمر تأكيدا لرسوله وزاد في الصيغة لزيادة تسكين قلبه وتصبيره ورويدا نصب على المصدر والأصل إروادا فهو تصغير ترخيم بحذف الزوائد وفي المختار: «وفلان على رود بوزن عود أي(10/443)
على مهل وتصغيره رويد ويقال أرود في السير إروادا ومرودا بضم الميم وفتحها أي رفق وتقول رويدك عمرا أي أمهله وهو مصغر تصغير ترخيم من إرواد مصدر أرود يرود» وعبارة السمين: «اعلم أن رويدا يستعمل مصدرا بدلا من اللفظ بفعله فيضاف تارة كقوله فضرب الرقاب ولا يضاف أخرى نحو رويدا زيدا ويقع حالا نحو ساروا رويدا أي متمهلين ونعتا لمصدر محذوف نحو ساروا رويدا أي سيرا رويدا» هذا وتأتي رويد زيدا اسم فعل بمعنى أمهله وهو مشتق من مسمّاه الذي هو أرود وأصله المصدر الذي هو إرواد وصغّر بحذف الزوائد تصغير الترخيم ومثله تيد زيدا في معنى رويد زيدا، والذي نراه أنه إن أضيف فهو اسم فعل أمر مبني على الفتح ولا محل له من الإعراب وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت فإن نوّنته نحو رويدا أخاك أو أضفتهما نحو رويد أخيك فهو حينئذ منصوب على المفعولية المطلقة.
البلاغة:
1- في قوله «من بين الصلب والترائب» طباق، فقد طابق بين عظم الظهر وعظم الصدر وأفرد الأول وجمع الآخر لأن صدر المرأة هو تريبتها فيقال للمرأة ترائب يعني بها التريبة وما حواليها وما أحاط بها وكذلك تقول العرب: رأيت خلاخيل المرأة وثديها وإنما لها ثديان وخلخالان أو يقال أنه تعالى أراد: يخرج من بين الأصلاب والترائب، فاكتفى بالواحد عن الجماعة كما قال تعالى: أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، ولم يقل والأرضين هذا وقد رمق أبو الطيب سماء هذه الآية فنقلها نقلا خفيا ينمّ على قدرة وألمعية فقال متغزلا وأجاد:
بأبي الشموس الجانحات غواربا ... اللابسات من الحرير جلاببا(10/444)
المنهبات قلوبنا وعقولنا ... وجناتهنّ الناهبات الناهبا
الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلال غرائبا
حاولن تفديتي وخفن مراقبا ... فوضعن أيديهنّ فوق ترائبا
وبسمن عن برد خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا
وإنما أوردنا القطعة لنفاستها، والشاهد في البيت الرابع حيث اقتبس مكان شهوة المرأة فجعلها تضع أيديها عليها ولهذا لم يستطع أحد من شرّاح ديوان أبي الطيب فهم البيت على حقيقته وخلطوا خلطا عجيبا فقال ابن جنّي: «أشرن إليّ من بعيد ولم يجهرن بالسلام والتحية خوف الرقباء والوشاة» وهذا كلام غير مفهوم فإن الخوف من الوشاة والرقباء يستدعي وضع الأيدي على الوجوه لا على الترائب وقال الواحدي وخاض في بيداء من الوهم: «طلبن أن يقلن نفديك بأنفسنا وخفن الرقيب فنقلن التفدية من القول إلى الإشارة أي أنفسنا تفديك» وهذا يحتمل للكلام ما لا يحتمله، ولعل ابن فورجة كان أذكى من صاحبيه فقال: «وضع اليد على الصدر لا يكون إشارة بالسلام وإنما أراد وضعن أيديهنّ فوق ترائبهنّ تسكينا للقلوب من الوجيب» ، على أنه رغم نفاسته منقوض بصدر البيت.
2- وفي قوله «النجم الثاقب» الفصل، وسياق الكلام يقتضي الوصل لأنه قصد إشراكهما في الحكم واتفقا فيه وإنما عدل عنه تفخيما لشأنه فأقسم أولا بما يشترك فيه هو وغيره وهو الطارق ثم سأل عنه بالاستفهام تفخيما لشأنه ثانيا ثم فسّره بالنجم إزالة لذلك الإبهام الحاصل بالاستفهام، روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانحطّ نجم فجزع أبو طالب وقال أيّ شيء هذا؟ فقال عليه السلام: هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله.
3- وفي قوله «والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم(10/445)
الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ» فن المماثلة وهو تماثل ألفاظ الكلام كلها أو بعضها في الزنة دون التقفية فالطارق والثاقب وحافظ متماثلة في الزنة دون التقفية، وقد تأتي بعض ألفاظ المماثلة مقفّاة من غير قصد كقول امرئ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر العطر
وأورد الشيخ عبد الغني النابلسي للقاضي يحيى بن أكثم بيتين في المماثلة:
إنما الدنيا طعام ... ومدام وغلام
فإذا فاتك هذا ... فعلى الدنيا السلام
وأورد لابن الصائغ أيضا:
زار الحبيب بليلة ... ووشاته لم يشعروا
فضممته ولثمته ... وفعلت ما لا يذكر
ولهذا قال ابن حجة عن فن المماثلة: أنه نوع سافل بالنسبة إلى غيره.
الفوائد:
أجوبة القسم:
أجوبة القسم أربعة: إنّ وما واللام ولا، فحرفان يوجبان وهما إن واللام، وحرفان ينفيان وهما ما ولا كقولك والله ما قام زيد ولقد قام زيد.(10/446)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
(87) سورة الأعلى مكيّة وآياتها تسع عشرة
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
اللغة:
(غُثاءً) في القاموس: «الغثاء كغراب وكزنار: القمش والزبد(10/447)
والهالك البالي من ورق الشجر» وفيه أيضا: «القمش جمع قماش وهو ما على وجه الأرض من فتات الأشياء حتى يقال لرذالة الناس قماش وما أعطاني إلا قماشا أي أردأ ما وجده» وفي المصباح: «غثاء السيل حميله وغثا الوادي غثوّا من باب قعد امتلأ من الغثاء وغثت نفسه تغثى غثيا من باب رمى وغثيانا وهو اضطرابها حتى تكاد تتقيأ من خلط ينصب إلى فم المعدة» .
(أَحْوى) الأحوى أفعل من الحوة وهي سواد يضرب إلى خضرة وقيل الأحوى خضرة عليها سواد والأحوى الظبي لأن في ظهره خطين ويقال رجل أحوى وامرأة حواء وجمعها حو نحو أحمر وحمر، وفي القاموس «الحوة بالضم سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى السواد وحوي كرضي حوى» وقال ابن جني: والحوة حمرة تضرب إلى السواد وتكون في الشفة والعرب تستحب ذلك، قال ذو الرمة:
لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب
صفراء في نعج بيضاء في دعج ... كأنها فضة قد مسّها ذهب
وأنشد أبو عبيدة لذي الرمّة أيضا في المرعى الأحوى:
حوّاء قرحاء أشراطيّة وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم
والقرحاء: البيضاء يقال للغرة القرحة وأشراطية مطرت بنوء الشّرطين والذهاب بكسر الذال المطر الخفيف والبراعيم جمع برعومة وهي الوردة قبل أن تتفتح ويقال لها الكم والجمع أكمام.
الإعراب:
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) سبّح فعل أمر أي نزّه وقد تقدم وفاعله(10/448)
مستتر تقديره أنت واسم ربك مفعوله، وجعله الجلال مقحما على حدّ قول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ولا داعي لهذا التكلف فإن التنزيه يقع على الاسم أي نزّه اسم ربك عن أن يسمي به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله. والأعلى صفة لربك، وأجاز ابن هشام أن يكون صفة لاسم (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) الذي صفة ثانية للرب وجملة خلق صلة ومفعول خلق محذوف أي كل شيء والفاء عاطفة وسوّى عطف على خلق والمراد بالتسوية أنه خلق ما أراد على أتم وجه وأكمله ووفق نظام موصوف بالإحكام والإتقان مبرأ من الشوائب والاختلال (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) عطف أيضا منسوق على ما تقدم (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى)
عطف على ما قبله أيضا وجملة أخرج صلة الذي والمرعى مفعول به، فجعله عطف على أخرج والهاء مفعول به أول وغثاء مفعول به ثان وأحوى صفة لغثاء لكن يشكل أن الغثاء هو اليابس والحوة خضرة دائمة فيتناقضان فالأولى أن يعرب أحوى حالا من المرعى أي أخرجه أحوى أسود من شدّة الخضرة فجعله غثاء بعد حوّته. وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون أحوى حالا من المرعى أي أخرجه من المرعى أسود من شدة الخضرة والريّ فجعله غثاء بعد حوّته» . وقال أبو البقاء: «قوله تعالى أحوى قيل هو نعت لغثاء وقيل هو حال من المرعى أي أخرج المرعى أخضر ثم صيّره غثاء فقدم بعض الصلة» . وقال أبو حيان: «والظاهر أن أحوى صفة لغثاء، قال ابن عباس المعنى فجعله غثاء أحوى أي أسود لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسودّ وتعفّن فصار أحوى، وقيل أحوى حال من المرعى أي أخرج المرعى أحوى أي للسواد من شدّة خضرته ونضارته لكثرة ريّه، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل قال:(10/449)
وغيث من الوسمي حوّ تلاعه ... تبطنته بشيظم صلّتان»
وقال ابن خالويه في كتابه: «إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم» : «فجعله غثاء أحوى أي جعل الله المرعى أحوى والأحوى شديد الخضرة يضرب إلى السواد لريّه ثم صيّره غثاء بعد ما يبس فمعناه تقديم وتأخير» . وقال ابن هشام في كتابه المغني في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها: «الرابع عشر قول بعضهم في أحوى إنه صفة لغثاء وهذا ليس بصحيح على الإطلاق بل إذا فسّر الأحوى بالأسود من الجفاف واليبس وأما إذا فسّر بالأسود من شدّة الخضرة لكثرة الريّ كما فسّر «مدهامتان» فجعله صفة لغثاء كجعل قيما صفة لعوجا وإنما الواجب أن تكون حالا من المرعى وآخر لتناسب الفواصل» ولعمري لقد حسم الخلاف فيما قرره (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) السين حرف استقبال ونقرئك فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به والفاء حرف عطف ولا نافية وتنسى فعل مضارع مرفوع، وعبارة أبي السعود: «سنقرئك فلا تنسى: بيان لهداية الله تعالى الخاصة برسوله صلّى الله عليه وسلم إثر بيان هداية الله العامة لكافة مخلوقاته وهي هدايته عليه السلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن وهدايته للناس أجمعين، والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد إقراء ما أوحى الله إليه حينئذ وما سيوحي إليه بعد ذلك فهو وعد باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء أي سنقرئك ما نوحي إليك وفيما بعده على لسان جبريل أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة فلا تنسى أصلا من قسوة الحفظ والإتقان مع أنك أمي لا تدري ما الكتابة وما القراءة فيكون ذلك آية أخرى لك مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البيّنات من حيث الإعجاز ومن حيث الإخبار بالمغيّبات» والفاء عاطفة ولا نافية، أخبر الله تعالى نبيّه أنه لا ينسى، وتنسى فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة(10/450)
المقدرة على الألف وقيل لا ناهية وتنسى فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة ثم أتي بالألف دعامة لفتح السين ليوافق رؤوس الآي كقوله: السبيلا، وقد أحسن أبو حيان عند ما شجب هذا الوجه قال «وهذا قول ضعيف ومفهوم الآية في غاية الظهور وقد تعسفوا في فهمها» ، (إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) إلا أداة حصر وما مفعول تنسى والاستثناء مفرّغ من أعمّ المفاعيل وجملة شاء الله صلة ما وجملة إن وما في حيّزها تعليل لما قبله وإن واسمها وجملة يعلم خبرها والجهر مفعول به
والواو حرف عطف وما موصولة منسوقة على الجهر وجملة يخفى صلة، قال السمين: «ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يلزم خلو الفعل من فاعل ولولا ذلك لكان كونها مصدرية أحسن ليعطف مصدر مؤول على مثله صريح» (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) الواو حرف عطف ونيسرك عطف على سنقرئك وهو فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به ولليسرى متعلقان بنيسرك أي للشريعة الإسلامية السمحاء والفاء الفصيحة أي إن علمت أنك من أرباب الفيوضات الكمالية بهدايتنا وتوفيقنا فذكر، وإن شرطية ونفعت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والذكرى فاعل وفي إن معنى الاستبعاد كأنما هو واثق من عدم جنوحهم إلى الهدى وإصرارهم على ركوب متن الشطط وجواب إن محذوف دلّ عليه ما قبله وللزمخشري سؤال لطيف وإجابة ألطف قال: «فإن قلت: كان الرسول صلّى الله عليه وسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع فما معنى اشتراط النفع؟ قلت: هو على وجهين: أحدهما أن رسول الله قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّا وطغيانا وكان النبي صلّى الله عليه وسلم يتلظى حسرة وتلهفا ويزداد وجدا في تذكيرهم وحرصا عليه فقيل له: وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد، وأعرض عنهم وقل سلام، وذكّر إن نفعت(10/451)
الذكرى، وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير، والثاني أن يكون ظاهره شرطا ومعناه ذمّا للمذكرين وإخبارا عن حالهم واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم كما تقول للواعظ غظّ المكّاسين إن سمعوا منك قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك وأنه لن يكون» أما ابن خالويه فبعد أن أورد الوجه الذي أوردناه قال: «ويقول آخرون: إن بمعنى قد أي فذكر قد نفعت الذكرى وهو بعيد جدا ولا يليق بأسلوب القرآن الافتراض والمجازفة» أما أبو حيان فقد قال:
«والظاهر أن أمره بالتذكير مشروط بنفع الذكرى وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش أي إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى فهو كما قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي
وقال الفراء والنحّاس والزهراوي والجرجاني: معناه وإن لم تنفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) السين حرف استقبال ويذكر فعل مضارع مرفوع ومن موصول فاعل وجملة يخشى صلة لا محل لها ويتجنبها منسوق على سيذكّر والهاء مفعول به والضمير يعود على الذكرى والأشقى فاعل، قال ابن خالويه: «يقال زيد الأشقى والمرأة الشقيا مثل الأعلى والعليا ويقال: كلّم الأشقى الشقيا وكلم الأشقيان الشقيين وكلم الأشقون الأشقين وكلمت الشقييات الشقييات» والذي نعت للأشقى وجملة يصلّى لا محل لها لأنها صلة الذي وفاعل يصلّى مستتر يعود على الأشقى والنار مفعول به والكبرى نعت للنار وثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ولا نافية ويموت فعل مضارع مرفوع وفيها متعلقان بيموت، ولا يحيا عطف على لا يموت ومعنى التراخي أن الترجح بين الحياة والموت أشدّ هولا من(10/452)
الصلي فهو متراخ عنه في مراتب الشدة ومن يمت يسترح أما هؤلاء فلا هم أموات فيستريحوا ولا هم أحياء فيجدوا متنفسا من العذاب (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض ومن فاعل وجملة تزكى أي تطهر لا محل لها لأنها صلة من وذكر عطف على تزكى واسم ربه مفعول به، فصلّى عطف على ذكّر (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) إضراب عن مقدّر ينساق إليه الكلام والتقدير أنتم لا تفعلون ما فيه صلاح أمركم بل تؤثرون، وتؤثرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والحياة مفعول به والدنيا نعت للحياة والمراد بإيثار الحياة الدنيا الركون إليها والاغترار بزخارفها واستجلاء أفاويقها، والواو حالية والآخرة مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير ففيها لذات الدنيا وما لا يتصور العقل من زيادة عليها ولها بعد ذلك صفة الديمومة والخلود (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) إن حرف مشبه بالفعل وهذا اسمها والإشارة إلى إفلاح من تزكى وما تلاه من كلام، واللام المزحلقة وفي الصحف خبر إن والأولى نعت للصحف وصحف إبراهيم وموسى بدل من الصحف.
الفوائد:
لمحة عن صحف إبراهيم وموسى:
جاء في الخازن ما يلي: عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول الله قال: ركعتان تركعهما قلت: يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال يا أبا ذر اقرأ: قد أفلح من تزكّى وذكر اسم ربه فصلّى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى، قلت يا رسول الله(10/453)
فما كانت صحف موسى؟ قال كانت عبرا كلها: «عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم يغضب، عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل» .
وجاء في القرطبي ما يلي: «وروى الآجري عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم قال: كانت أمثالا كلها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم فإني لا أردّها ولو كانت من فم كافر، وكان فيها أمثال: وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربه وساعة يفكّر فيها في صنع الله عزّ وجلّ وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون طامعا إلا في ثلاث: تزود لمعاد ومرحة لمعاش ولذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه.(10/454)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
(88) سورة لغاشية مكيّة وآياتها ستّ وعشرون
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)(10/455)
اللغة:
(الْغاشِيَةِ) القيامة لأنها تغشى الخلائق، وفي المختار: «الغشاء:
الغطاء وجعل على بصره غشاوة بضم الغين وفتحها وكسرها» وفي المصباح: «ويقال إن الغشي تعطل القوى المحرّكة والأوردة الحسّاسة لضعف القلب بسبب وجع شديد أو برد أو جوع مفرط وقيل الغشي هو الإغماء، وقيل الإغماء امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ وقيل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة، وغشيته أغشاه من باب تعب أتيته والاسم الغشيان بالكسر» .
(آنِيَةٍ) بلغت إناها في الحرارة وفي القاموس: «وأنى الحميم انتهى حرّه فهو آن وبلغ هذا أناه ويكسر أي غايته» .
(ضَرِيعٍ) في القاموس «والضريع كأمير الشّبرق أو يبيسه أو نبات رطبه يسمّى الشبرق ويابسه الضريع لا تقربه دابة لخبثه، والسّلّاء والعوسج الرطب أو نبات في الماء الآجن له عروق لا تصل إلى الأرض، أو شيء من جهنم أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأحرّ من النار، ونبات منتن يرمي به البحر، ويبيس كلّ شجر، والخمر أو رقيقها، والجلدة على العظم تحت اللحم» وفي الكشاف: «الضريع يبيس الشبرق وهو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا فإذا يبس تحامته الإبل وهو سمّ قاتل قال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعا بان عنه النحائص
وقال:
وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود»
(نَمارِقُ) جمع نمرقة بضم النون وكسرها لغتان أشهرهما الأولى(10/456)
وهي وسادة صغيرة، وفي القاموس «والنمرقة مثلثة الوسادة الصغيرة أو المثيرة أو الطنفسة فوق الرحل» .
(زَرابِيُّ) في القاموس: «الزرابي النمارق والبسط أو كل ما يبسط ويتكأ عليها الواحدة زربي بالكسر ويضم» والطنافس أيضا جمع طنفسة بتثليث الطاء والفاء ففيه تسع لغات، وهي المسمّاة الآن بالسجادة.
(مَبْثُوثَةٌ) مفرقة في المجلس.
(بِمُصَيْطِرٍ) بمسلط عليهم ومسيطر اسم جاء مصغرا ولا مكبّر له كقولهم: رويدا والثريا وكميت ومبيقر ومبيطر ومهيمن، وفي قراءة بمسيطر بفتح الطاء وغريبة هذه القراءة فقد جاء في تاج العروس: سيطر جاء على فيعل فهو مسيطر ولم يستعمل مجهولا فعله، وننتهي في كلام العرب إلى ما انتهوا إليه، وسيأتي مزيد بحث عن التصغير في باب الفوائد.
الإعراب:
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) هل حرف استفهام ومعناه التعجب والتشويق إلى استماع حديث الغاشية وجعلها بعضهم بمعنى قد وجعلها ابن خالويه مطّردة في كل ما في القرآن من هل أتاك قال «فهو بمعنى قد أتاك» وأتاك فعل ماض ومفعول به وحديث الغاشية فاعل (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) وجوه مبتدأ وساغ الابتداء به لوجود التنويع والوصف كما سيأتي ويومئذ ظرف متعلق بخاشعة والتنوين في إذ عوض عن جملة لم يتقدم ما يدلّ عليها إلا قوله الغاشية فيمكن استنتاج الجملة منها أي يوم إذ غشيت الغاشية وخاشعة خبر وعاملة ناصبة خبران آخران وقيل خاشعة وعاملة وناصبة صفات(10/457)
للمبتدأ والخبر هو جملة تصلى وعلى الأول جملة تصلى خبر رابع وكلا الوجهين مستقيم وحسن، ونارا مفعول به وقرىء بضم التاء فتكون نارا مفعولا ثانيا ونائب الفاعل مستتر وحامية نعت للنار وتسقى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هي أي وجوه والمراد أصحابها، ومن عين متعلقان بتسقى وآنية صفة لعين (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال مترتب على ما سبق كأنه قيل وما هو طعامهم بعد ما ذكر شرابهم فقيل ليس لهم ... ، وليس فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدّم وطعام اسمها المؤخر وإلا أداة حصر ومن ضريع صفة لطعام أو بدل منه على القاعدة ويجوز أن يكون في محل نصب على الاستثناء (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) الجملتان صفتان لضريع لا لطعام لأن الضريع هو المثبت وقد نفى عنه الاسمان والإغناء من الجوع، ولا نافية ويسمن فعل مضارع وفاعله هو ولا يغني عطف على لا يسمن ومن جوع متعلقان بيغني، وجعل الشهاب في حاشيته على البيضاوي من زائدة وجوع على هذا يكون في موضع نصب مفعول يغني (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ، لِسَعْيِها راضِيَةٌ) وجوه مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة للتنويع، وسيأتي سر عدم اقترانها بالواو كما يقتضي ظاهر السياق في باب البلاغة، ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بناعمة وناعمة خبر وجوه ولسعيها متعلقان براضية وراضية خبر ثان لوجوه (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ، لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) في جنة خبر ثان لوجوه وعالية نعت لوجوه وجملة لا تسمع إلخ صفة ثانية لجنة ولا نافية وتسمع فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت وقرىء بالتاء وفيها متعلقان بتسمع ولاغية مفعول به وهي على معنى النسب أي كلمة ذات لغو أو على إسناد اللغو إليها مجازا (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) الجملة نعت ثالث لجنة وفيها خبر مقدّم وعين مبتدأ مؤخر وجارية نعت لعين (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) الجملة صفة رابعة لجنة وفيها خبر مقدّم(10/458)
وعين مبتدأ مؤخر وجارية نعت لعين وما بعده عطف عليه (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما مضى من حديث الغاشية والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف على مقدّر يستحقه المقام والتقدير أينكرون البعث فلا ينظرون، ولا نافية وينظرون فعل مضارع مرفوع وإلى الإبل متعلقان به وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وخلقت فعل ماض مبني للمجهول وفاعله مستتر تقديره هي والجملة بدل اشتمال من الإبل. وينظرون تعدّى إلى الإبل بواسطة إلى وتعدى إلى كيف على سبيل التعليق وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها وإن لم يكن فيه استفهام على خلاف في ذلك كقولهم عرفت زيدا أبو من هو والعرب يدخلون إلى على كيف فيقولون إلى كيف يصنع. وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت وإذا علق العامل عمّا فيه من الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته، وللزمخشري كلام جميل نورده فيما يلي: «أفلا ينظرون إلى الإبل نظر اعتبار كيف خلقت خلقا عجيبا دالّا على تقدير مقدّر شاهدا بتدبير مدبر حيث خلقها للنهوض بالأثقال وجرّها إلى البلاد الشاحطة فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ثم تنهض بما حملت وسخّرها منقادة لكل من اقتادها بأزمّتها لا تعاز ضعيفا ولا تمانع صغيرا وبرأها طوال الأعناق لتنوء بالأوقار، وعن بعض الحكماء أنه حدّث عن البعير وبديع خلقه وقد نشأ في بلاد
لا إبل بها ففكر ثم قال يوشك أن تكون طوال الأعناق وحين أراد بها أن تكون سفائن البر صبّرها على احتمال العطش حتى أن أظماءها لترتفع إلى العشر فصاعدا وجعلها ترعها كل شيء نابت في البراري والمفاوز مما لا يرعاه سائر البهائم» هذا والإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده بعير وناقة وجمل، وعبارة القاموس:
«الإبل بكسرتين وتسكين الباء مؤنث واحد يقع على الجمع ليس بجمع ولا اسم جمع وجمعه آبال وتصغيرها إبيلة والسحاب الذي يحمل ماء(10/459)
المطر» وعلى هذا يصحّ أن يراد بها السحاب لينتظمها الذكر على حسب النظم على أن هذا لا يتفق مع سهولة بيان القرآن ونظمه وإنما أوردها منتظمة مع السماء والأرض والجبال لأن العرب في بواديهم وأوديتهم يألفون رؤيتها جميعا فانتظمها الذكر مع هذه الأشياء (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) كلام منسوق على ما تقدم مماثل له في إعرابه، قال ابن خالويه نقلا عن الزمخشري: «وروي عن هارون الرشيد أنه قرأ: كيف سطحت بالتشديد والقراءة بتخفيفها لاجتماع الكافّة عليها» (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) الفاء الفصيحة أي إن كانوا لا ينظرون إلى هذه الأشياء نظر اعتبار وتدبر وتأمل فذكرهم. وذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف أي فذكّرهم ولا تلحّ عليهم إذ ليس عليك هداهم، وإنما كافّة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومذكّر خبر وجملة أنما أنت تعليلية للأمر بالتذكير ولست ليس واسمها وعليهم متعلقان بمسيطر والباء حرف جر زائد ومسيطر مجرور بالباء لفظا منصوب محلا لأنه خبر ليس (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى على الاستثناء متصل من مفعول فذكر أو من الهاء في عليهم وقيل الاستثناء منقطع وإلا بمعنى لكن ألغي عملها ومن مبتدأ خبره جملة فيعذبه وكلاهما جيد محتمل، وجملة تولى صلة من وكفر عطف على الصلة وجملة إلا من تولى وكفر في محل نصب على الاستثناء المنقطع وهذه جملة تضاف إلى الجمل التي لها محل من الإعراب والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ويعذبه فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به والله فاعل والعذاب مفعول مطلق، ومن الغريب أن ابن خالويه أعربها مفعولا به ثانيا، وصدق ابن هشام عند ما قرر أن ابن خالويه من ضعفاء النحويين، والأكبر نعت للعذاب (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للعذاب الأكبر وإن حرف(10/460)
مشبّه بالفعل وإلينا خبر مقدّم لإن وإيابهم اسمها المؤخر وثم حرف عطف للتراخي، وسيأتي سره في باب البلاغة، وما بعده عطف على ما قبله مماثل له في إعرابه.
البلاغة:
1- في قوله «لا يسمن ولا يغني من جوع» فن التتميم، وقد تقدم مرارا فقوله ولا يغني من جوع جملة لا يمكن طرحها من الكلام لأنه لما قال لا يسمن ساغ لمتوهم أن يتوهم أن هذا الطعام الذي ليس من جنس طعام البشر انتفت عنه صفة الاسمان ولكن بقيت له صفة الإغناء فجاءت جملة ولا يغني من جوع تتميما للمعنى المراد وهو أن هذا الطعام انتفت عنه صفة إفادة السمن والقوة كما انتفت عنه صفة إماطة الجوع وإزالته، وجعله بعضهم من باب نفي الشيء بإيجابه على حدّ قول امرئ القيس «على لاحب لا يهتدى بمناره» أي أنه لا منار له أصلا وكما تقول ليس لفلان ظل إلا الشمس تريد نفي الظل على التوكيد وليس ببعيد والأول أرصن وأبعد عن التكلّف.
2- الحذف: تكلمنا في هذا الكتاب كثيرا عن الحذف وسنخصّص هنا لمعة عن حذف المفعول به خاصة لزيادة الفائدة وذلك بمناسبة قوله تعالى «فذكّر إنما أنت مذكّر» فنقول: يجوز حذف المفعول به لغرض إما لفظي كتناسب الفواصل أي رؤوس الآي وذلك في نحو قوله تعالى: «ما ودعك ربك وما قلى» والأصل وما قلاك فحذف المفعول ليناسب قوله: «والضحى والليل إذا سجى» وكالإيجاز في نحو قوله تعالى: «فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا» والأصل فإن لم تفعلوه ولن تفعلوه أي الإتيان بسورة من مثله وإما معنوي كاحتقاره نحو «كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي» أي لأغلبنّ الكافرين فحذف المفعول زيادة في(10/461)
امتهانه واحتقاره أو لاستهجانه واستقباح التصريح به كقول عائشة رضي الله عنها: ما رأى منّي ولا رأيت منه، أي العورة.
3- وفي قوله «إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم» تقديم الجار والمجرور، والسر فيه التشديد بالوعيد وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام وأن حسابهم ليس إلا عليه، وفي العطف بثم للدلالة على التراخي في الرتبة لا في الزمان أي أنه قد يكون مباشرة بعد الإياب ولكن التفاوت بين الموقفين أمر لا تكتنه أهواله ولا يدري أحد مداه ولا يتصوره العقل على الإطلاق ولا يخفى أن الخبر جاء مؤكدا بإن فأتى طلبيا كأنهم، وقد ترددوا، بحاجة إلى تأكيد هذا الأمر الذي أشاحوا عنه ولم يتدبروه.
الفوائد:
1- التصغير ومراميه: أول من تكلم على التصغير الخليل بن أحمد رحمه الله، ويكون للتحقير والتعظيم والترحم والتحبّب ولتقليل العدد ولتقريب الزمان وقد جمعها بعضهم بقوله:
فعظم وحقر وقرب زماني ... ترحم تحبب رزقت الأماني
وأقلل بتصغيرهم يا فتى ... فما زلت في محفل من معاني
قال ابن خالويه: «العرب تصغّر الاسم على المدح لا تريد به التحقير كقولهم فلان صديّقي إذا كان من أصدق أصدقائه ومن ذلك قول عمر في ابن مسعود «كنيّف ملىء علما» مدحه بذلك، وقال الأنصاري:
«أنا جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب وحجيرها المؤام» ومن ذلك أن رجلا قال: رأيت الأصيلع عمر بن الخطاب يقبّل الحجر يريد مدحه بذلك» .(10/462)
واختلف في قول عمر بن أبي ربيعة في رائيته المشهورة:
وغاب قمير كنت أهوى غروبه ... وروّح رعيان ونوّم سمّر
فقال سعيد بن المسيب لما سمع هذا البيت: ما له قاتله الله صغّر ما كبر الله قال الله تعالى «والقمر قدّرناه منازل» قال ابن خالويه: «فيجوز أن يكون ابن أبي ربيعة صغّر قميرا على المدح لما ذكرت، ومع ذلك فإن ابن أبي ربيعة قد أنشد هذه القصيدة لابن عباس فما أنكر عليه شيئا، ومن ذلك قول الرجل لابنه: يا بنيّ لا يريد تحقيره فاعرف ذلك ولابن أبي ربيعة حجة أخرى وذلك أن العرب تقول للقمر في آخر الشهر وأوله شفا قمير فيصغّرونه» وهذا الذي ذكرناه من معاني التصغير يردّه البصريون وجميع ما ذكرناه عندهم راجع إلى معنى التحقير.
