إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
[سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
اللغة:
(آنَسْتُ) أبصرت من بعيد، ويقال آنست نارا وآنست فزعا وآنست منه رشدا، فهو يطلق على المادي والمعنوي.
(بِشِهابٍ قَبَسٍ) يقرأ بالاضافة وتركها كما سيأتي في الاعراب، والشهاب كل مضيء متولد من النار، وما يرى كأنه كوكب انقض، والكوكب عموما، والسنان لما فيه من البريق، وجمعه شهب وشهبان(7/167)
وشهبان وأشهب، ويقال فلان شهاب حرب إذا كان ماضيا فيها، والقبس بفتحتين النار المقبوسة تقول خذ لي قبسا من النار ومقبسا ومقباسا واقبس لي نارا واقتبس، ومنه ما أنت إلا كالقابس العجلان أي المقتبس وما زورتك إلا كقبسة العجلان، وتقول ما أنا إلا قبسة من نارك، وقبضة من آثارك، وقبسته نارا وأقبسته كقولك بغيته الشيء وأبغيته ومن المجاز قبسته علما وخبرا وأقبست.
(تَصْطَلُونَ) : فيه الابدال لأن أصله تصتلون فلما وقعت تاء الافتعال بعد حرف الاطباق وهو الصاد قلبت طاء على القاعدة وهو من صلي بالنار بكسر اللام وفي المصباح «صلي بالنار وصليها صلى من باب تعب وجد حرها والصلاء بوزن كتاب حر النار وصليت اللحم أصليه من باب رمى: شويته» وفي الأساس: «وصلي النار وصلي بها» «يصلى النار الكبرى» وتصلّاها وتصلّى بها وأصلاه وصلّاه، وشاة مصليّة: مشوية وقد صليتها» .
(جَانٌّ) : حية خفيفة الحركة، وقال في القاموس والتاج:
«والجانّ اسم جمع للجن، وحية أكحل العين لا تؤذي كثيرة في الدور» قالوا وهي كبيرة جدا وإن كانت خفيفة في سرعة الحركة.
(وَلَمْ يُعَقِّبْ) : ولم يرجع، يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال:
فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ... ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
يصف قوما بالجبن وانهم إن قيل: هل من معقب وراجع على عقبه للحرب لم يرجعوا إليها، ولا نزلوا يوم الحرب منزلا من منازلها،(7/168)
وفي المختار: «وتقول: ولى مدبرا ولم يعقب بتشديد القاف وكسرها أي لم يعطف ولم ينتظر» .
(جَيْبِكَ) : طوق قميصك وسمي جيبا لأنه يجاب أي يقطع ليدخل فيه الرأس.
(وَاسْتَيْقَنَتْها) : الاستيقان أبلغ من الإيقان فلا معنى لقول بعض المفسرين أن السين لمجرد الزيادة.
الإعراب:
(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً) كلام مستأنف مسوق لذكر قصص خمس من قصص الأولين الأولى قصة موسى وتليها قصة النمل وتليها قصة بلقيس وتليها قصة صالح وتليها قصة لوط. والظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر وقد تقدم كثيرا تقرير ذلك وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وموسى فاعل ولأهله متعلقان بقال وجملة إني آنست نارا مقول القول وان واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. وأهله عبارة عن زوجه بنت شعيب وولده وخادمه وذلك عند فقوله من مدين الى مصر ليجتمع بأمه وأخيه في مصر وقيل لم يكن معه غير امرأته وقد كنى الله عنها بالأهل وتبعا لذلك أورد الخطاب بالجمع. (سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) الجملة استئنافية وآتيكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وجاء بسين التسويف للاشارة إلى أنه عائد وإن أبطأ فربما كانت المسافة بعيدة، ومنها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لخبر وبخبر متعلقان بآتيكم، وأو حرف عطف، وللعدول عن الواو الى أو سر سيأتي في باب البلاغة، وآتيكم عطف على آتيكم الأولى وبشهاب متعلقان بآتيكم وقبس بدل من شهاب أو(7/169)
نعت له على تأويله بالمفعول أي شهاب مقتبس من نار وقرئ بالاضافة لأن الشهاب يكون قبسا وغيره كالكوكب فهو من إضافة النوع الى جنسه كخاتم فضة وثوب خز وهي بمعنى من، ولعلكم تصطلون جملة الرجاء حالية ولعل واسمها وخبرها أي راجيا تأمين الدفء لكم وتوفيره.
(فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) الفاء عاطفة على محذوف للاختصار ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونائب فاعل نودي ضمير مستتر تقديره هو يعود على موسى، وأن هي المفسرة لأن في النداء معنى القول دون حروفه والمعنى قيل له بورك ويجوز أن تكون على حالها أي ناصبة للفعل المضارع وقد دخلت على الماضي، أو مخففة من الثقيلة، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي بأن بورك، وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها واهنة، وبورك فعل ماض مبني للمجهول ومن نائب فاعل وفي النار جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة من أي في مكان النار، ومن حولها عطف على من في النار والمراد بمن إما الله تعالى على حذف أي قدرته وسلطانه وقيل المراد موسى وقيل المراد بمن غير العقلاء وهو النور والأمكنة التي حولها.
(وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والله مضاف اليه ورب العالمين بدل أو نعت.
(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يا حرف نداء وموسى منادى مفرد علم وان واسمها والهاء إما ضمير الشأن أو راجعة الى ما دل عليه ما قبلها يعني ان مكلمك، وأنا مبتدأ الله خبر والجملة خبر إن والعزيز الحكيم صفتان. (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الواو حرف عطف وألق فعل أمر مبني على حذف حرف(7/170)
العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والكلام معطوف على بورك لأن المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك وهذا ما يرجح كون أن مفسرة كما تقدم وعصاك مفعول، فلما الفاء عاطفة على محذوف أي فألقاها فاستحالت حية فلما، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة وجملة رآها في محل جر بإضافة الظرف اليه ورآها فعل وفاعل ومفعول به وجملة تهتز في محل نصب على الحال لأن الرؤية هنا بصرية، وكأنها جان كأن واسمها وخبرها والجملة في محل نصب حال ثانية أو هي حال من ضمير تهتز فهي حال متداخلة وجملة ولى لا محل لها ومدبرا حال من فاعل ولى والواو حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعقب فعل مضارع مجزوم بلم. (يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) الجملة مقول قول محذوف لا بد من تقديره أي قال تعالى ويا موسى منادى مفرد علم ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وان واسمها وجملة لا يخاف خبرها والجملة تعليلية للنهي عن الخوف ولدي ظرف متعلق بيخاف والمرسلون فاعل. (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع ومن اسم موصول مستثنى في موضع نصب ويجوز أن تكون شرطية فتكون مبتدأ والجملة مستثناة من أعم الأحوال وظلم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ثم بدل عطف على ظلم وحسنا مفعول به وبعد سوء ظرف متعلق بمحذوف صفة لحسنا. (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء واقعة في جواب «من» على الوجهين وان واسمها وخبراها.
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) الواو عاطفة وأدخل عطف على وألق عصاك ويدك مفعول به وفي جيبك متعلقان بأدخل وتخرج فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وفاعل تخرج ضمير مستتر تقديره هي وبيضاء حال من فاعل تخرج ومن غير سوء(7/171)
متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل وقد تقدم هذا في «طه» واختار أبو البقاء أن يكون الجار والمجرور حالا أخرى واختار السمين أن يكون صفة لبيضاء. (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) كلام مستأنف وحرف الجر يتعلق بالفعل المحذوف أي اذهب في تسع آيات الى فرعون، وقدره بعضهم بمحذوف أي مرسلا فيكون محله النصب على الحال والأول أولى وله نظائر قال:
فقلت الى الطعام فقال منهم ... فريق يحسد الإنس الطعاما
وهناك أقوال متشعبة للمعربين سنوردها في باب الفوائد لصقل الأذهان.
وقومه عطف على فرعون وجملة انهم تعليل للأمر بالذهاب وجملة كانوا خبر إن وقوما خبر كانوا وفاسقين صفة وقد تقدمت الآيات التسع.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم ذلك كثيرا ومبصرة حال وسيأتي معناها في باب البلاغة وجملة قالوا لا محل لها وهذا مبتدأ وسحر خبر ومبين صفة والجملة مقول القول. (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) وجحدوا عطف على قالوا وبها متعلقان بجحدوا والواو للحال وقد بعدها مضمرة واستيقنتها أنفسهم فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وظلما مفعول لأجله لأنه علة للجحد أو حال من فاعل جحدوا أي ظالمين مستكبرين. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الفاء الفصيحة وأنظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة المفسدين اسم كان والجملة معلقة لا نظر عن العمل فهي محل نصب بنزع الخافض لأن انظر بمعنى تفكر.(7/172)
البلاغة:
1- استعمال «أو» بدل الواو:
في قوله: «آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون» آثر «أو» على الواو لنكتة بلاغية رائعة فإن أو تفيد التخيير وقد بنى رجاءه على أنه إن لم يظفر بحاجتيه جميعا فلن يعدم واحدة منهما وهما إما هداية الطريق وإما اقتباس النار هضما لنفسه واعترافا بقصوره نحو ربه، وقد كانت الليلة شاتية مظلمة وقد ضل الطريق وأخذ زوجته المخاض، وهذا موطن تزلق فيه أقلام الكتاب الذين لا يدركون أسرار البيان وخاصة في استعمال الحروف العاطفة والجارة وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن.
2- المجاز العقلي:
في إسناد الإبصار الى الآيات في قوله «فلما جاءتهم آياتنا مبصرة» ويجوز أن يكون المجاز مرسلا والعلاقة السببية لأنها سبب الإبصار وهذا أولى من قول بعضهم إن «مبصرة» اسم فاعل والمراد به المفعول أطلق اسم الفاعل على المفعول إشعارا بأنها لفرط وضوحها وإنارتها كأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر.
الفوائد:
أقوال المعربين في «في تسع آيات» :
تشعبت أقوال المعربين في إعراب هذه الآية وهي «في تسع آيات الى فرعون وقومه» وقد اخترنا لك في الاعراب أمثلها وأسهلها،(7/173)
وسنورد بقية الوجوه لأنها واردة ومعقولة لتشحذ ذهنك وتختار منها ما تراه أدنى الى المنطق فالاعراب منطق قبل كل شيء.
أما الزمخشري فقد اكتفى بالوجه الذي اخترناه في الاعراب قال:
«في تسع آيات كلام مستأنف وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف والمعنى اذهب في تسع آيات أي في جملة تسع آيات وعدادهن، ولقائل أن يقول: كانت الآيات احدى عشرة اثنتان منها اليد والعصا، والتسع:
الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم» .
وقال أبو البقاء: «في تسع» حال ثالثة، وأراد بالحالين الأولى والثانية قوله بيضاء وقوله من غير سوء، والى فرعون متعلقة بمحذوف تقديره مرسلا الى فرعون ويجوز أن يكون صفة لتسع أو لآيات أي واصلة الى فرعون.
وجعل الزجاج «في» بمعنى «من» وعلقها بألق قال: كما تقول خد لي من الإبل عشرا فيها فحلان أي منها فحلان.
وأما ابن عطية فقد أيّد الزجاج في تعليقها بألق وجعل «في» بمعنى «مع» لأن اليد والعصا حينئذ داخلتان في الآيات التسع وقال:
تقديره يمهد لك ذلك وينشره في تسع. وقال آخرون هو كما قال ابن عطية وتكون اليد والعصا خارجتين من التسع.
واختار الجلال أن تتعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير تخرج، وقد صرح بهذا المحذوف في سورة «طه» حيث قال هناك: «تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى» فالمعنى هنا حال كونها آية مندرجة في جملة الآيات التسع.(7/174)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
اللغة:
(مَنْطِقَ الطَّيْرِ) المنطق مصدر نطق ينطق من باب ضرب نطقا ومنطقا ونطوقا أي تكلم بصوت وحروف تعرف بها المعاني، والمنطق الكلام وقد يستعمل في غير الإنسان يقال: سمعت منطق الطير، وقال البيضاوي: «والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا مفيدا كان أو غير مفيد وقد يطلق على كل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد فإن الأصوات الحيوانية من حيث(7/175)
أنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات لا سيما وفيها ما يتفاوت بتفاوت الأغراض بحيث يفهمها ما هو من جنسه» .
وزاد الزمخشري على ما قاله البيضاوي: «وقد ترجم يعقوب بن السكيت كتابه بإصلاح المنطق وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم» .
هذا ويبدو أن الأصل الاشتقاقي لكلمة المنطق يظهرنا على الصلة الوثيقة بين الفكر واللغة فإن الحيوان المفكر هو وحده الحيوان المتكلم وليست اللغة مجرد أداة اصطنعها العقل البشري للتعبير عن أغراضه ومراميه بل هي أيضا وسيلة الى التجرد عن الأعراض الحسية واصطناع بعض الرموز أو الدلالات المعنوية.
وعلم المنطق هو علم يبحث في صحيح الفكر وفاسده فهو يضع القواعد التي تعصم الذهن من الوقوع في الأخطاء وفي الأحكام كما انه يهتم بالتعرف على المناهج المختلفة في دراساتهم المتعددة وأبحاثهم المتباينة، حقا ان موضوع المنطق هو التفكير الانساني بصفة عامة ولكن المنطق لا يقتصر على وصف العمليات الذهنية التي نقوم بها حين نفكر أو نحكم أو نجرد أو تتذكر أو نحل مشكلة بل هو يريد أيضا أن يعيننا على التمييز بين الحكم الصحيح والحكم الخاطئ، بين الاستدلال السليم والاستدلال الفاسد.
وقد اهتم فلاسفة اليونان الأقدمون بدراسة العلاقة بين صورة الفكر ومادته أي بين الناحية الشكلية للأحكام أو القضايا ومضمون التفكير نفسه فنشأت من ذلك مباحث جدلية كانت هي النواة الأولى لعلم المنطق، وهكذا اهتم سقراط وأفلاطون بالبحث في مغالطات السوفسطائيين فوضعا للرد عليهم أصول التفكير الجدلي السليم، ثم(7/176)
جاء أرسطو فاستفاد من دراسات السابقين عليه في تكوين التصورات والقسمة المنطقية وطرق إيراد البرهنة ووضع هذا كله في كتاب مشهور أطلق عليه اسم «التحليلات الأولى» وان كان أرسطو لم يستعمل كلمة المنطق فإن المؤرخين قد أجمعوا على مبايعته بأمارة المنطق.
أما في العصور الحديثة فقد ثار كل من بيكون وديكارت على منطق أرسطو بدعوى أنه منطق صوري مجدب، ثم فطن المناطقة أخيرا الى ضرورة تخليص الفكر من سحر الألفاظ وتحريره من سلطان اللغة فحاولوا أن يجعلوا من المنطق علما رياضيا يصوغ العمليات الذهنية في رموز جبرية.
(يُوزَعُونَ) : يحبس أولهم على آخرهم أي توقف سلاف العسكر حتى تلحقهم التوالي وسلاف العسكر يعني متقدميهم كما في الصحاح، وفي المختار: «وزعه يزعه وزعا مثل وضعه يضعه وضعا أي كفه فاتزع هو أي كفّ، وأوزعه بالشيء أغراه به واستوزعت الله شكره فأوزعني أي استلهمته فألهمني والوازع الذي يتقدم الصف فيصلحه ويقدم ويؤخر وجمعه وزعة، وقال الحسن: لا بد للناس من وازع أي من سلطان يكفهم، يقال وزعت الجيش إذا حبست أولهم على آخرهم» .
(نَمْلَةٌ) : النمل والنمل بضم الميم: حيوان حريص على جمع الغذاء يتخذ قرى تحت الأرض فيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات منعطفة يملؤها حبوبا وذخائر للشتاء، الواحدة نملة ونملة للذكر والأنثى والجمع نمال.
وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة أنه وقف على قتادة وهو يقول:
سلوني فأمر أبو حنيفة شخصا سأل قتادة عن نملة سليمان هل كانت(7/177)
ذكرا أم أنثى فلم يجب فقيل لأبي حنيفة في ذلك فقال كانت أنثى واستدل بلحاق العلامة، قال الزمخشري: «وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث فيميز بينهما بعلامة نحو حمامة ذكر وحمامة أنثى» .
ولا أدري أأعجب منه أم من أبي حنيفة ان يثبت ذلك عنه. وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس يقال نملة ذكر ونملة أنثى كما يقال حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناه محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وان كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل، ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام لا تضحى بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء، كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة، فحينئذ قوله تعالى «نملة» روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل على حد سواء. وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا البحث.
(أَوْزِعْنِي) : ألهمني، وحقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي واكفه وارتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك. وقد تقدم شرح هذه المادة.
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) الواو استئنافية والكلام مستأنف للشروع في القصة الثانية وهي قصة داود وسليمان، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وداود مفعول به وسليمان عطف على داود وعلما مفعول به ثان. (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي(7/178)
فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)
الواو حرف عطف وقالا معطوف على مقدر تقديره فعملا بما أعطيا بالقلب بالعزم وعملا به بالجوارح بالمباشرة وعملا به باللسان فقالا. والحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول والذي اسم موصول صفة لله وجملة فضلنا صلة وعلى كثير متعلقان بفضلنا ومن عباده صفة لكثير والمؤمنين صفة لعباده.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) الواو استئنافية وورث سليمان داود فعل وفاعل ومفعول به وقال عطف على ورث ويا أيها الناس تقدم اعرابها وعلمنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل ومنطق الطير مفعول به ثان. (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) وأوتينا عطف على علمنا ومن كل شيء متعلقان بأوتينا وإن هذا ان واسمها وهو كلام مستأنف مسوق على سبيل إيراد الشكر والمحمدة واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والفضل خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن والمبين صفة للفضل.
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية وحشر فعل ماض مبني للمجهول ولسليمان متعلقان بحشر وجنوده نائب فاعل ومن الجن والانس والطير حال من جنوده والفاء الفصيحة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر وسيأتي في باب البلاغة ما يرويه التاريخ عن معسكر سليمان.
(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) حتى حرف غاية لمحذوف تقديره فساروا حتى إذا أتوا، ويجوز أن يكون غاية ليوزعون لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا، وعلى وادي النمل جار ومجرور متعلقان بأتوا وسيأتي سر تعليقه بأتوا في باب البلاغة، وجملة قالت نملة لا محل لها ويا أيها النمل تقدم اعرابها وادخلوا مساكنكم فعل(7/179)
وفاعل ومفعول به على السعة وسيأتي ما قاله السيوطي في الإتقان عن قول النملة. (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم ويجوز أن يكون الكلام بدلا من جملة الأمر مثله وهو ادخلوا مساكنكم.
وقد تصدى الزمخشري لهذا التعبير فقال «فإن قلت لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جوابا للأمر وان يكون نهيا بدلا من الأمر والذي جوز أن يكون بدلا منه أنه في معنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقه لا أرينك هاهنا» ولا ناهية ويحطمنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به وسليمان فاعل وجنوده عطف على سليمان وهم الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حالية. (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فسمع قولها المذكور فتبسم، وضاحكا حال مؤكدة وسيأتي سر ما أضحكه في باب الفوائد ومن قولها متعلقان بضاحكا. (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) وقال عطف على فتبسم ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وأوزعني فعل دعاء وفاعل مستتر ومفعول به وأن وما في حيزها مفعول ثان لأوزعني لأنه مضمن معنى الإلهام أو نصب بنزع الخافض أي بأن أشكر نعمتك، والتي صفة لنعمتك وجملة أنعمت صلة وعليّ متعلقان بأنعمت وعلى والدي عطف على عليّ. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) جملة معطوفة.
(وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) الواو حرف عطف وأدخلني فعل دعاء وفاعل ومفعول به وبرحمتك متعلقان بمحذوف حال والباء للسببية وفي عبادك متعلقان بأدخلني والصالحين نعت لعبادك.(7/180)
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على فنون شتى ندرجها فيما يلي:
1- التنكير وأسراره:
ففي قوله: «وقد آتينا داود وسليمان علما» التنكير وفائدته إفادة التبعيض والتقليل أو إفادة التعظيم والتكثير، والثاني هو المراد هنا فظاهر قوله في ولقد آتينا داود وسليمان علما في سياق الامتنان تعظيم العلم الذي أوتياه كأنه قال علما أي علم وهو كذلك فإن علمهما كان مما يستغرب ويستعظم ومن ذلك علم منطق الطير وسائر الحيوانات، على أن كل علم بالاضافة الى علم الله قليل ضئيل.
قصة رائعة:
ونورد هنا قصة مروية جريا على عادتنا في إدراج القصص المروية لتكون مصدر إلهام للكتاب ومعالم صبح لهم، قال مقاتل: كان سليمان جالسا في معسكره، وكانت مساحته مائة فرسخ في مائة، خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، فمر به طائر يطوف وفي رواية رأى بلبلا على شجرة فقال لجلسائه: أتدرون ما يقول هذا الطائر؟ قالوا: الله ونبيه أعلم قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، ومر بهدهد فوق شجرة فقال: استغفروا الله يا مذنبون، وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال يقول:
كما تدين تدان، وصاح طيطوى فقال يقول: كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال يقول: قدموا خيرا تجدوه، وصاح قمري(7/181)
فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى، وقال الحدأ يقول: كل شيء هالك إلا وجهه، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول:
ويل لمن الدنيا همه، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون، والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والعقاب يقول في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول: سبحان ربي الأعلى.
2- استعمال حرف الجر:
وقال «حتى إذا أتوا على وادي النمل» فعدّى أتوا بعلى لأن الإتيان كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء وقد رمق أبو الطيب المتنبي هذه السماء العالية فقال:
فلشد ما جاوزت قدرك صاعد ... ولشدّ ما قربت عليك الأنجم
فقد عنى بالأنجم أبيات شعره ويقول: ما أشد ما تجاوزت قدرك حتى بعثت تسألني المديح ومسألتك إياي مدحك تجاوز منك لقدرك حين طلبت أن تهبط الأنجم من سمواتها لتكون قريبة منك، وهذا البيت من أمض الهجاء وأقذعه وهو من قصيدة لأبي الطيب المتبني فقد سافر من الرملة يريد أنطاكية فنزل بطرابلس وبها اسحق بن ابراهيم الأعور بن كيغلغ وكان جاهلا يجالسه ثلاثة نفر من بني حيدرة، وكان بينه وبين أبي الطيب عداوة قديمة فقالوا له أتحب أن يتجاوزك ولا يمدحك، وجعلوا يغرونه فراسله أن يمدحه فاحتج عليه بيمين لحقته لا يمدح أحدا الى مدة، فعاقه عن طريقه ينتظر المدة، وأخذ عليه الطريق وضبطها، ومات النفر الثلاثة الذين كانوا يغرونه في مدة أربعين يوما فهجاه أبو الطيب المتنبي وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج(7/182)
خرج كأنه يسير فرسه وسار الى دمشق فأتبعه ابن كيغلغ خيلا ورجلا فأعجزهم وظهرت القصيدة وأولها:
لهوى النفوس سريرة لا تعلم ... عرضا نظرت وخلت أني أسلم
ومن أبياته الحكيمة فيها:
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى ... يققا يميت ولا سوادا يعصم
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
والناس قد نبذوا الحفاظ فمطلق ... ينسى الذي يولى وعاف يندم
لا يخدعنّك من عدوّ دمعه ... وارحم شبابك من عدوّ ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتّى يراق على جوانبه الدّم(7/183)
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... داعفة فلعلّة لا يظلم
ثم تطرق الى هجاء ابن كيغلغ فقال وأقذع:
يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه ... ما بين رجليها الطريق الأعظم
أقم المسالح وق شفر سكينة ... إن المنيّ بحلقتيها خضرم
وارفق بنفسك إنّ خلقك ناقص ... واستر أباك فإنّ أصلك مظلم
واحذر مناوأة الرجال فإنما ... تقوى على كسر العبيد وتقدم
وغناك مسألة وطيشك نفخة ... ورضاك فيشلة وربك درهم
ثم يعود الى الحكمة الملائمة فيقول:
ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن غيّه وخطاب من لا يفهم
يمشي بأربعة على أعقابه ... تحت العلوج ومن وراء يلجم(7/184)
وجفونه ما تستقر كأنها ... مطروفة أو فتّ فيها
حصرم وإذا أشار محدثا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز
تلصم يقلى مفارقة الأكفّ قذاله ... حتى يكاد على يد يت
عمّم وتراه أصغر ما تراه ناطقا ... ويكون أكذب ما يكون
ويقسم والذل يظهر في الذليل مودة ... وأودّ منه لمن يودّ ال
أرقم ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
والقصيدة كلها من هذا النمط البديع فحسبنا ما أوردناه منها، ونعود الى ما نحن بصدده فنقول: ويجوز أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا بلغ آخره.
3- التوليد:
وقد اشتملت الآية «قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم(7/185)
لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» على أحد عشر نوعا من البلاغة يتولد بعضها من بعض وقد ذكرها السيوطي في كتابه «الإتقان» أي قالت قولا مشتملا على حروف وأصوات والمراد قالته على وجه النصيحة وقد اشتمل هذا القول منها على أحد عشر نوعا من البلاغة:
أولها: النداء بيا.
وثانيها: كنّت بأي.
وثالثها: نبّهت بها التنبيه.
ورابعها: سمّت بقولها النمل.
وخامسها: أمرت بقولها ادخلوا.
وسادسها: نصّت بقولها مساكنهم.
وسابعها: حذرت بقولها لا يحطمنكم.
وثامنها: خصّصت بقولها سليمان.
وتاسعها: عمّمت بقولها وجنوده.
وعاشرها: أشارت بقولها وهم.
وحادي عشرها: عذرت بقولها لا يشعرون.
هذا وقد أنشدوا ملغزين في نملة سليمان وبقرة بني إسرائيل:
فما ميت أحيا له الله ميتا ... ليخبر قوما أنذروا ببيان(7/186)
وعجفاء قد قامت لتنذر قومها ... واهل قراها رهبة الحدثان
الفوائد:
1- ما الذي أضحك سليمان؟ وانما ضحك سليمان من قول النملة لشيئين:
أولهما: ما دل على ظهور رحمته ورحمة جنوده وشفقتهم وذلك قولها وهم لا يشعرون يعني أنهم لو شعروا لم يفعلوا.
وثانيهما: سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحدا من إدراك سمعه ما قالته النملة وهي مثل في الضآلة والقماءة، والإنسان إذا رأى أو سمع ما لا عهد له به ضحك.
2- الحال المبنية والمؤكدة:
الحال ضربان مؤسسة وتسمى أيضا مبينة وهي التي لا يستفاد معناها بدونها كجاء زيد راكبا فلا يستفاد معنى الركوب إلا بذكر راكبا، ومؤكدة وهي التي يستفاد معناها بدون ذكرها، وهذه تنقسم الى ثلاثة أقسام:
آ- مؤكدة لعاملها لفظا ومعنى نحو «وأرسلناك للناس رسولا» فرسولا حال من الكاف وهي مؤكدة لعاملها وهو أرسلنا لفظا ومعنى.
ب- مؤكدة لعاملها معنى فقط واللفظ مختلف نحو «فتبسم(7/187)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
ضاحكا» فضاحكا حال من فاعل تبسم وهي مؤكدة لعاملها معنى فقط لأن التبسم نوع من الضحك واللفظ مختلف.
ح- مؤكدة لصاحبها نحو «لآمن من في الأرض كلهم جميعا» فجميعا حال من فاعل آمن وهو من الموصولة مؤكدة لها. وهناك أقسام أخرى للحال المؤكدة يرجع إليها في المطولات.
[سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 26]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
اللغة:
(الْهُدْهُدَ) والهدهد والهدهد طائر ذو خطوط وألوان كثيرة الواحدة هدهدة وهدهدة وهداهدة والجمع هداهد(7/188)
وهداهيد، ويقولون أبصر من هدهد لأنهم يزعمون أنه يرى الماء تحت الأرض، والهدهد أيضا كل ما يقرقر من الطير والحمام الكثير وستأتي قصته مع سليمان في باب الفوائد.
(فَمَكَثَ) : بضم الكاف وفتحها والأول من باب قرب والثاني من باب نصر وفي القاموس وغيره: مكث يمكث من باب نصر مكثا ومكثا ومكوثا ومكثانا ومكّيثى ومكّيثاء بالمكان أقام ولبث فهو ماكث والاسم المكث والمكث ومكث يمكث من باب قرب مكاثة:
لبث ورزن.
(سَبَإٍ) : بلاد واقعة جنوب غربي الجزيرة العربية في اليمن ذكرت في كتب العهد القديم وفي مؤلفات العرب واليونان والرومان كانت على جانب عظيم من الحضارة، كان يتعاطى سكانها تجارة الذهب والفضة والأحجار الكريمة.
وقال الزمخشري في الكشاف: «سبأ قرئ بالصرف ومنعه وقد روي بسكون الباء، وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، ومن جعله اسما للحي أو الأدب الأكبر صرف قال:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما
وقال:
الواردون وتيم في ذرا سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس
ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث كما سميت معافر بمعافر بن أد ويحتمل أن يراد المدينة والقوم» .(7/189)
معنى ذهبوا أيدي سبا:
هذا ويقال ذهبوا أيدي سبا وفيه لغتان أيدي سبا وأيادي سبا وله حالتان: إما أن تركب الاسمين اسما واحدا وتبنيهما لتضمن حرف العطف كما فعلوا بخمسة عشر والثانية أن تضيف الأول الى الثاني وموضعهما النصب على الحال والمراد ذهبوا متفرقين ومتبددين ونحوهما، وإذا اعترض بأن سبا معرفة قيل بأن تركيبهما طاح بمعنى العلمية وصارا اسما واحدا، وأصل هذا المثل أن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان لما أنذروا بسيل العرم خرجوا من اليمن متفرقين في البلاد فقيل لكل جماعة تفرقت ذهبوا أيدي سبا، والمراد بالأيدي الأبناء والأسرة لا نفس الجارحة لأن التفرق وقع بهم واستعير اسم الأيدي لأنهم في التقوى والبطش بهم بمنزلة الأيدي.
(الْخَبْءَ) : مصدر بمعنى المخبوء يقال خبأت الشيء أخبؤه خبئا من باب نفع أي سترته، والخبء في السموات المطر وفي الأرض النبات.
الإعراب:
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) كلام مستأنف للشروع في سرد أمر آخر حدث لسليمان أثناء مسيره الذي كانت فيه قصة النمل. وتفقد فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو أي سليمان والطير مفعول به فقال عطف على تفقد وما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ ولي خبره وجملة لا أرى الهدهد حال وأم منقطعة وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على الهدهد(7/190)
ومن الغائبين خبر كان. (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) اللام موطئة للقسم وأعذبنه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به وعذابا مفعول مطلق وشديدا صفة أو لأذبحنه عطف على لأعذبنه أو ليأتيني عطف عليه أيضا وبسلطان متعلقان بيأتيني ومبين صفة. (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) الفاء استئنافية ومكث فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الهدهد أو على سليمان وغير بعيد ظرف زمان متعلق بمكث أو على الأصح صفة لظرف محذوف نابت عنه أي وقت غير بعيد أو مكانا غير بعيد فهو ظرف مكان، فقال عطف على مكث وهذا يؤيد عودة الضمير الى الهدهد وجملة أحطت مقول القول وبما متعلقان بأحطت وجملة لم نحط صلة وبه متعلقان بتحط وجئتك عطف على أحطت ومن سبأ متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لنبأ وبنبإ متعلقان بجئتك ويقين صفة لنبأ. (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ان واسمها وجملة وجدت امرأة خبر إني وجملة تملكهم صفة لامرأة وأوتيت الواو عاطفة أو حالية وجملة أوتيت إما معطوفة على جملة تملكهم وساغ عطف الماضي على المضارع لأن المضارع بمعنى الماضي أي ملكتهم وإما حالية من فاعل تملكهم وقد مقدرة ومن كل شيء متعلقان بأوتيت أو بمحذوف هو مفعول أوتيت الثاني والتقدير أيضا من كل شيء ولها خبر مقدم وعرش مبتدأ مؤخر وعظيم صفة.
(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) جملة وجدتها بدل من وجدت امرأة فهي داخلة في حيز الخبر ووجدتها هنا تتعدى لواحد لأنها بمعنى لقيتها والهاء مفعول به وقومها عطف على الهاء أو(7/191)
مفعول معه وجملة يسجدون حال من مفعولها وما عطف عليه وللشمس متعلقان بيسجدون ومن دون الله حال. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) الواو حرف عطف وزين فعل ماض ولهم متعلقان به والشيطان فاعله وأعمالهم مفعوله فصدهم عطف على زين وعن السبيل متعلقان بصدهم، فهم الفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يهتدون خبر. (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجب حذف النون في الرسم اتباعا لسنة المصحف وأن هي حرف مصدري ونصب ولا زائدة والمعنى أن يسجدوا، وهذا المصدر المؤول معمول لقوله لا يهتدون لكن بنزع الخافض وهو الى والمعنى فهم لا يهتدون الى السجود وعلى هذا الإعراب لا يصح الوقوف على يهتدون، ويجوز أن يكون المصدر بدلا من أعمالهم والتقدير وزين لهم الشيطان أعمالهم عدم السجود، ويجوز أن يكون بدلا من السبيل، وقرئ بتخفيف ألا فهي حرف تنبيه واستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف واسجدوا فعل أمر فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون يا اسجدوا ولكن الصحابة أسقطوا ألف يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطا لما سقطت لفظا ووصلوا يا بسين اسجدوا فصارت صورته يسجدوا كما ترى فاتحدت القراءتان لفظا وخطا واختلفتا تقديرا وسيأتي بحث اختلاف النحويين في «يا» الداخلة على فعل أو حرف في باب الفوائد. ولله متعلقان بيسجدوا والذي موصول نعت لله وجملة يخرج الخبء صلة وفي السموات والأرض متعلقان بالخبء أي المخبوء في السموات أو بيخرج على أن «في» بمعنى «من» أي يخرجه من السموات والأرض. (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) ويعلم عطف على يخرج فهو داخل في حيز الصلة وفاعل يعلم ضمير مستتر يعود على الله وما موصول مفعول به وجملة تخفون صلة وما تعلنون عطف على(7/192)
ما تخفون. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) كلام مستأنف مسوق للثناء على عرش الله العظيم بعد الالماع الى عرش بلقيس وبينهما بون عظيم.
البلاغة:
جناس التصريف:
في قوله «وجئتك من سبأ بنبإ يقين» جناس التصريف وهو اختلاف صيغة الكلمتين بابدال حرف من حرف إما من مخرجه أو من قريب من مخرجه وهو من محاسن الكلام المتعلقة باللفظ شريطة أن يأتي جاريا مع الطبع بعيدا عن التكلف محتفظا بصحة المعنى، ولقد جاء هنا زائدا على الصحة فحسن ورقّ، ألا ترى أنه لو قال بخبر بدلا من بنبإ لصح المعنى واستقام، ولكنه جاء منغوما عذب الجرس لاتفاق سبأ ونبأ وقد تقدم مثله في قوله بسورة الانعام «وهم ينهون عنه وينأون عنه» .
الفوائد:
1- قصة سليمان والهدهد:
وجريا على عادتنا نورد إحدى الروايات المذكورة عن قصة سليمان والهدهد لما فيها من جذور قصصية وتمهيدا للنابغين الملهمين من كتاب القصص:
روي أن سليمان حين فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج(7/193)
بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كلّ يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير الى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها فنزل ليتغدى ويصلي فلم يجدوا الماء وكان الهدهد قناقنه أي دليله الهادي وكان يرى الماء تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فتفقده لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا آخر واقعا فانحط اليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد وتحت كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليّ به فارتفع العقاب في الهواء حتى نظر الى الدنيا كالقصعة ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا فانقضّ العقاب يريده وعلم الهدهد أن العقاب يقصده بسوء فقال بحق الذي قواك وأقدرك إلا ما رحمتني فتركه وقال ويلك ثكلتك أمك، إن نبيّ الله قد حلف ليعذبنك قال:
وما استثنى نبي الله؟ قال بلى قال: أو ليأتيني بسلطان مبين فقال:
نجوت إذن، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض متواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه اليه فقال:
يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله ما الذي أبطأك عني فقال الهدهد: أحطت بما لم تحط به إلخ ...
نكتة بيانية:
قال الزمخشري: «فإن قلت قد حلف على أحد ثلاثة أشياء فحلفه(7/194)
على فعليه لا مقال فيه ولكن كيف صح حلفه على فعل الهدهد ومن أين درى أنه يأتي بسلطان حتى يقول والله ليأتيني بسلطان؟ قلت: لما نظم الثلاثة بأو في الحكم الذي هو الحلف آل كلامه الى قولك ليكونن أحد الأمور، يعني إن كان الإتيان بسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما وليس في هذا ادعاء دراية» .
2- من هي بلقيس؟:
أما بلقيس فهي ابنة شراحيل بن أبي سرح بن الحارث بن قيس ابن صيغي بن سبأ وقال ابن الكلبي: كان أبوها من عظماء الملوك وستأتي قصتها وذكر الحريري في درة الغواص:
ان صواب لفظ بلقيس أن تكسر باؤه لأن كل أعجمي يعرب فقياسه أن يلحق بأمثلة كلام العرب وعلى ذلك بلقيس، وفي أخبار سيف الدولة ان الخالديين مدحاه فبعث إليهما وصيفا ووصيفة مع كل واحد منهما بدرة وتخت من ثياب مصر والشام فكتبا اليه:
لم يغد شكرك في الخلائق مطلقا ... إلا ومالك في النوال حبيس
خولتنا شمسا وبدرا أشرقت ... بهما لدينا الظلمة الحنديس
رشنأ أتانا، وهو حسنا يوسف ... وغزالة هي بهجة، بلقيس(7/195)
هذا ولم تقنع بذاك وهذه ... حتى بعثت المال وهو
نفيس أتت الوصيفة وهي تحمل بدرة ... وأتى على ظهر الوصيف ا
لكيس وكسوتنا مما أجادت حوكه ... مصر وزادت حسنه
تنيس فغدا لنا من جودك المأكول وال ... مشروب والمنكوح والملبوس
فلما قرأها سيف الدولة قال: أحسنا إلا في لفظ المنكوح إذ لبست مما يخاطب بها الملوك. هذا وقد كانت قصة بلقيس وصرحها الممرد مصدر إلهام للشعراء، فقد أورد البحتري ذلك كله في قصيدة له يمدح بها المتوكل ويذكر بناء البركة المشهورة ومنها:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات إذا لاحت مغانيها
بحسبها أنها في فضل رتبتها ... تعدّ واحدة والبحر ثانيها
كأن جن سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في معانيها(7/196)
فلو تمر بها بلقيس عن عرض ... قالت هي الصرح تمثيلا وتشبيها
3- سجدات القرآن:
وعلى ذكر قوله «ألّا يسجدوا لله» أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة وانما اختلفا في سجدة «ص» فهي عند أبي حنيفة سجدة تلاوة وعند الشافعي سجدة شكر وفي سجدتي سورة الحج.
4- قصة سيل العرم وتفرق العرب أيادي سبا:
ونورد هنا بعض الأساطير المروية للطرافة والفائدة:
وسبأ هو أبو قبائل اليمن المتفرقة من سد مأرب الذين مزقهم الله كلّ ممزّق وسمي سبأ لأنه أول من سبى السبي وقيل سبأ اسم أمهم ومأرب اسم بلدهم، وكانت سبأ من أحسن بلاد الله وأخصبها وأكثرها شجرا وماء وقد ذكر الله أنها كانت جنتين عن يمين وشمال وكانت مسيرة شهر في شهر للمجدّ الراكب يسير في جنان من أولها إلى آخرها لا تواجهه الشمس ولا يفارقه الظل مع تدفق الماء وصفاء الهواء واتساع الفضاء، فمكثوا ما شاء الله لا يعاندهم ملك إلا قصموه، وكانت في بدء الزمان تركبها السيول فجمع ملك حمير أهل مملكته فشاورهم في دفع السيل فأجمعوا على حفر مسارب له حتى تؤديه الى البحر فحشد أهل مملكته حتى صرف الماء واتخذ سدا في موضع جريان الماء من الجبال ورصفه بالحجارة والحديد وجعل فيه مجاري للماء في استدارة(7/197)
الذراع فإذا جاء السيل تصرف في المجاري الى جناتهم ومزروعاتهم بتقدير يعمهم نفعه، وذكر الأعشى في شعره أن حميرا بنته فقال:
رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء ماؤهم لم يرم
وأروى الزروع وأعنابهم ... على سعة ماؤهم قد قسم
فعاشوا بذلك في غبطة ... فحاق بهم جارف منهدم
ولما انتهى الملك الى عمرو بن عامر مزيقياء وسمي بذلك لأنه كان يمزق كل ليلة حلة كبرا من أن تعاد عليه أو يلبسها غيره وقيل سمي بذلك لأنه مزق الأزد في البلاد، وكان أخوه عمران كاهنا فأتته كاهنة تدعى ظريفة فأخبرته بدنو فساد السد وفيض السيل وأنذرته، فجمع أهل مأرب وعمل لهم طعاما فأخبرهم بشأن السيل فأجمعوا على الجلاء فقال لهم عمران أخوه إني أصف لكم بلدانا فاختاروا أيتها شئتم فمن كان منكم ذا هم بعيد وجمل غير شرود فليلحق بالشعب من كرود فلحق به همدان ثم قال ومن كان منكم ذا سياسة، وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر فلحقت به خزاعة ثم قال: ومن كان منكم يريد الراسخات في الوحل، المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فنزلها الأوس والخزرج ثم قال ومن كان منكم يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير وهي من أرض الشام فنزلها غسان ثم قال ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق والذهب والأوراق فليلحق بالعراق فلحق بها مالك بن فهم بن الأزد وتخلف مالك بن اليمان في قومه حتى أخرجهم السيل فنزلوا نجران وانتسبوا الى مذحج ودخلت جماعة منهم الى معد فأخرجتهم معد بعد(7/198)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
حروب فنزلوا بجبال الشراة على تخوم الشام فلما تفرقت البلاد هذا التفرق ضربت العرب بهم المثل فقالوا ذهبوا أيدي سبا وأيادي سبا.
[سورة النمل (27) : الآيات 27 الى 33]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33)
اللغة:
(أَفْتُونِي) : أشيروا عليّ والفتوى الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتا في السنّ والمراد بالفتوى هاهنا الاشارة عليها بما عندهم كما ذكرنا فيما حدث لها من الرأي والتدبير. وفي الأساس: «وفلان من أهل الفتوى والفتيا وتعالوا ففاتونا، وتفاتوا إليه: تحاكموا، قال الطرماح:
هلمّ إلى قضاة الغوث فاسأل ... برهطك والبيان لدى القضاة
أنخ بفناء أشدق من عديّ ... ومن جرم وهم أهل التفاتي(7/199)
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فبتّ أفاتيها فلا هي ترعوي ... بجود ولا تبدي إباء فتبخلا
أي أسائلها» .
هذا ويجوز ضم الفاء وفتحها كما جاء في أدب الكاتب لابن قتيبة قال: «قالوا: فتوى وفتيا وبقوى وبقيا وثنوى وثنيا ورعوى ورعيا» .
(أُولُوا قُوَّةٍ) : اسم جمع بمعنى أصحاب، والواحد ذو بمعنى صاحب وقيل جمع ذو على غير لفظه وقد تقدم أنها من الملحقات بجمع المذكر السالم والمؤنث أولات وواحدتها ذات تقول: جاء أولو العلم وأولات الفضل.
الإعراب:
(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال نشأ عن حكاية الهدهد وجملة سننظر مقول القول والهمزة للاستفهام وصدقت فعل وفاعل وأم متصلة معادلة للهمزة وكان واسمها ومن الكاذبين خبرها وعدل عن الفعل المطابق لما قبله الى الاسم لنكتة بلاغية تقدمت الاشارة إليها أكثر من مرة. وهي جعله واحد من الفئة الموسومة بالكذب. (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ) لا بد من تقدير كلام محذوف لتتناسق حوادث القصة أي ثم دلهم على الماء فاستخرجوه وارتووا وتوضئوا وصلوا، ثم كتب سليمان كتابا هذه صورته: من عبد الله(7/200)
سليمان الى بلقيس ملكة سبأ، بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ثم ختمه بخاتمه، ثم قال للهدهد: اذهب، فالجملة مقول قول محذوف، واذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبكتابي متعلقان باذهب وهذا نعت لكتابي أو بدل منه، فألقه الفاء عاطفة وألقه فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وأنهم متعلقان بألفه ثم حرف عطف وتول فعل أمر على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بمحذوف حال أي متجاوزا إياهم الى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك، فانظر عطف على تول، وماذا يرجعون: في هذا التعبير وجهان:
أولهما: أن تكون انظر بمعنى تأمل وتفكر فتكون ماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم ليرجعون تقديره أي شيء يرجعون، أو تجعل ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبر ما وجملة يرجعون صلة ذا والعائد محذوف تقديره أي شيء الذي يرجعونه، وعلى كلا التقديرين فالجملة الاستفهامية قد علق عنها العامل وهو انظر بالاستفهام فمحلها النصب على نزع الخافض أي انظر في كذا وفكر فيه.
وثانيهما: أن تكون انظر بمعنى انتظر من قوله تعالى: «انظرونا نقتبس من نوركم» فتكون ماذا كلها اسم موصول وهو أحد أوجه ماذا التي ستأتي في باب الفوائد وهي مفعول به أي انتظر الذي يرجعونه وجملة يرجعون صلة والعائد محذوف كما تقدم والمعنى ماذا يردون من الجواب أو ماذا يرجع بعضهم الى بعض من القول.(7/201)
(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) لا بد من تقدير كلام محذوف روعي في حذفه الإيجاز وتقديره كما قال مقاتل: «حمل الهدهد الكتاب بمنقاره وطار حتى وقف على رأس المرأة وحولها الجنود والعساكر فرفرف ساعة والناس ينظرون فرفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها وسيأتي مزيد من الروايات في تقدير هذا المحذوف.
وإني إن واسمها وجملة ألقى خبرها وإليّ متعلقان بألقي وكتاب نائب فاعل وكريم صفة وسيأتي سر هذا الوصف في باب البلاغة.
(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال مقدر كأنهم قالوا ممن هو؟ وما هي منطوياته؟
فقالت أنه من سليمان وان واسمها ومن سليمان خبرها وانه الواو عاطفة وان واسمها وجملة البسملة خبرها وقد تقدم اعراب البسملة في صدر هذا الكتاب. (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أن مفسرة والمفسر كتاب لتضمنه معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتعلوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وعليّ متعلقان بتعلوا ويجوز أن تكون أن مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل من كتاب أو خبر لمبتدأ محذوف أي مضمونه أن لا تعلوا أو في محل نصب بنزع الخافض أي بأن لا تعلوا، وأتوني الواو عاطفة وائتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به ومسلمين حال. (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) أفتوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية(7/202)
والياء مفعول به وفي أمري متعلقان بأفتوني. (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) ما نافية وكنت قاطعة كان واسمها وخبرها وأمرا مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتشهدون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وعلامة نصب حذف النون والنون الموجودة نون الوقاية وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) جملة نحن مقول القول ونحن مبتدأ وأولو خبر وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم وقوة مضاف اليه وأولو بأس شديد عطف على ما تقدم. (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ) الواو حرف عطف والأمر مبتدأ وإليك خبر أي موكول إليك ونحن مطيعون لك، فانظري الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن مقدر كأنما تصوروا أنها قد تكون راغبة في القتال أو أنهم راغبون فيه فإن أردت ذلك وعزمت على خوض الحرب فنحن أبناء بجدتها وانظري أي فكري وماذا اسم استفهام وقد تقدم اعرابها وستأتي وجوهها وهي هنا في محل نصب مفعول مقدم لتأمرين والاستفهام معلق للنظر.
البلاغة:
في هذه المحاورة التي جرت بين بلقيس وبين الملأ من قومها وفي الوصف لكتاب سليمان بعد ذكر العنوان والتسمية فنون عديدة نورد أهمها فيما يلي:
1- الاشارة:
وهذا الفن سبقت إليه الاشارة في هذا الكتاب وقد فرعه قدامة(7/203)
من ائتلاف اللفظ مع المعنى وشرحه فقال: هو أن يكون اللفظ القليل دالا على المعنى الكثير حتى تكون دلالة اللفظ كالإشارة باليد فإنها تشير بحركة واحدة الى أشياء كثيرة، والفرق بينه وبين الإيجاز أن الإيجاز بألفاظ المعنى الموضوعة له وألفاظ الإشارة لمحة خاطفة دالة، فدلالة اللفظ بالإيجاز دلالة مطابقة ودلالة اللفظ في الاشارة إما دلالة تضمن أو دلالة التزام، والدلالة هنا دلالة تضمن، فقد وصفت كتاب سليمان بالكرم لأنه من عند ملك كريم أو لأنه مختوم، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كرم الكتاب ختمه» وعن ابن المقفع من كتب الى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به.
وروي أنها كانت راقدة وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل الهدهد من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وقيل نقرها فانتبهت فزعة، فلما رأت الخاتم ارتعدت وقالت لقومها ما قالت.
2- الإيجاز:
في قولهم: «قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» إيجاز عجيب فهو أولا يدل على تعظيم المشورة وتعظيم بلقيس أمر المستشار، وهو ثانيا يدل على تعظيمهم أمرها وطاعتها وفي قولهم «والأمر إليك» وقولهم «فانظري ماذا تأمرين» إيجاز يسكر الألباب، قال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني(7/204)
في كتابه إعجاز القرآن: «فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه» الى أن يقول: «وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد وإذا اختصر كمل في بابه وجاد وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه لم يقع إلا على محاسن تتوالى وبدائع تترى» .
الفوائد:
عقد ابن هشام في المغني فصلا ل «ماذا» نلخصه فيما يلي ونعرب أمثلته:
تأتي ماذا في العربية على أوجه:
1- أن تكون ما استفهامية وذا اشارة نحو ماذا التواني؟ ماذا الوقوف؟ فما اسم استفهام مبتدأ وذا خبر والتواني بدل أو عطف بيان أي: أي شيء هذا التواني؟
2- أن تكون ما استفهامية وذا موصولة كقول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
فما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة يحاول صلة والهمزة للاستفهام ونحب بدل من ما.(7/205)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
3- أن يكون ماذا كله استفهاما على التركيب كقولك لماذا جئت وقوله:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم ... لا يستفقن الى الديرين تحنانا
فماذا اسم استفهام مركب مبتدأ وبال نسوتكم خبر.
4- أن يكون ماذا كله اسم جنس بمعنى شيء أو موصولا بمعنى الذي على خلاف تخريج قول الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتقيه ... ولكن بالمغيّب نبئيني
فالجمهور على أن ماذا كله مفعول دعي ثم اختلف فقيل موصول بمعنى الذي وقيل نكرة بمعنى شيء وهناك وجهان ذكرهما ابن هشام ولم نر حاجة إليهما لأنهما لا يقعان في فصيح الكلام.
[سورة النمل (27) : الآيات 34 الى 37]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37)(7/206)
الإعراب:
(قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) كلام مستأنف مسوق للرد على مستشاريها أي لم ترض بما أشاروا به وهو خوض الحرب بل مالت للسلام وعقد الصلح وعللت ذلك بقولها إن الملوك ... وكأنها تلمع لهم بسوء مغبة الحرب وعواقبها المخيفة وآثارها الكثيرة.
فإن واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وقرية مفعول به على السعة وجملة أفسدوها جواب شرط غير جازم لا محل لها وجملة الشرط وجوابه خبر ان. (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل وأعزة أهلها مفعول جعلوا الأول وأذلة مفعول جعلوا الثاني وكذلك الواو عاطفة لأن ذلك من جملة كلامها وكذلك نعت لمصدر محذوف تقدمت له نظائر، أرادت هذه عاداتهم المستمرة وديدنهم الثابت. (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) ان واسمها ومرسلة خبرها وإليهم متعلقان بمرسلة وبهدية متعلقان بمرسلة أيضا فناظرة عطف على مرسلة وبم الباء حرف جر وما الاستفهامية المحذوف ألفها في محل جر بالباء والجار والمجرور بيرجع ولا يجوز تعلقها بناظرة كما أعربها الحوفي لأن الاستفهام له الصدر، فلا يعمل ما قبله فيه وإلا خرج عما ثبت له، وللمفسرين كلام طويل في هذه الهدية لا يحتمل ذكرها صدر هذا الكتاب، ويرجع المرسلون فعل وفاعل والجملة مفعول به لناظرة.(7/207)
(فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) الفاء عاطفة على محذوف لا بد من تقديره فأعدت الهدية مع رسول بكتاب وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجاء سليمان فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو أي الرسول وسليمان مفعول به وجملة قال لا محل لها والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتمدونن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة مفعول به وبمال متعلقان بتمدونن أي تعاونونني بالمال. (فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) الفاء حرف تعليل لما تقدم من إنكاره عليهم وتوبيخه إياهم وما اسم موصول مبتدأ وجملة آتاني صلة وآتاني الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وخير خبر ما وبل حرف إضراب انتقالي لبيان السبب الذي حداهم الى إمداده بالمال وأنتم مبتدأ وبهديتكم متعلقان بتفرحون وجملة تفرحون خبر. (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) الخطاب لأمير الوفد وارجع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإليهم متعلقان بارجع وقيل الخطاب للهدهد محملا إياه رسالة أخرى والفاء استئنافية واللام موطئة للقسم ونأتينهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والميم علامة جمع الذكور وبجنود متعلقان بنأتينهم ولا نافية للجنس وقبل اسمها المبني ولهم خبر وبها متعلقان بقبل لتضمنه معنى المصدر لأن حقيقته المقابلة والمقاومة، يقال: مالي به قبل أي طاقة ويقال لي قبل فلان دين أي عنده، وأتاني من قبله أي من(7/208)
عنده، فتكون بمعنى المصدر وبمعنى الظرف. (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) ولنخرجنهم عطف على فلنأتينهم ومنها متعلقان بنخرجنهم والضمير يعود الى سبأ أي بلادهم وأذلة حال وهم الواو حالية وهم مبتدأ وصاغرون خبر والجملة حال ثانية من الهاء في لنخرجنهم.
البلاغة:
الإيجاز:
في هذه الآيات إيجاز بليغ يحسن بنا أن تتدبره لأن المدار فيه على المعاني دون الألفاظ فرب لفظ قليل ينطوي على معنى كثير وقد تقدم معنا أن الإيجاز قسمان أحدهما إيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد وإيجاز بالقصر، وفي هذه الآيات إيجاز بالحذف وهو قوله «بم يرجع المرسلون» ثم قوله «فلما جاء سليمان» فقد حذف هنا ما لو أظهر لظهر الكلام غثا لا يناسب ما كان عليه أولا من الطلاوة والحسن، لأن الخاطر قد يذهب كل مذهب، وقد يترك العنان للخيال ليجول في آفاق لا نهاية لها ليتصور الهدية التي أعدتها مما يتولى الشرح إظهاره. فقد روي أن بلقيس كانت امرأة عاقلة لبيبة قد ساست الأمور، وسبرت أغوار الناس وكانت تعرف أن سليمان لو كان نبيا لترفع عن أخذ الهدية ولو كان ملكا لأخذها، فأحبت أن تتأكد من هذه المسألة، وروي أيضا أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج ومحلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك أي إناث الخيل في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا(7/209)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وبعثت رجلين من أشراف قومها وهما المنذر بن عمرو وآخر ذا عقل ورأي ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنّك أمره وان رأيته بشا لطيفا فهو نبي، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان بما تم فأمر سليمان الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة وأمر بأحسن الدواب فربطوها عن يمين الميدان ويساره وأمر أولاد الجن وهم خلق كثير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ثم رد الهدية وقال للمنذر ارجع إليهم، فقالت هو نبي وما لنا به من طاقة وتجهزت الى المسير الى سليمان لتنظر ما يأمرها به فارتحلت في اثنى عشر ألف قيل أي ملك وهو بفتح القاف سمي قيلا لأنه ينفد كل ما يقول، الى أن قربت منه على فرسخ فشعر بها.
هذا والهدية اسم المهدى كما أن العطية اسم المعطى فتضاف الى المهدي والمهدى اليه، تقول هذه هدية فلان تريد هي التي أهداها أو أهديت اليه والمضاف اليه في قوله «بل أنتم بهديتكم» هو المهدى اليه.
[سورة النمل (27) : الآيات 38 الى 44]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)(7/210)
اللغة:
(عِفْرِيتٌ) : العفريت: الخبيث المنكر والنافذ في الأمر مع دهاء وذلك من الانس والجن والشياطين وجمعه عفاريت ومؤنثه عفريتة والعفرية مثله وقد قرئ به ويقال رجل عفرية وعفر وعفير إذا كان صحيحا شديدا مونق الخلق أخذ من عفر الأرض وهو التراب أي من علق به من عفره بالأرض، ومنه ليث عفرين أي ليث ليوث معفر لفريسته، قال الخليل، رجل عفار بين العفارة إذا وصف بالشيطنة،(7/211)
والعفير أيضا الظريف الكيس، ويقال للشيطان عفريت وعفرية وفي الحديث «إن الله ليبغض العفريت النفريت» قيل هو الجموع المنوع وقال أبو عثمان النهدي دخل رجل عظيم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: متى عهدك بالحمى قال: ما أعرفها قال فبالصداع قال:
ما أدري ما هو قال: أفأصبت بمالك قال لا قال: أفرزئت بولدك قال لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله ليبغض العفريت النفريت وهو الذي لا يرزأ.
لصَّرْحَ)
: قال في الكشاف: الصرح: «القصر وقيل صحن الدار» وأصله من التصريح وهو الكشف، وكذب صراح أي ظاهر مكشوف، ولؤم صراح، ولبن صريح أي ذهبت رغوته وخلص، وعربي صريح من عرب صرحاء: غير هجناء، وكأس صراح: لم تمزج، وصرحت الخمرة: ذهب عنها الزبد، ولقيته مصارحة: مجاهرة، وصرح النهار: ذهب سحابه وأضاءت شمسه، قال الطرماح في وصف ذئب:
إذا امتلّ يعدو قلت ظلّ طخاءة ... ذرى الريح في أعقاب يوم مصرح
ُمَرَّدٌ)
: الممرّد: المملّس وسيأتي سر بنائه في باب الفوائد ومنه الأمرد لملاسة وجهه أي نعومته لعدم وجود الشعر به وفي القاموس:
«التمريد في البناء التمليس والتسوية وبناء ممرد: مطول والمارد المرتفع والعاتي» .
َوارِيرَ)
: في المصباح: «القارورة إناء من زجاج والجمع القوارير والقارورة أيضا وعاء الرطب والتمر وهي القوصرة وتطلق(7/212)
القارورة على المرأة لأن الولد أو المني يقر في رحمها كما يقر الشيء في الإناء أو تشبيها بآنية الزجاج لضعفها، قال الأزهري: والعرب تكنى عن المرأة بالقارورة والقوصرة» وفي القاموس «والقارورة حدقة العين وما قر فيه الشراب أو نحوه أو يخصّ بالزجاج، وقوارير من فضة أي من زجاج في بياض الفضة وصفاء الزجاج» .
الإعراب:
(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) فاعل قال سليمان والخطاب لكل من هو عنده من الجن والانس وغيرهما، وأيكم مبتدأ وجملة يأتيني بعرشها خبر والظرف متعلق بيأتيني أيضا وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف اليه ومسلمين حال.
(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قال فعل ماض وعفريت فاعل ومن الجن صفة وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والظرف متعلق بآتيك ومن مقامك متعلق بتقوم أي قبل أن تبارح مجلسك الذي تجلس فيه للقضاء من الغداة الى منتصف النهار.
(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) الواو عاطفة وان واسمها وعليه متعلقان بقوي واللام المزحلقة وقوي خبر وأمين خبر ثان أي قوي على حمله أمين به لا أختلس منه شيئا ولا أعبث به. (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) لا بد من تقدير محذوف على طريق الإيجاز كما تقدم وهو قال سليمان أريد أن يتم ذلك في أسرع وقت. وقال فعل ماض والذي فاعل والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر ومن الكتاب صفة لعلم والجملة صلة الموصول وأنا مبتدأ وجملة آتيك به خبر والجملة مقول القول وتقدم اعراب الباقي وسيأتي معنى ارتداد الطرف في باب البلاغة. (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا(7/213)
عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)
الفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام ويروى أن آصف بن برخيا وهو الذي عنده علم من الكتاب المنزل قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمين ودعا آصف بالعلم الذي لديه فغار العرش في مكانه بمأرب ثم نبغ بمجلس سليمان، ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة ورآه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومستقرا حال لأن الرؤية بصرية أي ثابتا والظرف متعلق بمستقرا وجملة قال لا محل لها من الإعراب وهذا مبتدأ ومن فضل ربي خبر.
(لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) اللام للتعليل ويبلوني فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفاعل يبلوني يعود على ربي والياء مفعول وأ أشكر الهمزة للاستفهام وأشكر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وجملة أأشكر بدل من الياء في يبلوني فهو بمثابة المفعول به وأم أكفر عطف على أأشكر. (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشكر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر اسم ان أي فإن ثواب شكره، ولنفسه هو الخبر وفعل الشرط وجوابه خبر من ومن كفر فإن ربي غني كريم جملة معطوفة على الجملة السابقة مماثلة لها في الاعراب. (قالَ: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) نكروا فعل أمر والواو فاعل ولها متعلقان ينكروا وعرشها مفعول به أي غيّروه، وننظر فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف وجملة أتهتدي في محل نصب على المفعولية لأن الاستفهام علق ننظر عن العمل(7/214)
وأم حرف عطف معادلة للهمزة وتكون فعل مضارع ناقص معطوف على أتهتدي واسمها مستتر تقديره هي ومن الذين خبر تكون وجملة لا يهتدون صلة الذين. (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) الفاء عاطفة على محذوف اقتضاه الإيجاز كما تقدم، أهكذا: الهمزة للاستفهام والهاء للتنبيه والكاف حرف جر للتشبيه وذا اسم اشارة في محل جر بالكاف والجار والمجرور خبر مقدم وعرشك مبتدأ مؤخر، والأصل اتصال هاء التنبيه باسم الاشارة فكان مقتضاه أن يقال أكهذا عرشك؟ وهذا الفصل جائز إذا كان حرف الجر كافا، فلو قلت أبهذا أمرت أو ألهذا فعلت؟ لم يجز فيه ذلك الفصل، فلا يجوز أن تقول أها بذا أمرت، وأ ها لذا فعلت؟ وسيأتي السر في الإتيان بكاف التشبيه وعدم الاكتفاء بالقول أهذا عرشك في باب البلاغة. قالت: فعل وفاعل مستتر تقديره هي يعود على بلقيس وكأنه هو وكأن واسمها والضمير هو خبرها وسيأتي السر في عدولها عن مطابقة الجواب للسؤال في باب البلاغة أيضا.
(وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) الواو عاطفة على كلام محذوف للايجاز أي لما سمعوا قولها كأنه هو قالوا أصابت في الجواب فقال سليمان: وأوتينا وهو فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب الفاعل والعلم مفعول أوتينا الثاني ومن قبلها متعلقان بأوتينا وكنا الواو عاطفة وكان واسمها ومسلمين خبرها، ويحتمل أن يكون وأوتينا من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة التي دل عليها سياق الكلام والمعنى وأوتينا العلم بنبوة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة والأول أرجح.(7/215)
(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) من جملة كلام سليمان أو من كلام الله، وصدها فعل ماض ومفعول به وما موصول فاعل وجملة كانت صلة واسم كانت مستتر تقديره هي وجملة تعبد خبر ومن دون الله حال ويجوز أن تكون ما مصدرية أي وصدّها عبادة الشمس عن الإسلام وجملة إنها تعليل للصد عن الإسلام وعبادة غير الله، وان واسمها وجملة كانت خبرها واسم كانت هي ومن قوم خبرها وكافرين صفة وقرئ أنها بالفتح على انه بدل من فاعل صدها أو نصب بنزع الخافض. ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ)
قيل فعل ماض مبني للمجهول والجملة مستأنفة وجملة ادخلي الصرح مقول القول والصرح مفعول به على السعة وستأتي قصة الصرح في باب الفوائد. َلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها)
الفاء عاطفة على محذوف للايجاز أي فدخلته، لما حينية أو رابطة وجملة حسبته لا محل لها والهاء مفعول به أول ولجة مفعول به ثان وكشفت عن ساقيها عطف على حسبته. الَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ)
إن واسمها وصرح خبرها وممرد صفة ومن قوارير صفة ثانية أي إن الذي ظننته ماء فوقه هو صرح ممرد أي مسقف بسطح فمن أراد مجاوزته لم يحتج الى تشمير ثيابه. الَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
رب منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وان واسمها وجملة ظلمت نفسي خبرها وأسلمت عطف على ظلمت ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي كائنة مع سليمان وإنما قدر حالا لأن تعليقه بأسلمت يوهم اتحاد اسلاميهما في الزمان، ولله متعلقان بأسلمت ورب العالمين بدل من الله أو صفة له.(7/216)
البلاغة:
1- الكناية في ارتداد الطرف:
في قوله: «قبل أن يرتد إليك طرفك» كناية عن الاسراع، والطرف هو تحريك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد وعليه قوله:
وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا ... لقبلك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لاكله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وهذان البيتان لأعرابية نظرها أعرابي فخاطبها بشعر يسألها عن أحوالها ومحاسنها كأنه يراودها عن نفسها فأجابته بذلك وقيل هو لشاعر حماسي، وشبه إطلاق البصر نحو المناظر الجميلة بإرسال الرائد أمام الركب يتعرف لهم مكان الخصب على طريق الاستعارة التصريحية ورائدا ترشيح للاستعارة ويوما ظرف له.
2- السر في التشبيه:
وفي قوله «كأنه هو» تشبيه مرسل عدلت إليه عن مقتضى السؤال، ومقتضاه أن تقول: هو هو لسر دقيق جدا وذلك ان «كأنه» عبارة من قرب الشبه عنده حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين فكاد يقول هو هو،(7/217)
وتلك حال بلقيس ولما كانت هكذا هو عبارة جازم بتغاير الامرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلهذا عدلت الى العبارة المذكورة في التلاوة لمطابقتها لحالها.
3- التجنيس:
وهو تآلف الكلمتين في تأليف حروفهما وهو هنا في قوله «وأسلمت مع سليمان» .
الفوائد:
1- قصة الصرح:
هذا ونلخص ما يروى من قصة الصرح لانها قصة شعرية مجنحة الخيال فقد روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه، فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنه قصد إغراقها وتعجبت من كون كرسيه على الماء ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن ساقيها والمقصود من ذلك كله اختبار عقلها وارهاصها بالمعاجز لا ما يروى انه قيل له انها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار مما لا يتلاءم ووقار النبوة وترفعها عن الصغائر.
2- هل تزوج سليمان بلقيس؟:
قيل تزوجها بعد ذلك وأقرها على ملكها وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له، وقيل بل زوجها ذاتبع من ملوك اليمن ويقال لهم الأذواء لأن أعلامهم تصدر بكلمة (ذو) والمراد صاحب هذا الاسم.(7/218)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53)
اللغة:
(اطَّيَّرْنا) : وتطيرنا: تشاءمنا والطائر هنا: ما تيمنت به أو نشاءمت والمقصود هنا الثاني، كان الرجل يخرج مسافرا فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحا تيمن وإن مر بارحا تشاءم فلما نسبوا الخير أو الشر الى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته أو من عمل العبد، وقد مر هذا في سورة الأعراف فجدد به عهدا.(7/219)
(الْمَدِينَةِ) : البلد من أخذها من مدن بالمكان يمدن إذا قام فيه فهي فعلية والجمع مدائن بالهمز والميم أصلية والياء زائدة، ومن أخذها من دان يدين فالميم زائدة والياء أصلية وهي مفعولة ويقال دنت الرجل ملكته ودنت له خضعت له وأطعت ويقال للأمة مدينة لأنها مملوكة، قال الشاعر:
ثوت وثوى في كرمها ابن مدينة ... يظل على مسحاته يتوكل
وفي معاجم اللغة: مدن بالمكان يمدن من باب نصر مدونا أقام وهو فعل ممات ومدن المدينة أتاها ومدّن المدائن بالتشديد بناها ومصرها، وتمدّن تخلق بأخلاق أهل المدن وانتقل من الهمجية الى حالة الانس والظرف، وتجمع المدينة على مدن بسكون الدال ومدن بضمها ومدائن، والمدينة علم أطلق على يثرب ومدينة السلام بغداد والمدائن مدينة قرب بغداد كان فيها ايوان كسرى وسميت بالجمع لكبرها والنسبة إليها مدائني.
(رَهْطٍ) : الرهط قوم الرجل وقبيلته وعدد يجمع من الثلاثة الى العشرة وليس فيهم امرأة، ولا واحد له من لفظه وجمعه أرهط وأرهاط وجمع الجمع أراهط وأراهيط، وإذا أضيف الى الرهط عدد كان المراد به الشخص والنفس نحو عشرون رهطا، أي شخصا، ويقال نحن ذوو رهط أي مجتمعون وفي المصباح «الرهط ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وسكون الهاء أفصح من فتحها وهو جمع لا واحد له من لفظه وقيل الرهط من سبعة الى عشرة وما دون السبعة الى الثلاثة نفر وقال أبو زيد: الرهط والنفر ما دون العشرة من الرجال(7/220)
وقال ثعلب أيضا: الرهط النفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم وهو للرجال دون النساء وقال ابن السكيت:
الرهط والعترة بمعنى ويقال: الرهط ما فوق العشرة الى الأربعين قاله الأصمعي ونقله ابن فارس أيضا ورهط الرجل قومه وقبيلته الأقربون» وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الإعراب.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير القصة الثالثة أو الرابعة إذا استقلت قصة النمل عن قصة سليمان وبلقيس، وهي قصة صالح. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل ماض وفاعل والى ثمود متعلقان بأرسلنا وأخاهم مفعول به وصالحا بدل من أخاهم أو عطف بيان وأن مصدرية وهي ومدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض ويصح كونها مفسرة لأن الإرسال يتضمن معنى القول واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الفاء عاطفة وإذا فجائية تقدم القول فيها وهم مبتدأ وفريقان خبر وجملة يختصمون نعت لفريقان على المعنى نحو قوله تعالى «وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا» لأن كل فريق يضم جماعة. (قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة ولم اللام حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفه لدخول الجار، والجار والمجرور متعلقان بتستعجلون وبالسيئة متعلقان بتستعجلون وقبل الحسنة ظرف متعلق بمحذوف حال والمراد بالسيئة العذاب وبالحسنة الرحمة كما سيأتي. (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ(7/221)
تُرْحَمُونَ)
لولا حرف تحضيض بمعنى هلا وتستغفرون الله فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله ولعلكم ترحمون لعل واسمها والجملة خبرها. (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) اطيرنا فعل ماض وفاعل وأصله تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل الى النطق بالساكن لأن المدغم ساكن دائما، وبك متعلقان باطيرنا وبمن عطف على بك ومعك ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة من والجملة مقول قولهم.
(قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) طائركم مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر والجملة مقول قوله وبل حرف إضراب فقد أضرب عن بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم الى ذكر ما هو الداعي اليه وأنتم مبتدأ وقوم خبر وجملة تفتنون نعت لقوم.
(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وفي المدينة جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وتسعة اسمها المتأخر ورهط مضاف اليه وسيأتي بحث تمييز العدد مفصلا في باب الفوائد وجملة يفسدون صفة لتسعة ولا يصلحون عطف على يفسدون، وسيأتي سر قوله ولا يصلحون في باب البلاغة. (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) تقاسموا فعل أمر أي احلفوا، ويجوز أن يكون فعلا ماضيا وحينئذ يجوز أن يكون مفسرا كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: تقاسموا، ويجوز أن يكون مع فاعله جملة في محل نصب على الحال أي قالوا متقاسمين بإضمار قد والتقاسم والتقسم كالتظاهر والتظهر التحالف، لنبيتنه: اللام واقعة في جواب القسم ونبيتنه من البيات، وقد تقدم معناه في مكان آخر، فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر(7/222)
تقديره نحن والهاء مفعول به أي لنباغتنه ليلا، وأهله الواو عاطفة وأهله معطوف على الهاء ويجوز أن يعرب مفعولا معه فتكون الواو للمعية. (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ثم حرف عطف للتراخي واللام موطئة للقسم ونقولن تقدم اعراب مثيلتها ولوليه متعلقان بنقولن أي الذين لهم ولاية دمه، ومهلك مفعول به وهو إما مصدر ميمي أو اسم زمان أو اسم مكان وقرئ بضم الميم وفتح اللام على أنه من الرباعي وأهله مضاف اليه وإنا الواو عاطفة أو حالية وإنا ان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبر إن.
(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة ومكروا فعل وفاعل ومكرا مفعول مطلق ومكرنا مكرا عطف على الجملة السابقة والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) الفاء استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان ما يترتب على مكرهم المبيت وتآمرهم الدنيء فإن البيات مما يستكره، ويروى عن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال ليس من آيين الملوك استراق الظفر أي من عادته وطرائقه.
وكيف خبر كان المقدم وعاقبة اسم كان المؤخر والجملة في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بانظر المعلقة عن العمل بالاستفهام وإنا جملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إنا وقرئ بفتحها على أن المصدر بدل من العاقبة أو خبر لمبتدأ محذوف وان واسمها وجملة دمرناهم خبرها وأجمعين تأكيد لكل من المعطوف والمعطوف عليه أي صالح وأهله المؤمنين به وكانوا كما يروى أربعة آلاف.
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها مقررة لها وتلك مبتدأ وبيوتهم خبر(7/223)
وخاوية حال من بيوتهم والعامل فيها معنى الاشارة وبما ظلموا متعلقان بخاوية وما مصدرية والباء للسببية أي بسبب ظلمهم وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها ولقوم صفة لآية وجملة يعلمون صفة لقوم. (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) فعل وفاعل ومفعول به وجملة آمنوا صلة وكانوا يتقون عطف على آمنوا فهو في حيز الصلة وكان واسمها وخبرها.
البلاغة:
1- التمام أو التتميم:
في قوله «ولا يصلحون» فن التمام كما سماه قدامة في نقد الشعر وابن رشيق في العمدة وابن عساكر في الصناعتين، أو التتميم كما سماه الحاتمي، وقد تقدم ذكره في البقرة والنحل، ونعيد تعريفه مختصرا هنا وهو أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت منه نقص معناه في ذاته أو في صفاته ولفظه تام فإن قوله «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض» شأنهم الإفساد البحت وقد كانوا كما يروى عتاة غلاظا وهم الذين أشاروا بعقر الناقة لمراغمة صالح وإثارة حفيظته ومنهم قدار بن سالف المشهور بالشؤم وقد تقدم ذكره، ولكن قوله يفسدون في الأرض لا يدفع أن يندر منهم أو من أحدهم بعض الصلاح فتمم الكلام بقوله «ولا يصلحون» دفعا لتلك العذرة أن تقع أو أن يخالج بعض الأذهان شك في أنها ستقع وبذلك قطع كل رجاء في إصلاح أمرهم وحسن حالهم.(7/224)
2- المشاكلة:
في قوله «ومكروا مكرا ومكرنا مكرا» فن المشاكلة وهي ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته لأن الله تقدس عن أن يستعمل في حقه المكر، إلا أنه استعمل هنا مشاكلة وهو كثير في القرآن ومنه «تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك» والله تعالى وتقدس لا تستعمل في حقه لفظة النفس، أما مكرهم فهو ما بيتوه لصالح وما انتووه من إهلاكه وأهله، وأما مكر الله فهو إهلاكهم من حيث لا يشعرون على سبيل الاستعارة المنضمة الى المشاكلة، فقد شبه الإهلاك بالمكر في كونه إضرارا في الخفاء لأن حقيقة المكر هو الإيقاع بالآخرين قصدا وعن طريق الغدر والحيلة، وقد تقدمت قصة إهلاكهم في الشعب.
الفوائد:
1- تمييز العدد:
مميز الثلاثة والعشرة وما بينهما إن كان اسم جنس وهو ما يفرق بينه وبين مفرده بالتاء كشجر وتمر، أو اسم جمع وهو ما دل على الجمع وليس له مفرد من لفظه كقوم ورهط جرّ بمن، تقول ثلاثة من التمر أكلتها وعشرة من القوم لقيتهم وتسعة من الرهط صحبتهم، قال تعالى:
«فخذ أربعة من الطير» وقد يجر بإضافة العدد إليه فاسم الجمع نحو الآية المتقدمة «وكان في المدينة تسعة رهط» وفي الحديث: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» وقال الشاعر:
ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزمان على عيالي(7/225)
والذود من الإبل ما بين الثلاث الى العشرة وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها كما في الصحاح، والأنفس جمع نفس وهي مؤنثة وإنما أنّث عددها وكان القياس تذكيره لأن النفس كثر استعمالها مقصودا بها الإنسان، أما اسم الجنس فكقول جندل بن المثنى:
كأن خصييه من التدلدل ... ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل
فحنظل اسم جنس مجرور بالاضافة على حد تسعة رهط، هذا ويروي بدل التدلدل التهدل وهو أولى ويروى سحق جراب وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب حتى يكون في ظرفها ما تتزين به والبيت من أقذع الهجاء.
وان كان مميز الثلاثة والعشرة وما بينهما جمعا جر باضافة العدد اليه نحو ثلاثة رجال وثلاث إماء، ويعتبر التذكير والتأنيث مع اسمي الجمع والجنس بحسب حالهما باعتبار عود الضمير عليهما تذكيرا وتأنيثا فيعطى العدد عكس ما يستحقه ضميرهما، فإن كان ضميرهما مذكرا أنث العدد وإن كان مؤنثا ذكر، فتقول في اسم الجنس ثلاثة من الغنم عندي بالتاء في ثلاثة لانك تقول غنم كثير بالتذكير للضمير المستتر في كثير، وروى صاحب المصباح أنه يجوز في غنم تذكير ضميره وتأنيثه، وثلاث من البط بترك التاء من ثلاث لأنك تقول بط كثيرة بالتأنيث للضمير المستتر في كثير، وثلاثة أو ثلاث من البقر لأن ضمير البقر يجوز فيه التذكير والتأنيث وذلك أن في البقر لغتين التذكير والتأنيث، قال الله تعالى: «إن البقر تشابه علينا» بتذكير الضمير وقرئ تشابهت بتأنيثه، وأما اسم الجمع فحكمه حكم المذكر إن كان لمن يعقل كالقوم(7/226)
والرهط والنفر وان كان لما لا يعقل فحكمه حكم المؤنث كالجامل والباقر. هذا ما ذكره النحاة ولكن فيه نظرا لأن نسوة اسم جمع وحكمه حكم المؤنث باتفاق فيقال ثلاث نسوة، والتذكير والتأنيث مع الجمع يعتبران بحال مفرده فان كان مفرده مذكرا أنث عدده وإن كان مؤنثا ذكر عدده فلذلك تقول ثلاثة اصطبلات جمع إصطبل بقطع الهمزة المكسورة وثلاثة حمامات لأن الاصطبل والحمام مذكران، وتقول ثلاث سحابات بترك التاء اعتبارا بالسحابة فهي مؤنثة ولا يعتبر من حال الواحد حال لفظه حتى يقال ثلاث طلحات بترك التاء، ولا يعتبر حال معناه حتى يقال ثلاث أشخص بتركها أيضا يريد نسوة لأن الشخص يقع على المذكر والمؤنث، بل ينظر الى ما يستحقه المفرد باعتبار ضميره فيعكس حكمه في العدد فأما قول عمر بن أبي ربيعة:
فكان مجني دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
فضرورة وكان القياس فيه ثلاثة شخوص بالتاء ولكنه كنى بالشخوص عن النساء والذي سهل ذلك قوله: «كاعبان ومعصر» فاتصل اللفظ بما يعضد المعنى المراد وهو التأنيث، والكاعب الجارية حين يبدو ثديها للنهود، والمعصر بضم الميم وكسر الصاد الجارية أول ما أدركت سميت بذلك لكونها دخلت في عصر الشباب كما قال الخليل.
هذا وقد جمح بنا عنان القول فحسبنا ما تقدم أوردناه لاهميته وفائدته ولا بد من الرجوع الى المطولات لمن أراد المزيد.(7/227)
2- اعلم أنهم قد كسروا شيئا من الأسماء لا على الواحد المستعمل بل نحملوا لفظا آخر مرادفا له فكسروه على ما لم يستعمل فمن ذلك رهط وأراهط قال الشاعر:
يا بؤس للحرب التي ... وضعت أراهط فاستراحوا
وليس القياس في رهط أن يجمع على أراهط لأن هذا البناء من جموع الرباعي وما كان على عدته نحو جعفر وجعافر وجدول وجداول وأرنب وأرانب. وليس أرهط بجمع رهط إذ لو كان كذلك لم يكن شاذا ويدل على ذلك أن الشاعر قد جاء به لما احتاج اليه قال:
وفاضح مفتضح في أرهطه ... من أرفع الوادي ولا من بعثطه
والبعثط والبعثوط: سرّة الوادي وخير موضع فيه.
هذا وقد اختلف النحويون في أراهط، فزعم قوم منهم أنه جمع أرهط الذي هو جمع رهط وهو النفر من ثلاثة الى عشرة، وزعم أكثر النحويين أن أراهط جمع رهط على خلاف القياس. والبيت مطلع قصيدة لسعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة جد طرفة بن العبد الشاعر وبعده:
والحرب لا يبقى لجا ... حمها التخيل والمراح
إلا الفتى الصبار في النّ ... نجدات والفرس الوقاح
والنثرة الحصداء وال ... ... بيض المكلّل والرماح
وتساقط الأوشاظ والذّ ... نبات إذ جهد الفضاح(7/228)
والكر بعد الفر إذ ... كره التقدم وال
نطاح كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر الصراح
لفظ الآيين في شعر أبي نواس:
وردت في باب الإعراب كلمة الإسكندر وفيها يقول: ليس من آيين الملوك استراق الظفر، ونحب أن نورد أبياتا لأبي نواس استعمل فيها كلمة الآيين فجاءت خفيفة ظريفة رغم غرابتها، قال أبو نواس يصف ما جرى له في دير نهراذان:
بدير نهراذان لي مجلس ... وملعب وسط بساتينه
رحت إليه ومعي قينة ... نزوره يوم سعانينه
بكلّ طلاب الهوى فاتك ... قد آثر الدنيا على دينه
حتى توافينا الى مجلس ... تضحك ألوان رياحينه
والنرجس الغض لدى ورده ... والورد قد خفّ بنسرينه
وجيء بالدن على مرفع ... وخاتم العلج على طينه
وطاف بالكأس لنا شادن ... يدميه مس الكف من لينه
يكاد من اشراق خديه أن ... يختطف الابصار من دونه
فلم يزل يسقي ونلهو به ... ونأخذ القصف بآيينه(7/229)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
حتى غدا السكران من سكره ... كالميت في بعض أحايينه
فقوله نأخذ القصف بآيينه أي برسومه وقوانينه وشروطه.
[سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
الإعراب:
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لذكر القصة الخامسة والأخيرة من قصص السورة، ولوطا مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر أو أرسلنا، فإن جعلته اذكر كانت إذ ظرفا لما مضى من الزمان متعلقا باذكر، وان جعلته أرسلنا كانت إذ بدل اشتمال من لوطا وجملة قال مجرورة بإضافة الظرف إليها، ولقومه جار ومجرور متعلقان بقال، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتأتون فعل مضارع والواو فاعل والفاحشة مفعول به والجملة مقول القول، وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة تبصرون خبر أنتم والمراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة ومع ذلك(7/230)
تفعلونها. (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وكرر التوبيخ زيادة في التقبيح واستسماج هذه الفعلة الشنعاء المخالفة لنواميس الطبيعة، وسيرد في باب الفوائد بحث عن هذه الميول الجنسية الشاذة التي لا يبلغ كنه قبحها، وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون الرجال خبرها وشهوة مفعول لأجله أو حال من الفاعل أو المفعول ومن دون النساء متعلقان بمحذوف حال من الفاعل. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) بل حرف إضراب وأنتم مبتدأ وقوم خبر وتجهلون صفة لقوم. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب قومه خبر كان المقدم وإلا أداة حصر وأن قالوا مصدر مؤول في موضع الرفع اسم كان المؤخر وجملة أخرجوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وآل لوط مفعول به ومن قريتكم متعلقان بأخرجوا وإنهم تعليل لإخراجهم وان واسمها وأناس خبرها وجملة يتطهرون صفة أي يتنزهون عن هذا العمل القذر. (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) الفاء عاطفة على مقدر محذوف يفهم من السياق أي فخرج لوط بأهله من أرضهم بعد أن أحس بمكرهم وكيدهم وتربصهم الدوائر. وأنجيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه وإلا أداة استثناء وامرأته مستثنى وجملة قدرناها حال وقدرناها فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن الغابرين متعلقان بقدرناها أي الباقين في العذاب. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) الواو عاطفة وأمطرنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأمطرنا ومطرا مفعول به، فساء الفاء عاطفة وساء فعل ماض للذم ومطر المنذرين فاعل.(7/231)
الفوائد:
النرجسية والشذوذ الجنسي:
يرجع الفلاسفة المحدثون ظواهر الشذوذ في غرائز الجنس الى النرجسية، ولهذا كان لا بد من أن نشرح هذه النرجسية كما يفهمها المحللون النفسيون:
كان اليونانيون الأقدمون يطلقون اسم نرجس على فتى من فتيان الأساطير بارع الحسن ساحر الشمائل يفتن من يراه ويشقي بجماله وتيهه قلوب العذارى الخفرات، فلا يلتفت إليهن ولا يستجيب لضراعتهن، ولم يزل كذلك حتى ضجت السماء بدعاء عاشقاته وصلواتهن الى الأرباب أن يصرفوهن عنه أو يصرفوه عنهن واستجابت «نمسي» ربة القصاص والجزاء الى هذا الدعاء فقضت عليه أن يهيم بحب نفسه ويلقى منها الشقاء الذي تلقاه منه عاشقاته، قال رواة الأساطير: فما هو إلا أن ذهب يشرب من ينبوع صاف حتى لمح بصورته في مائه فوقف عندها يعجب من جمالها وأذهلته الفتنة عن شأنه فلم يبرح مكانه مطرقا الى الماء ليتملّى تلك الصورة ويرتوي من النظر إليها فلا يزيده النظر إلا لهفة وشوقا ولا تزيده اللهفة إلا هزالا وذبولا حتى فني، وذهبت عرائس الماء تطلب رفاته فلم تجد في مكانه غير نرجسة مطرقة ترنو الى الماء ولا ترفع بصرها الى السماء، فالنرجس أبدا مطرق مفتوح العين لا يشبع من النظر الى خياله على حوافي الجداول والغدران. وهناك روايات أخرى حول هذه الأسطورة تمثل الصدى والحذر والسبات لا تخرج عن هذا الفحوى وتلحق بما تنطوي(7/232)
عليه آفة النرجسية من الغرائز أو من الميول والأحاسيس ولهذا وقع عليها اختيار المحللين النفسيين فلم يجدوا اصطلاحا أوفق منها لأعراض تلك الظاهرة النفسية مع عراقة الاصطلاح في اللغة اليونانية التي يختارونها لابتداع الأسماء الجديدة في العلوم، وأول من أدخل هذا المصطلح في الطب النفسي الدكتور هافلوك أليس رائد المباحث الجنسية المشهور، ثم توسّع الأطباء النفسيون في دراسة هذه الآفة وتتبعوا أعراضها ولوازمها واستقصوا ما هو من لوازمها الأولية وما هو من لوازمها الثانوية أو التبعية، وتعنينا هنا من شعابها التي تتصل بدراسة المنحرفين شعبتان:
1- تسمى إحداهما الاشتهاء الذاتي.
2- تسمى ثانيتهما التوثين الذاتي.
فالاشتهاء الذاتي يغلب على الحالات الجسدية التي تقترن باختلال وظائف الجنس في صاحبها ويبلغ من اختلال هذه الوظائف أن المصاب به يمني إذا أطال النظر الى بدنه عاريا في المرآة وما إليها وأنه يشتهي بدنه كأنه بدن إنسان غريب عنه ولكنها شهوة يبالغ فيها المريض.
والتوثين الذاتي يغلب على الحالات العاطفية والفكرية، فيتخذ المصاب به من نفسه وثنا يعبده ويعزه ويدلله، فلازمة التلبيس والتشخيص لاغنى في الشذوذ الجنسي، وهو عشق الإنسان لذاته من الناحية الشهوية، فالشاذ في حب جنسه أو حب الجنس الآخر يجد طلبته ويقضي مأربه، أما الذي يشتهي بدنه فليس في وسعه أن يقضي(7/233)
مأربه منه بغير الاحتيال لذلك بالتلبيس والتشخيص، فهو يلبس شخصيته شخصا آخر يتوهم أنه هو ذاته أو يحل محلّ ذاته وكما يفعل جالد عميرة حين يضع أمامه صورة.
هذا ومن المفيد أن يرجع الذي يتوق الى معرفة تطور النظريات في مسائل الجنس الى الكتب المؤلفة في هذا الصدد فهي تلقي أضواء على المشكلة ولكنها لا تحلها، لأنها كلها لم تنته الى تهوين الفوارق بين الجنسين ولا إلى زعم الزاعمين أن الإنسان مزدوج الجنسين مختلط الذكورة والأنوثة بطبيعته، وأن الشذوذ الجنسي فيه فطرة عامة تتخذ أطوارها على حسب العمر من الطفولة الى تمام النمو في الجنسين كما يقول فرويد ومتبعوه.
وقد صور أبو نواس وهو قطب من أقطاب النرجسيين هذه الأطوار خير تمثيل وهو يغشى معاهد الدرس على هذا المثال في عرفه بقوله:
إذا ما وطئ الأمر ... د للعلم حصى المسجد
فقل حلّ لنا عقدا ... من الفقه واستفسد
فإن كان عروضيا ... فقولوا سجد الهدهد
وإن أعجبه النحو ... فها ذاك له أجود
وإن مال الى الفقه ... فللفقه له أفسد
وان كان كلاميا ... فحرّك طرف المقود
وميله الى الخير ... فقيه قرب ما يبعد(7/234)
وخذه كيفما شئت- اقتضابا أو على موعد وقل: هذا قضاء الله هل يدفع أو يجحد وانتهى مصرحا:
فيا من وطئ المسجد ... من ذي بهجة أغيد
أنا قست على نفسي ... فهذا الأمر لا أجحد
وننتهي من هذا البحث وقد كان أمرا لا بد منه وإن لم يكن هذا موضعه.
تصحيح رواية بيت في الكشاف لأبي نواس:
ذكر الزمخشري في كشافه بصدد الحديث عن قوم لوط قال:
« ... كانوا في ناديهم يرتكبونها معالنين بها لا يتستر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكا في المعصية وكأن أبا نواس بنى على مذهبهم قوله:
وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر
وصواب الرواية «وبح باسم من تهوى ودعني من الكنى» البيت وهو من قصيدة رائعة أولها:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر(7/235)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
وبعد البيت:
فعيش الفتى في سكرة بعد سكرة ... فإن طال هذا عنده قصر العمر
وبعده:
وما الغرم إلا أن تراني صاحيا ... وما الغرم إلا أن يتعتعني السكر
ولا نمرّ بك دون أن نقف عند البيت الأول فقد قال «وقل لي هي الخمر» وقد يبدو هذا حشوا للوهلة الأولى ولكن القارئ إذا ذكر أن للانسان خمس حواس علم أن أبا نواس قصد أن يشرك حاسة السمع التي تظل محرومة من لذة الخمر حال شربها فطالب ندمانه أن يخاطبه باسمها ليشرك حاسة سمعه وهذا من أعاجيب فطنته.
[سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)(7/236)
اللغة:
(حَدائِقَ) : جمع حديقة أي بستان من أحدق بالشيء أحاط به، ولما كان البستان محوطا بالحيطان سمي حديقة وإلا فلا يسمى بها، وفي المصباح: «والحديقة البستان يكون عليه حائط فعيلة بمعنى مفعولة لأن الحائط أحدق بها أي أحاط، ثم توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان وإن كان بغير حائط والجمع الحدائق» وفي الصحاح: «الحديقة: كل بستان عليه حائط» ومن أقوالهم: «ورد عليّ كتابك فتنزهت في آنق رياضه، وبهجة حدائقه» .
الإعراب:
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) كلام مستأنف مسوق لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بحمده تعالى وبالسلام على(7/237)
المصطفين الأخيار من خلقه وكأن هذا الحمد براعة استهلال لما سيلقيه من البراهين والدلائل على الوحدانية والعلم والقدرة التي سيرد ذكرها وذلك بعد أن فرغ من قصص هذه السور الخمس. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد ليكون نموذجا يتأسى به كل كاتب وخطيب ويحتذى على مثاله في كل علم مفاد، والحمد مبتدأ ولله خبره وسلام مبتدأ سوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء وعلى عباده خبر والذين صفة لعباده وجملة اصطفى صلة والعائد محذوف أي اصطفاهم وهم المؤمنون المتأهلون للدنيا والآخرة. (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) الهمزة للاستفهام والله مبتدأ وخير خبر وأم عاطفة وما اسم موصول واقع على آلهتهم وجملة يشركون صلة. (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) أم منقطعة لفقدان شرطها وهو تقدم همزة الاستفهام وهي بمعنى بل والإضراب بمعنى التبكيت والتوبيخ ومن مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض صلة وخبر من محذوف تقديره خير أم ما يشركون فيقدر ما أثبت في الاستفهام الأول تعويلا عليه وهذا ما اختاره الزمخشري وهو جميل متناسب مع الكلام، وقال أبو الفضل الرازي:
«لا بد من إضمار جملة معادلة وصار ذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه وتقدير تلك الجملة: أمن خلق السموات والأرض كمن لم يخلق وكذلك أخواتها وقد أظهر في غير هذه المواضع ما أضمر فيها كقوله تعالى: أفمن يخلق كمن لا يخلق» ولا نرى خلافا بينا بين الوجهين. وأنزل عطف على خلق ولكم حال ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به والفاء عاطفة وأنبتنا عطف على ما تقدم على طريق الالتفات، وسيأتي في باب البلاغة، وبه متعلقان بأنبتنا وحدائق مفعول به وذات بهجة صفة لحدائق وسوغ إفراده أن المنعوت جمع كثرة لما لا يعقل.(7/238)
(ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) الجملة نعت ثان لحدائق أو حال منها لتخصصها بالصفة، وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وتنبتوا فعل مضارع منصوب بأن والواو فاعل وشجرها مفعول. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى النفي وإله مبتدأ وساغ الابتداء به لإفادته بسبب الاستفهام ومع الله ظرف متعلق بمحذوف خبر وبل حرف إضراب معناه التبكيت، وقد تكرر هذا التعبير خمس مرات كما سترى، وهم مبتدأ وقوم خبر وجملة يعدلون صفة. (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) تقدم إعراب هذا التركيب فقس عليه، وقرارا مفعول جعل الثاني، وجعل خلالها أنهارا عطف على الجملة الأولى، وخلالها يجوز أن يكون ظرفا لجعل بمعنى خلق المتعدية لواحد وأن يكون في محل المفعول الثاني على أنها بمعنى صيّر وعلى الوجه الأول يكون قرارا حالا. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) جملة معطوفة. (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة معطوفة على ما تقدم وقد تقدم إعرابها.
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) تقدم إعرابها وجملة دعاه في محل جر بإضافة الظرف إليها والمضطر اسم مفعول، وطاؤه أصلها تاء الافتعال. (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ) تقدم إعرابها، وقليلا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف وما زائدة لتقليل القليل وتذكرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والواو فاعل. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) تقدم إعرابها. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تقدم اعرابها أيضا. (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) تقدم اعرابها أيضا. (أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ(7/239)
قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)
إن شرطية وجوابها محذوف تقديره فهاتوا برهانكم، وقد قدمنا أن قوله أإله ذكر خمس مرات وختم الأول بقوله «بل هم يعدلون» وختم الثاني بقوله «بل أكثرهم لا يعلمون» والثالث بقوله: «قليلا ما يذكرون» والرابع بقوله:
«تعالى الله عما يشركون» والخامس بقوله «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» .
البلاغة:
الالتفات في قوله: «فأنبتنا به حدائق ذات بهجة» بعد قوله «أم من خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء» فقد انتقل في نقل الإخبار من الغيبة الى التكلم عن ذاته في قوله فأنبتنا، والسر فيه تأكيد اختصاص فعل الإنبات بذاته تعالى وللإيذان بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف وما يبدو فيها من تزاويق الألوان وتحاسين الصور، ومتباين الطعوم، ومختلف الروائح المتفاوتة في طيب العرف والأريج كل ذلك لا يقدر عليه إلا قادر خالق وهو الله وحده، ولذلك رشح هذا الاختصاص بقوله بعد ذلك «ما كان لكم أن تنبتوا شجرها» وقد أدرك أبو نواس هذه الحقيقة فقال:
تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ... بأنظار هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك(7/240)
هل تاب أبو نواس؟:
هذا ولعلك تعجب من هذه الأبيات تنضح بالإيمان العميق وتصدر عن رجل كأبي نواس لم يظلمه الذين اتهموه ولم تعوزهم الأدلة على اتهامه بالفساد ولكنهم ظلموا الفلسفة فظنوها مدرجة المطلعين عليها الى الزندقة ومذاهبها، ولا زندقة هنا عند أبي نواس ولا مذهب غير المجون وحب الظهور، ولقد كان ابراهيم النظام من أعلم أهل زمانه بما يسمونه علوم الأوائل وكان أبو نواس يحضر عليه فينهاه عن التبذل ويذكره بالوعيد ويقول له: إن من ترقب وعد الله فعليه أن يحذر وعيده، فلا يرعوي عن لغوه ومجونه حتى يئس منه فطرده من مجلسه، فنظم فيه قصيدته التي اشتهرت بالابراهيمية ومطلعها مشهور متداول:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
وفيها يسخر من النظام:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تخطر العفو إن كنت امرأ حرجا ... فإن خطرك بالدين إزراء
فأبو نواس لم يكن سوى ماجن مستهتر وقد كان المجون في(7/241)
عرف بيئته هو الظرف، نصح له الأمير أبو العباس محمد أن يتوب عن المجون، فقال له: أما المجون فما كل أحد يقدر أن يمجن وإنما المجون ظرف ولست أبعد فيه عن حد الأدب أو أتجاوز مقداره، أما المعاصي فإني أثق فيها بعفو الله عز وجل وقوله تعالى:
«يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا» وقد تلقف أبو نواس أضاليل المرجئة وقولهم:
«لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت أصلا ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلا» فنادى بذلك ويظهر أنه استهواه:
ترى عندنا ما يسخط الله كله ... من العمل المردي الفتى ما خلا الشركا
ثم عدل نظريته بعض الشيء فاكتفى بالقول إن الكبائر لا تسلك صاحبها مع الكفار ولا تحرمه الرجاء بعفو الله وقوله مشهور في ذلك:
تكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك بالغ ربا غفورا
تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار السرورا
ومن ذلك قوله:
يا كبير الذنب عفو الله من ذنبك أكبر على أنه تاب في أخريات عمره، وقد نستشف من أشعاره التي نظمها في تلك السن المشارفة على النهاية صدق توبته، فقال معترفا بتأخيرها بعد فوات حينها:
دبّ فيّ الفناء سفلا وعلوا ... وأراني أموت عضوا فعضوا(7/242)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
ذهبت شرّتي وجدة نفسي ... وتذكرت طاعة الله
نضوا ليس من ساعة مضت بي إلا ... نقصتني بمرها لي
جزوا لهف نفسي على ليال وأيا ... م سلكتهن لعبا
ولهوا قد أسأنا كل الإساءة يا ... رب فصفحا عنا إلهي وعفوا
[سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 70]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
الإعراب:
(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين والنحاة وخاضوا فيها كثيرا وسنختار هنا أسهل أقوالهم على أن نورد في باب الفوائد جميع ما قيل حولها لما في ذلك من رياضة ممتعة للذهن. والجملة مستأنفة مسوقة للرد عليهم وقد سألوه عن وقت قيام الساعة، ف «لا»(7/243)
نافية ويعلم فعل مضارع ومن اسم موصول فاعل يعلم وفي السموات والأرض صلة من، أي لا يعلم الذي ثبت واستقر وسكن في السموات والأرض والغيب مفعول به وإلا أداة استثناء بمعنى لكن اشارة الى أن الاستثناء منقطع والله مبتدأ خبره محذوف تقديره يعلم ويصح أن تكون من في محل نصب مفعول به والغيب بدل اشتمال منها والله فاعل يعلم والمعنى قل لا يعلم الأشياء التي تحدث في السموات والأرض الغائبة عنا إلا الله تعالى والواو عاطفة وما نافية ويشعرون فعل مضارع وفاعل وأيان اسم استفهام بمعنى متى وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة ليشعرون عن العمل فالجملة المؤلفة منها ومما بعدها في محل نصب بنزع الخافض أي ما يشعرون بذلك. (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وقال الجلال هي بمعنى هل وهو غريب بالرغم من أن شراح الجلال قالوا ان طريقة الجلال أسهل من الطرق التي سلكها غيره، وادارك فعل ماض أي لحق وتتابع، وأورد الزمخشري اثنتي عشرة قراءة لها، وعلمهم فاعل وفي الآخرة متعلقان بادارك أو بعلمهم وادارك وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى لأنه كان حتما كقوله «أتى أمر الله» ، بل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ وفي شك خبر ومنها صفة لشك وبل حرف إضراب انتقالي أيضا وهم مبتدأ ومنها متعلقان بعمون وعمون خبر هم، والعمى هنا عمى القلب، والأصل عميون استثقلت الضمة على الياء فنقلت الى الميم بعد حذف كسرتها.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) الواو للعطف وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة الذين والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة(7/244)
كنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكان واسمها وترابا خبرها وآباؤنا عطف على اسم كان وسوغ العطف عليه الفصل بالخبر والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وإن واسمها واللام المزحلقة ومخرجون خبر إن والجملة تأكيد للجملة الأولى. (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الجملة تأكيد ثان للجملة السابقة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ووعدنا فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل وهذا مفعول به ثان لوعدنا ونحن تأكيد لنا وآباؤنا عطف على الضمير البارز في وعدنا وسوغ العطف تأكيده بالضمير المنفصل والفصل بالمفعول الثاني ومن قبل متعلقان بوعدنا والظرف مبني على الضم لانقطاعه على الإضافة لفظا لا معنى أي من قبل مجيء محمد من الرسل السابقين، وهنا لا بد من تقدير حذف اقتضاه الإيجاز فلو كان الموعود به حقا لحصل وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير خبر هذا والأولين مضاف إليه.
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) سيروا فعل أمر معناه التهديد لهم على التكذيب والتحذير من أن ينزل بهم ما حاق بالمكذبين من قبلهم وفي الأرض متعلقان بسيروا، فانظروا عطف على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة المجرمين اسم كان المؤخر. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة على قل ولا ناهية وتحزن فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وعليهم متعلقان بتحزن ولا تكن عطف على لا تحزن واسم تكن مستتر تقديره أنت وفي ضيق خبر ومما صفة لضيق وجملة يمكرون صلة.(7/245)
الفوائد:
منشأ الاضطراب في هذه الآية أنهم- أي النحاة- أعربوا لفظ الجلالة بدلا من «من» وفي ذلك إبدال المستثنى المنقطع وهي لغة مرجوحة لتميم، ولما كانت القراءة مما اتفق عليه السبعة بالرفع حصل ذلك الاشكال، وفيما ذكرناه أي إعراب لفظ الجلالة مبتدأ مخلص من هذا كله قالوا: «والله مرفوع على البدلية من «من» لأنه تعالى لا يحويه مكان» .
وجوز الصفاقسي أن يكون الاستثناء متصلا والظرفية في حقه تعالى مجازية وفيه جمع بين الحقيقة والمجاز في الظرفية وعلى هذا فيرتفع على البدل أو عطف البيان. وقد سبق لنا تقرير الجمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة وأرجحنا جواز اجتماعهما وعلى ذلك قولهم «القلم أحد اللسانين» وجميع أهل الأصول من أتباع الإمام الشافعي لا يشترطون في المجاز القرنية المانعة من إرادة المعنى الحقيقي.
وفي الجمع بين الحقيقة والمجاز إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر وهو نوع من البديع يسمى التنويع، وهو ادعاء أن مسمّى اللفظ نوعان: متعارف وغير متعارف على طريق التخيل وهو نوع واسع يجري في أبواب كثيرة، منه أن ينزل ما يقع في موقع شيء بدلا عنه منزلته بدون تشبيه ولا استعارة كقولهم «تحية بينهم ضرب وجيع» وقولهم عقابه السيف.
وقال ابن الكمال: فإن قلت: كيف استثني الله وانه تعالى منزه ومتعال عن أن يكون في السموات والأرض؟ قلت كما استثني «غير أن سيوفهم» من قوله أي النابغة الذبياني:(7/246)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
يعني إن كان الله تعالى ممن في السموات والأرض كان فيهم من يعلم الغيب، والغرض المبالغة في نفي العلم بالغيب عنهم وسد الطريق الى ذلك الاحتمال، فالاستثناء متصل كما في قوله تعالى: «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف» فإن شراح الكشاف قاطبة صرحوا بأن الاستثناء فيه متصل.
والعجب أن البيضاوي جوّز اتصال الاستثناء في آية النكاح على الوجه المذكور وجزم هنا بانقطاعه، والظاهر من كلام الزمخشري أيضا القطع بالانقطاع حيث قال: «جاز رفع اسم الله تعالى على لغة بني تميم حيث يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار، كأن أحدا لم يذكر فإنه على تقدير الكلام على النسق المذكور يصح رفع اسم الله على لغة أهل الحجاز أيضا.
واعترض بعضهم على الاعراب الثاني أي نصب «من» واعراب الغيب بدلا من «من» بدل اشتمال فقال إن بدل الاشتمال يحتاج الى ضمير يكون رابطا ولا ضمير هنا وليس البدل بعد أداة الاستثناء ليقال إن قوة المستثنى بالمستثنى منه تغني عنه، وعلى هذا فالوجه الأول خال من كل محذور.
[سورة النمل (27) : الآيات 71 الى 78]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)(7/247)
اللغة:
(رَدِفَ) : في القاموس: «ردفه كسمع ونصر تبعه» ولكنه ضمن هنا معنى دنا أو قرب ولذلك عدي باللام أو أن اللام زائدة كما سيأتي في الاعراب وقد عدي بمن أيضا قال:
فلما ردفنا من عمير وصحبه ... تولوا سراعا والمنية تعنق
ردف كتبع يتعدى بنفسه وضمن هنا معنى الدفو فعدي بمن، وأعنق الفرس سار سيرا سريعا سهلا والعنق اسم منه، يقول الشاعر فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين والحال أن الموت يسرع خلفهم من جهتنا، شبه المنية بالأسد على طريق الاستعارة المكنية فأثبت لها العنق تخييلا كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال.
ويجوز أنه استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح أي ونحن نسرع خلفهم فذكر العنق تجريد لأنه يلائم المشبه والعنق ضرب من سير الدواب كما في الصحاح.(7/248)
وقال ابن الشجري:
معنى ردف لكم تبعكم ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها ومنه قول أبي ذؤيب.
عاد السواد بياضا في مفارقه ... لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا
قال الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى قال خزيمة بن مالك بن نهد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا
الإعراب:
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية والخطاب للنبي ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكان واسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله.
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) عسى ولعل وسوف إذا خوطب بها من هو أكبر منك قدرا فهي بمثابة الجزم بمدخولها وإنما يطلقونها للوقار وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء واسمها مستتر تقديره هو وان يكون مصدر مؤول خبرها واسم يكون مستتر تقديره هو وردف فعل ماض ضمن فعل يتعدى باللام(7/249)
وبعض فاعل والذي مضاف اليه وجملة تستعجلون صلة وجملة ردف خبر يكون وقيل إن ردف على بابها بمع تبع واللام زائدة. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وذو فضل خبرها وعلى الناس متعلقان بفضل أو صفة له والواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب وأكثرهم اسمها وجملة لا يشكرون خبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة يعلم خبر إن وما مفعول به وجملة تكن صدورهم صلة والعائد محذوف وما يعلنون عطف على ما تكنّ. (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وما نافية ومن حرف جر زائد وغائبة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لدخول النفي عليها، والغائبة كل ما يخفى، سمي الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية فكانت التاء فيهما بمنزلتهما في العافية والعاقبة والنصيحة والرمية والذبيحة في أنها أسماء غير صفات ويجوز أن تكون هذه صفات والتاء فيها للمبالغة كراوية وعلامة ونسابة. وفي السماء والأرض صفة لغائبة وإلا أداة حصر وفي كتاب خبر غائبة ومبين صفة. (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الجملة مستأنفة لبيان نوع آخر من ميزات القرآن وان واسمها والقرآن بدل من اسم الاشارة وجملة يقص خبر إن وعلى بني إسرائيل جار ومجرور متعلقان بيقص وأكثر مفعول به والذي مضاف اليه وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون صلة الذي. (وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وهدى خبرها ورحمة عطف على هدى وللمؤمنين صفة. (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ(7/250)
الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)
إن واسمها وجملة يقضي خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال وبحكمه متعلقان بيقضي وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والعليم خبر ثان.
الفوائد:
أحكام التاء المتحركة اللاحقة بالأسماء والصفات:
هذه التاء إحدى علامات التأنيث المختصة بالأسماء لأنه لما كان التأنيث فرعا للتذكير احتاج لعلامة تميزه، على أن العرب قد أنثوا أسماء كثيرة بتاء مقدرة ويستدل على ذلك التقدير بالضمير العائد عليها نحو: «النار وعدها الله الذين كفروا» و «حتى تضع الحرب أوزارها» و «إن جنحوا للسلم فاجنح لها» وبالإشارة إليها نحو: «هذه جهنم» وبثبوتها في تصغير الاسم نحو عيينة وأذينة مصغر عين وأذن من الأعضاء المزدوجة فإن التصغير يرد الأشياء الى أصولها، فإن القاعدة المشهورة هي: أن ما كان من الأعضاء مزدوجا فالغالب عليه التأنيث إلا الحاجبين والمنخرين والخدين فإنها مذكرة، على أن المرجع السماع فإن من المزدوج الكف وهي مؤنثة، وزعم المبرد أنها قد تذكر وأنشد:
ولو كفي اليمين تقيك خوفا ... لأفردت اليمين عن الشمال
ولكن هذا وهم من المبرد فإن اليمين بمنزلة اليمنى فهي مؤنثة.
وقال ابن يسعون: على انه رجع الى التأنيث فقال تقيك. ونعود الى طرق الاستدلال فنقول ويستدل على التقدير أيضا بثبوتها في فعله نحو:
«ولما فصلت العير» وبسقوطها من عدده كقول حميد الأرقط يصف قوسا عربية:(7/251)
أرمي عليها وهي فرع أجمع ... وهي ثلاث أذرع وأصبع
فأذرع جمع ذراع وهي مؤنثة بدليل سقوط التاء من عددها وهو ثلاث والواو في قوله «وهي» فرع للحال يقال قوس فرع إذا عملت من رأس القضيب ولم يرد بقوله وإصبع حقيقة مقدار الإصبع ولكنه أشار بذلك الى كمال القوس كما تقول: الثوب سبع أذرع وزائد تريد أنها موفاة هذا العدد.
والغالب في هذه التاء أن تكون لفصل صفة المؤنث من صفة المذكر كقائمة وقائم، ومن غير الغالب في الأسماء غير الصفات نحو رجل ورجلة وغلام وغلامة وفي الصفات التي تنزل على مقصدين وهي الصفات المختصة بالمؤنث كحائض وطامث فإن قصد بها الحدوث في أحد الأزمنة لحقتها التاء فقيل حائضة وطامثة وإن لم يقصد بها ذلك لم تلحقها فيقال حائض وطامث بمعنى ذات أهلية للحيض والطمث.
وقال في المفصّل: «للبصريين في نحو حائض وطامث مذهبان:
فعند الخليل انه على النسب كلابن وتامر كأنه قيل ذات حيض وذات طمث، وعند سيبويه أنه مؤول بانسان أو شيء حائض كقولهم غلام ربعة على تأويل النفس وانما يكون ذلك في الصفة الثابتة وأما الحادثة فلا بد لها من علامة التأنيث فتقول حائضة وطالقة الآن أو غدا» وقد أوضحنا الفرق بين الصفة الحادثة والثابتة في الكلام عن قوله تعالى «يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت» بأن المرضع هي التي من شأنها الإرضاع والمرضعة هي التي في حالة الإرضاع ملقمة ثديها للصبي فانظره هناك.(7/252)
وقال في المفصل: «إن مذهب الكوفيين ان حذف التاء في حائض للاستغناء عنها» وهذا يوجب اثبات التاء في محل الالتباس كضامر وعاشق وأيم وثيّب وعانس وهذا الاعتراض بيّن، وأما الاعتراض بإثبات التاء في الصفات المختصة بالإناث من امرأة مصيبة وكلبة مجرية على ما في الصحاح فليس بسديد لأن ما ذكروه مجوز لا موجب لأنهم يقولون الإتيان بالتاء في صورة الاستغناء عن الأصل كحاملة في المرأة، قال الجوهري في الصحاح: يقال امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى، فمن قال حامل قال هذا نعت لا يكون إلا للإناث، ومن قال حاملة بناء على حملت فهي حاملة، وأنشد لعمرو بن حسان:
تمخضت المنون له بيوم ... أتى ولكل حاملة تمام
فإذا حملت شيئا على ظهرها أو على رأسها فهي حاملة لا غير.
هذا ولا تدخل هذه التاء في خمسة أوزان:
1- فعول بفتح الفاء بمعنى فاعل كرجل جسور وامرأة جسور «وما كانت أمك بغيّا» وقد سبق ذكرها في سورة مريم.
2- فعيل بمعنى مفعول نحو رجل جريح وامرأة جريح، فإن قلت مررت بقتيلة بني فلان ألحقت التاء خشية الالتباس بالمذكر لأنك لم تذكر الموصوف.
3- مفعال بكسر الميم نحو منحار يقال رجل منحار وامرأة منحار.
4- مفعيل بكسر الميم كمعطير من العطر وشذّ امرأة مسكينة وسمع امرأة مسكين على القياس.(7/253)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
5- مفعل كمغشم وهو الذي لا ينتهي عما يريده ويهواه من شجاعته.
تاء الفصل: وتأتي التاء لفصل واحد من الجنس كتمرة وتمر، أو فصل الجنس من الواحد نحو كماة وليس منه سيارة في قوله تعالى «وجاءت سيارة» فإنها جمع سيار لا من أسماء الأجناس.
تاء العوض: وتاء العوض وهي التي تأتي عوضا من فاء كعدة، أو عين كإقامة، أو لام كسنة، أو من حرف زائد لغير معنى كزنديق وزنادقة فالتاء عوض من ياء زناديق.
تاء التعريب: وتاء التعريب وهي التي تأتي لتعريب الأسماء الأعجمية كموازجة جمع موزج بفتح الميم وسكون الواو وفتح الزاي بعدها جيم وهو الخف أو الجورب والقياس موازج فدخلت التاء في جمعه لتدل على أن أصله أعجمي فعرب.
تاء المبالغة: وتاء المبالغة في الوصف كراوية لكثير الرواية ونسّابة لكثير العلم بالأنساب.
[سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 82]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82)(7/254)
الإعراب:
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) الفاء الفصيحة لأنها تفريع على قوله العزيز العليم أي ان عرفت هذه الصفات لله تعالى وآمنت بها فتوكل. وتوكل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى الله جار ومجرور متعلقان بتوكل وجملة انك على الحق المبين لا محل لها لأنها تعليل للتوكيل وإن واسمها وخبرها والمبين صفة. (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) تعليل ثان للأمر بالتوكل، يقطع طمعه عن متابعتهم. وان واسمها وجملة لا تسمع خبر والموتى مفعول به ولا تسمع الصم عطف على سابقتها والصم مفعول به أول والدعاء مفعول به ثان وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ولوا مجرورة باضافة الظرف إليها ومدبرين حال. (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) الواو عاطفة وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وأنت اسمها والباء حرف جر زائد وهادي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والعمي مضاف اليه وعن ضلالتهم متعلقان بهادي وعدي بعن لتضمنه معنى تصرفهم، وأجاز أبو البقاء وجها آخر وهو أن يتعلق بالعمى لأنك تقول عمي عن كذا وهو وجه سائغ مقبول، ومثل الزمخشري للوجه الأول بقولهم: سقاه عن العيمة أي أبعده عنها بالسقي، والعيمة شهوة اللبن كما في الصحاح. (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إن نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا أداة حصر ومن مفعول به وجملة يؤمن صلة وبآياتنا متعلقان بيؤمن والفاء الفصيحة وهم مبتدأ ومسلمون خبر.
(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان بعض أمائر الساعة الدالة عليها والمراد(7/255)
بالقول ما نطق به القرآن من الآيات التي تنبيء عن الساعة والمراد بوقوعه وهو لم يقع قرب حصوله. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة وقع القول في محل جر بإضافة الظرف إليها والقول فاعل وقع وعليهم متعلقان بوقع وجملة أخرجنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولهم متعلقان بأخرجنا ودابة مفعول به ومن الأرض صفة لدابة وسيأتي ما قيل في دابة الأرض في باب الفوائد.
(تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) جملة تكلمهم صفة ثانية لدابة أو حال منها لأنها وصفت، وأن بفتح الهمزة على تقدير الباء أي بأن الناس والجار والمجرور متعلقان بتكلمهم وقرئ بكسرها على الاستئناف، وان واسمها وجملة كانوا خبر ان وكان واسمها وبآياتنا متعلقان بيوقنون ولا نافية وجملة لا يوقنون خبر كانوا والكلام إما من الله تعالى وإما من كلام الدابة، وقد اختار الزمخشري هذا الوجه وردّ على المعترضين بأن قوله بآياتنا يعكر على ذلك بأن قولها حكاية لقول الله تعالى أو على معنى بآيات ربنا أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده وانها من خواص خلقه أضافت آيات الله الى نفسها كما يقول بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا وانما هي خيل مولاه وبلاده.
البلاغة:
في قوله «ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين» فن الإيغال وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه قبل أن يأتي بمقطعه، فإذا أريد الإتيان به أتى بما يفيد معنى زائدا على معنى ذلك الكلام، فقد انتهى الكلام عند قوله ولا تسمع الصم الدعاء فما معنى قوله ولوا مدبرين؟(7/256)
والجواب أنه أتى بها وقد أغنى عنها ذكر التولي في الظاهر أما في الحقيقة فهو لم يغن عنها لأن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما يكون الاعراض، ولما أخبر سبحانه بذكر توليهم متمما للمعنى في حال الخطاب لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الاشارة، فإن الأصم يفهم من الاشارة ما يفهمه السامع من العبارة، ثم علم سبحانه أن التولي قد يكون بجانب دون جانب كما قدمنا فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به فيدرك بعض الاشارة والمراد نفي كل الاشارة فجاءت الفاصلة «مدبرين» ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا فاحتجب المخاطب عن المخاطب إذ صار من ورائه فخفيت من غيبه الاشارة كما صمّت أذناه عن العبارة فحصلت المبالغة الكلية في عدم الاسماع البتة، وهذا تمثيل مثلت به حال هؤلاء القوم أتى مدمجا في الإيغال وهذا الضرب من الإيغال يسمى ايغال الاحتياط.
وهناك ضرب آخر وهو ايغال التخيير وقد مضى شاهده في سورة المائدة، وقد قدمنا في المائدة ما فيه الكفاية من أمثلة الإيغال، ونورد هنا نماذج منه: يحكى أن أخوة ليلى لما علموا بحب توبة بن الحميّر العقيلي لها نذروا دمه وارتحلوا بها، فقال توبة:
وان يمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن يمنعوا عني البكا والقوافيا
فهلا منعتم إذ منعتم حديثها ... خيالا يوافيني مع الليل هاديا(7/257)
فقد تم المعنى بقوله مع الليل، ولما أتى بالقافية زاد على ذلك.
ولأبي تمام:
إن المنازل ساورتها فرقة ... أخلت من الآرام كل كناس
من كل ضاحكة الترائب أرهفت ... إرهاف خوط البانة المياس
فإن المعنى قد تمّ قبل إتيانه بالقافية في البيت الثاني فلما أتى بها زاد عليه، وعلى هذا النحو الجميل يطرد له ذلك فيقول:
فتوح أمير المؤمنين تفتحت ... لهن أزاهير الربا والخمائل
لقد ألبس الله الإمام فضائلا ... وتابع فيها باللها والفواضل
فأضحت عطاياه نوازع شردا ... تسائل في الآفاق عن كل سائل
مواهب جدن الأرض حتى كأنما ... أخذن بآداب السحاب الهواطل(7/258)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
الفوائد:
دابة الأرض:
دابة الأرض هي الجسّاسة وتنوينها وتنكيرها لإبهام تفخيمها، لتسترعي الانتباه إليها وتلفت الأنظار الى ترقب خروجها وقد كثر الحديث عنها في المطولات وهي من الأمور المغيبة التي نؤمن بها ولا يعنينا كنهها ولا حقيقتها.
[سورة النمل (27) : الآيات 83 الى 88]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87)
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88)
اللغة:
(فَوْجاً) : الفوج: الجماعة والطائفة وجمعه أفواج وفئوج(7/259)
وجمع الجمع أفاوج وأفايج وأفاويج، والفائجة: الجماعة ومتسع ما بين كل مرتفعين من رمل أو غلط، وقال الراغب في مفرداته:
«الفوج الجماعة المارة المسرعة وكأن هذا هو الأصل ثم أطلق وإن لم يكن مرور ولا إسراع والجمع أفواج وفئوج» .
(يُوزَعُونَ) : تقدم قريبا في سورة النحل فجدد به عهدا، أي يحبس أولهم على آخرهم لأجل تلاحقهم.
(داخِرِينَ) : صاغرين، وفي القاموس: دخر الشخص كمنع وفرح دخرا ودخورا صغر وذلّ، وأدخرته بالألف للتعدية. والدال مع الخاء فاء وعينا تفيدان معنا خاصا يدل على التضاؤل والتصاغر وما تنبو عنه النفس وتغثى الطباع، فالدّخ والدّخ الدخان وهو معروف يعمي العيون ويقذيها وقالت اعرابية لزوجها وكان قد كبر وأسنّ:
لاخير في الشيخ إذا ما اجلخّا ... وسال غرب عينيه ولخّا
وكان أكلا قاعدا وشخّا ... تحت رواق البيت يغشى الدّخا
وانثنت الرجل فصارت فخّا ... وصار وصل الغانيات أخّا
ومعنى يغشى الدخ انه يكثر التردد على النساء عند التنور يقول اطعمنني، ومعنى اجلخ سقط ولم يتحرك وقيل معناه اعوج، وأخ بفتح الهمزة كلمة تقال عند التأوه كذا قال ابن دريد ثم قال وأحسبها محدثة وقال الصاغاني: يقال للصبي إذا نهي عن فعل شيء قذر إخ بكسر الهمزة بمنزلة قول العجم كخ كأنه زجر وقد تفتح همزته، ودخدخ الرجل قارب الخطو مسرعا وتدخدخ الرجل انقبض، ودخس(7/260)
الشيء في الرماد أدخله ودسه ودخس الحافر أصابه داء الدخس وهو ورم في حافر الدابة والدخس بضم الدال دابة في البحر، ودخل معروف وهو يفيد التواري والتضاؤل ودخل في عقله بالبناء للمجهول أو جسده ودخل بكسر الخاء دخلا بفتحتين داخله الفساد فهو مدخول عليه والدخل بفتح الدال وسكون الخاء ما دخل عليك من مالك لتختزنه وتواريه عن العيون والداء والعيب والدخل بفتحتين ما داخل الإنسان من فساد في العقل والجسم والخديعة العيب في الحسب والدخيل من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم والجمع دخلاء وكل كلمة أعجمية ويقال داء دخيل أي داخل في أعماق البدن ويقال: إنه لخبيث الدّخلة بكسر الدال المشددة وهي باطن أمره، ودخمه دخما دفعه بإزعاج، ودخن الطعام واللحم من باب تعب أصابهما الدخان في حال الطبخ ولا شيء أخبث من طعمه آنذاك، وكم لهذه اللغة من عجائب.
الإعراب:
(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وهو كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الكذابين بصورة اجمالية وجملة نحشر مجرورة بإضافة الظرف إليها ومن كل أمة متعلقان بنحشر و «من» هنا للتبعيض وفوجا مفعول به وممن صفة لفوجا و «من» هنا للتبيين وجملة يكذب صلة من والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يوزعون خبر.
(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) حرف غاية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة(7/261)
جاءوا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومتعلق جاءوا محذوف أي الى مكان الحساب، وقال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله تعالى، أكذبتم: الهمزة للاستفهام التوبيخي التقريعي وكذبتم فعل وفاعل، وبآياتي متعلقان بكذبتم ولم الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتحيطوا فعل مضارع مجزوم بلم وبها متعلقان بتحيطوا وعلما تمييز والجملة حالية مؤكدة للإنكار والتوبيخ وإظهار بشاعة التكذيب القائم على الارتجال وعدم التمعن والتبصر والتحقيق، وأم حرف عطف وهي هنا منقطعة فهي بمعنى بل وما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر أو ماذا كلها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لتعملون وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) الواو عاطفة ووقع القول فعل وفاعل وعليهم متعلقان بوقع وبما ظلموا متعلقان بوقع أيضا أي بسبب ظلمهم وما مصدرية والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا ينطقون خبر.
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري والإنكاري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والرؤية هنا قلبية لا بصرية وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي يروا وأن واسمها وجملة جعلنا خبرها والجعل هنا إن كان بمعنى الخلق لا بمعنى التصيير فتتعدى لواحد والليل مفعول جعلنا واللام للتعليل ويسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بجعلنا على أنه علة له فهو بمثابة المفعول من أجله، ولكن لا يجوز النصب لاختلاف الفاعل، وفيه متعلقان بيسكنوا والنهار عطف على الليل ومبصرا حال أو مفعول(7/262)
به ثان وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة وجملة يؤمنون صفة لقوم.
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ويوم معطوف على ويوم نحشر منتظم في حكمه وهو الأمر بذكره وجملة ينفخ في محل جر بإضافة الظرف إليها ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي الصور متعلقان بينفخ، ففزع عطف على ينفخ وسيأتي سر التعبير بالماضي في باب البلاغة، ومن فاعل فزع وفي السموات صلة ومن في الأرض عطف على من في السموات.
(إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) إلا أداة استثناء ومن مستثنى وجملة شاء الله صلة، وكلّ: الواو للحال أو هي عاطفة وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ولأن تنوينه عوض عن المضاف اليه أي وكلهم بعد احيائهم يوم القيامة، وجملة أتوه خبر وعبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه كأنه وقع فعلا وداخرين حال.
(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الواو حرف عطف وترى الجبال فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به والرؤية بصرية وجملة تحسبها حال من الجبال والهاء مفعول تحسبها الأول وجامدة مفعول تحسبها الثاني وهي الواو حالية وهي مبتدأ وجملة تمر خبر والجملة حال من جامدة. (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) صنع مفعول مطلق مؤكد لمضمون الجملة قبله وأضيف المصدر الى فاعله والذي صفة لله وجملة أتقن صلة وكل شيء مفعول أتقن وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بخبير وجملة تفعلون صلة ما.(7/263)
البلاغة:
في هذه الآيات فنون متعددة نوجزها فيما يلي:
1- المجاز العقلي:
في قوله «والنهار مبصرا» فقد أسند الإبصار الى الزمان وهو لا يعقل ولم يأت بالكلام مقابلا لما قبله وهو «ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه» بل جعله أحدهما علة والثاني حالا لأن التقابل قد روعي من جهة المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب والمكاسب، وهذا هو النظم المطبوع غير المتكلف.
2- الاخبار بالماضي عن المستقبل:
وأخبر بالماضي عن المستقبل في قوله «ففزع من في السموات ومن في الأرض» وكان السياق يقضي بأن يأتي بالمستقبل أيضا ولكنه عدل الى الماضي للإشعار بتحقيق الفزع وانه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به.
3- الطباق:
وفي قوله «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب» طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة فجعل ما يبدو لعين الناظر كالجبل في جموده ورسوخه ولكنه سريع يمر مرورا حثيثا كما يمر السحاب وهذا شأن الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها كما قال النابغة في وصف جيش:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج(7/264)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
وهذا بيت رائع فالأرعن الجبل العالي وقد استعاره للجيش ثم شبهه بالطود وهو الجبل العظيم ليفيد المبالغة في الكثرة والحاج اسم جمع واحده حاجة والركاب المطي لا واحد له من لفظه والهملجة السير الرهو السريع فارسي معرب وفي الصحاح: «الهملاج من البراذين واحده الهماليج ومشيها الهملجة فارسي معرب» يقول:
حاربنا العدو بجيش عظيم تظنهم واقفين لحاج لكثرتهم والحال أن ركابهم تسرع السير.
وللزمخشري وصف بليغ لهذه الآيات نورده فيما يلي:
«فانظر الى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة إضماده ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغا واحدا، ولأمر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق ونحو هذا المصدر «أي صنع الله» إذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان، ألا ترى الى قوله صنع الله، ووعد الله، وفطرة الله، بعد ما وسمها بإضافتها اليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله: الذي أتقن كل شيء، ومن أحسن من الله صبغة، ولا يخلف الله الميعاد، لا تبديل لخلق الله» .
[سورة النمل (27) : الآيات 89 الى 93]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)(7/265)
الإعراب:
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق للتمهيد لختام السورة بإجمال مصير المحسن والمسيء. ومن اسم شرط جازم مبتدأ وبالحسنة جار ومجرور متعلقان بجاء أو بمحذوف حال فالباء للملابسة أي جاء ملتبسا بها والفاء رابطة وله خبر مقدم وخير مبتدأ مؤخر ومنها صفة لخير أو متعلق به على أنه اسم تفضيل. وهم مبتدأ ومن فزع متعلقان بآمنون وآمنون خبر ويوم ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بمحذوف صفة لفزع أي كائن في ذلك اليوم، وقرئ بإضافة فزع الى يومئذ.
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ومن شرطية وجاء بالسيئة فعل الشرط والفاء رابطة داخلة على «قد» محذوفة أي كبت ليصح اقتران الجواب بها، وكبت فعل ماض مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وفي النار متعلقان بكبت وجملة فكبت في محل جزم جواب الشرط وهل حرف استفهام وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بثبوت النون على طريق الالتفات والواو نائب فاعل والجملة حال أي فكبت وجوههم مقولا لهم هل تجزون، وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة تعملون خبرها.(7/266)
(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) الجملة مقول قول محذوف أي قل لهم إنما أمرت، وإنما كافة ومكفوفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن أعبد في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأمرت ورب مفعول به وهذه مضاف لرب والبلدة بدل من اسم الاشارة والمراد بها مكة حرسها الله والذي نعت لرب هذه البلدة وجملة حرّمها صلة. (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الواو للحال وله خبر مقدم وكل شيء مبتدأ مؤخر وسيأتي سر هذا الحال في باب البلاغة، وأمرت عطف على أمرت الأولى وأن أكون من المسلمين عطف أيضا على ما تقدم. (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) وأن أتلو عطف على أن أكون أي وأمرت بأن أتلو والقرآن مفعول به، فمن الفاء تفريعية ومن شرطية مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو ولنفسه متعلقان بيهتدي. (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها ولا بد من تقدير فعل طلبي بعد الفاء أي فقل له إنما أنا من المنذرين. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وقل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول، وسيريكم السين حرف استقبال ويريكم فعل مضارع والكاف مفعول به أول وآياته مفعول به ثان، والجملة من تتمة مقول القول منتظمة في سلكه، فتعرفونها الفاء عاطفة وتعرفونها فعل مضارع وفاعل ومفعول به والواو حرف عطف وما نافية حجازية وربك اسمها وبغافل(7/267)
الباء حرف جر زائد وغافل مجرور لفظا منصوب محلا لأنها خبر ما وعما متعلقان بغافل وجملة تعملون صلة.
البلاغة:
الاحتراس:
في قوله تعالى «وله كل شيء» احتراس بديع وقد تقدم ذكر هذا الفن وأنه يؤتى به دفعا لتوهم يتوجه على الكلام، فقد أضاف سبحانه اسمه الى مكة تشريفا لها وذكرا لتحريمها، ولما أضاف اسمه الى البلدة والمخصوصة بهذا التشريف أتبع ذلك اضافة كل شيء سواها الى ملكه قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف لا لأنها ملك الله تعالى خاصة.
الباقلاني يحلل سورة النمل:
هذا ونحب في ختام هذه السورة أن نشير إشارة سريعة تحليلية الى كتاب «إعجاز القرآن» لأبي بكر الباقلاني الذي سار ذكره في الناس وهو يجمع الى روحه الكلامية طابعا أديبا إذ لم يقتصر في الإعجاز على دراسته من الوجهة الكلامية بل تعرض للناحية البيانية والاسلوبية فقد نشأ الخطيب الباقلاني بارعا في الجدل، عالي القدر في علوم القرآن والسنة والكلام وتعرض لكثير من المعارضين والمخالفين وقارعهم الحجج، وجادل علماء الروم مما أثار إعجاب معاصريه به.(7/268)
فقد أرسله الملك عضد الدولة الى ملك الروم عام 371 هـ في سفارة رسمية وأدخلوه مرة وهو في عاصمة الروم على بعض القسس فقال القاضي للقسيس: كيف أنت والأهل والأولاد؟ فتعجب الرومي وقال له: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة أنك لسان الأمة ومتقدم على علماء الملة، أما علمت أن المطارنة والرهبان منزهون عن الأهل والأولاد؟
فأجابه القاضي أبو بكر: رأيناكم لا تنزهون الله سبحانه عن الأهل والأولاد فهل المطارنة عندكم أقدس وأجل وأعلى من الله سبحانه، وأراد كبير الروم أن يخزي القاضي فقال له: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيكم وما قيل فيها؟ فأجابه هما اثنتان قيل فيهما ما قيل: زوج نبينا ومريم أم المسيح فأما زوج نبينا فلم تلد وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفيها وقد برأهما الله مما رميتا به، فانقطع الرومي ولم يحر جوابا.
خلاصة نظرية الباقلاني في الإعجاز:
1- يبدأ بعرض الفكرة عرضا بسيطا فيثبت صحة ما بين أيدينا من نصّ القرآن وأنه هو حقا كتاب الله المنزّل على نبيه وأنه آية محمد ومعجزته الخالدة.
2- يثبت عجز العرب عن الإتيان بمثله على رغم تحديه لهم مرارا.
3- وينتهي من المقدمات السالفة إلى نتيجة عامة هي خلاصة نظريته في الإعجاز وهي «خروج نظم القرآن عن سائر كلام العرب ونظومهم» ثم يشرح هذه النظرية في كتاب الإعجاز فيقول: «والوجه الثالث انه بديع النظم عجيب التأليف، متناه في البلاغة على تصرف(7/269)
وجوهه، واختلاف مذاهبه، خارج عن المعهود من نظم جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم وله أسلوب خاص به ويتميز في فصوله عن أساليب الكلام المعتاد» .
وقبل أن يلج الى نظم القرآن وتحليل سوره يتناول قصيدة لامرىء القيس وأخرى للبحتري ليرسم طريقته في النقد وتطبيق منهجه وينتقل في كلتا القصيدتين من المطلع الى النهاية منبها الى وجوه الجمال ومواطن الضعف، وفي تحليله لقصيدة امرئ القيس أو معلقته- على الأصح- يوازن بين ما جاء من فنون التعبير والتصرف في القول ونظم الكلام فيها وما جاء شبيها أو مقاربا لها في القرآن منبها إلى تفوق القرآن دائما، وكثيرا ما تدخل النقد الشخصي في رأي الباقلاني في تحليل معلقة امرئ القيس وإن خالف ذلك الرأي آراء جميع النقاد، انظر اليه كيف يخطىء الشاعر في قوله:
إذا قامتا تضوع المسك منهما ...
يقول: «فوجه التكلف فيه بقوله: إذا قامتا تضوع المسك منهما، ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير» وهذا تحامل ظاهر من أبي بكر على الشاعر وعلى المعنى الذي تناوله إذ لا شك أن في هذا التعبير لمسة فنية دقيقة ترتكز على كلمة «قامتا» لأنها مبعث الحركة والحياة في الصورة كلها تريك الفتاتين غاديتين أو رائحتين وغلائلهما تبعث الأرج فيسري في الأعطاف ويعبق الجو بشذاه لما تبعثه الحركة في الهواء فيحمل العطر الى الأنوف لتستافه ولا يتسنى ذلك في القعود والسكون، ومع هذا لا ننكر بعض ما نبه اليه الباقلاني من هنات في العقيدة بل ونأخذ برأيه(7/270)
ونقدر له عمقه وحسن استنباطه، اسمع الى هذا النقد العجيب الذي يخرس الألسن فقد تناول مطلع المعلقة في البيتين الأولين وهما:
فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من خبوب وشمائل
فقال: «لم يقنع بذكر حد حتى حدده بأربعة حدود كأنه يريد بيع المنزل فيخشى ان أخلّ بحد أن يكون بيعه فاسدا أو شرطه باطلا» .
وفي تحليله لقصيدة البحتري بعض الطرائف الفنية في النقد نلخصها فيما يلي:
1- الرؤيا الشعرية: فقد أشار الى اختلالها عند البحتري في في تشبيبه الخيال بالبرق وذلك في قول البحتري:
أهلا بذلكم الخيال المقبل ... فعل الذي نهواه أم لم يفعل
برق سرى من بطن وجرة فاهتدت ... بسناه أعناق الركاب الضلل
فقال: «إنه جعل الخيال كالبرق لإشراق مسراه» والخيال(7/271)
لا يشبه عنده بالبرق لأن البرق سريع خاطف والخيال يسري مسرى النسيم.
2- الحشو: وهو زيادة اللفظ على المعنى المطلوب وهو عيب في النظم.
3- الابتذال في الصورة البيانية كالتشبيه أو الاستعارة أو الكناية.
4- الرونق اللفظي: إذ يرى في بعض أبيات البحتري رونقا وطلاوة ويرى في بعضها الآخر قلة ماء ورونق.
5- الاختلال في المعنى: ومن هذا قوله في نقد بعض الأبيات «وانما جرى ذكر العذال على وجه لا يتصل هذا البيت به ويلائمه ثم الذي ذكره من الانتظار وإن كان مليحا في اللفظ فهو في المعنى متكلف لأن الواقف في الدار لا ينتظر أمرا وانما يقف تحسرا وتذللا وتخيرا» وهذه الأبيات التي تناولها النقد:
ما الحسن عندك يا سعاد بمحسن ... فيما أتاه ولا الجمال بمجمل
عذل المشوق وإن من سيما الهوى ... في حيث تجهله لجاج العاذل
ماذا عليك من انتظار متيم ... بل ما يضرك وفقة في منزل(7/272)
إن سيل عيّ عن الجواب فلم يطق ... رجعا فكيف يكون إن لم يسأل
6- التضمين: وهو عيب معروف عند النقاد العرب.
7- مخالفة بناء القصيدة العربية القديمة.
8- التعقيد وعدم السلاسة في رصف الألفاظ وسبكها وهو عيب في الصياغة والنظم.
9- الاستهلال وصلته بالفصل والوصل.
10- الاشتراك في المعاني بينه وبين غيره من الشعراء مع تفاوت في الحسن.
11- بناء العبارة وتأليفها واختلافها بين النظم السوي والمضطرب.
تحليل سورة النمل:
يتناول الباقلاني السورة جملة: يفسر غريبها ويبين ما فيها من جمال اللفظ والمعنى ويأخذ في تحليلها من أولها فيقول: «بدأ بذكر السورة إلى أن بين أن القرآن من عنده» ثم وصل بذلك قصة موسى وانه رأى نارا فقال لأهله «امكثوا إني آنست نارا سآتيكم منها بشهاب قبس لعلكم تصطلون» وقال في سورة طه في هذه القصة:
«لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى» ثم قال: فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين» فانظر الى ما أجرى له الكلام الأول وكيف اتصل بتلك(7/273)
المقدمة وكيف وصل بها ما بعدها من الأخبار عن الربوبية وما دلّ عليها من قلب الفصاحة وجعله دليلا يدله عليه ومعجزة تهديه إليه وانظر الكلمات المفردة القائمة بنفسها في الحسن وفيما تتضمنه من المعاني الشريفة ثم ما شفع به هذه الآية وقرن به هذه الدلالة من اليد البيضاء عن نور البرهان من غير سوء ثم انظر في آية آية وكلمة كلمة هل تجدها كما وصفنا من عجيب النظم وبديع الوصف، فكل كلمة لو أفردت كانت في الجمال غاية وفي الدلالة آية فكيف إذا قارنتها أخواتها وضامتها ذواتها تجري في الحسن مجراها وتأخذ في معناها ثم من قصة الى قصة ومن باب الى باب من غير خلل يقع في نظم الفصل الى الفصل وحتى يصور لك الفصل وصلا ببديع التأليف وبليغ التنزيل» .
ويبين الباقلاني فضل نظم القرآن على الكلام العادي فيدعو واحدا الى التقليد فلا يصل الى شيء ويقر بالعجز أمام لفظ القرآن ونظمه ويستطرد في تحليل السورة فيقول «متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان عليه السلام بعد ذكر العنوان والتسمية هذه الكلمة العالية الشريفة «ألّا تعلوا علي وأتوني مسلمين» والخلوص من ذلك إلى ما صارت اليه من التدبير واشتغلت به من المشورة ومن تعظيمها أمر المستشار ومن تعظيمهم أمرها وطاعتها بتلك الألفاظ البديعة والكلمات العجيبة ثم كلامها بعد ذلك لتعلم تمكن قولها:
«يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون» وذكر قولهم: «قالوا نحن أولو قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين» لا تجد في صفتهم أنفسهم أبدع مما وصفهم به وقوله «الأمر إليك» تعلم براعته بنفسه وعجيب معناه وموضع إتقانه في هذا الكلام، وتمكن الفاصلة وملاءمتها لما قبلها وذلك قوله:(7/274)
«فانظري ماذا تأمرين» ثم الى هذا الاختصار والى البيان مع الإعجاز فإن الكلام قد يفسده الاختصار ويعميه التخفيف منه والإيجاز وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه موقعه» الى أن يقول: «وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر ولكني قد بينت بما فسرت وقررت بما فصلت الوجه الذي سلكت والنحو الذي قصدت والغرض الذي إليه رميت والسمت الذي إليه دعوت» .
ونحسبك بعد هذا قد ألممت بكتاب الاعجاز فقد أوردنا لك خير ما فيه.(7/275)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
(28) سورة القصص مكيّة وآياتها ثمان وثمانون
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)
اللغة:
(شِيَعاً) في القاموس والتاج وغيرهما من كتب اللغة: «شيعة الرجل أتباعه وأنصاره والجمع شيع وأشياع، والشيعة: الفرقة وتقع على الواحد والاثنين والجمع مذكرا ومؤنثا وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته حتى صار لهم اسما خاصا(7/276)
الواحد شيعي» وقال الزمخشري: «شيعا: فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه، قال الأعشى:
وبلدة يرهب الجواب دلجتها ... حتى تراه عليها يبتغي الشيعا
أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يتسخر صنفا في بناء وصنفا في حرث وصنفا في حفر، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية أو فرقا مختلفة، قد أغرى بينهم العداوة» ومعنى البيت الذي أورده الزمخشري للأعشى: ربّ مفازة يخاف الجواب أي كثير السفر من جبت الأرض إذا قطعتها بالسير والدلجة من دلج وأدلج وادّلج إذا سار ليلا والدلجة ساعة من الليل أي يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها وبعد البيت قوله:
كلفت مجهولها نفسي وشايعني ... همّي عليها إذا ما آلها لمعا
بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أولى لها من أن يقال لعا
يقول: كلفت نفسي سير المجهول منها وعاودني عزمي على سيرها وقت لمعان آلها وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر كأنه ماء مع أن سير الهاجرة أشد من سير الليل ثم قال مع ناقة صاحبة قوة ويطلق اللوث على الضعف أيضا فهو من الأضداد، وعفرناة: غليظة(7/277)
ويقال للعاثر: لعا لك دعاء له بالانتعاش وتعسا له دعاء عليه بالسقوط يريد أنها لا تعثر ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.
(وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) : يبقيهن أحياء لقول بعض الكهنة له إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب زوال ملكك.
(هامانَ) : وزير فرعون المذكور هنا وهامان عدو اليهود وزير احشويروش الفارسي ذكر في سفر استير من كتب العهد القديم.
الإعراب:
(طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) تقدم القول فيها وتلك مبتدأ وآيات الكتاب المبين خبرها. (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) نتلو فعل مضارع مرفوع وفاعل مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنتلو ومن نبأ صفة لمفعول به محذوف أي شيئا من قصة موسى وفرعون وفيه حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه وبالحق حال من فاعل نتلو أي حال كوننا ملتبسين بالحق والصدق أو من المفعول أي حال كونه ملتبسا بالحق والصدق ولقوم متعلقان بنتلو فهو بمثابة التعليل له أي لأجل قوم وجملة يؤمنون صفة لقوم. (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) كلام مستأنف مسوق لبيان قصة فرعون أو جملة تفسيرية لنبأ موسى وكلتاهما لا محل لهما من الاعراب وإن واسمها وجملة علا خبرها وفاعل علا ضمير مستتر جوازا تقديره هو أي فرعون وفي الأرض متعلقان بعلا وجعل أهلها فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وشيعا مفعول به ثان. (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) جملة يستضعف(7/278)
حالية من فاعل جعل أو صفة لشيعا ولك أن تجعله كلاما مستأنفا وفاعل يستضعف هو وطائفة مفعول به ومنهم صفة لطائفة ويذبح بدل اشتمال من يستضعف لأن الاستضعاف مشتمل على الذبح والاستحياء معا وأبناءهم مفعول يذبح ويستحيي نساءهم عطف على يذبح أبناءهم وجملة إنه تعليل لهذه الأعمال وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ومن المفسدين خبر كان. وإنما كان فرعون يذبح أبناءهم ويترك النساء لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. قال الزجاج: «والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل وان كان كاذبا فلا معنى للقتل» .
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة أو حالية فإن جعلتها عاطفة عطفت الكلام على قوله إن فرعون علا في الأرض لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وإن جعلتها حالية فالجملة حال من يستضعف أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم. وأن وما في حيزها مفعول نريد وعلى الذين متعلقان بنمن وجملة استضعفوا صلة وفي الأرض متعلقان باستضعفوا أو بمحذوف حال أي حالة كونهم على الأرض ولعله أولى. (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) ونجعلهم عطف على نمنّ والهاء مفعول به أول وأئمة مفعول به ثان ونجعلهم الوارثين عطف على نجعلهم أئمة. (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ونمكن عطف على نجعل وفاعله مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنمكن وفي الأرض حال ونري عطف أيضا وفرعون مفعول به وهامان عطف على فرعون(7/279)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
وجنودهما عطف على فرعون وهامان ومنهم متعلقان بنري أي ونري فرعون وهامان وجنودهما من بني إسرائيل ما كانوا يحذرون أي يخافونه منهم وقد وقع على يد مولود منهم، وما مفعول به ثان لنري وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يحذرون خبر كانوا.
[سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 13]
وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11)
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)(7/280)
اللغة:
(وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) : الخوف هو غم يلحق الإنسان لأمر مكروه متوقع والحزن غم يلحقه لأمر مكروه واقع وسيأتي تقرير ذلك في باب البلاغة وما ورد من الاعتراض على هذا العطف.
(قُصِّيهِ) : اتبعي أثره وتتبعي خبره وبابه نصر. وسيأتي المزيد من شرح هذه المادة.
(جُنُبٍ) بضمتين: مكان بعيد، يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة بمعنى عن بعد.
الإعراب:
(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) الواو عاطفة وجملة أوحينا عطف على قوله ان فرعون علا في الأرض وكلتا الجملتين داخلة في حكم تفسير النبأ وأوحينا فعل وفاعل والى أم موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه ويجوز أن تكون مصدرية على بابها وهي مع مدخولها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأوحينا وأرضعيه فعل أمر وفاعل ومفعول به. (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) الفاء عاطفة وخفت فعل وفاعل وعليه متعلقان بخفت، فألقيه الفاء رابطة وألقيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء مفعول به وفي اليم جار ومجرور متعلقان بألقيه وأراد باليم النيل. (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخافي فعل(7/281)
مضارع مجزوم بلا ولا تحزني عطف على لا تخافي وجملة إنا رادوه تعليل للأمر والنهي وان واسمها ورادوه خبرها وإليك متعلقان برادوه وجاعلوه عطف على رادوه وقد أضيف اسم الفاعل الى مفعوله الأول ومن المرسلين في محل نصب مفعوله الثاني. (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز تقديره فأرضعته وألقته في نهر النيل في تابوت أعدته له وجرى به النيل الى قبالة قصر فرعون المطل عليه فالتقطه آل فرعون، ويعبرون عنها بالفصيحة أيضا. وهو فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وليكون اللام قيل للتعليل وقيل للعاقبة وسيأتي تفصيل ذلك وبحث هذه اللام في باب الفوائد، ويكون على كل حال فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد اللام واسم يكون مستتر تقديره هو وعدوا خبر يكون وحزنا عطف على عدوا.
(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) كلام لا محل له من الإعراب لأنه تعليل لما سبق من أمور وقيل هو كلام معترض بين معطوف عليه وهو فالتقطه آل فرعون ومعطوف وهو وقالت امرأة فرعون. وان واسمها وهامان وجنودهما عطف على فرعون وجملة كانوا خبر إن وكان واسمها وخاطئين خبرها. (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) الواو عاطفة وقالت عطف على فالتقطه آل فرعون وامرأة فرعون فاعل قالت وهي آسية بنت مزاحم وسيأتي ذكرها في قصة موسى وفرعون، وقرة عين خبر لمبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولي ولك صفتان للقرة وقد خبط بعض المعربين خبطا عجيبا في إعراب هذه الآية سنلمع إليه في باب الفوائد. (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) لا ناهية وتقتلوه فعل مضارع(7/282)
مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء وهي تعمل عمل كان، واسمها مستتر تقديره هو وأن ينفعنا مصدر مؤول في محل نصب خبر عسى أو نتخذه عطف على ينفعنا والهاء مفعول به أول وولدا مفعول به ثان، وهم: الواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة حال من آل فرعون وهي من كلام الله تعالى ويبعد أن تكون من كلام آسية. (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) الواو استئنافية وأصبح فعل ماض ناقص وفؤاد أم موسى اسمها وفارغا خبرها وسيأتي تفسير هذا الكلام في باب البلاغة. (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إن مخففة من الثقيلة وكادت فعل ماض من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره هي واللام الفارقة وجملة تبدي خبر كادت وبه متعلقان بتبدي وإذا أعملت «إن» كان اسمها ضمير شأن محذوف وجملة كادت خبرها والأولى إهمالها، ومعنى لتبدي به أي تظهر القول به والضمير لموسى وقيل الباء زائدة والهاء في محل نصب مفعول به والأول أضبط ولولا حرف امتناع لوجود وأن مصدرية وهي مع مدخولها مصدر في محل رفع مبتدأ محذوف الخبر أي لولا ربطنا على قلبها حاصل، وعلى قلبها متعلقان بربطنا وجواب لولا محذوف أي لأبدت به ولتكون اللام للتعليل وتكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بربطنا أيضا ومن المؤمنين خبر تكون.
(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة وقالت فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هي أي أم موسى ولأخته متعلقان بقالت وقصيه فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل والهاء مفعول به، فبصرت الفاء عاطفة على محذوف أي فذهبت ترتاده(7/283)
وتقص آثاره، وبه متعلقان ببصرت وعن جنب في موضع الحال من فاعل بصرت أي بصرت به مستخفية كائنة عن جنب أو من المجرور وهو به أي بعيدا والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر.
(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في بيان سبب رده الى أمه، وحرمنا فعل وفاعل وعليه متعلقان بحرمنا والمراضع مفعول به ومن قبل حال- والمراضع جمع مرضع وهي التي تمارس الإرضاع ولم تباشره أو جمع مرضع بفتح الميم والضاد اسم مكان الرضاع يعني الثدي- فقالت الفاء الفصيحة أي لما رأت أخته ذلك قالت وهل حرف استفهام وأدلكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى أهل بيت متعلقان بأدلكم وجملة يكفلونه صفة لأهل بيت ولكم متعلقان بيكفلونه والواو حالية وهم مبتدأ وله متعلقان بناصحون وناصحون خبر.
(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) الفاء عاطفة ورددناه فعل وفاعل ومفعول به والى أمه متعلقان برددناه وكي حرف تعليل ونصب وتقر فعل مضارع منصوب بكي ولا تحزن عطف على تقر، ودمع الفرح بارد وعين المهموم حرى سخينة. (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة واللام للتعليل وتعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تعلم وان واسمها وحق خبرها والواو حالية ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها.(7/284)
البلاغة:
1- معنى الخوف والحزن:
لقائل أن يقول: ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الآخر في قوله «ولا تخافي ولا تحزني» ؟ ثم أليس من التناقض أن يثبت الخوف في قوله «فإذا خفت عليه» ثم ينفيه بقوله «ولا تخافي» والجواب على التناقض المزعوم أن الخوف الأول المثبت هو غرقه في النيل والثاني هو خوف الذبح فاندفع ما يتوهم من تناقض، وأما الاعتراض الاول فهو مندفع بأن هذا من باب الاطناب بل هو قسم نادر من أجمل أقسامه، وهو أن يذكر الشيء فيؤتى فيه بمعان متداخلة إلا أن كل معنى مختص بخصيصة ليست للآخر، فقد قلنا في باب اللغة أن الخوف هو غم يصيب الإنسان الأمر يتوقع نزوله في المستقبل أما الحزن فهو غم يصيبه لأمر وقع فعلا ومضى فنهيت عنهما جميعا ومنه قول أبي تمام وقد كان بارعا فيه:
قطعت إليّ الزابيين هباته ... والتاث مأمول السحاب المسبل
من منة مشهورة وصنيعة ... بكر وإحسان أغر محجل
فقوله منة مشهورة، وصنيعة بكر، وإحسان أغر محجل تداخلت معانيه، إذ المنة والصنيعة والإحسان متقارب بعضه من بعض وليس ذلك بتكرير كما يتوهم لأنه لو اقتصر على قوله منة وصنيعة وإحسان لجاز أن يكون تكريرا ولكنه وصف كل واحدة من هذه الثلاث بصفة أخرجتها عن حكم التكرير فقال «منه مشهورة» فوصفها بالاشتهار لعظم شأنها و «صنيعة بكر» فوصفها بالبكارة أي أنها لم يؤت بمثلها من قبل و «احسان أغر محجل» فوصفه بالغرة والتحجيل(7/285)
أي هو ذو محاسن متعددة فلما وصف هذه المعاني المتداخلة التي تدل على شيء واحد بأوصاف متباينة صار ذلك إطنابا ولم يكن تكريرا.