هذا ونضرب على سبيل المثال مثلا بيت لبيد بن ربيعة وهو:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل
فالكوفيون ذهبوا إلى أن التصغير في قوله دويهية للتعظيم وبيان هذا أن الشاعر أراد بها الموت ولا داهية أعظم منها، فأما كونه أراد بها الموت فيدل لذلك وصفها بقوله «تصفر منها الأنامل» والأنامل هنا الأظفار وهي إنما تصفر بالموت، قال الطوسي في شرح ديوان لبيد: إذا مات الرجل أو قتل اصفرّت أنامله واسودّت أظافره» وقد ردّ البصريون أن التصغير يأتي للتعظيم وجرى على مذهبهم الرضي المحقق فقال: «قيل مجيء التصغير للتعظيم يكون من باب الكناية يكنى بالصغر عن بلوغ الغاية لأن الشيء إذا جاوز حدّه جانس ضده ورد بأن تصغيرها على حسب احتقار الناس لها وتهاونهم بها إذ المراد بها الموت أي يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل» وقال البصريون عن بيت لبيد: «فأما قوله دويهية فالمراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأصول(10/463)
العظام فحتف النفوس قد يكون الأمر الذي لا يؤبه له» ولا يخفى ما في هذا القول من الرصانة والقوة فتنبّه لهذا الفصل الذي وإن طال بعض الطول فهو كالحسن ليس بمملول.
2- الخيال: تختلف الخياليات باختلاف الأسباب والعادات والعرف العام فتتفاوت بالأمم فلا يستنكر قوله تعالى في هدايتهم إلى الاستدلال على الصانع الحكيم «أفلا ينظرون إلى الأمم كيف خلقت» إلخ إلا من يجهل أن الخطاب مع العرب وما في خيالهم إلا الإبل لأن معظم انتفاعهم في مطاعمهم وملابسهم ومتاجرهم منه وإلا أرض ترعاها الإبل وإلا سماء تسقيهم وإياها وإلا جبال هي معاقلهم عند شنّ الغارات، فظهر أن من وقف على أحوال العربي البدوي يعرف وجه تقارن الصور المذكورة في أذهانهم ووجه وقوعها في القرآن العظيم على المنهج المذكور، ومن أنكره من أهل الحضر فذلك لجهله بمقتضى الحال، ولقد أحسن المتنبي إذ قال:
وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم(10/464)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
(89) سورة الفجر مكيّة وآياتها ثلاثون
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
اللغة:
(الشَّفْعِ) الزوج من العدد يقال: أشفع هو أم وتر أي أزوج أم فرد ويجمع على أشفاع وشفاع، ومصدر شفع يشفع من باب فتح شفعا الشيء أي صيّره شفعا أي زوجا بأن يضيف إليه مثله يقال: كان وترا فشفعه بآخر أي قرنه به، وفي القاموس: «الشفع خلاف الوتر وهو الزوج وقد(10/465)
شفعه كمنعه ويوم الأضحى وقيل في قوله تعالى: والشفع والوتر هو الخلق لقوله تعالى ومن كل شيء خلقنا زوجين أو هو الله عزّ وجلّ لقوله تعالى: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم» .
(الْوَتْرِ) في القاموس «الوتر بالكسر ويفتح الفرد أو ما لم يتشفع من العدد ويوم عرفة» .
وقال أبو حيان: «والشفع والوتر ذكر في كتاب التحرير والتحبير فيها ستة وثلاثين قولا ضجرنا من قراءتها فضلا عن كتابتها في كتابنا هذا» .
وقال الزمخشري: «وقد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون معظم ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه» .
(حِجْرٍ) عقل، وسمّي العقل بذلك لأنه يحجر صاحبه عمّا لا يحلّ ولا ينبغي كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن القبائح وينهاه ولأنه ينهى عمّا لا يحلّ ولا ينبغي، وأصل الحجر المنع وقد تقدم القول في هذه المادة، وقال ابن خالويه: «هل في ذلك حجر أي لذي عقل ولذي لب» والحجر ديار ثمود وحجر الكعبة والفرس الأنثى.
(جابُوا) قطعوا وفي المختار «وجاب خرق وقطع وبابه قال ومنه قوله تعالى وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وجبت البلاد بضم الجيم من باب قال وباع وأجبتها قطعتها» .
الإعراب:
(وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) الواو حرف قسم وجر والفجر مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بأقسم والواو حرف عطف وليال عطف على(10/466)
الفجر مجرور وعلامة جرّه الفتحة نيابة عن الكسرة المقدّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين. وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة الهامة بقوله:
وكن لجمع مشبه مفاعلا ... أو المفاعيل بمنع كافلا
أي إن الجمع المشبه مفاعيل أو المفاعيل في كونه مفتوح الفاء وثالثه ألف بعدها حرفان كمفاعل أو ثلاثة أحرف أوسطها ساكن كمفاعيل يمتنع صرفه لقيام الجمع فيه مقام علتين وهي الجمع وعدم النظير في الواحد وشمل قوله مفاعل ما أوله الميم كمساجد أو ما أوله غيرها كدراهم وشمل قوله المفاعيل ما أوله ميم كمصابيح أو ما أوله غيرها كدنانير ثم أن من هذا الجمع ما يجيء معتل اللام وهو قسمان أحدهما ما قلبت فيه الكسرة التي بعد الألف فتحة فانقلبت الياء ألفا نحو عذارى ولا إشكال في منع التنوين والآخر ما استثقلت في بابه الفتحة فحذفت ولحقها التنوين وإلى ذلك أشار بقوله:
وذا اعتلال منه كالجواري ... رفعا وجرّا أجره كساري
يعني أن ما كان من الجمع المعتل اللام مثل جوار في كونه على ما ذكر من حذف الحركة يجري مجرى سار في لحاق التنوين بآخره في حالة الرفع والجر فتقول هذه جوار ومررت بجوار، وسكت عن حالة النصب ففهم أنه على الأصل كالصحيح فتقول رأيت جواري.
وعشر نعت لليال، قالوا وأراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة وجاءت منكرة لفضيلتها على غيرها من ليالي السنة وقيل هي العشر الأواخر من رمضان وقيل العشر الأول من المحرم (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) منسوق على الفجر وليال وكذلك الوتر والليل وإذا ظرف متعلق بفعل القسم المحذوف أو بفعل قسم مقدر وعلى ذلك جرى أبو البقاء، أي أقسم(10/467)
بالليل وقت سراه، ويسري فعل مضارع مأخوذ من السرى وهو خاص بسير الليل وقد تقدم وقال في المصباح: «سريت الليل وسريت به سرى والاسم السراية إذا قطعته بالسير وأسريت بالألف لغة حجازية ويستعملان متعديين بالباء إلى مفعول فيقال سريت بزيد وأسريت به والسرية بضم السين وفتحها أخصّ يقال سرينا سرية من الليل وسرية والجمع السّرى مثل مدية ومدى، قال أبو زيد ويكون السرى أول الليل وأوسطه وآخره وقد استعملت العرب سرى في المعاني تشبيها لها بالأجسام مجازا واتساعا قال الله تعالى: والليل إذا يسر والمعنى إذا يمضي، وقال البغوي: إذا سار وذهب وقال الفارابي: سرى فيه السم والخمر ونحوهما وقال السرقسطي: سرى عرق السوء في الإنسان وزاد ابن القطاع على ذلك، وسرى عليه الهمّ آتاه ليلا وسرى همّه: ذهب، وإسناد الفعل إلى المعاني كثير في كلامهم نحو: طاف الخيال وذهب الهم وأخذه الكسل والنشاط وقول الفقهاء سرى الجرح إلى النفس معناه دام ألمه حتى حدث منه الموت وقطع كفّه فسرى إلى ساعده أي تعدّى أثر الجرح وسرى التحريم وسرى العتق بمعنى التعدية وهذه الألفاظ جارية على ألسنة الفقهاء وليس لها ذكر في الكتب المشهورة لكنها موافقة لما تقدم» هذا وقد حذف بعض القرّاء ياء يسر وقفا وأثبتوها وصلا وأثبتها بعضهم في الحالين وحذفها بعضهم في الحالين لسقوطها في خط المصحف الكريم وموافقة رؤوس الآي، وعبارة ابن خالويه: «وكان الأصل يسري فخزلوا الياء لأن تشبه رؤوس الآي التي قبلها فمن القراء من يثبت الياء على الأصل ومنهم من يحذفها اتباعا للمصحف» (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) معنى الاستفهام هنا التفخيم والتعظيم للأمور المقسم بها وفي ذلك خبر مقدم وقسم مبتدأ مؤخر ولذي حجر نعت وعلى ذلك تكون هل وما في حيّزها جواب القسم وقيل هي للتقرير كقولك ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت والجواب على هذا محذوف(10/468)
مضمر وتقديره لنجازينّ كل أحد بما عمل وقدّره الزمخشري لتعذبنّ وقيل الجواب مذكور وهو إن ربك لبالمرصاد، وعبارة السمين: «وقال مقاتل هل هنا في موضع إن تقديره إن في ذلك قسما لذي حجر فهل على هذا في موضع جواب القسم، وهذا قول باطل لأنه لا يصلح أن يكون مقسما عليه على تقدير تسليم أن التركيب هكذا وإنما ذكرته للتنبيه على سقوطه» (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) الهمزة للاستفهام التقريري أي قد رأيت لأن المراد بالرؤية هنا رؤية القلب وهي العلم، عبّر عنه بالرؤية لكونه علما ضروريا مساويا في الجلاء والبيان للمشاهدة والعيان، ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وكيف اسم استفهام في موضع نصب بفعل على أنه مصدر واختاره الزمخشري وابن هشام في المغني والمعنى أي فعل فعل ربك وأعربه ابن خالويه حالا قال «كيف استفهام عن الحال» ولكنه ممتنع لأنه إذا أعرب حالا يكون من الفاعل ووصفه تعالى بالكيفية مستحيل وغير جائز والجملة المعلقة بكيف الاستفهامية سدّت مسدّ مفعولي تر. وفعل ربك فعل ماض وفاعل وبعاد متعلقان بفعل وإرم بدل أو عطف بيان من عاد ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث وهذا الابدال إيذان بأنهم عاد الأولى القديمة وقيل إرم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها، وعبارة أبي البقاء: «إرم لا ينصرف للتعريف والتأنيث قيل هو اسم قبيلة فعلى هذا يكون التقدير إرم صاحب ذات العماد لأن ذات العماد مدينة وقيل ذات العماد وصف كما تقول القبيلة ذات الملك وقيل إرم مدينة فعلى هذا يكون التقدير بعاد صاحب إرم ويقرأ بعاد إرم بالإضافة فلا يحتاج إلى تقدير ويقرأ إرم ذات العماد بالجر على
الإضافة» وذات العماد نعت لإرم أي الطول، قال الزمخشري: «وذات العماد إذا كانت صفة للقبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين أهل عمد أو طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة ومنه(10/469)
قوله رجل معمد وعمّدان إذا كان طويلا وقيل ذات البناء الرفيع وإن كانت صفة للبلدة فالمعنى أنها ذات أساطين» وسيأتي تلخيص لقصتها الرائعة في باب الفوائد والتي صفة ثانية لإرم وجملة لم يخلق صلة التي ومثلها نائب فاعل يخلق وفي البلاد متعلقان بيخلق وقرىء يخلق بالبناء للمعلوم فتكون مثلها مفعولا به (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) الواو عاطفة وثمود عطف على عاد والذين نعت لثمود وجملة جابوا صلة الذين والصخر مفعول به وبالوادي متعلقان بجابوا والباء للظرفية فهي بمعنى في وحذفت الياء لأنها من ياءات الزوائد (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) عطف على عاد وذي الأوتاد نعت لفرعون كان يدق للمعذب أربعة أوتاد ويشدّه بها مسطوحا على الأرض ثم يعذبه بما يريد من ضرب وإحراق وغيرهما، وفي المصباح: «الوتد بكسر التاء في لغة الحجاز وهي الفصحى وجمعه أوتاد وفتح التاء لغة وأهل نجد يسكنون التاء فيدغمون بعد القلب فيبقى ود ووتد الوتد أتده وتدا من باب وعد أثبته بحائط أو بالأرض وأوتدته بالألف لغة» (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) الذين إما مجرور على أنه صفة للمذكورين أو منصوب على الذم، قال الزمخشري: «أحسن الوجوه فيه أن يكون في محل النصب على الذم ويجوز أن يكون مرفوعا على هم الذين طغوا أو مجرورا على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون» وجملة طغوا صلة الذين وفي البلاد متعلقان بطغوا (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) الفاء عاطفة وصبّ فعل ماض مبني على الفتح وعليهم متعلقان بصبّ وربك فاعل وسوط عذاب مفعول به، وسيأتي معنى هذا التعبير في باب البلاغة (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل لما قبلها وإن واسمها واللام المزحلقة وبالمرصاد متعلقان بمحذوف خبر إن وسيأتي معناها أيضا في باب البلاغة.(10/470)
البلاغة:
1- في قوله «فصبّ عليهم ربك سوط عذاب» استعارة مكنية، فقد استعمل الصب وهو خاص بالماء لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب قال:
فصبّ عليهم محصرات كأنها ... شآبيب ليست من سحاب ولا قطر
وقال آخر في وصف الخيل:
صببنا عليهم ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
واستعار السوط للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره، وعبارة الزمخشري جميلة في بابها قال: «يقال صبّ عليه السوط وغشاه وقنعه، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحلّه بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به» والسوط كما في القاموس هو الخلط أو أن تخلط شيئين في إنائك ثم تضربهما بيدك حتى يختلطا كالتسويط والمقرعة لأنها تخلط اللحم بالدم والجمع سياط وأسواط وقال الفراء: «هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به فجرى لكل عذاب إذا كان في غاية العذاب» .
2- وفي قوله «إن ربك لبالمرصاد» استعارة تمثيلية، شبّه كونه(10/471)
تعالى حافظا لأعمال العباد مراقبا عليها ومجازيا على ما دقّ وجلّ منها بحيث لا ينجو منه بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقع به ما يريد ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر.
الفوائد:
خضعت القصة القرآنية في موضوعها وطريقة عرضها وإرادة حوادثها وتسلسل مشاهدها لمقتضيات الأغراض الدينية، وظهرت آثار هذا الخضوع في سمات متعددة، ولكن هذا الخضوع الكامل للأغراض الدينية ووفاءها بهذا الغرض تمام الوفاء لم يمنعا بروز الخصائص الفنية في عرضها ولا سيما في التصوير وهو أبرز خصائص القرآن، وقد كنّا نودّ لو نقلنا لك قصة ذات العماد كما نقلها الرواة والمفسرون ولكن الأمر يطول فحسبنا أن ننقل لك خلاصتها لتلمح على ضوء تلك الخلاصة خصائصها الفنية ثم نحيلك على المطوّلات فقد رووا أنه كان لعاد ابنان وهما شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد فخلص الأمر لشداد وملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: سأبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة أضفى عليها الخيال تهاويل من الوصف الرائع فقصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطّردة، ولما تمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته فلما كان على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا، وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثم وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقصّ(10/472)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر ابن أبي قلابة فقال: هذا والله ذلك الرجل. وعلى كل حال ليس لهذه أصل ديني تستند إليه، وقد أدخلت خرافات مختلفة ونسجت أقاصيص منحولة وأساطير مفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)(10/473)
اللغة:
(التُّراثَ) الميراث والتاء بدل من الواو لأنه من الوراثة كما قالوا في تجاه وتخمة وتكأة.
(لَمًّا) جمعا وفي المختار: «أكلا لما فعله من باب رد يقال: لم الله شعثه أي أصلح وجمع ما تفرق من أمره» وقال أبو عبيدة: لممت ما على الخوان إذا أكلت جميع ما عليه بأسره وقال الحطيئة:
إذا كان لما يتبع الذّم ربه ... فلا قدّس الرحمن تلك الطواحنا
ومنه لممت الشعث، قال النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أيّ الرجال المهذب
(وَثاقَهُ) في المصباح: «وثق الشيء بالضم وثاقه قوي وثبت فهو وثيق ثابت وأوثقته جعلته وثيقا والوثاق بفتح الواو وكسرها القيد والحبل ونحوه والجمع وثق مثل رباط وربط» .
الإعراب:
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الفاء استئنافية ومفهوم كلام الزمخشري أنها عاطفة قال: «فإن قلت بم اتصل قوله فأما الإنسان؟ قلت بقوله: إن ربك بالمرصاد كأنه قيل إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة وهو مرصد بالعقوبة للعاصي فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها» وفي كلامه نفحة اعتزالية واضحة. وأما حرف شرط وتفصيل والإنسان مبتدأ وإذا ظرف متعلق بيقول وما زائدة وجملة ابتلاه في محل(10/474)
جر بإضافة الظرف إليها وربه فاعل، فأكرمه عطف على ابتلاه ونعمه عطف أيضا والفاء رابطة لما في أما من معنى الشرط وجملة يقول خبر الإنسان ولا يمتنع تعلق الظرف بيقول الواقعة خبرا لأن الظرف في نيّة التأخير والتقدير فأما الإنسان فقائل ربي أكرمني وقت الابتلاء وربي مبتدأ وجملة أكرمني خبر وحذفوا الياء من أكرمن اختصارا (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) عظف على الجملة السابقة وإعرابها كإعرابها (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) كلا حرف ردع وزجر للإنسان عن قوله وبل حرف إضراب من قبيح إلى أقبح للترقي في ذمّهم، ولا نافية وتكرمون اليتيم فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به ولا تحاضّون عطف على لا تكرمون وعلى طعام المسكين متعلقان بتحاضّون (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) عطف أيضا والتراث مفعول تأكلون وأكلا مفعول مطلق ولما صفة، وتحبون المال حبّا جمّا عطف أيضا مماثل للجملة السابقة في الإعراب (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) كلا حرف ردع وزجر لهم عن ذلك كله وإذا ظرف متعلق بيتذكر وجملة دكّت في محل جر بإضافة الظرف إليها والأرض نائب فاعل ودكّا دكّا مصدران في موضع الحال على رأي أبي حيان والزمخشري وليس الثاني تأكيدا بل التكرار للدلالة على الاستيعاب كقرأت النحو بابا بابا، وأعرب ابن خالويه دكّا الأول مصدرا والثاني تأكيدا وليس بعيدا (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) عطف على ما تقدم وجاء ربك فعل وفاعل والملك عطف على ربك وصفّا صفّا حال أي مصطفين أو ذوي صفوف وهو المسوغ لمجيء الحال جامدا هو الترتيب وضابطه أن يأتي التفصيل بعد ذكر المجموع بجزأيه مكررا، قال الرضي: وفي نصب الجزء الثاني خلاف ذهب الزجّاج إلى أنه توكيد وذهب ابن جنّي إلى أنه صفة وذهب الفارسي إلى أنه منصوب بالأول لأنه لما وقع موقع الحال جاز أن يعمل قال المرادي والمختار أنه(10/475)
وما قبله منصوبان بالعامل الأول لأن مجموعهما هو الحال ونظيره في الخبر هذا حلو حامض ولو ذهب ذاهب إلى أن نصبه بالعطف على تقدير حذف الفاء والمعنى بابا فبابا وصفّا فصفّا لكان مذهبا حسنا، ونص أبو الحسن على أنه لا يجوز أن يدخل حرف العطف في شيء من المكررات إلا الفاء وخاصة (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) الواو عاطفة وجيء فعل ماض مبني للمجهول ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله متعلق بجيء وبجهنم في موضع رفع نائب فاعل ويومئذ ظرف أضيف إلى مثله وهو بدل من إذا وجملة يتذكر الإنسان لا محل لها لأنها جواب إذا والواو حالية وأنى اسم استفهام معناه النفي في محل نصب ظرف مكان وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وله متعلقان بما تعلق به الظرف والذكرى مبتدأ مؤخر ولا بدّ من تقدير حذف المضاف أي ومن أين له منفعة الذكرى وإلا فبين يتذكر وأنى له الذكرى تناف وتناقض (يَقُولُ: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) الجملة بدل اشتمال من جملة يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول، ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وليتني ليت واسمها وجملة قدمت خبرها ولحياتي متعلقان بقدمت وجملة النداء مقول القول (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) الفاء عاطفة ويومئذ ظرف متعلق بيعذب والتنوين عوض عن جملة تفيد ما تقدم من هول الموقف ولا نافية ويعذب فعل مضارع مبني للمعلوم وعذابه مفعول مطلق والضمير في عذابه يعود إلى الله
، والعجب من ابن خالويه فقد أعربها مفعولا به ولا أدري ما هي وجهة نظره، وأحد فاعل يعذب وقرىء يعذب بالبناء للمجهول فيكون أحد نائب فاعل والضمير في عذابه يعود على الكافر وعبارة القرطبي بهذا الصدد هي: «فيومئذ لا يعذب عذابه أحد» أي لا يعذب كعذاب الله أحد ولا يوثق لوثاقه أحد والكناية ترجع إلى الله تعالى وهو قول ابن عباس والحسن وقرأ الكسائي(10/476)
لا يعذب ولا يوثق بفتح الذال والتاء أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ ولا يوثق كما يوثق الكافر. وقوله ولا يوثق إلخ عطف على الجملة السابقة ويقال في إعرابها ما قيل في الأولى وقد أورد ابن خالويه بحثا طريفا ننقله فيما يلي: «ولا يوثق نسق على يعذب والمصدر أوثق يوثق إيثاقا فهو موثق فإن قال قائل: هل يجوز همز يوثق كما همز يؤمن فقل ذلك غير جائز لأن أوثق فاء الفعل منه مثل أوفض يوفض وأسرع يسرع وأورى يوري وأوقد يوقد كل ذلك غير مهموز قال الله عزّ وجلّ: إلى نصب يوفضون والنار التي تورون وإنما يهمز من هذا ما كانت فاء الفعل منه همزة نحو آمن يؤمن لأن الأصل أأمن فاستثقلوا همزتين في أول كلمة فلينت الثانية فاعرف ذلك وإن كانت فاء الفعل ياء مثل أيسر وأيقن وأيفع الغلام انقلبت الياء واوا في المضارع لانضمام ما قبلها وسكونها ولم يجز أيضا همزها نحو يوقنون ويوفع الغلام ويوسر، وحدّثني أبو الحسن المقرئ قال: روى أبو خليفة البصري عن المازني عن الأخفش قال سمعت أباحية النميري يقول: يؤقنون مهموزة وأبو حيّة الذي يقول:
إذا مضغت بعد امتناع من الضحى ... أنابيب من عود الأراك المخلّق
سقت شعب المسواك ماء غمامة ... فضيضا بجادي العراق المروّق
غير أن من العرب من يهمز ما لا يهمز تشبيها بما يهمز كقولهم حلأت السويق ورثأت الميت، وحدّثني أحمد عن علي عن أبي عبيدة قال: قرأ الحسن ولا أدرأكم به مهموزا وهو غلط عند أهل النحو لأنه من دريت» (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الجملة في موضع نصب بقول محذوف أي يقول الله للمؤمن، ويا حرف نداء وأية منادى نكرة مقصودة مبني على الضم وقد مرّت نظائره كثيرا والهاء للتنبيه والنفس بدل والمطمئنة نعت للنفس وارجعي فعل أمر مبني(10/477)
على حذف النون والياء فاعل وإلى ربك متعلقان بارجعي وراضية مرضية حالان (فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) نسق على ارجعي وفي عبادي متعلقان بادخلي وادخلي في جنتي عطف أيضا أي انتظمي في سلكهم وادخلي جنتي معهم.
البلاغة:
في قوله «وجاء ربك والملك صفّا صفّا» فن الإفراط في الصفة كما سمّاه ابن المعتز، وسمّاه قدامة المبالغة، وسمّاه غيرهما التبليغ، والمشهورة تسمية قدامة وعرّفه بقوله: هو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده، وهي على ضروب شتى ومنها إخراج الكلام مخرج الإخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة والإخبار عنه مجاز كقول من رأى موكبا عظيما أو جيشا خضما جاء الملك نفسه وهو يعلم أن ما جاء جيشه فقد جعل في الآية مجيء جلائل آياته مجيئا له سبحانه.
الفوائد:
1- أيها وأيتها: قرأ الجمهور «يا أيتها النفس» بتاء التأنيث وقرأ زيد بن علي يا أيها بغير تاء ولا نعلم أحدا ذكر أنها تذكّر وإن كان المنادى مؤنثا إلا صاحب البديع، وهذه الآية شاهدة بذلك، ولذلك وجه من القياس وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم يذكّر في نداء المؤنث، وأي وأية مبنيان على الضم لكون كلّ منهما منادى مفردا وهاء التنبيه فيهما زائدة لازمة للفظ أي وأية عوضا عن المضاف إليه مفتوحة الهاء.(10/478)
2- كيف يتعدى «دخل» : إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعدّت إليه «دخل» بفي نحو دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس ومنه فادخلي في عبادي أي في جملة عبادي الصالحين وإذا كان المدخول فيه ظرفا حقيقيا تعدّت إليه في الغالب بغير وساطة «في» ومنه: وادخلي جنتي، وعلى كل حال تعرب جنتي مفعولا به على السعة لأنه في الأصل لا يتعدى بنفسه كما تقدم.(10/479)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
(90) سورة البلد مكيّة وآياتها عشرون
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)(10/480)
اللغة:
(الْبَلَدِ) في القاموس: «البلد والبلدة مكة شرّفها الله تعالى وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة والتراب، والبلد القبر والمقبرة والدار والأثر وأدحي النعام» إلى أن يقول: وبلد بالمكان بلودا أقام ولزمه أو اتخذه بلدا» .
(حِلٌّ) يقال: حلّ وحلال وحرم وحرام بمعنى واحد، وحلّ في المكان إذا نزل فيه يحل بضم الحاء حلولا فهو حال والمكان محلول فيه، وسيأتي المزيد من معناه في باب الإعراب.
(كَبَدٍ) نصب ومشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وفي المصباح: «والكبد بفتحتين المشقة من المكابدة للشيء وهو تحمّل المشاق في فعله» وعبارة الزمخشري: «وأصله من كبد الرجل كبد من باب طرب فهو أكبد إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقّة ومنه اشتقت المكابدة كما قيل كبته الله بمعنى أهلكه وأصله كبده أي أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه رابد:
يا عين هلّا بكيت اربد إذ ... قمنا وقام الخصوم في كبد
أي في شدّة الأمر وصعوبة الخطب» هذا ومن غريب أمر الكاف والباء أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلّتا على الشدّة والمعاناة والقهر، يقال كببته في الهوّة وكبكبته وكببته وكذلك إذا رمى به من رأس جبل أو حائط والفارس يكبّ الوحوش وهم يكبون العشار قال:
يكبّون العشار لمن أتاهم ... إذا لم تسكت المائة الوليدا
ومن المجاز أكبّ على عمله وهو مكب عليه لازم له لا يفارقه قال لبيد:(10/481)
جنوح الهالكيّ على يديه ... مكبّا يجتلي نقب النصال
وكبت الله عدوّك كبه وأهلكه وتقول: لا زال خصمك مكبوتا وعدوّك مكبوتا. وكبح فرسه جذب عنانه حتى يصير منتصب الرأس ولهذا قيل أيضا: «في كبد أي منتصبا ولم يجعله يمشي على أربع فيتناول الشيء بفيه ولا على بطنه لأن الله تبارك وتعالى كرّم بني آدم بأشياء هذه إحداها» وقال أعرابي آخر: ما للصقر يحبّ الأرنب ما لا يحب الخرب؟ قال لأنه يكبح سبلته ويردّه أي يصيب سبلته بذرقه فيلثقه. وكبر الأمر وخطب كبير وكبر علي ذلك إذا شق عليك «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه» وكبر الرجل في قدر وكبر في سنّه وشيخ كبير وذو كبر وكبر، وعلة الكبرة والمكبرة: علو السن وما تقتضيه من معاناة وجهد قال:
عجوز عليها كبرة في ملاحة ... أقاتلتي يا للرجال عجوز
وكبس الحفرة طمها وكبس رأسه في جيب قميصه أدخله فيه وهو عابس كابس ووقع عليه الكابوس. وانتطحت الكباش وهو كبش كتيبة وهم كباش الكتائب قال:
وإنّا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم
وفلان مكلّب مكبل مأسور بالكلب وهو القدّ مقيّد بالكبل وهو القيد وكبلت الأسير وكبّلته واكتبلته وفي ساقيه كبل وكبول قال جرير:
ومكتبلا في القدّ ليس بنازع ... له من مراس القدّ رجلا ولا يدا
وكبا لوجهه وتقول: الحدّ ينبو والجدّ يكبو، إلى آخر هذه المادة العجيبة في لغتنا الحبيبة.
(لُبَداً) كثيرا تكدس بعضه على بعض ولا يخاف فناؤه من كثرته(10/482)
وما له سبد ولا لبد وهو المراد هنا ولبد أيضا آخر نسور لقمان قيل: بعثته عاد إلى الحرم يستسقي لها فلما أهلكوا خيّر لقمان بين بقاء سبع بعرات من أظب عفر في جبل وعر لا يمسّها القطر أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر فاختار النسور وكان آخرها لبدا فلما مات مات لقمان وذلك في عصر الحارث الرائش أحد ملوك اليمن، وقد ذكره الشعراء فقال النابغة:
أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
(النَّجْدَيْنِ) الطريقين يعني طريق الخير وطريق الشر والنجد الطريق في ارتفاع وقيل الثديين، روي عن ابن عباس وعلي: لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه فالنجد العلو وجمعه نجود ومنه سمّيت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة وفي القاموس «النجد: ما أشرف من الأرض وجمعه أنجد وأنجاد ونجاد ونجود ونجد وجمع النجود أنجدة والطريق الواضح المرتفع وما خالف الغور أي تهامة وتضم جيمه مذكر أعلاه تهامة واليمن وأسفله العراق والشام وأوله من جهة الحجاز ذات عرق، وما ينجّد به البيت من بسط وفرش ووسائد والجمع نجود ونجاد والدليل الماهر والمكان لا شجر فيه» إلى أن يقول «والثدي» .
(الْعَقَبَةَ) الطريق الصعب في الجبل، واقتحامها مجاوزتها، وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة.
(مَسْغَبَةٍ) مصدر ميمي من سغب يسغب سغبا من باب فرح: جاع وفي القاموس «سغب كفرح ونصر سغبا وسغبا وسغابة وسغوبة ومسغبة جاع فهو ساغب وسغبان وسغب وهي سغبى وجمعها سغاب والسغب العطش وليس بمستعمل» .
(مَتْرَبَةٍ) في المختار: «وترب الشيء أصابه التراب وبابه طرب(10/483)
ومنه ترب الرجل أي افتقر كأنه لصق بالتراب وتربت يداه دعاء عليه أي لا أصاب خيرا وتربه تتريبا فتترّب أي لطخه بالتراب فتلطخ وأتربه:
جعل عليه التراب وفي الحديث «أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة» وأترب الرجل: استغنى كأنه صار له من المال بقدر التراب والمتربة المسكنة والفاقة ومسكين ذو متربة أي لاصق بالتراب» وقال ابن خالويه:
«أخبرنا أبو عبد الله نفطويه عن ثعلب قال: يقال: ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا استغنى ومعناه صار ماله كالتراب كثرة فإن سأله سائل فقال:
إذا كان الأمر كما زعمت فما وجه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم للرجل الذي استشاره في التزويج فقال له: «عليك بذات الدين تربت يداك» والنبي لا يدعو على أحد من المؤمنين؟ ففي ذلك أجوبة والمختار منها جوابان: أحدهما أن يكون أراد عليه السلام الدعاء الذي لا يراد به الوقوع كقولهم للرجل إذا مدحوه: قاتله الله ما أشعره وأخزاه الله ما أعلمه قال الشاعر في امرأة يهواها وهو جميل بثينة:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغر من أنيابها بالقوادح
وفي وجهها الصافي المليح بقتمة ... وفي قلبها القاسي بودّ مماتح
والجواب الثاني أن هذا الكلام مخرجه من الرسول صلّى الله عليه وسلم مخرج الشرط كأنه قال: عليك بذات البين تربت يداك إن لم تفعل ما أمرتك به وهذا حسن وهو اختيار ثعلب والمبرد» .