وقد اشتملت هذه الآية «وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين» على أمرين وهما «أرضعيه، فألقيه» ونهيين وهما «لا تخافي، ولا تحزني» وخبرين وهما: «إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين» وبشارتين في ضمن الخبرين وهما رده إليها وجعله من المرسلين.
2- الكناية:
وذلك في قوله «وأصبح فؤاد أم موسى فارغا» فإن ذلك كناية عن فقدان العقل وطيش اللب والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طاش صوابها وطار عقلها لما انتابها من فرط الجزع والدهش ومثله قوله تعالى «وأفئدتهم هواء» أي جوف لا عقول فيها ومنه بيت حسان:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوّف نخب هواء
وهذا البيت من قصيدة مطولة لحسان بن ثابت يهجو بها أبا سفيان قبل إسلامه وبعده:
بأن سيوفنا تركت عبيدا ... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّ كما لخير كما الفداء(7/286)
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره
سواء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
وألا أداة للتنبيه والاستفتاح والمأمور بالإبلاغ غير معين، ثم التفت ليثير غيظ أبي سفيان، وكان مقتضى السياق أن يقول «فإنه» أي أبا سفيان لكن مخاطبته ومشافهته بالذم أمض للنفس وأقذع في الهجاء، والمجوف والنخب والهواء خالي الجوف أو فارغ القلب من العقل والشجاعة واسناد الترك للسيوف مجاز عقلي لأنها آلة للفعل وعبيد بالتصغير قبيلة وكذلك عبد الدار سادتها مبتدأ والإماء خبره والجملة في محل المفعول الثاني لتركت أي صيرت عبيدا لا سادة لها إلا النساء وصيرت عبد الدار كذلك وأتهجوه الاستفهام إنكاري توبيخي والواو بعده للحال أي لا ينبغي لك ذلك وشر وخير اسما تفضيل واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان وجملة فشر كما لخير كما الفداء دعائية دعا عليه أن يكون فداء لرسول الله وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الانصاف في الكلام ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا هذا أنصف بيت قالته العرب وأمن يهجو استفهام انكاري أي ليس من يهجوه منكم ومن يمدحه وينصره منا مستويين ويحتمل أن الهمزة للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قوم أبي سفيان إن الذي يهجو رسول الله منكم والذي يمدحه وينصره منكم مستويان في عدم الاكتراث بهما والوقاء ما يتوقى به المكروه وزان الحزام والرباط فهو إما بمعنى اسم مفعول أو اسم آلة.(7/287)
الفوائد:
1- قصة موسى وفرعون:
نلخص هنا قصة موسى وفرعون كما رويت لطرافتها وكما جرينا عليه في هذا الكتاب، فموسى معناه ماء وشجر لأن مو بالقبطية هو الماء وشا هو الشجر فعربت وسمي موسى لأنهم وجدوه بينهما، وهو موسى بن عمران يمت بالنسبة الى يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ولم يزل بنو إسرائيل من عهد يوسف تحت أيدي الفراعنة حتى كان فرعون الذي بعث موسى اليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه ولا أطول عمرا وكان شديد الغلظة واسمه الوليد بن مصعب وكان قد اتخذ بني إسرائيل خولا فصنف منهم يبنون، وصنف يحرثون ومن لا عمل له وظف عليه الجزية، فرأى في منامه أن نارا أقبلت من المقدس فأحرقت القبط فسأل عن رؤياه فقيل له: يخرج من هذا البلد أي الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يديه هلاك مصر فأمر بقتل كل مولود حتى كاد يفنيهم فقيل له إنما هم خولك وإنك إن تفنهم ينقطع النسل فأمر بقتل الغلمان عاما واستحيائهم عاما فولد هرون في السنة التي يستحيون فيها وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها فلما وضعته حزنت فأوحى الله إليها أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم فعملت تابوتا جعلته فيه وألقته في اليم وهو النيل وقالت لأخته قصيه فحمله الماء حتى أدخله بين أشجار متكاثفة تحت قصر فرعون فخرجت جواري فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه الى آسية امرأة فرعون فلما رأته أحبته وأخبرت به فرعون فأراد ذبحه وخشي أن يكون المولود الذي حذر منه فلم تزل به آسية حتى تركه لها وذلك قوله «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا» وستأتي تتمة القصة.(7/288)
2- لام العاقبة أو الصيرورة:
واللام في «ليكون» للعاقبة وقد أبرز مدخولها في معرض العلة لا لتقاطهم تشبيها له في الترتب عليه بالغرض الحامل له وتسمى لام الصيرورة ولام المآل، وقد أنكر البصريون لام العاقبة قال الزمخشري: «والتحقيق أنها لام العلة وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة لأنه لم يكن داعيهم الى الالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا ولكن المحبة والتبني، غير أن ذلك لما كانت نتيجة التقاطهم له وثمرته شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك ضربته ليتأدب وتحريره أن هذه اللام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التعليل كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد» .
3- أعاريب في «قرة أعين» :
تفادينا في هذا الكتاب إيراد الأعاريب المرجوحة بله المتهافتة لأننا آثرنا اختيار أفضل الوجوه وأمثلها، غير أننا لا نرى إغفال بعض الأعاريب المتهافتة التي تبناها بعض المعربين فقد قلنا إن قرة أعين خبر مبتدأ مضمر ولي ولك صفتان، وقد أجاز بعضهم وجها لا يجوز إيراده البتة وهو أن تكون قرة أعين مبتدأ والخبر جملة لا تقتلوه لأن فيه الإخبار بالانشاء عن الخبر وهذا هين بالنسبة لمخالفة الضمير لأنه يجب أن يقول لا تقتلوها واحتجوا بأنه لما كان المراد مذكرا ساغ ذلك، وما أغناها عن ذلك التمحّل الذي لا يليق بالقرآن، ونقل ابن الانباري بسنده الى ابن عباس انه وقف على «لا» أي هو قرة عين لي فقط(7/289)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
ولك لا، أي ليس هو قرة عين، ثم يبتدىء بقوله تقتلوه وهذا مضحك لا يمكن أن ينسب الى ابن عباس ولا إلى ابن الأنباري نفسه وكيف يبقى تقتلوه من غير نون رفع ولا مقتضى لحذفها ولذلك قال الفراء:
هو لحن.
[سورة القصص (28) : الآيات 14 الى 17]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17)
الإعراب:
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتتمة قصة يوسف بعد بلوغه الأشد، ولما حينية أو رابطة وقد تقدم ذلك وبلغ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره وهو وأشده مفعول به، وقد مضى تفسير الأشد والأقوال فيه أكثر من مرة، واستوى عطف على بلغ،(7/290)
والمراد انه انتهى شبابه وتكامل عقله، وجملة آتيناه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وآتيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وحكما مفعول به ثان وعلما عطف على حكما وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) ودخل المدينة عطف على محذوف أي وغاب عن فرعون مدة طويلة لأنه أقام في مصر ثلاثين سنة ثم ذهب الى مدين وأقام فيها عشر سنين، ودخل المدينة فعل وفاعل ومفعول على السعة، قيل المراد بالمدينة منف بضم فسكون وهي ممنوعة من الصرف للعلمية والعجمة وقيل غير ذلك، وعلى حين غفلة حال من المدينة أو من فاعل دخل أي مختلسا ومن أهلها صفة لغفلة قيل كان الوقت بين العشاءين وقيل وقت القائلة وقيل يوم عيد ومعنى «على» هنا الظرفية أي على حين. (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) فوجد عطف على دخل وفيها متعلقان بوجد ورجلين مفعول به وجملة يقتتلان صفة لرجلين وهذا مبتدأ ومن شيعته خبر والجملة صفة ثانية لرجلين وقيل حال، والحال من النكرة أجازه سيبويه من غير شرط، وهذا من عدوه عطف عليها. والعرب تشير بهذا الى الغائب لأنها حكاية حال ماضية، فعبر عن غائب ماض باسم الاشارة.
(فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) الفاء عاطفة واستغاثه فعل ماض ومفعول به والذي فاعل ومن شيعته متعلقان بمحذوف صلة واستغاث يتعدى بنفسه تارة كما هنا وتارة بالباء.
(فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) فوكزه عطف أيضا أي دفعه بجمع كفه، وقال الكسائي لكمه، وموسى فاعل فقضى عليه عطف على فوكزه، قال فعل ماض والجملة(7/291)
مستأنفة وهذا مبتدأ ومن عمل الشيطان خبر والجملة مقول القول، وجملة إنه عدو تعليل، ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ ولكونه غير مقصود وإنما عدّه من عمل الشيطان وسماه ظلما واستغفر منه هضما لنفسه واستعظام الهنات اليسيرة التي تبدر منهم، وان واسمها وعدو خبرها ومضل صفة ومبين صفة ثانية. (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإن واسمها وجملة ظلمت نفسي خبر إن فاغفر لي الفاء عاطفة واغفر فعل دعاء ولي متعلقان باغفر فغفر له عطف وان واسمها وهو ضمير فصل والغفور خبر والرحيم خبر ثان، ويجوز أن تعرب هو مبتدأ والغفور الرحيم خبران لهو والجملة خبر ان.
(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) بما الباء حرف قسم وجر وجواب القسم محذوف تقديره أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة لأتوبن، وما مصدرية والمصدر في محل جر بباء القسم والفاء عاطفة على الجواب المحذوف ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأكون فعل مضارع ناقص واسمها مستتر تقديره أنا وظهيرا خبرها وللمجرمين متعلقان بظهيرا ويجوز أن يكون الكلام استعطافا كأنه قال رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من الكفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين فتتعلق الباء ومدخولها باعصمني المقدر ولا تحتاج الى جواب وتكون الفاء في فلن أكون هي الفصيحة لأنها جواب شرط مقدر كما ذكرنا، هذا وهناك أقوال أخرى كلها سديدة موعدنا بها باب الفوائد.
الفوائد:
1- تتمة قصة موسى:
واتخذه فرعون ولدا وارتادوا له المرضعات فلم يقبل ثدي(7/292)
واحدة منهن ولما غاب أمره عن أمه كاد قلبها يطير وجدا عليه فبعثت أخته كأنها تلتمس رضاعه فلما رأت أسفهم عليه حيث لم يقبل على مرضعة قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم فأجابوا ملتمسها فذهبت فجاءت بأمه وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها فأعطته ثديها فأخذ يرضعه فربته في قصر فرعون ثم عرضته آسية على فرعون فلما أخذه مد موسى يده إلى لحيته فنتفها فقال فرعون عليّ بالذباحين فإنما هو هذا فقالت آسية هو قرة عين لي ولك لا تقتلوه فإنه صبي لا يعقل ودعت له بجمر وياقوت فطرح جبريل يده في النار فوضعها موسى في فمه فأحرقته فتركه فرعون فكبر في حجره فلما ترعوع تبناه فكان يركب مراكبه ويلبس ملابسه ويدعى ابن فرعون، ثم ان موسى أخبر أن فرعون قد ركب فركب أثره فأدركه ببلدة منف فدخلها وقد أخليت لفرعون وليس في طرقها أحد فرأى إسرائيليا مع قبطي يقتتلان فاستغاثه الاسرائيلي فوكز القبطي فقضى عليه فكان من قصتهما ما قص الله تعالى في سورة القصص حتى خرج خائفا يترقب الى مدين وستأتي البقية قريبا.
2- اختلاف المعربين في «بما أنعمت عليّ» :
أوردنا الوجهين الراجحين في إعراب هذه الآية وهي «قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين» وقد اختارهما الزمخشري أيضا قال: «وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون وأما مظاهرة من أدت مظاهرته الى الجرم والإثم كمظاهرة الاسرائيلي المؤدية الى القتل الذي لم يحل له»(7/293)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
وكذلك اختارهما أبو البقاء في كتابه «إعراب القرآن» وقيل ليس هذا خبرا بل هو دعاء أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين.
[سورة القصص (28) : الآيات 18 الى 21]
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
الإعراب:
(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) الفاء عاطفة وأصبح فعل ماض ناقص أو تام وعلى الاول اسمها مستتر تقديره هو وفي المدينة حال وخائفا خبر أصبح أو في المدينة خبر أصبح وخائفا حال، وعلى الثاني يكون فاعل أصبح مستترا تقديره هو وفي المدينة متعلقان به وخائفا حال وجملة يترقب على الوجهين حال ثانية أو خبر ثان أو حال من الضمير في خائفا فتكون حالا متداخلة ومفعول يترقب محذوف أي(7/294)
يترقب المكروه ويبعد أن يترقب الفرج لأن السياق يستبعده.
(فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) الفاء عاطفة وإذا فجائية وقد تقدم القول في ظرفيتها أو حرفيتها والذي مبتدأ وجملة استنصره صلة وبالأمس متعلقان باستنصره وجملة يستصرخه خبر الذي ومتعلق يستصرخه محذوف أي على قبطي آخر. (قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قال فعل ماض وله متعلقان به وموسى فاعل وانك إن واسمها واللام المزحلقة وغوي مبين خبران لإن. (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأن زائدة وتطرد زيادتها بعد لما وقبل لو مسبوقة بقسم كقول الشاعر:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لكم يوم من الشر مظلم
وإنما زاد «أن» للاشعار بأن موسى لم تكن مسارعته الى قتل الثاني كما كانت مسارعته الى قتل الأول بل كان عنده إبطاء في بسط يده إليه فعبر القرآن عن ذلك الإبطاء بزيادة أن وقد تقدم في سورة يوسف ما يماثل هذا في قوله تعالى «فلما أن جاءه البشير ألقاه على وجهه» فجدد به عهدا.
وأراد فعل ماض وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أراد وبالذي متعلقان بيبطش وهو مبتدأ وعدو خبر ولهما صفة والجملة صلة الذي. (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الاسرائيلي المستغيث قال ذلك وقد ظن أن موسى يريد أن يبطش به، وقيل يعود على القبطي وليس ببعيد ورجحه زاده في حاشيته على البيضاوي، وكأنه توهم من زجر موسى الاسرائيلي انه هو الذي قتل الرجل بالأمس، أتريد(7/295)
الهمزة للاستفهام الانكاري وتريد فعل مضارع مرفوع وان وما في حيزها مفعول تريد وكما قتلت نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت له نظائر ونفسا مفعول به وبالأمس متعلقان بقتلت. (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) إن نافية وتريد فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا أداة حصر وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول تريد وجبارا خبر تكون وفي الأرض صفة لجبارا وما تريد أن تكون من المصلحين عطف على الجملة المماثلة السابقة. (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) الواو عاطفة على محذوف يقدر من سياق الكلام أي فذهب القبطي الذي سمع ما قاله الإسرائيلي وقد علم أن موسى هو قاتل القبطي الأول إلى فرعون وأخبره بجلية الأمر فغضب فرعون وأمر بقتل موسى وإلقاء القبض عليه. وجاء رجل فعل وفاعل وهو مؤمن من آل فرعون وردت الإشارة إليه في مكان آخر من القرآن قيل هو ابن عم فرعون ومن أقصى المدينة صفة لرجل وجملة يسعى صفة ثانية أو حال لأن قوله «رجل» تخصص بالوصف كما هي القاعدة المشهورة، ويجوز تعليق من أقصى المدينة بجاء فتكون جملة يسعى صفة فقط.
(قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) إن الملأ إن واسمها وجملة يأتمرون خبر وبك متعلقان بيأتمرون أي يتشاورون والائتمار التشاور يقال: الرجلان يتآمران ويأتمران بمعنى واحد لأن كل واحد فيهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر وقيل معناه يأمر بعضهم بعضا بقتلك ولعل هذا أوضح وقد أورد صاحب التاج المعنيين قال: «ائتمروا وتآمروا: تشاوروا وائتمروا بفلان هموا به وأمر بعضهم بعضا بقتله» وبك متعلقان بيأتمرون وليقتلوك اللام تعليلية والمضارع منصوب بأن مضمرة بعدها،(7/296)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
فاخرج الفاء الفصيحة أي إن سمعت نصيحتي فاخرج وإني تعليل لأمره بالخروج وإن واسمها ولك متعلقان بمحذوف حال وعليه اقتصر الزمخشري ومنع تعليقه بالناصحين وأجاز غيره. أن يتعلق بالناصحين للاتساع في الظروف أو بما يدل عليه لفظ الناصحين أي ناصح لك من جملة الناصحين. (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فعمل موسى بنصيحته فخرج ومنها متعلقان بخرج وخائفا حال وجملة يترقب حال ثانية ومفعول يترقب محذوف أي الشر أو لحوقهم به وقيل يترقب غوث الله والأول أنسب بالسياق ورب منادى ونجني فعل دعاء والياء مفعول به ومن القوم متعلقان بنجني والظالمين صفة.
[سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 25]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)(7/297)
اللغة:
(تِلْقاءَ) : تقدم ذكر المصادر التي وردت على هذا الوزن والمعنى هنا الجهة.
(مَدْيَنَ) : بلدة في مصر تقع على بحر القلزم محاذية لتبوك فيها البئر التي استقى منها موسى ومدين اسم قبيلة ذكرها ياقوت، قال الجلال: «وهي قرية شعيب مسيرة ثمانية أيام من مصر سميت بمدين ابن ابراهيم ولم يكن يعرف طريقها» .
(سَواءَ السَّبِيلِ) : وسطه ومعظم نهجه من إضافة الصفة للموصوف أي الطريق الوسط.
(تَذُودانِ) : تدفعان أغنامهما عن الماء. ومنه قول الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما ... أذود بها سربا من الوحش نزّعا
(ما خَطْبُكُما) : ما شأنكما قال الزمخشري: «وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطبا كما سمي المشئون شأنا في قولك ما شأنك؟ يقال شأنت شأنه أي قصدت قصده» وفي القاموس وشرحه «الخطب مصدر والشأن يقال: ما خطبك؟ أي ما شأنك وما الذي حملك عليه والخطب: الأمر صغر أو عظم وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه» ولهذه المادة معان كثيرة يرجع إليها في المعاجم المطولة ولكثرتها نظم بعضهم هذه المعاني بقوله:(7/298)
ومرّة الوعظ تسمى خطبة ... ثم التماس للنكاح الخطبة
وما به يخطب فهو الخطبة ... وحمرة أي في سواد الشعر
فحمرة في كدرة تدعى خطب ... وخطبة النكاح جمعها خطب
وجمع خطبة بمنبر خطب ... والخطب سهل أي سبيل الأمر
فالأمر مع صرف الزمان خطب ... والخطبة الخاطب كل خطب
جمع لأخطب وخطبا خطب ... في كل ذي اختلاف لون يجري
وفي الوعظ قل وفي النكاح خطبا ... نعم وفي كدرة لون خطبا
وإن ترد صار خطيبا خطبا ... أتى بسجع في الكلام النثر
(يُصْدِرَ الرِّعاءُ) : الصدر عن الشيء: الرجوع عنه، يقال في فعله صدر من باب نصر وضرب، والصدر بفتحتين اسم مصدر منه(7/299)
ويتعدى بنفسه فيقال صدره غيره أي رجعه أي رده، ويستعمل رباعيا فيقال أصدره غيره. والرعاء: جمع راع على غير القياس لأن فاعلا الوصف المعتل اللام كقاض قياسه فعله كقضاة ورماة خلافا للزمخشري في قوله إنه جمع راع على فعال قياس كصيام وقيام، أما جمع فعال فيطرد في ستة أنواع نوردها فيما يلي:
1- اسم أو صفة ليست عينهما ياء على وزن فعل أو فعلة، فالاسم ككعب وكعاب وثوب وثياب ونار ونيار وقصعة وقصاع وجنة وجنان، والصفة كصعب وصعبة وصعاب وضخم وضخمة وضخام، وندر مجيئه من معتل العين: كضيعة وضياع وضيف وضياف.
2- اسم صحيح اللام غير مضاعف على وزن فعل أو فعلة كجمل وجمال وجبل وجبال ورقبة ورقاب وثمرة وثمار.
3- اسم على وزن فعل كذئب وذئاب وظل وظلال وبئر وبئار.
4- اسم على وزن فعل ليست عينه واوا ولا لامه ياء كرمح ورماح وريح ورياح ودهن ودهان، وأما الدهان في قوله تعالى:
«فكانت وردة كالدهان» فسيأتي انه اسم مفرد ومعناه الجلد الأحمر.
5- صفة صحيحة اللام على وزن فعيل أو فعيلة ككريم وكريمة وكرام ومريض ومريضة ومراض وطويل وطويلة وطوال.
6- صفة على وزن فعلان أو فعلى أو فعلانة أو فعلانة كعطشان وعطشى وعطاش وريان وريا ورواء وندمان وندمى وندام وخمصان وخمصانة وخماص.(7/300)
وما جمع على فعال من غير ما ذكر فهو على غير القياس وذلك كراع وراعية ورعاء وقائم وقائمة وقيام وصائم وصائمة وصيام وأعجف وعجفاء وعجاف وخيّر وخيار وجيّد وجياد وجواد وجياد وأبطح وبطاح وقلوص وقلاص وأنثى وإناث ونطفة ونطاف وفصيل وفصال وسبع وسباع وضبع وضباع ونفساء ونفاس وعشراء وعشار.
هذا ولا ندري كيف ند هذا عن الزمخشري فقال في كشافه:
«وأما الرعاء بالكسر فقياس كصيام وقيام» .
(اسْتِحْياءٍ) : الاستحياء والحياء الحشمة والانقباض والانزواء قال في المصباح: «يقال استحيت بياء واحدة وبياء واحدة وبياءين ويتعدى بنفسه وبالحرف فيقال استحيته واستحيت منه» .
(الْقَصَصَ) بفتحتين: مصدر بمعنى المقصوص وقد سمي به فيما بعد المقصوص يقال قص عليه الخبر حدثه به ومصدره قصص بفتحتين أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة.
الإعراب:
(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) الواو استئنافية ولما حينية أو رابطة وتوجه فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وتلقاء مدين ظرف مكان متعلق بتوجه وتلقاء يستعمل مصدرا واسما للقاء ومكانا له وقد ذكرنا فيما مضى أن لدينا عشرة مصادر أتت مخالفة فجاءت بكسر أولها، وجعله شارح القاموس اسما للمصدر فقال تعليقا على القاموس «قوله والاسم التلقاء أي اسم(7/301)
المصدر ولكن يعكر عليه قوله ولا نظير له غير التبيان إذ لم يقل أحد بأن التبيان اسم مصدر بل هو مصدر نادر» وعبارة المحكم: «التلقاء اسم مصدر لا مصدر وإلا لفتحت التاء وقيل مصدر لا نظير له غير التبيان» ومدين مضاف إليه ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث وجملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء وربي اسمها وان وما في حيزها خبرها وسواء السبيل مفعول ثان أو منصوب بنزع الخافض. (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) وجد فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعليه متعلقان بوجد لأن وجد بمعنى لقي وأمة مفعول به أي جماعة كثيفة ومن الناس صفة لأمة وجملة يسقون صفة ثانية أو حال ومفعول يسقون محذوف للعلم به أي مواشيهم. (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) ووجد عطف على وجد الأولى ومن دونهم متعلقان بوجد أيضا أي في مكان أسفل منهم، وامرأتين مفعول به أول وجملة تذودان صفة لامرأتين. (قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ما اسم استفهام مبتدأ وخطبكما خبر والجملة مقول القول، قالتا فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة وحركت بالفتح لمناسبة ألف التثنية والألف فاعل وجملة لا نسقي مقول قولهما وحتى حرف غاية وجر ويصدر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والرعاء فاعل والواو حالية وأبونا مبتدأ وشيخ خبر وكبير صفة وسيأتي في باب البلاغة سر الجملة الحالية. (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) الفاء عاطفة على محذوف مقدر يفهم من سياق الكلام وسقى فعل ماض ولهما متعلقان به والمفعول به محذوف أي غنمهما لأجلهما، ثم حرف عطف وتولى فعل ماض والى الظل متعلقان بتولي أي الى ظل شجرة كانت هناك. (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) رب منادى(7/302)
وان واسمها ولما اللام حرف جر وما نكرة بمعنى شيء أو اسم موصول أي لأي شيء أو للذي أنزلت والجار والمجرور متعلقان بفقير وأنزلت فعل وفاعل والجملة إما صفة لما إن كانت نكرة أو صلة وإليّ متعلقان بأنزلت ومن خير حال وفقير خبر إن وعدي فقير بحرف الجر لأنه ضمن معنى سائل أو طالب وإلا فهو يتعدى بإلى.
(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من سياق الكلام أي فرجعتا الى أبيهما في زمن أقل مما كانتا تستنز فانه في السقي فسألهما عن سبب ذلك فأخبرتاه بقصة من سقى لهما فقال لإحداهما أدعية لي فجاءته، وإحداهما فاعل وجملة تمشي حال من الفاعل وعلى استحياء حال من الفاعل المضمر في تمشي أي مستحيية خفرة وقيل واضعة كم درعها على وجهها حياء منه.
(قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) إن واسمها وجملة يدعوك خبر وليجزيك اللام للتعليل ويجزيك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعوك والكاف مفعول به أول وأجر مفعول به ثان وما مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لأجر أي أجر سقايتك ولنا متعلقان بسقيت.
(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فأجابها لا ليأخذ الأجر ولكن لأجل التبرك بأبيها لما سمع منهما انه شيخ كبير، فمشت أمامه فجعلت الريح تضرب ثوبها فتكشف ساقيها أو ألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي ودليني على الطريق ففعلت الى أن دخل عليه فلما جاءه وقص عليه، قص فعل ماض وعليه متعلقان بقص والقصص مفعول به وجملة قال لا محل لها ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم(7/303)
بلا ونجوت فعل وفاعل ومن القوم متعلقان بنجوت والظالمين صفة وإنما هدأ روعه وطمأنه لأن مدين لم تكن في سلطان فرعون.
البلاغة:
1- الإيجاز:
كثر الإيجاز في هذه الآيات فقد حذف المفعول به في أربعة أماكن أحدها مفعول يسقون أي مواشيهم والثاني مفعول تذودان أي مواشيهما والثالث لا نسقي أي مواشينا والرابع فسقى لهما أي مواشيهما وعلة الحذف أن الغرض هو أن يعلم انه كان من الناس سقي ومن البنتين ذود وأنهما قالتا لا نسقي أي لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء وانه كان من موسى سقي فأما كون المسقي غنما أو إبلا أو غير ذلك فذلك أمر خارج عن نطاق الغرض.
2- الكناية:
في قوله «وأبونا شيخ كبير» فقد أرادتا أن تقولا له: إننا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مزاحمة الرجال ومالنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ طاعن في السن قد أضعفه الكبر وأعياه فلا مندوحة لنا عن ترك السقيا وأرجائها الى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء وبذلك طابق جوابهما سؤاله لأنه سألهما عن علة الذود فقالتا ما قالتاه وإنما ساغ لنبي الله شعيب أن يرضى لابنتيه بامتهان سقيا الماشية على ما فيها من تبذل واطراح حشمة لأن الضرورات تبيح المحظورات مع أن الأمر في حد ذاته ليس بمحظور فالدين لا يأباه(7/304)
والعادات متباينة ومذهب أهل البدو غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة.
3- الإشارة:
وذلك في قوله «على استحياء» فقد أشار بلمح خاطف يشبه لمح الطرف وبلغة هي لغة النظر إلى وصف جمالها الرائع الفتان باستحياء لأن الخفر من صفات الحسان ولأن التهادي في المشي من أبرز سماتهن، قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
وأبدع ابن الرومي ما شاء له الإبداع إذ قال:
جرت تدافع من وشي لها حسن ... تدافع الماء في وشي من الجب
وان رمق سماء امرئ القيس بقوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال
وعمر بن أبي ربيعة في رائيته البديعة:
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت ... مصابيح شبت بالعشي وأنور(7/305)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
وغاب قمير كنت أرجو غيابه ... وروّح رعيان وهوّم سمر
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ... الحباب وركني خيفة القوم ازور
[سورة القصص (28) : الآيات 26 الى 28]
قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
الإعراب:
(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) قالت إحداهما فعل وفاعل وهي الكبرى التي تزوجها موسى فيما بعد، ويا أبت تقدم إعرابه كثيرا واستأجره فعل أمر وفاعل ومفعول به (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للأمر قبلها وسيأتي معنى هذا الكلام الجامع المانع في باب البلاغة، وإن واسمها ومضاف إليه وجملة استأجرت لا محل لها لأنها صلة الموصول والقوي خبر أول(7/306)
والأمين خبر ثان. (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) إن واسمها وجملة أريد خبرها والجملة مقول القول وأن أنكحك في تأويل مصدر مفعول أريد وفاعل أنكحك ضمير مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به أول وإحدى ابنتي مفعول به ثان وابنتي مضاف لإحدى وهاتين صفة لابنتي والاشارة لتمييزها من بين بقية أخواتهما فقد كان له كما يروى سبع بنات. (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) على حرف جر دخل على أن وما يليها والجار والمجرور متعلقان بمحذوف في موضع الحال إما من الفاعل أو من المفعول أي مشروطا عليّ أو عليك ذلك وتأجرني فعل مضارع من أجرته إذا كنت له أجيرا كقولك أبوته أي كنت له أبا ومفعول تأجرني الثاني محذوف أي نفسك وثماني حجج ظرف لتأجرني وحجج أعوام، وتكلف الزمخشري وجها ما أدري كيف استقام له وهو أن يكون ثماني مفعولا ثانيا لتأجرني، وقد احتاج الى تقدير مضاف أي رعي ثماني حجج ولا داعي لهذا التكلف، هذا فضلا عن أن المعنى لا يستقيم معه لأن العمل هو الذي تقع به الإثابة لا الزمان فكيف يوجه الاجارة على الزمان؟
(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وأتممت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وعشرا مفعول به والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية ومن عندك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فالتمام من عندك وليس في الأمر إلزام وتحتيم.
(وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأريد فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا وأن وما في حيزها مفعول أريد وعليك متعلقان بأشق، ستجدني فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به(7/307)
وجملة إن شاء الله اعتراضية لا محل لها وجواب ان محذوف ومن الصالحين متعلقان بتجدني ومعنى أشق عليك أجعل الأمر صعبا، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما حقيقة شققت عليه وشق عليه الأمر؟
قلت: حقيقته ان الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه» وسيأتي مزيد من ذلك في باب البلاغة.
(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره أي ذلك الذي عاهدتني وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا لا نحيد عنه كلانا، وأيما الأجلين:
أي اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم لقضيت وما زائدة للإبهام وسيأتي بحث مستفيض عن أي في باب الفوائد وقيل ان «ما» نكرة بمعنى شيء والأجلين بدل منها وقضيت فعل وفاعل والفاء رابطة للجواب ولا نافية للجنس وعدوان اسمها المبني على الفتح وعلي خبر لا والله مبتدأ وعلى ما نقول متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله.
البلاغة:
1- الكلام الجامع المانع:
في قوله تعالى: «إن خير من استأجرت القوي الأمين» في هذه الآية فنون عديدة ولذلك أطلق عليها علماء البلاغة أنها من الكلام الجامع المانع الحكيم الذي لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك والمتعهد لشئونك وهما الكفاية والأمانة فقد فرغ بالك وتم أمرك وسهل مرادك، ولأنه ذهب مذهب المثل المضروب ليذهب في مرّ العصور وقادمات الدهور، وفيه التعميم(7/308)
الذي هو أجمل وأليق في مدح النساء للرجال من المدح الخاص وأبقى للتحشم والتصوّن وخصوصا بعد أن فهمت غرض أبيها وهو تزويجها منه وقد كان عمر بن الخطاب يعجب بهذا التعبير ويرمق سماءه في دعائه فيقول: «أشكو الى الله ضعف الأمين وخيانة القوي» .
وهذا الإيهام من ابنة شعيب قد سلكته زليخا مع يوسف ولكن شتان ما بين الحياء المجبول والحياء المستعمل، ليس التكحل في العينين كالكحل حيث قالت: «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» وهي تعني ما جزاء يوسف مما أرادني من السوء إلا أن تسجنه أو تعذبه عذابا أليما، ولكنها أو همت زوجها الحياء والخفر وأن تنطق بالعصمة منسوبا إليها الخنا إيذانا منها بأن هذا الحياء منها الذي يمنعها أن تنطق بهذا الأمر من مراودة يوسف بطريق الأحرى والأولى، ففي هذه الآية كما رأيت الإيجاز والمثل والتعميم والإيهام وفيها أيضا التقديم فقد قدم ما هو أولى بالتقديم وجعل اسما ل «إن» وهو خير وورد بلفظ الفعل الماضي للدلالة على أن الأمر ليس بدعا وانه معروف مبتوت فيه قد جرب وتعورف. ومن التقديم البديع قول أبي الشغب العبسي يتحزّن على خالد بن عبد الله القسري حين أسره يوسف بن عمرو.
ألا إن خير الناس حيا وهالكا ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل
لعمري لئن عمرتم السجن خالدا ... وأوطأتموه وطأة المتثاقل(7/309)
لقد كان نهّاضا بكل ملمة ... ومعطي اللهى غمرا كثير النوافل
وخير الناس اسم تفضيل مضاف الى المعرف بأل وهو اسم إن وحيا وهالكا حالان منه وأسير ثقيف خبر إن، وثقيف علم القبيلة والعلم أعرف من المحلى بأل فخبر إن المضاف اليه أعرف من اسمها المضاف المحلّى بأل وقد قدم الاسم للاهتمام به، وعندهم في السلاسل حال أو خبر بعد خبر، ولعمري قسم إن عمرتم أي أدخلتم وأسكنتم خالدا السجن وأوطأتموه أي صيرتموه يطأ الأرض برجله كوطأة المتثاقل أي الحامل لشيء ثقيل لجعل القيد في رجليه فهو كناية عن ذلك، لقد كان نهاضا جواب القسم وجواب الشرط محذوف أي كان سريع القيام بكل نازلة ثقيلة وكان معطى اللهى بالفتح جمع لهاة كحصى وحصاة أي اللحمة في أقصى الفم لكنها هنا بمعنى الفم نفسه ويجوز أن يكون اللهى بضم اللام جمع لهوة كغرف وغرفة بمعنى العطية من أي نوع كانت.
2- الإيجاز:
وفي قوله «وما أريد أن أشق عليك» إيجاز بليغ فقد ذكرنا معنى شق عليه الأمر وانه مترجح بين اليأس والرجاء، وفيه إيماء الى أولئك المعاسرين الذين يكلفون عمالهم أعمالا تربو على طوقهم وتتجاوز حدود قدرتهم المعهودة، وعلى هذا درجت الشرائع في حسن المعاملة والأخذ بالأسهل والأيسر ومنه الحديث «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكي فكان لا يداري ولا يشاري ولا يماري» .(7/310)
الفوائد:
«أيّ» المشددة:
تأتي «أيّ» المشددة على خمسة أوجه:
1- أن تكون شرطا نحو «أيما الأجلين قضيت» وقد تزاد ما بعدها للتوكيد.
2- أن تكون استفهامية: «أيكم زادته هذه إيمانا» .
3- موصولة: «ثم لننزعنّ من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا» .
4- أن تكون دالة على معنى الكمال فتقع صفة للنكرة نحو زيد رجل أي رجل أي كامل في صفات الرجال وحالا من المعرفة كمررت بعبد الله أي رجل، قال أبو العتاهية وقد وردت صفة:
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده
5- أن تكون وصلة الى نداء ما فيه أل نحو يا أيها الرجل.
هذا وقد أورد صاحب المغني بيتا لأبي الطيب فيه «أي» وهو:
أي يوم سررتني بوصال ... لم ترعني ثلاثة بصدود
وقال: «ليست فيه أي موصولة لأن الموصولة لا تضاف إلا إلى المعرفة، قال أبو علي في التذكرة في قوله:(7/311)
أرأيت أي سوالف وخدود ... برزت لنا بين اللوى فزرود
لا تكون أي فيه موصولة لإضافتها الى نكرة» وتابع صاحب المغني كلامه فقال: ولا شرطية لأن المعنى حينئذ إن سررتني يوما بوصالك آمنتني ثلاثة أيام من صدودك، وهذا عكس المعنى المراد وإنما هي للاستفهام الذي يراد به النفي كقولك لمن ادعى أنه أكرمك:
أي يوم أكرمتني؟ والمعنى ما سررتني يوما بوصالك إلا روعتني ثلاثة بصدودك، والجملة الأولى مستأنفة قدم ظرفها لأن له الصدر والثانية اما في موضع جر صفة لوصال على حذف العائد أي لم ترغني بعده كما حذف في قوله تعالى: «واتقوا يوما لا تجزي نفس» الآية، أو نصب حالا من فاعل سررتني أو مفعوله والمعنى أي يوم سررتني غير رائع لي أو غير مروع منك وهي حال مقدرة مثلها في «طبتم فادخلوها خالدين» أو لا محل لها على أن تكون معطوفة على الأولى بفاء محذوفة كما قيل في «وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا: أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله» وكذا في بقية الآية وفيه بعد، والمحققون في الآية على أن الجمل مستأنفة بتقدير: فما قالوا له؟ فما قال لهم؟ ومن روى ثلاثة بالرفع لم يجز عنده كون الحال من فاعل سررتني لخلو ترعني من ضمير ذي الحال.
وقال أبو البقاء العكبري في شرحه لديوان المتنبي: «أي نصب وهو استفهام خرج مخرج النفي كما تقول لمن يدعي أنه أكرمك: أي يوم أكرمتني قط كما قال الهذلي:
اذهب فأي فتى في الناس أحرزه ... من حتفه ظلم دعج ولا جبل(7/312)
ولا يجوز أن تكون «أي» شرطية تتعلق الجملة بالجملة تعلق الجزاء بالشرط، وإذا حملته على الشرط كان مناقضا للمعنى الذي أراده فكأنه يقول: إن سررتني يوما بوصالك أمنتني ثلاثة من صدودك وهذا عكس مراده.
وهذا البيت من جملة أبيات غزلية استهل بها أبو الطيب قصيدة قالها في صباه ونورد هنا الأبيات الغزلية لنفاستها ونعرب بعض ما فيه فائدة منها:
كم قتيل كما قتلت شهيد ... ببياض الطّلى وورد الخدود
وعيون المها ولا كعيون ... فتكت بالمتيم المعمود
درّ درّ الصّبا أأيام تجر.... ير ذيولي بدار أثلة عودي
عمرك الله هل رأيت بدورا ... طلعت في براقع وعقود
راميات بأسهم ريشها الهد.... ب تشقّ القلوب قبل الجلود
يترشّفن في فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
كلّ خمصانة أرقّ من الخم.... ر بقلب أقسى من الجلمود ذات فرع كأنما ضرب العن.... بر فيه بماء ورد وعود حالك كالغداف مثل دجو.... جيّ أثيث جعد بلا تجعيد تحمل المسك عن غدائرها الري.... ح وتفتّر عن شتيت برود جمعت بين جسم أحمد والسق.... م وبين الجفون والتسهيد أهل ما بي من الضنى بطل صي.... د بتصفيف طرّة وبجيد(7/313)
كل شيء من الدماء حرام ... شربه ما خلا دم العنقود
فاسقنيها فدى لعينيك نفسي ... من غزال وطارفي وتليدي
شيب رأسي وذلتي ونحو لي ... ودموعي على هواك شهودي
أي يوم سررتني ... (البيت) إعراب بعض الكلمات:
(كم) خبرية وتمييزها مجرور بالاضافة إليها أو بمن وقد تقدم القول فيها مطولا وهي هنا في محل رفع مبتدأ خبره ببياض، وكما قتلت نعت لمصدر محذوف، هذا ولهم في العشق حديث طويل، وخبره عند أرباب التصوف معقول قال الجنيد: «العشقة ألفة رحمانية وإلهام شوقي أوجبهما كرم الله على كل ذي روح لتحصل به اللذة العظمى التي لا يقدر على مثلها إلا بتلك الألفة وهي موجودة في الأنفس مقدرة مراتبها عند أربابها فما أحد إلا عاشق لأمر يستدل به على قدر طبقته من الخلق ولأجل ذلك كان أشرف المراتب في الدنيا مراتب الذين زهدوا فيها مع كونها معاينة ومالوا الى الآخرة مع كونها مغيبة عنهم» وقد وصف الله تعالى نفسه بالحب فقال: «يحبهم ويحبونه» وقد تقدم القول فيه مطولا، وأما العشق فلم يرد في لسان الشرع، وقال الفضيل بن عياض كلاما جميلا منه: «لو رزقني الله تعالى دعوة مجابة لدعوته تعالى أن يغفر للعشاق لأن حركاتهم اضطرارية لا اختيارية، وما أحسن قول أبي فراس الحمداني:
وكم في الناس من حسن ولكن ... عليك لشقوتي وقع اختياري(7/314)
وقال رجل من العرب لبعض بني عذرة: ما لأحدكم يموت عشقا في هوى امرأة ألفها وليس ذلك إلا ضعف نفس أو خور تجدونه، يا بني عذرة فقال: أما والله لو رأيتم الحواجب الزّجّ، فوق النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج، لاتخذتموها اللات والعزى» هذا وقد استند أبو الطيب في قوله «شهيد» الى حديث يروونه هو: «إن من عشق وعف وكتم فمات مات شهيدا» .
(عمرك الله) : مصدر يقال: أطال الله عمرك وعمرك بالضم والفتح وهما وإن كانا مصدرين بمعنى إلا أنه استعمل أحدهما في القسم وهو المفتوح العين فإذا أدخلت عليه لام الابتداء رفعته بالابتداء والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر وقلت عمر الله ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت كذا فكأنك قلت بتعميرك الله أي باقرارك له بالبقاء، ومنه قول عمر ابن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثّريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
يريد سألت الله أن يطيل عمرك وهو في قول أبي الطيب مصدر ومعناه: سألت الله أن يعمرك تعميرا.
(أحلى من التوحيد) قال الواحدي: «كنّ يمصصن ريقي لحبهنّ إياي فكانت الرشفات في فمي أحلى من كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله وهذا إفراط وتجاوز حد» .
قال ابن القطاع: ذهب كثير من الناس الى أن لفظة أفعل من كذا توجب تفضيل الأول على الثاني في جميع المواضع وذلك غلط والصحيح أن أفعل يجيء في كلام العرب على خمسة أوجه:(7/315)
أحدها: أن يكون الأول من جنس الثاني ولم يظهر لأحدهما حكم يزيد على الأول به زيادة يقوم عليها دليل من قبل التفضيل فهذا يكون حقيقة في الفضل لا مجازا وذلك كقولك زيد أفضل من عمرو وهذا السيف أصرم من هذا.
والثاني: أن يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه ومحتملا للحاق به وقد سبق للثاني حكم أوجب له الزيادة بالدليل الواضح فهذا يكون على المقاربة في التشبيه لا التفضيل نحو قولك الأمير أكرم من حاتم وأشجع من عمرو، وبيت المتنبي من هذا القبيل أي يترشفن من فمي رشفات هنّ قريب من التوحيد.
والثالث: أن يكون الأول من جنس الثاني أو قريبا منه والثاني دون الاول فهذا يكون على الإخبار المحض نحو قولك: الشمس أضوأ من القمر والأسد أجرأ من النمر.
والرابع: أن يكون الأول من غير جنس الثاني وقد سبق للثاني حكم أوجد له الزيادة واشتهر الأول من جنسه بالفضيلة فيكون هذا على سبيل التشبيه المحض والغرض أن يحصل للأول بعض ما يحصل للثاني نحو قولك: زيد أشجع من الأسد وأمض من السيف.
والخامس: أن يكون الأول من غير جنس الثاني والأول دون الثاني في الصفة جدا فيكون هذا على المبالغة المحضة نحو قامته أتمّ من الرمح ووجهه أضوأ من الشمس وجاء في الحديث: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر» ذهب من لا يعرف معاني الكلام أن أبا ذر أصدق العالم أجمع وليس الأمر كذلك وإنما(7/316)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
نفى عليه الصلاة والسلام أن يكون أحد أعلى منه رتبة في الصدق ولو أراد ما ذهبوا إليه لقال: أبو ذر أصدق من كل من أظلت وأقلت.
(كل خمصانة) : يجوز فيه الرفع على البدل من الضمير في يترشفن وعلى هذا يرفع أرق حملا على كل، ويجوز نصب كل حملا على النعت لقوله بدورا أو على البدلية منها والخمصانة الضامرة والذكر خمصان.
(أهل ما بي من الضنى بطل) أهل مبتدأ خبره بطل أو خبر لمبتدأ محذوف والمعنى أنا أهل ما بي وحقيق به وأنا بطل صيد.
(ما خلا دم العنقود) : إذا قلت جاء القوم ما خلا زيدا فليس إلا النصب لأن خلا يتحتم كونها فعلا لدخول ما المصدرية عليها، وإذا قلت جاء القوم خلا زيد كان الجر لا غير.
[سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 32]
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32)(7/317)
الإعراب:
(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) الفاء عاطفة على محذوف يفهم من السياق والتقدير فتم العقد بينهما على الإجارة والنكاح ومارس المهمة التي أنيطت به على أحسن وجه وأكمله فلما. ولما حينية أو رابطة وجملة قضى موسى الأجل لا محل لها وسار عطف على قضى وبأهله جار ومجرور متعلقان بسار وجملة آنس لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن جانب الطور متعلقان بآنس ونارا مفعول به ولك أن تجعل من جانب الطور حالا لأنه كان صفة لنارا وتقدم عليها. (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) لأهله متعلقان بقال وجملة امكثوا مقول القول وجملة إني تعليل للأمر بالمكث وإن واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به.
(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) جملة الرجاء حال أي راجيا ولعل واسمها وجملة آتيكم خبرها والكاف مفعول به ومنها حال لأنه كان صفة لخبر وبخبر متعلقان بآتيكم وأو حرف عطف وجذوة عطف على خبر وهي مثلثة الجيم: الشعلة من النار والقطعة من الحطب وجمعها جذا، قال ابن مقبل:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا ذعر(7/318)
ومن النار نعت لجذوة وجملة الرجاء حال أيضا ولعل واسمها وجملة تصطلون خبرها. (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فسار نحوها فلما أتاها، وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن شاطىء الوادي متعلقان بنودي والأيمن صفة لشاطيء وفي البقعة حال من الشاطئ والمباركة صفة للبقعة ومن الشجرة بدل من قوله من شاطىء الوادي بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ وقد تقدم نظيره في قوله: «لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم» أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة.
(أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أن مفسرة لأن النداء قول والتقدير أي يا موسى، وأجاز أبو البقاء وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة واسمها محذوف يفسره جملة النداء أي نودي بأنه أي الشأن، وإني إن واسمها وهي مكسورة الهمزة باتفاق القراء لأن النداء قول وأنا ضمير فصل أو مبتدأ والله خبر إن أو خبر أنا والجملة خبر إن ورب العالمين نعت لله أو بدل منه. (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) الواو عاطفة وأن مفسرة معطوفة على سابقتها وألق فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعصاك مفعول به، فلما الفاء عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي فألقاها فصارت ثعبانا ورآها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة تهتز حالية وجملة كأنها جان حال من فاعل تهتز وكأن واسمها وجان خبرها وجملة ولى لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفاعل ولى مستتر تقديره هو ومدبرا حال والواو عاطفة وجملة لم يعقب عطف على ولى أي ولم يرجع. (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أقبل فعل أمر(7/319)
وفاعله مستتر تقديره أنت ولا تخف لا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا وإن واسمها ومن الآمنين خبرها والجملة تعليل للأمر بالإقبال والنهي عن الخوف. (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) اسلك يدك فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وفي جيبك متعلقان باسلك من سلك الشيء في الشيء أنفذه فيه، وتخرج فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر تقديره هي وبيضاء حال ومن غير سوء متعلقان ببيضاء وقد تقدم تعليل ذلك في سورة طه فجدد به عهدا. (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) قال الزمخشري:
«فإن قلت ما معنى قوله واضمم إليك جناحك من الرهب؟ قلت:
فيه معنيان أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقاءك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار معجزة أخرى. والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى فقد ضم جناحه إليه، والثاني أن يراد بضم جناحه اليه تجلده وضبطه نفسه وتشدّده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر لأنه إذا خوّف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران.
ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن كاتبا له كان يكتب بين يديه فانفلت منه فلتة ريح، فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي» .(7/320)
واضمم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإليك متعلقان باضمم وجناحك مفعول به ومن الرهب متعلقان باضمم بمثابة التعليل له أي من أجل الرهب وقيل بولي أي هرب من الفزع، وقيل بمدبرا، وقيل بمحذوف أي يسكن من الرهب، والرهب بفتح الراء والهاء وبفتح الراء واسكان الهاء. وسيأتي مزيد تفصيل في باب البلاغة.
(فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) الفاء الفصيحة أي إذا تأملت بذلك واستيقنت منه فذانك، وذانك اسم إشارة وهي تثنية ذاك ومن قرأ ذانّك بالتشديد جعلها تثنية ذلك بلام البعد ويكون التشديد عوضا عنها وبرهانان خبر ومن ربك صفة لبرهانان أي مرسلان من ربك والى فرعون متعلقان بمرسلان وملئه عطف على فرعون وجملة إنهم تعليل لإرسال البرهانين وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وقوما خبرها وفاسقين صفة لقوما.
البلاغة:
تقدم معظم ما في هذه الآيات من فنون البلاغة من استعارة واحتراس، ونضيف الى ما تقدم ما أورده الامام الزمخشري بأسلوبه الساحر وهذا نصه: «فإن قلت قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموما وفي الآخر مضموما إليه وذلك قوله: «واضمم إليك جناحك» وفي طه «واضمم يدك الى جناحك» فما التوفيق(7/321)
بينهما؟ قلت: المراد الجناح المضموم هو اليد اليمنى والمضموم اليه هو اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح» .
وقال الزمخشري أيضا: «فإن قلت لم سميت الحجة برهانا؟
قلت لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معا» وهذا تعليل لطيف لا يحسن استنباطه غير هذا الامام ومعنى ذلك أن النون في البرهان زائدة، يقولون أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم الحجة أيضا سلطانا من السليط وهو الزيت لإنارتها، وفي معاجم اللغة: وأبره أتى بالبرهان أو بالعجائب وغلب الناس وهذا هو قول الزمخشري والمحققين، وزعم صاحب القاموس في أحد قوليه أن النون أصلية قال وبرهن عليه أقام البرهان، والبرهان بالضم الحجة فتدبر.
الفوائد:
عصا موسى أيضا:
قدمنا في سورة طه بحثا مستفيضا عن العصا ونضيف هنا ما يتعلق بعصا موسى خاصة، روى التاريخ أن شعيبا كانت عنده عصي الأنبياء فقال لموسى بالليل ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا كان شعيب مفتونا بها وكان مكفوفا فضن بها فقال:
غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا، وقيل أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه فوقعت في يدها سبع مرات كما تقدم وفي كتب التفسير طرائف عن تلك العصا لا مجال لها في كتابنا.(7/322)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
[سورة القصص (28) : الآيات 33 الى 37]
قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
اللغة:
(رِدْءاً) : معينا، يقال ردأته: أعنته والرّدء اسم ما يعان به فعل بمعنى مفعول به كما أن الدفء اسم لما يدفأ به. قال سلامة ابن جندل:
وردئي كل أبيض مشرفي ... شحيذ الحدّ عضب ذي فلول
أي وردئي الذي أتوقى به المكاره كل سيف أبيض، وعبّر بكل لأن المراد بيان الجنس لا الشخص ومشرفي نسبة الى مشارف اليمن وهي قرى منها وقيل من الشام، وشحيذ الحد مرهفه من شحذ المدية أي حددها، والعضب: القاطع، والفلول: جمع فلّ وهو كسر(7/323)
في حد السيف وانثلام أي به فلول من قراع الكتائب. وقال النحاس:
يقال ردأته وأردأته.
(العضد) : بفتح العين وضم الضاد وبالضم وبالكسر: غليظ الذراع وهو من المرفق الى الكتف جمعه أعضاد وأعضد وهو قوام اليد وبشدته تشتد. قال طرفة، وقيل لأوس ابن حجر:
أبني لبيني لستمو بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
وللعين مع الضاد فاء وعينا للكلمة خاصة القوة والصلابة والاصطلام تقول عضه يعضه عضا أمسكه بأسنانه ويقال أيضا عض به وعض عليه وعضه الزمان اشتد عليه وأعضّ السيف بساق البعير، قال لبيد:
ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم
وعضته الحرب، قال الأخطل:
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من عاداتها الضجر
وملك عضوض: غشوم، وعن أبي بكر: «سترون بعدي ملكا عضوضا وأمة شعاعا» وبئر عضوض: بعيدة القعر كأنها تعض الماتح بما تشق عليه، وعضبته بلساني شتمته، ورجل عضّاب: شتام، وعضبته عن حاجة: قطعته، ومالك تعضبني عما أنا فيه، والعضب بالسيف القاطع والرجل الحديد الكلام، وعضبر الكلب: استأسد والعضبارة: حجر الرحى وصخرة يقصر القصّار الثوب عليها،(7/324)
والمعضاد: سكين كبير للقصاب يقطع به العظام، وأعضل الأمر:
اشتد وبه داء عضال، وقد أعيا الأطباء وأعضلهم، وتزوج ذو الإصبع فأتى حيه يسألهم مهرها فمنعوه فقال:
واحدة أعضلكم أمرها ... فكيف لو درت على أربع
وفلان عضلة من العضل: داهية من الدواهي وعضلت على فلان: ضيقت عليه أمره وحلت بينه وبين ما يريد، ومنه «ولا تعضلوهن» ورماه بالعضيهة أي الافك، وقال عليه السلام:
«لا تعضية على أهل الميراث» أي لا يدخل عليهم الضرر بقسمة نحو السيف والخاتم.
الإعراب:
(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) رب منادى مضاف إلى ياء المتكلم المحذوفة كما تقدم وان واسمها وجملة قتلت خبرها ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة وتقدمت ونفسا مفعول به، فأخاف الفاء عاطفة وأخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وان وما في حيزها مفعول أخاف ويقتلون منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والواو فاعل والنون للوقاء وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) الواو عاطفة وأخي مبتدأ وهارون بدل أو عطف بيان وهو مبتدأ وأفصح خبر هو والجملة خبر أخي ومني متعلقان بأفصح ولسانا تمييز، فأرسله الفاء الفصيحة وأرسله فعل أمر للدعاء وفاعله أنت والهاء مفعول به ومعي ظرف متعلق بأرسله وردءا حال(7/325)
وسيأتي معنى التصديق في باب البلاغة ويصدقني فعل مضارع مرفوع ولو جزم لجاز وقرئ به على أنه جواب للطلب والنون للوقاية والياء مفعول به والجملة مستأنفة أو صفة لردءا أو حال من مفعول أرسله وجملة إني أخاف تعليل للملتمس وان واسمها وجملة أخاف خبر ان وأن وما في حيزها مفعول أخاف. (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) جملة سنشد مقول القول وفاعل نشد نحن وعضدك مفعول به وبأخيك جار ومجرور متعلقان بنشد ونجعل عطف على سنشد ولكما في محل نصب مفعول ثان لنجعل وسلطانا مفعول نجعل الأول أي غلبة وحجة واضحة وقد مر تفسيره في باب اللغة.
(فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويصلون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإليكما متعلقان بيصلون وبآياتنا يجوز فيه أن يتعلق بنحو ما تعلق به في تسع آيات أي اذهبا بآياتنا أو بنجعل أو بيصلون أو بسلطانا أي نسلطكما بآياتنا أو بمحذوف حال أو من لغو القسم ولا أرى موجبا للترجيح في هذه الأوجه فاختر منها ما ترى ترجيحه، وأنتما مبتدأ ومن اسم موصول معطوف على أنتما وجملة اتبعكما صلة من والغالبون خبر أنتما.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) الفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم موسى فعل ومفعول وفاعل وبآياتنا متعلقان بجاءهم أو بمحذوف حال وبينات حال أي واضحات الدلالة وجملة قالوا جواب لما وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر ومفترى صفة.
(وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا وفي آبائنا حال من هذا فهو متعلق(7/326)
بمحذوف تقديره كائنا والأولين نعت لآبائنا. (وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) ربي مبتدأ وأعلم خبره وبمن متعلقان بأعلم وجملة جاء بالهدى صلة من ومن عنده حال. (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) الواو عاطفة ومن عطف على من الأولى وتكون فعل مضارع ناقص وله خبرها المقدم وعاقبة الدار اسمها المؤخر، ويجوز أن يكون اسم تكون ضمير الشأن أو ضمير القصة وله خبر مقدم وعاقبة الدار مبتدأ مؤخر والجملة خبر تكون، ويجوز أن تكون تامة فتكون جملة له عاقبة الدار حالا وفاعل تكون ضمير يعود على من وان واسمها وجملة لا يفلح الظالمون خبرها.
البلاغة:
1- الاسناد المجازي:
في قوله «فأرسله معي ردءا يصدقني» إسناد مجازي، فقد أسند اليه التصديق لأنه السبب فيه، ومعنى الإسناد المجازي أن التصديق حقيقة في المصدق فاسناده حقيقة وليس في السبب تصديق لكن استعير له الاسناد لأنه لابس التصديق بالتسبب كما لابسه الفاعل بالمباشرة والدليل على ذلك قوله «إني أخاف أن يكذبون» فليس الغرض من قوله يصدقني أن يقول صدقت أو يقول للناس صدق أخي وانما طريق تصديقه أن يلخص الحق بلسانه، ويجادل الكفار ببيانه وأن يقرر الحجة ويورد البرهان مدعوما بالأرقام كما يفعل الرجل المنطيق ذو العارضة، ألا ترى الى قوله: «وأخي هارون هو أفصح مني لسانا» وفي هذا دليل على سمو البيان وشرفه وإنافته على الكلام العادي الذي لا يصيب المحز ولا يتغلغل الى أغوار النفوس.(7/327)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
2- المجاز المرسل:
وفي قوله «سنشد عضدك بأخيك» مجاز مرسل على طريق إطلاق السبب وإرادة المسبب بمرتبتين تتبع إحداهما ثانيتهما فإن شدة العضد سبب مستلزم لشدة اليد وشدة اليد مستلزمة لقوة الشخص في المرتبة الثانية واختار الشهاب في حاشيته على البيضاوي أن يكون كناية تلويحية قال: «الشد التقوية فهو اما كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشد بشد العضد والجملة تشد بشد اليد أو استعارة تمثيلية شبه حال موسى في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بالعضد» وليس ببعيد.
[سورة القصص (28) : الآيات 38 الى 42]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)(7/328)
اللغة:
(أَطَّلِعُ) : الطلوع والاطلاع: الصعود، يقال طلع الجبل واطلع بمعنى وإن نفسك لطلعة إلى هذا الأمر وانها لتطّلع إليه أي تنازع.
(الْمَقْبُوحِينَ) : المقبوح: المطرود وقبحه الله: طرده، وفي المصباح: «قبح الشيء قبحا فهو قبيح من باب قرب وهو خلاف حسن وقبحه الله يقبحه بفتحتين: نحاه الله عن الخير وفي التنزيل:
«وهم من المقبوحين» أي المبعدين عن الفوز والتثقيل مبالغة وقبح عليه فعله تقبيحا» .
وقال أبو زيد: قبح الله فلانا قبحا وقبوحا أبعده من كل خير، وقال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبّحت بالتشديد ومثله قول الشاعر:
ألا قبح الله البراجم كلها ... وقبح يربوعا وقبح دارما
الإعراب:
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) الواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي وقال فرعون بعد ما جمع السحرة لمعارضته وكان بينهم وبين موسى ما كان، ويا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة بني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والملأ بدل وما نافية وعلمت فعل وفاعل ولكم حال ومن حرف جر زائد وإله(7/329)
مجرور لفظا بمن منصوب محلا لأنه مفعول به وغيري صفة لإله.
(فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) الفاء الفصيحة وأوقد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ويا حرف نداء وهامان منادى مفرد علم وعلى الطين متعلقان بأوقد، فاجعل عطف على أوقد ولي في محل نصب مفعول ثان لا جعل وصرحا مفعول أول. (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) لعل واسمها وجملة أطلع خبرها والى إله موسى متعلقان بأطلع وإني الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة أظنه خبر والهاء مفعول به أول ومن الكاذبين في موضع المفعول الثاني. (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) عطف على وقال فرعون وهو فاعل استكبر أو توكيد للفاعل لأن استتار الفاعل في الغائب جائز وجنوده عطف على هو وفي الأرض متعلقان باستكبر وبغير الحق حال من فاعل استكبر أي ملتبسين بغير الحق.
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) وظنوا عطف على استكبر وأن وما يليها سدت مسد مفعولي ظنوا وإلينا متعلقان بيرجعون ولا نافية وجملة لا يرجعون خبر أن. (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) فأخذناه عطف على ما تقدم وأخذناه فعل وفاعل ومفعول به وجنوده عطف على الهاء في أخذناه أو مفعول معه فنبذناهم عطف على فأخذناه وفي اليم متعلقان بنبذناهم، فانظر الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وكيف خبر مقدم لكان وعاقبة الظالمين اسمها المؤخر. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وأئمة مفعول به ثان وجملة يدعون صفة لأئمة والى النار متعلقان بيدعون ويوم القيامة الواو عاطفة ويوم القيامة ظرف متعلق بينصرون ولا نافية وينصرون(7/330)
فعل مضارع مبني للمجهول ولك أن تجعل الواو حالية والجملة حال.
(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) وأتبعناهم عطف على ما تقدم وفي هذه الدنيا حال والدنيا بدل من هذه ولعنة مفعول به ثان.
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) الظرف متعلق بمحذوف دل عليه قوله المقبوحين كأنه قيل وقبحوا يوم القيامة وإنما قدرنا محذوفا لأن تعليقه بالمقبوحين وهو الظاهر يمنع منه وجود أل الموصولية، على أنهم قد اتسعوا في ذلك فعلقوه بمدخولها ولا مانع من ذلك ولك أن تعطفه على موضع في هذه الدنيا أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة وهم مبتدأ ومن المقبوحين خبره.
البلاغة:
في قوله «فأوقد لي يا هامان على الطين» إطناب بديع وذلك أنه لم يقل اطبخ لي الآجر وذلك ليتفادى ذكر كلمة الآجر لأن تركيبها- على سهولة لفظه- ليس فصيحا وذلك أمر يقرره الذوق وحده، ألا ترى إلى هذه الكلمة وقد وقعت في بيت للنابغة الذبياني من قصيدته الدالية التي أولها:
من آل مية رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزود
والبيت هو:
أو دمية من مرمر مرفوعة ... بنيت بآجر يشاد بقرمد
فلفظة آجر في البيت قلقة نابية لابتذالها، فإن شئت أن تعلم شيئا من سر الفصاحة التي تضمنها القرآن فانظر الى هذا الموضع فإنه(7/331)
لما جيء فيه بذكر الآجر لم يذكره بلفظه ولا يلفظ القرمد أيضا لكنه ذكر في القرآن على وجه آخر فعبر عن الآجر بالوقود على الظين، ثم ان هذه العبارة أحسن مطابقة لفصاحة القرآن وعلو طبقته وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان وهو وزيره ورديفه بالإيقاد على الطين منادى باسمه «يا» في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر وقد اشتملت هذه العبارة على الكثير من ألفاظ الجبابرة العتاة وذلك على الوجه التالي:
1- نادى وزيره بحرف النداء.
2- توسيط ندائه خلال الأمر وبناء الصرح.
3- رجاؤه الاطلاع الى الله.
4- الغباء الذي يلازم الجبابرة العتاة إذ يقعون في التناقض من حيث لا يشعرون فقد صرح قبل هنيهة بقوله «ما علمت لكم من إله غيري» فعبر عن نفي المعلوم بنفي العلم وأعلن تصميمه على الجحود ثم ما عتم أن أعلن رجاءه الاطلاع فهل كان مصمما على الجحود أم لم يكن.
فصل في اختيار الألفاظ:
هذا وقد عني علماء البيان باللفظة وسر اختيارها وخلاصة ما يقال فيه: أن حسن الألفاظ وقبحها أمر يعود الى الذوق وحده فما استحسنه كان حسنا وما استقبحه كان قبيحا، فالاستعمال ليس بدليل الحسن، وهذا طريق يضل فيه غير العارف بمسالكه ومن لم يعرف صناعة النظم والنثر وما يجده صاحبها من الكلفة في صوغ الألفاظ واختيارها فإنه معذور في أن يقول ما قال:(7/332)
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
والصاحب بن عباد الذي كان من المفتونين بأبي الطيب، والذي كان يستعمل أشعاره في كتاباته ويقتبس منها، عند ما حصلت بينه وبين أبي الطيب المتنبي الجفوة بسبب ترفع هذا عن مجاوبته فقد ذكروا أن الصاحب أبا القاسم طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وهو إذ ذاك شاب ولم يكن قد استوزر بعد، وقد كتب الصاحب اليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يقم له المتنبي وزنا ولم يجبه الى كتابه ولم يحقق مراده، وقصد المتنبي بعد ذلك الى حضرة عضد الدولة بشيراز فأسفرت سفرته- كما يقول أبو منصور الثعالبي في يتيمة الدهر- عن بلوغ الأمنية، وورود مشروع المنية، وذلك أن المتنبي قتل عند مغادرته إياه محملا بالعطايا والهبات.
قال الثعالبي: «واتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته، وينعى عليه سيئاته، وهو أعرف الناس بحسناته، وأحفظهم لها، وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته» .
وقد عمل الصاحب رسالة فيما أخذه على المتنبي، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى عمل هذه الرسالة هو استياؤه من المتنبي حيث تعاظم عن مدحه فإنا نجده لم يتحامل عليه بالباطل في شيء منها ولم يظلمه بحرف واحد جاء فيها ولم يعبه إلا بما هو عيب ولم يستطع(7/333)
أن ينال منه إلا من طريق الألفاظ وحدها. ونورد هنا نماذج من هذه الرسالة.
1- أخذ الصاحب على المتنبي التفاصح بالألفاظ الشاذة فمن ذلك قوله:
أيفطمه التوراب قبل فطامه ... ويأكله قبل البلوغ الى الأكل
قال: «وما أرى كيف عشق التوراب حتى جعله عوذة أشعاره» والتوراب: التراب.
ومعنى البيت: أيفطمه التوراب قبل أن تفطمه أمه ويأكله التراب قبل أن يبلغ سن الآكل.
2- وأخذ عليه لفظة ترنج بقوله:
شديد البعد من شرب الشمول ... ترنج الهند أو طلع النخيل
قال الصاحب ساخرا: «فلا أدري أاستهلال الأبيات أحسن؟ أم المعنى أبدع؟ أم قوله ترنج أفصح» ولقد أصاب الصاحب فاللغة الفصيحة هي أترج وأترجة ومنه الحديث مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، وحكى أبو زيد ترنج وترنجة، يقول أبو الطيب: ترنج الهند وطلع النخيل شديد بعدهما عن محلك من شرب الخمر وإن كان غيرك يتخذهما لذلك لأن هذه الحال غير مظنونة(7/334)
بك وانما استحضارك لهما ولما يشاكلهما من الرياحين استمتاعا بحسن ذلك.
3- وانتقد الصاحب جمع الآخاء في شعره إذ قال.
كل آخائه كرام بني الدنيا ولكنه كريم الكرام قال: «ولو وقع الآخاء» في رائية الشمّاخ لاستثقل فكيف مع أبيات منها:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام ... وأنلناك بدرة في المنام
والكلام إذا لم يتناسب زيّفه جهابذته، وبهرجه نقاده» .
وعلى هذا النحو يمضي في كشف مساوئ المتنبي وكلها أمور ترجع الى اللفظة وحدها وسيرد معنا الكثير منها فلنكتف بما ذكرناه الآن منها.
وعاب النقاد القوافي الملتاثة، فعابوا على أبي تمام قافيته الثائية في قصيدته التي مطلعها:
قف بالطلول الدارسات علاثا ... أصخت حبال قطينهن رثاثا
وعلاثا منادى مرخم وأصله يا علاثة. وعابوا على أبي الطيب قافيته الشينية في قصيدته التي مطلعها:(7/335)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
مبيتي من دمشق على فراش ... حشاه لي بحرّ حشاي حاش
وعابوا على ابن هانىء الأندلسي قافيته الخائية في قصيدته التي مطلعها:
سرى وجناح الليل أقتم أفتخ ... حبيب ضجيع بالعبير مضمّخ
والأقتم: المظلم، والأفتخ: المستطيل.
وحسبنا ما تقدم فقد كدنا نخرج بالكتاب عن موضوعه.
[سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 46]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)(7/336)
اللغة:
(بَصائِرَ) : البصيرة: العقل والفطنة والعبرة والشاهد والحجة يقال: جوارحه بصيرة عليه أي شهود وفراسة ذات بصيرة أي صادقة والجمع بصائر وقوله «بصائر للناس» أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بها بين الحق والباطل بعد أن كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فالبصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر وسيأتي المزيد من معناها في باب الإعراب.
(ثاوِياً) : مقيما، يقال ثوى يثوي من باب ضرب ثواء وثويا المكان وفيه وبه أقام وثوى الرجل مات قال عبيد بن الأبرص في مطلع معلقته:
آذنتنا ببنيها أسماء ... رب ثاو يملّ منه الثواء
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن بعد متعلقان بآتينا وما مصدرية وأهلكنا فعل وفاعل والقرون مفعول به والأولى صفة. (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بصائر حال من الكتاب أو مفعول لأجله، وعلى الحالية لا بد من تقدير مضاف أي ذا بصائر، أو على المبالغة، وللناس نعت لبصائر وهدى ورحمة عطف على بصائر ولعلهم يتذكرون لعل واسمها وجملة(7/337)
يتذكرون خبرها. (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبرها والغربي مضاف إليه أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، واختاره الزجاج، وقال الكلبي بجانب الوادي الغربي أي حيث ناجى موسى ربه، وإذ ظرف لما مضى متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور وجملة قضينا مجرورة بإضافة الظرف إليها والأمر مفعول به والواو حرف عطف وما نافية وكنت كان واسمها ومن الشاهدين خبرها والأمر المقضي هو الوحي الذي أوحي إليه.
(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة أنشأنا خبرها ونا فاعل وقرونا مفعول به فتطاول عطف على أنشأنا وعليهم متعلقان بتطاول والعمر فاعل. (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وثاويا خبرها وفي أهل مدين متعلقان بثاويا وجملة تتلو في موضع نصب خبر ثان لكنت أو حال من الضمير في ثاويا، ولكنا الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها وجملة مرسلين خبرها.
(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وبجانب خبر كنت والطور مضاف اليه والظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو بجانب والخطاب في الآيتين لمحمد صلى الله عليه وسلم أي وما كنت حاضرا المكان الذي أوحينا فيه الى موسى عليه السلام ولا كنت من الشاهدين الوحي ولا كنت بجانب الطور حين ناديناه ليأخذ التوراة، وجملة(7/338)
نادينا في محل جر بإضافة الظرف إليها، ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف ورحمة مفعول لأجله أي أرسلناك وعلمناك هذا كله رحمة ومن ربك صفة لرحمة. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لتنذر اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأرسلناك المحذوفة وإنما جر المفعول لأجله باللام لاختلاف الفاعل وقوما مفعول به ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن قبلك صفة لنذير ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها.
البلاغة:
1- جناس التحريف:
في قوله: «ولكنا كنا مرسلين» جناس التحريف الذي يكون الضبط فيه فارقا بين الكلمتين أو بعضهما وقد مرت له نظائر وستمر نظائر كثيرة ومثاله في الشعر قول أبي العلاء المعري:
والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
وله أيضا:
لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل(7/339)
فالتجنيس في الأول بين «الشعر» و «الشعر» وفي الثاني بين «جمال» و «جمال» وما ألطف قول بهاء الدين زهير:
زها ورد خديك لكنه ... بغير النواظر لم يقطف
وقد زعموا أنه مضعف ... وما علموا أنه مضعفي
2- الاشارة:
وقد تقدم بحث هذا الفن أكثر من مرة وتتناوله الآن بصورة مسهبة كما نتناول الرمز الذي شاع في العصر الحديث ليكون كتابنا جامعا لأفانين الأدب، أما الإشارة في الآية فهي: ما أشارت اليه كلمة «الأمر» من قوله «وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا الى موسى الأمر» فقد أشارت الى ابتداء نبوة موسى وخطاب الحق له وإعطائه الآيات البينات من إلقاء العصا لتصير ثعبانا وإخراج يده بيضاء وإرساله إلى فرعون، وسؤاله شدّ عضده بأخيه هارون، الى جميع ما جرى في ذلك المقام، وأمثال هذه المواضيع إذا تقصاها الباحث خرجت عن حد الحصر في الكتاب العزيز.
الاشارة في الشعر:
وقد قدمنا نماذج شعرية من هذا الفن، ويرى قدامة أن أفضل بيت في الإشارة قول زهير:
وإني لو لقيتك فاجتمعنا ... لكان لكل مندية لقاء(7/340)
فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه. وأنشد الحاتمي عن علي بن هارون عن أبيه عن حماد عن أبيه اسحق بن ابراهيم الموصلي:
جعلنا السيف بين الخدّ منه ... وبين سواد لمته عذارا
فأشار الى هيئة الضربة التي أصابه بها دون ذكرها إشارة لطيفة دلت على كيفيتها وانما وصف أنهم ضربوا عنقه. ومن أنواع الاشارة التفخيم والإيماء فأما التفخيم فكقول الله تعالى «الحاقة ما الحاقة» وقول كعب بن سعد الغنوي:
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب
وأما الإيماء فكقوله تعالى «فغشيهم من اليم ما غشيهم» فأومأ الى ما غشيهم وترك التفسير وتقدم ذكره بعنوان الإبهام، وقال كثير صاحب عزة:
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح
فقوله «خلفت ما خلفت» إيماء مليح.
ومن أنواع الاشارة الرمز كقول أحدهم يصف امرأة قتل زوجها وسبيت:
عقلت لها من زوجها عدد الحصى ... مع الصبح أو مع جنح كل أصيل(7/341)
يريد أني لم أعطها عقلا ولا قودا بزوجها إلا الهم الذي يدعوها الى عدّ الحصى، وأصل العقل أخذ الدية، وعدد الحصى مفعول عقلت وأصله من قول امرئ القيس:
ظللت ردائي فوق رأسي قاعدا ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
يريد أنه لما غشي ديار الحي فلم يجد أحدا وضع رداءه فوق رأسه وجلس مفكرا يعد الحصى ودموعه لا ترقأ، ومن مليح الرمز قول أبي نواس يصف كئوسا ممزوجة فيها صور منقوشة وقد تقدم ذكر هذه الأبيات ومنها هنا:
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
يقول: ان حدّ الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكئوس الى التراقي والنحور وزيد الماء فيها مزاجا فانتهى الشراب الى فوق رءوسها، ويجوز أن يكون انتهاء الحباب الى ذلك الموضع لما مزجت فأزبدت، والأول أملح، وفائدته معرفة حدها صرفا من معرفة حدها ممزوجة وهذا عندهم مما سبق اليه أبو نواس.(7/342)
الرمزية في الشعر الحديث:
كان نشوء الرمزية رد فعلّ ضد الواقعية التي أسرفت في التأثر بالعلم والبعد عن الخيال الشعري وكما استطاعت الواقعية أن تزحزح الرومانتيكية عن مكانتها كان نشوء الرمزية إيذانا بتراجع الواقعية لتحل محلها تلك الحركة الجديدة التي احتلت الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
والشعر عند أصحاب هذا المذهب- كما يقول بعضهم- «نشوة وحلم يحملان الإنسان الى حيز اللاوعي حيث يلمح هناك من الحقائق ما لا يستطيع رؤياها عن طريق العقل والمنطق في العالم الواعي وهو لا يجد في العالم الباطني صورا تامة الوضوح يستطيع التعبير عنها تعبيرا صريحا ولكنه يعبر عنها بالرمز حتى يستطيع أن يوحي للقارىء بنفس الاحساس وينقله الى نفس الحالة» .
ومن هنا جاء الغموض في الرمزية، ثم أمعنوا في الإبهام وغلفوا الشعر بغلاف من الضباب، فأسقطوا حروف التشبيه واعتمدوا على الكلمة في ايحائهم يقدمونها ويؤخرونها عن موضعها عن قصد حتى تزيد من اشعاعاتها الموحية، وكذلك طابقوا بين الحروف والألوان وبين الألوان والمعاني فاللون الأحمر يرمز للحياة الصاخبة والدم وشهوة الحبّ والأعاصير. والأخضر يمثل الكون والطبيعة والبحر، والأزرق يمثل الانطلاق الى ما وراء المادة الكونية حيث عالم الملائكة والموسيقى التي تبلغ الأعماق. واللون البنفسجي لون الرؤى الصوفية، والأصفر للحزن والتحفز نحو عالم أفضل، والأبيض يشف عن الهدوء والسكينة والطهر. ويعبر بودلير الشاعر الفرنسي الرمزي عن العلاقة بين الألوان والعطور والأصوات في قصيدته التي يتناول فيها وحدة الطبيعة فيقول:(7/343)
الطبيعة معبد ذو أعمدة حية تنبعث منه أحيانا كلمات غامضة فيمر الإنسان من خلال غابات الرموز تحدق فيه بنظرات ألفته.
وتتمازج الأصداء الطويلة البعيدة الغموض في وحدة مظلمة عميقة رحبة كالليل وكالضياء وتتجاوب العطور والألوان والأصوات وحسبنا ما أوردناه، ومن أراد المزيد فليرجع الى ما كتب في هذا الصدد وهو كثير.
3- الاحتراس:
وفي هذه الآية نفسها فن الاحتراس وقد تقدم ذكره كثيرا، ولعل الاحتراس الذي وقع في هذه الآية أعجب احتراس وقع في القرآن فالخطاب كما قلنا موجه الى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما نفى تبارك وتعالى عن رسوله الكريم كونه بالمكان الذي قضى لكليمه موسى الأمر عرّف المكان بالجانب الغربي ولم يصفه باليمين كما قال في الإخبار عن موسى عليه السلام: «وناديناه من جانب الطور الأيمن» أدبا منه سبحانه مع نبيه أن ينفي عنه كونه في الجانب الأيمن ووصف سبحانه الجانب هاهنا باليمين إذ أخبر أنه نادى منه كليمه موسى تشريفا له.(7/344)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
هذا ولا بد من الإلماع الى أن قوله «بجانب الغربي» أصله أن يكون صفة أي بالجانب الغربي ولكن حول عن ذلك وجعله صفة لمحذوف ضرورة امتناع إضافة الموصوف الى الصفة إذ كانت هي الموصوف في المعنى وإضافة الشيء الى نفسه خطأ والتقدير جانب المكان الغربي.
[سورة القصص (28) : الآيات 47 الى 50]
وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
الإعراب:
(وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف(7/345)
كما هي القاعدة المشهورة أي ولولا إصابتهم المصيبة لهم وجوابها محذوف تقديره لما أرسلنا رسولا ومصيبة فاعل وبما متعلقان بتصيبهم وجملة قدمت صلة. (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة ويقولوا عطف على أن تصيبهم وربنا منادى مضاف ولولا تحضيضية بمعنى هلا وأرسلت فعل وفاعل وإلينا متعلقان بأرسلت ورسولا مفعول به، فنتبع الفاء فاء السببية ونتبع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية وفاعل نتبع مستتر تقديره نحن وآياتك مفعول به ونكون عطف على نتبع واسم نكون ضمير مستتر تقديره نحن ومن المؤمنين خبره.
هذا وقد شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين قال الزمخشري:
«فإن قلت كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟ قلت: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها لولا، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويئول معناه الى قولك ولولا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهم أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما الجئوا به الى العلم اليقين لم يقولوا: «لولا أرسلت إلينا رسولا» وانما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الايمان بخالقهم، وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى» .(7/346)
والسر في جعل سبب السبب سبا وعطف السبب الأصلي عليه أمران: أحدهما أن مزيد العناية يوجب التقديم وهذا هو السر الذي أبداه سيبويه والثاني أن في هذا النظم تنبيها على سببية كل واحد منهما، أما الاول فلاقترانه بحرف التعليل وهو أن وأما الثاني فلاقترانه بفاء السبب، وكان بعض النحاة يورد إشكالا بهذه الآية فيقول «لولا» عند أهل الفن تدل على امتناع جوابها لوجو ما بعدها وحينئذ يكون الواقع بعدها في الآية موجودا وهو عقوبة هؤلاء المذكورين بتقدير عدم بعثة الرسل وجوابها المحذوف غير واقع وهو عدم الإرسال لأنه ممتنع بالأولى. ومتى لم يقع عدم الإرسال كان الإرسال واقعا ضرورة فيشكل الواقع بعدها إذ لا ظلم قبل بعثة الرسل فلا تتصور العقوبة بتقدير عدم البعثة وذلك لأنها واقعة جزاء على مخالفة أحكام الشرع فإن لم يكن شرع فلا مخالفة ولا عقوبة، ويشكل الجواب على النحاة لأنه يلزم أن لا يكون واقعا وهو عدم بعثة الرسل لكن الواقع بعدها يقتضي وقوعه والتحرير في معنى لولا أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس «لو» فإن معناها لزوم جوابها لما بعدها ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا والآية من قبيل فرض وجود المانع وكذلك اللزوم في «لو» قد يكون الشيء الواحد لازما لشيئين فلا يلزم نفيه من نفي أحد ملزوميه وعلى هذا التحرير يزول الاشكال.
(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وجاءهم الحق فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن عندنا متعلقان بجاءهم وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب لما ولولا حرف تحضيض أي هلا وأوتي(7/347)
فعل ماض ونائب الفاعل مستتر تقديره هو أي محمد صلى الله عليه وسلم ومثل مفعول به ثان وما اسم موصول مضاف لمثل وجملة أوتي صلة وموسى نائب فاعل. (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التقريري والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكفروا فعل مضارع مجزوم بلم وبما متعلقان بيكفروا وجملة أوتي موسى صلة ومن قبل متعلقان بأ ولم يكفروا أو بأوتي فيكون المعنى أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد وبالقرآن فقد كفروا بموسى وبالتوراة.
(قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) فجملة قالوا مفسرة وسحران خبر لمبتدأ محذوف أي هما ساحران وجملة تظاهرا نعت لسحران أي تعاونا بتصديق أحدهما الآخر وقالوا عطف على قالوا وإنا ان واسمها وبكل متعلقان بكافرون وكافرون خبر انا والجملة مقول القول. (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر وبكتاب متعلقان بفأتوا ومن عند الله متعلقان بمحذوف صفة وهو مبتدأ وأهدى خبر ومنهما متعلقان بأهدى والجملة صفة ثانية لكتاب وأتبعه فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره أنا والهاء مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فأتوا والأمر هنا للتعجيز المشوب بالتوبيخ والتقريع. (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولك متعلقان بيستجيبوا والفاء رابطة لجواب الشرط واعلم فعل أمر وأنما كافة(7/348)
ومكفوفة لإفادة الحصر ويتبعون فعل مضارع مرفوع وفاعل وأهواءهم مفعول وإنما وما في حيزها سدت مسد مفعولي أعلم.
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي والإنكار في محل رفع مبتدأ وأضل خبره وممن متعلقان بأضل وجملة اتبع هواه صلة من وبغير هدى حال ومن الله صفة لهدى وجملة إن الله تعليل لما تقدم وان واسمها وجملة لا يهدي القوم الظالمين خبرها.
الفوائد:
نظرا لانغلاق التراكيب الواردة في الآية المتقدمة وهي قوله تعالى «ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين» . وسمو إعجازه نورد بالإضافة الى ما قدمناه في الاعراب ما قاله الشهاب الخفاجي في حاشيته الممتعة على البيضاوي ففيه إيضاح لما أوضحناه، قال ما ملخصه: ان الآية تقتضي وجود إصابتهم ووجود قولهم المذكور، والواقع انهم لم يصابوا ولم يقولوا القول المذكور فحينئذ يشكل هذا الترتيب من حيث أن لولا حرف امتناع لوجود فيصير المعنى أرسلناك إليهم لنزول المصيبة بهم ووجود قولهم المذكور وهذا غير صحيح، وتكلف بعضهم الجواب بأن في الكلام حذف المضاف والتقدير ولولا كراهة أن تصيبهم إلخ، فالمحقق في الموجود انما هو كراهة مصيبتهم المترتب عليها قولهم المذكور فيكون المعنى أرسلناك إليهم لأجل كراهة أن يصابوا فيقولوا ما ذكر وقيل إن التحقيق أن(7/349)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
لولا إنما تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها والمانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما هنا من الثاني فلا إشكال فيه وان لم يقدر المضاف اه.
[سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 56]
وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
الإعراب:
(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) الواو استئنافية ولك أن تجعلها عاطفة ليتساوق الكلام واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ووصّلنا فعل ماض مبني على السكون ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل ولهم متعلقان بوصلنا والقول مفعول به أي اتبعنا بعضه بعضا في الانزال ليتصل التذكير، ولعل واسمها وجملة(7/350)
يتذكرون خبر لعلّ أي جعلناه متنوعا يشتمل على الوعد والوعيد والنصائح والمواعظ والقصص لعلهم يتعظون به. (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) الذين اسم موصول مبتدأ وجملة آتيناهم صلة وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ومن قبله حال وهم مبتدأ ثان وبه جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وجملة يؤمنون خبر «هم» وجملة هم به يؤمنون خبر الذين وهم أهل الكتاب الذين آمنوا وكان عددهم أربعين رجلا وقيل ثمانين. (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة يتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها ويتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بيتلى ونائب الفاعل مستتر تقديره هو يعود على القرآن وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة آمنا مقول القول وبه متعلقان بآمنا. (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان وتعليل ما استدعى إيمانهم به وان واسمها والحق خبر إن ومن ربنا حال وإنا كنا إلخ كلام مستأنف أيضا مسوق لبيان أن إيمانهم ليس بدعا ولا مستحدثا وانما هو أمر متقادم العهد وإن واسمها وجملة كنا خبرها ومن قبله حال ومسلمين خبر كنا لأن الإسلام صفة كل مؤمن مصدق للوحي.
(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) أولئك مبتدأ وجملة يؤتون خبر ويؤتون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وأجرهم مفعول به ثان ومرتين نصب على المصدرية أو الظرفية وبما صبروا متعلقان بيؤتون والباء حرف جر للسببية وما مصدرية اي بسبب صبرهم. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(7/351)
ويدرءون عطف على يؤتون أي يدفعون والواو فاعل وبالحسنة متعلقان بيدرءون والسيئة مفعول به ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة وينفقون عطف على يدرءون. (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة سمعوا مجرورة باضافة الظرف إليها واللغو مفعول به وجملة أعرضوا لا محل لها وعنه متعلقان بأعرضوا، وقالوا عطف على أعرضوا ولنا خبر مقدم وأعمالنا مبتدأ مؤخر ولكم أعمالكم عطف على ما تقدم. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) سلام مبتدأ وساغ الابتداء به لأن فيه معنى الدعاء وعليكم خبر والسلام هنا سلام توديع ومتاركة لا سلام تحية ومواصلة وجملة لا نبتغي الجاهلين حالية ولا نافية ونبتغي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن والجاهلين مفعول به. (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حرصه على إيمان عمه أبي طالب وان واسمها وجملة لا تهدي خبرها والفاعل مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة أحببت صلة ولكن الله الواو عاطفة أو حالية ولكن واسمها وجملة يهدي خبرها ومن يشاء مفعول به وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم.
الفوائد:
قال الزجاج: أجمع المسلمون على أن هذه الآية: «انك لا تهدي إلخ» نزلت في أبي طالب لما احتضرته الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها لك عند الله، فقال: يا ابن أخي قد علمت انك لصادق ولكن أكره(7/352)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون غليك وعلى بني أبيك غضاضة لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك وأنشد:
لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف. وهناك روايات أخرى مختلفة لا تخرج عن هذه الفحوى.
[سورة القصص (28) : الآيات 57 الى 60]
وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60)(7/353)
الإعراب:
(وَقالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على ما تقدم فهي بمثابة تفريع على قصة أبي طالب، قالوا: إن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إنا نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا. وإن شرطية ونتبع فعل الشرط مجزوم وفاعله مستتر تقديره نحن والهدى مفعول به ومعك ظرف متعلق بمحذوف حال ونتخطف جواب الشرط وهو فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره نحن ومن أرضنا متعلقان بنتخطف. (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وبه يرد عليهم دعواهم التي لا أساس لها من الصحة بأنه مكن لهم في الحرم الذي آمنه بحرمة البيت وآمن قطانه بحرمته وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. ولم حرف نفي وقلب وجزم ونمكن فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنمكن وحرما مفعول به وآمنا صفة وجملة يجبى صفة ثانية لحرما ومعنى يجبى اليه يساق ويحمل اليه ويجمع لازدهاره وإليه متعلقان بيجبى وثمرات كل شيء نائب فاعل ورزقا مفعول مطلق لقوله يجبى لأن معنى الجباية والرزق واحد والمراد تساق اليه الميرة وأعربه آخرون مفعولا لأجله وأجازه الزمخشري وفي النفس منه شيء ويجوز أن يكون رزقا مصدرا بمعنى المفعول فينتصب على الحال من الثمرات لتخصصها بالإضافة ومن لدنا صفة لرزقا والواو حالية أو عاطفة ولكن أكثرهم لكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها.(7/354)
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) يجوز أن يكون كلاما مستأنفا مسوقا لتخويف أهله من سوء مغبة من كانوا في نعمة فغمطوها وقابلوها بالبطر، والبطر بفتحتين النشاط والأشر وقلة احتمال النعمة والدهش والحيرة والطغيان بالنعمة وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة، قال في القاموس: «وفعل الكل كفرح وبطر الحق أن يتكبر عنه فلا يقبله» ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله ليتساوق الكلام. وكم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا ومن قرية تمييز كم الخبرية المجرور بمن وقد تقدم تقرير ذلك فجدد به عهدا وجملة بطرت صفة لقرية ومعيشتها منصوب بنزع الخافض على حد قوله:
«واختار موسى قومه سبعين رجلا» أي في معيشتها وهذا أقرب ما قيل فيه وأقله تكلفا وقال الزجاج هو نصب على الظرفية الزمانية أي أيام معيشتها ويجوز تضمين بطرت معنى خسرت فتكون معيشتها مفعولا به واقتصر عليه أبو البقاء. (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) فتلك الفاء عاطفة وتلك مبتدأ ومساكنهم خبر وجملة لم تسكن يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون حالا والعامل فيها معنى الاشارة وإلا أداة حصر وقليلا ظرف أي إلا وقتا قليلا فالاستثناء من الظرف أو مفعول مطلق أي إلا سكنى قليلا فالاستثناء من المصدر ولا مرجح لأحد الوجهين، والواو عاطفة أو حالية وكنا كان واسمها ونحن ضمير فصل أو عماد والوارثين خبر كنا وسيأتي مزيد من هذا المعنى في باب البلاغة.
(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) كلام مستأنف مسوق لبيان عادة الله تعالى في عباده، وما نافية وكان ربك كان واسمها ومهلك القرى خبرها وحتى حرف(7/355)
تعليل وجر ويبعث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد حتى والفاعل مستتر يعود على الله وفي أمها متعلقان بيبعث ورسولا مفعول به وجملة يتلو صفة لرسولا وعليهم متعلقان بيتلو وآياتنا مفعول به والمراد بأمها أعظمها والتعميم هنا خير من تخصيصها بمكة. (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها ومهلكي القرى خبرها وإلا أداة حصر والواو حالية وأهلها مبتدأ وظالمون خبر والجملة حالية فالاستثناء من أعم الأحوال أي وما كنا نهلكهم في حال من الأحوال إلا في حال كونهم ظالمين. (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) الواو عاطفة أو استئنافية وما اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وأوتيتم فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل ومن شيء حال مبينة لمن والفاء رابطة للجواب ومتاع خبر لمبتدأ محذوف والحياة مضاف اليه والدنيا صفة وزينتها عطف على متاع والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل والجواب خبر ما. (وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية وما اسم موصول مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف صلة للموصول وخير خبر وأبقى عطف على خير والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية وتعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعل.
البلاغة:
الإسناد المجازي:
في قوله «حرما آمنا» إسناد مجازي لأن المراد أهل الحرم وقد تقدم بحثه كثيرا ومثله «وكم أهلكنا من قرية» المراد أهلها بدليل(7/356)
قوله فيما بعد «فتلك مساكنهم لم تسكن إلا قليلا» أي لقد زهوا بها حينا من الدهر وغرتهم الأماني، وأبطرتهم النعمة، وكان ديدنهم ديدن المترفين الرافلين في حلل السعادة، فما عتموا أن فنوا وطوتهم الأيام وبقيت آثارهم شواخص، أطلالا باهتة، ورسوما محيلة، تهزأ بهم، وتدل الآخرين على أفن رأيهم وطيش أحلامهم. وقد رمق المتنبي سماء هذه البلاغة العالية في قصيدته الخالدة التي رثى بها أبا شجاع فاتكا فقال بيته المشهور:
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
يريد أن الآثار، وهي البنيان، تبقى بعد أربابها لتدل على تمكنهم وقوتهم وسطوتهم ثم ينالها بعدهم ما نالهم من الفناء وأن الخراب سيدركها فتذهب الآثار كما ذهب المؤثرون لها فهذه هي عادة الدنيا بأهلها، وهذا هو المعهود من تصاريفها، ويحسن بنا أن نورد لك نخبة مختارة من هذه القصيدة جريا على شرطنا في هذا الكتاب:
الحزن يقلق والتجمل يردع ... والدمع بينهما عصيّ طيّع
يتنازعان دموع عيد مسهّد ... هذا يجيء بها وهذا يرجع
النوم بعد أبي شجاع نافر ... والليل معي والكواكب ظلّع
قال ابن جني «لو كان الليل والكواكب مما يؤثر فيهما حزن لأثر فيهما موته» وقال الخطيب: «إنما أراد أن الليل طويل لفقده فالليل معي والكواكب ظلع ما تسير» وقال الواحدي «النوم بعده لا يألف العين(7/357)
فلا تنام حزنا عليه والليل من طوله كأنه قد أعيا عن المشي فانقطع والكواكب كأنها ظالعة لا تقدر أن تقطع الفلك فتغرب، كل هذا يصف به ليله بعده من الحزن عليه» وقال الواحدي: وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال سنة 350 هـ.
ومضى أبو الطيب يقول:
إني لأجبن عن فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلم بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقّع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار البيت(7/358)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
[سورة القصص (28) : الآيات 61 الى 64]
أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64)
الإعراب:
(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة لترتيب إنكار التساوي بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين الجانبين ومن اسم موصول مبتدأ وجملة وعدناه صلة وكمن خبرها ووعدناه فعل وفاعل ومفعول به ووعدا مفعول مطلق وحسنا صفة والفاء عاطفة وهو مبتدأ ولاقيه خبر والكاف اسم بمعنى مثل خبر أو جار ومجرور في موضع الخبر وجملة متعناه صلة من ومتاع الحياة الدنيا مفعول مطلق وثم حرف عطف وهو مبتدأ ويوم القيامة ظرف متعلق بالمحضرين ومن المحضرين خبر هو وللزمخشري كلام مفيد في تحليل هذه الآية من الناحية الاعرابية نورده فيما يلي:(7/359)
«فإن قلت فسر لي الفاءين وثم وأخبرني عن مواقعها قلت:
قد ذكر في الآية التي قبلها متاع الحياة الدنيا وما عند الله وتفاوتهما ثم عقبه بقوله: أفمن وعدناه على معنى أبعد، هذا التفاوت الظاهر يسوّي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا فهذا معنى الفاء الأولى وبيان موقعها وأما الثانية فللتسبيب لأن لقاء الموعود مسبّب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير وأما ثم فلتراخي حال الإحضار عن حال التمتيع لا لتراخي وقته عن وقته» .
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) الظرف متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر والكلام مستأنف وجملة يناديهم مجرورة بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على الله والهاء مفعول به، والقصد من هذا النداء التوبيخ والتقريع، فيقول عطف على يناديهم وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر والذين صفة لشركائي وجملة كنتم صلة الذين وكان واسمها وجملة تزعمون خبرها ومفعولا تزعمون محذوفان تقديرهما تزعمونهم شركائي، وسيأتي في باب الفوائد ذكر حذف مفعولي ظننت وأخواتها، وجملة أين شركائي مقول القول.
(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) كلام مستأنف مسوق للإجابة عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا صدر عنهم حينئذ. وقال الذين فعل وفاعل وجملة حق عليهم صلة والقول فاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء(7/360)
وهؤلا مبتدأ والذين صفة لهؤلاء وجملة أغوينا صلة وجملة أغويناهم خبر هؤلاء وكما أغوينا نعت لمصدر محذوف أي أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا وقد جربنا في هذا الإعراب على ما أعربه الزمخشري وأبو حيان.
(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) الجملة مفسرة مقررة لما قبلها وتبرأنا فعل ماض وفاعل وإليك متعلقان بتبرأنا وما نافية وكان واسمها وإيانا مفعول مقدم ليعبدون وجملة يعبدون خبر كانوا، وأجاز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية والمصدر منصوب بنزع الخافض أي مما كانوا يعبدون أي من عبادتهم إيانا ولا أرى داعيا لهذا التكلف لأن المعنى ما كانوا يعبدوننا وانما كانوا يعبدون أهواءهم ويسترسلون مع شهواتهم. (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هذا القول تهكما بهم وتبكيتا لهم وادعوا فعل أمر وفاعله وشركاءكم مفعول به فدعوهم الفاء عاطفة ودعوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به، والفاء عاطفة ويستجيبوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولهم متعلقان بيستجيبوا.
(وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) الواو عاطفة ورأوا العذاب فعل ماض وفاعل ومفعول به ولو شرطية وان وما بعدها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت كونهم مهتدين في الدنيا لما رأوا العذاب في الآخرة وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وجملة يهتدون خبرها.(7/361)
الفوائد:
يجوز بإجماع النحاة حذف مفعولي ظننت وأخواتها من أفعال القلوب اختصارا لدليل يدل عليهما نحو «أين شركائي الذين كنتم تزعمون» وقول الكميت يمدح آل البيت:
بأي كتاب أم بأية سنة ... ترى حبهم عارا عليّ وتحسب
فحذف في الآية مفعولا تزعمون وفي البيت مفعولا تحسب لدليل ما قبلهما عليهما أي تزعمونهم شركاء وتحسب حبهم عارا علي، وأما حذف أحدهما اختصارا لدليل فقد أجازه الجمهور كقوله تعالى «ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم» تقديره ولا يحسبن الذين يبخلون ما يبخلون به هو خيرا لهم فحذف المفعول الأول للدلالة عليه، وكقول عنترة:
ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
تقديره فلا تظني غيره مني واقعا، فحذف المفعول الثاني، والتاء في نزلت مكسورة والحاء والراء من المحب المكرم مفتوحتان.
وفي الباب الخامس من المغني بيان انه قد يظن الشيء من باب الحذف وليس منه: جرت عادة النحويين أن يقولوا: يحذف المفعول اختصارا واقتصارا ويريدون بالاختصار الحذف لدليل وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه ينحو «كلوا واشربوا» أي أوقعوا هذين الفعلين، وقول العرب فيما يتعدى الى اثنين: من يسمع يخل، أي تكن منه(7/362)
خيلة. والتحقيق أن يقال إنه تارة يتعلق الغرض بالاعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه فيجاء بمصدره مسندا الى فعل كون عام، فيقال حصل حريق أو نهب. وتارة يتعلق بالاعلام بمجرد إيقاع الفاعل للفعل فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوى إذ المنويّ كالثابت ولا يسمى محذوفا لأن الفعل ينزل لهذا القصد بمنزلة ما لا مفعول له، ومنه: «ربي الذي يحيي ويميت، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كلوا واشربوا ولا تسرفوا، وإذا رأيت ثم» إذ المعنى ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة، وهل يستوي من يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم، وأوقعوا الأكل والشرب وذروا الإسراف، وإذا حصلت منك رؤية هنالك، ومنه على الأصح: «ولما ورد ماء مدين» الآية، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام إنما رحمهما إذ كانتا على صفة الذياد وقومهما على السقي لا لكون مذودهما غنما ومسقيهم إبلا، وكذلك المقصود من قولهما «لا نسقي» لا المسقي، ومن لم يتأمل قدّر: يسقون إبلهم وتذودان غنمهما ولا نسقي غنمنا. وتارة يقصد إسناد الفعل الى فاعله وتعليقه بمفعوله فيذكران نحو «لا تأكلوا الربا، ولا تقربوا الزنا» وقولك ما أحسن زيدا، وهذا النوع إذا لم يذكر مفعوله قيل محذوف نحو «ما ودعك ربك وما قلى» وقد يكون في اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره نحو: «أهذا الذي بعث الله رسولا، وكل وعد الله الحسنى» و:
حميت حمى تهامة بعد نجد ... وما شيء حميت بمستباح(7/363)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
[سورة القصص (28) : الآيات 65 الى 70]
وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69)
وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
الإعراب:
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟) كلام معطوف على ما قبله فقد سئلوا أولا عن إشراكهم وسئلوا ثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك، فيقول عطف على يناديهم وماذا اسم استفهام بكاملها في محل نصب لمفعول مطلق لا مفعول به لأن أجاب لا يتعدى الى الثاني بنفسه بل بالباء، وإسقاط الجار ليس بقياس والمعنى أجبتموهم أي إجابة، والمرسلين مفعول به لأجبتم. (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) الفاء عاطفة وعميت عليهم الأنباء فعل وفاعل وسيأتي بحث إسناد العمى للأنباء في باب البلاغة، ويومئذ ظرف أضيف الى مثله والتنوين في يومئذ عوض عن جملة، أي: يوم، إذ نودوا وقيل لهم ماذا أجبتم المرسلين، فهم الفاء عاطفة(7/364)
وهم مبتدأ وجملة لا يتساءلون خبر. (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وأما حرف شرط وتفصيل ومن اسم موصول مبتدأ وجملة تاب صلة وعمل صالحا فعل وفاعل مستتر ومفعول به أو مفعول مطلق أي عمل عملا صالحا والفاء رابطة وعسى فعل ماض جامد من أفعال الرجاء التي تعمل عمل كان واسمها مستتر تقديره هو وأن وما في حيزها خبرها والرجاء من الكرام بمثابة التحقيق أو يكون الرجاء على بابه ولكنه من قبل التائب ومن المفلحين خبر يكون. (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) الواو استئنافية وربك مبتدأ وجملة يخلق خبر وما مفعول به ويشاء صلة ويختار عطف على يخلق وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولهم خبرها المقدم والخيرة اسمها المؤخر والجملة مفسرة لأنها مقررة لما قبلها، ويجوز أن تكون مستأنفة، وقيل إن ما مصدرية أي يختار اختيارهم والمصدر واقع موقع المفعول أي مختارهم، وقيل ان ما موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي ما كان لهم الخيرة فيه، وقيل أيضا ان كان تامة، وجملة لهم الخيرة كلام مستأنف وسبحان الله مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وفاعله هو وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة.
(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) الواو عاطفة وربك مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به وتكن صلة وصدورهم فاعل وما عطف على ما الأولى وجملة يعلنون صلة. (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهو(7/365)
مبتدأ والله خبر وجملة لا إله إلا هو خبر ثان وقد تقدم اعراب كلمة التوحيد والاختلاف فيها وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر والجملة خبر ثالث وفي الأولى حال والآخرة عطف على الأولى واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع والواو نائب فاعل.
البلاغة:
1- إسناد العمى الى الأنباء مجاز عقلي وقد تقدم كثيرا والمراد أن الأنباء صارت كالعمى لا تهتدي إليهم وقيل انه من باب القلب وان أصله فعموا عن الأنباء والقلب، كما تقدم، من محسنات الكلام.
2- الادماج:
في قوله «له الحمد في الأولى والآخرة» الادماج، وحدّه أن يدمج المتكلم إما غرضا في غرض أو بديعا في بديع بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أو أحد البديعين والآخر مدمج في الغرض الذي هو موجود في الكلام، فإن هذه الآية أدمجت فيها المبالغة في المطابقة لأن انفراده سبحانه بالحمد في الآخرة وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه مبالغة في وصف ذاته بالانفراد والحمد وهذه وإن خرج الكلام فيهما مخرج المبالغة في الظاهر فالأمر فيها حقيقة في الباطن لأنه أولى بالحمد في الدارين ورب الحمد والشكر والثناء الحسن في المحلين حقيقة، وغيره من جميع خلقه إنما يحمد في الدنيا مجازا، وحقيقة حمده راجعة الى ولي الحمد سبحانه.(7/366)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
اللغة:
(سَرْمَداً) : السرمد: الدائم المتصل وقد اختلف العلماء في اشتقاقه فقيل هو من السرد وهو المتابعة والميم مزيدة ووزنه فعمل كما في دلامص من الدلاص يقال درع دلاص أي ملساء متينة وهذا ما رجحه الزمخشري وغيره واختار صاحب القاموس وبعض النحاة أن الميم أصلية ووزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط والآخر.
الإعراب:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الهمزة للاستفهام ورأيتم فعل وفاعل أي أخبروني وإن شرطية وجعل(7/367)
الله عليكم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والله فاعل وعليكم حال والليل مفعول جعل الأول وسرمدا مفعوله الثاني والى يوم القيامة صفة لسرمدا وقد علقت أرأيتم عن العمل بسبب الاستفهام وجواب الشرط محذوف يقدر بما يقتضيه السياق وتقديره فأخبروني.
(مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) الجملة الاستفهامية في محل نصب مفعول أرأيتم ومن اسم استفهام مبتدأ وإله خبر وغير الله صفة إله وجملة يأتيكم صفة ثانية لإله وبضياء جار ومجرور متعلقان بيأتيكم، أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف مقدر ولا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعل.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) تقدم اعرابها.
(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) من رحمته خبر مقدم وجعل لكم مؤول بمصدر بتقدير أن مبتدأ مؤخر وهو كثير في كلامهم ومنه المثل:
تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وجعل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولكم مفعول جعل الثاني والليل مفعول جعل الأول والنهار عطف على الليل، وزواج بينهما لنكتة سيرد تفصيلها في باب البلاغة، ولتسكنوا اللام للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وفيه متعلقان بتسكنوا ولتبتغوا من فضله عطف على لتسكنوا ولعلكم لعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) تقدم اعرابها بلفظها قريبا فجدد به عهدا. (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) الواو عاطفة ليتساوق الكلام ونزعنا فعل وفاعل أي أخرجنا(7/368)
ومن كل أمة متعلقان بنزعنا وشهيدا مفعول به، فقلنا عطف على نزعنا وجملة هاتوا مقول القول وهاتوا فعل أمر وفاعل وبرهانكم مفعول به. (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الفاء عاطفة وعلموا فعل ماض وفاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي علموا وأن واسمها ولله خبرها وضل فعل ماض وعنهم متعلقان بضل وما فاعل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يفترون خبرها.
البلاغة:
1- المناسبة:
في قوله «أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا» الى قوله «أفلا تبصرون» فن المناسبة وهي ضربان: مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ فالمعنوية هي أن يبتدىء المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، فإنه سبحانه لما أسند جعل الليل سرمدا الى يوم القيامة لنفسه وهو القادر الذي جعل الشيء لا يقدر غيره على مضادته قال «أفلا تسمعون» لمناسبة السماع للطرف المظلم من جهة صلاحية الليل للسماع دون الإبصار لعدم نفوذ البصر في الظلمة، ولما أسند جعل النهار سرمدا الى يوم القيامة لنفسه كأن لم يخلق فيه ليل البتة قال في فاصلة هذه الآية «أفلا تبصرون» لمناسبة ما بين النهار والإبصار.
أما المناسبة اللفظية فسيأتي حديثها في هذا الكتاب.(7/369)
2- اللف والنشر:
اللف والنشر في قوله «ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون» وقد تقدم بحث هذا الفن وذكرنا انه عبارة عن ذكر متعدد على وجه التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ويرده الى ما هو له، فقد زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة أولها: لتسكنوا في أحدهما وهو الليل، ولتبتغوا من فضل في ثانيهما وهو النهار، ولإرادة شكركم وهذا من أطرف ما يتفنن به المتكلم نثرا أو شعرا.
3- صحة المقابلات:
وفي هذه الآية أيضا فن عرفوه بأن صحة المقابلات، وهو عبارة عن توخي المتكلم ترتيب الكلام على ما ينبغي فإذا أتى في صدره بأشياء قابلها في عجزه بأضدادها أو بأغيارها من المخالف والموافق على الترتيب بحيث يقابل الأول بالأول والثاني بالثاني ولا يخرم من ذلك شيئا في المخالف والموافق ومتى أخل بالترتيب كان الكلام فاسد المقابلة، وهذه الآية من معجز هذا الباب، فقد جاء الليل والنهار في صدر الكلام وهما ضدان وجاء السكون والحركة في عجزه وهما ضدان ومقابلة كل طرف منه بالطرف الآخر على الترتيب، وعبر سبحانه عن الحركة بلفظ الارداف فاستلزم الكلام ضربا من المحاسن زائدا على المقابلة والذي أوجب العدول عن لفظ الحركة الى لفظ ابتغاء الفضل كون الحركة تكون لمصلحة ولمفسدة وابتغاء الفضل حركة للمصلحة دون المفسدة وهي اشتراك الإعانة بالقوة وحسن الاختيار(7/370)
الدال على رجاحة العقل، وسلامة الحسّ ويستلزم إضاءة الطرف الذي تلك الحركة المخصوصة واقعة فيه ليهتدي المتحرك الى بلوغ المآرب ووجوه المصالح ويتقي أسباب المعاطب، والآية سيقت للاعتداد بالنعم فوجب العدول عن لفظ الحركة الى لفظ هو ردفه وتابعه ليتم حسن البيان فتضمنت هذه الكلمات التي هي بعض آية عدة من المنافع والمصالح التي لو عددت بألفاظها الموضوعة لها لاحتاجت في العبارة عنها الى ألفاظ كثيرة فحصل بهذا الكلام بهذا السبب عدة ضروب من المحاسن ألا تراه سبحانه جعل العلة في وجود الليل والنهار حصول منافع الإنسان حيث قال «لتسكنوا» و «لتبتغوا» بلام التعليل فجمعت هذه الكلمات المقابلة والتعليل والاشارة والإرداف والائتلاف وحسن النسق وحسن البيان لمجيء الكلام فيها متلاحما آخذة أعناق بعضه بأعناق بعضه، ثم أخبر بالخبر الصادق أن جميع ما عدده من النعم التي هي من لفظي الإشارة والإرداف بعض رحمته حيث قال بحرف التبعيض «ومن رحمته» وكل هذا في بعض آية عدتها إحدى عشرة لفظة، فالحظ هذه البلاغة الظاهرة والفصاحة المتظاهرة.
4- التفسير:
وفي قوله «ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون» فن التفسير وهو أن تذكر أشياء ثم تفسرها بما يناسبها، ومنه قول ابن حيوس.
ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه
فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه(7/371)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 82]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)(7/372)
اللغة:
(لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) أي تنوء بها العصبة أن تتكلف النهوض بها وسيأتي مزيد عن القلب في هذا التعبير في باب البلاغة، يقال ناء ينوء نوءا وتنواء: نهض بجهد ومشقة وناء به الحمل أثقله وأماله وناء النجم سقط في المغرب مع الفجر وطلع آخر يقابله من ساعته في المشرق وفي المصباح: «وناء ينوء نوءا مهموز من باب قال: نهض» وفي القاموس:
ناء بالحمل نهض متثاقلا وناء به الحمل أثقله وأماله كأناءه وناء فلان أثقل فسقط ضد.
(المفاتح) : جمع مفتاح وكان حقه أن يجمع على مفاتيح ولكن هذه الياء قد تحذف كما أنهم قد يجتلبون ياء في الجمع الذي لا ياء فيه وقيل إن مفاتحه جمع مفتح فلا حذف فيه.
الإعراب:
(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) كلام مستأنف مسوق لذكر قصة قارون وما تنطوي عليه من عظات وعبر، وإن حرف مشبه بالفعل وقارون اسمها وهو علم أعجمي مثل هارون ولم ينصرف للعلمية والعجمة ولو كان فاعولا من قرن لانصرف، وستأتي قصته قريبا وجملة كان خبر إن واسم كان مستتر يعود على قارون ومن قوم موسى خبر كان أي ابن عمه أو ابن خالته وآمن به كما سيأتي. (فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) الفاء عاطفة وبغى فعل ماض وفاعله مستتر يعود على قارون وعليهم متعلقان بيبغى وآتيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن الكنوز(7/373)
متعلقان بآتيناه وما اسم موصول مفعول به ثان لآتيناه وإن حرف مشبه بالفعل ومفاتحه اسم إن ولتنوء اللام المزحلقة وتنوء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هي يعود على المفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به والجملة خبر إن وجملة إن مفاتحه لتنوء بالعصبة لا محل لها لأنها صلة وبالعصبة متعلقان بتنوء وأولي القوة صفة للعصبة. (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) الظرف متعلق بتنوء وقيل باذكر مضمرا وقال أبو البقاء: «ظرف لآتيناه، ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام أي بغى إذ قال له قومه» وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها وله متعلقان بقال وقومه فاعل وجملة لا تفرح مقول القول ولا ناهية وتفرح فعل مضارع مجزوم بلا وفاعل تفرح مستتر تقديره أنت وجملة إن الله تعليل للنهي وسيأتي سر هذا التعليل في باب البلاغة وان واسمها وجملة لا يحب الفرحين خبرها.
(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) الواو عاطفة وابتغ فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت وفي حرف جر وما مصدرية أو موصولية والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال أي متقلبا فيما آتاك ومعنى «في» هنا السببية وجملة آتاك الله لا محل لها وآتاك الله فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والدار مفعول ابتغ والآخرة صفة للدار ولا تنس لا ناهية وتنس فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت ونصيبك مفعول به ومن الدنيا متعلقان بمحذوف على أنه حال والنصيب ما يكفيك ويسد حاجتك ويصلح أمورك، وسيأتي مزيد(7/374)
بحث من النصيب والمراد منه في باب البلاغة. (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الواو عاطفة وأحسن فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكما نعت لمصدر محذوف أي إحسانا مثل الإحسان الذي أحسن الله به إليك وإليك متعلقان بأحسن ولا تبغ الفساد عطف على ما تقدم وفي الأرض متعلقان بالفساد أو بتبغ وجملة إن الله تعليل للنهي المتقدم وان واسمها وجملة لا يحب المفسدين خبرها. (قالَ: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) استئناف مسوق للإجابة عن قولهم إن ما عندك تفضل وإنعام من الله فأنفق منه شكرا لمن أنعم به عليك، وإنما كافة ومكفوفة وأوتيته فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والهاء مفعول به ثان وعلى علم في موضع الحال من نائب الفاعل في أوتيته وعندي ظرف متعلق بمحذوف صفة لعلم أي إنما أوتيته حال كوني متصفا بالعلم الذي عندي. قالوا: لم يكن في بني إسرائيل أعلم منه بالتوراة بعد موسى وهارون. (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر دخلت عليه الهمزة، أي أعلم ما ادعاه أو لم يعلم، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويعلم فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على قارون وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وأن واسمها وجملة قد أهلك خبرها وفاعل أهلك ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله ومن قبله متعلقان بأهلك ومن القرون حال من «من هو أشد» مقدمة عليه ومن اسم موصول مفعول به لأهلك وهو مبتدأ وأشد خبر والجملة صلة الموصول وقوة تمييز ومنه متعلقان بأشد وأكثر جمعا عطف على أشد منه قوة.(7/375)
(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة لتربط الجملة بما قبلها على سبيل التهديد والوعيد أي ان الله مطلع على ذنوب المجرمين لا يحتاج الى سؤال عنها، ولا نافية ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول وعن ذنوبهم متعلقان بيسأل والمجرمون نائب فاعل.
(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) الفاء عاطفة على قال «إنما أوتيته على علم» وما بينهما اعتراض وعلى قومه متعلقان بخرج وفي زينته متعلقان بمحذوف حال أي متبخترا في زينته متقلبا في تعاجيبه، وسيأتي وصف مسهب للزينة التي خرج حاليا بها. (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان الشعور الذي خالج المؤمنين والكافرين على السواء عند ما رأوا هذا النعيم المتدفق والرواء العجيب جريا على ديدن البشر من تمني المناعم. وقال الذين فعل وفاعل وجملة يريدون صلة والحياة مفعول به والدنيا صفة للحياة ويا حرف نداء والمنادى محذوف وليت حرف تمن ونصب ولنا خبرها ومثل اسمها المؤخر وما اسم موصول مضاف اليه وجملة أوتي صلة وهو فعل ماضي مبني للمجهول وقارون نائب فاعل وهذا التمني على سبيل الغبطة وهي أن يتمنى الإنسان مثل نعمة صاحبه من غير أن يتمنى زوالها منه أما الحسد فهي تمني النعمة التي يتمتع بها المحسود وزوالها عنه، وفي الحديث:
«قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يضر الغبط؟ فقال: لا إلا كما يضرّ العضاة الخبط» والعضاة كل شجر يغطلم فيه شوك والخبط ضرب الشجرة بالعصا ليسقط ورقها. وان واسمها واللام المزحلقة وذو حظ خبرها وعظيم صفة لحظ. والحظ: البخت والجد يقال رجل مبخوت ومجدود كما يقال فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ وما الدنيا إلا أحاظ قسّمت وجدود.(7/376)
(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ) وقال الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا العلم صلة وويلكم مفعول لفعل محذوف على سبيل الردع أي ألزمكم الله ويلكم. (ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) ثواب الله مبتدأ وخير خبر ولمن متعلقان بخير وجملة آمن صلة وعمل صالحا عطف على آمن والواو عاطفة ولا نافية ويلقاها فعل مضارع مبني للمجهول والهاء مفعول به ثان وإلا اداة حصر والصابرون نائب فاعل مؤخر وهو المفعول الأول والضمير يعود على الإثابة أو الأعمال الصالحة. (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) الفاء هي الفصيحة أي إن شئت أن تعلم مصيره وما آل اليه أمره، وخسفنا فعل وفاعل وبه متعلقان بخسفنا وبداره عطف على به والأرض مفعول به، والخسف له معان كثيرة منها خسف المكان يخسف خسوفا من باب ضرب أي ذهب في الأرض وغرق وخسف القمر ذهب ضوءه وخسفت العين ذهب ضوءها وغابت وخسف في الأرض وخسف به فيها غاب، وفي حديث ابن عباس وأبي هريرة بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوبا جديدا فاختال فيه خسف به من شفير جهنم فهو يتجلجل فيها لا يبلغ قعرها» قال في فتح الباري: «ان مقتضى الحديث أن الأرض لا تأكل جسده فيمكن أن يلغز ويقال لنا: كافر لا يبلى جسده بعد الموت وهو قارون» وفي القاموس: التجلجل السوخ في الأرض والتحرك والتضعضع والجلجلة التحريك. (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وله خبرها المقدم ومن حرف جر زائد وفئة مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه اسم كان وجملة ينصرونه صفة لفئة أو هي خبر كان وله متعلقان بمحذوف حال ويجوز أن تكون(7/377)
كان تامة وفئة فاعل كان ومن دون الله حال من فئة وما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على قارون ومن المنتصرين خبر كان. (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ) الواو عاطفة وأصبح فعل ماض ناقص والذين اسمها وجملة تمنوا صلة ومكانه مفعول به وبالأمس متعلقان بتمنوا وجملة يقولون خبر أصبح ويجوز أن تكون أصبح تامة والذين هو الفاعل وجملة يقولون في محل نصب على أنها حال أي قائلين. (وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وي فيه مذاهب نختار منها واحدا وسنورد الباقي في باب الفوائد، فهي اسم فعل مضارع معناه أتعجب والكاف حرف جر وان حرف مشبه بالفعل وهي مع ما في حيزها في محل جر بالكاف والجار والمجرور متعلقان بوي ومعنى الكاف هنا التعليل لا التشبيه والله اسمها وجملة يبسط الرزق خبر أن والرزق مفعول به ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ويقدر عطف على يبسط. (لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) لولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وأن وما في حيزها مصدر مؤول مرفوع بالابتداء والخبر محذوف وجوبا ومنّ الله فعل وفاعل وعلينا متعلقان بمنّ واللام واقعة في جواب لولا وجملة خسف بنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومفعول خسف محذوف أي الأرض. (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) تقدم اعرابها وسيأتي المزيد منه قريبا وهو تأكيد لما قبله.
البلاغة:
1- القلب:
في قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)(7/378)
في هذا التعبير فن القلب وقد تقدم القول فيه، والأصل لتنوء العصبة بالمفاتح أي لتنهض بها بجهد، قال أبو عبيد: هو كقولهم عرضت الناقة على الحوض وأصله عرضت الحوض على الناقة وقول حسان بن ثابت:
كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غضّ ... من التفاح هصره اجتناء
ويروى كأن سلافة، والسلافة أول ما يسيل من ماء العنب أما سبيئة فمعناه مشتراة يقال سبأ الخمر كنصر إذا اشتراها ويروى أيضا خبيئة أي مصونة في الخابية وبيت رأس قرية بالشام اشتهرت بجودة الخمر، وقد وقع بين صاحب القاموس وصاحب الصحاح خلاف بين سبيئة فقال صاحب القاموس وقد وهم الجوهري وانما سبى الخمر سبيا وسباء حملها من بلد الى بلد، ومزاجها خبر يكون مع أنه معرفة وعسل اسمها مع أنه نكرة وكان القياس العكس فقلب الكلام، وتأوله الفارسي بأن انتصاب مزاجها على الظرفية المجازية، وروي برفع الكلمات الثلاث على أن اسم كان ضمير الشأن وجملة يكون صفة سبيئة وعلى أنيابها في البيت الثاني خبر كأن المشددة والمزاج ما يمزج به غيره والمراد بالانياب الثغر كله فهو مجاز، والغض الطري الرطب وهو صفة لموصوف محذوف أي طعم عضن غض، والهصر عطف الغصن وإمالته إليك من غير إبانة لتجني ثمره والتهصير مبالغة فيه ويروى جناء بدل اجتناء وهو الجنى بالقصر ومدّه هنا ضرورة واسناده التهصير الى الاجتناء مجاز عقلي من باب الاسناد للسبب، شبّه ريقها بالخمر الجيدة وطعمه بطعم تفاح ميل غصنه(7/379)
الجاني ليجتنيه إشارة الى انه مجني الآن لم يمض عليه شيء من الزمان وتلويحا لتشبيه محبوبته بالأغصان في الرقة واللين والتثني.
هذا وقد قيل أنه لا قلب في الآية وان الباء للتعدية كالهمزة والأصل لتنوء المفاتح العصبة الأقوياء أي تثقلهم، وهو رأي صاحب العمدة أيضا.
2- المبالغة:
وذلك في وصف كنوز قارون حيث ذكرها جمعا وجمع المفاتح أيضا وذكر النوء والعصبة وأولي القوة قيل كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستون بغلا لكل خزانة مفتاح وهذه المبالغة في القرآن من أحسن المبالغات وأغربها عند الحذاق، وهي أن يتقصى جميع ما يدل على الكثرة وتعدد ما يتعلق بما يملكه، استمع الى عمرو بن الأيهم التغلبي كيف أراد أن يصف قومه بالكرم فلم يزل يتقصى ما يمكن أن يقدر عليه من صفات فقال:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حبث كانا
3- بلاغة التعليل:
وفي قوله «إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين» حسن تعليل جميل بجمله «إن الله لا يحب الفرحين» لأن الفرح المحض في الدنيا من حيث أنها دنيا مذموم على الإطلاق، وأي فرح بشيء زائل وظل حائل. وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة بقوله البديع:
كأن الحزن مشغوف بقلبي ... فساعة هجرها يجد الوصالا(7/380)
كذا الدنيا على من كان قبلي ... صروف لم يد من عليه حالا
أشد الغم عندي في سرور ... تيقّن عنه صاحبه انتقالا
ألست تراه كيف جعل الحزن عالقا بفؤاده حتى كأنه يعشقه ولكنه لا يواصلني إلا حين تهجرني فإذا هجرتني واصل الحزن قلبي؟
ثم كيف يحث على الزهد في الدنيا لمن رزق فيها سرورا ومكانة لعلمه أنه زائل عما حين، والسرور الذي يعرف صاحبه أنه منحسر عنه قريبا هو أشد الغم، وهذا من أبلغ الكلام وأوعظه وأدله على عبقرية شاعر الخلود.
ومن جميل ما قيل في هذا المعنى قول هدبة بن خشرم لما قاده معاوية الى الحرة ليقتصّ منه في زياد بن زيد العذري فلقيه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فاستنشده فأنشده:
ولست بمفراح إذا الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
ولا أبتغي شرا إذا الشر تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
والمفراح كثير الفرح والمراد نفي الفرح من أصله وصرف الدهر حدثانه وإذا شرطية فلا بد بعدها من فعل أي إذا سرني الدهر وإذا كان الشر تاركي، وأحمل مبني للمجهول وأركب للفاعل والأول فعل الشرط والثاني جوابه وجزاؤه.(7/381)
4- التتميم:
وفي قوله «ولا تنس نصيبك من الدنيا» تتميم لا بد منه لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة لم يكن له نصيب في الآخرة ففي الحديث:
«اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» وقد عاد أبو الطيب فرمق سماء هذه البلاغة مرة ثانية فقال من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة وقد توفيت بميّافارقين وجاءه الخبر بموتها الى حلب سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وأنشد أبو الطيب قصيدته في جمادى الآخرة من السنة ونورد نخبة مختارة منها:
نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال
وترتبط السوابق مقربات ... وما ينجين من خبب الليالي
ومن لم يعشق الدنيا قديما ... ولكن لا سبيل الى الوصال
نصيبك في حياتك من حبيب ... نصيبك في منامك من خيال
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال
والشاهد المراد هو في قوله: نصيبك في حياتك البيت، أي إن نصيب الإنسان من وصال حبيبه في حياته كنصيبه من وصال خياله في منامه، ووجه الشبه: اتفاق الأمرين في سرعة انقضائهما، واشتباههما في عجلة زوالهما.(7/382)
الفوائد:
1- قصة قارون:
نسج المؤرخون والقصاصون روايات شتى وأساطير عجيبة حول هذه القصة الفريدة التي تصلح نواة لمسرحية عالمية تمثّل الزهو الذي يصيب المتمولين، وقد اختلف في نسبه، قيل كان ابن عم موسى بن عمران وقيل كان ابن خالته، وهو أول من ضرب به المثل في كثرة المال، وفي قوله تعالى «وكان من قوم موسى» دليل على إيمانه وقرابته وكان من أحسن الناس وجها وقراءة للتوراة ويسمّى المنور لحسنة وقيل إنه كان من السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، قيل انه خرج راكبا بغلة شهباء ومعه سبعمائة وصيفة على بغال شهب عليهن الحلي والحلل والزينة فكاد يفتن بني إسرائيل ثم بغى وتكبر وركب رأسه حتى أهلكه الله. وقد أخطأ صاحب المنجد فزعم أنه وزير فرعون كأنه ظنه هامان وهذا من نتائج التسرع وعدم التحقيق. وكان سبب هلاكه أنه حسد هرون على الحبورة، وذلك أن موسى لما قطع البحر وأغرق فرعون جعل الحبورة لهارون فحصلت له النبوة، والحبورة بضم الحاء: الإمامة، مأخوذة من الحبر بمعنى الرئيس في الدين، فوجد قارون من ذلك في نفسه وقال: يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء لا أصبر على هذا، فقال موسى: والله ما صنعت ذلك لهارون بل جعله الله له، فقال والله لا أصدقك أبدا حتى تأتيني بآية فأمر موسى رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل رجل منهم بعصاه فجاءوا بها فألقى موسى بها في قبّة له وكان ذلك بأمر الله ودعا موسى أن يريهم الله بيان ذلك، فباتوا(7/383)
يحرسون عصيهم فأصبحت عصا هارون تهتز لها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال موسى: يا قارون أما ترى صنع الله تعالى لهارون فقال: والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر ثم اعتزل بمن معه من بني إسرائيل وكان كثير المال والتبع فدعا عليه موسى.
وقيل: انه لما نزلت آية الزكاة على موسى جاء موسى اليه وصالحه على كل ألف دينار دينار وألف شاة وعلى هذا الأسلوب فحسب ذلك فوجده مالا عظيما فجمع قومه من بني إسرائيل وقال إن موسى يأمركم بكل شيء فتطيعونه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فمرنا بما شئت فقال عليّ بفلانة البغي فأعطاها مائة دينار وأمرها أن تقذف موسى بنفسها وجاء الى موسى وقال:
إن قومك قد اجتمعوا لتأمرهم وتناههم فخرج فقام فيهم خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن زنى جلدناه، فإن كانت له امرأة رجمناه فصاح به قارون وقال له وان كنت أنت؟ فقال نعم. قال:
فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة البغي، فقال: عليّ بها، فلما جاءت قال لها موسى: يا فلانة أنا فعلت ما يقول هذا؟ فقالت:
لا والله يا نبي الله وانما جعل لي جعلا حتى أقذفك بنفسي، فسجد موسى يبكي ويتضرع، فأوحى الله إليه: مر الأرض بما تشتهيه، فقال: يا أرض خذيه، فأخذته حتى غيبت بعضه ثم لم يزل يقول خذيه وهو يغيب حتى لم يبقى من جسده إلا القليل وهو يتضرع الىّ موسى ويسأله وهو يقول خذيه الى أن غاب. الى آخر هذه القصة التي ينفسح فيها الخيال ويمتد الى أبعد مداه.
2- وي كأنه:
وعدناك بالمزيد من بحث «وي كأنه» فنقول: ذهب الخليل(7/384)
وسيبويه الى أن «وي» منفصلة معناها أعجب ثم ابتدأ فقال: كأنه لا يفلح الكافرون وكأن هاهنا لا يراد بها التشبيه بل القطع واليقين، وعليه بيت الكتاب:
وي كأن من يكن له نشب يجب ... ومن يفتقر يعش عيش حر
لم يرد هاهنا التشبيه بل اليقين، وذهب أبو الحسن إلى أن ويك مفصولة من أنه، وكان يعقوب يقف على ويك ثم يبتدىء «أنه لا يفلح الكافرون» كأنه أراد بذلك الاعلام بأن الكاف من جملة «وي» وليست التي في صدره «كأن» انما هي «وي» على ما ذكرنا أضيف إليها الكاف للخطاب على حدها في ذلك وأولئك ويؤيد ذلك قول عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
فجاء بها متصلة بالكاف من غير «أن» فهي حرف خطاب وليست اسما مخفوضا كالتي في غلامك وصاحبك لأن «وي» إذا كانت اسما للفعل فهي في مذهب الفعل فلا تضاف لذلك وأن وما بعدها في موضع نصب باسم الفعل الذي هو «وي» ولذلك فتحت أن والتقدير أعجب لأنه لا يفلح الكافرون، فلما سقط الجار وصل الفعل فنصب، وذهب الكسائي الى أن الأصل «ويلك» فحذفت اللام تخفيفا وهو بعيد وليس عليه دليل، وقد ذهب بعضهم الى أن(7/385)
«ويكأنه» بكساله اسم واحد، والمراد شدة الاتصال وانه لا ينفصل بعضه عن بعض.
وهذا ونص عبارة سيبويه: «وسألت الخليل عن قوله:
«ويكأنه لا يفلح» وعن قوله «ويكأن الله» فزعم أنها مفصولة من «كأن» والمعنى على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم أما يشبه أن يكون ذا عندكم هكذا.
وقال الأعلم: «الشاهد في قوله «ويكأن» وهي عند الخليل وسيبويه مركبة من «وي» ومعناها التنبيه مع «كأن» التي للتشبيه ومعناه: ألم تر، وعلى ذلك تأولها المفسرون.
وزعم بعض النحويين أن قولهم «ويكأن» بمعنى ويلك اعلم ان، فحذفت اللام من «ويلك» كما قال عنترة «ويك عنتر أقدم» وحذف اعلم لعلم المخاطب مع كثرة الاستعمال وهذا القول مردود لما يقع فيه من كثرة التغيير.
وقال أبو سعيد السيرافي: في «ويكأن» ثلاثة أقوال: أحدها قول الخليل تكون «وي» كلمة يقولها المنتدم ويقولها المندّم غيره ومعنى «كأن» التحقيق، والثاني قول الفراء تكون «ويك» موصولة بالكاف و «أن» منفصلة ومعناه عنده تقرير كقولك: أما ترى، والقول الثالث يذهب الى أن «ويك» بمعنى «ويلك» وجعل «أن» مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال: ويلك اعلم أن الله.
وقال الفراء: «ويكأن» في كلام العرب تقرير كقول الرجل:
أما ترى الى صنع الله، وقال الشاعر:(7/386)
وي كأن من يكن له نشب (البيت) .
وأخبرني شيخ من أهل البصرة قال: سمعت أعرابية تقول لزوجها: أين ابنك ويلك؟ فقال: ويكأنه وراء البيت، معناه: أما ترينه وراء البيت؟ وقد يذهب بعض النحويين الى أنهما كلمتان يريد:
«ويك، انه» أراد ويلك فحذف اللام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال ويلك اعلم انه وراء البيت فاضمر اعلم، ولم نجد العرب تعمل الظن والعلم بإضمار مضمر في أن وذلك انه يبطل إذا كان بين الكلمتين أو في آخر الكلمة، فلما أضمره جرى مجرى الترك، ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن تقول يا هذا إنك قائم ولا يا هذان فمت تريد علمت أو أعلم أو ظننت أو أظن، وأما حذف اللام من «ويلك» حتى تصير «ويك» فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام قال عنترة: ولقد شفى نفسي (البيت) وقد قال آخرون ان معنى «وي كأن» أن «وي» منفصلة كقولك لرجل «وي» تريد أما ترى ما بين يديك فقال: وي ثم استأنف كأن يعني أن الله يبسط الرزق لمن يشاء وهي تعجب وكأن في مذهب الظن والعلم فهذا وجه مستقيم ولم تكتبها العرب منفصلة ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة، وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليست منه وقال أبو الفتح ابن جني: في «ويكأنه» ثلاثة أقوال:
- فمنهم من جعلها كلمة واحدة فلم يقف على «وي» .
- ومنهم من يقف على «وي» .
- ويعقوب يقف على «ويك» وهو مذهب أبي الحسن.
والوجه عندنا قول الخليل وسيبويه وهو أن «وي» اسم سمي به(7/387)
الفعل على قياس مذهبهما فكأنه اسم اعجب ثم ابتدأ فقال: «كأنه لا يفلح الكافرون» ف «كأن» هنا إخبار عار من معنى التشبيه ومعناه ان الله يبسط الرزق و «وي» منفصلة من «كأن» وعليه قول الشاعر: وي كأن من (البيت) ومما جاءت فيه «كأن» عارية من معنى التشبيه قوله:
كأنني حين أمسي لا تكلمني ... متيم أشتهي ما ليس موجودا
أي أنا حين أمسي متيم من حالي كذا وكذا.
وقال البغدادي في خزانة الأدب: «وأما قول أبي الفتح أن «وي» عند سيبويه والخليل بمعنى أعجب فمردود وكذا قوله: ان «كأن» عندهما عارية عن التشبيه، وأما تنظيره لخلو التشبيه بقوله:
كأنني حين أمسي (البيت) فهو مذهب الزجاج فيما إذا كان خبر «كأن» مشتقا لا تكون للتشبيه لئلا يتحد المشبه والمشبه به. وأجيب بأن الخبر في مثله محذوف أي كأنني رجل متيم فهي على الأصل للتشبيه» .
وقال التبريزي في شرح المعلقات «وقوله «ويك» قال بعض النحويين معناه ويحك وقال بعضهم معناه ويلك وكلا القولين خطأ لأنه كان يجب أن يقرأ «ويك انه» كما يقال ويلك انه وويحك انه» .
وقال الزمخشري في كشافه: «وي مفصولة عن كأن وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم ومعناه أن القوم قد تنبهوا على خطئهم في(7/388)
تمنيهم، وقولهم: «يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون» وتندموا ثم قالوا «كأنه لا يفلح الكافرون» أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح وهو مذهب الخليل وسيبويه قال:
وي كأن من يكن له نشب (البيت) .
وحكى الفراء أن اعرابية قالت لزوجها: أين ابنك؟ فقال: وي كأنه وراء البيت، وعند الكوفيين أن «ويك» بمعنى «ويلك» وان المعنى ألم تعلم انه لا يفلح الكافرون ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة الى «وي» كقوله «ويك عنتر أقدم» وانه بمعنى لأنه واللام لبيان المقول لأجله هذا القول، أو لأنه لا يفلح الكافرون كأن ذلك وهو الخسف بقارون ومن الناس من يقف على وي ويبتدىء كأنه، ومنهم من يقف على ويك» .
رأي الشهاب الحلبي:
وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين وهو مطلع جدا: «وي كأنه، فيه مذاهب:
أحدها: أن وي كلمة برأسها وهي اسم فعل معناها أعجب أي أنا والكاف للتعليل وأن وما في حيزها مجرورة بها أي أعجب لأن الله يبسط الرزق إلخ وقياس هذا أن يوقف على وي وحدها وقد فعل هذا الكسائي:
الثاني: قال بعضهم: كأن هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه وصارت للخبر واليقين وهذا أيضا يناسبه الوقف على وي.(7/389)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
الثالث: أن ويك كلمة برأسها والكاف حرف خطاب وأن معمولة لمحذوف أي اعلم أن الله يبسط الرزق إلخ قاله الأخفش وهذا يناسب الوقف على ويك وقد فعله أبو عمرو.
الرابع: أن أصلها ويلك فحذفت اللام وهذا يناسب الوقف على الكاف أيضا كما فعل أبو عمرو.
الخامس: أن ويكأن كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها ألم تر وربما نقل ذلك عن ابن عباس ونقل الفراء والكسائي أنها بمعنى أما ترى الى صنع الله، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى رحمة لك في لغة حمير ولم يرسم في القرآن إلا ويكأن وويكأنه متصلة في الموضعين فعامة القراء اتبعوا الرسم والكسائي وقف على وي وأبو عمرو على ويك» .
وقال ابن هشام في أوضح المسالك وشرحه للشيخ خالد الأزهري: «ووا ووي وواها الثلاثة كلها بمعنى أعجب كقوله تعالى «وي كأنه لا يفلح الكافرون» فوي اسم فعل مضارع بمعنى أعجب والكاف حرف تعليل وأن مصدرية مؤكدة أي أعجب لعدم فلاح الكافرين» وهذا ما اخترناه في الاعراب ورأيناه أبعد من الارتياب وأدنى الى الصواب.
[سورة القصص (28) : الآيات 83 الى 88]
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)(7/390)
الإعراب:
(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الآخرة أعدت للذين لا يريدون علوا في الأرض. وتلك مبتدأ والدار بدل من اسم الاشارة والآخرة صفة للدار وجملة نجعلها خبر تلك وللذين متعلقان بنجعلها على أنه مفعوله الثاني وجملة لا يريدون صلة للذين وعلوا مفعول يريدون وفي الأرض صفة لعلوا ولا فسادا عطف على علوا والعاقبة مبتدأ وللمتقين خبر. (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) كلام مستأنف مسوق لوعد المحسنين ووعيد المسيئين بعد ذكر أن العاقبة للمتقين. ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وجاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبالحسنة متعلقان بجاء والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وله خبر مقدم وخير منها مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل والجواب معا خبر من.(7/391)
(وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) عطف على ما تقدم ويجزى فعل مضارع مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة عملوا السيئات صلة الموصول وإلا أداة حصر وما مفعول ثان ليجزى وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) إن واسمها وجملة فرض صلة وعليك متعلقان بفرض والقرآن مفعول به، ومعنى فرض عليك القرآن: أوجب عليك تلاوته وتبليغه، واللام المزحلقة ورادك خبر إن والكاف في محل جر بالإضافة والى معاد متعلقان براد لأنه اسم فاعل، وتنكيره يدل على أمور ستأتي في باب البلاغة.
(قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ربي مبتدأ وأعلم خبره وهو بمعنى عالم ولذلك نصب من جملة جاء صلة وبالهدى متعلقان بجاء ومن عطف على من الأولى وهو مبتدأ وفي ضلال خبره ومبين صفته. (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها وجملة ترجو خبرها وأن وما في حيزها مفعول ترجو وإليك متعلقان بيلقى والكتاب نائب فاعل وإلا أداة حصر بمعنى لكن للاستدراك ورحمة مفعول لأجله ومن ربك صفة لرحمة، ويجوز أن يكون الاستثناء على حاله أي متصلا ولكنه محمول على المعنى. (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتكونن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو اسمها والكاف مفعول به والنون المذكورة نون التوكيد الثقيلة وظهيرا خبر تكونن وللكافرين متعلقان بظهيرا. (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيره، ونعيده(7/392)
لوجود فارق بسيط، فلا ناهية ويصدنك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون وحذفت الواو لأن النون لما حذفت التقى ساكنان الواو والنون المدغمة فحذفت الواو لاعتلالها ووجود دليل يدل عليها وهو الضمة وأصله يصدونك، وعن آيات الله متعلقان بيصدنك والظرف متعلق بمحذوف حال وإذ ظرف لما مضى أضيف الى مثله وإذ تضاف اليه أسماء الزمان كقولك حينئذ ويومئذ وقد تقدم بحث ذلك، وجملة أنزلت في محل جر باضافة الظرف إليها وإليك متعلقان بأنزلت. (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الواو عاطفة وادع فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت والى ربك متعلقان بادع ولا ناهية وتكونن مجزوم بها وقد تقدم إعرابه واسمها مستتر تقديره أنت ومن المشركين خبرها.
(وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت يعود على محمد صلى الله عليه وسلم والخطاب له والمراد غيره على حد قوله «لئن أشركت ليحبطن عملك» ومع الله ظرف مكان متعلق بتدع وإلها مفعول به وآخر نعت لإلها ولا إله إلا هو تقدم إعرابها والجملة في محل نصب حال. (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) كل مبتدأ وشيء مضاف اليه وهالك خبر المبتدأ وإلا أداة استثناء ووجهه مستثنى وسيأتي معنى الاستثناء في باب البلاغة، له خبر مقدم والحكم مبتدأ مؤخر واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب الفاعل.(7/393)
البلاغة:
1- سر التنكير في قوله «الى معاد» للتفخيم كأن هذا المعاد قد أعد لك دون غيرك من البشر، قيل المراد به مكة وهو يوم الفتح فمعاد الرجل بلده لأنه ينصرف منه فيعود اليه فالمعاد على هذا اسم مكان، روي أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار ليلا سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما رجع الى الطريق ونزل بالجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق الى مكة تنزى الحنين في صدره وهاجه الشوق الى موطنه وحنّ الى مولده ومولد آبائه فنزلت عليه تطمينا لقلبه، وفيها يتجلى مقدار الحنين الى الأوطان، وقد رمق الشعراء جميعا سماء هذا المعنى فقال ابن الرومي:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا ... ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته ... وعليه أغصان الشباب تميد
وقال أبو تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل(7/394)
والقول في حب الأوطان كثير، ومما يؤكد ما قلناه في حب الأوطان قول الله عز وجل «ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم» فسوّى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم، وقال تعالى: «وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا» .
وقال بعضهم «من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه لأوطانه، ومداراته لأهل زمانه» .
وقيل لأعرابي: كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال: وهل العيش إلا ذاك، يمشي أحدنا ميلا فيرفضّ عرقا ثم ينصب عصاه ويلقي عليه كساءه ويجلس في فيئه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى.
وقال يحيى بن طالب الحنفي من شعراء الدولة العباسية:
ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة ... إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فأشرب من ماء الحجيلاء شربه ... يداوى بها قبل الممات عليل
فيا أثلات القاع قلبي موكل ... بكن وجدوى خيركنّ قليل(7/395)
ويا أثلات القاع قد مل صحبتي ... مسيري فهل في ظلكنّ مقيل
أريد انحدارا نحوها فيردّني ... ويمنعني دين عليّ ثقيل
أحدث نفسي عنك إذ لست راجعا ... إليك فحزني في الفؤاد دخيل
والأبيات المشهورة للصمة القشيري:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد ... وريا روضة بعد القطار
وعيشك إذ يحل الحي نجدا ... وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار
فأما ليلهن فخير ليل ... وأقصر ما يكون من النهار
وحسبنا ما قدمناه الآن.
2- المجاز المرسل:
في قوله تعالى «كل شيء هالك إلا وجهه» أي إلا إياه، من ذكر البعض وإرادة الكل، وقد جرت عادة العرب في التعبير بالأشرف عن الجملة.(7/396)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
(29) سورة العنكبوت مكيّة وآياتها تسع وستون
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)
اللغة:
(يُفْتَنُونَ) : يختبرون من فتن فلان يفتنه من باب ضرب:
خبره وأحرقه وأضلّه، يقال فتن الصائغ الذهب: أذابه بالبوتقة(7/397)
ليختبره وليميز الجيد من الرديء ويقال فتنه يفتنه من باب ضرب أيضا أعجبه واستماله وأوقعه في الفتنة.
الإعراب:
(الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ألم تقدم اعرابها والقول فيها وفي فواتح السور، وأحسب الهمزة للاستفهام التقريري أو التوبيخي وحسب فعل ماض ينصب مفعولين قال الزمخشري: «الحسبان لا يصح تعليقه بمعاني المفردات ولكن بمضامين الجمل» ولذلك احتاج الى مفعولين والناس فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب وأن يقولوا مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض وهو متعلق بمحذوف حال إذا قدر حرف الجر باء، ولك أن تقدر حرف الجر لاما فيكون تعليلا للترك متعلقا به أي لأجل قولهم، وجملة آمنا مقول القول والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يفتنون خبر هم والجملة حالية ومعنى الآية أحسب الذين نطقوا بكلمة الشهادة أنهم يتركون غير ممتحنين لا بل يمتحنون ليتبين الراسخ في الدين من غيره، وهذا أحد أعاريب رأيناه أسهلها، ونورد هنا عبارة الزمخشري لنفاستها قال:
«تقديره أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا فالترك أول مفعولي حسب ولقولهم آمنا هو الخبر وأما غير مفتونين فتتمة الترك الذي هو بمعنى التصيير كقوله «فتركنه جزر السباع ينشنه» ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فإن قلت: أن يقولوا هو(7/398)
علة تركهم غير مفتونين فكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ؟ قلت كما تقول خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك خرجت مخافة الشر وضربته تأديبا تعليلين، وتقول أيضا حسبت خروجه لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا» وسيأتي المزيد من أبحاث هذه الآية في باب الفوائد.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وفتنا فعل وفاعل والذين مفعوله ومن قبلهم متعلقان بمحذوف هو صلة الذين والفاء عاطفة واللام موطئة للقسم وليعلمن فعل مضارع مبني على الفتح والله فاعل والذين مفعوله وجملة صدقوا صلة وليعلمن الكاذبين عطف على ما تقدم وسيأتي سر المخالفة بين صدقوا والكاذبين في باب البلاغة والمعنى أن الفتنة والامتحان أمران لا بد منهما لابتلاء الخلق وقد تعرضت لهما الخلائق في مختلف ظروف الزمان والمكان. (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أم منقطعة ومعناها بل وهي للاضراب الانتقالي ولا بد من همزة في ضمنها للتقرير والتوبيخ، وحسب فعل ماض والذين فاعل وجملة يعملون السيئات صلة وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب، قال الزمخشري: «فإن قلت أين مفعولا حسب؟
قلت: اشتمال صلة أن على مسند ومسند إليه سد مسد المفعولين كقوله تعالى «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة» ويجوز أن يضمن حسب معنى قدر وأم منقطعة ومعنى الاضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الاول لأن ذاك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن(7/399)
انه لا يجازى بمساويه» وساء فعل ماض جامد لإنشاء الذم وفاعله مستتر تقديره هو وما نكرة منصوبة على التمييز وجملة يحكمون صفتها والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم ويجوز أن تعرب ما اسم موصول فاعل وجملة يحكمون صلتها، ويجوز أن تكون مصدرية أي حكمهم وعلى هذا يكون التمييز محذوفا أي ساء حكما حكمهم. (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) من اسم شرط جازم مبتدأ وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسم كان مستتر يعود على من وجملة يرجو خبر كان ولقاء الله مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط، وإن أجل الله ان واسمها واللام المزحلقة وآت خبر إن والواو حرف عطف وهو مبتدأ والسميع العليم خبران لمن، وسيأتي مزيد بحث لهذه الآية في باب البلاغة، وفعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر من.
(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ وجاهد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وانما كافة ومكفوفة ويجاهد فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو ولنفسه جار ومجرور متعلقان بيجاهد وإن واسمها واللام المزحلقة وغني خبر إن وعن العالمين متعلقان بغني والجملة تعليلية لما سبق من تقرير أن جهاد الشخص لا يصل منه الى الله نفع. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا واللام موطئة للقسم ونكفرن فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة خبر الذين وعنهم متعلقان بنكفرن وسيئاتهم مفعول به. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي(7/400)
كانُوا يَعْمَلُونَ)
ولنجزينهم عطف على لنكفرن وأحسن مفعول به ثان والذي مضاف اليه وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا.
البلاغة:
1- التعبير بالصيغة الفعلية والصيغة الاسمية:
في قوله تعالى «فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين» مخالفة بين الصيغة الفعلية وهي «صدقوا» والصيغة الاسمية في قوله «الكاذبين» والنكتة في هذه المخالفة أن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل ورسوخه فيه والفعل الماضي لا يدل عليه لأن وقت نزول الآية كانت حكاية عن قوم قريبي عهد بالإسلام وعن قوم مستمرين على الكفر فعبر في حق الأولين بلفظ الفعل وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات، أما بالنسبة لعلم الله فلا يقال ان فيه تجددا في علم الله تعالى بهم قبل الاختبار وإيهاما بأن العلم بالكائن غير العلم بأنه سيكون، والحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بما لموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه وفائدة ذكر العلم هاهنا وان كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء كأنه قال: لنعلمنهم فلنجازيهم بحسب علمه فيهم.
2- الحذف:
جرينا في اعراب قوله تعالى «من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت» على أن الفاء رابطة لجواب الشرط وان جملة ان أجل الله لآت هو الجواب وساغ وقوعه جوابا للشرط مع أن أجل الله آت(7/401)
لا محالة من غير تقييد بشرط وانه ينعدم بانعدام الشرط ساغ وقوعه جوابا لأننا نعني بلقاء الله تلك الحالة الممثلة والوقت الذي تقع فيه تلك الحال هو الأجل المضروب للموت كأنه قال من كان يرجو لقاء الله فإن لقاء الله لآت لأن الأجل واقع فيه اللقاء كما تقول من كان يرجو لقائي فإن يوم الجمعة قريب إذا علم وتعورف انك تقعد للاستقبال يوم الجمعة، هذا ويجوز أن يكون من باب الحذف البلاغي والتقدير فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
الفوائد:
أطال المعربون في التماس وجوه الاعراب لهذه الآية وهي «أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يؤمنون» وقد اخترنا أمثل هذه الوجوه وأدناها الى المنطق كما أوردنا نص قول الزمخشري فيها وكلا الوجهين سائغ مراد ونريد أن نفصل لك القول في الظن والحسبان وغيرهما من الأفعال التي تسمى «أفعال القلوب» وانما قيل لها ذلك لأن معانيها قائمة بالقلب، وليس معنى هذا أن كل فعل قلبي ينصب مفعولين بل القلبي ثلاثة أقسام ما لا يتعدى بنفسه نحو فكر في الأمر وتفكر فيه، وما يتعدى لواحد بنفسه نحو عرف الحق وفهم المسألة، وما يتعدى لاثنين بنفسه وهو المقصود بالتسمية وأصل المفعولين المبتدأ والخبر، ورد بعضهم وهو السهيلي هذا القول وقال كيف يكون نحو ظننت زيدا عمرا أصلهما مبتدأ وخبر وأجيب بأن المراد هو التشبيه بدليل أنه يقال: ظننت زيدا عمرا فتبين خلاف فالظن المذكور لتشبيهه به، وأجاب بعضهم بجواب آخر وهو أنه متأول بمعنى ظننت الشيء المسمى بزيد مسمى بعمر كما أن قولك(7/402)
زيد حاتم متأول بمعنى زيد مثل حاتم في المعنى، استمع الى قول زفر ابن الحارث الكلابي:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... عشية لاقينا جذام وحميرا
فكل بيضاء مفعول حسبنا الأول وشحمة مفعوله الثاني وهو كناية عن أنه كان يظنهم شجعانا فتبينوا بخلاف ذلك وبعد هذا البيت:
فلما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جردا في الأعنّة خمرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا
إذا عرفت هذا كله فهمت معنى الآية بوضوح أي: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم، وتبجحوا بها، واستطالوا على من سواهم انهم سيتركون غير ممتحنين؟ لا بل سوف يمتحنهم الله بضروب الابتلاء وأنواع المحن حتى يسبر أغوارهم جميعا، ويبلو صبرهم وثبات أقدامهم ورسوخها في الايمان، فليس الايمان كلمات تتردد على الألسنة وحسب لكنه يحتاج الى عمل أصيل، وجهاد مستمر، ليسفر عملهم عما فيه نفع أمتهم، وجهادهم عن تأثيل أوطانهم.(7/403)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 11]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)
الإعراب:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) كلام مستأنف للشروع في تقرير حق الأبوين وتحديد طاعتهما بعدم معصية الله. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه متعلقان بوصينا وحسنا نعت لمصدر وصينا على حذف مضاف أي إيصاء ذا حسن أو هو في نفسه حسن على المبالغة، وقال الزجاج: «ومعناه: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه وما يحسن» . (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الواو عاطفة وان شرطية وجاهداك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والألف فاعل والكاف مفعول به ولتشرك اللام لام التعليل وتشرك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره أنت والجار والمجرور متعلقان بجاهداك وبي(7/404)
متعلقان بتشرك وما اسم موصول مفعول به لتشرك ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وبه متعلقان بعلم وعلم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة ما، فلا الفاء رابطة لجواب الشرط لأن الجواب جملة ولا ناهية وتطعهما فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والميم والألف حرفان دالان على التثنية والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب إن. (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إلي خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر والفاء حرف عطف وأنبئكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبما متعلقان بأنبئكم وجملة كنتم صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) الذين مبتدأ خبره «لندخلنهم في الصالحين» أي في زمرة الراسخين في الصلاح، ويجوز أن يكون في محل نصب على الاشتغال. وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات معطوفة على جملة آمنوا واللام موطئة للقسم وندخلن فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وفي الصالحين متعلقان بندخلهم.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المنافقين بعد أن بين حال المؤمنين والكافرين فيما تقدم ومن الناس خبر مقدم ومن نكرة موصوفة مبتدأ مؤخر أي ناس وهو أولى من جعلها موصولة وجملة يقول صفة لمن على اللفظ وجملة آمنا مقول القول وبالله متعلقان بآمنا. (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ) الفاء حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وفي الله متعلقان بأوذي وجملة أوذي في محل جر بإضافة الظرف إليها أي في سبيل الله وجملة جعل لا محل لأنها جواب إذا وفتنة الناس مفعول جعل الاول(7/405)
وكعذاب الله في موضع المفعول الثاني، أو الكاف اسم بمعنى مثل في موضع المفعول الثاني والمعنى جزع من أذى الناس، فأطاعهم كما يطيع الله من يخافه. (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وان حرف شرط جازم وجاءهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به ونصر فاعل ومن ربك متعلقان بجاءهم أو بمحذوف صفة لنصر، ليقولن: اللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل وجملة إنا مقول القول وان واسمها وجملة كنا خبرها ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر كنا. (أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري التوبيخي والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وليس فعل ماض ناقص والله اسمها والباء حرف جر زائد وأعلم مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وبما متعلقان بأعلم وفي صدور العالمين صلة ما. (وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويعلمن فعل مضارع مبني على الفتح والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وليعلمن المنافقين عطف على وليعلمن الذين آمنوا.