(مُؤْصَدَةٌ) مطبقة بالهمز وهي قراءة حفص وأبي عمرو وحمزة وبالواو الساكنة وهي قراءة الباقين وهما لغتان يقال: أصدت الباب وآصدته وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته وقيل معنى المهموز المطبقة ومعنى غير المهموز المغلقة ولم يفرق بينهما في القاموس.(10/484)
الإعراب:
(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدم إعراب لا أقسم والقول بزيادتها كثيرا فجدد به عهدا وبهذا متعلقان بأقسم والبلد بدل من هذا والواو حالية أو اعتراضية وأنت مبتدأ وحلّ خبر وبهذا متعلقان بحل والبلد بدل واختار الزمخشري أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة وردّه أبو حيان وفيما يلي عبارة الزمخشري وردّ أبي حيان: قال الزمخشري: «أقسم سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق والشدائد واعتراض بين القسم والمقسم عليه بقوله: وأنت حلّ بهذا البلد يعني ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام كما يستحلّ الصيد في غير الحرم» إلى أن يقول: «أو سلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد واعترض بأن وعده بفتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال: وأنت حل بهذا البلد يعني وأنت حلّ به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر» إلى أن يقول: «فإن قلت: أين نظير قوله وأنت حلّ في معنى الاستقبال؟ قلت قوله عزّ وجلّ: إنك ميت وإنهم ميّتون ومثله واسع في كلام العباد تقول لمن تعده بالإكرام والحباء: أنت مكرم محبو وهو في كلام العرب أوسع لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة وكفاك دليلا قاطعا على أنه للاستقبال وأن تفسيره بالحال محال أن السورة بالاتفاق مكيّة وأين الهجرة من وقت نزولها فما بال الفتح؟» . وقال أبو حيان: «وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين وقد ذكرنا أولا أنها جملة حالية وبينّا حسن موقعها وهو إفادة تعظيم المقسم به وهي حال مقارنة لا مقدرة ولا محكية فليست من الإخبار بالمستقبل وأما سؤاله والجواب فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بعلم النحو لأن الإخبار قد يكون بالمستقبلات وأن(10/485)
اسم الفاعل وما جرى مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال بل يكون للماضي تارة وللحال أخرى وللمستقبل أخرى وهذا من مبادئ علم النحو وأما قوله وكفاك دليلا قاطعا إلخ فليس بشيء لأنّا لم نحمل وأنت حل على أنه يحلّ لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل وقت نزولها بمكة فتنافيا بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة وهو وقت النزول كان مقيما بها ضرورة وأيضا فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة ليس بصحيح وقد يحكى الخلاف فيها عن قوم» وإنما أوردنا هذا النقاش وقوة الحجة لدى المتناقشين مما حدا بالمفسرين جميعا على وجه التقريب التزام الحياء في هذا النزاع ولهذا لم نشأ نحن الترجيح أيضا، على أن الكرخي أيّد وجهة نظر الزمخشري إذ قال: «أقسم الله بالبلد الحرام على أنه خلق الإنسان في كبد واعترض بينهما بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية لقوله وأنت حلّ أي به في المستقبل تصنع ما تريد من القتل والأسر» وكذلك أيّد الجلال في تفسيره الزمخشري فقال «فالجملة اعتراض بين المقسم والمقسم عليه» وتعقبه السمين فأورد كلامه وقال: «وقيل إنها حالية ولا نافية أي لا أقسم بهذا البلد وأنت حال مقيم به لعظيم قدرك أي لا أقسم بشيء وأنت أحقّ بالإقسام بك منه» وأيّد ابن خالويه أبا حيان (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ)
عطف على القسم السابق والمراد بالوالد آدم وما عطف على والد وجملة ولد صلة أي ذريته، وأحسن من ذلك ما قاله أبو حيان: «والظاهر أن قوله ووالد وما ولد لا يراد به معين بل ينطلق على كل والد» أما الزمخشري فقد جنح إلى رأي آخر فقال: «فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟ قلت رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن ولده أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه إبراهيم ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما السلام وبمن ولده وبه فإن قلت لم نكر؟ قلت للإبهام المستقل بالمدح والتعجب فإن قلت فهلّا قيل ومن ولد؟ قلت فيه ما في قوله: والله أعلم بما وضعت يعني(10/486)
موضوعا عجيب الشأن» وقال الفراء وما للناس كقوله: ما طاب لكم «وما خلق الذكر والأنثى وهو الخالق للذكر والأنثى» (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) الجملة جواب القسم
واللام واقعة في الجواب وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وأل فيه للجنس لأنه أراد جنس الإنسان وفي كبد متعلقان بمحذوف على أنها حال من الإنسان أي مكابدا للمشاق منتصبا على قدميه يؤدي دوره في بناء مجتمعه لا كالحيوان الذي يتناول طعامه بفمه (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) الهمزة للإنكار والتوبيخ ويحسب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر يعود على الإنسان أو على بعض صناديد قريش الذين كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويقدر فعل مضارع منصوب بلن وعليه متعلقان بيقدر وأحد فاعل يقدر، ومن العجيب أن يقول ابن خالويه ما نصّه: «أن حرف ناصب ولن حرف نصب ويقدر منصوب بلن والعرب إذا جمعت بين حرفين عاملين ألغت أحدهما» فهذا هو الهراء الذي ما بعده هراء وهذا هو الخرق الفاضح لإجماع النحاة على استشهادهم بالآية المذكورة لأنه يشترط في أن المفتوحة إذا خفّفت أن يكون اسمها ضميرا للشأن ولم يسمع ذكره إلا في ضرورة الشعر كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
وقد علم الضيف والمرملون ... إذا اغبرّ أفق وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مريع ... وأنك هناك تكون الثمالا
فقد أتى اسمها ضميرا مذكورا وليس للشأن وأما خبرها فيجب أن يكون جملة، ثم إن كانت الجملة اسمية أو فعلية فعلها جامد أو دعاء لم تحتج إلى فاصل فالاسمية نحو وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين والفعلية التي فعلها جامد نحو وأن ليس للإنسان إلا ما سعى والفعلية(10/487)
التي فعلها دعاء نحو والخامسة أن غضب الله عليها، ويحب الفصل في غيرهنّ ليكون عوضا مما حذفوا من أنه وهو أحد النونين والاسم أو لئلا يلتبس بأن المصدرية والفصل إما بقد لأنها تقرّب الماضي من الحال نحو ونعلم أن قد صدقتنا، أو تنفيس نحو علم أن سيكون، أو نفي بلا أو لن أو لم، فمثال لن أيحسب أن لن يقدر عليه أحد، فإن قيل قد أوجبوا أن تكون مخفّفة بعد فعل العلم أما بعد فعل الظن فقد أجازوا أن تكون مخففة ومصدرية قلت: ما كان أرفع أسلوب القرآن عن إقحام عاملين بمعنى واحد واضطرارنا إلى إلغاء أحدهما وهذا ما يترفع عنه أسلوب القرآن العظيم (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) الجملة حالية أو استئنافية والقول على سبيل الفخر والمباهاة وجملة أهلكت مقول القول ومالا مفعول به ولبدا نعت (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضا وإعرابها كإعراب سابقتها (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونجعل فعل مضارع مجزوم بلم وله متعلقان بنجعل لأنها بمعنى نخلق وعينين مفعول به ولسانا وشفتين عطف على عينين والشفة محذوفة اللام والأصل شفهة بدليل تصغيرها على شفيهه وجمعها على شفاه ونظيره سنة ولا تجمع بالألف والتاء استغناء بتكسيرها على شفاه، وهديناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والنجدين مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض كما تقدم (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) الفاء عاطفة ولا نافية وهو قول أبي عبيدة والفراء والزجّاج كأنه قال:
ووهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيرا أي فلم يقتحم، وقال الفراء والزجّاج: ذكر لا مرة واحدة والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيدها كقوله تعالى فلا صدق ولا صلّى وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله الآتي ثم كان إلخ قائما مقام التكرير كأنه قال اقتحم العقبة ولا آمن وقيل هو جار مجرى(10/488)
الدعاء كقوله لا نجا ولا سلم دعاء عليه أن لا يفعل خيرا، وقال الزمخشري بعد أن تنحل مقالة الفراء والزجّاج وأبي عبيدة «هي بمعنى لا متكررة في المعنى لأن معنى فلا اقتحم العقبة فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا، ألا ترى أنه فسّر اقتحام العقبة بذلك» ولا يتمّ له هذا إلا على قراءة من قرأ فكّ فعلا ماضيا، على أن أغرب ما قرأناه هو قول الشيخ الجلال أن لا بمعنى هلّا أي حرف تحضيض وقد ارتكن الجلال على رواية لأبي زيد ولكننا لم نسمع أن لا وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة، وعبارة ابن هشام في المغني: «وأما قوله سبحانه وتعالى:
فلا اقتحم العقبة فإن لا فيه مكررة في المعنى لأن المعنى فلا فكّ رقبة ولا أطعم مسكينا لأن ذلك تفسير للعقبة قاله الزمخشري، وقال الزجّاج:
إنما جاز لأن ثم كان من الذين آمنوا معطوف عليه وداخل في النفي فكأنه قيل: فلا اقتحم ولا آمن. ولو صحّ لجاز لا أكل زيد وشرب، وقال بعضهم لا دعائية دعا عليه أن لا يفعل خيرا، وقال آخر: تحضيض والأصل فألّا اقتحم ثم حذفت الهمزة وهو ضعيف» . ومن مراجعة هذه الأقوال يتبين أن جعلها دعائية هو الأرجح والأمثل بأسلوب القرآن الكريم، قال الدماميني: «هذا وجه ظاهر الحسن لا غبار عليه فكان الأولى تقديمه على غيره من الأقوال» . واقتحم العقبة فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي القائل ومفعول به وسيأتي المزيد من معنى اقتحام العقبة في باب البلاغة والواو اعتراضية وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر ما وما اسم استفهام مبتدأ والعقبة خبر والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام في محل نصب سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني والجملة معترضة مقحمة لبيان العقبة مقررة لمعنى الإبهام، والتفسير: فإن قوله وما أدراك ما العقبة عين تلك العقبة لأن المعرّف بالألف واللام إذا أعيد كان الثاني عين الأول (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) فكّ رقبة خبر لمبتدأ مضمر(10/489)
أي هو فكّ والتقدير وما هو اقتحام العقبة هو فك رقبة أو إطعام إلخ وإنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف ليتطابق المفسّر والمفسّر، ألا ترى أن المفسر بكسر السين مصدر والمفسر بفتح السين وهو العقبة غير مصدر فلو لم يقدّر المضاف لكان المصدر وهو فكّ مفسّرا للعين وهي العقبة وقرىء فكّ رقبة على أنه فعل ماض وفاعله هو ورقبة مفعول والجملة الفعلية عندئذ بدل من قوله اقتحم العقبة المنفي بلا فكأنه قيل فلا فكّ رقبة ولا أطعم وهذا يؤيد ما ذهب إليه الزمخشري. أو إطعام عطف على فكّ رقبة على القراءة الأولى وفي يوم متعلقان بإطعام وذي مسغبة نعت يوم ويتيما مفعول لإطعام على أنه مصدر استوفى شروط النصب أو مفعول أطعم على القراءة وذا مقربة نعت ليتيما وأو حرف عطف ومسكينا عطف على يتيما وذا متربة نعت لمسكينا (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) ثم حرف عطف يفيد التراخي في الرتبة لأن الإيمان هو الأصل والأسبق ولا يتم عمل إلا به، وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود عليه ومن الذين خبرها وجملة آمنوا صلة وتواصوا عطف على الصلة داخل في حيّزها وبالصبر متعلقان بتواصوا وتواصوا بالمرحمة عطف أيضا (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أولئك مبتدأ وأصحاب الميمنة خبر والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وبآياتنا متعلقان بكفروا وهم مبتدأ وأصحاب المشأمة خبره والجملة خبر الذين، وسيأتي بحث قيّم عن اختلاف صيغ التعبير في باب البلاغة وعليهم خبر مقدّم ونار مبتدأ مؤخر ومؤصدة صفة لنار والجملة خبر ثان ولك أن تجعلها استئنافية.
البلاغة:
1- في قوله «وهديناه النجدين» استعارة تصريحية فقد استعار(10/490)
النجدين للخير والشر وحذف المشبه وهو الخير والشر وأبقى المشبه به فإن قلت أما تشبيه الخير بالنجد وهو المرتفع من الطريق فلا غبار عليه لأنه ظاهر بخلاف الشر فإنه هبوط وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال قلنا: إنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودا وارتكاسا وإسفافا وهذا من أبلغ الكلام وأروعه.
2- وفي قوله «فلا اقتحم العقبة» ترشيح للاستعارة بذكر ما يلائم المشبه وقد مرّت أمثلتها ونضيف هنا أن مبنى الترشيح تناسي التشبيه وتقوّله الادّعاء والمبالغة ولهذا كان الترشيح أبلغ من التجريد وهو ذكر ما يلائم المشبه دون المشبّه به لأن فيه اعترافا بالتشبيه حتى يبنى على علو القدر المشبه بالعلو المكاني ما يبنى على العلو المكاني كما قال أبو تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول ... بأن له حاجة في السماء
استعار الصعود لعلو القدر ثم بنى عليه ما يبنى على علو المكان فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه ويصرّ على إنكاره فيجعله صاعدا في السماء لما كان لهذا الكلام وجه ثم إنهم يفعلون ذلك التناسي مع التصريح بالتشبيه والاعتراف بالأصل فمع جحد الأصل والإصرار عليه كما في الاستعارة أولى فأولى كقول العباس بن الأحنف:
هي الشمس مسكنها في السماء ... فعزّ الفؤاد عزاء طويلا
فلن تستطيع إليها الطلوع ... ولن تستطيع إليك النزولا
ولا يخفى أن هذا التناسي وقع مع الاعتراف بالأصل وهو: هي في قوله هي الشمس لأنها راجعة إلى الحبيبة وهذا واضح وجعله ضمير القصة كما توهمه بعضهم تكلف.(10/491)
ومن أمثلة الاستعارة المجردة أيضا قول الشاعر:
فإن يهلك فكل عمود قوم ... من الدنيا إلى هلك يصير
ففي قوله عمود استعارة تصريحية أصلية شبّه رئيس القوم بالعمود بجامع أن كلاهما يحمل والقرينة يهلك وفي إلى هلك يصير تجريد وقد يجتمع الترشيح مع التجريد لجواز أن يتناسى التشبيه في بعض الصفات دون بعض، ومن أمثلته قول أبي الطيب:
سقاك وحيّانا بك الله إنما ... على العيس نور والخدور كمائمه
فالنور الزهر أو الأبيض منه والمراد به هنا النساء والجامع الحسن فالاستعارة تصريحية أصلية وفي ذكر الخدور تجريد وفي ذكر الكمائم ترشيح وتسمى الاستعارة عندئذ مطلقة.
3- وفي قوله «أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا هم أصحاب المشأمة» خولف في التعبير، فقد أشار إلى المؤمنين تكريما لهم وأنهم حاضرون عنده تعالى في مقام كرامته وبمثابة الجالسين أمامه لا يعدو الأمر أكثر من الإشارة إليهم بالبنان ثم استعمل لفظ الإشارة الدّال على البعد فلم يقل هؤلاء إيذانا ببعد منزلتهم عنده ونيلهم شرف الحظوة والقرب منه أما الكافرون فقد ذكرهم بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم غائبون عن مقام تجلياته وسبحات فيوضاته وأنهم لا يستأهلون أن يمتّوا إليه ولو بأوهن الأسباب، وهذا من العجب العجاب فتدبره.(10/492)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
(91) سورة الشّمس مكيّة وآياتها خمس عشرة
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
اللغة:
(وَضُحاها) قال القرطبي: «الضحى مؤنثة يقال ارتفعت الضحى فوق الضحو وقد تذكر فمن أنّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ومن ذكر(10/493)
ذهب إلى أنها اسم على فعل نحو صرد» وقال ابن خالويه: «الضحى مقصور مثل هدى والضحى مؤنثة تصغيرها ضحية والأجود أن تقول في تصغيرها ضحيّ بغير هاء لئلا يشبه تصغيرها تصغير ضحوة والضحى وجه النهار ويقال ليلة اضحيان إذا كان القمر فيها مضيئا من أولها إلى آخرها وقد أضحى النهار إذا ارتفع ويقال: ضحي فلان للشمس يضحى إذا برز لها وظهر قال الله تعالى: وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى، ورأى ابن عمر رجلا يلبي وقد أخفى صوته فقال له أضح لمن لبّيت له أي اظهر وقال عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأيما بالعشيّ فيخصر»
وفي القاموس: «الضّحو والضحوة والضّحية كعشيّة ارتفاع النهار والضحى فويقة ويذكر ويصغر ضحيّا بلا هاء والضحاء بالمدّ إذا قرب انتصاف النهار وبالضم والقصر وأتيتك ضحوة وضحى وأضحى صار فيها والشيء أظهره وضاحاه أتاه فيها» .
(جَلَّاها) أظهرها وكشفها.
(طَحاها) بسطها لأن ما يظهر للرائي فيها يكون كالبساط فلا ينافي كرويتها وفي المختار «طحاه: بسطه مثل دحاه وبابه عدا» وفي القاموس «وطحا يطحو بعد وهلك وألقى إنسانا على وجهه والطحا المنبسط من الأرض وطحى كسعى وبسط وانبسط واضطجع وذهب في الأرض وطحا به قلبه ذهب به في كل شيء» .
(دَسَّاها) التدسية: النقص والإخفاء بالفجور وأصل دسى دسس كما قيل في تقضض تقضى وكما قيل قصيت أظفاري وأصله قصصت أظفاري.
(فَدَمْدَمَ) أطبق عليهم العذاب بذنبهم فأهلكهم قال الفراء:(10/494)
«وحقيقة الدمدمة تضعيف العذاب وترديده ويقال دمدمت على الشيء أطبقت عليه» وفي الصحاح «ودمدمت الشيء إذا ألزقته بالأرض ودمدم الله عليهم أي أهلكهم ويقال: دمدمت على الميت التراب أي سوّيته عليه» وقال ابن الأنباري: «دمدم أي غضب والدمدمة الكلام الذي يزعج الرجل» وفي القاموس: «ودمم الأرض سواها وفلانا عذبه عذابا تاما والقوم أهلكهم كدهدم ودمدم عليهم» .
(عُقْباها) تبعتها وعاقبتها، وفي القاموس: «وأعقبه الله بطاعته جازاه والعقبى جزاء الأمر» .
الإعراب:
(وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) الواو حرف قسم وجر والشمس مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وضحاها عطف على الشمس والقمر عطف أيضا وإذا لمجرد الظرفية متعلقة بفعل القسم المحذوف وقد استشكل بأن فعل القسم إنشاء وزمانه الحال فلا يعمل في إذا لأنها للاستقبال والإلزام اختلاف العامل والمعمول في الزمان وهو محال وأجيب بأنه يجوز أن يقسم الآن بطلوع النجم في المستقبل فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل ويجوز أن يقسم بالشيء المستقبل كما تقول: أقسم بالله إذا طلعت الشمس فالقسم متحتّم عند طلوع الشمس وإنما يكون فعل القسم للحال إذا لم يكن معتمدا على شرط، هذا وقد بسطنا القول بسطا مفيدا ووافيا عند الكلام على سورة التكوير وجملة تلاها في محل جر بإضافة الظرف إليها (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) الجملتان منسوقتان على ما تقدم مماثلتان له في الإعراب (وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) عطف أيضا و «ما» في الجمل الثلاث مصدرية أو بمعنى من(10/495)
وعلى كل حال فهي معطوفة على الاسم قبلها أو المصدر المنسبك منها ومن الفعل معطوف عليه، وشجب الزمخشري كونها مصدرية. (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) منسوق أيضا على ما تقدم والتنكير في نفس لإرادة الجنس كأنه قال وواحدة من النفوس (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) الفاء عاطفة وألهمها فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وفجورها مفعول به ثان وتقواها عطف على فجورها، وقد اختلفوا في معنى الإلهام قال ابن جبير ألزمها، وقال ابن عباس عرفها، وقال ابن زيد: بين لها، وقال الزجّاج وفّقها للتقوى وألهمها فجورها أي خذلها وقيل عرفها وجعل لها قوة يصحّ معها اكتساب الفجور واكتساب التقوى، وقال الزمخشري:
«ومعنى إلهام الفجور والتقوى إفهامها وإعقالها وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما» وفيه تلميح إلى مذهب المعتزلة القائل بالتحسين والتقبيح العقليين أي إن الحسن والقبح مدركان بالعقل، أما أهل السنّة فيقولون بالتحسين والتقبيح الشرعيين أي إن الحسن والقبح لا يدركان إلا بالسمع لأنهما راجعان إلى الأحكام الشرعية مع عدم إلغاء خط العقل من إدراك الأحكام الشرعية وعندهم أنه لا بدّ في علم كل حكم شرعي من مقدمتين عقلية وهي الموصلة إلى العقيدة وسمعية مفرغة عليها وهي الدالّة على خصوص الحكم.
هذا والإلهام في اللغة إلقاء الشيء في الروع، قال الراغب: ويختص بما يكون من جهته تعالى وجهة الملأ الأعلى، قال تعالى: فألهمها فجورها وتقواها، فعلم أنه غير مختص بالخير بل يعمّه والشر، وفي الاصطلاح إلقاء معنى في القلب بطريق الفيض من غير كسب فيختصّ بالخير لعدم إطلاق الفيض في الشرّ بل يطلق فيه الوسوسة (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) الجملة جواب القسم وحذفت اللام لطول الكلام وقيل الجواب محذوف تقديره لتبعثنّ وقال الزمخشري: «تقديره ليدمدمنّ الله عليهم أي على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلّى الله(10/496)
عليه وسلم كما دمدم على ثمود لأنهم كذبوا صالحا وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله فألهمها فجورها وتقواها على سبيل الاستطراد وليس من جواب القسم في شيء» وقد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض ومن موصول فاعل وجملة زكّاها صلة وفاعل زكاها ضمير يعود على من وقيل ضمير الله تعالى أي قد أفلح من زكّاها الله تعالى بالطاعة وقد خاب من دسّاها عطف على الجملة السابقة مماثلة لها (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما ذكر من فلاح من زكى نفسه أو زكّاها الله ومن دسى نفسه أو دساها الله. وكذبت ثمود فعل ماض وفاعل وبطغواها متعلقان بكذبت ومعنى الباء السببية أي بسبب طغيانهم وجعلها في الكشاف للاستعانة مجازا كقولك كتبت بالقلم يعني فعلت التكذيب بطغيانها، وكل من الطغوى والطغيان مصدر لكن اختير التعبير بالطغوى لأنه أشبه برءوس الآي، قال في المختار: «طغى يطغى بفتح الغين فيهما ويطغو طغيانا وطغوانا أي جاوز الحدّ وطغي بالكسر مثله والطغوى بالفتح مثل الطغيان» أما الزمخشري فقال «والطغوى من الطغيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلى من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا: امرأة خزيا وصديا» وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بكذبت أو بالطغوى وجملة انبعث في محل جر بإضافة الظرف إليها، وأشقاها فاعل انبعث والمراد به قدار بن سالف بضم القاف ويضرب به المثل في الشؤم فيقال أشأم من قدار ويلقب بأحمر ثمود ويجوز أن يكونوا جماعة والإفراد لتسويتك في التفضيل إذا أضفته بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وعبارة ابن خالويه وقد خلط بها خلطا عجيبا: «فإذا كان المذكر أشقى فالمرأة شقواء لأنه من ذوات الواو كقوله: «ربنا غلبت علينا شقوتنا» وشقاوتنا و «ها» جرّ بالإضافة وجمع أشقى شقو مثل حمر وصفر فإن جمعت جمع سلامة قلت في المذكر أشقون وفي المؤنث شقواوات مثل حمراوات»(10/497)
قال ابن هشام معقّبا: «قوله: إذا كان المذكر أشقى فالمؤنث شقواء والجمع شقو ليس بجيد إذ لم يفرّق بين أفعل الذي يكون نعتا للنكرة وبين أفعل الذي يجري مجرى الأسماء ولا يكون نعتا للنكرة إلا بمن وإنما يكون مضافا أو مقرونا بأل وإنما الأنثى في هذا الشقيا وجمع المذكر الأشقون والأشاقي في القياس جائز وكما تقول الأكبر والأكبرون والأكابر وجمع الأنثى الشّقى والشقييات كما تقول الكبرى والكبر والكبريات» (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها) الفاء عاطفة وقال فعل ماض مبني على الفتح ولهم متعلقان بقال ورسول الله فاعل وناقة الله منصوب على التحذير على حذف مضاف أي ذروا عقرها واحذروا سقياها، وسيأتي بحث عن التحذير في باب الفوائد، وسقياها عطف على ناقة الله أي وشربها (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به، فعقروها عطف على فكذبوه أي عقرها قدار في رجليها فأوقعها فذبحوها وتقاسموا لحمها، فدمدم عطف أيضا وعليهم متعلقان بدمدم وربهم فاعل وبذنبهم متعلقان بدمدم أيضا والباء للسببية أي بسبب ذنبهم، فسوّاها عطف على دمدم والواو حرف عطف ولا نافية ويخاف عقباها فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإنما جعلنا الواو عاطفة لتلائم قراءة الفاء وهي سبعية أيضا، على أن المعربين والمفسرين يقولون إن الواو حالية أو استئنافية وممّن قال بأنها عاطفة ابن خالويه.
البلاغة:
في قوله «ولا يخاف عقباها» استعارة تمثيلية على اعتبار أن الضمير في يخاف لله عزّ وجلّ وهو الظاهر أي أنه سبحانه لا يخاف عاقبتها كما تخاف الملوك عاقبة أفعالها، والمقصود من الاستعارة(10/498)
إهانتهم وإذلالهم، ويجوز أن يعود الضمير على الرسول أي أنه لا يخاف عاقبة إنذاره لهم وتبقى الاستعارة، وقال السدّي ومقاتل والزجّاج وأبو علي: الواو واو الحال والضمير في يخاف عائد على أشقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه والعقبى خاتمة الشيء وما يجيء من الأمور بعقبه، وهذا فيه يعد لطول الفصل بين الحال وصاحبها.
الفوائد:
التحذير: هو نصب الاسم بفعل محذوف يفيد التنبيه والتحذير ويقدّر بحسب ما يناسب المقام كاحذر وباعد وتجنب وق وتوق ونحوها، ويكون التحذير:
1- تارة بلفظ إياك وفروعه، نحو إياك والكذب فإياك ضمير بارز منفصل في محل نصب مفعول لفعل محذوف تقديره باعد أو ق أو احذر والكذب معطوف على إياك أو مفعول به لفعل محذوف أيضا كما تقدم، ولك أن تجعل الواو للمعية والكذب مفعولا معه.
2- وتارة بدون إياك وفروعه نحو نفسك والشر والأسد الأسد وإعرابها كما تقدم.
3- وتارة بلفظ إياه وإياي وفروعهما إذا عطف على المحذّر كقوله:
فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
والعامل في التحذير يضمر وجوبا في ثلاثة مواضع:
1- أن يكون المحذّر به نفس إياك وفروعه.(10/499)
2- أن يكون هناك عطف.
3- أن يكون هناك تكرار كقولك: الأسد الأسد.
ومن العجيب أن النسفي ذكر في تفسيره أن قوله تعالى: ناقة الله وسقياها، إغراء، ولا شك في إشكاله بحسب الظاهر لأن الإغراء لا يصدق عليه بحسب الظاهر بل الصادق عليه إنما هو التحذير.(10/500)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
(92) سورة اللّيل مكيّة وآياتها احدى وعشرون
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
الإعراب:
(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى إِنَّ(10/501)
سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)
الواو حرف قسم وجر والليل مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم وإذا ظرف لمجرد الظرفية المجردة عن الشرط وهو متعلق بفعل القسم وقد تقدم البحث فيه، وجملة يغشى في محل جر بإضافة الظرف إليها، والنهار إذا تجلى عطف على الجملة السابقة، وما خلق: ما مصدرية أو موصولة عطف على ما تقدم، وإن سعيكم لشتى جواب القسم أقسم سبحانه على أن أعمال عباده شتى جمع شتيت وقيل للمختلف المتباين شتى لتباعد ما بين بعضه وبعضه والشتات الافتراق وفي المصباح «شت شتا من باب ضرب إذا تفرق والاسم الشتات وشيء شتيت وزان كريم متفرق وقوم شتى فعلى متفرقون وجاءوا أشتاتا كذلك وشتان ما بينهما أي بعد» وإن واسمها واللام المزحلقة وشتى خبر إن (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) الفاء استئنافية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة أعطى صلة واتقى عطف على أعطى وصدّق بالحسنى عطف أيضا، فسنيسّره الفاء رابطة لجواب الشرط والسين للتسويف ونيسره فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ولليسرى متعلقان بنيسّره (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) الواو عاطفة وما نافية ويجوز أن تكون استفهامية في معنى الإنكار في محل نصب مفعول مطلق ليغني أي أيّ إغناء يغني، وبعضهم يعربها مفعولا مقدّما ويقدّر أي شيء يغني، ويغني فعل مضارع مرفوع وعنه متعلقان بيغني وماله فاعل وإذا ظرف لمجرد الظرفية متعلق بيغني وجملة تردى في محل جر بإضافة الظرف إليها، ولابن خالويه في تردى بحث لطيف قال: «تردّى فعل ماض والمصدر تردّى يتردّى تردّيا فهو متردّ ومنه قوله تعالى والمتردية والنطيحة، يقال: تردّى في بئر وفي أهوية وفي هلكة، إذا وقع فيها ويقال: ردي زيد يردى ردى إذا هلك وأرداه الله(10/502)
يرديه إرداء ويقال ردى الفرس يردي رديانا، قال الأصمعي: سألت منتجع بن بنهان عن رديان الفرس فقال: هو عدوه بن آريّه ومتمعّكه الآري الآخيّة أي المعلف والمتمعّك الموضع الذي يتمرغ فيه والآري وزنه فاعول سمى بذلك لحبسه الدابة، يقال: تأريت بالمكان إذا لزمته وتحبست به» وقال المبرد: «قيل فيه قولان: أحدهما إذا تردى في النار والآخر إذا مات وهل تفعّل من الردى» (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) كلام مستأنف مسوق لإخبارهم بأن عليه سبحانه بمقتضى حكمته بيان الهدى من الضلال. وإن حرف مشبّه بالفعل وعلينا خبرها المقدّم واللام للتأكيد والهدى اسم إن المؤخر (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) الواو عاطفة وما بعدها عطف على ما تقدم مماثل له في الإعراب (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) الفاء عاطفة على مقدّر أي فمن طلب الدنيا والآخرة من غير مالكهما الحقيقي وهو الله فقد أخطأ الطريق وضلّ سواء السبيل، وأنذرتكم فعل ماض وفاعل ومفعول به ونارا مفعول به ثان وجملة تلظى نعت لنارا وتلظى فعل مضارع والأصل تتلظى، وعبارة ابن خالويه جيدة وهي: «تلظى فعل مضارع والأصل تتلظى وقد قرأ ابن مسعود بذلك وقرأ ابن كثير:
نارا تّلظى بإدغام التاء يريد نارا تتلظى ولو كان تلظى فعلا ماضيا لقيل تلظت لأن النار مؤنثة والمصدر تلظّت تتلظى تلظّيا فهي متلظية ويقال في أسماء جهنم سقر وجهنم والجحيم ولظى نعوذ بالله منها وهذه الأسماء معارف لا تنصرف للتأنيث والمعرفة» (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) لا نافية ويصلاها فعل مضارع مرفوع والهاء مفعول به وإلا أداة حصر والأشقى فاعل يصلاها (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) الذي نعت للأشقى وجملة كذب لا محل لها لأنها صلة وتولى عطف على كذب داخل في حيز الصلة (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) الواو عاطفة والسين حرف استقبال جيء به للتأكيد ويجنبها فعل مضارع مرفوع ومفعول به والأتقى فاعل والذي نعت وجملة يؤتي صلة وماله مفعول به ويتزكى فعل مضارع(10/503)
وفاعله مستتر والجملة إما بدل من يؤتي فتكون لا محل لها لأنها داخلة في حيز صلة الذي وإما حال من فاعل يؤتي أي متزكيا به عند الله (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) الواو حرف عطف وما نافية ولأحد الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدّم وعنده ظرف متعلق بمحذوف حال ومن حرف جر زائد ونعمة مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ وإلا أداة استثناء بمعنى لكن وابتغاء مستثنى من غير الجنس لأنه منقطع لأن ابتغاء وجه ربه ليس من جنس النعمة أي ما لأحد عنده نعمة إلا ابتغاء وجه ربه والأحسن أن يعرب ابتغاء مفعولا لأجله لأن المعنى لا يؤتي ماله إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة وقرىء ابتغاء بالرفع على لغة من يقول ما في الدار أحد إلا حمار فتكون بدلا من محل من نعمة، قال:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
وقال بشر بن أبي حازم:
أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظلمان تختلف
وسيأتي تفصيل هذه القاعدة في باب الفوائد (وَلَسَوْفَ يَرْضى) الواو عاطفة واللام جواب قسم مضمر أي والله لسوف يرضى، وسوف حرف تسويف ويرضى فعل مضارع وفاعله هو يعود على أبي بكر الذي نزلت فيه الآية لما اشترى بلالا المعذب على إيمانه من سيده أمية بن خلف وأعتقه فقال الكفار إنما فعل ذلك ليد كانت له عنده.
الفوائد:
إذا كان الاستثناء منقطعا وهو ما لا يكون المستثنى بعض المستثنى منه بشرط أن يكون ما قبل «إلا» دالّا على ما يستثنى فإن لم(10/504)
يمكن تسليط العامل على المستثنى وجب النصب في المستثنى اتفاقا نحو ما زاد هذا المال إلا ما نقص، فما مصدرية ونقص صلتها وموضعهما نصب على الاستثناء، ولا يجوز رفعه على الإبدال من الفاعل لأنه لا يصحّ تسليط العامل عليه إذ لا يقال زاد النقص، ومثله ما نفع زيد إلا ما ضرّ إذ لا يقال ما نفع الضرّ وإن أمكن تسليطه على المستثنى نحو ما قام القوم إلا حمارا إذ يصحّ أن يقال قام حمار فالحجازيون يوجبون النصب لأنه لا يصحّ فيه الإبدال حقيقة من جهة أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه وعليه قراءة السبعة: ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وتميم ترجحه وتجيز الاتباع ويقرءون إلا اتباع الظن بالرفع على أنه بدل من العلم باعتبار الموضع ومنه قول جران العود عامر بن الحارث:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
فأبدل اليعافير والعيس من الأنيس، وإلا الثانية مؤكدة للأولى واليعافير جمع يعفور وهو ولد البقرة الوحشية والعيس بكسر العين جمع عيساء كالبيض جمع بيضاء وهي الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، وذكر سيبويه في توجيه الرفع وجهين: أحدهما أنهم حملوا ذلك على المعنى لأن المقصود هو المستثنى فالقائل ما في الدار أحد إلا حمار المعنى فيه ما في الدار إلا حمار وصار ذكر أحد توكيد ليعلم أنه ليس ثم آدمي ثم أبدل من أحد ما كان مقصوده من ذكر الحمار، الوجه الثاني أنه جعل الحمار إنسان الدار أي الذي يقوم مقامه في الإنس.
وقال ابن يعيش: «ومن الاستثناء المنقطع قوله تعالى: وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى وبنو تميم يقرءونها بالرفع ويجعلون ابتغاء وجهه سبحانه نعمة لهم عنده» .(10/505)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
(93) سورة الضّحى مكيّة وآياتها إحدى عشرة
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
اللغة:
(سَجى) سكن وركد ظلامه وفي المختار: «وقد سجى الشيء من باب سما سكن ودام وقوله تعالى: والليل إذا سجى أي دام وسكن ومنه البحر الساجي وطرف ساج أي ساكن وسجّى الميت تسجية أي مدّ عليه ثوبا» قال الشاعر:
يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النسّاج
والساج أيضا: الطيلسان الأخضر وجمعه سيجان، وسيأتي مزيد منه(10/506)
في باب البلاغة.
(وَدَّعَكَ) قرأ العامة بتشديد الدال من التوديع وهو مبالغة في الودع لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك، روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أياما فقال المشركون: إن محمدا ودعه ربه وقلاه وقيل إن أم جميل امرأة أبي لهب قالت له:
يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت، وقرىء بالتخفيف من قولهم ودعه أي تركه. وقد اختلف في دع بمعنى اترك هل يتصرف فيأتي منه الماضي والمصدر واسم الفاعل واسم المفعول؟ قال الجوهري: أميت ماضيه وقال غيره: ربما جاء في الضرورة وهو المشهور ولكن حيث جاء في القرآن ما ودعك وفي الحديث «لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين» أي تركهم، وجاء اسم المفعول وغيره في الشعر فيجوز القول بقلة الاستعمال لا بالإماتة وقال الشاعر:
ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه
(قَلى) أبغض وفي المصباح: «قليته قليا وقلوته قلوا من بابي ضرب وقتل وهو الإنضاح في المقلى وهي مفعل بالكسر وقد يقال مقلاة بالهاء اللحم وغيره مقلى بالياء ومقلو بالواو والفاعل قلّاء بالتشديد لأنه صنعة كالعطّار والنجّار وقليت الرجل أقليه من باب رمى قلى بالكسر والقصر وقد يمدّ إذا أبغضته ومن باب تعب لغة» وفي حديث عن عائشة أن رجلا استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إيذنوا له فبئس رجل العشيرة فلما دخل ألان له القول فقالت عائشة: يا رسول الله قلت له الذي قلت فلما دخل ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن شرّ الناس منزلة يوم القيامة من ودعه الناس- أو تركه الناس- اتّقاء فحشه.
وقال ابن خالويه: «يقال قلاه يقلاه بفتح الماضي والمستقبل وليس في(10/507)
كلام العرب فعل بفتح الماضي والمستقبل فيه مما ليس فيه حرف من حروف الحلق إلا قلى يقلى وجبى يجبى وسلى يسلى وأبى يأبى وغسى يغسى وركن يركن عن الشيباني وأما قوله قلوب البسر والسويق فبالواو والمصدر القلو وأما القلو فالحمار» ولعل رواية الشيباني التي اعتمد عليها ابن خالويه مما انفرد به إذ لم يرد في جميع معاجم اللغة التي بأيدينا إلا ما أورده صاحب المصباح ونص عبارة التاج: على أن قليه في البغض كرضيه يرضاه وفي الحديث: «وجدت الناس أخبر تقله» بالهاء للسكت ولفظه لفظ الأمر ومعناه الناس أي من خبرهم أبغضهم والمعنى وجدت الناس مقولا فيهم هذا القول.
(فَآوى) قرأ العامة آوى بألف بعد الهمزة رباعيا من آواه يؤويه، وقرأ أبو الأشهب: فأوى ثلاثيا، وفي المصباح: «أوى إلى منزله يأوي من باب ضرب أويا أقام وربما عدّي بنفسه فقيل أوى منزله والمأوى بفتح الواو لكل حيوان مسكنه وآويت زيدا بالمدّ في التعدّي ومنهم من يجعله مما يستعمل لازما ومتعديا فيقول: أويته وزان ضربته ومنهم من يستعمل الرباعي لازما أيضا وردّه جماعة» .
(عائِلًا) فقيرا وهي قراءة العامة، يقال عال زيد من باب سار أي افتقر وأعال كثرت عياله وقرىء عيّلا بكسر الياء المشددة كسيّد وهذه المادة لها أصلان واوي ويائي، أما الواوي فقد قال في القاموس فيه:
عال أي جار ومال عن الحق والميزان نقص وجار أو زاد يعول ويعيل وأمرهم اشتد وتفاقم والشيء فلانا غلبه وثقل عليه وأهمّه والفريضة في الحساب زادت وارتفعت وعلتها أنا وأعلتها وعال فلان عولا وعيالة كثر عياله كأعول وأعيل وعياله عولا وعئولا وعيالة كفاهم ومانهم كأعالهم وعيّلهم وأعول رفع صوته بالبكاء والصياح كعوّل والاسم العول والعولة والعويل وعليه أدلّ وحمل كعوّل وفلان حرص كأعال وأعيل والقوس(10/508)
صوّتت وعيل عوله ثكلته أمه وصبري غلب فهو معول كعال فيهما وعيل ما هو عائله غلب ما هو غالبه يضرب لمن يعجب من كلامه ونحوه والعول كل ما عالك والمستعان به وقوت العيال وعوّل عليه معوّلا اتكل واعتمد والاسم كعنب وعيّلك ككيّس وكتاب من تتكفل بهم واويه يائية والجمع عالة» واستدرك شارحه فقال: «قال الصاغاني في التكملة:
العيال جمع عيّل كجياد جمع جيد وهو من يلزم الإنفاق عليه ويكون اسما للواحد كما ذكره الحريري في مقاماته وذكره المطرزي في شرحه» .
وأما اليائي فقال صاحب القاموس: «عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر فهو عائل والجمع عالة وعيّل وعيلى كسكرى والاسم العيلة والمعيل الأسد والنمر والذئب لأنه يعيل صيدا أي يلتمس وعالني الشيء عيلا ومعيلا أعوزني وفي مشيه تمايل واختال وتبختر كتعيّل» إلى آخر ما جاء في هذه المادة.
الإعراب:
(وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) الواو حرف قسم وجر والضحى مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والليل منسوق على الضحى وأجاز ابن هشام أن تكون الواو في والليل عاطفة أو قسمية قال «والصواب الأول وإلا لاحتاج كل إلى الجواب» وإذا ظرف لمجرد الظرفية متعلق بفعل القسم وقد تقدمت له نظائر وجملة سجى في محل جر بإضافة الظرف إليها وما حرف نفي وهو جواب القسم والجملة لا محل لها وودعك فعل ماض ومفعول به وربك فاعل، وما قلى عطف على ما ودعك (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) الواو عاطفة واللام لام الابتداء وهي مؤكدة لمضمون الجملة(10/509)
والآخرة مبتدأ وخير خير ولك متعلقان بخير ومن الأولى متعلقان بخير أيضا (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) الواو عاطفة واللام للابتداء وهي مؤكدة لمضمون الجملة أيضا وجملة سوف يعطيك خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنت وإنما لم تكن واو قسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد فتعين أن تكون الابتداء، ولام الابتداء لا تدخل إلا على الجملة المكوّنة من المبتدأ والخبر فتعين تقدير مبتدأ وأن يكون أصله ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى، ومن المفيد أن ننقل لك سؤالا للزمخشري وجوابه قال: «فإن قلت ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ قلت معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر لما في التأخير من المصلحة» وسوف حرف استقبال ويعطيك ربك فعل مضارع مرفوع ومفعول مقدّم وفاعل مؤخر والفاء عاطفة وترضى فعل مضارع معطوف على يعطيك. وقيل اللام للقسم وأنه إذا حصل فصل بين اللام والفعل امتنعت النون وثبتت لام القسم (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى) كلام مستأنف مسوق لتعداد أياديه ونعمه عليه والغرض من تعدادها تقوية قلبه صلّى الله عليه وسلم وتشجيعه على السير في طريقه التي اختارها الله وهي طريق محمودة العواقب سليمة المغاب. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجدك فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول ويتيما مفعول به ثان والفاء حرف عطف وآوى عطف على قوله ألم يجدك أي وجدك ويجوز أن يكون الوجود بمعنى المصادفة لا بمعنى العلم فتكون الكاف مفعولا به ويتيما تعرب حالا من المفعول به. وذلك أن أباه مات وهو جنين وقبل ولادته بشهرين وقيل بل بعد ولادته بشهرين وقيل بسبعة أشهر وقيل بتسعة وقيل بثمانية وعشرين شهرا والمشهور الأول، وتوفيت أمه وهو ابن أربع سنين وقيل خمس سنين وقيل ست(10/510)
سنين وقيل سبع سنين وقيل ثمان سنين وقيل تسع سنين وقيل اثنتي عشرة سنة وشهر وعشرة أيام، ومات جدّه وهو ابن ثمان وكان عبد المطلب قد وصّى أبا طالب به لأن عبد الله وأبا طالب من أم واحدة فكان أبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد جده إلى أن بعثه الله نبيا. ووجدك معطوف وضالا مفعول به ثان أو حال، وأحسن ما قيل في معنى الضلال هو خلوّه من الشريعة فهداه بإنزالها إليه فالمراد بضلاله كونه من غير شريعة وليس المراد به الانحراف عن الحق والتعسف في مهامه الضلال ويؤيد هذا المعنى قوله «ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان» وهناك أقوال كثيرة أربت على العد ضربنا صفحا عنها ويرجع إليها في المطولات، وسيأتي مزيد من معنى الضلال في باب البلاغة، ووجدك عائلا فأغنى منسوق على ما تقدم مماثل له في إعرابه، قال الفراء «لم يكن غناه عن كثرة المال ولكن الله تعالى أرضاه بما أعطاه وتلك حقيقة الغنى» . وفي الحديث «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» وقال صلّى الله عليه وسلم:
«جعل رزقي تحت ظل رمحي» (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) الفاء الفصيحة وأما حرف شرط وتفصيل واليتيم مفعول به مقدم لتقهر والفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتقهر فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت أي لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه وهذا تعليم سام أكده النبي بقوله: «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، ثم قال بإصبعيه: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) منسوق على ما قبله والأولى أن يكون السائل أعم من أن يسأل المال أو العلم ليوافق التفصيل التعديد ويطابقه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) منسوق أيضا وبنعمة متعلقان بحدّث والفاء غير مانعة لأنها بمثابة الزائدة والنعمة أعمّ من أن تشمل الدين والغنى والإيواء وما أفاء عليه من الغنائم وأتاح له من النصر والتحدّث بها(10/511)
مندوب إليه لحفز الهمم ودفع النفوس إلى التأسّي والاقتداء، وما أجمل ما يروى عنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله جميل يحب الجمال» ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده، وروي أن شخصا كان جالسا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فرآه رثّ الثياب فقال له صلّى الله عليه وسلم: ألك مال؟ قال: نعم فقال له صلّى الله عليه وسلم: «إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك» وفي الحديث أيضا «إن رجلا سأله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعمل البرّ وأخفيه عن المخلوقين ثم يطلع عليه فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال: لك في ذلك أجران أجر السر وأجر العلانية» .
البلاغة:
1- في قوله: «والليل إذا سجى» مجاز عقلي حيث أسند السكون إلى الليل، وقد تقدم في المجاز العقلي أنه إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له لعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، ومن روائعه قول أبي الطيب في مديح كافور:
أبا المسك أرجو منك نصرا على العدا ... وآمل عزا يخضب البيض بالدم
ويوما يغيظ الحاسدين وحالة ... أقيم الشقا فيها مقام التنعم
فإسناد خضب السيوف بالدم إلى ضمير العز غير حقيقي لأن العز لا يخضب السيوف ولكنه سبب القوة وجمع الأبطال الذين يخضبون السيوف بالدم ففي العبارة مجاز عقلي علاقته السببية وفي الآية إسناد السجو إلى ضمير الليل غير حقيقي وإنما المراد أصحابه فهم الذين يسكنون.
2- وفي قوله «وجدك ضالا فهدى» استعارة تصريحية شبّه الشريعة بالهدى وعدم وجودها بالضلال وحذف المشبه وأبقى المشبه به(10/512)
وهو الضلال من ضلّ في طريقه إذا سلك طريقا غير موصلة لمقصده والمقصد هنا العلوم النافعة التي تسمو بالعقل والروح معا.
3- وفي قوله «فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر» فن الالتزام أو لزوم ما لا يلزم فقد لزمت الهاء قبل الراء، وفي هاتين الفاصلتين مع الالتزام تنكيت عجيب فإنه يقال: هل يجوز التبديل في القرينتين فتأتي كل واحدة مكان أختها؟ فيقال لا يجوز ذلك لأن النكتة في ترجيح مجيئهما على ما جاءتا عليه أن اليتيم مأمور بأدبه وأقل ما يؤدب به الانتهار فلا يجوز أن ينهى عن انتهاره وإنما الذي ينهى عنه قهره وغلبته لانكساره باليتم وعدم ناصره فمن هاهنا ترجح مجيء كل قرينة على ما جاءت عليه ولم يجز التبديل. وأدرجه بعضهم في باب التخيير من فنون البلاغة وقد تقدمت الإشارة إليه.
4- وفي قوله «ولسوف يعطيك ربك فترضى» فن الحذف، فقد حذف مفعول يعطيك الثاني تهويلا لأمره واستعظاما لشأنه، وإن هذه المعطيات أجلّ من أن تذكر، وأكبر من أن تدرج أي الشيء الكثير من توارد الوحي عليك بما فيه إرشاد لك ولقومك ومن ظهور دينك وعلو كلمتك وإسعاد قومك بما تشرع لهم وإعلائك وإعلائهم على الأمم في الدنيا والآخرة.(10/513)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
(94) سورة الشّرح مكيّة وآياتها ثمان
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
اللغة:
(وِزْرَكَ) الوزر الذنب أو الحمل الثقيل وقد تقدم شرح هذه المادة.
(أَنْقَضَ) أثقل، وفي المختار: «وأصل الإنقاض صوت مثل النقر» وقال أبو حيان: «وقال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمعت له صريرا من شدّة الحمل وسمعت نقيض المرجل أي صريره، قال عباس بن مرداس:
وانقض ظهري ما تطويت منهم ... وكنت عليهم مشفقا متحننا
وقال جميل:(10/514)
وحتى تداعت بالنقيض حباله ... وهمت بوأي زورة أن تحطما»
والنقيض صوت الانقضاض والانفكاك.
وعبارة ابن خالويه: «والمصدر أنقض ينقض إنقاضا فهو منقض ومعناه أثقل ظهرك، والعرب تقول: أنقضت الفراريج إذا صوّتت، قال ذو الرمة:
كأن أصوات من إيغالهنّ بنا ... أواخر الميس إنقاض الفراريج
والنّقض الجمل المهزول وجمعه أنقاض» .
والميس شجر تتخذ منه الرحال والمراد به هنا الرحال، وقد فصل ذو الرمة بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور.
(فَانْصَبْ) فاتعب في الدعاء وفي المختار «ونصب تعب وبابه طرب» وفيه أيضا «فرغ من الشغل من باب دخل وفراغا أيضا» وفيه أيضا: «رغب فيه أراده وبابه طرب ورغبة أيضا وارتغب فيه مثله ورغب عنه لم يرده ويقال: رغبه فيه ترغيبا وأرغبه فيه أيضا» .
الإعراب:
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الهمزة للاستفهام التقريري أي شرحنا ولذلك عطف عليه الماضي قال الراغب: «أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرّحته ومنه شرح الصدر وهو بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه» ونشرح فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بشرح وصدرك مفعول به، قال ابن خالويه: «وهذه السورة أيضا مما عدّد الله تعالى نعمه على نبيّه صلّى الله عليه وسلم وذكره إياها فلما(10/515)
أنزل الله تبارك وتعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام» قال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله أو يشرح الصدر؟ قال: نعم بنور يدخله الله فيه قال: وما أمارة ذلك يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار القرار والاستعداد للموت قبل الفوت» وجاء في الحديث: «اذكروا الموت فإنكم لا تكونون في كثير إلا قلة ولا في قليل إلا كثرة» والمصدر شرح يشرح شرحا فهو شارح والمفعول به مشروح ويقال «شرح الرجل الجارية إذا افتضّها» ولك متعلقان بنشرح وصدرك مفعول به ووضعنا معطوف على ألم نشرح وعنك متعلقان بوضعنا ووزرك مفعول به والذي نعت للوزر وجملة أنقض لا محل لها لأنها صلة الذي وظهرك مفعول به، قال ابن خالويه: «يقال الظهر والمطا والجوز والمتن والمتنة والقرا كله الظهر قال عقبة بن سابق:
ومتنتان خظاتان ... كزحلوق من الهضب
ويقال للحم المتن الذّنوب ويقال لأسفل الظهر القطاة ويقال: إن فلانا من حمقه ورطاته، لا يعرف لطاته من قطاته، اللطاة الجبهة والقطاة أسفل الظهر» (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) عطف على ما تقدم ولك متعلقان برفعنا وذكرك مفعول به، وفي تقديم الجار والمجرور هنا وفيما تقدم على المفعول به الصريح مع أن حقه التأخر عنه لتعجيل المسرّة والتشويق، وعبارة ابن خالويه جميلة حيث يقول: «وكان مشركو العرب يقولون: إن محمدا صنبور أي فرد لا ولد له فإذا مات انقطع ذكره فقال الله تعالى: إن شانئك هو الأبتر أي مبغضك هو الأبتر الذي لا ولد له ولا ذكر فأما أنت يا محمد فذكرك مقرون بذكري إلى يوم القيامة إذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن محمدا رسول الله» (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) الفاء عاطفة على كلام محذوف لا بدّ من تقديره والتقدير خوّلناك ما خوّلناك فلا يخامرك اليأس فإن مع العسر(10/516)
يسرا، وإن حرف مشبه بالفعل ومع العسر ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدّم ويسرا اسمها المؤخر وقرن اليسر مع العسر زيادة في التسلية وتقوية القلب، وإن مع العسر يسرا جملة مستأنفة لتقرير أن العسر متبوع بيسر والألف واللام في العسر لتعريف الجنس وفي الثاني للعهد ولذلك روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: «لن يغلب عسر يسرين» والسبب فيه أن العرب إذا أتت باسم ثم أعادته مع الألف واللام كان هو الأول نحو جاء رجل فأكرمت الرجل وكقوله تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ولو أعدته بغير ألف ولام كان غير الأول فقوله إن مع العسر يسرا لما أعاد العسر الثاني أعاده بالألف واللام ولما كان اليسر الثاني غير الأول لم يعدو بالألف واللام. وعبارة الزمخشري: «فإن قلت ما معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما لن يغلب عسر يسرين وقد روي مرفوعا أنه خرج صلّى الله عليه وسلم ذات يوم وهو يضحك ويقول لن يغلب عسر يسرين؟ قلت هذا حمل على الظاهر وبناء على قوة الرجاء وإن موعد الله لا يحمل إلا على أو في ما يحتمله اللفظ وأبلغه والقول فيه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر قوله ويل يومئذ للمكذبين لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب وكما يكرر المفرد في قولك جاءني زيد زيد، وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردوف بيسر لا محالة والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو لأن حكمه حكم زيد في قولك إن مع زيد مالا إن مع زيد مالا وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا وأما اليسر فنكرة متناولة بعض الجنس وإذا كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأول بغير إشكال فإن قلت: فما المراد باليسرين؟ قلت يجوز أن يراد بهما ما تيسر لهم من(10/517)
الفتوح في أيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما تيسر لهم في أيام الخلفاء وأن يراد يسر الدنيا ويسر الآخرة كقوله تعالى: قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين وهما حسنى الظفر وحسنى الثواب فإن قلت ما معنى هذا التنكير؟ قلت التفخيم كأنه قيل: إن مع العسر يسرا عظيما» .
وقال أبو البقاء: «العسر في الموضعين واحد لأن الألف واللام توجب تكرير الأول وأما يسرا في الموضعين فاثنان لأن النكرة إذا أريد تكريرها جيء بضميرها أو بالألف واللام ومن هنا قيل لن يغلب عسر يسرين» .
وعبارة ابن خالويه: «قال ابن عباس: لا يغلب عسر يسرين تفسير ذلك أن في ألم نشرح عسرا واحدا ويسرين وإن كان مكررا في اللفظ لأن العسر الثاني هو العسر الأول واليسر الثاني غير الأول لأنه نكرة والنكرة إذا أعيدت أعيدت بألف ولام كقولك جاءني رجل فأكرمت الرجل فلما ذكر اليسر مرتين ولم يدخل في الثاني ألفا ولاما علم أن الثاني غير الأول» . وقال ابن هشام في كتابه الممتع مغني اللبيب في الباب السادس من الكتاب في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها «الرابع عشر قولهم إن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى وإذا أعيدت معرفة أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كان الثاني عين الأولى، وحملوا على ذلك ما روي: لن يغلب عسر يسرين، قال الزجاج: ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره فصار المعنى إن مع العسر يسرين. ويشهد للصورتين الأوليين أنك تقول: اشتريت فرسا ثم بعت فرسا فيكون الثاني غير الأول ولو قلت: ثم بعت الفرس لكان الثاني عين الأول وللرابع قول الحماسي:
صفحنا عن بني ذهل ... وقلنا القوم إخوان
عسى الأيام أن يرجعن ... قوما كالذي كانوا
ويشكل على ذلك أمور ثلاثة: أحدها أن الظاهر في آية ألم نشرح أن الجملة الثانية تكرار للأولى كما تقول: إن لزيد دارا إن لزيد دارا(10/518)
وعلى هذا فالثانية عين الأولى والثاني: أن ابن مسعود قال: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، إنه لن يغلب عسر يسرين، مع أن الآية في قراءته وفي مصحفه مرة واحدة فدل على ما ادّعينا من التأكيد وعلى أنه لم يستفد تكرر اليسر من تكرره بل هو من غير ذلك كأن يكون فهمه مما في التنكير من التفخيم فتأوله بيسر الدارين، والثالث: أن في التنزيل آيات تردّ هذه الأحكام الأربعة فيشكل على الأول قوله تعالى: الله الذي خلقكم من ضعف. الآية، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، والله إله واحد سبحانه وعلى الثاني قوله تعالى: فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير، فالصلح الأول خاص وهو الصلح بين الزوجين والثاني عام ولهذا يستدل بها على استحباب كل صلح جائز ومثله زدناهم عذابا فوق العذاب، والشيء لا يكون فوق نفسه.... وعلى الرابع: يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم مائدة من السماء وقوله: «إذا الناس ناس والزمان زمان» فإن الثاني لو ساوى الأول في مفهومه لم يكن في الإخبار عنه فائدة وإنما هذا من باب قوله: «أنا أبو النجم وشعري شعري» أي وشعري لم يتغير عن حالته، فإن ادعي أن القاعدة فيهنّ إنما هي مستمرة مع عدم القرينة فأما إن وجدت قرينة فالتعويل عليها سهل» ثم أورد ابن هشام كلمة الزمخشري المذكورة آنفا. وقال التفتازاني في التلويح: «واعلم أن المراد أن هذا هو الأصل عند الإطلاق وخلو المقام عن القرينة وإلا فقد تعاد النكرة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية، الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا، وشيبة يعني قوة الشباب ومنه باب التأكيد اللفظي، وقد تعاد النكرة معرفة مع المغايرة كقوله تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك، ثم قال أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين(10/519)
من قبلنا وقد تعاد المعرفة نكرة مع عدم المغايرة كقوله تعالى: إنما إلهكم إله واحد ومثله في الكلام كثير كقولهم العلم علم كذا ودخلت الدار فرأيت دار كذا وكذا ومنه بيت الحماسي» . وبعد أن أوردنا أقوال الأئمة في هذه المسألة نلخصها لك تلخيصا مفيدا فنقول: 1- إن الاسم إذا كرر مرتين فإن كانا نكرتين فالثاني غير الأول. 2- أو معرفتين أو الثاني فقط فهو عينه. 3- أو الأول معرفة والثاني نكرة ففيه قولان:
فالأول والثاني كالعسر واليسر في قوله تعالى «فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا» والثالث نحو فيها «مصباح المصباح» والرابع كقوله: صفحنا عن بني ذهل «البيتين» . وهذه القاعدة أغلبية كما دلّت عليه كلمات الأئمة الواردة آنفا. على أن ابن السبكي جلا هذا الإشكال بعبارة وقعت علينا وقوع الظمآن على القطر وهذا نصها: «الظاهر أن هذه القاعدة غير محررة لانتقاضها بأمثلة كثيرة منها في المعرفتين: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان» فإن الأول العمل والثاني الثواب وفي تعريف الثاني وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني» فإن المراد بالثاني عموم الظن دون الأول وفي النكرتين «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير» فإن الثاني هو الأول» . وبعد أن كتبنا ما تقدم وكدنا نقنع بحل ابن السبكي عنّ لنا تعليق على هذه الاعتراضات وهو: الظاهر أن هذه الآيات لا تخرج عن القاعدة عند التأمّل بها فإن اللام في الإحسان فيما يبدو للجنس لا للعهد كما قال ابن السبكي وحينئذ يكون في المعنى كالنكرة بخلاف آية العسر فإن أل فيها إما لمعهود ذهني وهو ما حصل له صلّى الله عليه وسلم وللمسلمين من الشدة من الكفار أو للاستغراق كما يفيده الحديث وقد تقدم ذلك وكذا آية الظن لا نسلم فيها بأن الثاني غير الأول بل هو عين الأول قطعا إذ ليس كل ظن مذموما كيف وأحكام الشريعة ظنية وكذا آية الصلح لا مانع من أن يكون المراد بها الصلح المذكور وهو الذي بين الزوجين واستحسان الصلح في جميع الأمور(10/520)
لا يكون مأخوذا من السنّة أو من الآية بطريق القياس بل لا يجوز القول بعموم الآية وإن كل صلح خير لأن ما أحلّ حراما من الصلح أو حرّم حلالا فهو ممنوع وكذا آية القتال ليس الثاني فيها عين الأول بلا شك لأن المراد بالقتال المسئول عنه هو القتال الذي وقع في سرية ابن الحضرمي سنة اثنتين من الهجرة لأنه سبب نزول الآية والمراد بالثاني جنس القتال لا ذاك القتال بعينه فتأمل هذا وخرج ما أشكل عليك. فإن قلت: فما تصنع بآية «وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله» ألا تراك قد أغفلت الكلام عليها؟ قلت: قال ابن السبكي نفسه: إن قوله إله في الآية بمعنى معبود والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة فأنت إذا قلت: زيد ضارب عمرا وضارب بكرا لا يتخيل أن الثاني هو الأول وإن أخبر بهما عن ذات واحدة فإن المذكور بالحقيقة إنما هو الضربان لا الضاربان ولا شك في أن الضربين مختلفان، ونستنتج من هنا أن النكرتين في الآية لم يقصد منهما سوى الصفة وهي العبادة ولا شك في أن العبادتين متغايرتان فالنكرة الثانية غير الأولى باعتبار المقصود وإن وقعتا على ذات واحدة فلم تخرج الآية أيضا عن القاعدة (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) الفاء عاطفة على مقدّر يستحقه المقام ولك أن تجعلها استئنافية كأنها جواب لسؤال نشأ وهو ماذا بعد الشكر والعبادة والاجتهاد فيهما فقال فإذا فرغت أي من الصلاة وغيرها من أنواع العبادات وعن الحسن فإذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة ولكن هذا يتعارض مع كون السورة مكية والأمر بالجهاد إنما كان بعد الهجرة فلعله تفسير ابن عباس الذاهب إلى أن السورة مدنيّة، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة فرغت في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاء رابطة وانصب فعل أمر وفاعل مستتر والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم(10/521)
وإلى ربك متعلقان بارغب ولا تمنع الفاء من ذلك وارغب فعل أمر والجملة عطف على ما قبلها.