الفوائد:
روى التاريخ أن سعد بن أبي وقاص وهو من السابقين الى الإسلام حين أسلم قالت أمه وهي وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية ابن عبد شمس: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وان الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر(7/406)
بمحمد، وكان أحبّ ولدها إليها، فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف، فأمره رسول الله أن يداريها ويترضّاها بالإحسان.
وفي رواية للقرطبي أن سعدا قال لها: والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما كفرت بمحمد فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، هذا ومعنى قوله فو الله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح كما في الصحاح الضح الشمس وفي الحديث لا يقعدن أحدكم بين الضح والظل فإنه مقعد الشيطان. وقيل نزلت في عياش بن ربيعة المخزومي وذلك انه هاجر مع عمر بن الخطاب مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشدّ حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله عنه فقال هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعهما وعصى عمر فقال له عمر: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منها ريب فارجع، فلما انتهوا الى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال نعم فنزل ليوطىء لنفسه وله فأخذاه وشدا وثاقه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به الى أمه فقالت: لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت.(7/407)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
وسواء أكانت المناسبة هذه أم تلك فالمسألة عامة، وبر الوالدين مطلوب شرعا وطاعتهما واجبة إلا في المعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقوله «وفتلا منه في الذروة والغارب» قال الجوهري في صحاحه: «ما زال فلان يفتل من فلان في الذروة والغارب أي يدور من وراء خدعته» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 12 الى 15]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان نموذج آخر من أضاليلهم.
وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة الموصول وللذين متعلقان يقال وجملة آمنوا صلة الموصول وجملة اتبعوا مقول القول واتبعوا فعل وفاعل وسبيلنا مفعول ولنحمل الواو عاطفة واللام لام الأمر(7/408)
ونحمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وخطاياكم مفعول به وسيأتي معنى الأمر في باب البلاغة. (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) الواو حالية وما نافية حجازية تعمل عمل ليس وهم اسمها والباء حرف جر زائد وحاملين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما ومن خطاياهم حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول حاملين وجملة إنهم لكاذبون تعليل للجزم بعدم حملهم شيئا من خطاياهم وإن واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبرها.
(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويحملن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل وأثقالهم مفعول به وأثقالا عطف على أثقالهم ومع أثقالهم ظرف متعلق بمحذوف صفة لأثقالا.
(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة ويسألن عطف على يحملن ويوم القيامة ظرف متعلق بيسألن وعما متعلقان بيسألن أيضا وجملة كانوا صلة ما وجملة يفترون خبر كانوا. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كلام مستأنف مسوق لتأييد التكليف الذي ألزم محمد صلى الله عليه وسلم به أتباعه أي أنه ليس مختصا بالنبي وأتباعه واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به والى قومه متعلقان بأرسلنا، فلبث الفاء عاطفة ولبث فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على نوح وفيهم متعلقان بلبث وألف سنة نصب على الظرف لأنه عدد أضيف الى الظرف فأخذ منه ظرفيته وهو متعلق بلبث أيضا وإلا أداة استثناء وخمسين منصوب على الاستثناء وعاما تمييز وقد روعيت هنا نكتة نذكرها في باب البلاغة.(7/409)
(فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) الفاء عاطفة وأخذهم الطوفان فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر والواو حالية وهم مبتدأ وظالمون خبر. والطوفان ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما قال العجاج:
حتى إذا ما يومها تصببا ... وعم طوفان الظلام الأثأبا
والبيت للعجاج يصف بقرة وحشية وما زائدة بعد إذا عم بالمهملة ويروى بالمعجمة والمعنيان متقاربان والأثأب نوع من الشجر يشبه شجر التين الواحدة أثأبة ونسبة التصبب لليوم مجاز عقلي من باب الإسناد للزمان أي تصبب المطر وستر ظلامه الشجر الذي كان فيه.
(فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وأنجيناه فعل وفاعل ومفعول به وأصحاب عطف على الهاء أو مفعول معه وجعلناها الواو عاطفة وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به آية مفعول به ثان وللعالمين صفة لآية.
البلاغة:
1- مجيء الأمر بمعنى الخبر:
في قوله «ولنحمل خطاياكم» الكلام أمر بمعنى الخبر يعني أن أصل ولنحمل خطاياكم: إن تتبعونا نحمل خطاياكم، فعدل عنه الى ما ذكر مما هو خلاف الظاهر من أمرهم بالحمل، وفي قوله:
«انهم لكاذبون» نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر فإن من الناس من أنكره ولا حجة له لأن الله تعالى أردف قولهم(7/410)
ولنحمل خطاياكم على صيغة الأمر بقوله: انهم لكاذبون، والتنكيت إنما يتطرق الى الاخبار.
2- نكتة العدد:
وذلك في قوله «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما» فإن الإخبار بهذه الصيغة يمهد عذر نوح عليه السلام في دعائه على قومه بدعوة أهلكتهم عن آخرهم إذ لو قيل: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما لما كان لهذه العبارة من التهويل ما للعبارة الأولى لأن لفظة الألف في العبارة الأولى في أول ما يطرق السمع فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام من الاستثناء وإذا راجع الاستماع لم يبق للاستثناء بعد ما تقدمه وقع يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف فتعظم كبيرة قوم نوح عليه السلام في إصرارهم على المعصية مع طول مدة الدعاء.
وعبارة الزمخشري في صدد هذا العدد «فإن قلت هلا قيل تسعمائة وخمسين سنة قلت: ما أورده الله أحكم لأنه لو قيل كما قلت لجاز أن يتوهم إطلاق هذا العدد على أكثره وهذا التوهم زائل مع مجيئه كذلك، وكأنه قيل تسعمائة وخمسين سنة كاملة وافية العدد إلا أن ذلك أخصر وأعذب لفظا وأملأ بالفائدة. وفيه نكتة أخرى وهي أن القصة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح عليه السلام من أمته وما كابده من طول المصابرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتا له فكان ذكر رأس العدد الذي لا رأس أكثر منه أوقع وأوصل الى الغرض من استطالة السامع مدة صبره» .(7/411)
نكتة ثانية في العدد:
وهناك نكتة ثانية وهو انه غاير بين تمييز العددين فقال في الأول «سنة» وقال في الثاني «عاما» لئلا يثقل اللفظ ثم انه خص لفظ العام بالخمسين إيذانا بأن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسن والعرب تعبر عن الخصب بالعام وعن الجدب بالسنة.
نكتة ثالثة في العدد:
وهناك نكتة ثالثة اكتشفها الرازي قال: «فإن قلت ما الفائدة في مدة لبثه؟ قلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بسبب عدم دخول الكفار في الإسلام فقال له الله تعالى: إن نوحا لبث في قومه هذا العدد الكبير ولم يؤمن من قومه إلا القليل فصبر وما ضجر فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك» .
الفوائد:
في قوله «ولنحمل خطاياكم» الأصل دخول لام الأمر ولا الناهية على فعل الغائب معلوما ومجهولا وعلى المخاطب والمتكلم المجهولين ويقل دخولها على المتكلم المفرد المعلوم فإن كان المتكلم غيره فدخولهما عليه أهون وأيسر كالآية المتقدمة وقول الشاعر:
إذا ما خرجنا من دمشق فلا نعد ... لها أبدا ما دام فيها الجراضم(7/412)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 23]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)
الإعراب:
(وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) كلام مستأنف لسوق قصة ثانية بعد قصة نوح والطوفان. وابراهيم منصوب بفعل محذوف تقديره(7/413)
أذكر، وإذ الظرف بدل اشتمال من ابراهيم ولك أن تجعله كلاما معطوفا فتعطف ابراهيم على نوحا وتعلق الظرف بأرسلنا والمعنى عندئذ أرسلنا إبراهيم حين بلغ من السن مبلغا يخاطب فيه قومه بعبارات الوعظ والإرشاد، وجملة قال لقومه في محل جر بإضافة الظرف إليها ولقومه متعلقان بقال. (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجملة مقول قول ابراهيم لقومه، واعبدوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ولفظ الجلالة مفعوله واتقوه عطف على اذكروا الله وذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير وإن شرطية وكنتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فاعبدوا الله واتقوه. (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) إنما كافة ومكفوفة وتعبدون فعل مضارع وفاعل ومن دون الله حال وأوثانا مفعول به وتخلقون إفكا عطف على ما قبله ويجوز في الإفك أن يكون مصدرا وأن يكون صفة أي خلقا إفكا أي ذا إفك وباطل.
(إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) إن واسمها وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال وجملة لا يملكون خبر إن ولكم متعلقان برزقا ورزقا مفعول به ليملكون لأنه بمعنى المرزوق أو مصدر مؤول من إن والفعل أن لا يقدرون أن يرزقوكم ويجوز نصبه على المصدر وناصبه لا يملكون لأنه في معناه.
(فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الفاء الفصيحة وابتغوا فعل أمر وفاعل وعند الله متعلقان بابتغوا والرزق مفعول ابتغوا واعبدوه واشكروا له عطف على ابتغوا واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.(7/414)
(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) عطف على ما تقدم منتظم في سلك حديث ابراهيم عليه السلام لقومه، وان شرطية وتكذبوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل، فقد الفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وكذب أمم فعل وفاعل ومن قبلكم صفة لأمم وقيل جواب الشرط محذوف أي فلا يضرني تكذيبكم فقد كذّب أمم من قبلكم أنبياءهم ورسلهم، وما الواو حالية أو استئنافية وما نافية وعلى الرسول خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة لبلاغ. (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولم حرف نفي وجزم وقلب وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وجملة يبدىء الله الخلق في محل نصب مفعول يروا لأنها علقت عن العمل بالاستفهام والرؤية قلبية والمراد بها العلم الصحيح الواضح لأنه كالرؤية البصرية، ثم يعيده كلام مستأنف أو هو كلام معطوف على أولم يروا وسبب امتناع عطفه على يبدىء لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم لكان تحصيلا للحاصل ولا يقال انه من قبيل عطف الخبر على الإنشاء لأن الاستفهام متضمن معنى الإنكار والتقرير فهو بمثابة الإخبار وإن واسمها وعلى الله متعلقان بيسير ويسير خبر إن.
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) الكلام حكاية قول ابراهيم لقومه أو حكاية قول الله لابراهيم وسيروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بسيروا، فانظروا عطف على سيروا وكيف حال وبدأ الخلق فعل وفاعل مستتر(7/415)
ومفعول به والجملة في محل نصب مفعول انظروا المعلقة بسبب الاستفهام. (ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ثم حرف عطف والله مبتدأ وجملة ينشىء خبر والنشأة الآخرة نصب على المصدرية المحذوفة الزوائد والأصل الإنشاءة وقرىء النشاءة بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر ان. (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) الجملة حالية أو خبر ثان لإن أو مستأنفة ويعذب فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله ومن مفعوله وجملة يشاء صلة من ويرحم من يشاء عطف على يعذب من يشاء وإليه متعلقان بتقلبون وتقلبون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومعنى تقلبون:
تردون وترجعون. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنتم اسمها والخطاب لأهل الأرض والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وفي الأرض حال ومفعول معجزين محذوف للعلم به أي الله تعالى أي لا تفوتونه إن حاولتم الهرب من قضائه، ولا في السماء عطف على في الأرض ان حمل السماء على العلو فجائز، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو، ويكون تخصيصا بعد تعميم وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دون الله حال ومن ولي من حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر ولا نصير عطف على من ولي.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وبآيات الله متعلقان بكفروا ولقائه عطف على آيات وأولئك مبتدأ وجملة يئسوا من رحمتي خبر أولئك(7/416)
وجملة أولئك يئسوا خبر الذين. (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وأولئك الواو عاطفة وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة لعذاب وجملة لهم عذاب أليم خبر أولئك.
البلاغة:
1- نكر الرزق في قوله (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) ثم عرفه بقوله «فابتغوا عند الله الرزق» لأن الأول مقصور عليهم فاستوجب أن يكون ضئيلا قليلا فنكره تدليلا على قلته وضآلته، ولما كان الثاني مبتغى عند الله استوجب أن يكون كثيرا لأنه كله عند الله فعرفه تدليلا على كثرته وجسامته.
2- الإضمار والإظهار:
في قوله «أولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشىء النشأة الآخرة» فن قل من يتفطّن اليه لأنه دقيق للغاية ولا يجنح إليه الكاتب أو الشاعر إلا لفائدة تربو على البداهة وهي تعظيم شأن الأمر. ألا ترى أنه صرح باسمه تعالى في قوله «ثم الله ينشىء النشأة الآخرة» مع إيقاعه مبتدأ، وقد كان القياس أن يقول:
كيف بدأ الله الخلق ثم ينشىء النشأة الآخرة فأفصح باسمه بعد إضماره والفائدة في ذلك أنه لما كانت الإعادة عندهم من الأمور العظيمة وكان صدر الكلام واقعا معهم في الإبداء وقرر لهم أن ذلك من الله احتج عليهم بأن الاعادة إنشاء مثل الإبداء وإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لا يعجزه الإبداء فوجب أن لا تعجزه الإعادة(7/417)
فللدلالة وللتنبيه على عظم هذا الأمر الذي هو الاعادة أبرز اسمه تعالى وأوقعه مبتدأ، والأصل في الكلام الأظهار ثم الإضمار ويليه لقصد التفخيم الإظهار بعد الإظهار ويليه وهو أفخم الثلاثة الإظهار بعد الإضمار كما في الآية.
وعلى هذا يقاس ما ورد من كلامهم كقول بعضهم يصف لقاء مع بني تميم قال: «ولما تلاقينا وبنو تميم أقبلوا نحونا يركضون فرأينا منهم أسودا ثكلا تسابق الأسنة الى الورود، ولا ترتد على أعقابها إذا ارتدت أمثالها من الأسود وتناجد بنو تميم علينا بجملة فلذنا بالفرار واستبقنا الى تولية الإدبار» فإنه إنما قيل «وتناجد بنو تميم» مصرحا باسمهم ولم يقل وتناجدوا كما قيل «أقبلوا» للدلالة على التعجب من إقدامهم عند الحملة وثباتهم عند الصدمة لا سيما وقد أردف ذلك بقوله «لذنا بالفرار، واستبقنا الى تولية الأدبار» كأنه قال: وتناجد أولئك الفرسان المشاهير، والفرسان الكماة المناكير وحملوا علينا حملة واحدة فولينا مدبرين منهزمين.
ولقد أشار الامام الرازي الى هذه النكتة ولكنه أوردها موردا آخر ولذلك ننقل عبارته بنصها: «أبرز اسم الله في الآية الأولى عند البدء حيث قال: كيف يبدىء الله الخلق وأضمره عند الإعادة، وفي هذه الآية أضمره عند البدء وأبرزه عند الإعادة حيث قال: ثم الله ينشىء النشأة لأنه في الآية الأولى لم يسبق ذكر الله بفعل حتى يسند اليه البدء فقال يبدىء الله ثم قال: ثم يعيده وفي الآية الثانية كان ذكر البدء مسندا الى الله تعالى فاكتفى به وأما إظهاره عند الإنشاء ثانيا حيث قال: ثم الله ينشىء النشأة، فليقع في ذهن السامع كمال قدرته(7/418)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
وعلمه وإرادته ولم يقل يعيده بل قال ينشىء للتنبيه على أن البدء يسمى نشأة كالإعادة والتغاير بينهما بالوصف حيث قالوا: نشأة أولى ونشأة ثانية» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 24 الى 27]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
الإعراب:
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب خبرها المقدم وإلا أداة حصر وأن قالوا مصدر مؤول هو اسم كان المؤخر أي قال بعضهم لبعض فكانوا جميعا في حكم القائلين، واقتلوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول وأو حرف عطف وحرّقوه عطف(7/419)
على اقتلوه. (فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الفاء الفصيحة أي فقذفوه في النار فأنجاه الله، وأنجاه الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن النار متعلقان بأنجاه وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم. (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الواو عاطفة وقال عطف على أنجيناه وإنما كافة ومكفوفة واتخذتم فعل وفاعل ومن دون الله في موضع المفعول الثاني لاتخذتم وأوثانا مفعول به أول لاتخذتم ومودة مفعول لأجله أو منصوبة بفعل محذوف تقديره أعني وبينكم مضاف الى مودة وفي الحياة الدنيا متعلقان باتخذتم أو بمحذوف حال.
وهذه الآية شغلت المعربين كثيرا لاختلاف قراءاتها وتباين وجهات النظر فيها وقد ابتسرنا الكلام في الاعراب على قراءة حفص واخترنا أمثل الأوجه وأسهلها وسننقل في باب الفوائد غيضا من فيض مما قيل فيها شحذا للأذهان. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ثم حرف عطف للتراخي ويوم القيامة ظرف متعلق بيكفر وبعضكم فاعل وببعض متعلقان بيكفر أيضا ويلعن بعضكم بعضا فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) مأواكم مبتدأ أو خبر مقدم والنار خبر أو مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مبتدأ مؤخر وهو مجرور لفظا.
(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الفاء عاطفة وآمن فعل ماض ولوط فاعله وله متعلقان بآمن وقال عطف على فآمن وفاعله مستتر يعود على ابراهيم ولذلك يجب الوقف على(7/420)
لوط لأن قوله إني مهاجر مقول ابراهيم فلو وصل لتوهم أن الفعل الثاني للوط فيفسد المعنى وان واسمها ومهاجر خبرها وإلى ربي متعلقان بمهاجر أي الى حيث يأمرني ربي، ففي الكلام مجاز، وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إني أو خبر هو والجملة خبر إني والحكيم خبر ثان. (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ووهبنا فعل وفاعل وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول به ويعقوب عطف عليه وجعلنا فعل وفاعل وفي ذريته في موضع المفعول الثاني والشجرة هي المفعول الأول والكتاب عطف على النبوة. (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به والواو عاطفة وأجره مفعول به ثان وفي الدنيا حال وانه وان واسمها وفي الآخرة حال واللام المزحلقة ومن الصالحين خبر إنه.
الفوائد:
قدمنا لك أمثل الأوجه في إعراب قوله تعالى «وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا» ووعدناك أن ننقل شيئا مما قالوه فيها وكله من الكلام الجيد والمنطق الحصيف ونبدأ بما قاله الزمخشري قال: «قرىء على النصب بغير إضافة وبإضافة وعلى الرفع كذلك، فالنصب على التعليل أي لتتوادوا بينكم وتتوصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم، وأن يكون مفعولا ثانيا كقوله:
«اتخذ إلهه هواه» أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم على تقدير حذف المضاف أو اتخذتموها مودة بينكم بمعنى مودودة بينكم(7/421)
كقوله تعالى: «ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله» وفي الرفع وجهان: أن يكون خبرا لأن على أن ما موصولة وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والمعنى أن الأوثان مودة بينكم أي مودودة أو سبب مودة، وعن عاصم: مودة بينكم بفتح بينكم مع الإضافة كما قرىء «لقد تقطع بينكم» ففتح وهو فاعل، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه «أوثانا انما مودة بينكم في الحياة الدنيا» أي إنما تتوادون عليها أو تودونها في الحياة الدنيا» .
وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «وقال انما اتخذتم:
في ما هذه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف وهو المفعول الأول وأوثانا مفعول ثان والخبر مودة في قراءة من رفع كما سيأتي والتقدير إن الذي اتخذتموه أوثانا مودة أي ذو مودة، أو جعل نفس المودّة مبالغة ومحذوف على قراءة من نصب مودة أي الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة لا ينفعكم أو يكون عليكم لدلالة قوله ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض.
والثاني: أن تجعل ما كافة وأوثانا مفعول به، والاتخاذ هنا متعد لواحد أو لاثنين والثاني هو من دون الله فمن رفع مودة كانت خبر مبتدأ مضمر أي هي مودة أي ذات مودة أو جعلت نفس المودة مبالغة والجملة حينئذ صفة لأوثانا أو مستأنفة، ومن نصب كان مفعولا له أو بإضمار أعني.
الثالث: ان تجعل ما مصدرية وحينئذ يجوز أن يقدر مضاف من الأول أي إن سبب اتخاذكم أوثانا مودة فيمن رفع مودة ويجوز(7/422)
أن لا يقدر بل يجعل نفس الاتخاذ هو المودة مبالغة، وفي قراءة من نصب يكون الخبر محذوفا على ما مر في الوجه الأول، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع مودة غير منونة وجر بينكم، ونافع وابن عامر وأبو بكر بنصب مودة منونة ونصب بينكم، وحمزة وحفص بنصب مودة غير منونة وجر بينكم، فالرفع قد تقدم والنصب أيضا تقدم فيه وجهان ويجوز وجه ثالث وهو أن يجعل مفعولا ثانيا على المبالغة للاتساع في الظرف، ومن نصبه فعلى أصله، ونقل عن عاصم أنه رفع مودة غير منونة ونصب بينكم وخرجت على إضافة مودة للظرف وإنما بني لإضافته الى غير متمكن كقراءة «لقد تقطع بينكم» بالفتح إذا جعلنا بينكم فاعلا» .
وفي كتاب أبي البقاء جاء قوله «قوله تعالى «انما اتخذتم» في ما ثلاثة أوجه أحدها هي بمعنى الذي والعائد محذوف أي اتخذتموه و «أوثانا» مفعول ثان أو حال و «مودة» الخبر على قراءة من رفع والتقدير ذو مودة، والثاني هي كافة وأوثانا مفعول ومودة بالنصب مفعول له وبالرفع على إضمار مبتدأ وتكون الجملة نعتا لأوثان ويجوز أن يكون النصب على الصفة أيضا أي ذوي مودة، والوجه الثالث أن تكون ما مصدرية ومودة بالرفع الخبر ولا حذف في هذا الوجه في الخبر بل في اسم ان والتقدير ان سبب اتخاذكم مودة، ويقرأ مودة بالاضافة في الرفع والنصب و «بينكم» بالجر وبتنوين مودة في الوجهين جميعا، ونصب بين وفيما يتعلق به «في الحياة الدنيا» سبعة أوجه: (الاول) أن يتعلق باتخذتم إذا جعلت ما كافة لا على الوجهين الآخرين لئلا يؤدي الى الفصل بين الموصول وما في الصلة بالخبر و (الثاني) أن يتعلق بنفس مودة إذا لم تجعل(7/423)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
بين صفة لها لأن المصدر إذا وصف لا يعمل و (الثالث) أن تعلقه بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم و (الرابع) أن تجعله صفة ثانية لمودة إذا نونتها وجعلت بينكم صفة و (الخامس) أن تعلقها بمودة وتجعل بينكم ظرف مكان فيعمل مودة فيهما و (السادس) أن تجعله حالا من الضمير في بينكم إذا جعلته وصفا لمودة و (السابع) أن تجعله حالا من بينكم لتعرفه بالاضافة، وأجاز قوم منهم أن تتعلق في بمودة: وإن كان بينكم صفة لأن الظروف يتسع فيها بخلاف المفعول به» .
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 30]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
اللغة:
(نادِيكُمُ) النادي والندوة والمنتدى مجلس القوم نهارا أو المجلس ما داموا مجتمعين فيه وجمعه أندية ولا تقل نواد، وغلط صاحب المنجد فجمعه على نواد، وما يندوهم النادي أي ما يسعهم المجلس من كثرتهم. وقال الزمخشري: «ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا» .(7/424)
الإعراب:
(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) عطف على إبراهيم أو منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر، والظرف بدل اشتمال من لوطا وجملة قال في محل جر باضافة الظرف إليها ولقومه متعلقان بقال وجملة إنكم لتأتون مقول القول وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون خبرها والواو فاعل والفاحشة مفعول به وجملة ما سبقكم مستأنفة مسوقة لتقرير فحشها وهجنة فاعلها ورجح أبو حيان أن تكون حالية كأنه قال: أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها، وما نافية وسبقكم فعل ماض ومفعول به وبها متعلقان بسبقكم ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل سبقكم ومن العالمين صفة لأحد.
(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) الهمزة للاستفهام الانكاري وانكم إن واسمها واللام المزحلقة وجملة تأتون خبر إن والرجال مفعول به وتقطعون السبيل عطف على تأتون الرجال، قيل انهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم فقطعوا السبيل بهذا السبب، وتأتون عطف أيضا وفي ناديكم متعلقان بتأتون والمنكر مفعول به.
(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجواب خبر كان المقدم وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها اسم كان المؤخر وجملة ائتنا مقول القول وائتنا فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعذاب الله متعلقان بائتنا وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومن الصادقين خبرها وجواب إن محذوف(7/425)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
دل عليه ما قبله أي فائتنا بعذاب الله. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وانصرني فعل دعاء والفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول به وعلى القوم متعلقان بانصرني والمفسدين صفة للقوم.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 31 الى 35]
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
اللغة:
(ذَرْعاً) : الذرع: الطاقة والقوة وفي المصباح: «ضاق بالأمر ذرعا عجز عن احتماله وذرع الإنسان طاقته التي يبلغها» وعبارة الزمخشري: «وقد جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له والأصل فيه(7/426)
أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة» وفي الأساس واللسان العجيب من مجاز هذه الكلمة إذ يقال: ضاق بالأمر ذرعا وذراعا إذا لم يطقه وأبطرت ناقتك ذرعها كلفتها ما لم تطق واقصد بذرعك واربع على ظلعك:
ارفق بنفسك، وما لك عليّ ذراع أي طاقة وطفت في مذارع الوادي وهي أضواحه ونواحيه وقد أذرع في كلامه هو يذرع فيه إذراعا وهو الإكثار وفلان ذريعتي إليك وقد تذرعت به إليه أي توسلت وسألته عن أمره فذرّع لي منه شيئا وذرعت لفلان عند الأمير:
شفعت له وأنا ذريع له عنده ووقع فيهم موت ذريع: سريع فاش وذلك إذا لم يتدافنوا واستوى كذراع العامل وهو صدر القناة وهو لك مني على حبل الذراع أي حاضر قريب وجعلت أمرك على ذراعك أي اصنع ما شئت.
هذا والذراع من الرجل من طرف المرفق الى طرف الإصبع الوسطى والساعد مؤنثة فيهما وقد تذكّر والذراع من المقاييس طوله بين الخمسين والسبعين سنتيمترا.
(رِجْزاً) : الرجز والرجس: العذاب من قولهم ارتجز وارتجس إذا اضطرب لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب.
الإعراب:
(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) الواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي فاستجاب الله دعاء لوط وأرسل ملائكة لإهلاكهم وأمرهم أن يبشروا ابراهيم بالذرية(7/427)
الطيبة فجاءوا أولا إلى ابراهيم. ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءت رسلنا ابراهيم فعل وفاعل ومفعول به وبالبشرى متعلقان بجاءت وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة إنا مقول القول وإن واسمها ومهلكو خبرها وأهل هذه مضافين والقرية بدل من هذه وهي سذوم أو سدوم وقد تقدم تفصيل ذكرها فجدد به عهدا. (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) الجملة لا محل لها لأنها تعليل للإهلاك وان واسمها وجملة كانوا خبرها وظالمين خبر كانوا.
(قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) إن حرف مشبه بالفعل وفيها خبرها المقدم ولوطا اسمها المؤخر وسيأتي معنى هذا الإخبار في باب البلاغة وقالوا فعل وفاعل ونحن مبتدأ وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم وفيها صلة من. (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) اللام موطئة للقسم وننجينه فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله مستتر تقديره نحن وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه وإلا أداة استثناء وامرأته مستثنى وقد تقدم هذا وجملة كانت حالية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هي ومن الغابرين خبرها أي الباقين في العذاب.
(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) أن زائدة بعد لما تفيد المهلة مع الترتيب في وقتين متجاورين لا فاصل بينهما وقد تقدم نظيرها في يوسف وجملة سيء بهم لا محل لها وسيء فعل ماض مبني للمجهول وبهم متعلقان بسيء ونائب الفاعل هو ضمير المصدر أي جاءته المساءة والغم بسببهم على حد قوله:
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم(7/428)
وسيأتي تفصيل لهذا في باب الفوائد. وضاق بهم عطف على سيء وذرعا تمييز محول عن الفاعل أي ضاق ذرعه بهم، ويحتمل أن نائب الفاعل ضمير يعود على لوط (وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل وإنا وإن واسمها ومنجوك خبرها والكاف في موضع جر بالإضافة وعلى هذا تنصب وأهلك بفعل محذوف أي وننجي أهلك، وما بعده تقدم إعرابه. (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ان واسمها ومنزلون خبرها وعلى أهل هذه القرية متعلقان بمنزلون ورجزا مفعول به لمنزلون لأنه اسم فاعل ومن السماء صفة لرجز وبما الباء سببية وما مصدرية أي بسبب فسقهم، وكان واسمها وجملة يفسقون خبرها. (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وتركنا فعل وفاعل ومنها متعلقان بتركنا أو هو المفعول الثاني لها وآية مفعولها الاول وبينة صفة لأن «ترك» اختلف فيها النحاة فمنهم من جعلها تتعدى الى واحد ومنهم من جعلها بمعنى صير فإلى مفعولين وهو اختيار ابن مالك وأنشد:
وربيته حتى إذا ما تركته ... أخا القوم واستغنى عن المسح ساربه
ولقوم متعلقان ببينة وجملة يعقلون صفة لقوم.(7/429)
البلاغة:
فن الاشارة:
في قوله «ان فيها لوطا» فن الاشارة وقد تقدم ذكره كثيرا في هذا الكتاب فليس المراد إخبارهم بكون لوط في القرية وانما هو جدال في شأنه لأنهم ذكروا أن أهلها سيهلكون بسبب امعانهم في الظلم فاعترض عليهم بأن فيها من هو بريء الساحة من الذنب لم يجترح ذنبا ولم يقترف إثما ولم يشارك قومه فيما هم ممعنون فيه من غي وارتكاس وفي هذا كله أيضا إشارة الى أن من واجب الإنسان المؤمن أن يتحزن لأخيه وأن يسارع الى رد الحيف عنه ويتشمر للدفع عنه وهذا من بليغ الاشارة وخفيها.
الفوائد:
نائب الفاعل:
ينوب عن الفاعل بعد حذفه واحد من أربعة:
1- المفعول به نحو «وغيض الماء وقضي الأمر» .
2- المجرور بحرف الجر نحو «ولما سقط في أيديهم» شريطة أن لا يكون حرف الجر للتعليل فلا يقال وقف لك ولا من أجلك ويقال في إعرابه انه مجرور لفظا بحرف الجر مرفوع محلا على أنه نائب فاعل، غير انه إذا كان مؤنثا لا يؤنث فعله بل يبقى مذكرا فلا يقال ذهبت بفاطمة بل ذهب بفاطمة.
3- الظرف المتصرف المختص نحو مشي يوم كامل وصيم رمضان، والمراد بالظرف المتصرف ما يصح الإسناد اليه كيوم وليلة(7/430)
ودهر وشهر وغير المتصرف ما لا يصح الاسناد اليه كحيث وعند، والمراد بالمختص أن يكون مفيدا غير مبهم ويكون مختصا بالوصف نحو جلس مجلس مفيد أو بالاضافة نحو سهرت ليلة القدر أو بالعلمية نحو صيم رمضان فلا تنوب عن الفاعل الظروف المبهمة نحو زمان ووقت ومكان غير مضافة.
4- المصدر المتصرف المختص نحو «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» فنفخة نائب الفاعل وهو مصدر متصرف يصح الإسناد إليه ومختص لكونه موصوفا ويمتنع سير سير لعدم الفائدة، وقد ينوب عن الفاعل في المصدر المتصرف المختص ومنه قول الفرزدق:
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلّم إلا حين يبتسم
فيكون المعنى يغضي الإغضاء المعهود وهو إغضاء الإجلال من مهابته فنائب الفاعل ضمير الإغضاء المفهوم من يغضي، ولا يجوز أن يكون من مهابته في موضع الرفع على أنه نائب الفاعل لأن حرف الجر هنا للتعليل فهو في محل نصب على أنه مفعول من أجله، ومن أمثلته أيضا قول طرفة بن العبد البكري:
فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله
فيكون المعنى حيل الحول المعهود، ولا يصح أن يكون الظرف لأنه غير متصرف.(7/431)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
اللغة:
(وَلا تَعْثَوْا) : ولا تفسدوا وفي المصباح: «عثا يعثو وعثي يعثى من باب قال وتعب أفسد فهو عاث» وفي القاموس: «وعثا كرمى وسعى ورضي عثيّا وعثيّا وعثيانا، وعثا يعثو عثوّا أفسد» .(7/432)
(الرَّجْفَةُ) : الزلزلة الشديدة وفي الأساس: «ورجفت الأرض «فأخذتهم الرجفة» «يوم ترجف الأرض والجبال» ورجف الشجر وأرجفته الريح ورجف البعير تحت الرحل والمطي تحت رحالها رواجف ورجّف، وجاءنا شيخ ترجف عظامه. ومن المجاز: خرجوا يسترجفون الأرض نجدة وارتجفت بهم دفتا الشرق والغرب وأرجفوا في المدينة بكذا إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصيح عندهم وهذا من أراجيف الغواة والإرجاف مقدمة الكون وتقول: إذا وقعت المخاويف، كثرت الأراجيف» .
(حاصِباً) : ريحا عاصفة فيها حصباء وفي المختار: «عصفت الريح اشتدت وبابه ضرب» .
الإعراب:
(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) الواو عاطفة والى مدين متعلقان بمحذوف معطوف على أرسلنا في قصة نوح أي وأرسلنا الى مدين شعيبا وأخاهم مفعول به وشعيبا بدل أو عطف بيان والفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد مر حكم المنادى المضاف الى ياء المتكلم واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وارجوا عطف على اعبدوا واليوم مفعول به والآخر صفة لليوم. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتعثوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بتعثوا ومفسدين حال. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به، فأخذتهم الفاء عاطفة وأخذتهم فعل ماض ومفعول به مقدم والرجفة فاعل مؤخر فأصبحوا(7/433)
عطف على فأخذتهم والواو اسم أصبح وفي دارهم متعلقان بجاثمين وجاثمين خبر أصبحوا. (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) الواو عاطفة وعادا مفعول به لفعل محذوف معطوف على ما قبله أي وأهلكنا عادا، وثمودا عطف على عادا بالصرف وتركه والواو عاطفة وقد حرف تحقيق وتبين فعل ماض وفاعل مستتر تقديره إهلاكهم وقدره بعضهم آيات بينات تتعظون بها وتتفكرون فيها ومن مساكنهم متعلقان بتبين أي من جهة مساكنهم إذا عرجتم بها. (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) الواو عاطفة وزين فعل ماض ولهم متعلقان بزين والشيطان فاعل وأعمالهم مفعول به فصدهم عطف على زين وعن السبيل متعلقان بصدهم والواو حالية وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها ومستبصرين خبرها أي والحال أنهم كانوا متمكنين من النظر والاستبصار ولكنهم أصموا آذانهم وأغشوا عيونهم عن الحق ورؤية معالمه.
(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) وقارون معطوف على عاد، وفرعون وهامان عطف عليه وقدم قارون لقرابته من موسى أي أهلكناهم جميعا والواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم فعل ومفعول به مقدم وموسى فاعل وبالبينات متعلقان بجاءهم فاستكبروا عطف على جاءهم وفي الأرض متعلقان باستكبروا والواو حالية وما نافية وكانوا كان واسمها وسابقين خبرها أي أنهم لجوا في طغيانهم ولكنهم لم يكونوا فائتين فأدركهم عذابنا. (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) الفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعرف مصيرهم فقد أخذنا كلا منهم بذنبه. وكلّا مفعول مقدم(7/434)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
لأخذنا وأخذنا فعل وفاعل، فمنهم الفاء عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وهي نكرة موصوفة وأرسلنا صفة وعليه متعلقان بأرسلنا وحاصبا مفعول أرسلنا. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) الواو عاطفة ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة أخذته الصيحة صفة، ومنهم من خسفنا به الأرض:
عطف على سابقتها وكذلك ومنهم من أغرقنا. (وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وكان الله كان واسمها واللام لام الجحود ويظلمهم منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد لام الجحود والواو حالية ولكن مخففة مهملة وكانوا كان واسمها وأنفسهم مفعول مقدم وجملة يظلمون خبر كانوا.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
اللغة:
(الْعَنْكَبُوتِ) : دويّبة معروفة تنسج من لعابها خيوطا وتصيد بذلك النسيج طعامها والجمع عناكب وعنكبوتات والعنكب ذكرها(7/435)
والجمع عناكب وعناكيب والعنكبة والعنكباة والعكنباة أنثاها والجمع عناكب وعناكيب، وقال علماء التصريف «والعنكبوت معروف ونونه أصليه والواو والتاء مزيدتان بدليل قولهم في الجمع عناكب وفي التصغير عنيكيب ويذكر ويؤنث وهذا مطرد في أسماء الأجناس» وقال ابن يعيش في شرح المفصل «ومن ذلك فعللوت قالوا عنكبوت وتخربوت ولم يأت صفة فالعنكبوت معروفة وهي دويبة تنسج لها بيوتا من خيوط واهية والتخربوت الناقة الفارهة والواو والتاء في آخرهما زائدتان زيدا في آخر الرباعي كما زيدا في آخر الثلاثي من نحو ملكوت ورهبوت» وسيأتي البحث عن التشبيه المتعلق ببيت العنكبوت في باب البلاغة.
الإعراب:
(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) حال من اتخذ الأصنام أولياء وعبدها واعتمدها راجيا نفعها وشفاعتها كحال العنكبوت كما سيأتي في باب البلاغة. ومثل مبتدأ والذين مضاف اليه وجملة اتخذوا صلة وهو فعل وفاعل ومن دون الله حال وأولياء مفعول به وكمثل خبر وقد تقدم نظيره، العنكبوت مضاف اليه وجملة اتخذت بيتا حالية.
(لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف تقديره لما عبدوها. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الجملة تعليل لما قبله وان واسمها وجملة يعلم خبرها وما اسم موصول مفعول يعلم وجملة يدعون صلة والعائد محذوف أي يعلم الذين يدعونهم ويعلم أحوالهم والمراد بالتعليل التوكيد لما ضربه من مثل ومن دونه حال ومن شيء متعلقان(7/436)
بيدعون ويجوز أن تكون ما نافية ومن شيء مفعول يدعون على أن من زائدة لسبقها بالنفي وجملة ما يدعون في محل نصب مفعول يعلم وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان. وقال بعضهم:
«ما استفهامية أو نافية أو موصولة ومن للتبعيض أو مزيدة للتوكيد، وقيل ان هذه الجملة على إضمار القول أي قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء يدعون من دونه» . (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) الواو عاطفة وتلك مبتدأ والأمثال بدل وجملة نضربها للناس خبر ويجوز أن يكون الأمثال خبرا وجملة نضربها حال يكون أو خبرا ثانيا، والواو حالية وما نافية ويعقلها فعل مضارع ومفعول به وإلا أداة حصر والعالمون فاعل يعقلها وسيأتي بحث الأمثال في باب البلاغة.
(خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف للشروع في تسلية المؤمنين بعد أن خامرهم اليأس من إيمان الكفار. وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به وبالحق حال والباء للملابسة وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر وللمؤمنين صفة لآية.
البلاغة:
في قوله «وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت» فن التمثيل وقد تقدمت نماذج مختارة منه وبعضهم يجعله ضربا من ضروب الاستعارة ويمثل له بقول امرئ القيس:
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتّل(7/437)
فمثّل عينيها بسهمي الميسر يعني المعلّى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثّل قلبه بأعشار الجزور فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل. وفي الآية مثّل ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم وتولوه من دون الله بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة وهو نسج العنكبوت، أي كما صح أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فقد صح أن دينهم أضعف الأديان وأوهنها.
ومن جيد التمثيل قول عمر بن أبي ربيعة وكانوا يسمون شعره «الفستق المقشر» :
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمّرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استهلت ... وسهيل إذا استقل يماني
يعني الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر.
وكانت نهاية في الحسن والكمال، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف وكان غاية في القبح والدمامة، فمثّل بينهما وبين سمييهما ولم يرد إلا بعد ما بينهما وتفاوته خاصة لأن سهيلا اليماني قبيح لا دميم.
وعليه ورد قول المتنبي أيضا من قصيدة يذكر فيها خروج شبيب الخارجي ومخالفته كافورا:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان(7/438)
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني
فإن شبيبا الخارجي الذي خرج على كافور الاخشيدي وقصد دمشق وحاصرها وقتل على حصارها كان من قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب، وأخبار ذلك مشهورة والسيف الذي يقال له يماني في نسبته الى اليمن، ومراد المتنبي أن شبيبا لما قتل وفارق كفه السيف فكأن الناس قالوا لسيفه: أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه.
التمثيل في رأي عبد القاهر:
وسبب آخر يذكره عبد القاهر مبينا به روعة التمثيل ويراه محيطا بأطراف الباب وذلك ان لتصور الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله بابا آخر من الظرف واللطف ومذهبا من مذاهب الاحساس لا يخفى موضعه من العقل وإذا استقريت التشبيهات وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كانت الى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب والتمثيل أخص شيء بهذا الشأن.
قال عبد القاهر: «وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بين المشرق والمغرب وهو يريك المعاني الممثلة شبها في الاشخاص الماثلة، وينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأضداد، ويجعل الشيء قريبا بعيدا معا» ونكتفي الآن بهذا القدر على أن نعود إلى هذا البحث في موطن آخر من هذا الكتاب.(7/439)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 45 الى 49]
اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49)
الإعراب:
(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) كلام مستأنف مسوق للحث على تلاوة الكتاب وتدبر منطوياته والعمل بأحكامه، وإقامة الصلاة المكتوبة المؤداة بالجماعة لتوحيد الكلمة وتصفية النفس من أدران الشوائب، وأتل فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت أي يا محمد والخطاب له ليشمل كل فرد من أفراد أمته وما مفعول به وجملة أوحي صلة وإليك متعلقان بأوحي(7/440)
ومن الكتاب حال وأقم فعل أمر معطوف على أتل والفاعل مستتر تقديره أنت أيضا والصلاة مفعول به. (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) الجملة تعليل للأمر بإقامة الصلاة، وان واسمها وجملة تنهى عن الفحشاء والمنكر خبرها والواو استئنافية واللام لام الابتداء وذكر الله مبتدأ وأكبر خبر والله الواو وعاطفة والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تصنعون صلة. (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان إرشاد أهل الكتاب وكيفية مجادلتهم، ولا ناهية وتجادلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وأهل الكتاب مفعول به وإلا أداة حصر وبالتي متعلقان بتجادلوا وموصوف الموصول محذوف أي بالمجادلة التي، وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة صلة التي وإلا أداة استثناء والذين استثناء من الجنس وفي المعنى وجهان أوردهما أبو البقاء قال: «أحدهما إلا الذين ظلموا منهم فلا تجادلوهم بالحسنى بل بالغلظة لأنهم يغلظون لكم فيكون مستثنى من التي هي أحسن لا من الجدل والثاني لا تجادلوهم البتة بل حكّموا فيهم السيف لفرط عنادهم» .
(وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) الواو عاطفة وقولوا فعل أمر وفاعل وجملة آمنا مقول القول وبالذي متعلقان بآمنا وجملة أنزل صلة وإلينا متعلقان بأنزل وأنزل إليكم عطف على أنزل إلينا ففي الكلام حذف الموصول الاسمي أي والذي أنزل إليكم وإلهنا الواو عاطفة وإلهنا مبتدأ وإلهكم عطف على إلهنا وواحد خبر ونحن مبتدأ وله متعلقان بمسلمون(7/441)
ومسلمون خبر نحن وفي هذا القول منتهى المناصحة والنصفة والاقناع.
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الانزال أنزلنا، وأنزلنا فعل وفاعل وإليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به. (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) الفاء تفريعية والذين مبتدأ وجملة آتيناهم صلة وهو فعل وفاعل ومفعول به والكتاب مفعول به ثان وجملة يؤمنون به خبر الذين. (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) الواو عاطفة ومن هؤلاء خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يؤمن به صلة وهذا من قبيل الاخبار بالمغيبات وهي إحدى ميزات القرآن الكريم والواو حالية وما نافية ويجحد فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان به وإلا أداة حصر والكافرون فاعل يجحد. (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) كلام مستأنف للشروع في إيراد الدليل على إعجاز القرآن، وما نافية وكنت كان واسمها وجملة تتلو خبرها وفاعل تتلو مستتر تقديره أنت ومن قبله حال لأنه كان صفة لكتاب ويجوز تعليقه بتتلو ومن حرف جر زائد وكتاب مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول تتلو والواو حرف عطف ولا نافية وتخطه فعل مضارع معطوف على تتلو وبيمينك متعلقان بتخطه وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وقد تضمن معنى الجواب لشرط محذوف أي لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط، ولارتاب اللام واقعة في جواب إذن وارتاب المبطلون فعل ماض وفاعل.
(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بل إضراب عن ارتيابهم أي ليس فيه ما يدعو الى الارتياب فيه وهو محفوظ في الصدور وهو مبتدأ وآيات خبر وبينات صفة لآيات وفي صدور(7/442)
متعلقان بمحذوف خبر ثان لهو أي هو مثبت محفوظ في صدورهم والذين مضاف اليه وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول به ثان لأوتوا. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) تقدم اعراب نظيرها قريبا.
البلاغة:
الاطناب:
في قوله «ولا تخطه بيمينك» إطناب لا بد منه فذكر اليمين وهي الجارحة التي يزاول بها الخط فيه زيادة في التصوير واستحضار لنفي كونه كاتبا، وقد قدمنا أن الاطناب يرد حقيقة ومجازا، وهذا من النوع الاول ومثله قولهم: رأيته بعيني وقبضته بيدي، ووطئته بقدمي، وذقته بفمي، وكل هذا يظنه الظان المبتدئ والسطحي انه من قبيل الزيادة والفضول وانه لا حاجة اليه ويقول: إن الرؤية لا تكون إلا بالعين والقبض لا يكون إلا باليد والوطء لا يكون إلا بالقدم والذوق لا يكون إلا بالفم وليس الأمر كما توهم بل هذا يقال في كل شيء يعظم مناله ويعز الوصول اليه وهو كثير في القرآن الكريم وقد تقدم بعضه وسيأتي الكثير منه أيضا.
الفوائد:
1- أثارت دائرة المعارف إشكالا في قوله تعالى: «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذن لارتاب المبطلون» فتقول: «إنها تدل على أنه تعلم القراءة في الكبر أي بعد نزول القرآن وإن كان التعبير غامضا أيضا» وليس التعبير غامضا ولكن التخريج الذي خرجته دائرة المعارف الاسلامية فاسد من أساسه، إذ أن لفظ(7/443)
الآية صريح كل الصراحة في الدلالة على أن أهل مكة عرفوا عن النبي قبل نزول الوحي أنه لم يكن يتلو كتابا ولا يكتب بيمينه ولو أنه كان كذلك إذن لارتاب المبطلون بأن يذكروا للناس انه كان يخلو الى نفسه فيكتب القرآن ويعده ثم يخرج للناس فيتلوه عليهم، ولم تقف دائرة المعارف الاسلامية عند هذا الحد فأوردت آية الفرقان وهي «وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا» وواضح أن مفهوم هذه الآية لا يدل على شيء مما تخرصت به دائرة المعارف الاسلامية إذ أنها تدل في بساطة تامة على أن كفار قريش كانوا يدعون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب ما يملى عليه من أساطير الأولين وليس كل ما يدعي الكفار صوابا بل هو هجوم يقصد منه تجريح القرآن وإضعاف شأنه ويدل على مغالطة دائرة المعارف الاسلامية انها تغافلت الآية السابقة إذ يقول تعالى: «وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا، وقالوا أساطير الأولين» ... الآية وقد أوردنا حملة فقهاء الشرق والغرب على أبي الوليد الباجي لزعمه أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية.
2- كيف تمّ تدوين القرآن:
ورد في كتاب الإتقان للسيوطي عن زيد بن ثابت قال «قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء» وعن زيد ابن ثابت أيضا قال: كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع» قال الخطابي: «إنما يجمع النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بعهده(7/444)
الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة فكان ابتداء ذلك على بد الصديق بمشورة عمر» .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن» وعلق السيوطي على هذا الحديث بقوله: «لا ينا في ذلك لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة وقد كان القرآن كتب كله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور» .
وقال الحارث المحاسبي في كتاب فهم السنن: «كتابة القرآن ليست بمحدثة فانه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أصحابه بكتابته ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب فانما أمر الصديق بنسخها من مكان الى مكان مجتمعا وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله فيها القرآن منتشرا فجمعها جامع جامع وربطها بخيط لا يضيع منها شيء» .
قال السيوطي: «وقد تقدم في حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف وفي رواية والرقاع وفي أخرى وقطع الأديم وفي أخرى الأكتاف وفي أخرى والأضلاع وفي أخرى والاقتاب والعسب» .
جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف جمع لخفة وهي الحجارة الرقاق، وقال الخطابي: صفائح الحجارة، والرقاع جمع رقعة وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد، والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبصير ليركب عليه.(7/445)
وروى البخاري في تفسيره في ذلك رواية له: «قال علي عليه السلام أن رسول الله أوصاني إذا واريته في حفرته أن لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله فإنه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل» والذي نراه ونستخلصه من مجموع هذه الأقوال أن النبي كان يبيح للمسلمين كتابة القرآن لمن كان يستطيع الكتابة منهم وانه كان يأمر كتابه بتدوينه ولكن التدوين لم يكن وفق نظام مقرر بحيث يقطع الى أن النبي خلف القرآن كله مدونا مرتب السور مجموعا.
ولما قبض الرسول بدأ التفكير في جمع المصحف، وفي البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: أرسل إليّ أبو بكر عقب مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر:
- إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقال زيد لعمر:
- كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله؟ قال عمر:
- هذا والله خير.
فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، قال أبو بكر:
- إنك رجل «شاب عاقل» لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن.
قلت: فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح(7/446)
له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص» الى آخر براءة.
وواضح من هذا أن أبا بكر وعمر وغيرهما خشوا وقد اندفع المسلمون في حروب الردة ثم في حروب الفتح أن يهمل أمر القرآن وهو معجزة رسول الله الكبرى ودعامة الإسلام الأولى فاتفقوا على جمعه من هذه الصحائف المتفرقة التي كان يكتبها عارفو الكتابة من الصحابة ومن صدور الناس فكتب القرآن أو على الأصح نقل ما كان منه مكتوبا وأكمل بما كان محفوظا في صدور الرجال.
وعلى الرغم من كثرة النصوص التي نقلنا بعضها، لا يزال هناك بعض الغموض يحيط بالطريقة التي اتبعها زيد بن ثابت في جمع صحف القرآن، فقد ذكر أنه كان يحفظ القرآن كله، ومن المرجح أن عددا من الصحابة كانوا يحفظون القرآن منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وربما أبو بكر وعمر فلماذا لم يجتمع هؤلاء ويتموا عملهم مستعينين بالصحف التي أملاها النبي وبذاكرتهم؟ ويظهر لنا أن هذه الطريقة الطبيعية التي اتبعت حتى تم لهم جمع المصحف بطريقة هادئة لا ارتجال فيها وهو ما عنته الآية الكريمة «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» ولما كان عهد عثمان بن عفان جد من المناسبات ما دعا الى إعادة النظر في أمر هذه الصحف التي كتبها زيد بن ثابت.
روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق(7/447)
فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا فأرسل عثمان الى حفصة بنت عمر بن الخطاب وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرسلي إلينا هذه الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة الى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما أنزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة وأرسل عثمان الى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد:
«ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف وقد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري وهي «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فألحقناها مع سورتها في المصحف.
ترتيب المصحف:
أما بصدد ترتيب المصحف فيقول السيوطي: «الإجماع والنصوص على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، وذلك أن رسول الله كان يدل على مكان كل آية في سورتها ويؤيد هذا الرأي قول عثمان بن أبي العاص: «كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: «إن الله يأمر بالعدل(7/448)
والإحسان وإيتاء ذي القربى» الى آخرها وقد التزم عثمان في تدوين المصحف ما علم أنه رأي رسول الله في ترتيب الآيات.
وأما ترتيب السور فهو متروك لاجتهاد المسلمين ولكننا نثبت رواية عن ابن عباس: روى ابن عباس قال: قلت لعثمان ما حملكم على أن عدتم الى الأنفال وهي من المثاني والى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرئت بينهما ولم أكتب سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال.
وفي كتاب الإتقان طائفة هامة جدا من الترتيبات حسب أسباب النزول وفيما يلي الترتيب التاريخي كما رواه ابن عباس.
«السور المكية»
1- اقرأ، 2- ن، 3- المزمل، 4- المدثر، 5- تبت، 6- الشمس، 7- الأعلى، 8- الليل، 9- الفجر، 10- الضحى، 11- ألم نشرح، 12- العصر، 13- العاديات، 14- الكوثر، 15- التكاثر، 16- الماعون، 17- الكافرون، 18- الفيل،(7/449)
19- الفلق، 20- الناس، 21- الإخلاص، 22- النجم، 23- عبس، 24- القدر، 25- الضحى، 26- البروج، 27- التين، 28- قريش، 29- القارعة، 30- القيامة، 31- الهمزة، 32- المرسلات، 33- ق، 34- البلد، 35- الطارق، 36- الساعة، 37- ص، 38- الأعراف، 39- الجن، 40- يس، 41- الفرقان، 42- الملائكة، 43- مريم، 44- طه، 45- الواقعة، 46- الشعراء، 47- النمل، 48- القصص، 49- بني إسرائيل، 50- يونس، 51- هود، 52- يوسف، 53- الحجر، 54- الانعام، 55- الصافات، 56- لقمان، 57- سبأ، 58- الزمر، 59- المؤمنون، 60- السجدة، 61- الشورى، 62- الزخرف، 63- الدخان، 64- الجاثية، 65- الأحقاف، 66- الذاريات، 67- الغاشية، 68- الكهف، 69- النحل، 70- نوح، 71- ابراهيم، 72- الأنبياء، 73- المؤمنون، 74- السجدة، 75- الطور، 76- تبارك، 77- الحاقة، 78- المعارج، 79- النبأ، 80- النازعات، 81- الانفطار، 82- الانشقاق، 83- الروم، 84- العنكبوت، 85- المطففين.
«السور المدينة»
86- البقرة، 87- الأنفال، 88- آل عمران، 89- الأحزاب، 90- الممتحنة، 91- النساء، 92- الزلزلة، 93- الحديد، 94- القتال، 95- الرعد، 96- الرحمن، 97- الإنسان، 98- الطلاق، 99- البينة، 100- الحشر، 101- النصر، 102- النور، 103- الحج، 104- المنافقون،(7/450)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
105- المجادلة، 106- الحجرات، 107- التحريم، 108- الجمعة، 109- التغابن، 110- الصف، 111- الفتح، 112- المائدة، 113- براءة.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 55]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54)
يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
الإعراب:
(وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) كلام مستأنف لتقرير نوع آخر من أنواع لجاجهم ومكابرتهم، وقالوا فعل ماض والواو فاعل يعود على كفار مكة ولولا حرف تحضيض بمنزلة هلا وأنزل(7/451)
فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآيات نائب فاعل ومن ربه صفة لآيات أو متعلقان بأنزل. (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إنما كافة ومكفوفة والآيات مبتدأ وعند الله ظرف متعلق بمحذوف هو الخبر أي ينزلها كيف يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا، وإنما الواو عاطفة أو حالية وإنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين صفة. (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري والواو عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه المقام أي أقصّر محمد ولم يكفهم، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكفهم فعل مضارع مجزوم بلم والهاء مفعول به وأن وما بعدها فاعل يكفهم وان واسمها وجملة أنزلنا عليك الكتاب خبر أن وجملة يتلى عليهم حالية. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة ورحمة اسمها المؤخر وذكرى عطف على رحمة ولقوم صفة لذكرى وجملة يؤمنون صفة لقوم. (قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور بالباء لفظا فاعل كفى المرفوع محلا وبيني ظرف متعلق بشهيدا وبينكم عطف على شهيدا وشهيدا تمييز وجملة يعلم حال وما مفعول يعلم وفي السموات صلة والأرض عطف على السموات.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وبالباطل متعلقان بآمنوا وكفروا بالله عطف على آمنوا بالباطل وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ أو ضمير فصل والخاسرون خبر هم أو خبر أولئك والجملة خبر الذين.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) كلام(7/452)
مستأنف مسوق للتعجب أو الاستهزاء بهم ويستعجلونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به وبالعذاب متعلقان بيستعجلونك ولولا حرف امتناع لوجود وأجل مبتدأ ومسمى صفته والخبر محذوف واللام رابطة للجواب وجاءهم العذاب فعل ومفعول به وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم.
(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويأتينهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به وبغتة حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر وجملة هم لا يشعرون حالية.
(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يستعجلونك بالعذاب تقدم اعرابها وكرر الجملة للتعجب من حماقاتهم لأن من هدد بشيء التمس أسباب الوقاية منه أما هؤلاء فيستعجلونه. والواو حالية وان واسمها واللام المزحلقة ومحيطة خبر إن وبالكافرين متعلقان بمحيطة، وعبر بالحال وأراد الاستقبال أي ستحيط بهم وذلك للدلالة على التحقق والمبالغة، ويجوز أن يراد بجهنم أسبابها المؤدية إليها فلا تأويل في قوله محيطة.
(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) الظرف متعلق بمحيطة وجملة يغشاهم العذاب في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن فوقهم حال ومن تحت أرجلهم عطف على من فوقهم.
(وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة ويقول فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الموكل بالعذاب وقرئ ونقول وعلى كل حال الجملة معطوفة على يغشاهم وجملة ذوقوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وما مفعول به على تقدير مضاف أي جزاء ما وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم.(7/453)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
البلاغة:
خص سبحانه وتعالى نار جهنم بالجانبين الأعلى والأسفل ولم يذكر اليمين ولا الشمال ولا الخلف ولا الأمام لإظهار الفرق بينها وبين نار الدنيا التي تحيط بجميع الجوانب، فنار جهنم لا تطفأ بالدوس عليها ولكنها تنزل من فوق.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 59]
يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)
الإعراب:
(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)
يا حرف نداء وعبادي منادى مضاف لياء المتكلم والذين صفة لعبادي وجملة آمنوا صلة وإن واسمها وخبرها والفاء الفصيحة أي إن ضاق بكم موضع فإياي فاعبدوا، وإياي مفعول لفعل محذوف تقديره اعبدوا إياي فاستغنى بأحد الفعلين عن الفعل الثاني، فاعبدوني الفاء عاطفة على الفاء الأولى وجملة اعبدوني مفسرة وهي فعل أمر وفاعل ومفعول به وهي الياء المحذوفة. (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) كل نفس مبتدأ وذائقة الموت خبرها والمراد مرارته ومشقته(7/454)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإلينا متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف على جملة آمنوا واللام موطئة للقسم ونبوئنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وجملة القسم خبر الذين، ولك أن تنصب الذين بفعل محذوف دل عليه الفعل المذكور بعده وهو نبوئنهم ومن الجنة حال وغرفا مفعول به ثان لأن بوأ يتعدى لاثنين وقد مرّ نظيره في يونس والحج وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لغرفا وخالدين فيها حال ونعم فعل ماض جامد لانشاء المدح وأجر العاملين فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف أي أجرهم.
(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الذين نعت للعاملين ولك أن تقطعه فترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو تنصبه على أنه منصوب على المدح بفعل محذوف تقديره أمدح وجملة صبروا صلة وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون ويتوكلون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله والصبر هنا عام يشمل الهجرة ومفارقة الوطن وأذى المشركين وغير ذلك مما استهدف له المسلمون في مستهل أمرهم وتجري أحكامه على كل من امتحنته نوائب الأيام وحدثان الزمان.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 60 الى 64]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)(7/455)
اللغة:
(يَقْدِرُ) : يضيق ويقتر، ولهذا الفعل خصائص عجيبة فهو يتوزع على طائفة من المعاني سنتنا ولها فيما يلي:
يقال: قدر الرزق: قسمه وباب نصر وضرب وقدر وقدّر على عياله ضيق وقتر، قال في الأساس: «وقدر عليه رزقه وقدّر:
قتر» وقدر يقدر من باب علم قدرا وقدرة ومقدرة ومقدرة ومقدرة ومقدارا وقدارة وقدورة وقدورا وقدرانا وقدارا وقدرا على الشيء قوي عليه، وقدر يقدر من باب ضرب قدرا الأمر دبره وقدر الشيء بالشيء فاسه به وجعله على مقداره وقدر يقدر ويقدر من بابي نصر وجلس الله عظمه، وقدر الرجل فكر في تسوية أمره وتدبيره وقدر يقدر من باب تعب قدرا بفتحتين قصرت عنقه، وقدر على الشيء اقتدر.
(الْحَيَوانُ) : مصدر حي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واوا كما قال سيبويه، سمي ما فيه حياة حيوانا، قالوا: اشتر الموتان(7/456)
ولا تشتر الحيوان أي اشتر الأرض والدور ولا تشتر الرقيق الدواب، وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب كالنزوان واللهبان وما أشبه ذلك والحياة حركة كما أن الموت سكون فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة مبالغة في معنى الحياة ولذلك اختيرت على الحياة في هذا المقام المقتضى للمبالغة.
الإعراب:
(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) كلام مستأنف مسوق لتقرير التوكل على الله وعدم الجزع، وكأين تقدم إعرابها مفصلا وهي هنا مبتدأ ومن دابة تمييزها المجرور بمن وجمل لا تحمل رزقها صفة لدابة وقوله: (اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هو الخبر والله مبتدأ وجملة يرزقها خبر الله وإياكم عطف على الهاء والواو عاطفة وهو مبتدأ والسميع خبر أول والعليم خبر ثان. (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض والتاء فاعل والهاء مفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض خبر من والجملة في محل نصب مفعول ثان لسألتهم المعلقة للاستفهام وسخر الشمس والقمر عطف على خلق السموات والأرض واللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة والله خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أو مبتدأ والخبر محذوف تقديره الله خلق السموات(7/457)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
والفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام في محل نصب حال ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الله مبتدأ وجملة يبسط الرزق خبر ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ومن عباده حال ويقدر فعل مضارع معطوف على يبسط وله متعلقان بيقدر والضمير راجع لمن وان واسمها وعليم خبرها وبكل شيء متعلقان بعليم.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها.
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول القول وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعقلون خبر.
(وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) الواو استئنافية وما نافية وهذه مبتدأ والحياة بدل والدنيا نعت للحياة وإلا أداة حصر ولهو خبر هذه ولعب عطف على لهو. (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو عاطفة وان واسمها والآخرة نعت للدار واللام المزحلقة وهي مبتدأ والحيوان خبر والجملة خبر إن ولو شرطية وكان واسمها وجملة يعلمون خبرها وجواب لو محذوف أي ما آثروا الحياة الدنيا.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 69]
فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)(7/458)
الإعراب:
(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف دل عليه ما وصفهم وشرح من أمرهم هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد ولا يبعد أن تكون استئنافية ليتطرق الى نمط آخر من عنادهم. وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ركبوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وفي الفلك متعلقان بركبوا وجملة دعوا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومخلصين حال وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول به لمخلصين لأنه اسم فاعل. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة ونجاهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والى البر جار ومجرور متعلقان بنجاهم وإذا فجائية وهي مع مدخولها جملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب لما وهم مبتدأ وجملة يشركون خبر هم. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) اللام لام كي ويتمتعوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة ما وليتمتعوا عطف على ليكفروا فهي مثلها ويجوز أن تكون اللام فيهما لام العاقبة والمآل ويحتمل أن تكون اللام فيهما لام الأمر وقرى وليتمتعوا(7/459)
بسكون اللام أمر تهديد وسيأتي بحث واف عن معنى الأمر في باب البلاغة كما سيأتي بحث الخليل بن أحمد عن أقسام اللام في اللغة العربية في باب الفوائد والفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري المفيد للتقرير لأن همزة الاستفهام الانكاري إذا دخلت على النفي أفادت التقرير لأن الكلام يصير إيجابا، والواو عاطفة على محذوف تقدير لقد جعلنا آمنين قارين في مكة ولم يعلموا ذلك ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يروا وان واسمها وجملة جعلنا خبرها ومفعول جعلنا الأول محذوف أي جعلنا بلدهم مكة وحرما مفعول به ثان وآمنا صفة والواو حالية ويتخطف فعل مضارع مبني للمجهول والناس نائب فاعل ومن حولهم حال.
(أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وبالباطل متعلقان بيؤمنون وبنعمة الله يكفرون معطوف على ما قبله. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام متضمن معنى النفي في محل رفع مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى على الله صلة وكذبا مفعول به وأو حرف عطف وكذب عطف على افترى وبالحق متعلقان بكذب ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءه فعل وفاعل مستتر ومفعول به. (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) الهمزة للاستفهام التقريري وليس فعل ماض ناقص وفي جهنم خبر ليس المقدم ومثوى اسمها المؤخر وللكافرين صفة لمثوى(7/460)
وسيأتي معنى التقرير في باب البلاغة. (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) والذين مبتدأ وجملة جاهدوا صلة ومفعول جاهدوا محذوف وسيأتي سر حذفه في باب البلاغة وفينا متعلقان بجاهدوا في حقنا ومن أجلنا ولو جهنا خالصا واللام موطئة للقسم وجملة نهدينهم خبر الذين سبلنا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض وان واسمها ومع المحسنين ظرف متعلق بمحذوف خبر إن.
البلاغة:
1- معنى الأمر:
قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف جاز أن يأمر الله بالكفر وبأن يفعل العصاة ما شاءوا وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت:
هو مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط الى غاية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي الى ضرر جسيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم حردت عليه (أي غضبت) وقلت: أنت وشأنك وافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر وكيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسّر ولكنك كأنك تقول له:
فإذا قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك» .
2- الاستفهام التقريري:
قلنا إن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي صار إيجابا فيرجع(7/461)
الى معنى التقرير ومنه في الشعر قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قال بعضهم لو كان استفهاما ما أعطاه الخليفة مائة من الإبل وقيل لما بلغ جرير هذا البيت في القصيدة كان عبد الملك متكئا فاستوى جالسا فرحا وقال هكذا مدحنا وأعطاه مائة من الإبل.
3- الحذف:
تقدم القول في حذف المفعول به للإيجاز وهو هنا في قوله «والذين جاهدوا فينا» فقد أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول لتتناول كل ما يجب مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء والشيطان وهذا أحسن من تقدير مفعول به خاص كما فعل الكثيرون من المفسرين ليتناول جميع الطاعات والمزدلفات.
الفوائد:
ذكر اللامات للخليل بن أحمد الفراهيدي:
ذكر الخليل بن أحمد شيخ سيبويه في مصنف صغير له أن عدد اللامات إحدى وأربعون لاما ونوردها مع إلماع يسير إلى أحكامها كما أوردها الخليل ثم نعلق على ما بعض نراه جديرا بالتعليق منها:
1- لام القسم وهي مفتوحة وبعدها نون مشددة وذلك مثل قوله عز وجل «لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم» .(7/462)
2- لام جواب القسم وهي تشبه لام القسم وتقوم مقامها.
3- لام الأمر وهي لا تأتي أبدا إلا بعد واو أو فاء مثل قوله تعالى «فليعبدوا ربّ هذا البيت» «ولتأت طائفة» وما أشبه ذلك فإن عدمت واو أو فاء كانت اللام مكسورة نحو قوله عز وجل: «لينفق ذو سعة من سعته» .
4- لام جواب الأمر وهي تشبه لام الأمر، وأنا لا أعرف إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل: «ولنحمل خطاياكم» لا غير.
5- لام الوعد وهي تشبه لام الأمر وتقوم مقامها، وأنا لا أعرف في القرآن إلا حرفين وهما في قوله تعالى:
«فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي» .
6- لام الوعيد وهي تشبه لام الأمر وتقوم مقامها، وأنا لا أعرف في القرآن إلا أربعة أحرف وهي في قوله عز وجل: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفّر» ومثلها:
«فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا» لا غير.
7- لام التوكيد وهي مفتوحة وقبلها نون مشددة لا تأتي إلا بعد إن وإنا وأ إنك وإنكم وإنهم، وانهما، وإنه، وذلك مثل قوله تعالى «وإن الله لعليم حليم» و «إن الله لغفور رحيم» و «إننا لفي شك» و «يقول أإنك لمن المصدقين» «وإنكم لتمرون عليهم مصبحين» «وإنه لحب الخير لشديد» «إن هؤلاء لشرذمة قليلون» .(7/463)
8- لام العماد وهي مفتوحة ولا تأتي إلا بعد الكيد أعني «وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم» «وإن كادوا ليستفزونك» وما أشبه ذلك.
9- لام الجحد وهي مكسورة في ذاتها ناصبة للفعل ولا تأتي إلا بعد كان وما كنا وما كانوا أعني بذلك الكون وذلك مثل قوله: «وما كان الله ليطلعكم على الغيب» «وما كانوا ليؤمنوا» وما أشبه ذلك.
10- لام كي وهي مكسورة في ذاتها ناصبة للفعل ولا تأتي أبدا إلا بعد فعل قد مضى وذلك مثل قوله عز وجل:
«ولتجري الفلك» وما أشبه ذلك.
11- لام إن الخفيفة وهي مكسورة وتشبه لام كي وتقوم مقامها مثل قوله تعالى: «وأمرنا لنسلم لرب العالمين» «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهم» «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» .
12- لام الغاية وهي تشبه لام كي وتقوم مقامها وذلك مثل قوله عز وجل «ليضلوا عن سبيلك» .
13- لام الترجي وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» «لعلك باخع نفسك» «لعله يذكّر أو يخشى» .
14- لام التمني وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «يا ليتني كنت ترابا» «يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا» .(7/464)
15- لام التحذير، فلم أعرف في القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل: «لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون» لا غير ذلك.
16- لام المدح وهي مفتوحة ومن ذلك «لنعم دار المتقين» .
17- لام الذم وهي مفتوحة أيضا ومن ذلك «لبئس المولى ولبئس العشير» .
18- لام كما وهي مفتوحة وأنا لا أعرف في القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله: «وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» والمعنى كما آتيتكم.
19- لام المنقول وهي مفتوحة وذلك مثل قوله عز وجل:
«يدعو لمن ضره أقرب من نفعه» «ولمن صبر وغفر» والمعنى من يضره ومن يصبر.
20- لام الجزاء وهي مفتوحة أبدا ولا تأتي إلا بعد لو ولولا وذلك مثل قوله تعالى «ولو شئنا لبعثنا» «ولو شئنا لرفعناه بها» وما أشبه ذلك.
21- لام الإيجاب وهي مفتوحة ولا تأتي أبدا إلا بعد إن الخفيفة وذلك مثل قوله تعالى: «وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا» «وإن كلّ لما جميع لدينا محضرون» وما أشبه ذلك.
22- لام الشفاعة وهي مكسورة في ذاتها، وأنا لا أعرف في(7/465)
القرآن إلا حرفا واحدا وهو قوله عز وجل «ليقض علينا ربك» .
23- لام الاستغاثة فهي لام الخفض الزائدة نحو: يا لزيد.
24- لام الجر وهي مكسورة في ذاتها خافضة لغيرها وذلك مثل للمؤمنين للعالمين وما أشبه ذلك.
25- لام الصفة وهي مفتوحة في ذاتها خافضة لغيرها ومثل ذلك: ولنا ولكم ولك وله وما أشبه ذلك وإنما فتحت هذه اللام وكسرت لام الجر للفرق بين الضمير والظاهر.
26- لام الأصل وهي ساكنة نحو: الحسنة، السيئة، والوالدات وما أشبه ذلك.
27- لام المعرفة وهي ساكنة وزائدة وتكون للتعريف وذلك مثل الرجل والغلام والجارية والمؤمنين والمتقين وما أشبه ذلك.
28- لام التكثير وهي مفتوحة وهي لام أصلية وذلك مثل:
أولئك، أولئكم وأولات حمل وما أشبه ذلك، وإنما سميت لام التكثير لأنك تخاطب الواحد بلفظ الجمع.
29- لام الابتداء وهي مفتوحة نحو «ولذكر الله أكبر» «لقالوا إنما سكرت أبصارنا» «لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون» .(7/466)
30- لام التفضيل وهي تشبه لام الابتداء وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى: «ولعبد مؤمن خير من مشرك» ومثله:
«لمسجد أسس على التقوى» وما أشبه ذلك.
31- لام ليس وهي مفتوحة وذلك مثل قوله تعالى «لا يعلمون» «لا يسمعون» «لا يألونكم خبالا» وما أشبه ذلك.
32- لام النفي وهي مفتوحة تشبه لام ليس وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى: «ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب» «ولا أقول للذين تزدري أعينكم» والمعنى: ولا أقول لكم.
33- لام غير وهي مفتوحة وتعطف ما بعدها على ما قبلها وذلك مثل قوله تعالى «لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك» «لا شرقية ولا غربية» «لا ظليل ولا يغني من اللهب» وما أشبه ذلك.
34- لام التبرئة وهي مفتوحة وتنصب النكرات نحو قوله تعالى «لا ريب فيه» «لا إكراه» «لا تثريب» «لا جرم» وما أشبه ذلك.
35- لام الصلة وهي مفتوحة ولا تأتي إلا بعد الجحد وذلك مثل قوله تعالى: «لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار» وما أشبه ذلك.
36- لام النهي وهي مفتوحة في ذاتها جازمة لغيرها وذلك مثل قوله: «فلا يسرف في القتل»(7/467)
37- «ولا تطرد الذين يدعون ربهم» «ولا تتبع الهوى» وما أشبه ذلك.
38- لام الدعاء وهي تشبه لام النهي وتقوم مقامها وذلك مثل قوله تعالى: «ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» «ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا» .
39- لام الاستحقاق وهي مضمومة في آخر الكلام وذلك مثل ويل حيث وقعت. قال الخليل: «تمت اللام والحمد لله رب العالمين» .
ملاحظات:
1- هذا ولم يذكر في الشرح لام الإلحاق ولام الفصاحة وقد عدّها أولا.
2- عدّ «لا» لاما وهذا خلاف ما درج عليه النحاة.
أما ابن هشام فقد قسم اللام المفردة إلى ثلاثة أقسام: عاملة للجر، وعاملة للجزم، وغير عاملة، وليس في القسمة أن تكون عاملة للنصب خلافا للكوفيين، فالعاملة للجر مكسورة مع كل ظاهر نحو لزيد ولعمرو إلا مع المستغاث المباشر لها فمفتوحة نحو يا لله ومفتوحة مع كل مضمر نحو لنا ولكم ولهم إلا مع ياء المتكلم فمكسورة.
وللام الجارة اثنان وعشرون معنى ذكرها في كتاب المغني فليرجع إليه من شاء.(7/468)
ثم تكلم عن اللام العاملة للجزم، وأما اللام غير العاملة فسبع:
لام الابتداء، واللام الزائدة، ولام الجواب واللام الداخلة على أداة شرط للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط ومن ثم تسمى اللام الموطئة للقسم، ولام أل، واللام اللاحقة لأسماء الاشارة للدلالة على البعد، ولام التعجب غير الجارة والتفاصيل في كتاب المغني.(7/469)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
(30) سورة الرّوم مكيّة وآياتها ستون
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
اللغة:
(الرُّومُ) : سيأتي ما يقوله التاريخ عنهم في باب الفوائد.