البلاغة:
في قوله تعالى: «ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك» استعارة تمثيلية المراد منها عصمته صلّى الله عليه وسلم من الوزر حيث لا وزر، فشبّه حاله وهو ينوء تحت ما يتخيله وزرا وليس بوزر بحال من آداه الحمل الثقيل وبرح به الجهد والحر اللافح فهو يمشي مجهودا مكدورا يكاد يسقط من ثقل ما ينوء بحمله فوضع الوزر كناية عن عصمته وتطهيره صلّى الله عليه وسلم من دنس الأوزار، ونقول في إجراء هذه الاستعارة شبّه حاله بحال من آده الحمل وكلله العرق وبرح به الجهد حتى إذا انحطّ عنه الحمل تنفس الصعداء وانزاحت عنه الكروب والأهوال بجامع أن كلا منهما مجهود مكروب مما يحمل يتبرم به ويتذمر منه ويربو أن ينحطّ عن كاهله ثم استعير التركيب الدال على حال المشبّه به للمشبه على سبيل الاستعارة التمثيلية والقرينة حالية.(10/522)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
(95) سورة التّين مكيّة وآياتها ثمان
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
الإعراب:
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) الواو حرف قسم وجر والتين مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف والزيتون نسق أيضا وطور سينين نسق أيضا وقد تقدم القول فيه ونقول هنا أن الطور وهو الجبل أضيف إلى سينين وهي البقعة المباركة فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ويجوز أن يعرف إعراب جمع المذكر السالم ويجوز أن تلزمه الياء في جميع الأحوال وتحرّك النون بحركات الإعراب ولم ينصرف سينين كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسما للبقعة(10/523)
أو الأرض فهو علم أعجمي ولو جعل اسما للمكان أو المنزل لانصرف لأنك سمّيت به مذكرا وقرأ عمر بن الخطاب وعبيد الله والحسن وطلحة سيناء بالكسر والمد وعمر أيضا وزيد بن علي بفتحها والمدّ وقد ذكر في سورة «المؤمنون» وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية، هذا وقد أقسم الله تعالى بالتين والزيتون لأنهما عجيبان من بين أصناف الأشجار المثمرة وفي الكشاف «أنه أهدي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبا واستاك به وقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيّب الفم ويذهب بالحفرة» وقال الجاحظ في كتاب الحيوان: «والتين والزيتون دمشق وفلسطين» والخلاف حول ذلك كثير وإن أردت المزيد فارجع إلى المطولات (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) نسق على ما قبله والبلد بدل من اسم الإشارة والأمين نعت والمراد به مكة سمّيت أمينا لأن من دخلها كان آمنا قبل الإسلام، أما سمعت قوله تعالى «أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم» فأما في الإسلام فمن أصاب حدّا ثم أوى إلى الحرم يقام عليه الحدّ إن كان من أهله وإن لم يكن من أهله لم يشار ولم يبايع وضيّق عليه حتى يخرج من الحرم ثم يقام عليه الحدّ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) اللام جواب القسم وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وفي أحسن متعلقان بمحذوف حال من الإنسان وتقويم مضاف إليه، وعبارة الزمخشري في هذا الصدد طريفة جدا وهي من الإنشاء العالي لذلك اقتبسناها: «في أحسن تقويم: في أحسن تعديل لشكله وصورته وتسوية لأعضائه ثم كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك(10/524)
الخلقة الحسنة القويمة السوية أن رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا يعني أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب النار أو أسفل من سفل من أهل الدركات أو ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل حيث نكسناه في خلقه فتقوّس ظهره بعد اعتداله وابيضّ شعره بعد سواده وتشنّن جلده وكان بضّا وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين وتغير منه كل شيء فمشيه دليف وصوته خفات وقوته ضعف وشهامته خرف» ومن العجيب أن يقول أبو حيان: «وقد أخذ الزمخشري أقوال السلف وحسنها ببلاغته وانتقاء ألفاظه» وبعد أن يورد عبارته بنصها يقول: «وهذا فيه تكثير» (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ورددناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وأسفل سافلين حال من المفعول واختار آخرون أن يكون صفة لمكان محذوف أي مكانا أسفل سافلين فهو ظرف مكان ولا أدري لم غاب عن بال المعربين أنه مفعول ثان لرددناه لأن ردّ تنصب مفعولين قال تعالى: «لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّار حسدا» فالكاف والميم مفعول أول وكفّارا مفعول ثان وحسدا مفعول لأجله لا سيما وقد استوفت شرطها في نصب المفعولين وهو أن تكون بمعنى رجع قال:
فردّ شعورهنّ السود بيضا ... وردّ شعورهنّ البيض سودا
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) إلا أداة استثناء والذين في محل نصب على الاستثناء المتصل إذا اعتبرنا المعنى الأول الذي أورده الزمخشري أو على الاستثناء المنقطع إذا اعتبرنا المعنى الثاني وعندئذ تكون إلا بمعنى لكن والذين مبتدأ خبره جملة فلهم أجر، وجملة آمنوا لا محل لها لأنها صلة الذين وعملوا الصالحات عطف على الصلة داخل في حيّزها والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط ولهم خبر مقدّم وأجر مبتدأ مؤخر وغير ممنون نعت لأجر(10/525)
أي غير مقطوع (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) الفاء الفصيحة أي إن علمت هذا أيها الإنسان فما يكذبك، وما اسم استفهام إنكاري في محل رفع مبتدأ وجملة يكذبك خبر، وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة، وبعد ظرف مبني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى أي بعد هذه العبر والعظات وظهور هذه الدلائل الدالة على وجوب الإيمان ويجوز أن يكون الخطاب للنبي فتكون ما بمعنى من والمعنى فمن يكذبك أيها الرسول بما جئت به، والهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص والله اسمها والباء حرف جر زائد وأحكم الحاكمين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس.
البلاغة:
في قوله: «فما يكذبك بعد بالدين» التفات من الغيبة إلى الخطاب لما سبق من قوله لقد خلقنا الإنسان والسرّ فيه تشديد الإنكار على الإنسان بمشافهته بالخطاب كأنه قيل له: فأيّ شيء يضطرك إلى أن تكون كاذبا بعد هذه الدلائل بسبب تكذيب الجزاء.(10/526)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
(96) سورة العلق مكيّة وآياتها تسع عشرة
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)(10/527)
اللغة:
(العلق) : الدم وهو اسم جنس جمعي وأطلق المفسرون عليه الجمع إما تسمحا وهو جمع لغوي وفي المصباح: «والعلق المني فينتقل طورا بعد طور فيصير دما غليظا متجمدا ثم ينتقل طورا آخر فيصير لحما وهو المضغة» وعبارة القاموس «العلق محركة الدم عامة أو الشديد الحمرة أو الغليظ أو الجامد القطعة منه بهاء وكل ما علق والطين الذي يعلق باليد والخصومة والمحبة اللازمتان وذو علق جبل لبني أسد لهم فيه يوم على ربيعة بن مالك ودويبة في الماء تمتص الدم» إلى آخر ما جاء في هذه المادة المطوّلة.
(لَنَسْفَعاً) السفع: الأخذ والقبض على الشيء وجذبه بشدة وفي المختار: «سفع بناصيته أي أخذ ومنه قوله تعالى: لنسفعا بالناصية وسفعته النار والسموم إذا لفحته لفحا يسيرا فغيرت لون البشرة وبابهما قطع» .
(الزَّبانِيَةَ) : الملائكة الغلاظ الشداد واحدها زبنية بكسر أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه وتخفيف الياء من الزبن وهو الدفع أو زبني على النسب وأصله زباني بتشديد الواو فالتاء عوض عن الواو وفي المختار «وأحد الزبانية زبان أو زابان قال الأخفش واحدهم زباني وقال بعضهم زابي وقال بعضهم زبنية مثل عفرية» وفي القاموس: «والزبنية كهبرية متمرد الجن والإنس والشديد والشرطي والجمع زبانية أو واحدها زبّني» .
الإعراب:
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) اقرأ فعل(10/528)
أمر مبني على السكون وفاعله مستتر تقديره أنت وباسم متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل أي مفتتحا، وأعربها ابن خالويه زائدة تابعا في ذلك لأبي عبيدة قال: الباء زائدة والمعنى اقرأ اسم ربك كما قال سبّح اسم ربك وأنشد: «سود المحاجر لا يقرأن بالسور» والمعنى على زيادة الباء أي لا يقرأن السور، وقد تقدم بحث زيادة الباء وعبارة أبي البقاء «قوله تعالى باسم ربك قيل الباء زائدة كقول الشاعر: «سود المحاجر لا يقرأن بالسور» وقيل دخلت لتنبّه على البداية باسمه في كل شيء كما قال تعالى بسم الله الرحمن الرحيم فعلى هذا يجوز أن يكون حالا أي مبتدئا باسم ربك. والذي نعت للرب وهو في محل جر وجملة خلق لا محل لها لأنها صلة الذي والضمير فيه يعود على الذي وخلق الإنسان بدل منه ويجوز أن يكون تأكيدا لفظيا فيكون قد أكد الصلة وحدها والإنسان مفعول به ومن علق متعلقان بخلق (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) اقرأ فعل أمر تأكيد لاقرأ الأول والواو استئنافية ويجوز أن تكون للحال وربك مبتدأ والأكرم خبره وهذا ما رأيناه وأعربها ابن خالويه نعتا فتكون جملة علّم الإنسان هي الخبر، والأول أولى، والذي خبر ثان وأعربها ابن خالويه نعتا ثانيا ولسنا نرى هذا الرأي، وجملة علّم صلة وفاعل علم مستتر يعود على الله ومفعولاه محذوفان أي علّم الإنسان الحظ بالقلم وبالقلم متعلقان بعلم والواقع أنها متعلقة بالخط (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) جملة علّم الإنسان تأكيد لعلم الأولى أو بدل أو خبر كما تقدم والإنسان مفعول به أول وما اسم موصول مفعول به ثان وجملة لم يعلم صلة ما والعائد محذوف أي لم يعلمه (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) كلا ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله عليه بطغيانه وإن واسمها واللام المزحلقة وجملة يطغى خبر إن ولا أدري لم تهرب المعربون من الردع وهو أوضح من كل ما قدّروه وإليه ذهب الزمخشري أما الجلال فإنه تبع الكسائي فجعلها بمعنى حقا قال الكرخي «قوله- أي الجلال-(10/529)
حقا هو مذهب الكسائي ومن تبعه لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يكون كلا ردا له كما قالوا: كلا والقمر فإنهم قالوا معناه إي والقمر ومذهب أبي حيان أنها بمعنى ألا الاستفتاحية وصوّبه ابن هشام لكسر همزة إن بعدها أي لكونه مظنة جملة كما بعد حرف التنبيه نحو ألا إنهم هم المفسدون ولو كانت بمعنى حقا لما كسرت إن بعدها لكونها مظنة مفرد، أما الكواشي فأجاز في كلا أن تكون تنبيها فيقف على ما قبلها وردعا فيقف عليها، أما ابن خالويه فقد لفّق تلفيقا عجيبا مضحكا قال:
«كلا يبتدأ به هاهنا لأنه بمعنى نعم حقا وليس ردا» وهذا كلام لا مفهوم له، والحق أن كلا حرف ردع وزجر كما قال سيبويه وقال الزجّاج كلا ردع وتنبيه وذلك قولك كلا لمن قال لك شيئا تنكره نحو فلان يبغضك وشبّهه أي ارتدع عن هذا وتنبه عن الخطأ فيه قال الله تعالى بعد قوله:
ربي أهانن كلا أي ليس الأمر كذلك لأنه قد يوسع في الدنيا على من لا يكرمه من الكفار وقد يضيق على الأنبياء والصالحين للاستصلاح (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أن حرف مصدري ونصب وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مفعول لأجله ورآه فعل ماض والفاعل هو والهاء مفعول به أول وجملة استغنى مفعول به ثان والهاء تعود على الإنسان ومعناه أن رأى نفسه، وعبارة ابن خالويه جيدة قال: فإن قيل لك: فهل يجوز أن تقول زيد ضربه والهاء لزيد؟ فقل ذلك غير جائز إنما الصواب ضرب زيد نفسه لأن الفاعل بالكلية لا يكون مفعولا بالكلية وإنما جاز ذلك في أن رآه لأنه من أفعال الشك والعلم نحو ظننتني فإذا ثنّيت هذا الحرف قلت إن الإنسانين ليطغيان أن رأياهما استغنيا وكلا إن الأناسي ليطغون أن رأوهم استغنوا وتقول للمرأة إذا خاطبتها كلا إنك لتطغين أن رأيتك استغنيت وكلا إنكما لتطغيان أن رأيتما كما استغنيتما وكلا إنكنّ لتطغين أن رأيتنّكنّ استغنيتنّ» (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى)
كلام مستأنف مسوق لمخاطبة الإنسان الطاغي بطريق الالتفات وإن حرف مشبه بالفعل وإلى(10/530)
ربك خبر إنّ المقدم والرجعى اسمها المؤخر (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم فقيل نعم فقال واللات والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته ولأعفرنّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبه ويتقي بيديه فقيل له ما لك؟ قال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا. أرأيت: تقدم القول أنها إذا كانت بمعنى أخبرني كما هنا فإنها تتعدى إلى مفعولين ثانيهما جملة استفهامية وقد تقدم هذا غير مرة وهنا قد ذكرت ثلاث مرات وقد صرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها ومفعولها الأول محذوف وهو ضمير يعود على الذي ينهى عبدا الواقع مفعولا أول لأرأيت الأولى وأما أرأيت الأولى فمفعولها الأول الذي ومفعولها الثاني محذوف وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد أرأيت الثالثة وأما أرأيت الثانية فلم يذكر لها مفعول لا أول ولا ثان فحذف الأول لدلالة المفعول الأول من أرأيت الأولى عليه وحذف الثاني لدلالة مفعول أرأيت الثالثة فقد حذف الثاني من أرأيت الأولى والأول من الثالثة والاثنان من الثالثة وليس ذلك من باب التنازع لأن التنازع يستدعي إضمارا والجمل لا تضمر إنما تضمر المفردات وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة وجملة ينهى صلة لا محل لها وعبدا مفعول ينهى وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن لمجرد الظرفية متعلق بنهي (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أرأيت الهمزة للاستفهام ورأيت فعل وفاعل ومعناه أخبرني وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص وهو في محل جزم فعل الشرط وسيأتي الكلام على الجواب واسمها مستتر تقديره هو وعلى الهدى خبره وأو حرف عطف وأمر فعل ماض وفاعله هو عطف على كان على الهدى وبالتقوى(10/531)
متعلقان بأمر (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى) أرأيت:
أخبرني، وإن شرطية وكذب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وتولى عطف على كذب وسيأتي الكلام على الجواب أيضا، والهمزة للاستفهام للتقرير والتعجب ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلم فعل مضارع مجزوم بلم والباء حرف جر زائد وأن واسمها وجملة يرى خبرها وأن وما بعدها سدّت مسدّ مفعولي يعلم، أما جواب الشرط الذي في حيز الثانية والثالثة فمحذوف يدل عليه الجملة الاستفهامية والتقدير إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أفلم يعلم ذلك الناهي بأن الله يرى وتقديره في الثالثة إن كذب وتولى أفلم يعلم بأن الله يرى أي على تقدير الفاء. ونحا الزمخشري في إعراب هذه الآيات نحوا آخر ننقله لك لننقل بعده ردّ أبي حيان فترى كيف يشتجر الخلاف حول الإعراب وفي ذلك مصقلة للعقل ومجلاة له وملخص إعراب الزمخشري: إن أرأيت الأولى مفعولها الموصول وإن الثانية زائدة مكررة لتوكيد الأولى وإن المفعول الثاني للأولى هو جملة الشرط الذي في حيّز الثانية مع جوابه المحذوف الذي يقدّر جملة استفهامية وهي التي صرح بها في حيّز الثالثة وإن مفعول الثالثة الأول محذوف تقديره أرأيته وجملة الشرط الذي بعدها وجوابه وهو جملة الاستفهام المصرّح بها سادّة مسدّ المفعول الثاني، وقال في تقرير هذا الإعراب: «فإن قلت كيف صحّ أن يكون ألم يعلم جوابا للشرط قلت كما صحّ في قولك: إن أكرمتك أتكرمني وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه؟» . وسخر أبو حيان من هذا الإعراب وقال: «وما قرره الزمخشري هنا ليس بجار على ما قررناه فمن ذلك أنه ادّعى أن جملة الشرط في موضع المفعول الواحد والموصول هو الآخر وعندنا أن المفعول الثاني لا يكون إلا جملة استفهامية كقوله:
أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب، أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال: لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب، أفرأيتم ما تمنون(10/532)
أأنتم تخلقونه، وهو كثير في القرآن فتخريج هذه الآية على ذلك القانون، ويجعل مفعول أرأيت الأولى هو الموصول وجاء بعده أرأيت وهي تطلب مفعولين وأ رأيت الثانية كذلك فمفعول أرأيت الثانية والثالثة محذوف يعود على الذي ينهى فيهما أو على عبدا في الثانية وعلى الذي ينهى في الثالثة على الاختلاف السابق في عود الضمير، والجملة الاستفهامية توالى عليها ثلاثة طوالب فنقول حذف المفعول الثاني لأرأيت وهو جملة الاستفهام الدّال عليه الاستفهام المتأخر لدلالته وحذف مفعول أرأيت الأخير لدلالة مفعول أرأيت الأولى عليه وحذفا معا لأرأيت الثانية لدلالة الأولى على مفعولها ولدلالة الآخر لأرأيت الثالثة على مفعولها الآخر، وهؤلاء الطوالب ليس على طريق التنازع لأن الجمل لا يصحّ إضمارها فإنما ذلك من باب الحذف في غير التنازع، وأما تجويز الزمخشري وقوع جملة الاستفهام جوابا للشرط بغير فاء فلا أعلم أحدا أجازه بل نصّوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة شعر» أما ابن خالويه فقد كان إعرابه مضحكا للغاية لأنه نسي أو تناسى أن هنالك مفاعيل محذوفة أو جوابا للشرط واكتفى باللفظ الظاهر وما أبعد هذا عن الإعراب لا سيما في مثل هذه الآيات (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) كلا ردع وزجر لأبي جهل واللام موطئة للقسم لأنها داخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط ومن ثم تسمى اللام المؤذنة أو الموطئة لأنها وطأت الجواب للقسم أي مهّدته له وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وينته فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ولنسفعا اللام جواب القسم جريا على القاعدة المقررة من اجتماع قسم وشرط ونسفعا فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة وكتبت بالألف في المصحف على حكم الوقف والفاعل مستتر تقديره(10/533)
نحن وبالناصية متعلقان بنسفعا وناصية بدل من الناصية وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت والبصريون لا يشترطون في البدل المطابقة وقرىء بالرفع على تقدير هي وبالنصب على الذم وكاذبة وخاطئة نعتان، وسيأتي معنى وصفها بالكذب والخطأ في باب البلاغة (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) الفاء الفصيحة أي إن استمر في غلوائه وإن أصرّ على المعاندة والمكابرة فليدع، واللام لام الأمر ويدع فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة الجزم حذف الواو والفاعل مستتر تقديره هو، وسيأتي معنى دعوة النادي في باب البلاغة، والسين حرف استقبال وندعو فعل مضارع مرفوع، وقد أسقطت الواو من المصحف في كل واو ساكنة استقبلتها اللام الساكنة، والزبانية مفعول به وكلا تأكيد للردع والزجر لأبي جهل ولا ناهية وتطعه فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به واسجد فعل أمر واقترب عطف على واسجد.
البلاغة:
1- في قوله: «ناصية كاذبة خاطئة» مجاز عقلي فقد وصف الناصية بالكذب والخطأ والحقيقة صاحبها وذلك أبلغ من أن يضاف فيقال ناصية كاذب خاطى لأنها هي المحدّث عنها.
2- وفي قوله «فليدع ناديه» مجاز مرسل والمراد أهل النادي، فالنادي لا يدعى وإنما يدعى أهله فأطلق المحل وأريد الحال فالمجاز مرسل علاقته المحلية والنادي هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله، وفي المصباح: «ندا القوم ندوا من باب غزا اجتمعوا ومنه اشتق النادي وهو مجلس القوم للتحدّث» وفي(10/534)
المختار: «وناداه جالسه في النادي وتنادوا تجالسوا في النادي والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدّثهم وكذا الندوة والنادي والمنتدى فإن تفرق القوم عنه فليس بندي ومنه سمّيت دار الندوة التي بناها قصيّ بمكة لأنهم كانوا يندون فيها أي يجتمعون للمشاورة» وكان أبو جهل قد قال للنبي صلّى الله عليه وسلم لما انتهره حيث نهاه عن الصلاة لقد علمت ما بها أي مكة رجل أكثر ناديا مني لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا ورجالا مردا.
الفوائد:
1- زيادة الباء في مفعول علم: تطّرد زيادة الباء في مفعول عرفت ونحوه وتقلّ في مفعول ما يتعدى لاثنين ولكنها بعد علم تكاد تكون مطّردة، قال عمرو بن كلثوم:
وقد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا
بأنّا المطعمون إذا قدرنا ... وأنّا المهلكون إذا ابتلينا
2- هل يتطابق البدل والمبدل منه تعريفا وتنكيرا: قال الزمخشري في المفصل: «وليس بمشروط أن يتطابق البدل والمبدل منه تعريفا وتنكيرا بل لك أن تبدل أيّ النوعين شئت من الآخر، قال الله عزّ وجلّ:
«اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم» وقال: «بالناصية ناصية كاذبة خاطئة» خلا أنه لا يحسن إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة كناصبة» أما بدل النكرة من النكرة فمثاله قوله تعالى: «إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا» فقوله مفازا نكرة وقد أبدل من النكرة وهو حدائق ومثله قول الشاعر:(10/535)
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلّت
فأبدل قوله رجل صحيحة من قوله رجلين وكلاهما نكرة ومثال بدل المعرفة من النكرة قولك مررت برجل زيد قال الله تعالى «وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله» فالثاني معرفة بالإضافة وقد أبدله من الأول وهو نكرة.(10/536)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
(97) سورة القدر مكيّة وآياتها خمس
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
الإعراب:
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) إن واسمها وجملة أنزلناه خبرها أي نجوما متفرقة بحسب الوقائع والحاجة الماسّة إليه في مدى ثلاث وعشرين سنة وفي إضمار القرآن وإن لم يتقدم له ذكر شهادة له بالتشريف وأسنده إليه تعالى وجعله مختصّا به دون غيره ورفع مدة الوقت الذي أنزل فيه فهذه ثلاثة أوجه لتعظيم القرآن، وفي ليلة القدر متعلقان بأنزلناه، وسيأتي الكلام عليها في باب الفوائد، والواو حرف عطف وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك خبر وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وليلة القدر خبر ما والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ(10/537)
شَهْرٍ)
ليلة القدر مبتدأ وخير خبر ومن ألف شهر متعلقان بخير والجملة مستأنفة كأنها جواب لسؤال نشأ عن تفخيم ليلة القدر تقديره وما فضائلها (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) استئناف ثان مسوق للإجابة عن السؤال نفسه وتنزل فعل مضارع مرفوع أصله تتنزل والملائكة فاعل والروح نسق على الملائكة، وإنما أفرد جبريل بالذكر تنويها بفضله على حدّ قوله تعالى فيها فاكهة ونخل ورمان والنخل والرمان من الفاكهة وفيها متعلقان بتنزل ولك أن تعلقه بمحذوف حال من الملائكة أي ملتبسين وبإذن ربهم متعلقان بتنزل ومن كل أمر أي من أجل كل أمر قضاه الله لتلك السنة متعلق بتنزل (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) سلام خبر مقدّم وهي مبتدأ مؤخر وحتى حرف غاية وجر ومطلع الفجر مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بسلام وفيه إشكال وهو الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ والجواب أن الظروف والجار والمجرور يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها والأحسن كما قال الخطيب أن يتعلقا بمحذوف قدّره الخطيب يستمرون على التسليم من غروب الشمس حتى مطلع الفجر.
الفوائد:
قال القرطبي: ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شرّ فيها حتى مطلع الفجر وقد شاء الله إخفاءها أن يحيي مريدها الليالي الكثيرة فتكثر عبادته ويتضاعف ثوابه وأن لا يتكل الناس عند إظهارها على إصابة الفضل فيها فيفرطوا في غيرها» وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه رواه البخاري ومسلم وقوله إيمانا واحتسابا أي نيّة وعزيمة وهو أن(10/538)
يصومه على التصديق والرغبة في ثوابه طيبة به نفسه غير كاره له ولا مستثقل لصيامه ولا مستطيل لأيامه لكن يغتنم طول أيامه لعظم الثواب فالاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله احتسبه لأن له حينئذ أن يعتدّ بعمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به. وقال البغوي: قوله احتسابا: أي طلبا لوجه الله تعالى وثوابه ويقال فلان يحتسب الأخبار ويتحسبها أي يتطلبها. هذا ومن أراد التوسّع فعليه بالمطولات ففيها من أخبار هذه الليلة وفضائلها ما تضيق به الصحائف والأجلاد.(10/539)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
(98) سورة البيّنة مدنيّة وآياتها ثمان
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)(10/540)
اللغة:
(مُنْفَكِّينَ) انفكاك الشيء عن الشيء أن يزايله بعد التحامه به كالعظم إذا انفكّ من مفصله والمعنى أنهم متعلقون بدينهم لا يتركونه ولا يرومون عنه انفكاكا، قال الأزهري: «ليس هو من باب ما انفك وما برح وإنما هو من باب انفكاك الشيء عن الشيء أي انفصاله عنه» .
(حُنَفاءَ) مائلين إلى الخير، قال أهل اللغة وأصل الحنف في اللغة الميل، وخصّه العرف بالميل إلى الخير وسمّوا الميل إلى الشرّ إلحادا وفي القاموس: «الحنف محرّكة: الاستقامة والاعوجاج في الرجل أو أن يقدّم إحدى إبهاميّ رجليه على الأخرى أو أن يمشي على ظهر قدميه من شق الخنصر أو ميل في صدر القدم وقد حنف كفرح وكرم فهو أحنف ورجل حنفاء وكضرب مال وصخر أبو بحر الأحنف بن قيس تابعي كبير والسيوف الحنيفية تنسب له لأنه أول من أمر باتخاذها والقياس أحنفيّ والحنفاء القوس والموسى وفرس حذيفة بن بدر وماء لبني معاوية وشجرة والأمة المتلوّنة تكسل مرة وتنشط أخرى والحرباء والسلحفاة والأطوم لسمكة بحرية والحنيف كأمير الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه وكل من حجّ أو كان على دين إبراهيم صلّى الله عليه وسلم والفقير والحذاء» إلى أن يقول: «وأبو حنيفة كنية عشرين من الفقهاء أشهرهم إمام الفقهاء النعمان» وعبارة ابن خالويه جيدة وهي «حنفاء نصب على الحال مثل ظريف وظرفاء والحنيف في اللغة المستقيم فإن قيل لك: لم سمّي المعوج الرجل أحنف؟ فقل تطيّروا من الاعوجاج إلى الاستقامة كما يقال للديغ سليم وللأعمى أبو بصير(10/541)
وللأسود أبو البيضاء وللمهلكة مفازة، هذا قول أكثر النحويين فأما ابن الأعرابي فزعم أن المفازة ليست مقلوبة لأن العرب تقول: فوّز الرجل إذا مات ومثله جنّص قال الشاعر:
فمن للقوافي بعدها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوّز جرول يريد كعب بن زهير وجرول والحطيئة والحنيف ستة أشياء:
المستقيم والمعوج والمسلم والمخلص والمختون والحاج إلى بيت الله ومن عمل بسنة إبراهيم صلوات الله عليه سمّي حنيفا» .
الإعراب:
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) لم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلن والذين اسمها وجملة كفروا صلة ومن أهل الكتاب والمشركين متعلق بمحذوف حال والأرجح أن معنى من هنا التبعيض كما قرره الماتريدي ومنفكين خبر يكن وحتى حرف غاية وجر تأتيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والهاء مفعول به والبيّنة فاعل أي الحجة الواضحة (رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) رسول بدل من البيّنة بدل كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرسول نفس البيّنة، ومن الله صفة لرسول وجملة يتلو صفة ثانية أو حال حسب القاعدة وصحفا مفعول به ومطهرة صفة لصحفا (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) الجملة صفة ثانية لصحفا وفيها خبر مقدّم وكتب مبتدأ مؤخر وقيمة نعت لكتب أي مستقيمة ناطقة بالحق والعدل (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) الواو استئنافية وما نافية وتفرق الذين فعل ماض وفاعل وجملة أوتوا لا محل لها لأنها صلة الذين والواو في أوتوا نائب فاعل(10/542)
والكتاب مفعول به ثان وإلا أداة حصر ومن بعد متعلقان بتفرق وما مصدرية وجاءتهم البيّنة فعل ماض ومفعول به وفاعل مؤخر وما في حيّزها في محل جر بإضافة بعد إليها، ومن العجيب البالغ العجب أن يعرب ابن خالويه ما موصولة ولا مبرر لهذا الإعراب على الإطلاق وعبارته المضحكة «وما بمعنى الذي وهو جر ببعد» (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) الواو للحال والجملة حالية مسوقة لبيان قبح ما فعلوا واستسماجه وهو التفرق بعد مجيء البيّنة التي يجب أن يصدع بها كل من له مسكة من عقل، وما نافية وأمروا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومتعلقه محذوف أي بما أمرناهم به من شرائع وأحكام وإلا أداة حصر وليعبدوا اللام لام التعليل ويعبدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بأمروا على أنه في محل نصب مفعول لأجله وإنما امتنع نصبه لاختلاف الفاعل، ولعلّ هذا الوجه خير مما اختاره الجلال وعبارته «إلا ليعبدوا الله أي أن يعبدوه فحذفت أن وزيدت اللام» وزاد الكرخي في الطين بلّة فقال: «وقوله زيدت اللام الأولى أن تكون بمعنى الباء أي إلا بأن يعبدوا الله» وهذا تكلّف وتمحّل لا يليقان بأسلوب القرآن العظيم ولعلّ هذا التوهّم تسرب إليهما عن قراءة ابن مسعود «وما أمروا إلا أن يعبدوا» وعلى هذه القراءة يكون قولهما سائفا وواردا فتكون أن وما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض وهو الباء، والجار والمجرور متعلقان بأمروا أي بأن يعبدوا. ومخلصين حال من ضمير يعبدوا وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول به لمخلصين لأنه اسم فاعل وحنفاء حال ثانية كما تقدم أو حال من الحال قبلها أو من الضمير المستكن فيها فهي حال متداخلة ويقيموا الصلاة عطف على ليعبدوا الله ويؤتوا الزكاة عطف أيضا والواو عاطفة أو حالية وذلك مبتدأ والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وإقامة(10/543)
الصلاة وإيتاء الزكاة ودين خبر والقيمة مضاف إليه، وقال الفرّاء:
«أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين أو هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ودخلت الهاء للمدح والمبالغة وما في الإشارة من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته» وعبارة ابن خالويه جيدة وهي: «فإن قيل لك: الدين هو القيمة فلم لم يقل وذلك الدين القيمة؟
فقل: العرب تضيف الشيء إلى نعته نحو قولهم صلاة الظهر وحبّ الحصيد قال الشاعر:
أتمدح فقعسا وتذمّ عبسا ... ألا لله أمك من هجين
ولو أقوت عليك ديار عبس ... عرفت الذلّ عرفان اليقين
فأضاف العرفان إلى اليقين وهو أراد عرفانا يقينا وقال آخرون وذلك دين الملّة القيمة وذلك دين الحنيفية القيمة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه كما قال الله عزّ وجلّ: واسأل القرية التي كنّا فيها أي اسأل أهلها» (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان مقر الأشقياء وجزاء السعداء، وإن واسمها وجملة كفروا صلة لا محل لها ومن أهل الكتاب والمشركين حال وفي نار جهنم خبر إن وخالدين حال مقدّرة من الضمير المستكن في الخبر وفيها متعلقان بخالدين وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل وشرّ البرية خبر هم والجملة خبر إن أو خبر أولئك وقرىء البرئية في الموضعين فقيل الهمز هو الأصل من برأ الله الخلق أي ابتدعه واخترعه فبرئية فعيلة بمعنى مفعوله وقيل البرية بلا همز مشتقة من البرى وهو التراب لأنهم خلقوا منه، قال المعرّي:
ولرب أجساد جديرات البرى ... بالصون صارت في طلاء جدار(10/544)
وقيل البرية مخفّفة من المهموز، وعبارة ابن خالويه: «البرية جر بالإضافة والأصل البرئية فتركوا الهمزة تخفيفا وهو من برأ الله الخلق والله البارئ المصور، حدّثنا إبراهيم بن عرفة قال حدّثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدّثنا محمد بن كثير عن سفيان عن المختار بن فلفل عن أنس قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وآله فقال له: يا خير البرية فقال: ذلك إبراهيم خليل الرحمن وإنما قاله تواضعا صلّى الله عليه وسلم» (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) الجملة مماثلة للأولى في إعرابها تماما، ولابن خالويه كلام نافع في البرية ننقله فيما يلي: «البرية جر بالإضافة قال العجير لنافع بن علقمة:
يا نافعا يا أكرم البريّة ... والله لا أكذبك العشيّه
إنّا لقينا سنة قسيّه ... ثم مطرنا مطرة رويّه
فنبت البقل ولا رعيّه ... فانظر بنا القرابة العليّه
والعرب مما ولدت صفيّه فأمر له بألف شاة، وقال آخرون من ترك الهمزة من البرية أخذه من البرى وهو التراب» . أنشدنا ابن مجاهد: «بغيك من سار إلى قومك البرى» وكلام العرب ترك الهمز قال الشاعر:
امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكيّة
قبر تضمن طيّبا ... آباؤه خير البريّة
آباؤه أهل الخلا ... فة والرياسة والعطية
هذا ما أورده ابن خالويه وفيه مشكل لا بدّ من الإلماع إليه وهو قول العجير لنافع بن علقمة يا نافعا فقد نصب المنادى وهو مفرد علم ونوّنه وحقّه البناء على الضم ولم نجد ما يبرره، فقد ذكر النحاة أنه إذا(10/545)
كان المنادى مفردا علما موصوفا بابن ولا فاصل بينهما والابن مضاف إلى علم جاز في المنادى وجهان ضمّه للبناء ونصبه نحويا عمرو بن هند ويا عمرو بن هند والفتح أولى أما ضمّه فعلى القاعدة لأنه مفرد علم وأما نصبه فعلى اعتبار كلمة ابن زائدة فيكون عمرو مضافا وهند مضافا إليه وابن الشخص يضاف إليه لمكان المناسبة بينهما والوصف بابنة كالوصف بابن نحو يا هند بنة خالد ويا هند بنة خالد أما الوصف بالبنت فلا يغيّر بناء المفرد العلم فلا يجوز معها إلا البناء على الضم نحو يا هند بنت خالد وعلى كل حال، فبيت العجير ليس من هذا الباب ولا يجدي معه القول أنه موصوف بقوله أكرم البرية على تقدير زيادة يا لأن الوصف ليس كلمة ابن وابنة وهبه نوّنه للضرورة فهلّا أبقاه مضموما كقول الأحوص:
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
وقد اهتم النحاة بهذا البيت فأطلقوا على التنوين فيه تنوين الضرورة وليس بذاك، وارجع إن شئت إلى كتبهم. (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) جزاؤهم مبتدأ وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال من الضمير في جزاؤهم وجنات عدن خبر وجملة تجري من تحتها الأنهار نعت لجنات وخالدين حال من عامل محذوف تقديره دخولها، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في جزاؤهم لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف زمان لاستغراق المعنى منصوب بخالدين أيضا وجملة رضي الله عنهم ورضوا عنه يجوز أن تكون دعائية لا محل لها ويجوز أن تكون خبرا ثانيا وذلك مبتدأ ولمن خبره وجملة خشي ربه صلة لا محل لها أيضا.(10/546)
الفوائد:
لعلّ من المفيد أن نشير هنا إلى معنى رضا العبد عن الله وقد أجملها الراغب فقال: «رضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمرا بأمره ومنتهيا عن نهيه» أما الجنيد فقال: «الرضا يكون على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة، والرضا حال يصحب العبد في الدنيا والآخرة وليس محلّه محلّ الخوف والرجاء والصبر والإشفاق وسائر الأحوال التي تزول عن العبد في الآخرة بل العبد يتنعم في الجنة بالرضا ويسأل الله تعالى حتى يقول لهم:
برضائي أحلّكم داري أي برضائي عنكم» وقال محمد بن الفضل:
«الروح والراحة في الرضا واليقين والرضا باب الله الأعظم ومحل استرواح العابدين» .(10/547)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
(99) سورة الزّلزلة مدنيّة وآياتها ثمان
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
الإعراب:
(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن متضمن معنى الشرط متعلق بتحدث وهو الجواب وجملة زلزلت في محل جر بإضافة الظرف إليها وزلزلت فعل ماض مبني للمجهول والأرض نائب فاعل وزلزالها مفعول مطلق وهو مصدر مضاف لفاعله والمعنى زلزالها الذي تستحقه ويقتضيه جرمها وعظمتها، وقيل إذا لمجرد الظرفية والعامل فيها محذوف أي يحشرون وقيل اذكر فهي مفعول به وقراءة العامة بكسر الزاي وقرىء بفتحها فقيل هما مصدران(10/548)
بمعنى واحد وقيل المصدر مكسور والاسم مفتوح قال الزمخشري:
«قرىء بكسر الزاي وفتحها فالمكسور مصدر والمفتوح اسم وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف» وهذا في الغالب وإلا فقد ورد ناقة خزعال قال في القاموس «خزعل الضبع عرج وخمع والماشي نفض رجليه وناقة بها خزعال: ظلع وليس فعلال من غير المضاعف سواه وقسطال وخرطال» وفيه أيضا «وزلزله زلزلة وزلزالا مثلثة حركه والزلازل البلايا» وقال ابن عرفة: الزلزلة والتلتلة واحد والزلازل والتلاتل وأنشد للراعي:
فأبوك سيدها وأنت أشدّها ... زمن الزلازل في التلاتل جولا
(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) نسق على ما تقدم، وأخرجت الأرض فعل ماض وفاعل وأثقالها مفعول به، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التقرير وتفخيم هول الساعة، وأثقالها مفعول به وهو جمع ثقل بالكسر كحمل وأحمال كما في المختار وعبارة الزمخشري «جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها» (وَقالَ الْإِنْسانُ: ما لَها) الواو عاطفة وقال الإنسان فعل وفاعل وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولها خبر، وفي الإنسان قولان: أحدهما أنه اسم جنس يعمّ المؤمن والكافر أي يقول الجميع ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع كما يقولون: من بعثنا من مرقدنا والثاني أنه الكافر خاصة لأنه كان لا يؤمن بالبعث فأما المؤمن فيقول: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) يومئذ ظرف أضيف إلى مثله ومحله النصب على أنه بدل من إذا والعامل فيه هو العامل في المبدل منه والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض أثقالها ويقول الإنسان ما لها فحذفت هذه الجمل الثلاث وناب منابها التنوين فاجتمع ساكنان وهما الذال والتنوين فكسرت الذال لالتقاء الساكنين وليست هذه الكسرة في(10/549)
الذال بكسرة إعراب وإن كانت إذ في موضع جر بإضافة ما قبلها إليها وإنما الكسرة فيها لالتقاء الساكنين وهذا التنوين يسمى تنوين العوض.
وتحدث فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هي أي الأرض ومفعول تحدث الأول محذوف أي الخلق (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) الباء حرف جر وأن وما في حيّزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتحدث والمعنى تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها وأمره إياها بالتحديث وأن واسمها وجملة أوحى خبرها ولها متعلقان بأوحى واللام بمعنى إلى وإنما أوثرت على إلى لمراعاة الفواصل وما يتعدى بإلى يجوز أن يتعدى باللام ولا عكس (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) يومئذ ظرف أضيف إلى مثله بدل من يومئذ قبله أو متعلق بيصدر أو هو مفعول لأذكر مقدرا ويصدر الناس فعل مضارع وفاعل وأشتاتا حال من الناس جمع شت أي متفرقين يقال أمر شت وشتات متشتت ومتفرق وهو وصف بالمصدر ويقال جاءوا أشتاتا وجاءوا شتات شتات أي متفرقين والنصب على الحالية، وقال عدي بن زيد:
قد هراق الماء في أجوافها ... وتطايرن بأشتات شقق
وليروا اللام للتعليل ويروا فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو نائب فاعل وأعمالهم مفعول به ثان والرؤية بصرية ولذلك عدّيت إلى اثنين لأن أرى يتعدى إلى ثلاث ولام التعليل ومدخولها متعلقان بيصدر (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويعمل فعل الشرط وفاعله هو يعود على من ومثقال ذرة مفعول به وخيرا تمييز أو بدل من مثقال ويره جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول ير وفعل الشرط وجوابه خبر من والجملة الثانية عطف على الأولى وإعرابها مماثل لإعرابها، وفي ابن خالويه: «وقدم جدّ الفرزدق(10/550)
على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أسمعني شيئا مما أنزل الله عليك فقرأ عليه إذا زلزلت فلما انتهى إلى قوله فمن يعمل مثقال ذرة إلخ قال: حسبي يا رسول الله، وحدّثني أبو عبد الله عن أبي العيناء عن الأصمعي قال: قرأ أعرابي فمن يعمل مثقال ذرة شرّا يره فقدّم وأخّر فقلت له: قدّمت وأخّرت فقال:
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهنّ طريق»
وروى هذه النادرة الزمخشري في كشافه أيضا وأضاف: «والذرة:
النملة الصغيرة وقيل الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء» وهرشى كسكرى ثنية في طريق مكة عند الجحفة. أي اسلكا أمام تلك الثنية أو خلفها فإنه أي الحال والشأن كلّ من جانبيها طريق للإبل التي تطلبانها، وتكرير لفظ هرشى لتقريرها في ذهن السامع خوف غفلته عنها والمقام كان مقام هداية فحسن فيه ذلك.(10/551)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
(100) سورة العاديات مكيّة وآياتها إحدى عشرة
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
اللغة:
(الْعادِياتِ) الخيل تعدو في الغزو بسرعة والياء من الواو لكسر ما قبلها.
(ضَبْحاً) هو صوت أجوافها وفي المختار: «ضبحت الخيل من باب قطع والضبح صوت أنفاسها إذا عدت» وفي القاموس: «ضبحت الخيل ضبحا وضباحا أسمعت من أفواهها صوتا ليس بصهيل ولا(10/552)
حمحمة أو عدت دون التقريب» وقال الفراء: «الضبح صوت الخيل إذا عدت قال ابن عباس: ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب وقيل كانت تكعم لئلا تصهل فيعلم العدو بهم فكانت تتنفس في هذه الحالة بقوة وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيرت حالها من فزع أو تعب» وفي القاموس: «كعمت البصير كمنع فهو مكعوم وكعيم:
شددت فاه لئلا يعضّ أو يأكل وما كعم به يقال له كعام ككتاب» وقال الزمخشري: «أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح والضبح صوت أنفاسها إذا عدون، وعن ابن عباس أنه حكاه فقال: أح أح، قال عنترة:
والخيل تكدح حين تضب ... ح في حياض الموت ضبحا»
والكدح الجدّ في العدو، وشبّه عنترة الموت بالسيل على طريق الاستعارة المكنية والحياض تخييل ذلك.
(فَالْمُورِياتِ) الخيل توري النار بسنابكها أي تقدح كما توري الزندة وهي نار الحباحب والمصدر أورى يوري إراء فهو مور قال النابغة:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والحباحب كما في الصحاح: اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلا نارا ضعيفة مخافة الضيفان فضربوا به المثل حتى قالوا نار الحباحب لما تقدحه الخيل بحوافرها.
وفي المصباح: «ورى الزند يرى من باب وعد وفي لغة وري يري بكسرهما وأورى بالألف وذلك إذا أخرج ناره» وفي المختار: «وأوراه غيره» فاستفيد مما في المصباح والمختار أنه يستعمل ثلاثيا لازما ورباعيا لازما ومتعديا وما في الآية من قبيل المتعدي الرباعي.(10/553)
(قَدْحاً) مصدر قدح يقال: قدحت الحجر بالحجر أي صككته به وأصل القدح الاستخراج ومنه قدحت العين إذا أخرجت منها الماء الفاسد واقتدحت الزند واقتدحت المرق غرفته والمقدحة بكسر الميم ما تقدح به النار والقداحة والقداح الحجر الذي يوري النار.
(فَالْمُغِيراتِ) الخيل تغير على العدو وفي المصباح: «وأغار الفرس إغارة والاسم الغارة مثل أطاع إطاعة والاسم الطاعة إذا أسرع في العدو وأغار القوم إغارة أسرعوا في السير» وفي القاموس: «وأغار على القوم غارة وإغارة دفع عليهم الخيل وأغار الفرس اشتد عدوه في الغارة وغيرها» قال:
أغار على العدو بكل طرف ... وسلهبة تجول بلا حزام
(فَأَثَرْنَ) هيجن يقال: ثار يثور ثورا وثورانا وثؤور أهاج ومنه ثارت الفتنة بينهم وثار الغبار أو الدخان ارتفع وثار الجراد ظهر وثارت نفسه جشأت وثار إليه. وبه: وثب عليه.
(نَقْعاً) غبارا والنقع أيضا أن يروى الإنسان من شرب الماء يقال نقعت غلّي بشربة ماء، وقال بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
(فَوَسَطْنَ) توسطن وفي المصباح: «يقال: وسطت القوم والمكان أسط وسطا من باب وعد إذا توسطت بين ذلك والفاعل واسط وبه سمي البلد المشهور بالعراق لأنه توسط الإقليم» وفي المختار: تقول: جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم لما يكتنفه غيره من جهاته وكل موضع صلح فيه «بين» فهو وسط بالسكون وإن لم يصلح فيه «بين» فهو وسط بالتحريك وربما سكن وليس بالوجه» .(10/554)
وعبارة القاموس: «ووسطهم كوعد وسطا وسطة جلس وسطهم كتوسطهم وهو وسيط فيهم أي أوسطهم نسبا وأرفعهم محلا والوسيط بين المتخاصمين وكصبور بيت من الشّعر أو هو أصغرها والناقة تملأ الإناء والتي تحمل على رؤوسها وظهورها لا تعقل ولا تقيد والتي تجر أربعين يوما بعد السنة ووسطان بلد للأكراد ووسط محركة جبل ودارة واسط موضع ووسط محركة: ما بين طرفيه كأوسطه فإذا سكنت كانت ظرفا أو هما فيما هو مصمت كالحلقة فإذا كانت أجزاؤه متباينة فبالإسكان فقط أو كل موضع صلح فيه بين فهو بالتسكين وإلا فهو بالتحريك» .
(لَكَنُودٌ) الكنود: الكفور وكند النعمة كنودا ومنه سمي كندة لأنه كند أباه ففارقه، وعن الكلبي: الكنود بلسان كندة: العاصي وبلسان بني مالك: البخيل وبلسان مضر وربيعة: الكفور وفي المختار: «كند: كفر النعمة وبابه دخل فهو كنود وامرأة كنود أيضا» وروى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الكنود: الذي يأكل وحده ويمنع رفده أي عطاءه ويضرب عبده» وعبارة ابن خالويه: الكنود:
الكفور قال الحسن في قوله عزّ وجلّ: إن الإنسان لربه لكنود قال:
يذكر المصائب وينسى النعم، وقال النمر بن تولب:
كنود لا تمنّ ولا تغادي ... إذا علقت حبائلها برهن
لها ما تشتهي عسل مصفّى ... إذا شاءت وحوّارى بسمن
(بُعْثِرَ) تقدم شرحها كثيرا والبعثرة والبحثرة بالحاء استخراج الشيء واستكشافه.
الإعراب:
(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) الواو حرف(10/555)
قسم وجر والعاديات مجرور بواو القسم والجار المجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وضبحا مفعول مطلق لفعل محذوف أي يضبحن ضبحا وهذا الفعل المقدّر حال من العاديات ويجوز أن تعرب حالا أي ضابحات وقال الخطيب «وانتصاب ضبحا على تقدير فعل أي يضبحن ضبحا أو بالعاديات كأنه قيل والضابحات ضبحا لأن الضبح لا يكون إلا مع العدو أو على الحال أي ضابحات، والفاء عاطفة والموريات عطف على العاديات وقدحا فيه الأوجه الثلاثة التي في ضبحا، قال الزمخشري «وانتصب قدحا بما انتصب به ضبحا» والفاء عاطفة والمغيرات نسق أيضا على العاديات وضبحا نصب على الظرفية أي التي تغير في وقت الصبح وهو متعلق بالمغيرات قال أبو حيان وأجاد: «وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب والظاهر أنها الخيل التي يجاهد عليها العدو من الكفار ولا يستدل على أنها الإبل بوقعة بدر وإن لم يكن فيها إلا فرسان اثنان لأنه لم يذكر أن سبب نزول هذه السورة هو وقعة بدر ثم بعد ذلك لا يكاد يوجد أن الإبل جوهد عليها في سبيل الله بل المعلوم أنه لا يجاهد في سبيل الله تعالى إلا على الخيل في شرق البلاد وغربها» قال هذا في معرض ردّه على من فسّر العاديات بالإبل (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) الفاء حرف عطف وأثرن فعل ماض مبني على السكون والنون فاعل والعطف على فعل ومنع اسم الفاعل موضعه لأن المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن، وبه متعلقان بأثرن ونقعا مفعول به والضمير في به يعود على الوادي وإن لم يتقدم له ذكر وهو مكان العدو وقيل يعود على الصبح أي فأثرن به في وقت الصبح، قال أبو حيان: «وهذا أحسن من الأول لأنه مذكور بالصريح» وعلى كلّ من التفسيرين فالباء من به بمعنى في وكل ما يتعدى بفي يتعدى بالباء ولا عكس. والفاء عاطفة ووسطن فعل ماض مبني على السكون ونون النسوة فاعل وبه متعلقان بوسطن(10/556)
والضمير يعود على الصبح كما تقدم أو على النقع فالباء للتعدية وعلى الأول للظرفية وقيل إن الباء حالية أي فتوسطن ملتبسات بالغبار فتكون متعلقة بمحذوف على أنه حال، ونقل أبو البقاء وجها غريبا لم أجد له مبررا وهو أنها زائدة وجمعا مفعول أثرن وأغرب أبو البقاء أيضا فجعلها حالا لأنه جعل الباء زائدة في المفعول به وليس بذاك، وأسف ابن خالويه فأعرب جمعا ظرفا ولست أدري ولا المنجّم يدري كيف استقام له (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) الجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب القسم وإن حرف مشبّه بالفعل والإنسان اسمها ولربه متعلقان بكنود واللام المزحلقة وكنود خبر إن والألف واللام في الإنسان للجنس وقيل للكافر والأول أولى لأن طبع الإنسان مجبول على ذلك يهيب به إلى الشر إلا من عصمه الله (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) عطف على الجملة السابقة وهو المقسم عليه الثاني وإن واسمها وعلى ذلك متعلقان بشديد واللام المزحلقة وشديد خبر إن أي يشهد على نفسه بصنعه والشهادة بالقوة التي تبد في آثار أعماله الواضحة وشواهدها الفاضحة، وأجاز الزمخشري أن يعود الضمير على الله فقال: «وقيل وإن الله على كنوده لشاهد على سبيل الوعيد» (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) منسوق على ما تقدم وهو المقسم عليه الثالث وإن واسمها ولحب الخير متعلقان بشديد واللام للتقوية والمعنى إنه لقوي مطيق لحب الخير، يقال هو شديد لهذا الأمر أي مطيق له وقيل اللام للتعليل أي وأنه لأجل حب المال لشديد واللام المزحلقة وشديد خبرها وأراد بالخير المال والشديد البخيل الممسك يقال: فلان شديد ومتشدّد قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدّد
وعبارة ابن خالويه: «والخير المال هاهنا كما قال تعالى: إن ترك خيرا أي مالا والخير الخيل من قوله تعالى: إني أحببت حبّ الخير عن(10/557)
ذكر ربي يعني الخيل والخير الخمر تقول العرب ما عنده خل ولا خمر أي لا شر ولا خير ويجمع الخير خيورا والشر شرورا» قلت: لم أر في ما لدي من المعاجم هذا المعنى للخير أي الخمر وما كنت لأسجّل هذه الملاحظة لأن ابن خالويه من الأئمة المشهود لهم بالحفظ ولكني سجلت ملاحظتي تعليقا على إيراده المثل فالسياق الذي أورده فيه يدل على أن الخير قد يراد به الخمر ولكن المثل لم يرد ذلك قطعا وإنما جعل الشر خلا والخير خمرا على سبيل التشبيه فقولهم في المثل ما عنده خل ولا خمر يريدون به ما عنده خير ولا شر وقولهم: ما أنت بخل ولا خمر المراد به ما أشار إليه الميداني وغيره من أنه كان بعض العرب يجعلون الخير خمرا للذتها والخل شرا لحموضته ولأنه لا يقدر الإنسان على شربه (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام أي أيفعل ما يفعل من المقابح فلا يعلم، ولا نافية ويعلم فعل مضارع مرفوع وإذا ظرف لمجرد الظرفية، قال زاده: «لا يجوز أن يكون ظرفا ليعلم لأن الإنسان لا يراد منه العلم في ذلك الوقت وإنما يراد منه ذلك وهو في الدنيا، ولا يجوز أن يكون ظرفا لبعثر لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا لقوله خبير لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها فتعين أن يكون العامل فيه ما دلّ عليه قوله: إن ربهم بهم يومئذ لخبير، أي أفلا يعلم الإنسان في الدنيا أنه تعالى يجازيه إذا بعثر ومعنى علم الله تعالى بهم يوم القيامة مجازاته لهم» وجملة بعثر في محل جر بإضافة الظرف إليها وما موصول نائب فاعل بعثر وفي القبور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة ما (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) منسوق على بعثر ما في القبور وحصل فعل ماض مبني للمجهول أي جمع في الصحف وأظهر مفصلا مجموعا وقيل ميّز بين خيره وشره وسمينه وغثّه، قال زاده: «وخصّ أعمال القلوب بالذكر وترك ذكر أعمال الجوارح لأنها تابعة لأعمال القلوب فإنه(10/558)
لولا تحقق البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح» وهذا كلام جيد فتدبره (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) الجملة تعليل لعامل إذا المحذوف وهو مفعول يعلم أي أفلا يعلم أنّا نجازيه وقت ما ذكر ثم علّل ذلك بقوله إن ربهم إلخ وإن واسمها وبهم متعلقان بخبير ويومئذ ظرف متعلق بخبير أيضا واللام المزحلقة وخبير خبر إن.
البلاغة:
1- في المخالفة بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله «فأثرن به نقعا» إذ عطف الفعل على الاسم الذي هو العاديات وما بعده لأنها أسماء فاعلين تعطي معنى الفعل سر بديع، وهو تصوير هذه الأفعال في النفس وتجسيدها أمام العين، فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف وهو أبلغ من التصوير والتجسيد بالأسماء المتناسقة وكذلك التصوير بالمضارع بعد الماضي وقد تقدمت له شواهد أقربها قول عمرو بن معد يكرب:
بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
2- وفي قوله «فالموريات قدحا» استعارة في الخيل تشعل الحرب فهي استعارة تصريحية شبّه الحرب بالنار المشتعلة وحذف المشبه وأبقى المشبه به قال تعالى: كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، ويقال حمى الوطيس إذا اشتدت الحرب.
3- وفي قوله «إن ربهم بهم يومئذ لخبير» تجنيس التحريف وبعضهم يسمّيه «الجناس المحرّف» وهو الذي يكون الضبط فيه فارقا بين الكلمتين أو بعضهما، وهو أيضا ما اتفق ركناه في أعداد الحروف(10/559)
واختلفا في الحركات سواء كانا من اسمين أو فعلين أو اسم وفعل أو من غير ذلك والغاية فيه قوله تعالى: «ولقد أرسلنا فيهم منذرين، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» ولا يقال إن اللفظين متّحدان في المعنى فلا يكون بينهما تجانس لأنّا نقول المراد بالأول اسم الفاعل وبالثاني اسم المفعول فالاختلاف ظاهر ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهمّ كما حسنت خلقي فحسّن خلقي» ومثله قولهم جبة البرد جنة البرد ومنه قولهم: رطب الرطب ضرب من الضرب، ومن الشعر قول أبي تمام:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من خائهنّ فإنهنّ حمام
ومثله قول المعرّي:
والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
وله أيضا:
لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
4- في قوله «وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد» الجناس اللاحق وهو الذي أبدل أحد ركنيه حرف واحد بغيره من غير مخرجه سواء كان الإبدال في الأول أو الوسط أو الآخر وإن كان ما أبدل منه من مخرجه سمي مضارعا، فمثال الإبدال من الأول قوله تعالى:
«ويل لكل همزة لمزة» والآية التي نحن بصددها مثال الإبدال من الوسط، ومثال الإبدال من الآخر قوله تعالى: «وإذا جاءهم أمر من الأمن» ومن الأحاديث على هذا النمط أيضا من الأول قوله عليه السلام: «الحمد لله الذي حسّن خلقي وزان منّي ما شان من غيري» ومن الثاني حديث الطبراني «لولا رجال ركّع وصبيان رضّع وبهائم رتّع» ومن الثالث حديث الطبراني أيضا «لن تفنى أمتي حتى يظهر فيهم(10/560)
التمايز والتمايل» وحديث الديلمي أيضا «أحب المؤمنين إلى الله من نصّب نفسه في طاعة الله ونصح لأمة محمد» ومن الأمثلة الشعرية على هذا الترتيب المذكور أيضا قول أبي فراس:
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو أنه عاري المناكب حافي
ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... وإذا قنعت فكل شيء كافي
ومن الثاني قول البحتري:
وقعودي عن التقلب والأر ... ض لمثلي رحيبة الأكناف
ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أنّي امرؤ كفاني كفافي
ومن الثالث قول بعضهم:
شوقي لذاك المحيا الزاهر الزاهي ... شوق شديد وجسمي الواهن الواهي
أسهرت طرفي وولهت الفؤاد هوى ... فالقلب والطرف بين الساهر الساهي(10/561)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
(101) سورة القارعة مكيّة وآياتها إحدى عشرة
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
اللغة:
(الْقارِعَةُ) القيامة التي تقرع القلوب بأهوالها وفي المختار: «وقرع من باب قطع والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية» وفي المصباح: «قرعت الباب قرعا بمعنى طرقته ونقرت عليه» .
(الفراش) في القاموس: «والفراشة التي تهافت في السراج والجمع فراش ومن القفل ما ينشب فيه وكل عظم رقيق والماء القليل والرجل الخفيف وقرية بين بغداد والحلّة وموضع بالبادية وعلم ودرب(10/562)
فراشة محله ببغداد والفراش كسحاب: ما يبس بعد الماء من الطين على الأرض ومن النبيذ الحبب الذي يبقى عليه وعرقان أخضران تحت اللسان والحديدتان يربط بهما العذران في اللجام وبالكسر ما يفرش والجمع فرش وزوجة الرجل قيل ومنه وفرش مرفوعة وعش الطائر وموقع اللسان في قعر الفم» وقد خلط صاحب المنجد فمزج الفراشة والفراش في مادة واحدة وجعل من معاني الفراش الرجل الخفيف وإنما هو فراشة، وسيأتي المزيد من معنى هذا التشبيه في باب البلاغة.
(الْمَبْثُوثِ) المتفرق المنتشر يقال قد بسط فلان خيره وبثّه وبقّه إذا وسعه قال:
وبسط الخير لنا وبقّه ... فالناس طرا يأكلون رزقه
(العهن) الصوف الأحمر واحدها عهنه.
(الْمَنْفُوشِ) اسم مفعول من النفش وهو- كما في القاموس- تشعيث الشيء بأصابعك حتى ينتشر كالتنفيش، والنفش بالتحريك الصوف، وعبارة ابن خالويه: «يقال: نفشت الصوف والقطن وسبّخته إذا نفشته وخففته كما يفعل النادف، ويقال: لقطع القطن وما يتساقط عند الندف السبيخة وجمعها سبائخ ويقال: سبخ الله عنك الحمّى أي خففها وسلها عنك ومن ذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلم رأى عائشة تدعو على سارق سرقها فقال: لا تسبّخي عنه بدعائك عليه» .