(بِضْعِ سِنِينَ) : تقدم معنى البضع في سورة يوسف واختلاف العلماء في عدده، واختار الأصمعي أنه من الثلاث الى العشر.(7/470)
الإعراب:
(الم غُلِبَتِ الرُّومُ) ألم تقدم القول في إعرابها، وغلبت فعل ماض مبني للمجهول والروم نائب فاعل. (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) في أدنى متعلقان بغلبت والواو عاطفة وهم مبتدأ ومن بعد غلبهم الجار والمجرور متعلقان بقوله سيغلبون وغلبهم مصدر الفعل المبني للمجهول وقد أضيف الى مفعوله وجملة سيغلبون خبر المبتدأ. (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) في بضع سنين متعلقان بقوله سيغلبون أيضا وسيأتي سر إبهام عدد السنين في باب البلاغة ولله خبر مقدم والأمر مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة كأنه جواب لسؤال مقدر وهو أي فائدة في ذكر قوله من بعد غلبهم لأن قوله سيغلبون لا يكون إلا بعد الغلبة؟ فأجيب بأن فائدته اظهار تمام القدرة وبيان أن ذلك بأمر الله تعالى وحده ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر وقبل وبعد ظرفان بنيا على الضم لقطعهما عن الاضافة لقظا لا معنى ثم جرّا بمن وبقيا على ضمهما أي من قبل غلب الروم ومن بعده (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو عاطفة ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بيفرح والتنوين عوض عن جملة كما تقدم أي يوم تغلب الروم وبنصر الله متعلقان بيفرح أيضا وجملة ينصر من يشاء مستأنفة لاظهار صدق المؤمنين ومن اسم موصول مفعول لينصر وجملة يشاء صلة وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والرحيم خبر ثان.
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) وعد الله مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت وهي قوله سيغلبون ويفرح المؤمنون وجملة لا يخلف الله وعده إما مفسرة مقررة(7/471)
لمعنى المصدر فلا محل لها وإما حالية من المصدر والواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعملون خبرها. (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) جملة يعلمون قيل هي مستأنفة وهو قول سليم لا اعتراض عليه وقال الزمخشري: «بدل من قوله يعلمون وفي هذا الابدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود الجهل الذي لا يتجاوز الدنيا، وقوله ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها وباطنها وحقيقتها أنها مجاز الى الآخرة يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة» وقول الزمخشري أقعد بالفصاحة وأملى بالبلاغة ولكن ابدال المثبت من المنفي لا يصح كما تنص عليه قواعد النحو. وهم مبتدأ وعن الآخرة متعلقان بغافلون وهم تأكيد لهم الأولى وغافلون خبرهم الأولى ويجوز أن تكون هم الثانية مبتدأ ثانيا خبره غافلون والجملة خبر هم الأولى.
البلاغة:
1- الإبهام:
في قوله «في بضع سنين» إبهام وفائدة التفخيم وإدخال الرهبة في قلوب المشركين في كل وقت والاشعار بأن زهوهم بأنفسهم واعتدادهم بقوتهم ليس إلا حين يطول أو يقصر ولكنه آيل الى الانتهاء ومفض الى العاقبة الحتمية وهي الارتداد والانتكاس، وقد تقدم ذكر الإبهام كثيرا.(7/472)
2- التنكير:
وذلك في قوله «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا» وفائدته تقليل معلومهم، وتقليله يقربه من النفي حتى يطابق المبدل منه وهو قوله «لا يعلمون» وهذا ما يرجح البالية ولله در الزمخشري ما أبعد غوره، وأصقل ذهنه، وعن الحسن انه قال في تلاوته هذه الآية: بلغ من صدق أحدهم في ظاهر الحياة الدنيا أنه ينقر الدينار بإصبعه فيعلم أجيد هو أم رديء وفي هذا تعليل للعلم الذي بلغ أبعد آماده فغاص في الدأماء، وحلق في أجواز الفضاء، وفطن الى أبعد السرائر، ومكنون الضمائر، ولكنه حين يعرض لما استسر من أسرار الكون كالمبدأ والمعاد والمنتهى وقف ضئيلا لا يبدىء ولا يعيد.
3- التعطف:
في قوله: «وهم عن الآخرة هم غافلون» فن التعطف وهو إعادة اللفظة بعينها في الجملة من الكلام أو البيت من الشعر فقد ردد «هم» للمبالغة في تأكيد غفلتهم عن الآخرة.
الفوائد:
ما يقوله التاريخ:
(الرُّومُ) اسم أطلقه العرب على البيزنطبيين ويطلق اليوم على المسيحيين الشرقيين الملكيين من كاثوليك وأرثوذكس، والامبراطورية الرومانية الشرقية عرفت بالبيزنطية نسبة الى بيزنطية اسم القسطنطينية(7/473)
القديم سمى العرب سكانها الروم، وأول أباطرة البيزنطين قسم أبوه ثيودوسيوس الامبراطورية الى غربية وعاصمتها روما والى شرقية وعاصمتها القسطنطينية. وسبب نزول الآية أنه كان بين فارس والروم قتال، فاحتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى فغلبت فارس الروم فبلغ الخبر مكة فشق على النبي والمسلمين لأن فارس مجوس لا كتاب لهم والروم أهل الكتاب وفرح المشركون وشمتوا وقالوا للمسلمين انكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وفارس أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم ولنظهرن عليكم فنزلت فقال لهم أبو بكر: لا يقرر الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له أبيّ بن خلف: كذبت، فقال له الصديق: أنت أكذب يا عدو الله، فقال: اجعل بيننا أجلا أنا حبك عليه، والمناحبة بالحاء المهملة المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث الى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلاها مائة قلوص الى تسع سنين فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر أتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلا فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر فلما أراد أبيّ أن يخرج الى أحد أتاه عبد الله فلزمه وقال:
لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا ثم خرج الى أحد ثم رجع الى مكة ومات بها من جراحته التي جرحه إياها النبي حين بارزه وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك على رأس سبع سنين من مناحبتهم فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به الى رسول الله فقال له تصدق به(7/474)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
[سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 10]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)
الإعراب:
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويتفكروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي أنفسهم متعلقان بيتفكروا وما نافية وخلق الله السموات فعل وفاعل ومفعول به والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها وقيل هي في محل نصب معلقة للتفكر فتكون في محل نصب على إسقاط الخافض وإلا أداة حصر وبالحق حال أي مصحوبة بالحق قال الزمخشري: «والباء في قوله إلا بالحق مثلها في قولك دخلت عليه بثياب السفر واشترى الفرس بسرجه ولجامه تريد(7/475)
اشتراه وهو ملتبس بالسرج واللجام غير منفك عنهما وكذلك المعنى ما خلقها إلا وهي ملتبسة بالحق مقترنة به» وأجل عطف على الحق ومسمى نعت لأجل. (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) الواو حالية وإن واسمها ومن الناس صفة لكثيرا وبلقاء ربهم متعلقان بكافرون واللام المزحلقة وكافرون خبر إن. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بيسيروا فينظروا الفاء عاطفة على يسيروا ولك أن تجعل الفاء سببية ويسيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر مقدم لكان وعاقبة اسمها والذين مضاف اليه ومن قبلهم صلة الذين.
(كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) جملة كانوا إما تفسيرية لا محل لها ولك أن تجعلها تابعة على البدلية، وكان واسمها وأشد خبرها ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز وأثاروا الأرض عطف على كانوا وعمروها عطف أيضا وهو فعل وفاعل ومفعول به وأكثر نعت لمصدر محذوف أي عمارة أكثر من عمارتهم ومما متعلقان بأكثر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بمن (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وجاءتهم رسلهم فعل ومفعول بهم وفاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم والفاء عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويظلمهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود(7/476)
والجار والمجرور متعلقان بالخبر المحذوف وقد تقدم تقريره ولكن الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا. (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) ثم الفاء عاطفة للتراخي والشروع في بيان هلاكهم في الآخرة بعد هلاكهم في الدنيا وكان فعل ماض ناقص وعاقبة خبر كان المقدم والذين مضاف اليه وجملة أساءوا صلة والسوءى نعت لمصدر أساءوا.
(أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) أن وما في حيزها اسم كان المؤخر ولك أن تجعل السوءى هي الاسم وأن وما في حيزها نصب بإسقاط الخافض أو هي بدل من السوءى وفيما يلي نص اعراب أبي البقاء وهو أوضح الأعاريب: «قوله تعالى: ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى يقرأ بالرفع والنصب فمن رفع جعله اسم كان وفي الخبر وجهان أحدهما السوءى وأن كذبوا في موضع نصب مفعولا له أي لأن كذبوا أو بأن كذبوا أو في موضع جر بتقدير الجار على قول الخليل والثاني أن كذبوا أي كان آخر أمرهم التكذيب والسوءى على هذا صفة مصدر، ومن نصب جعلها خبر كان وفي الاسم وجهان أحدهما السوءى والآخر أن كذبوا على ما تقدم ويجوز أن نجعل أن كذبوا بدلا من السوءى أو خبر مبتدأ محذوف والسوءى فعلى من الأسوأ وهي صفة لمصدر محذوف والتقدير أساء الإساءة السوءى.
وان جعلتها اسما أو خبرا كان التقدير الفعلة السوءى أو العقوبة السوءى.
وكانوا كان واسمها وبها متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا.(7/477)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
[سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 16]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)
اللغة:
(يُبْلِسُ) : أبلس فلان فهو مبلس إذا سكت عن يأس ويقال:
أبلس الرجل انقطعت حجته فسكت فهو لازم لا يتعدى، وفي الكشاف:
«الإبلاس أن يبقى ساكنا يائسا متحيرا يقال ناظرته فأبلس إذا لم ينبس ويئس من أن يحتج ومنه الناقة المبلاس التي لا ترغو» وفي القاموس:
«وأبلس يئس وتحير ومنه إبليس أو هو أعجمي» فقول صاحب المنجد انه يقال «أبلسه» غلط فظيع وقد علل علساء التصريف قراءة يبلس بالبناء للمفعول بأن القائم مقام الفاعل مصدر الفعل ثم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه إذ الأصل يبلس إبلاس المجرمين.
(رَوْضَةٍ) : الروضة: كل أرض ذات نبات وماء ورونق ونضارة وفي أمثالهم: أحسن من بيضة في روضة، يريدون بيضة النعامة. وفي الأساس واللسان: «بأرضه روضة وروضات ورياض وروّض الغيث الأرض وأراض المكان واستراض أي كثرت رياضه ومن المجاز:
أنا عندك في روضة وغدير، ومجلسك روضة من رياض الجنة» .(7/478)
(يُحْبَرُونَ) : يسرون يقال حبره إذا سره سرورا تهلّل له وجهه فيه أثره، وفي الأساس: «وحبره الله سره «فهم في روضة يحبرون» وهو محبور: مسرور» قال ابن الرومي يصف العنب:
ثم جلسنا مجلس المحبور ... على حفافي جدول مسجور
وفي الكشاف: «ثم اختلفت فيه الأقاويل لاحتماله وجوه جميع المسار، فعن مجاهد رضي الله عنه: يكرمون، وعن قتادة: ينعمون، وعن ابن كيسان: يحلون، وعن أبي بكر بن عياش: التيجان على رؤوسهم، وعن وكيع: السماع في الجنة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم أعرابي فقال:
يا رسول الله هل في الجنة سماع؟ قال: نعم يا أعرابي إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة، قال الراوي: فسألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح. وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعتها أهل الدنيا لماتوا طربا» هذا ويأتي فصل ممتع عن السماع وأثره في باب الفوائد.
الإعراب:
(اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لفظ الجلالة مبتدأ وجملة يبدأ الخلق خبره، ثم يعيده عطف على يبدأ. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) الظرف متعلق بيبلس وجملة تقوم في محل(7/479)
جر بإضافة الظرف إليها والساعة فاعل تقوم ويبلس المجرمون فعل وفاعل. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم خبر يكن المقدم ومن شركائهم حال لأنه كان صفة لشفعاء في الأصل وتقدم عليه وشفعاء اسم يكن وكانوا كان واسمها وبشركائهم متعلقان بكافرين وكافرين خبر كانوا. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) الظرف متعلق بيتفرقون وقد تقدم اعراب نظيرها ويومئذ تأكيد لفظي للظرف. (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) الفاء تفريعية وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف على الصلة والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وهم مبتدأ وفي روضة متعلقان بيحبرون وجملة يحبرون خبر هم والجملة خبر الذين.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) عطف على الجملة السابقة ونظيرها في الاعراب ومعنى محضرون أي لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم.
الفوائد:
الغناء في الجنة وغناء الحور العين:
روي عن علي رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» .(7/480)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «إن في الجنة نهرا طول الجنة حافتاه العذارى قيام متقابلات يغنين بأحسن أصوات يسمعها الخلائق حتى ما يرون أن في الجنة لذة مثلها، قلنا يا أبا هريرة وما ذاك الغناء؟ قال: إن شاء الله التسبيح والتحميد والتقديس وثناء على الرب عز وجل» .
لمحة عن تاريخ الغناء:
لم يكن الغناء في غابر العصور على ما نعهده اليوم من ضبط القواعد والروابط بل كان ساذجا، وأول من جعل له قواعد وضوابط- على ما قيل- بطليموس وهو فيلسوف رياضي اشتغل بالرياضيات والموسيقى وإليه ينسب أول سلم موسيقي، وكان أول من غنى في العرب من النساء قينتان لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما:
ألا يا قين ويحك قم وهينم ... لعل الله يصبحنا غماما
وأول من غنى من الرجال في اليمن ذو جدن وهو قيل من أقيال حمير وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم ساذجا كتغني الحداة في حداء إبلهم والفتيان بالقمر والنجم والفلاة والخيل. وقد ورد ذكر الغناء في شعرهم، قال طرفة بن العبد:
إذا نحن قلنا: اسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطروفة لم تردّد
أي لم تتكلف، وقوله مطروفة هي التي أصيب طرفها بشيء أي كأنها أصيب طرفها لفتور نظرها ويروى مطلوقة ومطروقة.(7/481)
قال ابن رشيق القيرواني في كتاب العمدة: «غناء العرب قديما على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والفتيان قال اسحق بن ابراهيم وهو الذي يقال له المرائي وهو الغناء الجنابي اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل فنسب إليه ومنه كان أصل الحداء وكله يخرج من أصل الطويل في العروض، وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع الكثير النغمات والنبرات وهو على ست طرائق: الثقيل الأول وخفيفه والثقيل الثاني وخفيفه والرمل وخفيفه، وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه ويمشى بالدف والمزمار فيطرب ويستخف الحليم.
قال اسحق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام وفتحت العراق وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم فغنوا الغناء المجزّا المؤلف بالفارسية والرومية وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير.
وقال الجاحظ: العرب تقطّع الألحان الموزونة على الاشعار الموزونة والعجم تمطّط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونا على غير موزون.
ولم يزالوا على طريقتهم هذه حتى جاء الإسلام فكانوا إذ ذاك لا يطربون إلا بالقراءة والشعر الحماسي لتمكن الدين منهم ولأنهم في دور تأسيس وفتوح، فلما استتب لهم الأمر غلب عليهم الرفه والترف فمالوا الى الدعة، ورقت طبائعهم ولانت جوانبهم وتفرق المغنون من الفرس والروم فوقعوا الى الحجاز وصاروا موالي لهم وغنوا جميعا(7/482)
بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم.
تأثير الغناء:
قال الغزالي في الإحياء: «لله سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى انها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس، ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جار في الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج، ليس له علاج، وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده فانه يسكنه الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه الى الإصغاء إليه، والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمدّ أعناقها، وتصغي الى الحادي ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها» ثم ذكر الغزالي دليلا على ما قاله قصة العبد الذي أهلك الجمال بطيب صوته إذ جعلها تقطع مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة وبعد ذلك قال: «فإن تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته(7/483)
على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز مطلقا أن يحكم فيه بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والاشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب» .
ومن غريب ما ينقل في تأثير الغناء: خرج مخارق المغني مع بعض أصحابه الى بعض المتنزّهات فنظر الى فوس مذهبة مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأن المسئول ضنّ بها وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنيت صوتا فعطفت عليك خدود هذه الظباء أتدفع إليّ هذه القوس؟ قال نعم، فاندفع يغني:
ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء؟
أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء
مرت بنا سانحات ... وقد دنا الإمساء
فما أحارت جوابا ... وطال فيها الغناء
فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وفقت بالقرب منه مستشرفة تنظر اليه مصغية الى صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها.(7/484)
قصة المليحة صاحبة الخمار الأسود:
وقصة المليحة صاحبة الخمار الأسود مشهورة وهي من خير ما يتمثّل به ويرويها الاصمعي فيقول: «قدم أعرابي بعدل من خمر العراق فباعها كلها إلا السّود فشكا ذلك الى الدارمي (وهو مسكين الدارمي الشاعر) وكان قد تنسّك وترك الشعر ولزم المسجد فقال:
ما تجعل لي؟ على أن أحتال لك بحيلة حتى تبيعها كلها على حكمك.
قال ما شئت. قال: فعمد الدارمي الى ثياب نسكه فألقاها عنه وعاد الى مثل شأنه الاول وقال شعرا ورفعه الى صديق له من المغنين فغنّى به وكان الشعر:
قل للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا فعلت بناسك متعبّد
قد كان شمر للصلاة ثيابه ... حتى خطرت له بباب المسجد
ردّي عليه صلاته وصيامه ... لا تقتليه بحق دين محمد
فشاع هذا الغناء في المدينة وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشّق صاحبة الخمار الأسود فلم تبق مليحة في المدينة إلا اشترت خمارا أسود وباع التاجر جميع ما كان معه فجعل اخوان الدارمي من النساك يمرون فيقون: ما صنعت فيقول ستعلمون بعد حين فلما أنفد العراقي جميع ما كان معه رجع الدارمي الى نسكه ولبس ثيابه.
هذا ولو أردنا استقصاء ما ورد في هذا الباب من التأثير العجيب لطال بنا البحث ولكنا اكتفينا بما أوردناه لئلا نخرج عن الموضوع.(7/485)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
[سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 22]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22)
الإعراب:
(فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الفاء الفصيحة كأنها أبانت وأفصحت عما تقدم من عظمته في الخلق وابتداء وقيام الساعة انتهاء فإذا تبين لك ذلك فسبح الله واحمده على كل حال لأن التسبيح والتقديس هما الذريعتان الى النجاة، وقيل أشار الى الصلوات الخمس في هذه الآية لما روي عن ابن عباس عند ما سئل: «هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم وتلا هذه الآية» ففي تمسون صلاتا المغرب والعشاء وفي تصبحون صلاة الفجر وفي العشي صلاة العصر وفي تظهرون صلاة الظهر أي تدخلون في الظهيرة. وسبحان الله مفعول مطلق لفعل محذوف وحين تمسون ظرف متعلق بسبحان وجملة(7/486)
تمسون في محل جر بإضافة الظرف إليها وتمسون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل لأنها تامة ومعناها تدخلون في المساء وسيأتي بحث التمام في باب الفوائد وحين تصبحون عطف على حين تمسون. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) الواو اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه وفيه نكتة أوردها الرازي وستأتي في باب الفوائد، وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر وفي السموات حال والأرض عطف على السموات والجملة معترضة وعشيا عطف على حين تمسون وكذلك قوله وحين تظهرون. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) الجملة مستأنفة أو حالية ويخرج فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله والحي مفعول به ومن الميت متعلقان بيخرج أي كالانسان من النطفة والطائر من البيضة ويخرج الميت من الحي عطف على ما سبق أي كالنطفة من الإنسان والبيضة من الطائر.
(وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) الواو عاطفة ويحيي الأرض فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبعد موتها الظرف متعلق بيحيي وإحياؤها إخراج النبات منها وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإخراج تخرجون، وتخرجون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وقرئ بالبناء للمعلوم فالواو فاعل.
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر ومن تراب جار ومجرور متعلقان بخلقكم وثم حرف عطف للتراخي وإذا فجائية وأنتم مبتدأ وبشر خبر وجملة تنتشرون حال وسيأتي وقوع إذا الفجائية بعد ثم في باب الفوائد. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ(7/487)
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها)
الواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها وقد ذكر سبحانه ست آيات من آياته، وأزواجا مفعول خلق واللام للتعليل وتسكنوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وإليها متعلقان بتسكنوا. (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) وجعل عطف على خلق وبينكم ظرف في موضع المفعول الثاني لجعل ومودة هو المفعول الأول ورحمة عطف على مودة وان حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون صفة لقوم.
(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) عطف أيضا على ما تقدم وستأتي حكمة الاختلاف بين الألسنة والألوان في باب الفوائد.
الفوائد:
1- معنى التمام في أفعال النقصان عند سيبويه والجمهور هو دلالتها على الحدث والزمان، ومعنى النقصان عندهم هو سلب الدلالة على الحدث والتجرد للدلالة على الزمان، وذهب ابن مالك وابن هشام الى أن معنى التمام هو الاستغناء بالمرفوع عن المنصوب قال ابن مالك في الخلاصة: «وذو تمام ما برفع يكتفي» ومعنى النقصان هو عدم الاستغناء بالمرفوع عن المنصوب، وقد أورد ابن مالك عشرة أمور ليبطل بها مذهب الجمهور وهي مذكورة في شرحه على التسهيل فليرجع إليها هناك من يجب الاستقصاء، إذا عرفت هذا فاعلم أن ل «أصبح وأمسى وأضحى» ثلاثة معان:(7/488)
1- أن تقرن مضمون الجملة بالأوقات الخاصة التي هي الصباح والمساء والضحى على طريقة كان.
2- أن تفيد معنى الدخول في هذه الأوقات كأظهر وأعتم وهي في هذا الوجه تكون تامة يسكت على مرفوعها قال حميد الأرقط:
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ... وليس كلّ النوى تلقي المساكين
وقبله:
باتوا وجلتنا الصهباء بينهم ... كأن أظفارهم فيها السكاكين
والجلة فقة التمر تتخذ من سعف النخل وليفه ولذلك وصفها بالصهبة يقول: لما أصبحوا ظهر على معرسهم وهو موضع نزولهم نوى التمر وعلاه لكثرته على انهم لحاجتهم لم يلقوا إلا بعضه.
3- أن تكون بمعنى صار كقولك: أصبح زيد غنيا وأمسى فقيرا تريد أنه صار كذلك مع قطع النظر عن وقت مخصوص، قال عدي بن زيد:
ثم أضحوا كأنهم ورق جفّ ... فألوت به الصبا والدّبور
2- الاعتراض:
تقدم القول في الجمل المعترضة والواو الاعتراضية وقوله(7/489)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
«وله الحمد في السموات والأرض» الجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لنكتة أوردها الرازي وهي أن تسبيحهم لنفعهم لا له فعليهم أن يحمدوه إذا سبحوه لأجل نعمة هدايتهم الى التوفيق.
3- الفاء قبل إذا الفجائية:
تقدم القول في إذا الفجائية ونقول هنا إن الغالب فيها أن تقع بعد الفاء لأنها تقتضي التعقيب ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة الى ما يليق بالحالة الخاصة أي بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في مواضع أخر من كوننا نطفة ثم مضغة ثم عظما مجردا ثم عظما مكسوا لحما فاجأ البشرية بالانتشار أي انهم انما يصيرون بشرا بعد أطوار كثيرة.
4- الحكمة في اختلاف الألوان والألسنة:
خالف سبحانه بين الألوان والألسنة حتى ما تكاد تسمع منطقين متفقين في جرس واحد ولا جهارة واحدة وحتى ما تكاد ترى صورتين متشابهتين تمام التشابه في الألوان والسمات والقسمات لحصول التعارف وإلا فلو كانت على مسلاخ واحد وبلون واحد وتقاسيم وتقاطيع واحدة لحصل الخلل والالتباس ولا نعدم التمييز بينها جميعا حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك محالة مهما يتقاربا في وجوه الشبه.
[سورة الروم (30) : الآيات 23 الى 26]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)(7/490)
الإعراب:
(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة ومن آياته خبر مقدم ومنامكم مبتدأ مؤخر وبالليل متعلقان بمنامكم وابتغاؤكم عطف على منامكم ومن فضله متعلقان بابتغاؤكم.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يسمعون صفة لقوم. (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) من آياته خبر مقدم ويريكم مبتدأ مؤخر على أنه فعل مضارع مؤول مع ان المصدرية المحذوفة والأصل أن يريكم وسيأتي المزيد من هذا المبحث الهام في باب الفوائد ويريكم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله والكاف مفعول به أول والبرق مفعول به ثان وخوفا وطمعا نصب على أنهما مفعول لأجله وقد اعترض على هذا الإعراب بأن من حق المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل، والخوف والطمع ليسا كذلك، والجواب عن هذا الاعتراض يأتي من جهتين إما ان المفعولين فاعل في المعنى لأنهم راءون فكأنه قيل يجعلكم رائين البرق(7/491)
خوفا وطمعا والثاني أن يكون على تقدير حذف المضاف أي إراءة خوف وإراءة طمع فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه ويجوز أن يكونا حالين أي خائفين طامعين وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) وينزل عطف على يريكم ومن السماء جار ومجرور متعلقان بينزل وماء مفعول به فيحيي عطف على ينزل وبه متعلقان بيحيي والأرض مفعول به وبعد موتها الظرف متعلق بمحذوف حال. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم إعرابه. (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) عطف على ما تقدم. (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دعاكم في محل جر بإضافة الظرف إليها ودعاكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ودعوة مفعول مطلق ومن الأرض متعلقان بدعاكم، يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، وإذا الفجائية وهي تقوم مقام الفاء في جواب الشرط وأنتم مبتدأ وجملة تخرجون خبر. (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) له خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة وكل مبتدأ وله متعلقان بقانتون وقانتون خبر كل أي مطيعون طاعة انقياد.
البلاغة:
في قوله تعالى «ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله» فن اللف وقد تقدم بحثه كثيرا قال الزمخشري: «هذا من باب اللف وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل(7/492)
والنهار. إلا أنه فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الأخريين لأنهما زمانان والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد، ويجوز أن يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن وأشدّ المعاني ما دل عليه القرآن يسمعونه بالآذان الواعية» أقول ما ذكره الزمخشري مشكل من جهة الصناعة النحوية لأنه إذا كان المعنى ما ذكره يكون النهار معمول ابتغاؤكم وقد تقدم عليه وهو مصدر وذلك لا يجوز ثم يلزم العطف على معمولي عاملين فالتركيب لا يسوغ.
وشجب ابن هشام قول الزمخشري فقال: «قول الزمخشري ومن مناكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إنه من اللف والنشر وان المعنى منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، وهذا يقتضي أن يكون النهار معمولا للابتغاء مع تقديمه عليه وعطفه على معمول منامكم وهو بالليل وهذا لا يجوز في الشعر فكيف في أفصح الكلام؟» .
أقول: إن الزمخشري لم يرد العمل الذي قاله ابن هشام بل مراده أن الليل مرتبط معنى بالمنام والنهار مرتبط معنى بالابتغاء وبالليل خبر لمبتدأ محذوف والتقدير وذلك كائن بالليل والنهار والجملة معترضة حقها التأخير.
الفوائد:
1- شرط اتحاد الفاعل في المفعول لأجله:
أشرنا في الاعراب الى الاعتراض الموجه الى اعراب خوفا وطمعا مفعولا لهما والرد على الاعتراض وشرط اتحاد الفاعل قاله المتأخرون(7/493)
من النحاة وخالفهم ابن خروف فأجاز النصب مع اختلاف الفاعل محتجا بهذه الآية قائلا إن فاعل الإراءة هو الله تعالى وفاعل الخوف والطمع المخاطبون وأجاب عنه ابن مالك في شرح التسهيل فقال: «معنى يريكم يجعلكم ترون ففاعل الرؤية على هذا هو فاعل الخوف والطمع» .
ومن أمثلة حذف أن وإنزال الفعل منزلة المصدر المثل المعروف «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» وهذا المثل يضرب لمن خبره خير من مرآه، أول من قاله المنذر بن ماء السماء وكان يسمع بمشقة بن خمرة المعيدي ويعجبه ما يبلغه عنه فلما رآه، وكان كريه المنظر، قال هذا المثل فخير خبر للمصدر المنسبك من أن المضمرة في تسمع أي سماعك، ومنه قول طرفة بن العبد:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللّذات هل أنت مخلدي
وقد روى أحضر بالنصب والرفع ووجه النصب بأن مضمرة ويؤيده وأن أشهد، وقول الآخر:
وقالوا: ما تشاء؟ فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذي أثير
وهذا البيت لعروة بن الورد العبسي من جملة أبيات منها:
أرقت وصحبتي بمضيق عمق ... لبرق من تهامة مستطير
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عداة الله من كذب وزور(7/494)
وقالوا ما تشاء البيت..
وأرقت: سهرت والواو للمعية والمضيق المكان الضيق وعمق بكسر فسكون شجر ببلاد الحجاز وبضم ففتح موضع منخفض عند مكة ولعله سكن هنا للوزن والبرق متعلق بأرقت أي سهرت في هذا الموضع لأجل برق من تهامة جهة محبوبتي ويحتمل أن الواو حالية وحجتي مبتدأ خبره بمضيق عمق وإذا كان أصحابه فيه فهو فيه فرجع الى الاول ومستطير: منتشر وتكنفوني أحاطوا بي وعداة جمع عاد بمعنى عدو وقيل جمع عدو أي هم أعداء الله من أجل كذبهم وزورهم وهي جملة اعتراضية ويحتمل أن عداة بدل من ضمير الفاعل أي أحاطوا بي وقالوا: ما الذي تريده؟ فقلت ألهو أي هو أن ألهو فأن مقدرة معنى ان ولم ينتصب الفعل لفظا وقال الجوهري في الصحاح: «يقال افعل هذا آثر ذي أثير أي أول كل شيء» فأشار الى أن آثر نصب على الظرفية المجازية أو الحالية أي افعله حال كونه أول كل شيء يؤثر فهو أفعل تفضيل بمعنى المفعول.
2- خاض المعربون كثيرا في اعراب هذه الآية وقد لخص أبو البقاء أقوالهم جميعا في ثلاثة نوردها فيما يلي بنص كلامه:
«ومن آياته يريكم البرق» فيه ثلاثة أوجه أحدها أن من آياته حال من البرق أي يريكم البرق كائنا من آياته إلا أن حق الواو أن تدخل هنا على الفعل ولكن لما قدم الفعل وكانت من جملة المعطوف أولاها الواو وحسن ذلك أن الجار والمجرور في حكم الظرف فهو كقوله: آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة، والوجه الثاني أن أن محذوفة أي ومن آياته أن يريكم وإذا حذفت أن في مثل هذا جاز رفع الفعل(7/495)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
والثالث أن يكون الموصوف محذوفا أي ومن آياته آية يريكم فيها البرق فحذف الموصوف والعائد ويجوز أن يكون التقدير: ومن آياته شيء أو سحاب ويكون الفاعل ضمير شيء المحذوف» والوجه الثاني هو الذي اخترناه وهو الظاهر والأبعد عن التكلف وهو الموافق لاخواته التي ذكر فيها الحرف المصدري.
[سورة الروم (30) : الآيات 27 الى 29]
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
الإعراب:
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة يبدأ الخلق صلة الذي والخلق في الأصل مصدر ولكنه إعادة الضمير في يعيده عليه بمعنى المخلوق فهو استخدام وسيأتي بحث هذا الفن الرفيع في باب البلاغة وهو الواو حالية أو عاطفة وهو مبتدأ وأهون خبره وعليه متعلقان بأهون وسيأتي السر في تذكير الضمير في قوله وهو مع أن المراد به الاعادة كما سيأتي(7/496)
معنى أهون عليه وسر تأخير الجار والمجرور وهو عليه. (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والمثل مبتدأ مؤخر والأعلى صفة وفي السموات حال والأرض عطف على السموات وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان.
(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ضرب فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومعنى ضرب هنا جعل ولكم في محل نصب مفعول ثان ومثلا هو المفعول الأول ومن أنفسكم صفة لمثلا أي كائنا من أنفسكم فمن معناه الابتداء كأنه قال أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم.
(هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) هل حرف استفهام ولكم خبر مقدم ومما حال من شركاء لأنه في الأصل نعت نكرة فقدم عليها وجملة ملكت صلة وأيمانكم فاعل ملكت ومن حرف جر زائد وشركاء مبتدأ مؤخر وفيما رزقناكم متعلقان بشركاء وما في مما ملكت بمعنى النوع والتقدير هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم مستقرون لكم، فكائنون هو الوصف المتعلق به مما ملكت فلما قدم صار حالا ومستقرون هو الخبر الذي تعلق به ولكم.
(فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الفاء واقعة في جواب الاستفهام وأنتم مبتدأ وفيه متعلقان بسواء وسواء خبر وجملة تخافونهم خبر ثان لأنتم أو في موضع الحال من ضمير الفاعل في سواء أي فتساووا خائنا بعضكم من بعض مشاركته له في المال، وكخيفتكم نعت لمصدر محذوف أي خيفة مثل خيفتكم والمصدر مضاف لفاعله وأنفسكم مفعول به للمصدر وكذلك نعت لمصدر محذوف أيضا ونفصل الآيات فعل مضارع وفاعل(7/497)
مستتر تقديره نحن والآيات مفعول به ولقوم متعلقان بنفصل وجملة يعقلون صفة لقوم.
(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) حرف إضراب وعطف واتبع عطف على طريق الالتفات والذين فاعل اتبع وجملة ظلموا صلة الذين وأهواءهم مفعول به وبغير علم حال. (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الفاء الفصيحة ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يهدي خبر ومن مفعول يهدي وجملة أضل الله صلة والعائد محذوف أي أضله الله والواو حرف عطف وما نافية ولهم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين مجرور لفظا مبتدأ مؤخر محلا ويجوز أن تجعل ما حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها.
البلاغة:
1- فن الاستخدام:
في قوله «وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده» فن الاستخدام كما قررنا في الاعراب وهو فن دقيق غامض المسلك وفيه قولان: الأول أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين معنين اشتراكا أصليا متوسطة بين قرينتين أو متقدمة عليهما أو متأخرة عنهما يستخدم كل قرينة منهما في معنى من معنيي تلك الكلمة المشتركة وهذا مذهب ابن مالك سواء كان الاستخدام بضمير أو بغير ضمير، قال الله تعالى «لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت» فإن لفظة كتاب تحتمل الأجل المحتوم والكتاب المكتوب وقد توسطت بين لفظي أجل، ويمحو إذ استخدمت أحد مفهوميها وهو الأجل بقرينة ذكر الأجل واستخدمت المفهوم الآخر وهو المكتوب بقرينة يمحو.(7/498)
والقول الثاني انه اطلاق لفظ مشترك بين معنيين مطلقا فيريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم يعيد عليه ضميرا يريد به المعنى الآخر أو يعيد عليه ضميرين يريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر بعد استعماله في معناه الثالث وهذا هو المذهب المشهور في الاستخدام وهو طريقة صاحب الإيضاح ومن تبعه ومنه الآية التي نحن بصددها فقد أعاد الضمير وهو قوله «وهو أهون عليه» على الخلق بمفهومه الآخر وهو المخلوق لا بمفهومه الأول وهو المصدر ومنه قول البحتري:
فسقى الغضا والساكنيه وان هم ... شبوه بين جوانحي وضلوعي
فقد أعاد ضمير شبوه على الغضا بمفهومه الآخر وهو الشجر تكون ناره قوية وبها يضرب المثل فيقال جمر الغضا مع أنه يريد مكانا معينا تنزل فيه محبوبته.
2- وفي هذه الآية أيضا فن «المذهب الكلامي» وقيل ان أول من اخترعه الجاحظ وزعم أنه لا يوجد منه شيء في القرآن الكريم وهو مشحون به وتعريفه انه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام ومنه نوع منطقي تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة وقد ساق الرماني في إعجازه المترجم بالنكت وفي تفسيره الجامع الكبير في الضرب الخامس من باب المبالغة من الاعجاز: إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل للاحتجاج.
3- سر تذكير الضمير:
تذكير الضمير:
تذكير الضمير في قوله «وهو أهون» مع أنه عائد على الاعادة(7/499)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
باعتبار كونها ردا وارجاعا أو مراعاة للخبر وهو أهون قال الكرخي:
«وذكر الضمير فيه مع أنه راجع الى الاعادة المأخوذة من لفظ يعيده نظرا الى المعنى دون اللفظ وهو رجعه أو رده كما نظر اليه في قوله:
«لنحيي به بلدة ميتا» أي مكانا ميتا أو تذكيره باعتبار الخبر.
4- تأخير الصلة وتأخير الجار والمجرور وهو «عليه» مع أنه مقدم في قوله:
«هو عليّ هين» لأن المقصود مما نحن فيه هنا خلاف المقصود هناك فإنه اختصاص الله بالقدرة على إيلاد الهم والعاقر، وأما المقصد هنا فلا معنى للاختصاص فيه كيف والأمر مبني على ما يعتقدونه في المشاهد من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى، وهذا سؤال مشهور تعورف بينهم وهو انه كيف قال تعالى «وهو أهون عليه» والافعال كلها بالنسبة الى قدرته تعالى متساوية في السهولة؟ وإيضاحه أن الأمر مبني على ما ينقاس على أصولكم ويقتضيه معقولكم من أن الاعادة للشيء أهون من ابتدائه لأن من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها فالإعادة محكوم عليها بزيادة السهولة وهناك جواب آخر وهو أن تكون أهون ليست للتفضيل بل هي صفة بمعنى هين كقولهم الله أكبر أي كبير.
[سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)(7/500)
اللغة:
(حِزْبٍ) : الحزب: الجماعة من الناس، السلاح، جند الرجل وأصحابه الذين على رأيه، النصيب، القسم من القرآن أو غيره والجمع أحزاب وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضا.
الإعراب:
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) الفاء الفصيحة وأقم فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ووجهك مفعول به وللدين متعلقان بأقم وحنيفا حال من فاعل أقم أو من مفعوله أو من الدين. (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) مفعول به لفعل محذوف أي الزموا فطرة الله أي خلقته وإنما أضمرناه على خطاب الجماعة لقوله فيما بعد منيبين اليه كما سيأتي وقيل هي مصدر لفعل محذوف أي فطركم فطرة والتي صفة للفطرة وجملة فطر الناس صلة وعليها متعلقان بفطر. (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) الجملة تعليل للأمر بلزوم فطرته ولا نافية للجنس وتبديل اسمها المبني على الفتح ولخلق الله خبر. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك مبتدأ والدين خبره والقيم صفة والواو حالية أو استئنافية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) منيبين حال من فاعل الزموا المضمر كما أشرنا اليه آنفا وهو أحسن من جعله حالا من فاعل أقم واتقوا الله عطف على الزموا المضمرة وكذلك قوله وأقيموا الصلاة ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا الناهية(7/501)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
والواو اسمها ومن المشركين خبرها. (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) من الذين بدل من قوله من المشركين بإعادة العامل وجملة فرقوا دينهم صلة وكانوا شيعا كان واسمها وخبرها. (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) كل حزب مبتدأ وبما متعلقان بفرحون ولديهم الظرف متعلق بمحذوف صلة للموصول وفرحون خبر كل والجملة مفسرة مقررة لما قبلها.
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 37]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
اللغة:
(سُلْطاناً) : السلطان: الحجة تقول له سلطان مبين أي حجة والملك وعبارة القاموس: «والسلطان الحجة وقدرة الملك وتضم لامه، والوالي مؤنث لأنه جمع سليط للدهن كأن يضيء الملك أو لأنه بمعنى الحجة وقد يذكر ذهابا الى معنى الرجل» وفي الأساس: «وله(7/502)
عليهم سلطان» ، «وما كان لي عليكم من سلطان» وله سلطان مبين:
حجة وسنابك سلطات: طوال قال الجعدي يصف فرسا:
مدلّا على سلطات النسو ... رشمّ السنابك لم تقلب
وروّى ذباله بالسليط وهو الزيت الجيد» وقال أبو البقاء:
«والسلطان يذكر لأنه بمعنى الدليل ويؤنث لأنه بمعنى الحجة وقيل هو جمع سليط كرغيف ورغفان» (يَقْنَطُونَ) : ييئسون من الرحمة وفي المصباح هو بفتح النون وكسرها سبعيتان وبابه ضرب وتعب وفي القاموس: «قنط كنصر وضرب وحسب وكرم قنوطا وكفرح قنطا وقناطة وكمنع وحسب وهاتان على الجمع بين اللغتين يئس فهو قنط كفرح وقنّطه تقنيطا آيسه والقنط المنع وزبيب الصبي» .
الإعراب:
(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لتصوير طبائع الناس المتقلبة وترجحهم بين الرجاء والقنوط، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مس في محل جر بإضافة الظرف إليها والناس مفعول به مقدم وضر فاعل مؤخر وجملة دعوا ربهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وربهم مفعول به ومنيبين حال من فاعل دعوا واليه متعلقان بمنيبين. (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وإذا شرطية وجملة أذاقهم في محل جر بإضافة الظرف إليها ومنه حال لأنه كان في الأصل صفة لرحمة ورحمة مفعول به ثان وإذا الفجائية(7/503)
وهي رابطة لجواب إذا الأولى بشرطها فهي تخلف الفاء في الربط وفريق مبتدأ ومنهم صفة وبربهم متعلقان بيشركون وجملة يشركون خبر.
(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) اللام للتعليل أو العاقبة والصيرورة وقيل هي لام الأمر والمراد بالأمر التهديد والوعيد ويكفروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة، فتمتعوا الفاء عاطفة وتمتعوا فعل أمر التفت فيه من الغيبة الى الخطاب للمبالغة في زجرهم والفاء واقعة في جواب الأمر وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل. (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أم حرف عطف منقطعة فهي بمعنى بل وأنزلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأنزلنا وسلطانا مفعول به والفاء حرف عطف وهو مبتدأ وجملة يتكلم خبر وبما جار ومجرور متعلقان بيتكلم وجملة كانوا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية وكان واسمها وبه متعلقان بيشركون وجملة يشركون خبر كانوا.
(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها) عطف على ما تقدم وجملة فرحوا بها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة أذقنا في محل جر بإضافة الظرف إليها. (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) عطف أيضا وتصبهم فعل الشرط وسيئة فاعل والباء سببية وما اسم موصول في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتصبهم وجملة قدمت لا محل لها وإذا الفجائية وقد نابت عن الفاء في ربط الجواب بالشرط وهم مبتدأ وجملة يقنطون خبر وجملة إذا هم يقنطون في محل جزم جواب الشرط. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الهمزة للاستفهام الانكاري المفيد للتقرير والواو(7/504)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا وان واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) تقدم إعراب نظائرها كثيرا.
البلاغة:
في قوله (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) مجاز عقلي كما تقول كتابه ناطق بكذا وهذا مما نطق به القرآن ومعناه الدلالة والشهادة فهو يشهد بشركهم أو بالذي يشركون به.
[سورة الروم (30) : الآيات 38 الى 40]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
الإعراب:
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن مقدر تقديره إن عرفت أن السيئة أصابتهم بما قدمت(7/505)
أيديهم فآت. وآت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله مستتر تقديره أنت وذا القربى مفعول به أول وحقه مفعول به ثان، وقد احتج أبو حنيفة بهذه الآية على وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين وعاجزين عن الكسب والشافعي قاس القرابات على ابن العم لأنه لا ولادة بينهم. والمسكين عطف على ذا القربى وكذلك ابن السبيل.
(ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ذلك مبتدأ وخير خبر وللذين متعلقان بخير وجملة يريدون صلة والواو فاعل ووجه الله مفعول به أي ثوابه وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان والمفلحون خبر هم والجملة خبر أولئك. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) الواو عاطفة وما شرطية في محل نصب مفعول به مقدم لآتيتم وآتيتم فعل وفاعل ومن ربا حال وليربوا اللام للتعليل ويربوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بآتيتم وفي أموال الناس متعلقان بيربوا وسيأتي معنى الظرفية في باب البلاغة والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية ويربوا فعل مضارع مرفوع والجملة في محل جزم جواب الشرط وعند الله متعلق بيربوا. (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) عطف على ما تقدم ومعنى قوله فأولئك هم المضعفون ذوو الأضعاف من الثواب وسيأتي سر الالتفات في باب البلاغة.
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) الله مبتدأ والذي خلقكم خبره وجملة خلقكم صلة وما بعده عطف عليه.
(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) هل حرف استفهام ومن شركائكم خبر مقدم ومن للتبعيض، ومن يفعل مبتدأ مؤخر ومن ذلكم متعلق بمحذوف حال من شيء لأنه(7/506)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
كان في الأصل صفة له ومن حرف جر زائد وشيء مجرور بمن لفظا مفعول به ليفعل محلا وزيدت له لأن النكرة في حيز الاستفهام المتضمن معنى النفي وسبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وعما متعلقان بتعالى وما مصدرية أو موصولية.
البلاغة:
1- الكناية:
في قوله «ليربوا في أموال الناس» كناية لأن الزيادة التي يأخذها المرابي من أموال الناس لا يملكها أصلا فالظرفية هي موضع الكناية.
2- الالتفات:
في قوله «فأولئك هم المضعفون» التفات عن الخطاب الى الغيبة للتعظيم فهو أمدح من أن يقول لهم فأنتم المضعفون وفيه حذف المفعول به أي ثوابهم.
[سورة الروم (30) : الآيات 41 الى 45]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)(7/507)
الإعراب:
(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما عم في مختلف الأنحاء من البر والبحر من مفسدة وظلم ولهو ولعب وسائر ما يطلق عليه الفساد الذي هو ضد الصلاح. وظهر الفساد فعل وفاعل وفي البر والبحر متعلقان بظهر أو بمحذوف حال ولعله أرجح وبما متعلقان بظهر أي بسبب كسبهم فما مصدرية أو بسبب الذي كسبوه فهي موصولية وأيدي الناس فاعل كسبت. (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) اللام لام التعليل ويذيقهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والأولى أن يعلق الجار والمجرور بمحذوف أي عاقبهم بذلك وقيل اللام ليست للتعليل بل للصيرورة لأن ذلك هو مآلهم وصيرورتهم وأجاز أبو البقاء تعليقه بظهر، والهاء مفعول به أول ليذيق وبعض الذي عملوا مفعوله الثاني ولعل واسمها وجملة يرجعون خبرها. (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) جملة سيروا في الأرض مقول القول فانظروا عطف على سيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وكان واسمها والجملة في محل نصب بانظروا المعلقة بالاستفهام ومن قبل متعلقان بمحذوف صلة الذين. (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) كلام مستأنف مسوق لبيان أن ما أصابهم كان لفشو الشرك في أكثرهم والفساد والمعاصي في أقلهم. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) الفاء الفصيحة وأقم فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت يعود على الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ووجهك مفعول به وللدين متعلقان بأقم والقيم صفة للدين أي اجعل وجهتك اتباع الدين القيم البليغ الاستقامة وقد تقدم تفسير هذه الكلمة.(7/508)
(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) من قبل متعلقان بمحذوف حال وان وما بعدها في تأويل مصدر مضاف اليه ويوم فاعل يأتي ولا نافية للجنس ومرد اسمها وله خبرها والجملة صفة ليوم ومن الله لك أن تعلقه بيأتي أي يأتي من الله يوم لا يرده أحد ولك أن تعلقه بمحذوف يدل على المصدر المنسبك من أن ويرده ولا يجوز تعليقه بمرد لأنه يصبح عندئذ شبيها بالمضاف فيعرب، ويومئذ ظرف أضيف لمثله متعلق بيصدعون والتنوين عوض عن جملة ويصدعون مضارع حذفت إحدى تاءيه أي يتفرقون يوم إذ يأتي هذا اليوم، يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه الصداع لأنه يفرق شعب الرأس، وقال الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) الجملة مفسرة لا محل لها مسوقة لتفسير قوله يصدعون ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة للجواب وعليه خبر مقدم وكفره مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من، ومن عمل صالحا عطف على ما سبقه مماثل له في إعرابه وقوله صالحا يجوز أن يكون مفعولا به وأن يكون نعتا لمصدر أي عملا صالحا والفاء رابطة ولأنفسهم متعلقان بيمهدون والجملة جواب الشرط أي يمهدون فرشهم الوثيرة ويوطئونها لئلا تنبوبهم فتتجافى مضاجعهم ويتنغص عيشهم. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيمهدون أو بيصدعون(7/509)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
أو بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك كائن ليجزي والذين مفعول يجزي وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على يجزي ومن فضله متعلقان بيجزي وان واسمها وجملة لا يحب خبرها والكافرين مفعول به والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها تعليلية.
البلاغة:
في قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) جناس المناسبة اللفظي لأن للجناس أصلين وهما جناس المزاوجة وجناس المناسبة وقد تقدم ذكر هذا مستوفى.
[سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 50]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)(7/510)
اللغة:
(الرِّياحَ) : أحد جموع الريح والريح مؤنثة وتجمع أيضا على أرواح وأرياح وريح، وجمع الجمع أراويح وأراييح، والرياح أربع:
الجنوب وهي القبلية، والشمال وهي الشمالية، والصبا وهي الشرقية، والدبور وهي الغربية، والثلاثة الأول رياح الرحمة والرابعة هي ريح العذاب، وقد تقدم أن لفظ الريح لم يأت في القرآن إلا في الشر وجاء الجمع في الخير ومن ذلك نرى أن العربية غنية بمدلولاتها واننا إذا أوغلنا في الألفاظ المخصصة لبعض الأمور استنبطنا مفاهيم ربما كنا لا نعيرها التفاتا في كتابتنا الحديثة.
(كِسَفاً) : بكسر ففتح ويجوز تسكين السين جمع كسفة أي قطعة وفي القاموس: «الكسفة بالكسر القطعة من الشيء والجمع كسف وكسف وجمع الجمع أكساف وكسوف وكسفه يكسفه قطعه» .
(الْوَدْقَ) : المطر.
الإعراب:
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) كلام مستأنف مسوق لعرض آياته تعالى ومن آياته خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر والرياح مفعول به ومبشرات حال وهذا هو الغرض الأول في إرسالها.
(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو عاطفة والجملة عطف على قوله مبشرات لأن الحال(7/511)
والصفة تتعاوران في إفهام العلة فكأن التقدير ليبشركم وليذيقكم، وعبارة الزمخشري بهذا الصدد: «فإن قلت بم يتعلق وليذيقكم؟
قلت: فيه وجهان: أن يكون معطوفا على مبشرات على المعنى كأنه قيل ليبشركم وليذيقكم وأن يتعلق بمحذوف تقديره وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلناها» ومن رحمته متعلقان بيذيقكم وسيأتي معنى هذا المجاز في باب البلاغة ولتجري الفلك عطف أيضا وبأمره حال ولتبتغوا من فضله عطف أيضا ولعلكم تشكرون لعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)
كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم وتأنيسا له وإيذانا بالنصر، واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال ورسلا مفعول به والى قومهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا فجاءوهم عطف على أرسلنا وبالبينات متعلقان بجاءوهم أو بمحذوف حال. َانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الفاء عاطفة على محذوف تقديره فكذبوهم فانتقمنا ومن الذين متعلقان بانتقمنا وجملة أجرموا صلة وكان الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وحقا خبرها المقدم وعلينا متعلقان بحقا أو بمحذوف صفة له ونصر المؤمنين اسمها المؤخر وهذا هو الاعراب المستقيم وقد تكلف بعض المعربين فأجازوا أن يكون حقا مصدرا وعلينا الخبر وأن يكون في كان ضمير الشأن وحقا مصدر وعلينا نصر مبتدأ وخبرا في موضع نصب خبر كان وفي هذا الكلام من تعظيم أمر المؤمنين وتأهيلهم للكرامة واستحقاق الاثابة والنصر ما فيه وفي تعريف المؤمنين تنويه بهم وإلماع الى أن من تخلّف عن مراتبهم لا يستحق هذه(7/512)
المنّة الكبرى. (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) كلام مستأنف أيضا لتفصيل ما أجمله من ذكر الرياح وأحوالها والله مبتدأ والذي خبره وجملة يرسل الرياح صلة فتثير عطف على يرسل وسحابا مفعول به والفاء عاطفة ويبسطه عطف على تثير أيضا وفي السماء متعلقان بيبسطه وكيف أداة شرط وتعليق كقولهم كيف تصنع أصنع وكيف تكون أكون إلا أنه لا يجزم بها وجوابها محذوف لدلالة ما قبلها عليه وكذلك مفعول يشاء وقد تقدم أن المفعول بعد يشاء يكون محذوفا في الغالب والتقدير كيف يشاء بسطه يبسطه فحذف بسطه لأنه مفعول يشاء وحذف يبسطه لدلالة يبسطه الأول عليه وكيف منصوب على الحال بالفعل بعده والمعنى على أي حال شاء أن يبسطه يبسطه وسيأتي مزيد بحث عن كيف الشرطية في باب الفوائد. (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ويجعله عطف على يبسطه والهاء مفعول يجعل الاول وكسفا مفعوله الثاني، فترى عطف على ما تقدم وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والودق مفعول به وجملة يخرج حالية لأن الرؤية هنا بصرية ومن خلاله متعلقان بيخرج.
(فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أصاب في محل جرّ بإضافة الظرف إليها وبه متعلقان بأصاب ومن يشاء مفعول أصاب ومن عباده حال وإذا فجائية واقعة في جواب إذا الاولى وهم مبتدأ وجملة يستبشرون خبر. (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ) الواو حالية أو عاطفة وإن مخففة من الثقيلة مهملة أو عاملة في ضمير شأن محذوف وكان واسمها ومن قبل متعلقان بمحذوف حال(7/513)
وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف لقبل وينزل فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن وعليهم متعلقان به ونائب الفاعل مستتر تقديره هو واللام الفارقة ومبلسين خبرها ومن قبله الثانية قيل هي تكرير وتوكيد لمن قبل الأولى قال الزمخشري: «من باب التكرير والتوكيد كقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها. ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك» وقال ابن عطية: «وفائدة هذا التأكيد الاعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس الى الاستبشار وذلك أن قوله: من قبل أن ينزل عليهم يحتمل الفسحة في الزمان أي من قبل أن ينزل بكثير فجاء قوله من قبله بمعنى أن ذلك متصل بالمطر فهو تأكيد مفيد» .
(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) الفاء الفصيحة أي إذا أردت أن تعرف ما يترتب على إنزال المطر فانظر، وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والى آثار رحمة الله متعلقان بانظر وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وهي معلقة لانظر عن العمل والأرض مفعول به وبعد موتها ظرف متعلق بيحيي والجملة بدل من آثار فهي في حيز النصب بنزع الخافض والمعنى بعد كل هذا فانظر الى إحيائه البديع للأرض بعد موتها والمراد التنبيه على عظيم قدرته وسعة رحمته. (إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها أي إن ذلك القادر واللام المزحلقة ومحيي الموتى خبرها وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر هو.
البلاغة:
في قوله «وليذيقكم من رحمته» استعارة ومجاز فالاستعارة(7/514)
في قوله ليذيقكم وقد تقدمت كثيرا وهي استعارة مكنية والمجاز المرسل في قوله من رحمته وهو مجاز مرسل علاقته الحالية لأن الرحمة تحل في الخصب والمطر فأطلق الحال وأريد المحل وفسر بعضهم الرحمة بقوله: «أي من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا الله» .
الفوائد:
كيف أيضا:
جاء في المغني ما نصه: «وتستعمل على وجهين: أحدهما أن تكون شرطا فيقتضي فعلين متفقي اللفظ والمعنى غير مجزومين نحو كيف تصنع أصنع ولا يجوز كيف تجلس أذهب باتفاق ولا كيف تجلس أجلس بالجزم عند البصريين إلا قطربا لمخالفتها لأدوات الشرط بوجوب موافقة جوابها لشرطها كما مر، وقيل يجوز مطلقا وإليه ذهب قطرب والكوفيون، وقيل يجوز بشرط اقترانها بما، قالوا ومن ورودها شرطا «ينفق كيف يشاء» «يصوركم في الأرحام كيف يشاء» «فيبسطه في السماء كيف يشاء» وجوابها في ذلك كله محذوف لدلالة ما قبلها وهذا يشكل على إطلاقهم أن جوابها يجب مماثلته لشروطها» وقد استدرك بعض المعلقين على المغني فقال «أجاب بعضهم بأنه يمكن أن يقدر الجواب موافقا للشرط بأن يقدر الجواب فعل مشيئته متعلقة بالفعل السابق وهو دال عليه لأن الفعل الاختياري يستلزم المشيئة والأصل كيف يشاء أمرا يشاء التصوير في الأرحام، كيف يشاء أمرا يشاء الانفاق، كيف يشاء أمرا يشاء بسطه، غاية الأمر أن متعلق الفعلين مختلف وهذا جواب بعيد لأنهم قالوا لدلالة ما قبلها لأن المتبادر انه دال على الجواب وعلى دفع الاشكال فيكون(7/515)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
ما قبلها دالا على متعلق جوابها لا على نفس جوابها وقد علمت دفع هذا بأن الفعل الاختياري وهو الفعل الواقع قبلها يستلزم المشيئة وهو الجواب المحذوف» .
[سورة الروم (30) : الآيات 51 الى 54]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
الإعراب:
(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وأرسلنا فعل وفاعل في محل جزم فعل الشرط وريحا مفعول أرسلنا فرأوه عطف على أرسلنا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومصفرا حال ولظلوا اللام واقعة في جواب القسم وظلوا فعل ماض ناقص والواو اسمها والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وقد أغنت عن جواب الشرط حسب القاعدة المشهورة:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم(7/516)
ومن بعده حال وجملة يكفرون خبر ظلوا. (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) الفاء تعليلية والجملة تعليل لمحذوف أي لا تجزع ولا تحزن على عدم ايمانهم فإنهم موتى صم عمي، وان واسمها وجملة لا تسمع الموتى خبرها ولا تسمع الصم الدعاء عطف على الجملة السابقة والصم مفعول تسمع الاول والدعاء مفعول تسمع الثاني وإذا ظرف مستقبل متعلق بتسمع وجملة ولوا مضاف إليها الظرف وولوا فعل وفاعل ومدبرين حال من الواو.
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) الواو عاطفة وما نافية حجازية وأنت اسمها والباء حرف جر زائد وهادي مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما والعمي مضاف اليه وعن ضلالتهم متعلقان بالعمي أو بهادي على تضمين هادي معنى صارف وقد تقدم نظيره.
(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) إن نافية وتسمع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وإلا أداة حصر ومن مفعول به وجملة يؤمن صلة من وبآياتنا متعلقان بيؤمن، فهم الفاء عاطفة على المعنى وهم مبتدأ ومسلمون خبر. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) الله مبتدأ والذي خبر وجملة خلقكم صلة ومن ضعف متعلقان بخلقكم.
(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ثم حرف عطف وتراخ وجعل فعل ماض ومن بعد ضعف مفعول جعل الثاني أو متعلق بجعل وقوة مفعول جعل.
(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) ثم وما بعدها عطف على ما تقدم وجملة يخلق ما يشاء حالية وهو مبتدأ والعليم خبر أول والقدير خبر ثان.(7/517)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
[سورة الروم (30) : الآيات 55 الى 60]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
اللغة:
(السَّاعَةُ) : القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وبديهة وجرت علما لها كالنجم للثريا والكوكب للزهرة وفي القاموس: «والساعة جزء من أجزاء الجديدين والوقت الحاضر والجمع ساعات وساع والقيامة أو الوقت الذي تقوم فيه القيامة والهالكون كالجاعة للجياع» والساعة أيضا آلة يعرف بها الوقت بحسب الساعات (موالدة) ومنها الساعة الرملية والساعة الشمسية.(7/518)
(يُسْتَعْتَبُونَ) : يطلب منهم العتبى أي الرجوع، من قولك استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته وذلك إذا كنت جانيا عليه وحقيقة أعتبته أزلت عتبه، ألا ترى الى قوله:
غضبت تميم أن تقتل عامرا ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
كيف جعلهم غضابا ثم قال فأعتبوا أي أزيل غضبهم، والغضب في معنى العتب، والصيلم ماء لبني عامر والصيلم الداهية والسيف كما في الصحاح. وفي المصباح: «عتب عليه عتبا من بابي ضرب وقتل ومعتبا أيضا لامه في سخط فهو عاتب وعتاب مبالغة وبه سمي ومنه «عتّاب ابن أسيد» وعاتبه معاتبة وعتابا، قال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، وأعتبني الهمزة للسلب أي أزال الشكوى والعتاب واستعتب طلب الإعتاب والعتبى اسم من الإعتاب» .
(يَسْتَخِفَّنَّكَ) : يحملنك على الخفة والطيش بترك الصبر.
الإعراب:
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) الظرف متعلق بيقسم وجملة تقوم الساعة في محل جر باضافة الظرف إليها ويقسم المجرمون فعل وفاعل وما نافية ولبثوا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها واقعة في جواب القسم وغير ساعة ظرف متعلق بلبثوا.
(كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي يصرفون عن الحق وهو الصدق كما صرفوا عن الحق وهو البعث وكان واسمها(7/519)
وجملة يؤفكون خبرها ويؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول.
(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة أوتوا صلة والعلم مفعول به ثان لأوتوا والايمان عطف على العلم وجملة لقد لبثتم مقول القول واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ولبثتم فعل وفاعل وفي كتاب الله حال أي محسوبة في علم الله وقدره والى يوم البعث متعلقان بلبثتم. (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر كأنه قال إن كنتم منكرين للبعث فهذا يوم البعث أي فقد تبين بطلان قولكم. ولكنكم الواو حالية ولكن واسمها وجملة كنتم خبرها وجملة لا تعلمون خبر كنتم.
(فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) الفاء تفصيل لما قبلها مما يفهم من أن تقليل مدة اللبث فهي الفصيحة أيضا ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بينفع والتنوين عوض عن جملة محذوفة أي يوم إذ قامت الساعة وحلف المشركين كاذبين ورد عليهم الذين أوتوا العلم والايمان من الملائكة وغيرهم ولا نافية وينفع فعل مضارع والذين ظلموا مفعوله المقدم ومعذرتهم فاعل ينفع وقرئ ينفع بالياء والتاء لأن معذرتهم مؤنث غير حقيقي أو بمعنى العذر والواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر ويستعتبون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وللناس متعلقان بضربنا وفي هذا القرآن متعلقان بمحذوف حال ومن كل مثل صفة لمفعول به محذوف أي موعظة أو قصة من كل مثل أو تكون من(7/520)
للتبعيض ويكون الجار والمجرور في موضع نصب على أنه مفعول ضربنا أي وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها وطرافتها.
(وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وجئتهم فعل وفاعل ومفعول به في موضع فعل الشرط وبآية متعلقان بجئتهم وليقولن اللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية فاللام مفتوحة باتفاق القراء والفاعل هو الاسم الموصول من باب اقامة الظاهر مقام المضمر وقد تقدم ذكره كثيرا وجملة كفروا صلة وإن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر ومبطلون خبر أنتم والجملة مقول القول. (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الجهلة الذين لا يعلمون وجملة لا يعلمون صلة الذين.
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) الفاء الفصيحة أي إذا علمت أن حالهم بهذه المثابة فاصبر، واصبر فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت وجملة إن وعد الله حق تعليل للأمر بالصبر ولا الواو عاطفة ولا ناهية ويستخفنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به مقدم والذين فاعل يستخفنك المؤخر وجملة لا يوقنون صلة.
البلاغة:
في قوله «ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة» جناس تام وقد تقدم البحث في هذا الفن ونريد الآن أن نستوفي أبحاثه فهو ضروب كثيرة منها الماثلة وهي أن تكون اللفظة واحدة باختلاف(7/521)
المعنى نحو قول زياد الأعجم وقيل الصلتان العبدي يرثي المغيرة ابن المهلب:
فانع المغيرة للمغيرة إذ بدت ... شعواء مشعلة كنبح النابح
فالمغيرة الاولى: رجل، والمغيرة الثانية: الفرس وهي ثانية الخيل التي تغير، وقال أبو نواس في ابن الربيع:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقال أبو تمام:
ليالينا بالرقمتين وأهلنا ... سقى العهد منك العهد والعهد والعهد
فالعهد الأول المسقى: هو الوقت، والعهد الثاني هو الحفاظ من قولهم فلان ماله عهد، والعهد الثالث الوصية من قولهم عهد فلان الى فلان وعهدت إليه أي وصّاني ووصيّته، والعهد الرابع المطر وجمعه عهاد، واستثقل قوم هذا التجنيس وحق لهم.
هذا وقد ولع أبو تمام بالتجنيس كثيرا فأجاد في بعضه وأسف في بعضه الآخر وقد أوردنا فيما سبق من هذا الكتاب نماذج من حسناته وسيئاته ويبدو التكلف ظاهرا فيه.(7/522)
أما ابن الرومي فليس من هواة الصناعة اللفظية ولم يكن يشغل باللفظ كثيرا وانما كان يجانس لمعنى يراه هو ولا يجانس لتزويق فارغ ولهو سخيف، ومن مليح ما جاء له:
للسود في السود آثار تركن بها ... لمعا من البيض تثني أعين البيض
فالسود الأول: الليالي، والسود الآخر: شعرات الرأس واللحية والبيض الأول الشيبات والبيض الآخر النساء.
وقوله:
فيسبيك بالسحر الذي في جفونه ... ويصبيك بالسحر الذي هو نافثه
أو مثل هذا البيت:
تصيب إذا حكمت وإن طلبنا ... لديك العرف كنت حيا تصوب
أو مثل هذا البيت:
ليس ينفكّ طيرها في اصطحاب ... تحت أظلال أيكها واصطخاب
وهكذا كان في كل تجنيسه الذي لا تعسف فيه وليس هو بالكثير البارز في ديوانه الكبير فإذا جنس في غير ذلك فهو عابث متعمد للعبث وليس بملفق محسّنات ولا بطالب تزويق كما قال:(7/523)
لو تلفّفت في كساء الكسائي ... وتلبّست فروة الفرّاء
وتخلّلت بالخليل وأضحى ... سيبويه لديك رهن سباء
وتكوّنت من سواد أبي الاسو ... د شخصا يكنى أبا السوداء
لأبى الله أن يعدك أهل العلم إلا من جملة الأغبياء ومن علماء البيان من جعل له اسما سماه به وهو الترديد أي أن اللفظة الواحدة رددت فيه، وهو أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى ثم يرددها بعينها متعلقة بمعنى آخر في البيت نفسه أو في قسم منه، قال أبو تمام:
خفّت دموعك في إثر القطين لدن ... خفّت من الكثب القضبان والكثب
الترديد في خفت ولو جعلت الكثب ترديدا لجاز.
وقال أبو الطيب المتنبي وأحسن ما شاء:
أمير أمير عليه الندى ... جواد بخيل بأن لا يجودا
والترديد في أول البيت، والعلماء بالشعر مجمعون على تقديم أبي حية النميريّ في قوله:
ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا ... لبسن البلى مما لبسن اللياليا(7/524)
إذا ما تقاضى المرء يوما وليلة ... تقاضاه شيء لا يملّ التقاضيا
وما أجمل قول أبي نواس:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
صفراء لا تنزل الأكدار ساحتها ... لو مسها حجر مستها سراء
وكذلك قول أبي تمام:
راح إذا ما الراح كنّ مطيّها ... كانت مطايا الشوق في الأحشاء
ردد مطيّها ومطايا الشوق.
ونعود للآية الكريمة فنذكر أن ابن أبي الحديد قد نازع في كتابه المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر في هذا وقال:
ان المعنى واحد في الآية، فان يوم القيامة وان طال فهو عند الله تعالى كالساعة الواحدة عند أحدنا، وحينئذ فاطلاق الساعة عليه مجاز كقولنا رأيت أسدا وزيد أسد، وأردنا بالأول حيوانا وبالثاني الرجل الشجاع.
ولم نر أحدا نازع فيما ذكرناه غير ابن أبي الحديد، فتدبر.(7/525)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
(31) سورة لقمان مكيّة وآياتها اربع وثلاثون
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)
اللغة:
(لَهْوَ الْحَدِيثِ) اللهو كل باطل ألهى عن الخير يقال لهوت لهوا وفلان مشتغل بالملاهي وفيهن ملهى وملعب، قال زهير:
وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيق لعيّن الناظر المتوسم(7/526)
الملهى اللهو أو موضعه، يقول: وفي هؤلاء النسوان لهو أو موضع لهو للمتأنق الحسن المنظر ومناظر معجبة لعين الناظر المتتبع محاسنهن وسمات جمالهن.
(وَقْراً) : صمما.
الإعراب:
(الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) ألم تقدم اعرابها، وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر والحكيم صفة للكتاب وسيأتي معنى إسناد الحكمة اليه في باب البلاغة، وهدى ورحمة حالان من الآيات والعامل فيهما ما في تلك من معنى الاشارة، وقرأ حمزة بالرفع على أنهما خبر لمبتدأ محذوف أي هو هدى ورحمة وللمحسنين متعلقان بمحذوف صفة أو بنفس المصدر. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الذين نعت للمحسنين وجملة يقيمون الصلاة صلة ويؤتون الزكاة عطف عليها داخل في حيز الصلة وهم مبتدأ وبالآخرة متعلقان بيوقنون وهم الثاني تأكيد للأول وجملة يوقنون خبر هم. (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تقدمت الآية بلفظها في سورة البقرة.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال اللاهين الذين يستنزفون أوقات فراغهم باللهو ومضاحيك الكلام ولغو الحديث وباطله، وسيأتي في باب الفوائد ما قالوه في أسباب نزولها. ومن الناس خبر مقدم ومن اسم موصول مبتدأ مؤخر ومن مفرد لفظا جمع معنى وروعي لفظها أولا في ثلاثة ضمائر يشتري ويضل ويتخذ وروعي معناها في موضعين(7/527)
وهما أولئك لهم ثم رجع الى اللفظ في خمسة ضمائر وهي وإذا تتلى الى آخر الآية كما سيأتي وجملة يشتري لهو الحديث صلة وليضل اللام للتعليل ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيشتري وعن سبيل الله متعلقان بيضل وبغير علم حال من فاعل يشتري أي يشتري غير عالم بحال ما يشتريه وقد تقدم تقرير الاستعارة في الاشتراء في سورة البقرة. (وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ويتخذها بالنصب عطفا على ليضل وقرئ بالرفع عطفا على يشتري والضمير للسبيل لأنها مؤنثة ويتخذها فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول يتخذ الاول وهزوا مفعوله الثاني وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر ومهين صفة والجملة خبر أولئك.
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر باضافة الظرف إليها وتتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليه متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وجملة ولى لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومستكبرا حال. (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) كأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف وجملة لم يسمعها خبرها والجملة نصب على الحال من فاعل ولى وكأن حرف تشبيه ونصب وفي أذنيه خبر كأن المقدم ووقرا اسم كان المؤخر والجملة حال أيضا من فاعل لم يسمعها أو بدل من جملة كأن لم يسمعها وأجاز الزمخشري أن تكون جملتا التشبيه استئنافيتين، فبشره الفاء الفصيحة وبشره فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والأمر بالبشارة هو للتهكم وبعذاب متعلقان ببشره وأليم صفة.(7/528)
البلاغة:
1- الاسناد المجازي:
في قوله تعالى «الكتاب الحكيم» إسناد مجازي ويجوز أن يكون بمعنى ذي الحكمة، وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون الأصل الحكيم قائله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فبانقلابه مرفوعا بعد الجر استكن في الصفة المشبهة بعد» وهذا من أروع التعليل.
2- الإيجاز:
وفي قوله: «للمحسنين» إيجاز بليغ أي الذين يعملون الحسنات وهي لا تحصى ولكنه خص منها هذه الثلاث، ونظير هذا الإيجاز قول أوس بن حجر في مرثاته لفضالة بن كلدة:
الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا
حكي عن الأصمعي أنه سئل عن الألمعي فأنشده ولم يزد، وهذه المرثاة من أفضل ما سمع في الرثاء وأولها:
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع السماحة والنجد ... ة والبر والتقى جمعا
الألمعي الذي يظن إلخ ...
أودى فلا تنفع الاشاحة من ... أمر لمن يحاول البدعا(7/529)
يقول: يا نفس احتملي جزعا عظيما إن الذي تخافين منه قد حصل، وبيّنه بقوله إن الذي جمع.... وأودى: هلك، وجمعا بالضم توكيد للصفات قبله والألمعي نصب على النعت للذي وفسره بأنه الذي يظن بك يعني كل مخاطب أي يظن الظن الحق كأنه قد رأى وسمع ما ظنه أو يظن الظن فيصيب كأنه قد رآه إن كان فعلا أو سمعه إن كان قولا وفيه نوع من البديع يسمى التفسير وهو أن يؤتى بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفته دون تفسيره.
الفوائد:
1- قصة النضر بن الحارث:
اعلم أن المقصود بآيات الله أن يتوجه الخطاب فيها الى العموم ولكن أسباب النزول خاصة، ثم تسري أحكامها فيما بعد على العموم وقد ذكروا في أسباب نزول قوله «ومن الناس من يشتري لهو الحديث» الآية أن النضر بن الحارث كان يأتي الحيرة فيتجر ويشتري كتب أخبار الأعاجم ويحدث بها أهل مكة ويقول: إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود وأنا أحدثكم بأحاديث فارس والروم فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن. والحيرة بكسر الحاء مدينة بقرب الكوفة.
2- معنى الإضافة:
إضافة اللهو الى الحديث معناها التبيين وهي الاضافة بمعنى من وضابطها أن يكون المضاف بعد المضاف إليه صالحا للاخبار به عنه كخاتم فضة، وقد مر هذا البحث في مكان آخر من هذا الكتاب.(7/530)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
[سورة لقمان (31) : الآيات 8 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال المؤمنين وان واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ولهم خبر مقدم وجنات النعيم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن. (خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خالدين حال مقدرة من المجرور باللام في لهم أي مقدرا لهم الخلود فيها إذا دخلوها وفيها متعلقان بخالدين ووعد الله حقا: مصدران مؤكدان الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره لأن معنى لهم جنات النعيم وعدهم الله بها فأكد معنى الوعد بالوعد وحقا دال على معنى الثبات أكد به معنى الوعد، وعاملها مختلف فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعدا وتقدير الثانية وحقه حقا ومؤكدهما جميعا واحد وهو قوله لهم جنات النعيم وهو مبتدأ والعزيز. خبر أول والحكيم خبر ثان. (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الجملة مستأنفة مسوقة للتدليل على قدرته وعزته سبحانه. وخلق فعل ماض(7/531)
وفاعله مستتر تقديره هو والسموات مفعول به وبغير عمد في موضع نصب على الحال أي حالية من عمد وقد مر نظيره في الرعد وجملة ترونها صفة لعمد أي بغير عمد مرئية. (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ) وألقى عطف على خلق وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله وفي الأرض متعلقان بألقى ورواسي صفة مفعول به محذوف أي جبالا رواسي وان وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي أن لا تميد بكم أو كراهة أن تميد بكم وبكم متعلقان بتميد وبثّ عطف على ألقى وفيها متعلقان ببث ومن كل دابة صفة لمفعول به محذوف أي حيوانات من كل دابة.
(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) وأنزلنا عطف على طريق الالتفات عن الغيبة الى التكلم وأنزلنا فعل وفاعل ومن السماء متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به فأنبتنا عطف على أنزلنا وفيها متعلقان بمحذوف حال ومن كل زوج متعلقان بأنبتنا أو صفة لمفعول محذوف أي نباتا من كل زوج وكريم صفة لزوج. (هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) هذا مبتدأ والاشارة الى ما ذكر من مخلوقاته وخلق الله خبر والخلق بمعنى المخلوق، فأروني الفاء الفصيحة وأروني فعل أمر يحتاج لثلاثة مفاعيل الياء أولها وجملة الاستفهام المعلقة سدت مسد المفعولين الباقيين ويجوز أن تكون أروني بمعنى أخبروني فتتعدى لمفعولين الأول مفرد صريح وهو ضمير المتكلم والثاني الجملة الاستفهامية، وماذا اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لخلق أو ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبر وخلق الذين فعل وفاعل ومن دونه صلة الذي. (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بل إضراب انتقالي والظالمون مبتدأ وفي ضلال خبر ومبين صفة لضلال.(7/532)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
[سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل ولقمان مفعول به أول والحكمة مفعول به ثان وسيأتي الكلام مفصلا عن لقمان وترجمته. (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يجوز أن تكون أن هي المفسرة لأن الإيتاء فيه معنى القول أي قلنا له اشكر ويجوز أن تكون على بابها فهي في تأويل مصدر في موضع نصب كما حكى سيبويه كتبت إليه أن قم والأول أظهر، ولله متعلقان باشكر ومن الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويشكر فعل الشرط والفاء رابطة وانما كافة ومكفوفة والجملة في محل جزم جواب الشرط ومن كفر عطف على ومن يشكر داخلة في حيزها والجملة خبر من.
(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة قال لقمان في محل جر باضافة الظرف إليها ولابنه متعلقان بقال والواو واو الحال وهو مبتدأ وجملة يعظه خبر والجملة حالية.
(يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) الجملة مقول القول ولا ناهية وتشرك فعل مضارع مجزوم بلا وبالله متعلقان بتشرك وجملة(7/533)
إن الشرك تعليل للنهي لا محل لها وان واسمها واللام المزحلقة وظلم خبرها وعظيم صفة.
الفوائد:
لقمان وترجمته ولمح من أخباره:
قيل هو اسم أعجمي فهو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وقيل عربي فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون والأول أظهر وأورده صاحب القاموس في مادة لقم وقال «ولقمان الحكيم اختلف في نبوته وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما ولم يكن نبيا» .
ولطرافة شخصيتة وما نسج حولها من الأساطير نورد الأقوال السبعة فيه باختصار:
1- قال قتادة: خيّره الله بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة فقذفت عليه وهو نائم فأصبح ينطق بالحكمة فسئل عن ذلك فقال:
لو أرسل الله إليّ النبوة عزمة لرجوت الفوز بها ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوّة.
وقيل: كان من النوبة قصيرا أفطس الأنف وقيل كان حبشيا.