الإعراب:
(الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) تقدم إعرابها في الحاقة ما الحاقة (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) تقدم إعرابها في ما أدراك ما الحاقة، فجدد بها عهدا (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الظرف نصب بمضمر دلّت عليه القارعة(10/563)
أي تقرع القلوب بأهوالها يوم القيامة، ولا يجوز أن يكون معلقا بالقارعة الأول للفصل بينهما بالخبر ولا بالثاني والثالث لعدم التئام الظرف معهما من حيث المعنى وجملة يكون في محل جر بإضافة الظرف إليها والناس اسم يكون وكالفراش خبرها والمبثوث نعت للفراش ويجوز أن تكون يكون تامة فيكون الناس فاعلا وكالفراش حال من فاعل يكون التامة أي يوجدون ويحشرون حال كونهم كالفراش (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) عطف على الآية السابقة مماثلة لها في إعرابها (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة ثقلت موازينه صلة لمن لا محل لها والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وهو مبتدأ ثان وفي عيشة خبره وراضية صفة والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول وهو من، وسيأتي معنى راضية في باب البلاغة (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) عطف على الجملة السابقة وأمه مبتدأ وهاوية خبر أمه والجملة خبر من (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) الواو عاطفة وما اسم استفهام مبتدأ وجملة أدراك خبر والكاف مفعول به أول وما اسم استفهام مبتدأ وهي خبر والهاء للسكت وجملة ما هيه المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني. والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة التي لا يدرك قعرها ولا يسبر غورها، وقال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال هوت أمه وقيل أراد أم رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم وعبارة الزمخشري: «فأمه هاوية، من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا قال:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يردّ الليل حين يئوب»
والبيت لكعب في مرثية أخيه، وهوت أمه دعاء لا يراد به الوقوع(10/564)
بل التعجب وما اسم استفهام مبتدأ وما بعده خبر والمعنى أي شيء يبعثه الصبح منه وأي شيء يردّه الليل ولا بدّ من تقدير منه التجريدية يعني أنه كان يغدو في طلب الغارة ويرجع في الليل ظافرا وما في الموضعين من الاستفهام معناه التعجب والاستعظام وإسناد الفعل للصبح والليل مجاز (نارٌ حامِيَةٌ) نار خبر لمبتدأ محذوف أي هي وحامية نعت. هذا ويكثر حذف المبتدأ في جواب الاستفهام وبعد فاء الجواب وبعد القول.
البلاغة:
1- في قوله «القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة» فن التكرير والمراد به تهويل شأنها وتفخيم لفظاعتها، وقد تقدم بحثه كثيرا.
2- وفي قوله «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش» تشبيهان رائعان وهو تشبيه مرسل مجمل لأن وجه الشبه حذف ففي الأول وجوه الشبه كثيرة منها:
1- الطيش الذي لحقهم 2- وانتشارهم في الأرض 3- وركوب بعضهم بعضا 4- الكثرة التي لا غناء فيها 5- والضعف والتذلل وإجابة الداعي من كل جهة 6- والتطاير إلى النار للاحتراق من حيث لا تريد الاحتراق.
أما تشبيه الجبال بالعهن المنفوش فهو أيضا تشبيه مرسل مجمل، وأوجه الشبه كثيرة أيضا منها:
1- تفتتها وانهيارها 2- وصيرورتها كالعهن 3- ثم صيرورتها كالهباء. وقد تشبث الشعراء بهذه المعاني فقال جرير يهجو الفرزدق:(10/565)
أبلغ بني وقبان أن حلومهم ... خفّت فما يزنون حبة خردل
أزرى بحلمكم الفياش فأنتم ... مثل الفراش غشين نار المصطلي
وقال أبو العلاء المعرّي في رثاء والده:
فيا ليت شعري هل يخف وقاره ... إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الرويّ مبادرا ... مع الناس أم يأبى الزحام فيستأني
وأولها:
نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن ... فلا جادني إلا عبوس من الدّجن
وليت فمي إن شاء سنى تبسمي ... فم الطعنة النجلاء تدمى بلا سن
3- وفي قوله «فهو في عيشة راضية» مجاز مرسل لأن الذي يرضى بها الذي يعيش فيها فهو مجاز مرسل علاقته المحلية وقيل راضية بمعنى مرضية، وأول من ألّف في مجازات القرآن في أواخر القرن الثاني الهجري أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه «مجاز القرآن» وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب وهو يقدّم لكتابه بمقدمة في بحوث لغوية عامة في القرآن يبدؤها ببحث كلمة قرآن وله رأي خاص في اشتقاق هذه الكلمة ينقله عنه المتأخرون وهو قوله: «إنما سمي قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها وتفسير ذلك آية في القرآن قال الله جلّ ثناؤه: إن علينا جمعه وقرآنه» ويستشهد عليه من كلام العرب ويدلف بعد ذلك إلى نص القرآن وما يتضمنه من فنون الكلام منبّها إلى أن القرآن يشابه في نظمه كلام العرب فيقول: «وفي القرآن مثل ما في كلام العرب من وجوه الإعراب والمعاني» ويذكر تلك الوجوه مع أمثلة لها ويتعرض لها بالتفصيل منبّها وبصدد الآية قال «ومن مجاز ما يقع المفعول إلى الفاعل قال: كالذي ينعق بما لا يسمع المعنى على الشاة المنعوق بها وحول على الراعي الذي ينعق بالشاة وقال: كالنهار مبصرا له مجازان أحدهما أن العرب وضعوا أشياء من كلامهم في موضع الفاعل والمعنى أنه(10/566)
مفعول لأنه ظرف يفعل فيه غيره ولأن النهار لا يبصر ولكنه يبصر فيه الذي ينظر وفي القرآن: في عيشة راضية وإنما يرضى بها الذي يعيش فيها» وخلاصة القول في كتاب المجاز أنه كان خطوة في سبيل الكلام في طرق القول أو المجاز بمعناه العام وقد حاول أن يكشف عن بعض ما جاء من ذلك في أسلوب القرآن مع مقارنته بما جاء في الأدب العربي وساعد عليه محصوله الغزير فيه.(10/567)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(102) سورة التكاثر مكيّة وآياتها ثمان
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
الإعراب:
(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) ألهاكم التكاثر فعل ماض ومفعول به مقدّم وفاعل مؤخر والتكاثر التباري في الكثرة والتباهي بها وال في التكاثر للعهد وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وما يبدو فيها من تعاجيب وتهاويل تستهوي الناظر وتخدعه إلى حين، وحتى يجوز أن تكون عاطفة ويجوز أن تكون حرف غاية وجر وعلى كل حال هي بمثابة الغاية للإلهاء وزرتم المقابر فعل ماض وفاعل ومفعول به والمراد بالزيارة التفاخر بالموتى أي أبلغ منكم الطيش والبله حدّا دعاكم إلى زيارة القبور أو أضفتم إلى التكاثر بالأموال زيارة القبور لتتكاثروا بالموتى، ويجوز أن يكون المعنى ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى(10/568)
أن متّم وقبرتم وقد أضعتم أعماركم فيما لا طائل تحته وأغفلتم وضيعتم ما هو الأهم والأجدى من السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت وتتعين حتى الغائية الجارّة (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) كلا حرف ردع وزجر عن التشاغل عن الطاعات والجنوح إلى الزخارف والظواهر وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وثم حرف عطف وسوف تعلمون عطف على الجملة الأولى وجعله ابن مالك من باب التوكيد اللفظي مع توسط حرف العطف وقال الزمخشري: «والتكرير تأكيد للردع والإنذار وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشدّ كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك لا تفعل» وجواب لو محذوف يعني لو تعلمون ما أمامكم من هول لفعلتم ما لا يمكن وصفه واكتناهه ولكنهم جهلة ضلّال. وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والمفعول محذوف تقديره عاقبة التلهّي والتفاخر والتكاثر، وعلم اليقين مصدر قيل وأصله العلم اليقين فهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته وعبارة أبي البقاء «وعين اليقين مصدر على المعنى لأن رأى وعاين بمعنى واحد» ولا يصحّ أن يكون قوله لترون هو الجواب لأنه محقق الوقوع فلا يعلق واللام جواب قسم محذوف وترون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وأصله لترأيون فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها ثم ألقيت حركة الهمزة التي هي عين الكلمة على الراء وحذفت لثقلها ثم دخلت النون المشددة التي هي للتوكيد فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال كما قدّمنا وحرّكت الواو بالضم لالتقاء الساكنين ولم تحذف لأنها لو حذفت لاختلّ الفعل بحذف عينه ولامه وواو الضمير (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) عطف على ما تقدم وعين اليقين نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي لترونها(10/569)
رؤية عين اليقين وصفت الرؤية التي هي سبب اليقين بكونها عين اليقين (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) عطف أيضا وتسألن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الفاعل حذفت لالتقاء الساكنين والنون نون التوكيد الثقيلة ويومئذ وعن النعيم متعلقان بتسألن فالمبالغات ست ستأتي في باب البلاغة.
البلاغة:
اشتملت هذه السورة على مبالغة من وجوه ستة نوردها فيما يلي:
1- تكرير الإنذار للدلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول في قوله «ثم كلا سوف تعلمون» .
2- تكرير التنبيه فقال: «لو تعلمون» محذوف الجواب ليذهب الخيال في تقديره كل مذهب وقد أوردناه لك في الإعراب.
3- القسم في قوله «لترون الجحيم» لتوكيد الوعيد.
4- وكرر القسم معطوفا بثم بقوله «ثم لترونها عين اليقين» تغليظا في التهديد، وزيادة في الوعيد.
5- جعل الرؤية «عين اليقين» وخالصته مبالغة خاصة.
6- كرر القسم معطوفا بثم بقوله «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» فإن قلت ما هو النعيم الذي يسأل عنه الإنسان ويعاتب عليه فما من أحد إلا له نعيم؟ قلت: هو نعيم المتبطلين المتبجحين الذين جنحوا إلى اللذات وأوضعوا في الآثام، واستنزفوا أوقاتهم باللهو والطرب ومنادح اللذة لا يبغون عنها بديلا ولا يقدمون شيئا لدنياهم وأخراهم، فأل في النعيم للاستغراق.(10/570)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
(103) سورة العصر مكيّة وآياتها ثلاث
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
اللغة:
(الْعَصْرِ) قال في القاموس «العصر مثلثة وبضمتين الدهر والجمع أعصار وعصور وأعصر وعصر والعصر اليوم والليلة والعشي إلى احمرار الشمس ويحرّك والغداة والحبس والرهط والعشيرة والمطر من المعصرات والمنع والعطية، عصره يعصره وبالتحريك الملجأ والمنجاة كالعصر بالضم» إلى آخر هذه المادة الطويلة فإن قلت ما المراد به هنا؟
قال ابن عباس: هو الدهر، أقسم به تعالى لما في مروره من أصناف العجائب وقال قتادة العصر العشي أقسم به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة وقيل العصر اليوم والليلة ومنه قول حميد بن ثور:
ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما(10/571)
وقال مقاتل العصر الصلاة الوسطى أقسم بها وبهذا القول بدأ الزمخشري قال «لفضلها» قال ابن خالويه: «وقرأ سلام أبو المنذر والعصر بكسر الصاد والراء وهذا إنما يكون في نقل الحركة عند الوقف كقولك مررت ببكر تعلو كسرة الراء إلى الكاف عند الوقف وكذلك يفعلون في المرفوع ولا ينقلون في المنصوب إلا في ضرورة شاعر. قال سيبويه: الوقف على الاسم بستة أشياء: بالإشمام والإشباع، وروم الحركة، ونقل الحركة، والتشديد، والإسكان» ونقول الإشمام ضم الشفتين بعد الإسكان في المرفوع والمضموم للإشارة إلى الحركة من صوت والغرض به الفرق الساكن والمسكن في الوقف، والروم هو أن تأتي بالحركة مع إضعاف صوتها والغرض به هو الغرض بالإشمام إلا أنه أتم في البيان من الإشمام فإنه يدركه الأعمى والبصير والإشمام لا يدركه إلا البصير.
(الْإِنْسانَ) لفظ يقع للذكر والأنثى من بني آدم وربما أنّثت العرب فقالوا إنسان وإنسانة قال:
إنسانة تسقيك من إنسانها ... خمرا حلالا مقلتاها عنبه
وال فيه لاستغراق الجنس فيشمل المؤمن والكافر بدليل الاستثناء.
(خُسْرٍ) غبن، والخسر والخسران سواء قال في المصباح: «خسر في تجارته خسارة بالفتح وخسرا وخسرانا ويتعدى بالهمزة فيقال أخسرته فيها وخسر خسرا وخسرانا أيضا: هلك» .
الإعراب:
(وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الواو حرف قسم وجر والعصر(10/572)
مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المحذوف وجملة إن الإنسان إلخ جواب القسم لا محل لها وإن واسمها واللام المزحلقة وفي خسر خبر إن (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الإنسان لأنه اسم جنس كما تقدم وجملة آمنوا صلة لا محل لها وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وتواصوا بالحق عطف أيضا أي أوصى بعضهم بعضا وهو فعل ماض مبني على الفتح المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين والواو فاعل، وتواصوا بالصبر عطف أيضا.(10/573)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
(104) سورة الهمزة مكيّة وآياتها تسع
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
اللغة:
(هُمَزَةٍ) في المختار: «الهمز كاللمز وزنا ومعنى وبابه ضرب» وفيه أيضا «واللمز: العيب وأصله الإشارة بالعين ونحوها وبابه ضرب ونصر» والتاء فيهما للمبالغة في الوصف وقد تقدم أن بناء فعلة بضم الفاء وفتح العين لمبالغة الفاعل أي المكثرة لمأخذ الاشتقاق وبناء فعلة بضم الفاء وسكون العين لمبالغة المفعول يقال: رجل لعنة بضم اللام وفتح العين لمن كان يكثر لعن غيره ولعنة بضم اللام وسكون العين إذا كان ملعونا للناس يكثرون لعنه وعبارة السمين: «والعامة على فتح ميميهما على أن(10/574)
المراد الشخص الذي يكثر منه ذلك الفعل، وقرأ الباقون بالسكون وهو الذي يهمز ويلمز أي يأتي بما يهمز به ويلمز كالضحكة لمن يكثر ضحكه والضحكة لمن يأتي بما يضحك منه وهو مطّرد أعني أن فعله بفتح العين لمن يكثر منه الفعل وبسكونها لمن يكثر الفعل بسببه» .
وعبارة ابن خالويه «والهاء في همزة دخلت للمبالغة في الذم كقولهم رجل همزة لمزة أي عياب مغتاب ورجل فروقة صخابة جخّابة: كثير الكلام والخصومات نقّاقة مهذارة هلباجة. قال الأصمعي: سألت أعرابيا عن الهلباجة فقال: هو الطويل الضخم الأحمق الكثير الفضول الكثير الأكل السيّء الأدب وإن وقفت نعتّه إلى غد فليس في العيوب شيء أسوأ من الهلباجة. فلما دخلت الهاء لذلك استوى المذكر والمؤنث فقيل امرأة همزة ورجل همزة وامرأة فروقة ورجل فروقة ولا يثنى ولا يجمع يقال: رجال همزة ونساء همزة، قال النحويون: إذا أدخلوا الهاء في الممدوح ذهبوا به مذهب الداهية ذي الإربة وهو العقل كما قيل رجل علّامة ونسّابة فإذا أدخلوا الهاء في المذموم ذهبوا به مذهب البهيمة ومثله قوله «بل الإنسان على نفسه بصيرة» الهاء للمبالغة ومثله قوله تعالى: ولا تزال تطلع على خائنة منهم، الهاء للمبالغة وأنشد:
تدلي بودّي إذا لاقيتني كذبا ... وإن أغيب فأنت الهافر اللمزه
فالهافر المغتاب واللامز العيّاب قال الله تعالى: ومنهم من يلمزك في الصدقات، أي يصيبك» والذي استخلصناه من كتب اللغة هو التصريف التالي لكليهما.
يقال: همزه يهمزه بضم الميم وبكسرها همزا غمزه وضغطه ونخسه ودفعه وضربه وعضّه واغتابه في غيبته فهو همّاز وهمزة كسرة(10/575)
وهمز الشيطان الإنسان: همس في قلبه وسواسا وهمز به الأرض صرعه وهمز الفرس: نخسه بالمهماز ليعدو وهمز العنب أو رأسه عصره وهمز الكلمة أو الحرف نطق بها بالهمز أو وضع لها علامة الهمز.
ويقال: لمزه يلمزه بضم الميم وبكسرها لمزا: عابه وأشار إليه بعينه ونحوها مع كلام خفي ودفعه وضربه ولمزه الشيب: ظهر فيه وقال سعيد بن جبير: «الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم. وقال ابن كيسان: الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ واللمزة الذي يكسر عينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه، وهناك أقوال أخرى ترجع كلها إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب.
(عَدَّدَهُ) قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «العامة على تثقيل الدال الأولى وهو أيضا للمبالغة وقرأ الحسن والكلبي بتخفيفها فمن شدّد ميمه نظر للمبالغة والتكثير ومن خفف ميمه جعله محتملا للتكثير وعدمه» والمعنى جمعه وضبط عدده وأحصاه.
(لَيُنْبَذَنَّ) ليطرحنّ وعبارة ابن خالويه «ومعنى ينبذن يتركن في جهنم قال الله تعالى: فنبذوه وراء ظهورهم أي تركوه والصبيّ المنبوذ المتروك وهو ولد الحركة والمدغدغ وابن الليل وهو ولد الخبيثة وهو النّفل وابن المساعاة كله ولد الزناء.
(الْحُطَمَةِ) من أسماء النار أي التي تحطم كل ما ألقي فيها، وفي المختار: «حطمه من باب ضرب أي كسره فانحطم وتحطم والتحطيم التكسير والحطمة من أسماء النار لأنها تحطم ما تلتقم» .
(مُؤْصَدَةٌ) مطبقة قال:
تحنّ إلى جبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة(10/576)
(عَمَدٍ) قرىء بفتحتين وبضمتين وبضم فسكون أما الأولان فهما جمعان لعمود، ففي كتب اللغة: العمود ما يقوم عليه البيت وغيره وقضيب الحديد والجمع أعمدة وعمد وعمد وأما الثالث فهو تخفيف لقراءة عمد بضمتين، وعبارة ابن خالويه: «والعمد جمع عمود ولم يأت في كلام العرب على هذا الوزن إلا أحرف أربعة: أديم وأدم وعمود وعمد وأفيق وأفق وإهاب وأهب، وزاد الفراء خامسا قضيم وقضم يعني الصحكاك والجلود وقرأ أهل الكوفة في عمد بضمتين وهو أيضا جمع عمود مثل رسول ورسل وروى هارون عن أبي عمرو في عمد بسكون الميم تخفيفا مثل رسول ورسل» .
الإعراب:
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ) ويل مبتدأ ولكل همزة خبره وسوّغ الابتداء به مع أنه نكرة ما تضمنه من معنى الدعاء عليهم بالهلكة، وعبارة ابن خالويه «فإن سأل سائل: فقال: ويل نكرة والنكرة لا يبتدأ بها فما وجه الرفع؟ فقل النكرة إذا قربت من المعرفة صلح الابتداء بها نحو خير من زيد رجل من بني تميم ورجل في الدار قائم وكذلك ألف الاستفهام مسهلة الابتداء بالنكرة نحو قوله أمنطلق أخوك هذا قول، وقال آخرون: ويل معرفة لأنه اسم واد في جهنم نعوذ بالله منه فإن قيل: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقل إن ألفاظ القرآن تجيء لفظا عربيا مستعارا كما سمى الله تعالى الصنم بعلا حيث اتخذ ربا والصنم عذابا ورجزا. فقال: والرجز فاهجر لأن من عبد الصنم أصابه الرجز فسمي باسم مسبّبه فلما كان الويل هلاكا وثبورا ومن دخل النار فقد هلك جاز أن يسمّى المصير إلى الويل ويلا وكذلك فسوف يلقون غيا قيل واد في جهنم نعوذ بالله منه. ويجوز في النحو ويلا لكل همزة(10/577)
على الدعاء أي ألزمه الله ويلا قال جرير:
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها ... فويلا لتيم من سرابيلها الخضر
بالنصب الرواية الصحيحة وأجاز الكوفيون: ويل وويل وويل وويلا على حسم الإضافة على إرادتها والويس كلمة أخف من الويل والويح كلمة أخفّ من الويس والويب كلمة أخف من الويح. ويل لزيد وويله وويحه وويسه ويبه فمتى انفرد جاز فيه الرفع والنصب ومتى أضيف لم يكن إلا منصوبا لأنه يبقى بلا خبر ومتى انفصل جعلت اللام خبرا وقال الحسن: ويح كلمة رحمة فإن قيل: كيف تصرف الفعل من ويح وويس وويل؟ فقل: ما صرّفت العرب منها فعلا، فأما هذا البيت المعمول:
فما وال وما واح ... وما واس أبو زيد
فلا تلتفتنّ إليه فإنه مصنوع خبيث» ولمزة بدل من همزة وهذه عبارة ابن خالويه «لمزة بدل منه والمهمزة عصا في رأسها حديدة تكون مع الرائض يهمز بها الدابة والجمع مهامز، قال عدي يصف فرسا:
نصفه جوزه نصير شواه ... مكرم من مهامز الرّوّاض
وأنشد أبو محلّم:
هل غير همز ولمز للصديق ولا ... ينكي عدوكم منكم أظافير»
وقيل تأكيد لهمزة تأكيدا لفظيا بالمرادف والذي بدل من كل بدل المعرفة من النكرة أو نصب بفعل محذوف على الذم وأعربها ابن خالويه نعتا لكل همزة لمزة وليس ببعيد، وجملة جمع صلة للذي لا محل له وفاعل جمع مستتر تقديره هو يعود على كل همزة لمزة ومالا مفعول به وعدده عطف على جمع وعبارة ابن خالويه «وعدده نسق عليه والمصدر(10/578)
عدّد يعدّد تعديدا فهو معدّد والهاء مفعول به وقرأ الحسن: جمع مالا وعدّده بالتخفيف أي جمع مالا وعرف عدده وأحصاه فمن خفّف جعل العدد مصدرا واسما ومن شدّد جعله فعلا ماضيا» وهذا قول في معنى التخفيف وقيل وجمع عدد نفسه من عشيرته وأقاربه وعدده وهي على هذا التأويل اسم أيضا معطوف على مالا أي وجمع عدد المال أو عدد نفسه وقيل أيضا إن عدده فعل ماض بمعنى عدّه إلا أنه شذّ في إظهاره والقياس الإدغام كما شذّ الشاعر في قوله: «إني أجود لأقوام وإن ضنّوا» أي بخلوا (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) الجملة حال من فاعل جمع أي حاسبا ظانّا أن المال سيخلده أي يوصله إلى رتبة الخلود فلا يموت ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا واقعا في سؤال كأنه قيل: ما باله يجمع المال ويهتم به، وأن واسمها وجملة أخلده خبرها وأن وما في حيّزها سدّت مسدّ مفعولي يحسب وفي المختار: «الخلد بالضم البقاء وبابه دخل وأخلده الله وخلد تخليدا» (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) كلا ردع وزجر له عن حسبانه أي ليس الأمر كما دار في خلده من أن المال يخلده واللام جواب قسم محذوف وينبذنّ فعل مضارع مبني للمجهول ومبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وفي الحطمة متعلقان بينبذنّ والواو حرف عطف وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة أدراك جملة فعلية في محل رفع خبر وما اسم استفهام مبتدأ والحطمة خبر والجملة الاسمية المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعول أدراك الثاني وقد تقدمت له نظائر كثيرة ونار الله خبر لمبتدأ محذوف أي هي نار الله والموقدة نعت للنار، وأجاز ابن خالويه أن تكون بدلا من الحطمة والموقدة نعت لنار الله وعبارته:
«نار الله الموقدة: إن شئت جعلت النار بدلا وإن شئت رفعتها بخبر مبتدأ مضمر أي هي نار الله واسم الله تعالى جر بالإضافة والموقدة نعت(10/579)
للنار وزنها مفعلة من أوقدت أوقد إيقادا فأنا موقد والنار موقدة وقد وقدت النار نفسها تقد وقدا ووقودا بضم الواو فهي واقدة قال الله تعالى:
وقودها الناس والحجارة، يعني حجارة الكبريت والوقود بالفتح الحطب وقرأ طلحة وقودها بضم الواو جعله مصدرا قال الشاعر- حاتم الطائي-:
ليلك يا موقد ليل قرّ ... والريح مع ذلك ريح صرّ
أوقد يرى نارك من يمرّ ... إن جلبت ضيفا فأنت حر
وهذا أحسن ما قيل في معناه» .
(الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) التي نعت للنار ويجوز أن تكون في محل رفع أيضا خبرا لمبتدأ محذوف وجملة تطّلع صلة التي لا محل لها وفاعل تطّلع هي يعود على النار وعلى الأفئدة متعلقان بتطّلع ووزن تطّلع تفتعل أبدلت تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد طاء وكذلك تبدل طاء إذا وقعت صاد أو ضاد أو ظاء قال عروة بن أدينة:
عاود القلب خيال ردعه ... كلما قلت تناهى اطلعه
يا له داء ترى صاحبه ... ساهم الوجه له ممتقعه
(إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) إن واسمها وعليهم متعلقان بمؤصدة وفي عمد صفة لمؤصدة وإليه ذهب أبو البقاء فتكون النار داخل العمد وقيل بمحذوف خبر لمبتدأ مضمر ورجح السمين أن يكون حالا من الضمير في عليهم أي موثقين وممددة نعت للعمد.
البلاغة:
في قوله «لينبذنّ في الحطمة» بعد «ويل لكل همزة لمزة» مقابلة لفظية رائعة البلاغة فإنه لما وسمه بهذه السمة بصيغة دلّت على أنها راسخة فيه ومتمكنة منه اتبع المبالغة المتكررة في الهمزة واللمزة بوعيده(10/580)
بالنار التي سمّاها الحطمة لما يكابد فيها من هول ويلقى فيها من عذاب واختار في تعيينها صيغة مبالغة على وزن الصيغة التي ضمنها الذنب المقترف حتى يحصل التعادل بين الذنب والجزاء فهذا الذي ضري بالذنب جزاؤه هذه الحطمة التي هي ضارية أيضا تحطم كل ما يلقى فيها، قيل نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق وكان من عادته الغيبة والوقيعة وقيل في أمية بن خلف وقيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وغضّه منه ولئن كان السبب خاصّا فإن الوعيد كان عامّا يتناول كلّ من اتّسم بهذه السمة الموهونة ليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه فإن ذلك أزجر له وأنكى فيه وقد مرّ بحث التعريض وهو عبارة عن أن يكني الإنسان بشيء عن آخر ولا يصرّح به لئلا يأخذه السامع لنفسه ويعلم المقصود منه كقول القائل ما أقبح البخل فيعلم أنك أردت أن تقول له: أنت بخيل، وكقول بعضهم للآخر: لم تكن أمّي زانية، يعرض بأن أمه زانية. والتعريض على كل حال نوع من الكناية ومن أمثلته الشعرية قول الحجّاج يعرض بمن تقدمه من الأمراء:
لست براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم(10/581)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
(105) سورة الفيل مكيّة وآياتها خمس
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
اللغة:
(الْفِيلِ) حيوان من أضخم الحيوانات له خرطوم طويل يرفع به العلف والماء إلى فمه ويضرب به، ويجمع على أفيال وفيلة وفيول ومؤنثه فيلة، والفيل أيضا: الخسيس الثقيل وداء الفيل مرض يحدث منه غلظ كثيف في القدم والساق تتخلله عجر صغيرة ناتئة، والفيّال صاحب الفيل والجمع فيّالة وفال الرأي وفائله وفيله: ضعيفه والفيالة ضعف الرأي.
(تَضْلِيلٍ) ضياع وخسار وهلاك وقيل لامرىء القيس الملك الضليل لأنه ضلّل ملك أبيه أي ضيّعه.(10/582)
(طَيْراً) الطير اسم جنس يذكّر ويؤنّث، وأنشد محمد بن القاسم في تذكير الطير:
لقد تركت فؤادك مستهاما ... مطوّقة على فنن تغنّى
تميل به وتركبه بلحن ... إذا ما عنّ للمحزون أنا
فلا يغررك أيام تولّى ... بذكراها ولا طير أرنّا
(أَبابِيلَ) قال ابن خالويه: «أبابيل نعت للطير أي جماعات واحدها إبّول مثل عجّول وعجاجيل، وقال أبو جعفر الرؤاسي: واحدتها إبّيل وقال آخرون: أبابيل لا واحد لها ومثلها أساطير وذهب القوم شماطيط وعبابيد وعباديد كل ذلك لم يسمع واحده وقال آخرون: واحد الأساطير أسطورة والأبيل في غير هذا الراهب والوبيل العصا يقال: رأيت أبيلا أي راهبا متكئا على وبيل يسوق أفيلا. الأفيل ولد الناقة، قال عدي:
أبلغ النعمان عنّي مالكا ... قول من خاف اظّنانا واعتذر
إنني والله، فاقبل حلفتي ... بأبيل كلما صلّى جأر»
وعبارة الزمخشري: «أبابيل: خرائق الواحدة إبّاله وفي أمثالهم:
ضغث على إبالة وهي الحزمة الكبيرة شبهت الخرقة من الطير في تضامها بالإبالة وقيل أبابيل مثل عباديد وشماطيط لا واحد لها» وفي القاموس: «وأبابيل فرق جمع بلا واحد والإبالة كإجّانة ويخفف وكسكّيت وعجّول ودينار القطعة من الطير والخيل والإبل أو المتتابعة منها» .
(سِجِّيلٍ) طين مطبوخ محرق كالآجر، وعبارة الزمخشري:
«وسجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار كما أن سجينا علم لديوان أعمالهم كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدوّن واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال لأن العذاب موصوف(10/583)
بذلك، وأرسل عليهم طيرا، فأرسلنا عليهم الطوفان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر وقيل هو معرب من سنككل وقيل من شديد عذابه ورووا بيت ابن مقبل «ضربا تواصت به الأبطال سجيلا» وإنما هو سجينا والقصيدة نونية مشهورة في ديوانه» قلت وهي قصيدة جيدة وجاء في أولها:
طاف الخيال بنا ركبا يمانينا ... ودون ليلى عواد لو تعدينا
وإن فينا صبوحا إن رأيت به ... ركبا مهيبا وآلاما هما فينا
ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضربا تواصت به الأبطال سجينا
وأراد بالخيال طيف محبوبته ليلى وركبا حال من ضمير بنا ويمانين جمع يمان وأصله يماني فهجرت الياء لبقاء الألف الدالّة على النسب والحال إن بيننا وبين ليلى مسافة بعيدة وعوادي عادية ثم التفت إليها وقال لو تعديتها لوجدتها كثيرة مانعة من زيارتك والحال إن فينا فرسانا مستلئمة بأسلحتها واستعار لها الصبوح وهو اسم للخمر وقت الصباح بجامع أن كلّا منها يأتي صباحا وفيه تهكم بأعدائه وركبا وإن رأيت أي إن أردت أن تعلمي به اعتراض حذف جوابه لدلالة الكلام عليه والمهيب اسم مفعول الذي تهابه الناس وتخشاه وألام جمع لأم كشجر وواحده لامة كشجرة وهي درع صغيرة تلبس في الحرب والمراد حقيقتها أو الفرسان اللابسة لها وهما أي الألام والركب فينا، ورفقة عطف على ركبا والبيض كناية عن السيوف وضاحية ظاهرة أي يضربون بها ويجوز قراءته بفتح الباء أي المغافر التي تلبس على الرءوس والمراد بها نفس الرءوس والسجين الشديد الذي يبطل حركة القتيل كأنه من السجن وهو الحبس وهكذا الرواية عن ابن مقبل وبعضهم رواه سجيلا باللام أي شديدا كأنه من التسجيل أي التقوية والتثبيت لكن القصيدة نونية كما(10/584)
رأيت. وقال البخاري في صحيحه: «سجين وسجيل واللام والنون أختان» ثم روى البيت.
أما ابن خالويه فزعم أن السجيل الشديد قال «وقيل حجر وطين والأصل سنك وكل فعرّب» .
(عصف) العصف تقدم شرحه وهو ورق الزرع ودقاق التبن.