2- قال سعيد بن المسيّب: كان أسود من سودان مصر ذا مشفر حكمته من حكمة الأنبياء، وقيل كان خيّاطا وقيل راعيا فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال: ألست عبد بني فلان؟ كنت ترعى بالأمس؟ قال: بلى، قال: فما بلغ بك ما أرى؟ قال: وما يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك وغشيانهم بابك ورضاهم بقولك،(7/534)
قال: يا ابن أخي إن صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما أصنع؟
قال: غضّ بصري، وكف لساني وعفة طمعي وحفظ فرجي وقيامي بعهدي ووفائي بوعدي وتكرمة ضيفي وحفظ جاري وترك مالا يعنيني فذلك الذي صيرني كما ترى، ويروى أنه قال: قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وترك ما لا يعنيني.
3- وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحكمة تزيد الشرف شرفا وترفع المملوك حتى يجلس مجالس الملوك، قال الله تعالى: «ولقد آتينا لقمان الحكمة» .
4- وقال الثعالبي المفسر: اتفق العلماء على أن لقمان لم يكن نبيا إلا عكرمة تفرد بأنه نبي.
5- وقال وهب بن منبه: كان لقمان ابن أخت داود عليه السلام وقيل ابن خالته وكان في زمنه وكان داود يقول له: طوبى لك أوتيت الحكمة وصرفت عنك البلوى، وأوتي داود الخلافة وبلي بالبلية، وكان داود يغشاه ويقول: انظروا الى رجل أوتي الحكمة ووقي الفتنة.
6- وقال عبد الوارث: أوتي لقمان الحكمة في قالة قالها، فقيل: وهل لك أن تكون خليفة فتعمل بالحق؟ فقال: إن تختر لي فسمعا وطاعة وان تخيرني أختر العافية وإنه من يبع الآخرة بالدنيا يخسرهما جميعا ولأن أعيش حقيرا ذليلا أحبّ إليّ من أن أعيش قويا عزيزا، وقيل كان عبدا نجارا، فقال له سيده اذبح شاة وائتني(7/535)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
بأطيب مضغتين فأتاه بالقلب واللسان ثم أمره بمثل ذلك وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج القلب واللسان، فقال له: ما هذا؟ فقال: ليس شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
7- وقال أبو اسحق الثعالبي: كان لقمان من أهون مماليك سيده عليه فبعثه مولاه مع عبيد له الى بستانه يأتونه بشيء من ثمر فجاءوه وما معهم شيء وقد أكلوا الثمر وأحالوا على لقمان، فقال لقمان لمولاه: ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها فاسقني وإياهم ماء حميما ثم أرسلنا لنعدو ففعل فجعلوا يتقيئون تلك الفاكهة ولقمان يتقيأ ماء فعرف مولاه صدقه وكذبهم. وروي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد الدرع فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال له داود: بحق ما سميت حكيما.
هذا وأخبار لقمان وحكمته أكثر من أن تستوعبها ترجمة فحسبنا ما تقدم.
[سورة لقمان (31) : الآيات 14 الى 15]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)(7/536)
اللغة:
(وَهْناً) : الوهن: الضعف وفي المختار: «الوهن الضعف وقد وهن من باب وعد ووهنه غيره يتعدى ويلزم ووهن بالكسر يهن وهنا لغة فيه وأوهنه غيره ووهنه توهينا والوهن والموهن نحو من نصف الليل، قال الاصمعي: هو حين يدبر الليل» .
(وَفِصالُهُ) : فطامه وفي القاموس: «الفصال: فطم الولد» وفيه أيضا: «وفصل الولد عن الرضاع وبابه ضرب» .
الإعراب:
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) كلام معترض على سبيل الاستطراد في أثناء وصية لقمان مؤكد لما اشتملت عليه من النهي عن الشرك. ووصينا فعل وفاعل والإنسان مفعول به وبوالديه متعلقان بوصينا وجملة حملته أمه اعتراضية بين المفسّر والمفسّر وحملته أمه فعل ماض ومفعول به وفاعل ووهنا على وهن حال من أمه أي ذات وهن أو مصدر مؤكد لفعل هو الحال أي تهن وهنا وعلى وهن صفة للمصدر أي كائنا على وهن وقيل منتصب بنزع الخافض أي حملته بضعف على ضعف، وقال الزجاج: المعنى لزمها بحملها إياه أن يضعف مرة بعد مرة، وقال الزمخشري: «أي حملته أمه تهن وهنا على وهن كقولك رجع عودا على بدء وهو في موضع الحال والمعنى أنها تضعف ضعفا فوق ضعف أي يتزايد ضعفها ويتضاعف لأن الحمل كلما ازداد وعظم ازدادت ثقلا وضعفا» والواو عاطفة وفصاله مبتدأ وفي عامين خبر.(7/537)
(أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) أن مفسرة والجملة تفسير لوصّينا كما تقدم واختار الزجاج أن تكون أن على بابها أي مصدرية ومحل المصدر النصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بوصينا وليس قوله ببعيد واشكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولي متعلقان باشكر ولوالديك عطف على لي وإليّ خبر مقدم والمصير مبتدأ والجملة استئنافية. (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) الواو عاطفة وإن شرطية وجاهداك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وعلى حرف جر وأن تشرك المصدر المؤول مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بجاهداك وبي متعلقان بتشرك وما موصول مفعول به وجملة ليس صلة ولك خبر ليس المقدم وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس المؤخر، فلا الفاء رابطة ولا ناهية وتطعهما فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والميم والألف حرفان دالان على التثنية وجملة فلا تطعهما في محل جزم جواب الشرط.
(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) الواو عاطفة وصاحبهما فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به وفي الدنيا حال ومعروفا صفة لمصدر محذوف أي صحابا معروفا واختار بعضهم أن ينصب بنزع الخافض أي بالمعروف. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) واتبع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وسبيل مفعول به ومن مضاف اليه وجملة أناب صلة من وإليّ متعلقان بأناب، ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإليّ خبر مقدم ومرجعكم مبتدأ مؤخر، فأنبئكم الفاء عاطفة وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبما متعلقان بأنبئكم وكنتم تعملون كان واسمها وجملة تعملون خبرها.(7/538)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
البلاغة:
في قوله «ما ليس لك به علم» فن عكس الظاهر أو نفي الشيء بإيجابه وقد تقدم القول فيه مرارا، فقد أراد بنفي العلم نفيه أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد الأصنام على حد قوله «على لا حب لا يهتدى بمناره» أي ما ليس بإله فيكون لك علم بالإلهية.
[سورة لقمان (31) : الآيات 16 الى 19]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
اللغة:
(خَرْدَلٍ) : الخردل: نبات له حب صغير جدا أسود مقرّح الواحدة خردلة ويقال خردل الطعام أكل خياره وخردل اللحم قطع أعضاءه وافرة صغارا، ولحم خراديل: مقطع ومفرد ويضرب بها المثل في الضآلة وقد تقدم هذا في الأنبياء.(7/539)
(وَلا تُصَعِّرْ) : لا تحل وجهك تكبرا، قال أبو عبيدة: وأصل الصعر داء يصيب البصير ويلتوي عنقه، ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تدوم أشار الى المقصود به بقوله للناس بلام العلة أي لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم. وفي المصباح: الصعر بفتحتين ميل في العنق وانقلاب في الوجه الى أحد الشدقين وربما كان الإنسان أصعر خلقة أو صعره غيره بشيء يصيبه وهو مصدر من باب تعب وصعر خدّه بالتثقيل وصاعره أماله عن الناس إعراضا وتكبرا» وفي الأساس: «في عنقه وخده صعر: ميل من الكبر، يقال:
لأقيمنّ صعرك، ويقول: في عينه صور، وفي خده صعر، وهو أصعر، وصعّر خده وصاعره ولا تصاعر خدك وفلان متصاعر وقد تصاعر، قال حسان:
ألسنا نذود المعلمين لدى الوغى ... ذيادا يسلّي نخوة المتصاعر
والنعام صعر خلقة والإبل تصاعر في البرى وفي الحديث:
«يأتي على الناس زمان ليس فيهم إلا أصعر أو أبتر» .
وللصاد مع العين فاء وعينا للكلمة خاصة الصلف والاستعلاء يقال أمر صعب وخطة صعبة وعقبة صعبة وهي من العقاب الصعاب ووقع في خطط صعاب ولا يخفى ما في ذلك من الصلف والاستعلاء وأصعب الجمل لم يركب ولم يمسسه حبل فهو مصعب ومن مجاز هذه المادة: فلان مصعب من المصاعب كما تقول قرم من القروم ويقال صعد السطح وصعد الى السطح وصعد في السلم وفي السماء وتصعد وتصاعد وصعّد في الجبل وطال في الأرض تصويبي وتصعيدي(7/540)
وأصعد في الأرض ذهب مستقبل أرض أرفع من الأخرى وأصعدت السفينة مدّ شراعها فذهبت بها الريح وعليك بالصعيد أي اجلس على الأرض وصعيد الأرض وجهها وتنفّس الصعداء إذا علا نفسه وذهب السهم صعدا وكأن قامته صعدة وهي القناة النابتة مستقيمة، قال الأحنف:
إن على كل رئيس حقّا ... أن يخضب الصّعدة أو تندقّا
ومن المجاز: له شرف صاعد وجد مساعد، ورتبته بعيدة المصعد والمصاعد، وعنق صاعد: طويل، وجارية صعدة: مستقيمة القامة، وجوار صعدات بالسكون، وأخذ مائة فصاعدا بمعنى فزائدا، وأرهقته صعودا: حملته مشقّة.
والصعافقة هم الذين يحضرون السوق بغير رأس مال فإذا اشترى أحد شيئا دخلوا معه فيه. وصعقتهم السماء وأصعقتهم:
أصابتهم بصاعقة وهي نار لا تمر بشيء إلا أحرقته مع وقع شديد، والصعلكة معروفة وهي الفقر والذهاب في الأرض بعيدا، قال أبو داود:
مثل عير الفلاة صعلكه البقل مشيح بأربع عسرات أربع أتن، وقال ذو الرمة:
تخيل في المرعى لهنّ بشخصه ... مصعلك أعلى قلّة الرأس نقنق(7/541)
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) : أي توسط فيه، قال الزمخشري:
«واعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين: لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما:
«كان إذا مشي أسرع» فإنما أرادت السرعة المرتفعة على دبيب المتماوت» .
(وَاغْضُضْ مِنْ طرفك) : وانقص منه واقصر، من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به ووضع منه، وفي الأساس: «واغضض من صوتك: اخفض منه، وغضّ طرفك، وطرف غضيض، وغضّ من لجام فرسك أي صوبه وطأ منه لتنقص من غربه، واغضض لي ساعة أي احبس علي مطيتك وقف عليّ، قال الجعدي:
خليلي غضّا ساعة وتهجرا أي احبسا عليّ ركابكما ساعة ثم ارتحلا متهجّرين، وفلان غضيض: ذليل بين الغضاضة وعليك في هذا غضاضة فلا تفعل ولحقته من كذا غضاضة أي نقص وعيب» .
الإعراب:
(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) يا بني تقدم إعرابه كثيرا وهذا من تتمة وصية لقمان، وان واسمها وإن شرطية وتك فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر يعود الى الخطيئة وذلك(7/542)
أن ابن لقمان قال: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يعلمها أحد كيف يعلمها الله؟ فقال يا بني انها إن تك مثقال حبة من جنس الخردل، ومثقال خبر تك وحبة مضاف اليه ومن خردل صفة لحبة أي فكانت مثلا لحبة الخردل في الصغر والقماءة. (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) فتكن عطف على تك واسم تكن مستتر تقديره هي أي الخطيئة والهنة وفي صخرة خبر تكن، أو في السموات أو في الأرض عطف على في صخرة أي في أخفى مكان من الثلاث المذكورات ويأت جواب الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وبها متعلقان بيأت والله فاعل وإن واسمها وخبراها.
(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أقم فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت والصلاة مفعول به وأمر بالمعروف عطف وكذلك وانه عن المنكر. (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر ومعنى عزم الأمور: من معزوماتها فهو مصدر بمعنى المفعول أو بمعنى الفاعل أي من عازمات الأمور أي مما جعله الله عزيمة وأوجبه على عباده.
(وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) الواو حرف عطف ولا ناهية وتصعر فعل مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر تقديره أنت وللناس متعلقان بتصعر ولا تمش عطف على ولا تصعر وفي الأرض متعلقان بتمش ومرحا مصدر وقع موقع الحال أو نعت لمصدر محذوف أي مشيا مرحا أو مفعول لأجله أي لا تمش لأجل المرح والأشر.
وعبارة الزمخشري «أراد ولا تمش تمرح مرحا أو أوقع المصدر موقع الحال بمعنى مرحا ويجوز أن يراد لأجل المرح والأشر» .(7/543)
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) إن واسمها وجملة لا يحب خبرها وكل مفعول يحب وفخور عطف على مختال. (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) الواو عاطفة واقصد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي مشيك متعلقان بأقصر واغضض من صوتك عطف على ما تقدم. (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) الجملة تعليل للأمر بخفض الصوت بصورة مؤكدة كما سيأتي في باب البلاغة وإن واسمها والأصوات مضاف اليه واللام المزحلقة للتأكيد وصوت الحمير خبر إن.
البلاغة:
في قوله: «إنها إن تك مثقال حبة من خردل» الآية فن التمام أو التتميم وقد تقدمت الاشارة الى الفن في مواطن من هذا الكتاب، والمعنى انه تمم خفاء الهنة أو الخطيئة في نفسها بخفاء مكانها من الصخرة والأخفى من الصخرة كأن تكون في صخرة مستقرة في أغوار الأرض السحيقة أو في الأعالي من أجواز الفضاء، ومنه في الشعر قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
فقولها «في رأسه نار» تتميم جميل لا بد منه لتجسيد الظهور والشهرة للسارين والغادين.
وقول عنترة العبسي:
أثني عليّ بما علمت فإنني ... سهل مخالقتي إذا لم أظلم(7/544)
فقوله «لم أظلم» تتميم حسن.
ومن التتميم الحسن قول امرئ القيس يصف الفرس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري غير كزّ ولا واني
فقوله «قبل سؤاله» تتميم عجيب لقوله «أفانين جري» وما أجمل قول زهير بن أبي سلمى في هذا الباب:
من يلق يوما على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا
والتتميم هنا في قوله «على علاته» وهو تتميم عجيب تضمن مبالغة أعجب. ويجري على هذا المنوال قول ابن محكان السعدي حين قدم الى القتل:
ولست- وإن كانت إليّ حبيبة- بباك على الدنيا إذا ما تولت قال أبو العباس المبرد: فاستثنى: «وإن كانت إليّ حبيبة» استثناء مليحا، ونوى التقديم والتأخير فلذلك جاز له أن يأتي بالضمير مقدّما على مظهره.
2- التأكيد بأن وفنون أخرى:
ومن بديع هذه الآية «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير» فنون عديدة نشير إليها:(7/545)
أ- فقد أتى بالتمثيل مؤكدا بإن أولا وعزز هذا التأكيد باللام فصار الكلام خبرا إنكاريا كأن التمثيل أمر مبتوت فيه لا يتطرق اليه الشك، فقد تدخل إن في الجملة فترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا، واستخدامها على هذا الوجه يحتاج الى تدبر وروية معا، وقد خفي سر هذا الاستخدام حتى على أفراد العلماء روي عن الأصمعي أنه قال: كنت أسير مع أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر وكانا يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان، وأتياه يوما فقالا: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ قال:
هي التي بلغتكم. قالوا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، قال:
نعم بلغني أن سلم بن قتيبة يتباصر بالغريب فأحببت أن أرد عليه مالا يعرف، قالا: فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما:
بكّرا يا صاحبيّ قبل الهجير ... إن ذاك النجاح في التبكير
حتى فرغ منها فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكان «إن ذاك النجاح في التبكير» «بكّرا فالنجاح في التبكير» كان أحسن فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية فقلت: «إن ذاك النجاح في التبكير» كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت: بكرا في النجاح كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذاك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فقبل بين عينيه. قال عبد القاهر في تعليقه على هذه القصة: «فهل كان هذا القول من خلف والنقد على بشار إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه؟» .(7/546)
ومضى عبد القاهر في تحليله لبيت بشار فقال: أما ان الجملة مستأنفة مع إنّ فلأنها غير معطوفة على ما قبلها بالواو وهي واقعة في جواب سؤال مقدر فكأن سائلا سأل: ولماذا يطلب الى صاحبيه أن يبكرا قبل الهجير فكان الجواب: إن ذلك النجاح في التبكير واما انها تصل جملتها بالجملة السابقة فالدليل عليه أنك لو أسقطت «إن» من الجملة لرأيت الجملة الثانية لا تتصل بالأولى ولا تكون منها بسبيل حتى تجيء بالفاء فتقول: بكرا صاحبي قبل الهجير فذاك النجاح في التبكير ولعل ذلك هو سر لطفها ودقتها وجزالة التعبير بها وهو سمة البناء الأعرابي الوحشي على عكس ما لو قال: بكرا فالنجاح في التبكير فهو بناء سهل واضح الترابط بالفاء وذلك سمة بناء الجمل عند المولّدين وإذا كانت الفاء تفيد الربط فانها لا تفيد التوكيد الذي تدل على «إن» وهذا البناء الجزل هو الذي جاء في القرآن الى درجة لا يدركها الإحصاء.
ويروي عبد القاهر في دلائل الاعجاز حديث يعقوب بن اسحق الكندي المتفلسف إذ ركب الى أبي العباس وقال له: إني لأجد في كلام العرب حشوا فقال له أبو العباس: في أي موضع وجدت ذلك؟
فقال: أجد العرب يقولون: عبد الله قائم ثم يقولون: إن عبد الله قائم ثم يقولون: إن عبد الله لقائم فالألفاظ متكررة والمعنى واحد.
كلام العرب حشوا فقال أبو العباس: في أي موضوع وجدت ذلك؟
فقال أبو العباس: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ فقولهم عبد الله قائم إخبار عن قيامه وقولهم إن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وقولهم: إن عبد الله لقائم جواب عن انكار منكر قيامه فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني.(7/547)
وانما أطلنا في الاقتباس لدقة هذا البحث وخفائه وهو في الآية التي نحن بصددها واقع أجمل موقع وألطفه، موضح لتعليل الأمر بخفض الصوت مبني على تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهيق وافراط في التنفير عن رفع الصوت وقد أجاد الخطيب في تعليله لهذا التعليل وننقل فصله بطوله لروعته وابداعه قال:
«فإن قيل: لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي؟ أجيب بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي في داخل الأذن وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه والصوت يبلغ من على اليمين وعلى اليسار ولأن المشي يؤذي آلة المشي والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإن الكلام ينقل من السمع الى القلب ولا كذلك المشي، وأيضا فلان قبيح القول أقبح من قبيح الفعل وحسنه أحسن لأن اللسان ترجمان القلب، ولما كان رفع الصوت فوق الحاجة منكرا كما أن خفضه دونها يعتبر تماوتا وتكبرا وكان قد أشار الى النهي عن هذا بمن فأفهم أن الطرفين مذمومان علّل النهي عن الأول بقوله إن أنكر أي أفظع وأشنع الأصوات برفعها فوق الحاجة لصوت الحمير أي هذا الجنس لما له من العلو المفرط من غير حاجة فإن كل حيوان قد يفهم من صوته أنه يصيح من ثقل أو تعب كالبعير أو لغير ذلك والحمار لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي بعض أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق بصوت أوله شهيق وآخره شهيق» .(7/548)
ب- توحيد الصوت:
وقال الزمخشري: «لم وحّد صوت الحمير ولم يجمع؟
قلت ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع وانما المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق له صوت وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس فوجب توحيده» .
الاستعارة التصريحية:
وفي هذه الآية الاستعارة التصريحية حيث أخلي الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة فجعلوا حميرا وجعل صوتهم نهاقا مبالغة في الذم والتهجين وإفراط في النهي عن رفع الصوت والحمار مثل في الذم البليغ والشتيمة الموجعة وكذلك نهاقه.
ومن استفحاشهم لذكره مجردا وتفاديهم من اسمه انهم يكنون عنه ويرغبون عن التصريح به فيقولون الطويل الأذنين، وعن عبد الحميد الكاتب انه قال: لا تركب الحمار فإنه إن كان فارها أتعب يدك وإن كان بليدا أتعب رجلك. وقال أعرابي: بئس المطية الحمار إن وفقته أدلى وإن تركته ولى، كثير الروث، قليل الغوث، سريع الى الفرارة، بطيء في الغارة، لا توقى به الدماء، ولا تمهر به النساء، ولا يحلب في الإناء. ومن العرب من لا يركبه أبدا ولو بلغت به الحاجة والجهد.
الصوت مصدر:
وفي القرطبي: «لصوت الحمير اللام للتأكيد ووحد الصوت وإن كان مضافا الى الجماعة لأنه مصدر والمصدر بدل على الكثرة وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت ويقال صوّت تصويتا فهو مصوت ورجل صات أي شديد الصوت بمعنى صائت» .(7/549)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 24]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
اللغة:
(وَأَسْبَغَ) : وأتم، يقال: أسبغ الله عليه النعمة أتمها وأسبغ الثوب: أوسعه وأطاله وأسبغ الرجل لبس درعا سابغة وأسبغ له النفقة وسّع عليه وأنفق تمام ما يحتاج اليه، وفي المصباح: «وسبغت النعمة سبوغا اتسعت وأسبغها الله أفاضها وأتمها وأسبغت الوضوء أتممته» وقرئ بالسين وبالصاد، وهكذا كل سين اجتمع معه الغين والخاء والقاف تقول في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سالغ صالغ ومعنى سالغ من سلغت البقرة والشاة إذا أسقطت السنّ التي خلقت السديس والسلوغ في ذوات الأظلاف بمنزلة البزول في ذوات الأحقاف.(7/550)
(بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) : جاء في القاموس ما يلي: «العروة من الدلو والكوز المقبض ومن الثوب أخت زره كالعري ويكسر ومن الفرج لحم ظاهره يعرض فيأخذ يمنة ويسرة مع أسفل البظر وفرج معرّى والجماعة من العضاة والحمض يرعى في الجدب والأسد والشجر الملتفّ تشتوفيه الإبل فتأكل منه أو مالا يسقط ورقه في الشتاء والنفيس من المال كالفرس الكريم وموالي البلد» وفي الأساس واللسان: «وتستعار العروة لما يوثق به ويعوّل عليه فيقال للمال النفيس والفرس الكريم: لفلان عروة، وللابل عروة من الكلأ وعلقة:
لبقية تبقى منه بعد هيج النبات تتعلق بها لأنها عصمة لها تراغم إليها وقد أكل غيرها قال لبيد:
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرا وعراعر الأقوام
أي هم عصم للناس كالعضاه التي تعتصم بها الأموال، ويقال لقادة الجيش: العرا، والصحابة رضوان الله عليهم عرى الإسلام، وقول ذي الرّمة:
كأن عرا المرجان منها تعلّقت ... على أمّ خشف من ظباء المشاقر
أراد بالعرا: الأطواق ... والعروة من أسماء الأسد» .
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف للرجوع الى ما سلف قبل قصة لقمان ووصيته من خطاب(7/551)
المشركين. والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو عاطفة على ما تقدم من خطابهم ولم حرف نفي وقلب وجزم وتروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والرؤية قلبية وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تروا وأن واسمها وجملة سخر خبرها ولكم متعلقان بسخر وما مفعول به وفي السموات متعلقان بمحذوف هو صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) وأسبغ عطف على سخر وعليكم متعلقان بأسبغ ونعمه مفعول به وظاهرة حال وباطنة عطف على ظاهرة وسيأتي معنى الظاهرة والباطنة في باب البلاغة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) الواو استئنافية ومن الناس خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يجادل صلة من إذا كانت موصولة أو صفة لها إذا كانت نكرة تامة بمعنى ناس وفي الله متعلقان بيجادل أي في توحيده وصفاته وبغير علم حال ولا هدى معطوفة ولا كتاب منير عطف على علم. (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة فيل في محل جر باضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتبعوا مقول القول وما مفعول به وجملة أنزل الله صلة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبل حرف إضراب وعطف ونتبع فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وما مفعول به وجملة وجدنا صلة وعليه متعلقان بوجدنا أو بمحذوف هو مفعول وجدنا الثاني وآباءنا هو مفعول وجدنا الاول أي وجدنا آباءنا عاكفين عليه.
(أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو فيها وجهان أحدهما أن تكون(7/552)
عاطفة على محذوف وثانيهما انها حالية، وعلى كل حال لا بد من تقدير محذوف معناه: أيتبعونه ولو كان الشيطان يدعوهم، ولو شرطية وجوابها محذوف أي يدعوهم فيتبعون ومحل الجملة النصب على الحال، وكان الشيطان كان واسمها وجملة يدعوهم خبرها والى عذاب السعير متعلقان بيدعوهم. (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويسلم فعل مضارع مجزوم لأنه فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ووجهه مفعول به والى الله متعلقان بيسلم ويسلم يتعدى باللام ولكنه عدي هنا بإلى ليكون معناه أنه سلم نفسه كما يسلم المتاع الى الرجل إذا دفع اليه والمراد التوكل عليه والتفويض اليه، والواو واو الحال وهو مبتدأ ومحسن خبر، فقد الفاء رابطة للجواب وقد حرف تحقيق واستمسك فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وبالعروة جار ومجرور متعلقان باستمسك والوثقى صفة للعروة والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.
(وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) الى الله خبر مقدم وعاقبة الأمور مبتدأ مؤخر. (وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) الواو حرف عطف والجملة معطوفة على سابقتها ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) إلينا خبر مقدم ومرجعهم مبتدأ مؤخر فننبئهم الفاء عاطفة وننبئهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومفعول به وبما متعلقان بننبئهم وجملة عملوا صلة ما وإن واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم. (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) جملة نمتعهم يجوز أن تكون حالية من(7/553)
فاعل نمتعهم وأن تكون مستأنفة وقليلا ظرف أو صفة لمصدر محذوف أي زمانا قليلا أو متاعا قليلا ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ونضطرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به والى عذاب متعلقان بنضطرهم وغليظ صفة لعذاب.
البلاغة:
1- الطباق:
في قوله «وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة» طباق وقد مرّ بحثه والمراد بالنعم الظاهرة كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة ما لا يعلم إلا بدليل، وجميل قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس وقد سأله عن هذه الآية: «الظاهرة الإسلام وما حسن من خلقك والباطنة ما ستر عليك من سيىء عملك» وقد أفاض المفسرون فيها مما يرجع اليه في المطولات.
2- الاستعارة التمثيلية:
وذلك في قوله «فقد استمسك بالعروة الوثقى» فقد مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من جبل شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه وقيل هو تشبيه تمثيلي لذكر طرف التشبيه.
3- الاستعارة المكنية:
وفي قوله «ثم نضطرهم الى عذاب غليظ» استعارة مكنية فقد شبه إلزامهم التعذيب وارهاقهم إياه باضطرار المضطر الى الشيء الذي(7/554)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
لا يقدر على الانفكاك منه أي يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ والغلظ مستعار من الأجرام الغليظة والمراد الشدة والثقل على المعذّب.
[سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 27]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
الإعراب:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) كلام مستأنف مسوق لبيان تناقضهم مع أنفسهم واعترافهم بما لا يسع المكابرين إنكاره من دلائل التوحيد الساطعة. واللام موطئة للقسم وإن شرطية وسألتهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعل ومفعول به ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض في محل رفع خبر والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان لسألتهم واللام واقعة في جواب القسم ويقولن فعل مضارع حذفت منه نون الرفع لتوالي الأمثال وواو الضمير لالتقاء الساكنين والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ حذف خبره أي الله خالقها. (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والجملة مقول قول والأمر للالزام لهم على قرارهم بأن الذي خلق السموات والأرض هو(7/555)
الله وحده وأنه يجب أن يكون الحمد والشكر مصروفين له وبل حرف إضراب انتقالي للتنبيه بأنهم إذا ألزموا بذلك لم يلتزموا به ولم ينتبهوا، وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر. (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) لله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة وإن حرف مشبه بالفعل ولفظ الجلالة اسمها وهو ضمير فصل والغني خبرها الأول والحميد خبرها الثاني. (وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) كلام مستأنف مسوق للتنبيه على أن معاني كلامه سبحانه لا تنفد، ولو حرف شرط غير جازم وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد وأن وما بعدها فاعل لفعل محذوف أي لو ثبت وأن واسمها وفي الأرض صلة ما ومن شجرة في موضع الحال من ضمير الاستقرار أو من ما وأقلام خبر أن.
(وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والبحر الواو حالية أو عاطفة والبحر مبتدأ خبره جملة يمده أو معطوف على موضع أن ومعمولها إذ هو مرفوع على الفاعلية كما تقدم وقرئ والبحر بالنصب عطف على اسم أن، وبمده فعل مضارع ومفعول به مقدم ومن بعده حال وسبعة أبحر فاعل يمده وجملة ما نفدت جواب لو فلا محل لها وإن واسمها وعزيز خبرها الاول وحكيم خبرها الثاني.
الفوائد:
1- تكلمنا فيما سبق عن «لو» ووعدناك بأن ننقل لك الخلاف الذي شجر بين النحاة والمعربين حول هذه الآية التي طال(7/556)
حولها الجدل وسنقدم لك خلاصة لأقوالهم لتقف على ما يذهلك من براعة الاستنتاج ودقة المنطق.
قال الشيخ شهاب الدين القرافي: «قاعدة «لو» أنها إذا دخلت على ثبوتين كانا منفيين وعلى نفيين كانا ثبوتين وعلى نفي وثبوت فالنفي ثبوت والثبوت نفي، تقول لو جاءني لأكرمته فهما ثبوتان فما جاءك ولا أكرمته، ولو لم يستدن لم يطالب فهما نفيان وقد استدان وطولب، ولو لم يؤمن أريق دمه التقدير انه آمن ولم يرق دمه وبالعكس لو آمن لم يقتل، وإذا تقررت هذه القاعدة فيلزم أن تكون كلمات الله قد نفدت وليس كذلك لأن «لو» دخلت على ثبوت أولا ونفي آخرا فيكون الأول نفيا وهو كذلك فإن الشجرة ليست أقلاما ويلزم أن يكون النفي الأخير ثبوتا فتكون نفدت وليس كذلك ونظير هذه الآية قوله عليه الصلاة والسلام: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» إذ يقتضي انه خاف وعصى مع الخوف وهو أقبح فيكون ذلك ذنبا لكن الحديث سبق وعادة الفضلاء الولوع بالحديث كثيرا، أما الآية فقليل من يتفطن لها وقد ذكروا في الحديث وجوها وأما الآية فلم أر لأحد فيها شيئا ويمكن تخريجها على ما قالوه في الحديث غير أنه ظهر لي جواب عن الحديث والآية جميعا وسأذكره فيما بعد، وقال ابن عصفور: «لو» في الحديث بمعنى «إن» لمطلق الربط وان لا يكون نفيها ثبوتا ولا ثبوتها نفيا فيندفع الإشكال وقال الشيخ شمس الدين الخسروشاهي: إن «لو» في أصل اللغة لمطلق الربط وانما اشتهرت في العرف بانقلاب ثبوتها نفيا وبالعكس، والحديث انما ورد بمعنى اللفظ في اللغة، وقال الشيخ ابن عبد السلام: الشيء الواحد قد يكون له سبب واحد فينتفي عند انتفائه وقد يكون له(7/557)
سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدمه لأن السبب الثاني يخلف الأول كقولنا في زوج هو ابن عم لو لم يكن زوجا لورث أي بالتعصيب فانهما سببان لا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر وكذلك هاهنا إذ الناس في الغالب إنما لم يعصوا لأجل الخوف فإذا ذهب الخوف عصوا لاتحاد السبب في حقهم فأخبر صلى الله عليه وسلم أن صهيبا رضي الله عنه اجتمع له سببان يمنعانه من المعصية وهذا مدح جليل وكلام حسن، وأجاب غيرهم بأن الجواب محذوف تقديره لو لم يخف الله عصمه الله، ويدلّ على ذلك قوله: لم يعصه، وهذه الأجوبة تتأتى في الآية غير الثالث فإن عدم نفاد كلمات الله تعالى وانها غير متناهية أمر ثابت لها لذاتها وما بالذات لا يعلّل بالأسباب فتأمل ذلك. هذا كلام الفضلاء الذي اتصل بي.
ويتابع القرافي: والذي ظهر لي أن «لو» أصلها أن تستعمل للربط بين شيئين نحو ما تقدم ثم أنها أيضا تستعمل لقطع الرابط فتكون جوابا لسؤال محقّق ومتوهم وقع فيه ربط فتقطعه أنت لاعتقادك بطلان ذلك الربط كما لو قال القائل لو لم يكن ذلك زوجا لم يرث فتقول أنت: لو لم يكن زوجا لم يحرم، تريد أن ما ذكرته من الربط بين عدم الزوجية وعدم الإرث ليس بحق فمقصودك قطع ربط كلامه لا ربط كلامه وتقول لو لم يكن زيدا عالما لأكرم أي لشجاعته جوابا لسؤال سائل يتوهمه أو سمعته يقول إنه إذا لم يكن عالما لم يكرم فيربط بين عدم العلم وعدم الإكرام فتقطع أنت ذلك الربط وليس مقصودك أن تربط بين عدم العلم والإكرام لأن ذلك غير مناسب ولا من أغراض العقلاء ولا يتجه كلامك إلا الى عدم الربط، فكذلك الحديث لما كان الغالب على الناس أن يرتبط عصيانهم بعدم خوف الله(7/558)
تعالى وان ذلك في الأوهام قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الربط وقال لو لم يخف الله يعصه وكذلك لما كان الغالب أن الأشجار كلها إذا صارت أقلاما والبحر الملح مع غيره يكتب به الجميع والوهم يقول ما يكتب بهذا شيء إلا نفد وما عساه أن يكون قطع الله هذا الربط وقال ما نفدت إلخ ... وهذا الجواب أصلح من الاجوبة المتقدمة لوجهين أحدهما شموله لهذين الموضعين وبعضها لم يشمل كما تقدم وثانيهما أن لو بمعنى خلاف الظاهر وما ذكرته من الجواب ليس مخالفا لعرف أهل اللغة فانهم يستعملون ما ذكرته ولا يفهمون غيره في تلك الموارد ونعم هذا الجواب الواجب لذاته لصفات الله تعالى وكلماته والممكن القابل للتعليل كطاعة صهيب رضي الله عنه» انتهى كلام شهاب الدين.
أما ابن هشام فبعد أن ذكر أن «لو» المستعملة على خمسة أوجه قال: «الثاني انها تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعا وهذا هو القول الجاري على ألسنة المعربين ونص عليه جماعة من النحويين وهو باطل بمواضع كثيرة منها قوله تعالى: «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا» «ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله» وقول عمر رضي الله عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، وبيانه أن كل شيء امتنع ثبت نقيضه فاذا امتنع «ما قام» ثبت «قام» وبالعكس، وعلى هذا فيلزم على هذا القول في الآية الاولى ثبوت إيمانهم مع عدم نزول الملائكة وتكليم الموتى لهم وحشر كل شيء عليهم وفي الثانية نفاد الكلمات مع عدم كون كل ما في الأرض من شجرة أقلاما تكتب الكلمات وكون(7/559)
البحر الأعظم بمنزلة الدواة وكون السبعة الأبحر مملوءة مدادا وهي تمد ذلك البحر، ويلزم في الأثر ثبوت المعصية مع ثبوت الخوف وكل ذلك عكس المراد، والثالث أنها تفيد امتناع الشرط خاصة ولا دلالة لها على امتناع الجواب ولا على ثبوته ولكنه إن كان مساويا للشرط في العموم كما في قولك لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، لزم انتفاؤه لأنه يلزم من انتفاء السبب المساوي انتفاء مسببه وإن كان أعم كما في قولك: لو كانت الشمس طالعة كان الضوء موجودا فلا يلزم انتفاؤه وانما يلزم انتفاء القدر المساوي منه للشرط وهذا قول المحققين» الى أن يقول:
«ويتلخص على هذا أن يقال إن «لو» تدل على ثلاثة أمور:
عقد السببية والمسببية وكونهما في الماضي وامتناع السبب ثم تارة يعقل بين الجزأين ارتباط مناسب وتارة لا يعقل فالنوع الاول على ثلاثة أقسام:
ما يوجب فيه الشرع أو العقل انحصار مسببية الثاني في سببية الأول نحو قوله تعالى: «ولو شئنا لرفعناه بها» ونحو لو كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا، وهذا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثاني قطعا. وما يوجب أحدهما فيه عدم الانحصار المذكور نحو: لو نام لانتقض وضوءه وهذا لا يلزم فيه من امتناع الأول امتناع الثاني كما قدمنا.
وما يجوز فيه العقل ذلك نحو: لو جاءني زيد أكرمته فإن العقل يجوز انحصار سبب الإكرام في المجيء ويرجحه أن ذلك هو الظاهر من ترتيب الثاني على الأول وأنه المتبادر الى الذهن واستصحاب الأصل وهذا النوع يدل فيه العقل على انتفاء المسبب المادي لانتفاء السبب(7/560)
لا على الانتفاء مطلقا ويدل الاستعمال والعرف على الانتفاء المطلق، والنوع الثاني (وهو ما لا يعقل فيه بين الجزأين ارتباط مناسب) قسمان: أحدهما ما يراد فيه تقرير الجواب وجد الشرط أو فقد ولكنه مع فقده أولى وذلك كالأثر المروي عن عمر في صهيب رضي الله عنهما: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» فإنه يدل على تقرير عدم العصيان على كل حال وعلى انتفاء المعصية مع ثبوت الخوف أولى وانما لم تدل «لو» على انتفاء الجواب لأمرين:
أحدهما: أن دلالتها على ذلك انما هو من باب مفهوم المخالفة وفي هذا الأثر دل مفهوم الموافقة على عدم المعصية لأنه إذا انتفت المعصية عند عدم الخوف فعند الخوف أولى وإذا تعارض هذان المفهومان قدم مفهوم الموافقة.
الثاني: انه لما فقدت المناسبة انتفت العلّية فلم يجعل عدم الخوف علة عدم المعصية فعلمنا أن عدم المعصية معلل بأمر آخر وهو الحياء والمهابة والإجلال والإعظام وذلك مستمر مع الخوف فيكون عدم المعصية عند عدم الخوف مستندا الى ذلك السبب وحده وعند الخوف مستندا اليه فقط أو اليه والى الخوف معا وعلى ذلك تتخرج آية «لقمان» السابقة لأن العقل يجزم بأن الكلمات إذا لم تنفد مع كثرة هذه الأمور فلأن لا تنفد مع قلتها وعدم بعضها أولى» .
هذا ومن نسب الأثر بهذا اللفظ الى النبي صلى الله عليه وسلم فقد وهم وإنما الوارد ما رواه أبو نعيم في الحلية أن النبي قال في سالم مولى أبي حذيفة أنه شديد الحب لله تعالى لو كان لا يخاف الله ما عصاه.(7/561)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
2-لماذا وحد الشجرة؟:
وقال الزمخشري: «فإن قلت لم قيل من شجرة على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتقصيها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلاما» .
ووحد الشجرة لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل فكأنه قال كل شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجرة واحدة إلا وقد بريت أقلاما وجمع الأقلام لقصد التكثير أي لو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاما.
[سورة لقمان (31) : الآيات 28 الى 32]
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)(7/562)
اللغة:
(كَالظُّلَلِ) : الظلل: جمع ظلة بضم الظاء كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو شجر أو غيرها.
(خَتَّارٍ) : مبالغة من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم: انك لا تمد لنا شبرا من الغدر إلا مددنا لك باعا من ختر، قال:
وانك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر
وقوله ملأت يديك من غدر وختر شبه المعقول بالمحسوس على سبيل الاستعارة المكنية وملء اليدين تخييل، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا عدّ بأصابع يده اليمنى: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبأصابع اليسرى: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني فقال رسول الله: ملأت يديك خيرا.
الإعراب:
(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ما نافية وخلقكم مبتدأ ولا بعثكم عطف على خلقكم وإلا أداة حصر والكاف خبر خلق أو الجار والمجرور خبر خلق ولا بد من تقدير مضاف أي إلا كخلق نفس واحدة وما بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، والكلام مستأنف مسوق للرد على المتشككين الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله خلقنا أطوارا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم تقول إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة، وان واسمها وسميع(7/563)
خبرها الأول وبصير خبرها الثاني. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة يولج الليل في النهار خبرها وجملة يولج النهار في الليل عطف عليها. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) الواو عاطفة وسخر عطف على يولج وستأتي علة المخالفة في الصيغة في باب البلاغة والشمس مفعول سخر والقمر عطف على الشمس وكل مبتدأ وجملة يجري خبر والى أجل متعلقان بيجري، وسيأتي سر هذا الحرف في باب البلاغة، وان واسمها وبما تعملون متعلقان بخبير وخبير خبر إن. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ) ذلك مبتدأ وخبره بأن الله وأن اسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والحق خبر أن أو خبر هو والجملة خبر أن وأن عطف على بأن وأن واسمها وجملة يدعون صلة ما ومن دونه حال والباطل خبر أن. (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) عطف على ما تقدم.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريري أيضا ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وأن وما بعدها في محل نصب مفعول تر وأن واسمها وجملة تجري في البحر خبرها وبنعمة الله حال أي مصحوبة بنعمته.
(لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) اللام للتعليل ويريكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ومن آياته في محل نصب مفعول به ثان ليريكم وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن ولكل صفة لآيات وصبار مضاف لكل وشكور صفة لصبار. (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا(7/564)
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)
الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة غشيهم في محل جر باضافة الظرف اليه وغشيهم فعل ماض ومفعول به وموج فاعل وكالظلل صفة لموج وجملة دعوا الله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومخلصين حال وله متعلقان بمخلصين والدين مفعول لمخلصين لأنه اسم فاعل. (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة ونجاهم فعل ماض ومفعول به وفاعل مستتر تقديره هو والى البر متعلقان بنجاهم والفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومقتصد مبتدأ مؤخر أي متوسط في الكفر والظلم لأنه انزجر بعض الانزجار، وقيل المقتصد المتوسط بين السابق بالخيرات والظالم لنفسه وفي الكلام إيجاز سيأتي في باب البلاغة. (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) الواو استئنافية وما نافية ويجحد فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان بيجحد وإلا أداة حصر وكل فاعل وختار مضاف اليه وكفور صفة لختار.
البلاغة:
المخالفة في الصيغة وفي حرفي الجر:
في قوله «وسخر الشمس والقمر» مخالفة في الصيغة بين سخر المعطوف ويولج المعطوف عليه لأن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد كل حين فعبر عنه بالصيغة المتجددة حينا بعد حين وأما تسخير النيرين فهو أمر لا يتجدد ولا يتعدد بل هو ديمومة متصلة متتابعة فعبر عنه بالصيغة الماضية الكائنة.(7/565)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
وفي قوله: «إلى أجل غير مسمى» مخالفة بين حرف الجر «إلى» المستعمل هنا وحرف الجر «اللام» المستعمل في مكان آخر فليس هو من تعاقب الحرفين فالاول للانتهاء والثاني للاختصاص وكل واحد منهما واقع موقعه ملائم لصحة الغرض الذي هدف اليه، لأن قولك يجري الى أجل مسمى معناه يبلغه وينتهي إليه وقولك يجري لأجل مسمى معناه يجري لإدراك أجل مسمى، فما ينتهي هنا غاية ما ينتهي اليه الخلق فناسب ذكر «الى» ، وما في فاطر والزمر ليس من هذا الوادي فناسب ذكر اللام وهذا من الدقائق البديعة فتأمل.
[سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) اتقوا ربكم فعل أمر وفاعل ومفعول به واخشوا عطف على اتقوا ويوما مفعول به وجملة لا يجزي والد عن ولده صفة ليوما. (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) ولا مولود عطف على والد(7/566)
وهو مبتدأ وجاز خبر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين والجملة صفة ليوما وشيئا مفعول جاز أو يجزي فالمسألة من باب التنازع وإن وعد الله حق ان واسمها وخبرها.
(فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتغرنكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا الناهية والحياة فاعل تغرنكم والكاف مفعوله والدنيا صفة للحياة ولا يغرنكم بالله الغرور عطف على ما تقدم مماثل له في إعرابه والغرور بفتح الغين كل ما يسبب الانخداع والافتتان. (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تفرد الله بالاحاطة بالمغيبات، وسبب نزولها ان الحارث بن عمرو بن حارثة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن الساعة متى قيامها وإني قد ألقيت حياتي في الأرض وقد أبطأت عنا السماء فمتى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها أذكر أم أنثى؟
وإني علمت ما علمت أمس فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت؟.
وان واسمها وعنده ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الساعة مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن وينزل الغيث عطف على عنده علم الساعة فهو بمثابة خبر ثان ويعلم ما في الأرحام عطف أيضا.
(وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً) الواو حرف عطف وما نافية وتدري فعل مضارع ونفس فاعله وماذا اسم استفهام مركب في محل نصب مفعول مقدم لتكسب وجملة تكسب سادة مسد مفعولي تدري المعلقة بالاستفهام وغدا ظرف متعلق بتكسب ويجوز أن تكون ما مبتدأ وذا اسم موصول في محل رفع خبر، وقد تقدم القول في ماذا.(7/567)
(وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الواو حرف عطف وما نافية وتدري فعل مضارع مرفوع ونفس فاعل وبأي أرض متعلق بتموت وهو معلق للدراية فالجملة في محل نصب والباء ظرفية بمعنى في أي في أي أرض وان واسمها وخبرها.
البلاغة:
للضمائر شأن كبير في الفصاحة والبلاغة ولها تأثير في قوة الكلام وضعفه، أو توكيده وعدم توكيده، ومن ذلك قوله «ولا مولود هو جاز عن والده شيئا» فقد ورد الضمير بعد مولود ولم يرد بعد والد في قوله «لا يجزي والد عن ولده شيئا» وذلك لسر يتجاوز الاعراب، وقد أجاب الامام الزمخشري بجواب في غاية الدقة ولكنه أغفل أمرا هاما يرد عليه، وفيما يلي نص قوله:
«فإن قلت: قوله ولا مولود هو جاز عن والده شيئا وارد على طريق من التوكيد لم يرد عليه ما هو معطوف عليه؟ قلت الأمر كذلك لأن الجملة الاسمية آكد من الفعلية وقد انضم الى ذلك قوله هو وقوله مولود والسبب في مجيئه على هذا السنن أن الخطاب للمؤمنين وعليتهم قبض آباؤهم على الكفر وعلى الدين الجاهلي فأريد حسم أطماعهم وأطماع الناس فيهم أن ينفعوا آباءهم في الآخرة وأن يشفعوا لهم وأن يغنوا عنهم من الله شيئا فلذلك جيء به على الطريق الآكد» وواضح من هذا التعليل الجميل أنه يتمشى على الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو أنه خاص بهم والصحيح أنه عام لهم ولكل من ينطبق عليهم اسم الناس فالأولى أن يقال في جواب السؤال ان الله تعالى(7/568)
لما أكد الوصية على الآباء وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوءه بحسب نهاية إمكانه وغاية طوقه قطع هنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة مظنة لأنه يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه، ولما كان إجزاء الولد عن الوالد ظنة الوقوع وموطن الأمل لأن الله حضه عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم وهذا غير وارد في حق الولد على الوالد وهذا من الحسن بمكان فتأمله.(7/569)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
(32) سورة السجدة مكيّة وآياتها ثلاثون
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
الإعراب:
(الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ألم خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم القول مفصلا في ذلك وتنزيل الكتاب مبتدأ ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيه خبرها والجملة حال من الكتاب ومن(7/570)
رب العالمين خبر تنزيل وهناك أعاريب أخرى ضربنا صفحا عنها وقد تقدم في أول البقرة ما يشبه هذا. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل الاضرابية وهمزة الاستفهام الانكارية ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وجملة افتراه مقول القول وافتراه فعل ومفعول به والفاعل مستتر تقدير هو يعود على محمد وبل إضراب ثان يفيد ابطال قولهم وهو مبتدأ ولحق خبر ومن ربك حال. (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوان بعد لام التعليل وفاعل تنذر مستتر تقديره أنت وقوما مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف إذ التقدير لتنذر قوما العقاب، وما نافية وآتاهم فعل ومفعول به ومن حرف جر زائد والجملة صفة لقوما ومن قبلك صفة لنذير ويجوز أن يتعلق بآتاهم وجملة ما آتاهم المنفية في محل نصب صفة لقوما ويجوز العكس، ومفعول تنذر الثاني محذوف أي لتنذر قوما العقاب، وجوز بعضهم أن تكون ما موصولة والتقدير لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، ومن نذير متعلقان بأتاهم أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وبواسطته فما مفعول به ثان وانذر يتعدى الى اثنين قال تعالى: «فقل أنذرتكم صاعقة» ولعل واسمها وجملة يهتدون خبرها وجملة الترجي حال من فاعل لتنذر أي لتنذرهم راجيا لاهتدائهم.
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الله مبتدأ والذي خبره وجملة خلق السموات والأرض صلة وما عطف على السموات وبينهما ظرف متعلق بمحذوف صلة لما وفي ستة أيام متعلقان بخلق. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ(7/571)
وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)
ثم حرف عطف وتراخ واستوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله وعلى العرش متعلقان باستوى وما نافية ولكم خبر مقدم ومن دونه حال لأنه كان في الأصل صفة لولي ومن حرف جر زائد وولي مجرور لفظا مرفوع محلّا على أنه مبتدأ مؤخر ولا شفيع عطف على ولي، ويجوز أن تكون ما حجازية على رأي بعض النحاة، والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه السياق ولا نافية وتتذكرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعله. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الجملة حالية والأمر مفعول يدبر ومن السماء متعلقان بيدبر والى الأرض متعلقان بيدبر أيضا ومن ابتدائية والى انتهائية، ثم حرف عطف وتراخ ويعرج فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو أي الأمر أي يرجع اليه واليه متعلقان بيعرج وفي يوم حال من فاعل يعرج أي كائنا في يوم وجملة كان واسمها وخبرها صفة ليوم وسيأتي مزيد بيان لمعنى هذا الزمان في باب البلاغة، ومما صفة لألف سنة وجملة تعدون صلة.
البلاغة:
قال النحاس: اليوم في اللغة بمعنى الوقت، فاندفع الإشكال الذي أورده بعضهم مع قوله تعالى في سورة سأل «خمسين ألف سنة» فالعرب تعبر عن مدة العصر باليوم، ويوم القيامة فيه أيام متباينة الأوقات فمنها ما هو مقداره ألف سنة ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة فالمراد من ذكر الألف والخمسين التنبيه على طوله والتخويف منه لا العدد بخصوصه ومن شواهد التعبير باليوم عن المدة قول الشاعر:
يومان: يوم مقامات وأندية ... ويوم سير الى الأعداء تأويب(7/572)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
[سورة السجده (32) : الآيات 6 الى 11]
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
الإعراب:
(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ذلك مبتدأ والاشارة إلى الله الخالق المدبر وعالم الغيب والشهادة خبر أول والعزيز خبر ثان والرحيم خبر ثالث. (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) يجوز في اسم الموصول أن يكون خبرا رابعا أو نعتا أو خبرا لمبتدأ مضمر وأن يكون منصوبا على المدح وجملة أحسن صلة وكل شيء مفعول به وخلقه فعل ماض ومفعول به والفاعل ضمير مستتر تقديره يعود على الله وجملة خلقه صفة لشيء في محل جر أو صفة لكل فهي في محل نصب وقرئ خلقه بسكون اللام فيكون بدل اشتمال من كل شيء والضمير عائد على كل شيء. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) وبدأ عطف على أحسن وخلق الإنسان مفعول به ومن طين متعلقان بخلق والمراد بالإنسان آدم.
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع(7/573)
التراخي وجعل نسله فعل وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به ومن سلالة متعلقان بجعل أو في محل نصب على أنه مفعول ثان، وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه كما سميت النطفة سلالة لأنها تسل منه، وفي الصحاح: النجل: النسل ونجله أبوه أي ولده فالولد سليل ونجل، ومن ماء صفة لسلالة ومهين صفة لماء وهي النطفة الضعيفة.
(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) ثم حرف ترتيب وتراخ وسواه فعل وفاعل مستتر ومفعول به والمراد بالتسوية تقويمه في أحسن تقويم ونفخ عطف على سواه وفيه متعلقان بنفخ ومن روحه متعلقان بنفخ أيضا وجعل عطف ولكم متعلقان بجعل والسمع مفعول به والأبصار والأفئدة معطوفان على السمع وقليلا مفعول مطلق وما زائدة مؤكدة للقلة وتشكرون فعل مضارع مرفوع، ويجوز أن يعرب قليلا ظرف زمان فعلى الأول يكون التقدير شكرا قليلا وعلى الثاني زمانا قليلا.
(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان ضروب من أباطيلهم وسيأتي سر الالتفات في باب البلاغة والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بمحذوف تقديره نبعث وهو جواب إذا أو نخرج بدلالة خلق جديد عليه وجملة ضللنا في محل جر بإضافة الظرف إليها، وفي الأرض متعلقان بضللنا والهمزة للاستفهام الانكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة وفي خلق خبرها وجديد صفة لخلق. (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) إضراب انتقالي من بيان كفرهم بالبعث إلى ما هو أطم وأدل على سوء ما هم مترددون فيه، وهم مبتدأ وبلقاء ربهم متعلقان بكافرون وكافرون خبر هم. (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) يتوفاكم فعل مضارع والكاف مفعول به(7/574)
مقدم وملك الموت فاعل والذي نعت لملك الموت وجملة وكل بكم صلة، ثم حرف عطف وتراخ والى ربكم متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
الفوائد:
التفعل والاستفعال:
قال الزمخشري: «والتوفي استيفاء النفس وهي الروح قال الله تعالى: «الله يتوفي الأنفس» ومعلوم أن التفعل والاستفعال يلتقيان في مثل تقضيته واستقضيته وتعجلته واستعجلته» وللتفعل معان أخرى ندرجها فيما يلي:
1- مطاوعة الرباعي المضعف نحو نبّهته فتنبّه وجمعته فتجمّع.
2- التكلف نحو تصبّر وتكرّم أي تكلّف الصبر والكرم.
3- الاتخاذ نحو توسّد ذراعه أي اتخذه وسادة وتورّك البعير أي اتخذ وركه مطية.
4- التجنّب نحو تأثّم أي تجنب الإثم وتهجّد أي تجنب الهجود وهو النوم.
5- التدريج نحو تحفّظت الدرس أي حفظته قسما بعد قسم وتجرعت الدواء أي أخذته جرعة بعد جرعة.
وأشهر معاني الاستفعال ما يأتي:
1- الطلب نحو استقدمت فلانا أي طلبت قدومه واستخرجت حل المسألة أي حصلت عليه بعد طلب.(7/575)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
2- الصيرورة نحو استحجر أي صار حجرا واستنوق الجمل أي صار كالناقة واسترجلت المرأة أي صارت كالرجل.
3- النسبة نحو استصوبت رأيه أي نسبت اليه الصواب واستقبحت فعله أي نسبت اليه القبح.
4- اختصار اللفظ نحو استرجع القوم أي قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون.
5- القوة نحو استهتر أي اشتد هتاره واستكبر أي قوي كبره.
وقد تأتي هذه الصيغة بمعنى أفعل نحو استجاب وأجاب وقد تكون مطاوعا له نحو أحكمت البناء فاستحكم وأقمت اعوجاجة فاستقام.
[سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 17]
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)(7/576)
اللغة:
(تَتَجافى) : تجافى: تنحى ولم يلزم مكانه يقال تجافى السرج عن ظهر الفرس وتجافى جنبه عن الفراش وقال في الأساس: «جفاني فلان: فعل بي ما ساءني واستجفيته، والأدب صناعة مجفوّ أهلها، وجفت المرأة ولدها فلم تتعاهده، وثوب جاف: غليظ وقد جفا ثوبه، وهو من جفاة العرب، وجفا السرج عن ظهر الفرس، وجنب النائم عن الفراش وتجافى «تتجافى جنوبهم عن المضاجع» وأجفاه صاحبه وجافاه، قال:
وتشتكي لو أننا نشكيها ... غمز حوايا قلّما نجفيها
ومن المجاز: أصابته جفوة الزمان وجفاوته. وللجيم مع الفاء خاصة الانكماش والجفاف يقال جف يجف من باب تعب جفافا وجفوفا: يبس ونشف والانكماش واضح في هذا المعنى، واجتف مافي الإناء: أتى عليه، وجفأ يجفأ من باب فتح النهر رمى بالزبد والقذى وجفجف الإبل: ساقها بشدة حتى ركب بعضها بعضا أي انكمش بعضها على بعض، وجفخ تكبر والمتكبر منكمش عن الناس ترفعا وتيها منه، وجفل القوم وأجفلوا هربوا مسرعين ووقعت في الناس جفلة إذا خافوا فانجفلوا وليس مثل الخائف في الانكماش والاسراع، وجفن الناقة: نحرها وأطعم لحمها في الجفان وجفن نفسه كفها عن الخبائث وتجفّن الكرم صار له أصل والجفنة بفتح الجيم القصعة الكبيرة والخمرة والبئر الصغيرة فما تطلقه العامة على جفنة الكرم له أصل صحيح.(7/577)
الإعراب:
(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) كلام مستأنف مسوق لاستحضار صورة المجرمين عامة يوم القيامة والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له ولتجسيد الفظاعة التي حلت بهم. ولو شرطية وترى فعل مضارع فاعله مستتر تقديره أنت وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري وانما جاز ذلك لترقب وقوعه وتحققه نحو أتى أمر الله، وجعله أبو البقاء مما وقعت فيه إذ موقع إذا، والمجرمون مبتدأ وناكسو رءوسهم خبر وسيأتي سر التعبير بالجملة الاسمية في باب البلاغة وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال ومفعول ترى محذوف لأن الرؤية بصرية أي لو ترى المجرمين، وقد أغنى عن ذكره المبتدأ، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يمكن وصفه، وأجاز الزمخشري أن تكون لو للتمني والمضي فيها وفي إذ لأن الثابت في علم الله بمثابة الواقع، وناكسو رءوسهم اسم فاعل مضاف الى مفعوله. (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) الكلام مقول قول محذوف في موضع الحال أي قائلين وربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء وأبصرنا فعل وفاعل والمفعول محذوف أي أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك، وسمعنا عطف على أبصرنا ويجوز عدم تقدير مفعول أي صرنا ممن ببصر ويسمع وكنا من قبل صما وعميانا وهو جميل، فأرجعنا الفاء الفصيحة وارجعنا فعل أمر المقصود منه الدعاء ومفعول به ونعمل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وان واسمها وخبرها.(7/578)
(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) الواو عاطفة ولو شرطية وشئنا فعل وفاعل ولآتينا اللام واقعة في جواب لو وآتينا فعل وفاعل وكل نفس مفعول آتينا الاول وهداها مفعول آتينا الثاني. (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) الواو حالية ولكن مخففة مهملة فهي لمجرد الاستدراك وحق القول فعل وفاعل ومني حال ولأملأنّ اللام موطئة للقسم وأملأن فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا وجهنم مفعول به ومن الجنة متعلقان بأملأن والناس عطف على الجنة وقدم الجن لأن المقام مقام تحقير لهم وأجمعين تأكيد وسيأتي القول في معنى أجمعين هنا في باب الفوائد. (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) الفاء الفصيحة أي إن نسيتم هذا كله فذوقوا، وذوقوا فعل أمر وفاعله وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية والمصدر الاول مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بذوقوا ومفعول ذوقوا محذوف تقديره العذاب ولقاء يومكم مفعول نسيتم وهذا صفة ليومكم أي المشار اليه.
(إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كلام مستأنف لزيادة إيلامهم ومقابلة نسيانهم اللقاء بنسيان أمضى وأنكى، وان واسمها وجملة نسيناكم خبرها وذوقوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف أي ونقول ذوقوا وعذاب الخلد مفعول ذوقوا، وكرر الذوق مع مفعوله للتأكيد وتبيين المفعول المطوي للذوق، وبما جار ومجرور متعلقان بذوقوا وقدمر قريبا وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها. (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) كلام مستأنف مسوق لبيان الذين إذا قرئ عليهم القرآن خروا سجدا وإنما كافة ومكفوفة ويؤمن فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان به(7/579)
والذين فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذكروا في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو نائب فاعل وبها متعلقان بذكروا وجملة خروا جواب إذا وسجدا حال من فاعل خروا.
(وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) وسبحوا عطف على خروا وبحمد ربهم حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يستكبرون خبر والجملة في محل نصب على الحال. (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) الجملة مستأنفة أو حالية أيضا وجنوبهم فاعل وعن المضاجع متعلقان بتتجافى. (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) جملة يدعون إما مستأنفة وإما حالية أيضا ويدعون ربهم فعل مضارع وفاعل ومفعول به وخوفا وطمعا إما مفعول من أجله وإما حالان وإما مصدران لفعل محذوف ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة ما.
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يجوز أن تكون الفاء عاطفة أي تتجافى جنوبهم ويدعون ربهم فلا، ويجوز أن تكون فصيحة أي إن حلول أحد أن يعلم مصيرهم وما أعد الله لهم من قرة أعين فلا يعلم. ولا نافية وتعلم نفس فعل مضارع وفاعل وما اسم موصول مفعول تعلم أي لا تعلم الذي أخفاه الله ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع مبتدأ وأخفي لهم خبره وعلى قراءة أخفي بسكون الياء تكون ما مفعول أخفي لأنه فعل مضارع وفاعله أنا وتكون ما الاستفهامية معلقة لمتعلم ولهم متعلقان بأخفي ومن قرة أعين حال من ما وجزاء مفعول مطلق لفعل محذوف أي جوزوا جزاء أو مفعول لأجله أي أخفي لهم لأجل جزائهم وبما متعلقان بجزاء وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.(7/580)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
البلاغة:
العدول عن الفعلية الى الاسمية:
في قوله «ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم» عدول عن الجملة الفعلية الى الجملة الاسمية لتقرير ثباتهم على نكس رءوسهم خجلا وحياء وخزيا عند ما تبدو مثالبهم وهناتهم بصورة دميمة شوهاء تبعث على الهزء بهم والسخرية منهم كأنما استمر ذلك منهم، لا يرتفع لهم رأس، ولا يمتد منهم طرف.
وكذلك عدل عن الفعلية الى الاسمية المؤكدة في قوله «إنا موقنون» أي انهم ثابتون على الإيقان راغبون فيه بعد أن ظهرت لهم المغاب منادية عليهم بالويل والثبور.
الفوائد:
التوكيد بأجمعين:
يجوز إذا أريد تقوية التوكيد أن يتبع كله بأجمع وكلها بجمعاء وكلهم بأجمعين وكلهن بجمع فتقول جاء الجنس كله أجمع والقبيلة كلها جمعاء والقوم كلهم أجمعون والنساء كلهن جمع، وقد يؤكد بهن وإن لم يتقدم كل نحو الآية المتقدمة وقوله «لأغوينهم أجمعين» .
[سورة السجده (32) : الآيات 18 الى 22]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)(7/581)
الإعراب:
(أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ومن مبتدأ وجملة كان صلة واسمها مستتر تقديره هو ومؤمنا خبرها وكمن خبر من وجملة كان صلة من الثانية وفاسقا خبر كان وجملة لا يستوون مستأنفة لا موضع لها من الاعراب ويستوون فعل مضارع مرفوع وفاعل ومتعلقه محذوف أي في المآل، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعمّد الوقف على قوله فاسقا ثم يبتدىء بقوله لا يستوون.
قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: لا يستوون، لأجل معنى من، وقيل لكون الاثنين أقل الجمع. (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات معطوفة على الصلة داخلة في حيزها فلهم الفاء رابطة ولهم خبر مقدم وجنات المأوى مبتدأ مؤخر، والمأوى المكان تلجأ إليه ويقال المأواة والمأوي، ونزلا حال من جنات المأوى أي حالة كونها مهيأة ومعدة(7/582)
لهم، والنزل بضمتين عطاء النازل ثم صار عاما فاستعماله بمعنى الفندق لا غبار عليه بل لعله أولى بالنسبة للفنادق الرفيعة لأن الفندق كقنفذ هو الخان كما في القاموس ويقال فيه الفنتق، قال ابن عباد هو خان السبيل لغة في الفندق وأنكره الخفاجي في شفاء الغليل قال شارح القاموس: «وهو- أي كلام الخفاجي- غير متجه فقد قال الفراء سمعت أعرابيا من قضاعة يقول فتق للفندق وهو الخان» ، وبما صفة لنزلا وما مصدرية أو موصولية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.
(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) الواو عاطفة وأما شرطية تفصيلية كما تقدم والغالب تكريرها وسيرد في باب الفوائد إلماع إليها والذين مبتدأ وفسقوا صلة والفاء رابطة ومأواهم النار ابتداء وخبر والجملة خبر الذين.
(كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط وقد تقدم القول في كلما كثيرا وأرادوا فعل وفاعل والجملة مستأنفة لبيان كيفية مأواهم فيها وأن وما في حيزها مفعول أرادوا ومنها متعلقان بيخرجوا وجملة أعيدوا لا محل لها وفيها متعلقان بأعيدوا وقيل عطف على أعيدوا والواو نائب فاعل ولهم متعلقان بقيل وجملة ذوقوا عذاب النار مقول القول والذي صفة للعذاب وجملة كنتم صلة وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ونذيقنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بنذيقنهم والأدنى صفة للعذاب(7/583)
والمراد بالأدنى عذاب الدنيا وما يستهدفون له من محن ونكبات، ودون ظرف زمان بمعنى قبل متعلق بمحذوف حال والعذاب مضاف إليه والأكبر نعت والمراد بالأكبر عذاب الآخرة ولعل واسمها وخبرها وجملة الترجي حالية والمراد بها ترجي المخاطبين كما قال سيبويه في تفسيرها. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال من قابل النعمة بالإعراض والإشاحة عنها ومن اسم استفهام معناه النفي مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة ذكر صلة لمن وبآيات ربه متعلقان بذكر وثم حرف عطف وتراخ وأعرض عطف على ذكر وعنها متعلقان بأعرض وسيأتي معنى التراخي في باب البلاغة وإنا ان واسمها ومن المجرمين متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن.
البلاغة:
1- ذكرنا فيما سبق أن لحروف العطف أسرارا لا يدركها إلا المبين، فلا يصح وضع بعضها موضع بعض للفوارق بينها، وكلمة «ثم» خاصة بالاستبعاد والتطاول في المدة وقد ناسب ذكرها في قوله «ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها» لأن الإعراض عن الآيات مع غاية وضوحها وإشراقها مستبعد في حكم البداءة الثابتة وموازين العقول الراجحة. وقد رمق الشعراء سماء هذه البلاغة فقال جعفر بن علبة الحارثي فيما يرويه ديوان الحماسة:
ولا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها(7/584)
نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ... ففينا غواشيها وفيهم صدورها
فقد شبه الداهية الغماء بأمر محسوس يغشي الناس ويغطيهم على طريق الاستعارة المكنية، وقال ابن حرة ليكون حفزا للسامع وتهييجا له على خوض الهيجاء وغمرات الموت شدائده وأهواله، والشاهد في قوله ثم يزورها استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها لأن بين رؤية الأهوال المفزعة وبين الانحدار إليها برغبة تشبه الرغبة في لقاء المحبوب بونا بعيدا في العادة والعقل، وشبه السيوف ممتدة متوسطة بينهم بشيء تجري فيه المقاسمة على طريق الاستعارة المكنية ثم فرع على تلك المقاسمة أن لهم غواشيها أي ما يغشاهم منها وهي مقابضها أو لأنها زائدة على النصل فهي غاشية له ولأعدائه صدورها أي أطرافها المتقدمة منها وصدر كل شيء مقدمه، وعبر بفي دون اللام لأن «في» تفيد مجرد اشتمال الأعداء على الصدور لدخولها في أجسامهم واللام تفيد التملك وليس مرادا وإن كان مقتضى القسمة فلعله دفع توهمه بالعدول الى «في» وذكرها أولا تمهيدا للثانية.
2- في قوله «وأما الذين فسقوا فمأواهم النار» الآية، فن من فنون البديع لم يذكره أحد من الذين كتبوا في فنون البديع ما عدا ابن أبي الإصبع وهو الشماتة، وهو ذكر ما أصاب عدوك من آفات ومحن جزاء ما اقترفت يداه مع المبالغة في تصوير غمائه وما يتخبط به من أهوال وإظهار اغتباطك بما أصابه شماتة به وتشفيا منه، وفي هذه الآية من ضروب التشفي والشماتة ما لا يخفى، وهو شائع في القرآن وفي الشعر ومنه قصيدة «فتح الفتوح» لأبي تمام.(7/585)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
الفوائد:
عود على أمّا:
(أَمَّا) بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف شرط وتوكيد وتفصيل غالبا ويدل على معنى الشرط مجيء الفاء بعدها غالبا، ويدل على معنى التفصيل استقراء مواقعها وعطف مثلها عليها، ولا بد لها من فاء تالية لتاليها إلا ان دخلت الفاء على قول قد طرح استغناء عنه بالمقول فيجب حذفها منه.
[سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)(7/586)
اللغة:
(الْجُرُزِ) : يقال: جرزه الزمان: اجتاحه، قال تبع:
لا تسقني بيديك إن لم ألقها ... جرزا كأن أشاءها مجروز
وأرض مجروزة وقد جرزت: قطع نباتها وأرض جرز وأرضون أجراز وسنون أجراز: جدبة ومفازة مجراز. قال الراعي:
وغبراء مجراز يبيت دليلها ... مشيحا عليها للفراقد راعيا
وسيف جراز و «لن ترضى شانئة إلا بجرزة» مثل في العداوة وأن المبغض لا يرضى إلا باستئصال من يبغضه وضربه بالجرز وخرجوا بأيديهم الجرزة وجاء بجرزة من قت وبجرز منه وهي الحزمة والعامة تستعمل هذه الكلمة كثيرا ولا غبار عليها كما ترى، ومن المجاز رجل جروز: أكول لا يدع على المائدة شيئا، وامرأة جارز: عاقر. وفي المختار: «أرض جرز وجرز كعسر لا نبات بها» أي قطع وأزيل بالمرة وقيل هو اسم موضع باليمن، وفي المصباح:
«الجرزة: القبضة من القت ونحوه أو الحزمة والجمع جرز كغرفة وغرف وأرض جرز بضمتين قد انقطع الماء عنها فهي يابسة لا نبات فيها.(7/587)
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم وانما اختار موسى لأن اليهود والنصارى كانوا مؤمنين به فتمسك بالمجمع عليه ليكون ألزم لإيقاع الحجة عليهم. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول لآتينا والكتاب مفعول به ثان والفاء الفصيحة ولا ناهية وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلا واسمها ضمير مستتر تقديره أنت وفي مرية خبرها أي شك ومن لقائه صفة لمرية والضمير في لقائه يعود على موسى فيكون المصدر وهو لقاء مضافا الى مفعوله أو على الكتاب وحينئذ تكون الاضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى، وهناك أقوال كثيرة في عودة الضمير ضربنا عنها صفحا لتهافتها. (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على موسى والكتاب أيضا وهدى مفعول به ثان ولبني إسرائيل متعلقان بهدى أو صفة له. (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) وجعلنا عطف على جعلنا الأول ومنهم مفعول جعلنا الثاني وأئمة مفعول جعلنا الأول وجملة يهدون صفة لأئمة وبأمرنا حال ولما ظرف بمعنى حين متعلق بجعلنا أي جعلناهم أئمة حين صبروا وجواب لما محذوف دل عليه ما قبله والتقدير ولما صبروا جعلنا منهم أئمة وكانوا عطف على صبروا وبآياتنا متعلقان بيوقنون ويوقنون خبر كانوا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إن واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ وجملة يفصل خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن وبينهم ظرف متعلق بيفصل ويوم القيامة متعلق بمحذوف حال(7/588)
وفيما متعلقان بيفصل وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبر كانوا.
(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه السياق أي أغفلوا ولم يهد لهم أي يتبين، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويهد فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ما دل عليه «لم يهد» لأن كم لا تقع فاعلة والتقدير أولم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون، ولك أن تقدره بهذا الكلام، وكم خبرية في محل نصب مفعول به مقدم لأهلكنا ومن قبلهم حال من القرون ومن القرون حال أيضا من كم وجملة يمشون إما أن تكون استئنافية مسوقة لبيان وجه هدايتهم وإما أن تكون حالا من الضمير في لهم والتقدير يمشون أي يمرون في أسفارهم للتجارة على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم وفي مساكنهم متعلقان بيمشون.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه أسلوب الحديث أي أصموا فلا يسمعون ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر أيضا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعول يروا وان واسمها وجملة نسوق خبرها والماء مفعول به والى الأرض متعلقان بنسوق والجرز نعت للأرض.(7/589)
(فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) فنخرج عطف على نسوق وفاعل نخرج ضمير مستتر تقديره نحن وبه متعلقان بنخرج وزرعا مفعول به وجملة تأكل صفة لزرعا ومنه متعلقان بتأكل وأنعامهم فاعل تأكل وأنفسهم عطف على أنعامهم والهمزة للاستفهام الانكاري، فلا يبصرون تقدم إعراب نظيره. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كلام مستأنف مسوق للرد على استهزائهم فقد كانوا يسخرون من المسلمين الذين يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين ويفصل بيننا وبينهم فيقولون متى هذا الفتح؟
ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والفتح بدل من اسم الاشارة وإن شرطية وكنتم كان واسمها في محل جزم فعل الشرط وصادقين خبر كان وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يوم الفتح مبتدأ وجملة لا ينفع خبره والذين كفروا مفعول ينفع المقدم وإيمانهم فاعل ينفع المؤخر والواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر وينظرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل أي يمهلون. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) الفاء الفصيحة وأعرض فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بأعرض وانتظر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف تقديره النصر عليهم وإن واسمها ومنتظرون خبرها ومفعول منتظرون الذي هو اسم فاعل محذوف أيضا تقديره النصر عليكم.(7/590)
البلاغة:
في قوله تعالى «أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم» الآية، فن المناسبة. والمناسبة قسمان: إما مناسبة في المعاني وإما مناسبة في الألفاظ أما الأولى فهي أن يبتدىء المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ وقد مرت أمثلته في الأنعام والقصص وهذه الآية، فقد قال تعالى في صدرها أولم يهد لهم وهي موعظة سمعية لكونهم لم ينظروا الى القرون الهالكة وإنما سمعوا بها فناسب أن يأتي بعدها بقوله «أفلا يسمعون» أما بعد الموعظة المرئية وهي قوله «أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز» فقد ناسب أن يقول «أفلا يبصرون» لأن الزرع مرئي لا مسموع ليناسب آخر كل كلام أوله، وأما المناسبة اللفظية فهي الإتيان بألفاظ متزنات مقفاة وغير مقفاة، فالمقفاة مع الاتزان مناسبة تامة وغير المقفاة مع الاتزان مناسبة ناقصة وشيوع هذه في الكلام الفصيح أكثر لعدم التكلف ولأن التقفية غير لازمة فيها فإن وقعت مندرجة في الكلام من غير تكلف ساغت وكانت آية في الجمال وستأتي أمثلتها في القرآن الكريم وسبق مثالها في قوله في يونس: «لهم شراب من حميم وعذاب أليم» ومن شواهد التامة في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه من الدعاء مما كان يرقي به الحسن والحسين «أعيذ كما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامّة» ولم يقل ملمة وهي القياس لمكان المناسبة، ومما ورد من المناسبة اللفظية التامة قول ابن هانىء الأندلسي من أبيات:
وعوانس وقوانس وفوارس ... وكوانس وأوانس وعقائل(7/591)
ومن المناسبة اللفظية غير التامة:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الحظ إلا أن تلك ذوابل
فقد ناسب بين مها وقنا مناسبة غير تامة وبين الوحش والحظ وأوانس وذوابل.(7/592)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
(33) سورة الأحزاب مدنية وآياتها ثلاث وسبعون
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)(7/593)
اللغة:
(تُظاهِرُونَ) : مضارع ظاهر ومصدره الظهار بكسر الظاء وهو- كما في القاموس- قول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي وقد ظاهر منها وتظهّر وظهّر، وخصوا الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج ففي قول المظاهر أنت عليّ كظهر أمي كناية تلويحية لأنه ينتقل من الظهر الى المركوب ومن المركوب إلى المرأة لأنها مركوب الزوج فكأن الظاهر يقول: أنت محرمة عليّ لا تركبين كتحريم ركوب أمي.
ومن المفيد أن نورد ما قاله الزمخشري في معنى أنت عليّ كظهر أمي قال: «أرادوا أن يقولوا أنت عليّ حرام كبطن أمي فكنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي ذكره يقارب ذكر الفرج وإنما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر لأنه عمود البطن ومنه حديث عمر رضي الله عنه: يجيء به أحدهم على عمود بطنه أراد على ظهره ووجه آخر وهو أن إتيان المرأة وظهرها الى السماء كان محرما عندهم محظورا وكان أهل المدينة يقولون: إذا أتيت المرأة ووجهها الى الأرض جاء الولد أحول فلقصد المطلق منهم إلى التغليظ في تحريم امرأته عليه شبهها بالظهر ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمه فلم يترك ظهر الأم» وأحكام الظهار مبسوطة في كتب الفقه.