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفيما نص عبارة ابن خالويه فهي وافية بالغرض: «وتر وزنه من الفعل تفعل وقد حذف من آخره حرفان: الألف والهمزة فالألف سقطت للجزم وهي لام الفعل مبدلة من ياء والهمزة هي عين الفعل سقطت تخفيفا والأصل تر أي فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت ألفا لفظا وياء خطا ونقلوا فتحة الهمزة إلى الراء وأسقطوها تخفيفا لأن الماضي من ترى رأيت مهموزا والمصدر من ذلك رأيت زيدا بعيني أراه رؤية فأنا راء ووزان راء فاعل والأصل رائي فاستثقلوا الضمة على الياء المتطرفة فحذفوها فالتقى ساكنان الياء والتنوين فأسقطوا الياء لالتقاء الساكنين فصار راء مثل راع وقاض فالهمزة في راء بإزالة العين في راع فإن شئت أثبته خطا فجعلت بعد الألف ياء عوضا عن الهمزة وإن شئت كتبته بألف ولم تثبت الهمزة لأن الهمزة إذا جاءت بعد الألف تخفى وقفا فحذفوها خطا وكذلك جاء وشاء وساء ومراء جمع مرآة كل ذلك أنت فيه مخيّر في الحذف والإثبات فإذا أمرت من رأيت قلت: ريا زيد براء واحدة فإذا وقفت قلت: ره وإنما(10/585)
صار الأمر على حرف واحد والأصل ثلاثة لأن الهمزة سقطت تخفيفا والألف سقطت للجزم فبقي الأمر على حرف ومثله مما يعتلّ طرفاه فيبقى الأمر على حرف قول العرب: ع كلامي وش ثوبك وق زيدا ول الأمر وف بالوعد، وأصله من وفى يفي ووعى يعي ووشى يشي وولي يلي فذهبت الياء للجزم والواو لوقوعها بين ياء وكسرة فبقي الأمر على حرف، قال الله تعالى: وقنا عذاب النار والأصل اوقينا ذهبت الياء للجزم والواو لوقوعها بين كسرتين فبقيت قاف واحدة فتقول: ق يا زيد وقيا وقوا، قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم، وكذلك تقول: ريا زيد وريا للاثنين وروا للجماعة وري يا هند وريا مثل المذكرين ورين يا نسوة فإذا وقفت على كل ذلك قلت عه وقه بالهاء لا غير» . وكيف اسم استفهام في محل نصب على المصدرية أو الحالية واختار الأول ابن هشام في المغني قال وعندي بأنها تأتي في هذا النوع مفعولا مطلقا أيضا وإن منه: كيف فعل ربك إذ المعنى «أي فعل فعل ربك ولا يتجه فيه أن يكون حالا من الفاعل» أي وهو ربك لأنه يقتضي أن الفاعل وهو الرب متّصف بالكيفيات والأحوال لأن المعنى فعل ربك حال كونه على أي حالة وكيفية واتصافه بها محال والجملة المعلقة بالاستفهام سدّت مسدّ مفعولي تر لأن الرؤية قلبية تفيد العلم الضروري المساوي في القوة والجلاء للمشاهدة والعيان، وبأصحاب الفيل متعلقان بفعل (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجعل فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وكيدهم مفعول به أول وفي تضليل في موضع المفعول الثاني (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) الواو حرف عطف وأرسل عطف على ألم نجعل لأن الاستفهام فيه للتقرير فكان المعنى قد جعل ذلك وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعليهم متعلقان بأرسل وطيرا مفعول به وأبابيل نعت لطيرا لأنه اسم جمع(10/586)
(تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) الجملة نعت ثان لطيرا وترميهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبحجارة متعلقان بترميهم ومن سجّيل نعت لحجارة (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) الفاء عاطفة وجعلهم فعل ماض وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وكعصف في موضع المفعول الثاني ومأكول نعت لعصف.
الفوائد:
قصة أصحاب الفيل من القصص العربي الممتاز وهي مطوّلة ذكرها أهل التفسير والسير مطوّلة ومختصرة وخلاصتها أن النجاشي ملك الحبشة وهو أصحمة جدّ النجاشي الذي آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم كان بعث أبرهة أميرا على اليمن فأقام به واستقامت له الكلمة هناك وبنى كنيسة ليصرف إليها الحجاج من مكة فأحدث رجل من كنانة فيها فحلف أبرهة ليهدمنّ الكعبة فجاء مكة بجيشه على أفيال فحين توجهوا لهدم الكعبة أرسل الله عليهم ما قصته، وارجع إلى المطولات وكان ذلك عام مولد النبي صلّى الله عليه وسلم.(10/587)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
(106) سورة قريش مكيّة وآياتها أربع
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
الإعراب:
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) اضطربت أقوال المعربين والمفسرين في متعلق هذه اللام التي هي مستهل السورة اضطرابا شديدا لا نملك معه إمكانية البتّ في القول الحاسم ولكننا سنختار ما جنحنا إليه ثم نورد لك بعض أقوال المعربين لأنهم أفرغوا كل طاقاتهم العلمية وملكاتهم الذهنية في توجيه هذا المتعلق، فنقول: لإيلاف متعلق بقوله فيما بعد فليعبدوا كأنه قال: فإن لم يعبدوا الله لسائر نعمه السابغة المترادفة فليعبدوه لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف وهي نعمة سابغة أتاحت لهم الاتجار وضمنت لهم ميسور الرزق. وإيلاف مصدر آلف رباعيا بوزن أكرم يقال آلفته أولفه إيلافا، وكانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي(10/588)
الصيف إلى الشام فيمتارون ويتجرون وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله وسدنة بيته فيهابهم الناس ولا يتعرض لهم أحد بينما كان المتجرون وأرباب القوافل يستهدفون للمخاطر ويتخطفهم الناس. تقول آلفت المكان أولفه إيلافا إذا ألفته فأنا مولف قال:
شددت إليك الرحيل فوق شملة ... من المؤلفات الرهو غير الأوارك
والشملال بالتشديد الناقة الخفيفة السريعة السير أي شددت الرحل فوق ناقة سريعة السير ذاهبا إليك وتلك الناقة من النوق المؤلفات المعتادات الرهو أي السير السهل المستقيم، ويروى الزهو بالزاي وهو سيرها بعد ورودها الماء والأوارك جمع آركة وهي المقيمات موضع الأراك ترعاه أو ترعى نبتا آخر يقال له الحمض أي ليست ناقتي كذلك بل هي معلوفة ومعدّة للسفر، وينسب هذا القول الذي اخترناه إلى الخليل بن أحمد وناهيك به، وأورده الزمخشري فيما أورده من أوجه وبدأ به ولكن يرد عليه إشكال وهو دخول الفاء على فليعبدوا قال الزمخشري: «فإن قلت: «فلم دخلت الفاء؟ قلت لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إما لا فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة» . وبدأ الشهاب السمين بقوله: «في متعلق هذه الآية أوجه:
أحدها أنه ما في السورة قبلها من قوله فجعلهم كعصف مأكول قال الزمخشري وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصحّ إلا به وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل وعن عمر أنه قرأهما في الركعة الثانية من المغرب وقرأ في الأولى بسورة والتين، وإلى هذا ذهب أبو الحسن الأخفش إلا أن الحوفي قال:
وردّ هذا القول جماعة بأنه لو كان كذلك لكان لإيلاف بعض سورة ألم تر، وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على عدم ذلك» وأقول: لقد اتفق علماء البلاغة ونقّاد الشعر القدامى على أن التضمين(10/589)
من عيوب الشعر فكيف تحمل القراءة عليه وأسلوب القرآن أبلغ من أن يتسامى إليه النقد والتجريح، وقيل هي متعلقة بأعجبوا محذوفا وقد يكون في هذا الرأي مندوحة عن التقدير والتأويل هذا وكما اختلف المعربون في الإعراب اختلف القرّاء في القراءات مما يرجع إليه في المطولات. أما ابن خالويه فقد قال «وهو مصدر آلف يؤلف إيلافا فهو مؤلف مثل آمن يؤمن إيمانا فهو مؤمن ومن قرأ إلفهم جعله مصدرا لألف يألف إلفا فهو آلف مثل علم يعلم علما فهو عالم والأمر من الممدود آلف يا زيد ومن المقصور إيلف يا زيد، واختلف العلماء في لإيلاف فقال قوم هي وألم تر سورة واحدة، منهم الفراء وسفيان بن عيينة قالا:
والتقدير فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش فعلى هذا تكون اللام لام الخفض متصلة ب ألم تر وقال الخليل والبصريون: اللام لام الإضافة متصلة ب فليعبدوا والتقدير: فليعبدوا رب هذا البيت لأن منّ عليهم بإيلاف قريش وصرف عنهم شرّ أصحاب الفيل، وحدّثني ابن مجاهد عن السّمّري عن الفراء قال: يجوز أن تكون اللام لام التعجب كأنه قال: أعجبنا محمد لإيلاف قريش كما قال الشاعر- النابغة الذبياني-:
أتخذل ناصري وتعزّ عبسا ... أيربوع بن غيظ للمعنّي
معناه أعجبوا للمعنّي» . وقريش مضاف إليه وهي قبيلة تمتّ إلى النضر بن كنانة سمّوا بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار، وعن معاوية أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما: بم سمّيت قريش قال بدابة البحر تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى وأنشد:
وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سمّيت قريش قريشا
تأكل الغثّ والسمين ولا تت ... رك يوم لذي جناحين ريشا(10/590)
ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا
وقال ابن خالويه: وقيل سمّوا قريشا بتقارش الرماح. والتصغير للتعظيم وقيل من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا يكتسبون بتجارتهم وضربهم في البلاد، وقد صرفت قريش لأنه أريد بها الحي ولو أريد القبيلة لامتنعت من الصرف، قال سيبويه في معد وثقيف وقريش وكنانة هذه للأحياء أكثر وإن جعلتها أسماء للقبائل فهو جائز وحسن (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) إيلافهم بدل من لإيلاف بدل مقيد من مطلق أطلق الإيلاف في الأول وقيده في الثاني برحلتي الشتاء والصيف تفخيما لأمر الإيلاف وتعظيما له وتذكيرا بسوابغ النعم والهاء مضاف إليه ورحلة الشتاء والصيف مفعول به لإيلافهم لأنه مصدرَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ)
الفاء الفصيحة لأنها وقعت في جواب شرط مقدّر واللام لام الأمر ويعبدوا فعل مضارع مجزوم باللام والواو فاعل ورب مفعول به وهذا مضاف إليه والبيت بدل من هذا وأعربها ابن خالويه نعتا ولست أحب ذلك وإن قاله النحاة ولكني أرى أن الجامد بعد اسم الإشارة لا يسوغ إعرابه نعتا مطلقا فالأحسن أن يكون المشتق نعتا والجامد بدلا (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) الذي نعت لرب أو بدل منه وجملة أطعمهم صلة لا محل لها ومن جوع متعلق بأطعمهم ومن تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم فلا بدّ من تقدير مضاف أي من أجله، وكذلك آمنهم من خوف.(10/591)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
(107) سورة الماعون مكيّة وآياتها سبع
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
اللغة:
(يَدُعُّ) يدفع بعنف وجفوة وفي المختار: «دعّ من باب رد» قال ابن دريد: دعّه ودحّه بمعنى واحد وامرأة دعوع ودحوح وأنشد:
قبيح بالعجوز إذا تغدّت ... من البرنيّ واللبن الصريح
بتغّيها الرجال وفي صلاها ... مواقع كل فيشلة دحوح
وأنشد ثعلب عن ابن الأعرابي:
قد أغتدي والليل في حريمه ... معسكرا في الغرّ من نجومه(10/592)
والصبح قد نسّم في أديمه ... يدعّه بضفّتي حيزومه
دعّ الربيب لحيتي يتيمه (الْماعُونَ) في المختار: «الماعون اسم جامع لمنافع البيت كالقدر والفأس ونحوهما» وعبارة ابن خالويه: «والماعون: الطاعة والماعون الزكاة والماعون الماء والماعون الحال والماعون الدلو والقداحة والفأس والنار والملح وما أشبه ذلك من المحلّات، وإنما سمّيت المحلات ماعونا لأن المسافر إذا كانت معه هذه الأشياء حلّ حيث شاء قال الراعي:
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا»
الإعراب:
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) الهمزة للاستفهام وهي مع رأيت بمعنى أخبرني وقد تقدم ذلك كثيرا ويجوز أن تكون الرؤية قلبية فتتعدى لمفعولين أحدهما الموصول والثاني محذوف والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالدين من هو وقيل الرؤية بصرية فلا حاجة إلى تقدير مفعول به (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدّر والتقدير إن لم تعرفه فذلك، وقدّره السمين «إن طلبت علمه فذلك» وذلك مبتدأ والذي خبره وجملة يدعّ اليتيم صلة، ومن الغريب أن ابن خالويه أعرب الذي نعتا لذلك ولم يشر إلى الخبر مطلقا مع أنه قال إن ذلك مبتدأ، وهناك أقوال وأعاريب أخرى ذكرها المفسرون طوينا عنها صفحا لأنها مجرد تكلف (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) الواو عاطفة ولا نافية ويحضّ فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو أي الذي يدع اليتيم وعلى طعام المسكين متعلقان بيحضّ (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) الفاء الفصيحة(10/593)
أيضا أي إذا علمت أنه متّصف بهذه الصفات فويل أو فإذا كان الأمر كذلك فويل وهذا أولى من قول السمين إنها للسببية وقد فسّره بقوله:
«والفاء للسببية أي إن الدعاء عليهم بالويل متسبّب عن هذه الصفات الذميمة» وويل مبتدأ وللمصلين خبره (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) الذين نعت للمصلّين وهم مبتدأ وعن صلاتهم متعلق بساهون والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الذين. ونستبعد قول من تأولوا السهو عن الصلاة في الآية بأنه سهو في الصلاة، فليس السهو فيها بخطيئة ولا منكر ينذر معه الساهي بويل وكل مؤمن عرضة لأن يسهو في صلاته فينجبر هذا السهو فيها بسجود السهو أو بالسنن والنوافل على ما هو مقرر في الفقه (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) الذين بدل من الذين الأولى وهم مبتدأ وجملة يراءون خبر والجملة صلة الذين وجملة يمنعون الماعون عطف على يراءون داخلة في حيّز الصلة ومفعول يمنعون الأول محذوف أي الناس أو الطالبين والماعون مفعوله الثاني.(10/594)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
(108) سورة الكوثر مكيّة وآياتها ثلاث
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
اللغة:
(الْكَوْثَرَ) في القاموس: «والكوثر الكثير من كل شيء والكثير الملتف من الغبار والإسلام والنبوّة وقرية بالطائف كان الحجاج معلما بها والرجل الخير المعطاء كالكثير كصيقل والسيد والنهر ونهر في الجنة تتفجر منه جميع أنهارها» وعبارة الزمخشري: «والكوثر فوعل من الكثرة قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك؟ قالت آب بكوثر وقال:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا»
والبيت للكميت والعقائل خيار النساء والكوثر بليغ النهاية في الخير.
وعبارة ابن خالويه: «والكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب وحصباؤه المرجان والدرّ وحاله المسك يعني الحمأة وماؤه أشد بياضا(10/595)
من الثلج وأحلى من العسل من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا وقيل الكوثر الخير الكثير ومنه القرآن وهو فوعل من الكثرة والواو زائدة مثل كوسج ونوفل، والكوثر في غير هذا الرجل السخي قال الشاعر:
وأنت كثير يا ابن مروان (البيت) » وأورد القرطبي للكوثر ستة عشر قولا في الكوثر وقال وأصحّها الأول يعني أنه نهر في الجنة لأنه ثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلم نصا.
(شانِئَكَ) مبغضك وفي المصباح «شنئه كسمعه ومنعه شنئا مثل فلس وشنآنا بفتح النون وسكونها أبغضه والفاعل شانىء في المذكر وشانئة في المؤنث وشنئت بالأمر اعترفت به» وقال ابن خالويه:
«الشانئ: المبغض قال الأعشى:
ومن شانىء كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن»
(الْأَبْتَرُ) هو الذي لا عقب له وهو في الأصل الشيء المقطوع من بتره أي قطعه وحمار أبتر لا ذنب له ورجل أباتر بضم الهمزة أي قاطع رحمه، وعبارة ابن خالويه: «معناه إن مبغضك يا محمد هو الأبتر أي لا ولد له والأبتر الحقير والأبتر الذليل والأبتر من الحيات المقطوع الذنب والأبتر ذنب الفيل، كانت قريش والشانئون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: إن محمدا صنبور أي فرد لا ولد له فإذا مات انقطع ذكره فأكذبهم الله تعالى وأعلمهم أن ذكر محمد مقرون بذكره إلى يوم القيامة إذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن محمدا رسول الله. والصنبور النخلة تبقى منفردة ويدق أسفلها، قال: ولقي رجل رجلا فسأله عن نخلة فقال صنبر أسفله وعشش أعلاه، والصنبور أيضا ما في فم الإداوة من حديد أو رصاص، والصنبور الصبي الصغير، قال(10/596)
أوس بن حجر:
مخلّفون ويقضي الناس أمرهم ... غشّ الأمانة صنبور فصنبور»
وفي المختار: «بتره قبل التمام وبابه نصر والانبتار الانقطاع والأبتر المقطوع الذنب وبابه طرب والأبتر أيضا الذي لا عقب له وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر» .
الإعراب:
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) إن واسمها وجملة أعطيناك خبرها وفي قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنّا أنطيناك بالنون قال التبريزي هي لغة للعرب العاربة وقال في الحديث «وأنطوا الثبجة» محركة المتوسطة بين الخيار والرذال والكوثر مفعول به ثان والفاء حرف عطف للتعقيب وصل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت ولربك متعلقان بصل ووضع الظاهر موضع المضمر وكان المقتضى أن يقول فصل لنا ولكنه انتقل من المضمر إلى المظهر على سبيل الالتفات اهتماما بذكر ربك وتعظيما له، وانحر عطف على صل أي صل صلاة عيد النحر وهذا يقتضي أن تكون السورة مدنيّة لا مكيّة وقيل الأمر عام في كل صلاة ونحر (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) الجملة مستأنفة مؤكدة وإن واسمها وهو مبتدأ ثان أو ضمير فصل والأبتر خبر هو والجملة خبر إن أو الأبتر خبر إن، ولا أدري كيف أجاز أبو البقاء أن يعرب هو تأكيدا لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر وعبارة ابن هشام «ووهم أبو البقاء فأجاز في إن شانئك هو الأبتر التوكيد، وقد يريد أنه توكيد لضمير مستتر في شانئك لا لنفس شانئك، وذلك لأن شانىء اسم فاعل بمعنى مبغض.(10/597)
البلاغة:
1- في قوله تعالى: «إنّا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر» فن المذهب الكلامي وقد تقدمت الإشارة إليه كما تقدم أن منه نوعا منطقيا تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة، فإن هاتين الآيتين تضمنتا نتيجة من مقدمتين صادقتين، وبيان ذلك أنّا نقول: إن عطية الكوثر تعدل جميع العطيات وإنما قلنا ذلك لأن الشكر على مقادير النعم، وقد أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن يقابل هذه النعمة بجميع العبادات البدنية والمالية شكرا عليها، والصلاة جامعة لجميع العبادات فهي تعدل جميع العطيات وإنما قلنا إن المأمور به جميع العبادات البدنية لجمعها بين القيام والقعود والركوع والسجود وقراءة القرآن والأذكار والصمت عن غير ذلك من الكلام وتحريم الطعام والشراب والبقاء على الطهارة الكاملة والخضوع والخشوع والدعاء والابتهال، يحرم فيها ما يحرم على الصائم من الأكل والشرب والجماع والرفث وجميع الحركات والسكنات الخارجة عنها فهي جامعة لفضيلتي الصلاة والصيام وأعمال الظاهر وأعمال الباطن، ثم أمر عليه الصلاة والسلام مع الصلاة بالنحر ولا يخلو من أن يراد به الحج الجامع بين العبادتين أو يراد مطلق النحر الذي يدخل تحته نحر الهدي في الحج والنحر للضيفان وافتقاد الجيران والإطعام في الأزمات، فقد تبين أنه سبحانه أمر رسوله صلّى الله عليه وسلم بجميع العبادات شكرا على عطية الكوثر فدلّ ذلك على أن عطية الكوثر تعدل جميع العطيات وإنما كانت لهذه العطية هذه المزية لكونه صلّى الله عليه وسلم أعطي بها الفضل والفخر على جميع الأنبياء صلوات الله عليهم حيث تسأل الأمم أنبياءهم في الشفاعة لهم ليرووا من العطش الأكبر فيعتذرون عن ذلك بما ورد عنهم في حديث الشفاعة الصحيح المشهور فلا تجد جميع(10/598)
الأمم حينئذ من يشفع لها ولا يسقيها سوى محمد صلّى الله عليه وسلم. فالحظ ما تضمنته هاتان الآيتان على قصرهما من الإشارة التي دلّت بألفاظها القليلة على معان لو عبّر عنها بألفاظها الموضوعة لها بطريق البسط لملأت الصحائف والأجلاد.
2- وفي قوله «فصل لربك» التفات من التكلّم إلى الغيبة، والأصل فصّل لنا ولكنه عدل عن ذلك لأن في لفظ الرب حثّا على فعل المأمور به لأن من يربيك يستحق العبادة.(10/599)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
(109) سورة الكافرون مكيّة وآياتها ستّ
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
الإعراب:
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) قال رهط من المشركين للنبي صلّى الله عليه وسلم: هلمّ فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله فإن كان الذي جئت به خيرا مما بأيدينا كنّا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه فأنزلها الله عزّ وجلّ. وقل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ويا حرف نداء للمتوسط وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب وها للتنبيه والكافرون بدل من أي أو نعت لها، قال ابن خالويه: «فإن سأل سائل فقال: التنبيه يدخل قبل الاسم المبهم نحو هذا فلم دخل هاهنا بعد أي؟ فقال: لأن أيا تضاف إلى ما بعدها فلولا أن التنبيه فصل بين الكافرين وأي لذهب الوهم إلى أنه مضاف» (لا(10/600)
أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ)
لا نافية وأعبد فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وما موصول بمعنى الذي في محل نصب مفعول به وجملة تعبدون صلة لا محل لها والعائد محذوف أي تعبدونه ويجوز أن تكون مصدرية فتكون مؤولة مع ما بعدها بمصدر مفعول مطلق (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) الواو عاطفة ولا نافية وأنتم مبتدأ وعابدون خبر وما اسم موصول ووقعت للعقلاء على سبيل التعظيم مفعول به وجملة أعبد صلة أو ما مصدرية فتكون مع ما في حيّزها مفعولا مطلقا (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) عطف أيضا ويتحصل مما أورده المعربون في ما أنها بمعنى الذي فإن ان المراد بها الأصنام كما في الأولى والثالثة فالأمر واضح لأنهم غير عقلاء وما أصلها أن تكون لغير العقلاء وإذا أريد بها البارئ تعالى كما في الثانية والرابعة فاستدل به من جوّز وقوعها على أولي العلم ومن منع جعلها مصدرية والتقدير ولا أنتم عابدون عبادتي وقال أبو مسلم: «ما في الأوليين بمعنى الذين والمقصود المعبود وما في الأخريين مصدرية أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين فتحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال: 1- أنها كلها بمعنى الذي 2- أنها كلها مصدرية 3- أو الأوليان بمعنى الذي والأخريان مصدريتان، ولقائل أن يقول لو قيل بأن الأولى والثالثة بمعنى الذي والثانية والرابعة مصدرية لكان حسنا حتى لا يلزم وقوع ما على أولي العلم. وسيأتي معنى التكرار في باب البلاغة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) لكم خبر مقدّم ودينكم مبتدأ مؤخر ولي دين عطف على ما تقدم.
البلاغة:
اختلف علماء البلاغة والنحو: هل التكرار في هذه السورة للتأكيد(10/601)
أم لا وإذا لم يكن للتأكيد فبأي طريق حصلت المغايرة حتى انتفى التأكيد، وسنورد أقوالهم مع إلماع لا بدّ منه إليها.
1- فقال جماعة: التكرار للتأكيد فقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم تأكيد لقوله: لا أعبد ما تعبدون، وقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد، تأكيد لقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد، ومثله: فبأي آلاء ربكما تكذبان، وويل يومئذ للمكذبين، وكلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون، وكلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون، وفائدة هذا التأكيد هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخبار بموافاتهم الكفر وأنهم لا يسلمون أبدا.
2- وقال جماعة: ليس التكرار للتوكيد، قال الأخفش: «لا أعبد الساعة ما تعبدون ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد فزال التوكيد وحصل التأسيس حيث تقيدت كل جملة بزمان غير الزمان الآخر» وفي هذا القول نظر كيف يقيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون، هذا مما لا يصحّ.
3- وقال ابن عطية: «لما كان قوله لا أعبد محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستقبل منتظرا ما يكون فيه جاء البيان بقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم أي أبدا ثم جاء قوله ولا أنتم عابدون ما أعبد الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا فهذا معنى الترديد في هذه السورة وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته» .
4- وقال الزمخشري: لا أعبد أريد به العبادة فيما يستقبل لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال كما أن «ما» لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ولا أنا(10/602)
عابد ما عبدتم أي وما كنت قطّ عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه يعني ما عهد منّي قطّ عبادة صنم في الجاهلية فكيف يرجى منّي في الإسلام، ولا أنتم عابدون ما أعبد أي وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته الآن.
5- وقال أبو حيان: والذي اختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل لأن الغالب في «لا» أن تنفي المستقبل ثم عطف عليه: ولا أنتم عابدون ما أعبد، نفيا للمستقبل على سبيل المقابلة ثم قال: ولا أنا عابد ما عبدتم نفيا للحال لأن اسم الفاعل العامل الحقيقة فيه دلالته على الحال ثم عطف عليه ولا أنتم عابدون ما أعبد نفيا للحال على سبيل المقابلة فانتظم المعنى أنه عليه الصلاة والسلام لا يعبد ما يعبدون حالا ولا مستقبلا وهم كذلك إذ ختم الله موافاتهم على الكفر، ولما قال: لا أعبد ما تعبدون وأطلق على الأصنام ما قابل الكلام بما في قوله ما أعبد وإن كان المراد بها الله تعالى لأن المقابلة يسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا على مذهب من يقول إن ما لا تقع على آحاد أولي العلم أما من يجوّز ذلك وهو سيبويه فلا يحتاج إلى الاعتذار بالتقابل.
6- وقال القرطبي: «وقيل هذا أي التكرار مطابقة لقولهم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك فنجري على هذا أبدا سنة وسنة فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده أي إن هذا لا يكون أبدا، وقال ابن عباس قالت قريش للنبي صلّى الله عليه وسلم نحن نعطيك من المال ما تكون به أغنى رجل بمكة ونزوّجك من شئت ونطأ عقبك أي نمشي خلفك وتكفّ عن شتم آلهتنا فإن لم تفعل فنحن نعرض عليك خصلة واحدة وهي لنا ولك صلاح تعبد آلهتنا اللّات والعزّى سنة ونحن نعبد إلهك سنة ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك فنجري على هذا أبدا سنة وسنة(10/603)
فنزلت السورة فكان التكرار في لا أعبد ما تعبدون لأن القوم كرروا مقالتهم مرة بعد مرة» .
7- وقال ابن الأثير في مثله السائر: «وقد ظن قوم أن هذه الآية تكرير لا فائدة فيه وليس الأمر كذلك فإن معنى قوله لا أعبد يعني في المستقبل من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلبه منكم من عبادة إلهي ولا أنا عابد ما عبدتم أي وما كنت عابدا قطّ فيما سلف ما عبدتم فيه يعني أنه لم يعهد منّي عبادة صنم في الجاهلية في وقت ما فكيف يرجى ذلك منّي في الإسلام ولا أنتم عابدون في الماضي في وقت ما ما أنا على عبادته الآن» وهذا ترديد لما قاله الزمخشري بنصّه وفصه.
8- وقال ابن خالويه: «فإن سأل سائل فقال: ما وجه التكرير في هذه السورة فقل معناه أن قوما من كفّار قريش صاروا إلى النبي فقالوا أنت سيد بني هاشم وابن ساداتهم ولا ينبغي أن تسفّه أحلام قومك ولكن نعبد نحن ربك سنة وتعبد أنت آلهتنا سنة فأنزل قل يا أيّها الكافرون إلخ فإن قال قائل: فقد كان فيهم من أسلم بعد ذلك الوقت فلم قيل: ولا أنتم عابدون؟ فالجواب في ذلك أن هذا نزل في قوم بأعيانهم ماتوا على الكفر وعلم الله تعالى ذلك منهم فأخبر أنهم لا يؤمنون أبدا كما قال تعالى: سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون في قوم بأعيانهم وقد نفعت الموعظة قوما وفيه جواب آخر: أن يكون الخطاب عاما ويراد به الخاص لمن لا يؤمن وإن كان فيهم من قد آمن» .(10/604)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
(110) سورة النصر مدنيّة وآياتها ثلاث
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
الإعراب:
(إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) إذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بسبّح الذي هو جوابها وجملة جاء في محل جر بإضافة الظرف إليها ونصر الله فاعل جاء والفتح عطف على نصر والمصدر مضاف لفاعله ومفعوله محذوف أي إياك والمؤمنين. وقال أبو حيان: ولا يصح إعمال فسبّح في إذا لأجل الفاء لأن الفاء في جواب الشرط لا يتسلط الفعل الذي بعدها على اسم الشرط، فلا يعمل فيه بل العامل في إذا الفعل الذي بعدها على الصحيح (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) الواو عاطفة ورأيت الناس فعل ماض وفاعل ومفعول به والرؤية يجوز أن تكون بصرية فتكون جملة يدخلون حالية ويجوز أن تكون علمية فتكون الجملة مفعولا به ثانيا لرأيت وفي دين الله متعلقان(10/605)
بيدخلون وأفواجا حال من الواو في يدخلون وهو جمع فوج بسكون الواو وقد تقدم شرحها (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) الفاء رابطة لجواب الشرط وسبّح فعل أمر وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره أنت وبحمد ربك حال، وقد اختلف في الباء فقيل: للمصاحبة والحمد مضاف للمفعول أي فسبّحه حامدا له أي نزهه عمّا لا يليق به وأثبت له ما يليق به فهي داخلة في حيّز الأمر، فإن قلت من أين يلزم بالحمد وهو إنما وقع حالا مقيدة للتسبيح ولا يلزم من الأمر بالشيء الأمر بحاله المقيد له وأجيب بأنه إنما يلزم ذلك إذا لم يكن الحال من نوع الفعل المأمور به ولا من فعل الشخص المأمور نحو اضرب هندا ضاحكة وإلا لزم نحو ادخل مكة محرما فهي مأمور بها وهنا من هذا القبيل وقيل للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل أي سبّحه بما حمد به نفسه كقوله الحمد لله. واستغفره: الواو حرف عطف واستغفره فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وجملة إنه كان توّابا تعليلية وإن واسمها وجملة كان خبرها وتوّابا خبر كان.
البلاغة:
في قوله «إذا جاء نصر الله والفتح» استعارة مكنية تبعية شبّه المقدور وهو النصر والفتح بكائن حيّ يمشي متوجها من الأزل إلى وقته المحتوم، فشبّه الحصول بالمجيء وحذف المشبّه به وأخذ شيئا من خصائصه وهو المجيء.
هذا وقد أورد الإمام الرازي فصلا ممتعا نورده لك فيما يلي لنفاسته وفائدته، قال: «اتفق الصحابة على أن هذه السورة دلّت على نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذلك لوجوه:
أولا: أنهم عرفوا ذلك لما خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم(10/606)