(أَدْعِياءَكُمْ) : جمع دعي وهو من يدعى لغير أبيه، فعيل بمعنى مفعول ولكن جمعه على أدعياء غير مقيس لأن أفعلاء إنما يكون جمعا لفعيل المعتل اللام إذا كان بمعنى فاعل نحو تقي وأتقياء وغني وأغنياء، وهذا وإن كان فعيلا معتل اللام إلا أنه بمعنى مفعول فكان القياس جمعه على فعلى كقتيل وقتلى وجريح وجرحى.(7/594)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب يا والهاء للتنبيه والنبي بدل واتق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت ولفظ الجلالة: مفعول به ولا الواو حرف عطف ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا وفاعل تطع ضمير مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به والمنافقين عطف على الكافرين وجملة إن الله تعليل للأمر والنهي لا محل لها وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وعليما خبر كان الأول وحكيما خبرها الثاني. (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) واتبع عطف على اتق وما مفعول به وجملة يوحى صلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليك متعلقان بيوحى ومن ربك حال وجملة إن الله تعليل للأمر أيضا وقد تقدم اعرابها قريبا.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) عطف على ما تقدم وعلى الله متعلقان بتوكل وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله فاعل كفى محلا ووكيلا تمييز وأجازوا إعرابه حالا. (ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) كلام مستأنف مسوق للرد على مزاعم المشركين بأن لبعضهم قلبين فهو أعقل من محمد وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الفوائد. وما نافية وجعل الله فعل وفاعل ولرجل متعلقان بمحذوف مفعول جعل الثاني أو بنفس جعل وقلبين مفعول جعل محلا مجرور بمن الزائدة لفظا وفي جوفه صفة لقلبين. (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي(7/595)
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ)
الواو عاطفة وما نافية وجعل فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله وأزواجكم مفعول جعل الأول واللائي اسم موصول صفة وجملة تظاهرون صلة ومنهن متعلقان بتظاهرون وإنما عدي بمن لأنه ضمن معنى التباعد كأنه قيل متباعدين من نسائهم بسبب الظهار، وأمهاتكم مفعول جعل الثاني. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) عطف على ما تقدم وأدعياءكم مفعول جعل الاول وأبناءكم مفعول جعل الثاني وستأتي قصة زيد بن حارثة في باب الفوائد، وذلكم مبتدأ والاشارة للنسب وقولم خبر وبأفواهكم حال أي كائنا بأفواهكم فقط من غير أن تكون له حقيقة.
(وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) الواو للحال أو للاستئناف والله مبتدأ وجملة يقول خبر والحق صفة لمصدر محذوف أي القول الحق وهو مبتدأ وجملة يهدي السبيل خبر والسبيل منصوب بنزع الخافض أو مفعول ثان ليهدي كما تقدم. (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ) كلام مستأنف لبيان أن نسبة كل مولود الى والده أقوم وأعدل. وادعوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به ولآبائهم متعلقان بادعوهم وهو مبتدأ وأقسط خبر وعند الله ظرف متعلق بمحذوف حال.
(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلموا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعله وآباءهم مفعوله، فإخوانكم الفاء رابطة للجواب وإخوانكم خبر لمبتدأ محذوف أي فهم إخوانكم وفي الدين حال ومواليكم عطف على إخوانكم أي أبناء عمومتكم، والمولى يطلق على عدة معان منها ابن العم.(7/596)
(وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) الواو عاطفة وليس فعل ماض ناقص وعليكم خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وفيما صفة لجناح وجملة أخطأتم صلة وبه متعلقان بأخطأتم. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف وما عطف على ما في قوله فيما فمحله الجر، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي تؤاخذون به أو عليكم الجناح فيه وجملة كان الله حالية أو استئنافية.
الفوائد:
اشتملت هذه الآيات على فوائد كثيرة نوردها فيما يلي على سبيل الاختصار ونحيل من أراد المزيد منها على المطولات.
1- معنى ولا تطع الكافرين والمنافقين:
قال الزمخشري: «لا تساعدهم على شيء ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة وجانبهم واحترس منهم فانهم أعداء الله وأعداء المؤمنين لا يريدون إلا المضارّة والمضادّة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر الى المدينة وكان يحب اسلام اليهود قريظة والنضير وبني قينقاع وقد بايعه ناس منهم على النفاق فكان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم وإذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه وكان يسمع منهم فنزلت» وروي أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا عليه فنزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن(7/597)
أبيرق فقالوا للنبي وعنده عمر بن الخطاب: أرفض ذكر آلهتنا وقل إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك فشقّ ذلك على النبي فقال عمر: يا رسول الله ائذن لنا في قتلهم فقال: إني أعطيتهم الأمان فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه فأمر النبي أن يخرجوا من المدينة.
2- معنى جمع القلبين:
قام النبي صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين: قلبا معكم وقلبا معهم، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل من قريش يسمى ذا القلبين يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني فأنزل الله فيه ما تسمعون. وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو يعقل أفضل من عقل محمد وانه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين وأن الآية ردت هذا الزعم كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب ومعنى القلب اللحمي غير مراد على كل حال.
هذا ويطلق لفظ القلب اسما لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى الفؤاد مطلقا، ويقول بعضهم: ان القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة كأنه يريد أن هذا هو الأصل ثم جعله بعضهم اسما لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها وحجابها قلبا ويطلق اسما لما في جوف الشيء وداخله واسما لشيء معنوي وهو النفس الانسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه المعاني في القرآن، والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء الحسية(7/598)
وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء، عدة أسماء منها القلب والروح والنفس واللب، وهناك مناسبة أخرى للقلب وهي أن قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها وللوجدانات النفسية والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان ومهما كانت المناسبة التي كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها منه قال تعالى «وبلغت القلوب الحناجر» أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من مكانها وقال «فتكون لهم قلوب فيعقلون بها» أي نفوس وأرواح وليس المراد أن القلب الحسي آلة العقل وقال «نزل به الروح الأمين على قلبك» أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل، لأن العقل في اللغة ضرب خاص من ضروب العلم والإدراك ولا يقال ان الوحي نزل عليه ولكن قد تسمى النفس العاقلة عقلا كما تسمى قلبا، وقد يعزى الى القلب ويسند اليه ما هو من أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي كقوله تعالى: «إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» وقوله: «ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم» وقوله:
«ويذهب غيظ قلوبهم» .
وقد افتتحت السورة بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين واتباع الوحي المنزل خاصة وجاء بعد ذلك قوله تعالى «ما جعل الله لرجل من قلبين» فكان المراد منه أن الإنسان لا يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين وهما ابتغاء مرضاة الله وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين بل له قلب واحد إذا صدق في التوجه الى شيء لا يمكنه أن يتوجه الى ضده بالصدق والإخلاص(7/599)
فيكون في وقت واحد مخلصا لله ومخلصا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر وقد رمق سماء هذا المعنى:
لو كان لي قلبان عشت بواحد ... وتركت قلبا في هواك يعذب
وخلاصة القول أن أشد ما ذكر فيه من التأويلات انهم كانوا يدعون لابن خطل قلبين فنفى الله صحة ذلك وقرنه بما كانوا يقولونه من الأقاويل المتناقضة كجعل الأدعياء أبناء والزوجات أمهات وهذه الأمور الثلاثة متنافية، أما الأول فإنه يلزم من اجتماع القلبين قيام أحد المعنيين بأحدهما وضده في الآخر وذلك كالعلم والجهل والأمن والخوف وغير ذلك، وأما الثاني فلأن الزوجة في مقام الامتهان والأم في محل الإكرام فنافى أن تكون الزوجة أما، وأما الثالث فلأن البنوّة أصالة وعراقة في النسب والدعوة لاصقة عارضة به فهما متنافيان وذكر الجوف ليصور به صورة اجتماع القلبين فيه حتى يبادره السامع بالإنكار.
هذا وقد قال تعالى هنا «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقال في موضع آخر: «رب إني نذرت لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى والبطن في الثانية ولم يستعمل الجوف موضع البطن ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدّلالة وهما ثلاثيتان في عدد واحد ووزنهما واحد أيضا فانظر الى سبك الألفاظ كيف يفعل فعله؟(7/600)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
3- قصة زيد بن حارثة:
أجمع أهل التفسير على أن قوله تعالى «وما جعل أدعياءكم أبناءكم» أنزل في زيد بن حارثة، وكان من أمره ما رواه أنس بن مالك وغيره أنه سبي صغيرا فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة بنت خويلد فوهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه فأقام عنده مدة ثم جاء عنده أبوه وعمه في فدائه فقال لهما رسول الله: خيّراه فإن اختراكما فهو لكما دون فداء فاختار زيد الرق مع رسول الله على حريته فقال النبي عند ذلك: يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني، ولما تزوج النبي زينب بنت جحش التي كانت امرأة زيد بن حارثة الذي تبناه النبي قالوا تزوج محمد امرأة ابنه فكذبهم الله في ذلك وسترد القصة مع مناقشتها قريبا في هذه السورة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8]
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8)(7/601)
الإعراب:
(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) النبي مبتدأ وأولى بالمؤمنين خبر ومن أنفسهم متعلقان بأولى أيضا. (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) الواو عاطفة وأزواجه مبتدأ وأمهاتهم خبر وسيأتي معنى هذا التشبيه في باب البلاغة وأولو الأرحام مبتدأ أيضا والأرحام جمع رحم وهي القرابة وبعضهم مبتدأ ثان أو بدل من أولو وأولى ببعض خبر ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي بإرث بعض وفي كتاب الله متعلقان بأولى أو بمحذوف حال من الضمير في أولى ومن المؤمنين جار ومجرور متعلقان بأولى أيضا أي الأرقاب بعضهم أولى بإرث بعض من أن يرثهم المؤمنون والمهاجرون الأجانب ولك أن تعلقها بمحذوف على أنها حال لأنها بمثابة البيان لقوله أولو الأرحام. (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) إلا أداة استثناء وأن تفعلوا مصدر مؤول مستثنى من أعم العام لأنه استثناء من غير الجنس أي إلا في الوصية وهي المعنية بفعل المعروف والى أوليائكم متعلقان بتفعلوا بعد تضمينها معنى تؤدوا أو تسدوا ومعروفا مفعول به وكان واسمها ومسطورا خبرها وفي الكتاب متعلقان بمسطورا.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر والكلام مستأنف ولك أن تعطفه على محل في الكتاب فيتعلق بمسطورا والأول أولى وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن النبيين متعلقان بأخذنا وميثاقهم مفعول به والمراد به تبليغ الرسالة وما بعده عطف على من النبيين من عطف الخاص على العام كما سيأتي في باب البلاغة.(7/602)
(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) عطف على أخذنا السابقة وسيأتي سر وصف الميثاق بالغلظ في باب البلاغة. (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) اللام للتعليل ويسأل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بأخذ على طريق الالتفات وفاعل مستتر يعود على الله والصادقين مفعول به وعن صدقهم متعلقان بيسأل وأعد للكافرين عطف على أخذنا من النبيين وللكافرين متعلقان بأعد وعذابا مفعول به وأليما صفة.
البلاغة:
1- التشبيه البليغ:
في قوله «وأزواجه أمهاتهم» تشبيه بليغ ووجه الشبه متعدد يتعلق ببعض الأحكام وهي: وجوب تعظيمهن واحترامهن وتحريم نكاحهن ولذلك قالت عائشة: «لسنا أمهات النساء» تعني أنهن إنما كنّ أمهات الرجال لكونهن محرمات عليهم كتحريم أمهاتهم ولهذا كان لا بد من تقدير أداة التشبيه فيه.
2- عطف الخاص على العام:
وفي قوله «وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك» الآية، عطف الخاص على العام لأن هؤلاء الخمسة المذكورين هم أصحاب الشرائع والكتب وأولو العزم من الرسل فآثرهم بالذكر للتنويه بإنافة فضلهم على غيرهم، وقدم النبي محمدا صلى الله عليه وسلم مع أنه مؤخر عن نوح ومن بعده لأنه هو المخاطب من بينهم والمنزل عليه هذا المتلو فكان تقديمه لهذا السبب لا لأن التقديم في الذكر مقتض لكونه أفضلهم، فقد ورد في الشعر قوله:(7/603)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
فأخر ذكر النبي ليختم به تشريفا.
3- الاستعارة المكنية:
وفي وصف الميثاق بالغلظ استعارة مكنية، شبّه الميثاق بجرم محسوس واستعار له شيئا من صفات الأجرام وهو الغلظ للتنويه بعظم الميثاق وجلاله وهو المعني بقوله تعالى «وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» الآية.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)(7/604)
اللغة:
(الْحَناجِرَ) : جمع حنجرة وهي الحلقوم أو رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم وعبارة الزمخشري: «قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب أو الغم الشديد ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ومن ثمة قيل للجبان انتفخ سحره ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة» .
(زِلْزالًا) : بكسر الزاي وهي القراءة العامة ويجوز فتحها إذ هما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على فعلان نحو زلزال وقلقال وصلصال، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل وزلزال بمعنى مزلزل.
(يَثْرِبَ) : في القاموس: «يثرب وأثرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يثربي وأثربي بفتح الراء وكسرها فيهما» قيل سميت باسم رجل من العمالقة كان نزلها في قديم الزمان وقيل يثرب اسم لنفس المدينة وقد نهى النبي أن تسمى بهذا الاسم لما فيه من التثريب وهو التقريع والتوبيخ فذكروها بهذا الاسم مخالفة للنبي وفي المختار:
التثريب التعبير والاستقصاء في اللوم وثرب عليه تثريبا قبح عليه فعله.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) اذكروا فعل أمر وفاعل ونعمة الله مفعول به وعليهم متعلقان بنعمة أو بمحذوف حال وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق باذكروا فهو بمثابة(7/605)
بدل الاشتمال من نعمة الله والمراد بنعمة نصره في غزوة الأحزاب وسيأتي حديثها في باب الفوائد وجملة جاءتكم جنود في محل جر بإضافة الظرف إليها. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) فأرسلنا عطف على جاءتكم وعليهم متعلقان بأرسلنا وريحا مفعول به وجنودا عطف على ريحا وجملة لم تروها صفة لجنودا وكان الله كان واسمها وبما متعلقان ببصيرا وجملة تعملون صلة وبصيرا خبر كان. (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) الظرف بدل من إذ جاءتكم وجملة جاءوكم مضاف إليها ومن فوقكم متعلقان بجاءوكم ومن أسفل منكم عطف على من فوقكم.
(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا) عطف على إذ السابقة وكذلك بلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا والظنونا مفعول مطلق والألف مزيدة تشبيها للفواصل بالقوافي وسيأتي سر الجمع مع أقوال النحاة في جمع المصدر في باب الفوائد.
(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً) هنا لك اسم إشارة في محل نصب على الظرفية المكانية واللام للبعد والكاف للخطاب وهو متعلق بابتلي ويجوز أن يكون ظرف زمان وابتلي فعل ماض مبني للمجهول والمؤمنون نائب فاعل وزلزلوا عطف على ابتلي والواو نائب فاعل وزلزالا مصدر مبين للنوع وشديدا صفة. (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) الظرف متعلق باذكر محذوفا وجملة يقول في محل جر بإضافة الظرف إليها والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر وجملة ما وعدنا مقول القول والله فاعل ورسوله عطف عليه(7/606)
وإلا أداة حصر وغرورا صفة لمفعول مطلق محذوف أي إلا وعد غرور (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) عطف على ما تقدم وقالت طائفة فعل وفاعل ومنهم صفة لطائفة ويا حرف نداء وأهل يثرب منادى مضاف ويثرب منعت من الصرف للعلمية ووزن الفعل وفيها التأنيث أيضا ولا نافية للجنس ومقام اسمها المبني على الفتح ولكم خبرها ومقام بضم الميم وفتحها أي لا إقامة ولا مكانة، فارجعوا الفاء الفصيحة أي إن سمعتم نصحي فارجعوا والقائل هو أوس بن قيظي بكسر الظاء من رؤساء المنافقين.
(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ويستأذن الواو الاستئنافية ويستأذن فريق فعل مضارع وفاعل ولك أن تعطف على ما تقدم فتكون صيغة المضارع لاستحضار الصورة ومنهم صفة لفريق والنبي مفعول به وجملة يقولون حالية أو مفسرة ليستأذن وهو قول جميل وجملة إن وما في حيزها مقول القول وإن واسمها وخبرها والمراد بعورة الخلل الذي يجعلها مستهدفة للعدو لأنها تكون غير حصينة والواو للحال وما نافية حجازية وهي اسمها والباء حرف جر زائد وعورة مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما وإن نافية ويريدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر وفرارا مفعول به.
الفوائد:
1- غزوة الأحزاب:
كانت غزوة الأحزاب في شوال سنة أربع وقيل سنة خمس المصادف لآذار سنة 627 م حيث تحرك الى المدينة جيش مؤلف من(7/607)
حوالي عشرة آلاف رجل بينهم أربعة آلاف قرشي بقيادة أبي سفيان وكانت حركة هذا الجيش سريعة فوق العادة، هذه المرة، وسببها فيما يذكر المؤرخون انه لما وقع اجلاء بني النضير من أماكنهم سار منهم جمع من أكابرهم بينهم حيي بن أخطب سيدهم الى أن قدموا مكة على قريش فحرضوهم على حرب رسول الله وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله فقال أبو سفيان: مرحبا وأهلا وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد ثم قالت قريش لأولئك اليهود: يا معشر اليهود إنكم أهل الكتاب الأول فأخبرونا أنحن على الحق أم محمد؟
فقالوا بل أنتم على الحق وفي موقف اليهود هذا من قريش وتفضيلهم وثنيتهم على محمد يقول الدكتور إسرائيل ولغنسون في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب» : «كان من واجب هؤلاء اليهود أن لا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وأن لا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الاسلامي ولو أدّى بهم الأمر الى عدم إجابة مطلبهم لأن بني إسرائيل الذين كانوا منذ عدة قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من أدوار التاريخ كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم الى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم بأنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف منهم موقف الخصومة» .
تحريض القبائل وتأليبها:
لم يكّف حيي بن أخطب واليهود الذين معه هذا الذي قالوا لقريش في تفضيل وثنيتها على توحيد محمد حتى تنشط لمحاربته بل(7/608)
خرج أولئك اليهود الى غطفان من قيس عيلان ومن بني مرة ومن بني فزارة ومن أشجع ومن سليم ومن بني سعد ومن أسد ومن كل من لهم عند المسلمين ثأر وما زالوا يحرضونهم على الأخذ بثأرهم ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد ويحمدون لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة وخرجت الأحزاب التي جمع اليهود لحرب محمد وأصحابه.
ما عسى أن يصنع المسلمون لمقابلة الألوف المؤلفة من رجال وخيل وإبل وأسلحة وذخيرة؟ لم يكن لهم غير التحصن بيثرب العذراء سبيل ولكن؟! أفيكفي هذا التحصن أمام تلك القوة الساحقة، وكان سلمان الفارسي يعرف من أساليب الحرب ما لم يكن معروفا في بلاد العرب فأشار بحفر الخندق حول المدينة وتحصين داخلها وسارع المسلمون الى تنفيذ نصيحته فحفر الخندق وعمل فيه النبي بيده فكان يرفع التراب ويشجع المسلمين بذلك أعظم تشجيع، وأقبلت قريش وأحزابها وهي ترجو أن تلقى محمدا بأحد فلم تجد عنده أحد فجاوزته الى المدينة حتى فاجأها الخندق فعجبت إذ لم تتوقع هذا النوع من الدفاع المجهول منها وبلغ منها الغيظ حتى زعمت الاحتماء وراءه جبنا لا عهد للعرب به ورأت قريش والأحزاب معها أن لا سبيل الى اجتياز الخندق فاكتفت بتبادل الترامي بالنبال عدة أيام.
وأيقن أبو سفيان والذين معه أنهم مقيمون أمام يثرب وخندقها طويلا دون أن يستطيعوا اقتحامها وكان الوقت آنئذ شتاء قارصا برده، عاصفة رياحه، يخشى في كل وقت مطره، وإذا كان يسيرا أن يحتمي أهل مكة وأهل غطفان من ذلك كله بمنازلهم في مكة وفي غطفان فالخيام التي ضربوا أمام يثرب لا تحميهم منه فتيلا وهم بعد(7/609)
جاءوا يرتجون نصرا ميسورا لا يكلفهم غير يوم كيوم أحد ثم يعودون أدراجهم ويستمتعون باقتسام الغنائم والأسلاب، وماذا عسى يمسك غطفان على أن تعود أدراجها وهي إنما اشتركت في الحرب لأن اليهود وعدتها متى تم النصر ثمار سنة كاملة من ثمار مزارع خيبر وحدائقه وهذه هي ترى النصر غير ميسور أو هو على الأقل غير محقق وهو يحتاج من المشقة في هذا الفصل القارص الى ما ينسيها الثمار والحدائق.
فأما انتقام قريش لنفسها من بدر ومما لحقها بعد بدر من هزائم فأمره مدرك على الأيام ما دام هذا الخندق يحول دون إمساك محمد بالتلابيب وما دامت بنو قريظة تمد أهل يثرب بالمئونة مددا يطيل أمد مقاومتهم شهورا وشهورا، أفليس خيرا للأحزاب أن يعودوا أدراجهم؟
بلى ولكن جمع هذه الأحزاب لحرب محمد مرة أخرى ليس بالميسور، وإن انتصر محمد بانسحاب الأحزاب فالويل لليهود، قدر حيي بن أخطب هذا كله وخاف مغبّته ورأى أن لا مندوحة له عن أن يغامر بآخر سهم عنده فأوحى الى الأحزاب انه مقنع بني قريظة بنقض عهد موادعتهم محمدا والمسلمين وبالانضمام إليهم، وان قريظة متى فعلت ذلك انقطع المدد والميرة عن محمد من ناحية وفتح الطريق لدخول يثرب من الناحية الأخرى، وسارع هو فذهب يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وما زال به حتى فتح باب الحصن وقال له:
ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام: جئتك بقريش وبغطفان وقد عاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه، وتردّد كعب وذكر وفاء محمد وصدقه لعهده وخشي مغبة ما يدعوه حيي إليه، بيد أن حييا ما زال به يذكر له ما أصاب اليهود من محمد(7/610)
وما يوشك أن يصيبهم منه إذا لم تنجح الأحزاب في القضاء عليه حتى لان كعب له فسأله: وماذا يكون إذا ارتدت الأحزاب؟ هناك أعطاه حيي موثقا إن رجعت غطفان وقريش ولم يصيبوا محمدا أن يدخل معه في حصنه فيشد أزره ويشاركه حظه وتحركت في نفس كعب يهوديته فقبل ما طلب حيي ونقض عهده مع محمد والمسلمين وخرج عن حياده.
وسمت روح الأحزاب المعنوية حتى دفعت بعض فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب أن يقتحموا الخندق فتيمموا مكانا منه ضيقا فضربوا خيلهم فاجتازت بهم في السبخة بين الخندق وسلع وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين فأخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم وتقدم عمرو بن عبد ود ينادي من يبارز؟ ولما دعاه علي بن أبي طالب الى النزال قال في صلف: ارجع يا ابن أخي فو الله ما أحب أن أقتلك، قال علي: لكني والله أحب أن أقتلك فتنازلا فقتله علي وفرت خيل الأحزاب منهزمة حتى اقتحمت الخندق من جديد مولية الأدبار لا تلوي على شيء.
وأعظمت الأحزاب نيرانها مبالغة في تخويف المسلمين وأضعافا لووحهم وبدأ المتحمسون من قريظة ينزلون من حصونهم وآطامهم الى المدينة ومنازلها القريبة منهم يريدون إرهاب أهلها، كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت وكان حسان فيه مع النساء والصبيان فمر بهم يهودي فقالت صفية مخاطبة حسان: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن فانزل إليه واقتله، قال حسان: يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا فأخذت صفية عمودا ونزلت من الحصن(7/611)
وضربت به اليهودي حتى قتلته فلما رجعت قالت يا حسان انزل اليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه إلا انه رجل، قال حسان مالي الى سلبه من حاجة.
وظل أهل المدينة في فزعهم بينا جعل محمد صلى الله عليه وسلم يفكر في الوسيلة للخلاص ولم تكن الوسيلة مواجهة العدو بطبيعة الحيلة فلتكن الحيلة وليكن الرأي والتدبير فبعث الى غطفان يعدها ثلث ثمار المدينة إن هي ارتحلت وكانت غطفان قد بدأت تمل فأظهرت امتعاضا من طول هذا الحصار وما لقوا من العنت أثناءه، ولما كان الليل عصفت ريح شديدة وهطل المطر هاتنا وقصف الرعد واشتدت العاصفة فاقتلعت خيام الأحزاب وأدخلت الرعب الى نفوسهم وخيل إليهم أن المسلمين بدءوهم بشر فقام طليحة بن خويلة فنادى: أن محمد قد بدأكم بشر فالنجاة، وقال أبو سفيان يا معشر قريش: إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلقتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا إني مرتحل، فاستخف القوم ما استطاعوا من متاع وانطلقوا وتبعتهم غطفان حتى إذا كان الصبح لم يجد محمد منهم أحدا فانصرف راجعا الى المدينة والمسلمون معه يرفعون أكف الضراعة شكرا أن رفع الله الضر عنهم وأن كفى الله المؤمنين شر القتال وحين انجلى الأحزاب قال رسول الله: الآن نغزوهم ولا يغزونا والبقية في السير والمطولات.
2- هل يثنى المصدر ويجمع؟
المصدر المؤكد لعامله لا يثنى ولا يجمع بانفاق فلا يقال ضربت ضربين ولا ضربت ضروبا لأنه اسم جنس مبهم والمصدر المبهم(7/612)
لا يتأتى فيه ضمه الى شيء آخر لأنه يدل على مجرد الحقيقة والحقيقة من حيث هي حقيقة تدل على القليل والكثير فلم يبق شيء يضم إليها فتصح فيها التثنية والجمع وهذا أمر عقلي وإنما جاز تثنية المصدر المختوم بالتاء وجمعه لأنه بدخول التاء صار يدل على مرة واحدة من ذلك المصدر فيصح ضمه الى ما المرة الواحدة منه فيثنى ويجمع، واختلف في المصدر النوعي والمشهور الجواز فيقال ضربت ضربين ضربا عنيفا وضربا رفيقا وضربت ضروبا مختلفة، وظاهر مذهب سيبويه المنع وانه لا يقال منه إلا ما سمع، واحتج المجيز بمجيئه في الفصيح كقوله تعالى «وتظنون بالله الظنونا» قالوا: وانما جمع الظن لاختلاف أنواعه لأن من خلص إيمانه ظن أن ما وعدهم الله به من النصر حق ومن ضعف إيمانه اضطرب ظنه ومن كان منافقا ظن أن الدائرة تكون على المؤمنين فأخلفت ظنونهم، والى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة:
وما لتوكيد فوحد أبدا ... وثنّ واجمع غيره وأفردا
3- اختلف القراء في هذه الألف في الظنونا فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو والكسائي وتمسّكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان، فإن الألف فيها كلها ثابتة واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال: لا ينبغي للقارىء أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن، وتمسكوا أيضا بما في أشعار العرب من مثل هذا، وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل والوقف معا وقالوا هي من زيادات الخط فكتبت كذلك ولا ينبغي النطق بها وأما في الشعر فهو يجوز فيه للضرورة ما لا يجوز في غيره، وقرأ ابن كثير(7/613)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
والكسائي وابن محيص بإثباتها وقفا وحذفها وصلا وهذه القراءة راجحة باعتبار اللغة العربية وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق والكلام فيها معروف وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله: الرسولا والسبيلا كما سيأتي في آخر هذه السورة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 14 الى 17]
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17)
الإعراب:
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها) الواو عاطفة ودخلت فعل ماض مبني للمجهول وعليهم متعلقان به ونائب الفاعل مستتر أي المدينة أو بيوتهم ومن أقطارها حال أي من جميع جوانبها وثم حرف عطف وتراخ وسئلوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والفتنة مفعول به ثان لسئلوا والمراد بالفتنة الردة والرجعة الى الكفر واللام واقعة في جواب لو وأتوها فعل(7/614)
وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها. (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) الواو عاطفة وما نافية وتلبثوا فعل ماض وفاعل وبها متعلقان بتلبثوا وإلا أداة حصر ويسيرا نعت لمصدر محذوف أو لوقت محذوف فيصح أن تكون مفعولا مطلقا أو ظرف زمان. (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكانوا فعل ماض ناقص والواو اسمها وجملة عاهدوا خبرها ولفظ الجلالة مفعول به ومن قبل متعلقان بعاهدوا وجملة يولون الأدبار لا محل لها لأنها جواب للقسم والأدبار مفعول به ثان ليولون والمفعول الاول محذوف أي لا يولون العدو الأدبار والواو عاطفة وكان واسمها وخبرها أي مطلوبا.
(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا) لن حرف نفي ونصب واستقبال وينفعكم فعل مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به والفرار فاعل وإن حرف شرط جازم يجزم فعلين وفررتم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه ما قبله ومن الموت متعلقان بفررتم وإذن حرف جواب وجزاء مهمل لوقوعه بعد عاطف كما هو الغالب عليه ولا نافية وتمتعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا تمتيعا قليلا أو صفة لظرف محذوف أي إلا زمانا قليلا فيصح أن تكون مفعولا مطلقا أو ظرف زمان. (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) من اسم استفهام مبتدأ وذا اسم اشارة في محل رفع خبر والذي بدل وجملة يعصمكم من الله صلة وإن شرطية وأراد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه(7/615)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
ما قبله أي فمن ذا الذي يعصمكم وسوءا مفعول به أو أراد بكم رحمة عطف على ما تقدم ولا بد من تقدير محذوف أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) الواو استئنافية أو حالية ولا نافية ويجدون فعل وفاعل ولهم في محل نصب مفعول ثان ليجدون ومن دون الله حال ووليا مفعول به أول ولا نصيرا عطف على وليا.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 18 الى 19]
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
اللغة:
(الْمُعَوِّقِينَ) : المثبطين الذين كانوا يخذلون المسلمين وفي الأساس:
«وعاقه واعتاقه وعوقه «قد يعلم الله المعوّقين منكم» وتقول:
فلان صحبه التعويق فهجره التوفيق، ورجل عوقة: ذو تعويق وترييث عن الخير وتقول: يا من عن الخير يعوق، إن أحق أسمائك أن تعوق» .(7/616)
(أَشِحَّةً) جمع شحيح وهو البخيل والحريص وهو جمع غير مقيس لأن قياس فعيل الوصف الذي عينه ولامه من واد واحد أن تجمع على أفعلاء نحو خليل وأخلاء وظنين وأظناء وقد سمع أشحاء وهو القياس.
(سَلَقُوكُمْ) : آذوكم أو ضروكم وفي المختار: «سلقه بالكلام آذاه وهو شدة القول باللسان قال تعالى: «سلقوكم بألسنة حداد» وسلق البقل أو البيض أغلاه بالنار إغلاءة خفيفة وباب الكل ضرب» وفي المصباح أنه من باب قتل أيضا وعبارة الراغب: «السلق بسط بقهر إما باليد أو باللسان ويؤخذ من القاموس واللسان: سلق يسلق من باب قتل البيض أو البقل أغلاه بالنار وطبخه بالماء، وسلقه بالكلام:
آذاه ومنه سلقه بألسنة حداد، وسلقه بالرمح طعنه وسلقه بالسوط ضربه الى أن نزع جلده، وسلق اللحم عن العظم قشره، ويجوز أن يكون الكلام مجازيا كما سيأتي في باب البلاغة وعلى كل حال فالعامة تستعمل هذه الكلمة استعمالا لا غبار عليه.
الإعراب:
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) كلام مستأنف مسوق لتصوير حال المنافقين، وقد حرف تكثير وأصله للتقليل إذا دخل على فعل المضارع وقد تقدم بحثه، ويعلم الله المعوقين فعل وفاعل ومفعول به ومنكم حال والقائلين عطف على المعوقين ولإخوانهم متعلقان بالقائلين وهلم اسم فعل أمر وإلينا متعلقان به وهي لغة أهل الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة ويستعمل لازما كما هنا ومتعديا كما في الأنعام وقد تقدم القول فيه. (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ(7/617)
إِلَّا قَلِيلًا)
الواو حالية ولا نافية ويأتون البأس فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به أي القتال وإلا أداة حصر وقليلا مفعول مطلق أو ظرف زمان. (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أشحة حال من فاعل يأتون أو منصوب على الذم بفعل محذوف تقديره أذم وعبارة الزمخشري: «أشحة عليكم: في وقت الحرب أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذابّ عنه المناضل دونه عند الخوف» فإذا الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة رأيتهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة ينظرون إليك حال لأن الرؤية هنا بصرية وإليك متعلقان بينظرون.
(تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) جملة تدور أعينهم حال من فاعل ينظرون وهو الواو وكالذي نعت لمصدر محذوف أي تدور دورانا كدوران عين الذي، فبعد الكاف محذوفان وهما دوران وعين، وجملة يغشى صلة الذي ويغشى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل ضمير مصدر مختص بلام العهد أو بصفة محذوفة والمعنى ويغشى الغشيان المعهود وعليه متعلقان بيغشى ويجوز أن يكون نائب الفاعل هو الجار والمجرور وقد تقدم بحث ما ينوب عن نائب الفاعل فجدد به عهدا. (فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذهب الخوف في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة سلقوكم جواب شرط غير جازم لا محل لها وبألسنة متعلقان بسلقوكم وحداد نعت لألسنة.
(أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) أشحة نصب على الحال أو على الذم كما تقدم وعلى الخير(7/618)
متعلقان بأشحة أي على الغنيمة يطلبونها وأولئك مبتدأ وجملة لم يؤمنوا خبر، فأحبط عطف على لم يؤمنوا والله فاعل وأعمالهم مفعول به وكان الواو حالية أو استئنافية وكان واسمها وخبرها وعلى الله حال والاشارة للاحباط والمعنى أن أعمالهم جديرة بالإحباط لا يصرف عنه صارف وليس هو بالأمر الصعب العسير.
البلاغة:
1- فن التندير:
في قوله «فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه الموت» فن ألمع اليه صاحب نهاية الأرب وابن أبي الإصبع وهو فن «التندير» وحدّه أن يأتي المتكلم بنادرة حلوة أو نكتة مستطرفة وهو يقع في الجد والهزل فهو لا يدخل في نطاق التهكم ولا في نطاق فن الهزل الذي يراد به الجد ويجوز أن يدخل في نطاق باب المبالغة وذلك واضح في مبالغته تعالى في وصف المنافقين بالخوف والجبن حيث أخبر عنهم أنهم تدور أعينهم حالة الملاحظة كحالة من يغشى عليه من الموت ولو اقتصر على قوله كالذي يغشى عليه من الموت لكان كافيا بالمقصود ولكنه زاد شيئا بقوله «من الموت» إذ أن حالة المغشي عليه من الموت أشد وأنكى من حالة المغشي عليه من غير الموت ولو جاء سبحانه في موضع الموت بالخوف لكان الكلام بليغا لا محالة غير أن ما جاء في التنزيل أبلغ وهو مع ذلك خارج مخرج الحق متنزل منزلة الصدق فإن من كان قوي النفس شجاع القلب لا يرضى بالنفاق بل يظهر ما يبطنه الخائف لأنه لا يبالي بالموت.(7/619)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
2- الاستعارة المكنية:
وذلك في قوله «سلقوكم بألسنة حداد» فقد شبه اللسان بالسيف ثم حذف المشبه به واستعار شيئا من خصائصه وهو الضرب وهذه الاستعارة تتأتى على تفسير السلق بالضرب والحامل عليه وصف الألسنة بالحداد كما تقدم في باب اللغة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 20 الى 22]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22)
اللغة:
(بادُونَ) : جمع باد وهو ساكن البادية يقال: لقد بدوت يا فلان أي نزلت البادية وصرت بدويا وما لك والبداوة؟ وتبدّى الحضري، ويقال: أين الناس؟ فتقول: لقد بدوا أي خرجوا الى البدو وكانت لهم غنيمات يبدون إليها.
(الْأَعْرابِ) : قال في القاموس وشرحه: العرب بالضم وبالتحريك خلاف العجم مؤنث وهم سكان الأمصار أو عام والأعراب(7/620)
منهم سكان البادية لا واحد له ويجمع أعاريب وعرب عاربة وعرباء وعربة صرحاء ومتعربة ومستعربة دخلاء.
الإعراب:
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) الكلام مستأنف مسوق لتصوير خوفهم ولك أن تجعله حالا من أحد الضمائر المتقدمة أي هم من الخوف بمثابة من لا يصدقون أن الأحزاب قد ذهبوا عنهم وتخلوا عن نصرتهم.
ويحسبون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والأحزاب مفعول به أول وجملة لم يذهبوا مفعول به ثان وإن الواو عاطفة وإن شرطية ويأت فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والأحزاب فاعل ويودوا جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون ولو مصدرية، ولو وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يودوا أي يتمنون لخوفهم مما منوا به أشرتهم خارجين الى البدو، وأن وما في حيزها في تأويل مصدر فاعل لفعل محذوف تقديره يودوا لو ثبت أنهم بادون، وسيأتي مزيد بحث عن لو المصدرية في باب الفوائد، وأن واسمها وبادون خبرها وفي الأعراب متعلقان ببادون أو بمحذوف حال.
(يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا) جملة يسألون يجوز أن تكون مستأنفة أو أن تكون حالا من ضمير يحسبون، وعن أنبائكم متعلقان بيسألون والواو حالية ولو شرطية وكان واسمها وفيكم خبرها وما نافية وقاتلوا فعل وفاعل وجملة ما قاتلوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويتمشى عليها ما أوردناه في قوله «ولو أن ما في البحر من شجرة أقلام» الآية،(7/621)
وإلا أداة حصر وقليلا نعت لمصدر محذوف أي إلا قتالا قليلا أو نعت لظرف محذوف أي إلا وقتا قليلا.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) كلام مستأنف مسوق لعتاب المتخلفين عن القتال واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وفي رسول الله حال لأنه كان في الأصل صفة لأسوة وأسوة اسم كان المؤخر وحسنة صفة لأسوة أي قدوة حسنة بضم الهمزة وقد تكسر.
(لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) لمن الجار والمجرور بدل من لكم وأعيدت اللام مع البدل للفصل أو يكون بدل اشتمال، وجملة كان صلة من واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يرجو الله خبرها واليوم الآخر عطف على لفظ الجلالة وذكر عطف على كان ولفظ الجلالة مفعول به وكثيرا مفعول مطلق أو ظرف وقد تقدم نظيره قريبا.
(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) لما ظرفية حينية متعلقة بقالوا أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال ورأى المؤمنون الأحزاب فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة قالوا لا محل لها وهذا مبتدأ وما خبر والجملة مقول القول وجملة وعدنا الله ورسوله صلة ما. (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) الواو عاطفة وصدق الله فعل وفاعل وفيه وضع الظاهر موضع المضمر لتعظيمه والتنويه بوعدهما الكائن، وما زادهم عطف على صدق وإلا أداة حصر وإيمانا مفعول به ثان لزادهم وتسليما عطف على إيمانا وفاعل زادهم ضمير الوعد أو الصدق.(7/622)
البلاغة:
في قوله: «وصدق الله ورسوله» فن تكرير الظاهر تعظيما، ولو أنه أعادهما مضمرين لجمع بين اسم الله تعالى واسم رسوله في لفظة واحدة، فقال وصدقا، وقد كره النبي ذلك حين رد على أحد الخطباء الذين تكلموا بين يديه إذ قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي له: بئس خطيب القوم أنت قل: ومن يعص الله ورسوله، قصدا الى تعظيم الله. وقد استشكل بعض العلماء قوله عليه الصلاة والسلام حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما فقال انه جمع بينهما في ضمير واحد وأجيب على هذا الاستشكال بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعرف بقدر الله منّا فليس لنا أن نقول كما يقول.
الفوائد:
لو المصدرية:
لو المصدرية ترادف أن المصدرية في المعنى والسبك إلا أنها لا تنصب، وأكثر وقوعها بعد مفهوم تمن مثل ودّ وأحب واختار وتمنى وقيل بل بعد ودّ وتمنى خاصة لأن الإنسان قد يحب الشيء ولا يتمنى حصوله لعارض في طلبه، وتقع بعد غير التمني قليلا كقول قتيلة بالتصغير بنت النضر بن الحارث الأسدية تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم حين قتل أباها النضر صبرا بعد أن انصرف من غزوة بدر:
ما كان ضرك المن لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق(7/623)
أي ما كان ضرك المن وقبل هذا البيت:
أمحمد ولأنت فحل نجيبة ... في قومها والفحل فحل معرق
وسبب قتل النبي أباها أنه كان يقرأ أخبار العجم على العرب ويقول محمد يأتيكم بأخبار عاد وثمود وأنا آتيكم بخبر الأكاسرة والقياصرة يريد بذلك أذى النبي، فلما سمع النبي هذا البيت وهو من أبيات أنشدتها بين يديه قال: لو سمعته قبل قتله ما قتلته ولعفوت عنه ثم قال لا يقتل قرشي صبرا.
هذا وقد استدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو سمعته قبل قتله ما قتلته ولعفوت عنه» بعض الأصوليين على جواز تفويض الحكم الى المجتهد فيقال له: احكم بما شئت فهو صواب، وعلى وقوع ذلك فإن قوله قبل قتله يدل على أن القتل وعدمه مفوضان اليه، والمانعون من الوقوع يجيبون بأن يجوز أن يكون النبي خيّر فيهما معا فقيل له: لك أن تأمر بقتله وأن لا تأمر ونحو ذلك، ويجوز أن وحيا نزل بأنه لو شفع فيه ما قتله. والنجيبة الكريمة الحسنة والفحل الذكر من كل حيوان كما في القاموس والمعرق اسم فاعل من أعرق الرجل صار عريقا وهو الذي له عرق في الكرم ومعنى لو مننت لو أنعمت وأحسنت، ثم يحتمل أن يكون المصدر المؤول من لو ومننت أي المنّ اسم كان المؤخر وجملة ضرك خبرها المقدم ويحتمل أن يكون المصدر فاعل لضرك والجملة خبر كان واسمها ضمير الشأن ويحتمل أن تكون ما استفهامية محلها الرفع على الابتداء، وكان يحتمل أن(7/624)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
تكون زائدة وأن لا تكون فعلى الأول تكون جملة ضرك خبرا عن ما الاستفهامية وعلى الثاني تكون جملة ضرك خبر كان وجملة كان خبر ما، هذا ويحتمل أن تكون لو شرطية على بابها وما تقدم دليل الجواب ويطيح هذا كله، والمغيظ بفتح الميم اسم مفعول من غاظه يغيظه بالغين والظاء المعجمتين الغضب أو شدته أو سورة أوله، والمحنق بضم الميم وفتح النون اسم مفعول من أحنقه بالحاء المهملة إذا أغاظه.
ونعود الى ذكر لو المصدرية فنقول: لو المصدرية لا جواب لها وإذا وليها فعل ماض بقي على مضيه وإذا وليها فعل مضارع محضته للاستقبال كما أن المصدرية كذلك.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 23 الى 27]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27)(7/625)
اللغة:
(قَضى نَحْبَهُ) : مات والنحب النذر ووقع قولهم قضى نحبه عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره والنذر بفتح النون، وقد وهم صاحب المنجد فضبطه بكسرها وهذا غريب، وفي المصباح:
«نحب نحبا من باب ضرب بكى والاسم النحيب ونحب نحبا من باب قتل: نذر وقضى نحبه مات أو قتل في سبيل الله وفي التنزيل: «فمنهم من قضى نحبه» .
(صَياصِيهِمْ) : حصونهم جمع صيصية وفي القاموس:
«والصيصية شوكة الحائط يسوّي بها السدى واللحمة وشوكة الديك التي في رجله وقرن البقر والظباء والحصن وكل ما امتنع به» .
الإعراب:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الصالحين من الصحابة الذين نذروا أنهم إذا أدركوا حربا مع رسول الله ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وتقسيمهم الى قسمين.
ومن المؤمنين خبر مقدم ورجال مبتدأ مؤخر وجملة صدقوا صفة لرجال وما اسم موصول مفعول به وعاهدوا الله عليه صلة ما وعليه متعلقان بعاهدوا. (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة قضى نحبه صلة من ومنهم من ينتظر عطف على ما سبقه والواو عاطفة وما(7/626)
نافية وبدلوا فعل وفاعل والمفعول به محذوف أي العهد وتبديلا مفعول مطلق. (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) اللام لام التعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بمضمر مستأنف مسوق لبيان ما دعا الى وقوع ما حكى من الأقوال والتقدير وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين وقيل هو متعلق بما قبله ومترتب عليه فيتعلق بصدقوا على أنه تعليل له وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى، والله فاعل والصادقين مفعول به وبصدقهم متعلقان بيجزي ويعذب المنافقين عطف على ليجزي الله الصادقين وان شرطية وشاء فعل ماض وهو فعل الشرط والجواب محذوف وكذلك مفعول شاء أي إن شاء تعذيبهم عذبهم.
(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أو حرف عطف ويتوب عطف على ما قبله وعليهم متعلقان بيتوب وجملة إن الله تعليل لما تقدم وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وغفورا خبرها الأول ورحيما خبرها الثاني.
(وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً) الواو عاطفة ورد الله الذين كفروا عطف على ما تقدم وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وجملة كفروا صلة الموصول وهم الأحزاب وبغيظهم حال أي مغيظين ولك أن تجعله مفعولا ثانيا لرد وجملة لم ينالوا خيرا حال ثانية أو حال من الحال الأولى فهي متداخلة. (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً) الواو عاطفة وكفى الله المؤمنين فعل وفاعل ومفعول به أول والقتال مفعول به ثان لأن كفى هنا بمعنى وقى وهي عندئذ متعدية لاثنين وقد مرّ القول مفصلا في كفى وكان واسمها وخبراها.
(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) الواو عاطفة(7/627)
وأنزل فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والذين مفعول به وجملة ظاهروهم صلة ومن أهل الكتاب حال ومن صياصيهم جار ومجرور متعلقان بأنزل ولك أن تجعل الكلام مستأنفا مسوفا للشروع في سرد قصة غزوة بني قريظة وستأتي خلاصتها في باب الفوائد. (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وقذف عطف على أنزل وفي قلوبهم متعلقان بقذف والرعب مفعول به لقذف وفريقا مفعول مقدم لتقتلون وتأسرون فريقا فعل وفاعل ومفعول به (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)
وأورثكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأرضهم مفعول به ثان وديارهم وأموالهم وأرضا معطوفة على أرضهم وجملة لم تطئوها صفة لأرضا وكان واسمها وخبرها والمراد بها البلاد التي فتحوها فيما بعد.
البلاغة:
في قوله «ورد الذين كفروا بغيظهم ... » الآية فن المناسبة وقد تقدم الإلماع الى هذا الفن وأنه ضربان: مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ، وما ورد في هذه الآية من الضرب الأول لأن الكلام لو اقتصر فيه على دون الفاصلة لأوهم ذلك بعض الضعفاء أن هذا الإخبار موافق لاعتقاد الكفار في أن الريح التي حدثت كانت سببا في رجوعهم خائبين وكفى المؤمنين قتالهم، والريح إنما حدث اتفاقا كما تحدث في بعض وقائعهم وقتال بعضهم لبعض وظنوا أن ذلك لم يكن من عند الله فوقع الاحتراس بمجيء الفاصلة التي أخبر فيها سبحانه أنه قوي عزيز قادر بقوته على كل شيء ممتنع وأن حزبه هو الغالب وأنه لقدرته يجعل النصر للمؤمنين أفانين متنوعة ليزيدهم إيمانا وتثبيتا فهو ينصرهم(7/628)
مرة بالقتال كيوم بدر وتارة بالريح كيوم الأحزاب وطورا بالرعب كبني النضير وأحيانا ينصر عليهم أولا ويجعل العاقبة لهم أخيرا كيوم أحد وحينا يريهم أن الكثرة لم تكن ولن تكون كل شيء في المعركة وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ليتحققوا بأن النصر إنما هو من عند الله كيوم حنين وهذا من أروع ما يتزين به الكلام.
الفوائد:
خلاصة قصة غزوة بني قريظة:
أوحى الله الى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أن الله يأمرك بالمسير الى بني قريظة فأذن في الناس أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم النبي: أتنزلون على حكمي؟ فأبوا، فقال: أتنزلون على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضوا به فحكم فيهم فقال: إني أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. فقال النبي لقد حكمت بحكم الله ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة.(7/629)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
[المجلد الثامن]
[تتمة سورة الأحزاب]
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 33]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)
اللغة:
(ضِعْفَيْنِ) : مثنى ضعف بكسر الضاد، يقال ضعف الشيء مثله في المقدار أو مثله وزيادة غير محصورة فقولهم لك ضعفه يعني(8/5)
لك مثلاه أو ثلاثة أمثاله أو أكثر، وفي المصباح: «ضعف الشيء مثله وضعفاه مثلاه وأضعافه أمثاله وقال الخليل التضعيف أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثليه وأكثر وكذلك الأضعاف والمضاعفة، وقال الأزهري: الضعف في كلام العرب المثل هذا هو الأصل ثم استعمل الضعف في المثل وما زاد وليس للزيادة حد يقال هذا ضعف هذا أي مثله وهذان ضعفاه أي مثلاه، قال وجاز في كلام العرب أن يقال هذا ضعفه أي مثلاه وثلاثة أمثاله لأن الضعف زيادة غير محصورة فلو قال في الوصية أعطوه ضعف نصيب ولدي أعطي مثليه ولو قال ضعفيه أعطي ثلاثة أمثاله. حتى لو حصل للابن مائة أعطي مئتين في الضعف وثلاثمائة في الضعفين وعلى هذا جرى عرف الناس واصطلاحهم والوصية تحمل على العرف لا على دقائق اللغة» هذا وللضعف بفتح الضاد والضعف بكسرها والضعف بضمها معان نظمها بعضهم بقوله:
في الرأي والعقل يكون الضّعف ... والوهن في الجسم فذاك الضّعف
زيادة المثل كذا والضّعف ... جمع ضعيف وهو شاكي الضر
(كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أحد- كما يقول الزمخشري- في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه وردّ عليه آخرون فقالوا: أما قوله أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد فصحيح وأما قوله وما وراءه فليس بصحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول(8/6)
واحد لأن واحدا يطلق على كل شيء اتصف بالوحدة واحد المستعمل في النفي العام مختص بمن يعقل وأيضا فيفرق بينهما بأن المختص بالنفي جامد وهذا وصف وأيضا المختص بالنفي مختص بالعقلاء وهذا لا يختص وأما معنى النفي فإنه ظاهر على ما قاله الزمخشري على المجموع.
وفي الإتقان: قال أبو حاتم: أحد اسم أكمل من الواحد، ألا ترى أنك إذا قلت فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان بخلاف قولك: لا يقوم له أحد وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد تقول ليس في الدار أحد فيكون قد شمل عموم المخلوقين من الدواب والطير والوحش والإنس فيعم الناس وغيرهم بخلاف قولك ليس في الدار واحد فإنه مخصوص بالآدميين دون غيرهم قال: ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الواحد فيستعمل في الإثبات والنفي نحو «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» أي واحد و: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» و «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ» ولا فضل لأحد على أحد. وأحد يستعمل في المذكر والمؤنث قال تعالى: «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» بخلاف الواحد فلا يقال كواحد من النساء بل كواحدة. قلت: ولهذا وصف به في قوله تعالى «فما منكم من أحد عنه حاجزين» بخلاف الواحد والأحد له جمع من لفظه وهو الأحدون والآحاد وليس للواحد جمع من لفظه فلا يقال واحدون بل اثنان وثلاثة والأحد ممتنع الدخول في الضرب والعدد والقسمة وفي شيء من الحساب. بخلاف الواحد.
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) : من القرار أي الثبات وأصله اقررن بكسر الراء وفتحها من قررت بفتح الراء وكسرها نقلت حركة الراء الى القاف(8/7)
وحذفت مع همزة الوصل. وفي القاموس: «وقر بالمكان يقر بالكسر والفتح قرارا وقرورا وقرّا وتقرّة ثبت وسكن كاستقرّ» .
(تَبَرَّجْنَ) : بترك إحدى التاءين وأصله تتبرجن أي تتبخترن في مشيكن. وفي القاموس: «تبرجت المرأة: أظهرت زينتها ومحاسنها للأجانب» .
(الْجاهِلِيَّةِ) : حالة الجهل والوثنية في بلاد العرب قبل الإسلام أو الزمن الذي تقدمه وسيأتي المزيد من بحث الجاهلية الأولى في باب الفوائد.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) كلام مستأنف مسوق لتقرير موقف الإسلام من أزواج النبي والمرأة عامة. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولأزواجك متعلق بقل وستأتي أسماء أزواج النبي في باب الفوائد وإن شرطية وكنتن فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها والنون علامة التأنيث والتخيير لسبر أغوار نفوسهن حتى إذا اخترن الدنيا فارقهن وجملة تردن خبر كان والنون فاعل والحياة الدنيا مفعول به وزينتها عطف على الحياة. (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه أتى جملة طلبية وتعالين فعل أمر مبني على السكون والنون فاعل وأمتعكن مجزوم لأنه جواب الطلب وأسرحكن عطف على أمتعكن وسراحا مفعول مطلق وجميلا صفة وهذا أولى من القول بأن أمتعكن جزم لأنه جواب الشرط وما بين الشرط وجزائه(8/8)
معترض. (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) الواو عاطفة وإن شرطية وكنتن فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة تردن خبرها والنون فاعل تردن والله مفعول به ورسوله عطف عليه والدار الآخرة عطف أيضا والفاء رابطة وان واسمها وجملة أعد للمحسنات خبرها ومنكن حال وأجرا مفعول به وعظيما صفة.
(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) يا حرف نداء ونساء النبي منادى مضاف ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويأت فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة ومنكن حال وبفاحشة متعلقان بيأت ويضاعف جواب الشرط مجزوم وعلامة جزمه السكون ولها متعلقان بيضاعف والعذاب نائب فاعل ليضاعف وضعفين مفعول مطلق. (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) الواو حالية أو استئنافية وكان واسمها وعلى الله متعلقان بيسيرا ويسيرا خبر كان. (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) عطف على ما تقدم وهو مماثل لما قبله في إعرابه وأجرها مفعول به ثان لنؤتها ومرتين نصب على المفعولية المطلق أو الظرفية الزمانية. (وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) الواو عاطفة وأعتدنا فعل ماض وفاعل ولها متعلقان. بأعتدنا ورزقا مفعول به وكريما صفة.
(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) لستن: ليس والتاء اسمها والنون علامة جمع الإناث وكأحد خبر لستن ومن النساء صفة لأحد وإن شرطية واتقيتن فعل ماض وفاعله وهو في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي فانكن أعظم ويكون قوله: (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) مستأنفا لتعليل نفي المساواة ويجوز أن(8/9)
تكون الفاء رابطة وجملة لا تخضعن في محل جزم جواب الشرط وبالقول حال أو متعلقان بتخضعن.
(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً) الفاء للسببية ويطمع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالنهي والذي فاعل يطمع وفي قلبه متعلقان بمحذوف خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة وقلن الواو عاطفة وقلن فعل أمر والنون فاعل وقولا مفعول مطلق مبين للنوع ومعروفا صفة. (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) عطف على ما تقدم وقرن فعل أمر وقد تقدم في باب اللغة وفي بيوتكن متعلقان به ولا تبرجن نهي وتبرج الجاهلية مفعول مطلق والأولى نعت للجاهلية. (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) عطف على قرن في بيوتكن.
(إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) إنما كافة ومكفوفة ويريد الله فعل مضارع وفاعل وليذهب اللام للتعليل ويذهب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وجملة إنما يريد تعليل لجميع ما تقدم والجار والمجرور أي ليذهب متعلقان بيريد وعنكم متعلقان بيذهب والرجس مفعول به وأهل البيت نصب على الاختصاص للمدح أي أخص أهل البيت ولك أن تجعله منادى محذوف الأداة أو على البدل من الكاف، واعترضه المبرد بأنه لا يجوز البدل من المخاطب، ويطهركم عطف على يذهب وتطهيرا مفعول مطلق.
الفوائد:
1- أراجيف المغرضين عن تعدد أزواج النبي:
سيطول بنا القول في هذا الصّدد لأنه أثار شكوكا لدى(8/10)
المغرضين وأصحاب الهوى من المستشرقين والمشهرين بالإسلام، فقد قالوا في معرض افتراءاتهم وأراجيفهم إن تعدد زوجات النبي مناف لشمائل النبوة ومخالف لما ينبغي أن يتسم به أصحاب الدعوة وهداة الأرواح، وقال بعض المستشرقين ما نصه بالحرف: إن تسع زوجات لدليل على فرط الميول الجنسية، ونسوا أو تناسوا أنه لا غضاضة على العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمنتها وما من فطرة هي أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى، نعم قد تكون الغضاضة إذا طغى هذا الحب حتى أخرج العظيم عن سواء السبيل وشغله عما هو معني به من هداية وليس أبعد به صلى الله عليه وسلم عن الاستسلام لنزوات اللذة الجنسية من أنه أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة، حدث التاريخ أن أبا بكر ذهب إليه يوما يستأذن عليه فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده فوجد النبي جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا فأراد أبو بكر أن يقول شيئا يسرّي عنه فقال:
يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة!! سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي وقال: هن حولي، كما ترى، يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر الى حفصة يجأ عنقها، ويقولان: تسألن رسال الله ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا ليس عنده، ثم اعتزلهن الرسول شهرا أو تسعة وعشرين يوما نزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي «يا أيها النبي قل لأزواجك» الآية. فبدأ الرسول بعائشة فقال لها:
يا عائشة إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فتلا عليها الآية، قالت: أفيك يا رسول الله أستشير أبوي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خيّر نساءه كلهن فأجبن كما أجابت عائشة وقنعن بما هن(8/11)
فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها فعلام يدل هذا؟ لو شاء النبي لأغدق عليهن النعمة ولأغرقهن بتهاويل الزينة وتعاجيب الحلي وأطايب اللذات، وهل هذا الصدوف عن ذلك فعل مستسلم للذات الحسية المتهالك على حب النساء؟ ولما بنى بأولى زوجاته- خديجة- لم تكن لذات الحسن هي التي سيطرت على هذا الزواج ولا الباعثة عليه لأنه نبى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين ونيف على الخمسين وأوتي الفتح المبين وليس له من زوجة غيرها ولم تبدر عنه أية رغبة في الزواج بأخرى.
قالت له عائشة مرة: هل كانت خديجة إلا عجوزا بدّلك الله خيرا منها فقال لها مغضبا: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها: آمنت بي إذ كفر الناس وصدقت إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء.
ولو كانت لذات الحسن هي التي سيطرت على زواج النبي بعد بعد وفاة خديجة لكان الأحجى بإرضاء هذه اللذات أن يجمع إليه تسعا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة وشبه الجزيرة العربية فيسرعن إليه راضيات فخورات وأولياء أمورهن أرضى منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تسمو إليها مصاهرة، بيد أن محمدا لم يتزوج بكرا قط غير عائشة ولم يكن زواجه بها مقصودا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حكيم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة.
قالت عائشة: لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون للنبي: أي رسول الله ألا تتزوج؟ قال: من؟(8/12)
قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال: فمن البكر؟ قالت: بنت أحبّ الناس إليك عائشة بنت أبي بكر قال: فمن الثيب؟ قالت:
سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك.
ثم كانت سودة هي أولى النساء اللاتي بنى بهن بعد وفاة خديجة وكان زوجها الأول- ابن عمها- قد توفي بعد رجوعه من الهجرة الى الحبشة وكانت هي من أسبق النساء الى الإسلام فآمنت وهجرت أهلها ونجا بها زوجها الى الحبشة فرارا من إعنات المشركين له ولها فلما مات لم يبق لها إلا أن تعود الى أهلها فتصبأ وتؤذى أو تتزوج بغير كفء فضمها النبي إليه حماية لها وتأليفا لأعدائه من آلها وكان غير هذا الزواج أولى به لو نظر الى لذات حسن ومال الى متاع.
وكان للنبي زوجة أخرى اتسمت بالوضاءة والحداثة والغضاضة وهي زينب بنت جحش ابنة عمته التي زوجها زيدا بن حارثة بأمره وعلى غير رضى منها لأنها أنفت- وهي ما هي في الحسب والقرابة الى رسول الله- من أن يتزوجها غلام عتيق، هذه أيضا لم يكن للذات الحسن سلطان في بناء النبي بها بعد تطليق زيد إياها وتعذر التوفيق بينهما وستأتي قصتها كاملة مدعومة بالتحليل التام لها.
أما سائر زوجاته فما من واحدة منهن إلا كان لزواجه بهن سبب من المصلحة العامة.
إجمال أسماء زوجاته:
قال ابن الكلبي: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشرة وجمع بين احدى عشرة وتوفي عن تسع فأولهن خديجة(8/13)
بنت خويلدو كانت قبله تحت عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ومات عنها وتزوجها بعده أبو هالة بن زرارة بن النباش التميمي فولدت له هند ثم مات عنها وتزوجها بعده النبي فولدت له ثمانية:
القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة.
فأما الذكور فماتوا وهم صغار وأما الإناث فبلغن ونكحن وولدن ولم يتزوج على خديجة أحدا وكان موتها قبل الهجرة بثلاث سنين، ثم بعدها سودة بنت زمعة وقيل عائشة وكانت بنت ست سنين فدخل بها في المدينة وهي ابنة تسع ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة وماتت سنة ثمان وخمسين، وأما سودة فكانت امرأة ثيبا وكانت قبله عند السكران بن عمرو بن عبد شمس ومات عنها فخلف عليها رسول الله ودخل بها بمكة، ثم تزوج بعدها حفصة بنت عمر بن الخطاب وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي وكان بدريا وماتت بالمدينة في خلافة عثمان، ثم تزوج بعدها أم سلمة ابنة أبي أمية المخزومية وكانت قبله تحت أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي شهد بدرا وأصابته جراحة يوم أحد فمات عنها فتزوجها رسول الله قبل الأحزاب، ثم تزوج زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة ويقال لها أم المساكين وتوفيت في حياته ولم يمت غيرها وغير خديجة في حياته وكانت زينب قبله تحت الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب، ثم تزوج جورية ابنة الحارث بن أبي ضرار الخزاعية من بني المصطلق وكانت تحت مالك بن صفوان، ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب وكانت قبله تحت عبد الله بن جحش وكان من مهاجرة الحبشة فتنصر ومات بها فأرسل رسول الله الى النجاشي فخطبها عليه وتزوجها وهي بالحبشة وساق النجاشي المهر لها عن رسول الله وماتت في خلافة أخيها معاوية، ثم تزوج زينب بنت جحش (وستأتي قصتها) ثم تزوج عام(8/14)
خيبر صفية بنت حيي بن أخطب، ثم تزوج ميمونة ابنة الحارث الهلالية وكانت قبله تحت عمير بن عمرو الثقفي فمات عنها وخلف عليها أبو زهير بن عبد العزى ثم رسول الله وهي خالة ابن عباس وخالد بن الوليد، ثم تزوج امرأة من بني كليب يقال لها شاة بنت رفاعة وقيل سنا بنت الصلت وقيل ابنة الصلت بن حبيب توفيت قبل أن يدخل بها وقيل الشنباء دخل بها ومات ابنه ابراهيم فقالت لو كان نبيا ما مات ولده فطلقها، ثم تزوج غزية بنت جابر الكلابية، قال ابن الكلبي: غزية هي أم شريك فلما قدمت على النبي وأراد أن يخلو بها استعاذت منه فردها، ثم تزوج العالية ابنة ظبيان فجمعها ثم فارقها، ثم تزوج قتيلة ابنة قيس أخت الأشعث فتوفي عنها قبل أن يدخل بها فارتدت، ثم تزوج فاطمة ابنة الضحاك وقيل تزوج خولة ابنة الهذيل بن هبيرة، وليلى ابنة الحطيم عرضت نفسها عليه فتزوجها وفارقها.
قال ابن الكلبي: أما من خطب النبي من النساء ولم ينكحها فأم هانىء بنت أبي طالب خطبها ولم يتزوجها وضباعة ابنة عامر من بني قشير وصفية بنت بشامة الأعور العنبري وأم حبيبة ابنة عمه العباس فوجد العباس أخا له من الرضاعة فتركها وجمرة ابنة الحارث ابن أبي حارثة خطبها فقال أبوها بها سوء ولم يكن بها وجع فرجع إليها فوجدها قد برصت.
وأما سرارية فمارية ابنة شمعون القطبية ولدت له ابراهيم وريحانة ابنة زيد القرظية وقيل هي من بني النضير وأخرى وهبتها له زينب بنت جحش واسمها نفيسة والرابعة أصابها في بعض السبي ولم يعرف اسمها.(8/15)
وفي المواهب رواية أخرى تختلف فيها الأسماء بعض الاختلاف ويطول بنا القول لو نقلناها فليرجع إليها من يشاء.
وكان إعزاز من ذلوا بعد عزة سنة النبي في معاملة جميع الناس ولا سيما النساء اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والأقربين، ولهذا خيّر صفية الإسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها فاختارت الزواج منه.
هذا وتتكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه الصلاة والسلام عن أسباب حفزته الى الزواج بهن واستجماع لهذا العدد منهن ولا حرج على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه، ولكن الواقع أن المتعة لم تكن قط مقدّمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها أو بعد تجاوز الكهولة وانما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن إلى الإيواء الشريف أو على حسب المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه وبين سادات العرب وأساطين الجزيرة من أصدقائه وأعدائه لا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته حتى التي بنى بها فتاة بكرا موسومة بالجمال وهي السيدة عائشة.
2- الجاهلية الأولى:
اختلف الناس في الجاهلية الأولى وأصح ما قيل أنهما جاهليتان أولى وأخيرة فالأولى هي القديمة ويقال لها الجاهلية الجهلاء وهي تمتد الى أبعد الآماد والجاهلية الأخيرة تمتد من منتصف القرن الخامس الميلادي، وفي الجاهلية الأولى كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي في منتصف الطريق تعرض نفسها على الرجال فنهين عن ذلك.(8/16)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 34 الى 37]
وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37)
الإعراب:
(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) الواو عاطفة(8/17)
واذكرن فعل أمر والنون فاعل وما مفعول به وجملة يتلى صلة ويتلى فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر يعود على ما وفي بيوتكن متعلقان بيتلى ومن آيات الله حال والحكمة عطف على آيات الله.
(إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) ان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر يعود على الله ولطيفا خبرها الأول وخبيرا خبرها الثاني.
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) كلام مستأنف مسوق لخطاب النساء بما يخاطب به الرجال من شئون الهداية والتعليم السامية فقد قالت أزواج النبي إن الله ذكر الرجال في كتابه ولم يذكر النساء بخير فنزلت. وان واسمها وما بعدها عطف على الاسم الى قوله والذاكرات وليس فيها ما يستدعي التنبيه سوى قوله فروجهم فهو مفعول به للحافظين وكذلك قوله والذاكرين الله فلفظ الجلالة مفعول به للذاكرين وجملة أعد خبر إن والله فاعل أعد ولهم متعلقان بأعد وأجرا مفعول أعد وعظيما صفة.
(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الواو استئنافية والكلام مسوق للشروع في قصة عبد الله بن جحش وأخته زينب وزيد بن حارثة وسيأتي بحث مسهب عنها في باب الفوائد. وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولمؤمن خبر كان المقدم ولا مؤمنة عطف على لمؤمن وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وقضى الله ورسوله صلة والجواب محذوف يدل عليه النفي المتقدم ولك أن تجعل إذا للظرفية المحضة فتتعلق بالاستقرار الذي(8/18)
تعلق به خبر كان وأن يكون مصدر مؤول هو اسم كان ولهم خبر يكون المقدم والخيرة اسمها المؤخر وذكر يكون لأن المؤنث مجازي وقرىء بالتاء ومن أمرهم حال من الخيرة والخيرة مصدر تخير كالطيرة من تطير وجمع الضمير في أمرهم وفي لهم لوقوعهما في سياق النفي وقد تقدم أن النكرة إذا وقعت في سياق النفي دلت على العموم ليشمل كل مؤمن ومؤمنة كما غلب المذكر على المؤنث. (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويعص فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة وفاعل يعص مستتر تقديره هو يعود على من ولفظ الجلالة مفعول به ورسوله عطف عليه والفاء رابطة للجواب لأنه اقترن بقد وضل فعل ماض وفاعله مستتر أيضا وضلالا مفعول مطلق ومبينا صفة.
(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) عطف على ما سبق وإذ ظرف لما مضى متعلق باذكر مقدرا وجملة تقول في محل جر بإضافة الظرف إليها وللذي متعلقان بتقول وجملة أنعم الله عليه صلة وأنعمت عليه عطف على الصلة وجملة أمسك مقول القول وعليك متعلقان بمحذوف حال كما قيل في اللام في سقيا لك وإما متعلقان بأمسك على حذف مضاف أي أمسك على نفسك وزوجك مفعول به واتق الله عطف على أمسك. (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) الواو واو الحال أو للعطف وفي نفسك متعلقان بتخفي وما مفعول به والله مبتدأ ومبديه خبر والجملة صلة ما. (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) الواو حالية أو عاطفة أيضا وتخشى الناس فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والواو عاطفة أو حالية والله مبتدأ وأحق خبر وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع بدل اشتمال من(8/19)
اسم الله وقد تقدم هذا الإعراب في سورة التوبة ونزيد هنا أنه يجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض متعلق بأحق واختار أبو البقاء وجها ثالثا وهو أن يكون أن تخشوه مبتدأ وأحق خبره مقدم عليه والجملة خبر عن اسم الله.
(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وقضى زيد فعل وفاعل ومنها متعلقان بقضى ووطرا مفعول به وزوجناكها فعل ماض وفاعل والكاف مفعول به أول والهاء مفعول به ثان والجملة لا محل لها. وقضاء الوطر في اللغة بلوغ منتهى ما في النفس من الشيء. (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) اللام حرف جر للتعليل وكي حرف مصدري ويكون فعل مضارع منصوب بكي والمصدر المؤول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بزوجناكها على أنه تعليل للتزويج وعلى المؤمنين خبر يكون المقدم وحرج اسمها المؤخر وفي أزواج أدعيائهم صفة لحرج. (وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) كان واسمها وخبرها والجملة معترضة أو معطوفة على ما تقدم.
الفوائد:
وعدناك ببسط القول في قصة زواج زيد بن حارثة بزينب بنت جحش وبرا بالوعد ودحضا للأراجيف التي أثارها المتشككون والذين في قلوبهم مرض وهوى نقول: تقدم القول في ترجمة زيد بن حارثة وأن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه زينب بنت جحش وكان قد خطبها عليه فكره عبد الله وزينب ذلك لظنهما قبل ذلك أن النبي خطبها لنفسه ثم(8/20)
رضيا فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر كما يروى، فمن الجدير بالملاحظة أن زينب كانت بنت عمة النبي وربيت تحت نظره وشملها من عنايته ما يشمل البنت من والدها ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم كما يزعم المتشككون لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في روائه ونضرة جدته وقد كان يراها ولم يكن بينه وبينها حجاب ولا يخفى عليه شيء من محاسنها الظاهرة بيد أنه لم يرغبها لنفسه ورغبها لمولاه فكيف يستهويه جمالها ويصيبه سهم حبها بعد أن صارت زوجا لعبد أعتقه وأنعم عليه بالحرية؟
هذا ولم يعرف في الطبائع أن تغلب الشهوة على الإنسان حتى يعشق من هو قريب منه أو من عايشه في صغره، فكيف يسوغ لنا أن ندعي وجود هذه الشهوة في رجل عرف بالعفة والاستقامة طوال عمره وصوت الله يهتف في أذنه: «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا» بل كيف يسمح لنفسه بالانزلاق الى هذه الوهدة السحيقة وهو يتهيأ لبث رسالة ونشر تعاليم دين جديد يتغاير مع مألوف قومه ويهدم ما ألفوه من عادات وترسموه من نظم وطقوس؟
الواقع أنه، صلى الله عليه وسلم، لم يبال بإباء زينب الاقتران بزيد ورغبتها عنه، وقد كان يعلم حق العلم، أن زواجا يقوم على التنافر أمر يفقد طبيعة الانسجام بين الزوجين التي لا بد منها ليسود الوئام بينهما وتستقر الحياة الزوجية على أوطد الدعائم، ولكنه أراد تنفيذ أمر الله في محو عادة جاهلية رديئة درج عليها العرب آنذاك وهي إعطاء الدعي جميع حقوق الابن واجراء جميع الاحكام المعتبرة للابن(8/21)
عليه وله حتى في الميراث وحرمة النسب وقد تقدم قوله تعالى بهذا الصدد ناعيا على العرب ما كانوا يدينون به: «ما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل» وليس أحد أجدر من النبي يختصه الله بهذا التكليف الذي يبطل تلك العادة ويحمل العرب على التقصي منها، فعمد بوحي منه تعالى الى خرق هذه العادة وإبطالها فأرغم زينب أن تتزوج بزيد وهو مولاه وصفيه تمهيدا لإقامة شرع جديد وتنفيذ حكم إلهي لا محيد عن تنفيذه، وبعد أن صارت زينب الى زيد لم يسلس قيادها ولم يلن إباؤها بل شمخت عليه وتعالت، وتعمدت إيلام قلب زوجها، بالتعالي عليه في النسب والحرية فاشتكى زيد ذلك إلى النبي المرة بعد المرة والنبي في خلقه السمح وسجاياه الطاهرة يهدهد من آلام زيد ويقول له «أمسك عليك زوجك واتق الله» إلى أن أتى أمر الله وغلب على ذلك كله فسمح لزيد بطلاقها بعد أن استحال جو البيت جحيما لا يطاق كما قال تعالى «لكيما يكون على المؤمنين من حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا» وأكد ذلك كما يأتي، بقوله: «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما» .
وعلى هذا النحو يمكن القول بصورة جازمة أن الله تعالى ذكر نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق وليدفع عنه ما حاك في صدور ضعاف العقول فقال: «وإذ تقول للذي أنعم الله عليه» بالإسلام «وأنعمت عليه» بالعتق والحرية والاصطفاء بالولاية والمحبة وتزويجه بنت عمتك وتعظه عند ما كان يشكو إليك من إيذاء زوجه: «أمسك عليك زوجك واتق الله» واخشه في أمرها فإن الطلاق يشينها وقد(8/22)
يؤذي قلبها وارع حق الله في نفسك أيضا فربما لا تجد بعدها خيرا منها، تقول ذلك وأنت تعلم أن الطلاق أمر لا بد منه لما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة حسنة لمن معك ولمن يأتي بعدك وإنما غلبك في ذلك الحياء وخشية أن يقولوا: تزوج محمد مطلقة متبناه فأنت في هذا «تخفي في نفسك ما الله مبديه» من الحكم الذي ألهمك «وتخشى الناس والله» الذي أمرك بذلك كله «أحق أن تخشاه» فكان عليك أن تمضي في الأمر من أول وهلة تعجيلا بتنفيذ كلمته وتقرير شرعه ثم زاده بيانا بقوله: «فلما قضى زيد منها وطرا» أي حاجة بالزواج «زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا» لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا في أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل زوجات لأدعيائهم «وكان أمر الله مفعولا» .
هذا هو التعليل الصحيح، والتفسير القويم، لهذه القصة وأما ما رووه من أن النبي مرّ ببيت زيد وهو غائب فرأى زينب فوقع منها في قلبه شيء فقال: سبحان مقلب القلوب فسمعت زينب التسبيحة فنقلتها إلى زيد فوقع في قلبه أن يطلقها إلى آخر هذا الهراء الذي يترفع النبي عنه فقد فنده المحققون من العلماء وقال الإمام أبو بكر بن العربي: انه لا يصح وان الناقلين له المحتجين به على مزاعمهم في فهم الآية لم يقدروا مقام النبوة حق قدره، ولم تصب عقولهم من معنى الصحة كنهها، وأطال ابن العربي في ذلك إلى أن يقول:
«فأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها فوقعت في قلبه فباطل فإنه كان معها في كل وقت وموضع ولم يكن حينئذ حجاب فكيف تنشأ معه وينشأ معها ويلحظها في كل ساعة ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها(8/23)
زوج وقد وهبته نفسها وكرهت غيره فلم يخطر ذلك بباله، فكيف يتجدد هوى لم يكن؟ حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة وقد قال سبحانه «ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه» والنساء أفتن الزهرات وأنشر الرياحين؟ ولم يخالف هذا في المطلقات فكيف في المنكوحات المحبوسات» إلى أن يقول: «فإن قيل لأي معنى قال له: أمسك عليك زوجك وقد أخبره الله أنها زوجته؟ قلنا أراد أن يختبر منه ما لم يعلمه الله به من رغبته فيها أو رغبة عنها فأبدى له زيد من النفرة عنها والكراهة فيها ما لم يكن علمه منه في أمرها، فإن قيل كيف يأمره بإمساكها وقد علم أن الفراق لا بدّ منه وهذا تناقض؟ قلت: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة كإقامة الحجة ومعرفة العاقبة، ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان وقد علم أنه لا يؤمن فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلا وحكما وهذا من نفيس العلم فاقبلوه» .
قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: «إنما عتب الله عليه من أجل أنه قد أعلمه بأنه ستكون هذه من أزواجك فكيف قال بعد ذلك لزيد أمسك عليك زوجك وأخذتك خشية الناس أن يقولوا تزوج زوجة ابنه والله أحق أن تخشاه» . وقال النحاس: «قال بعض العلماء ليس هذا من النبي صلى الله عليه وسلم خطيئة، ألا ترى أنه لم يؤمر بالتوبة ولا بالاستغفار وقد يكون الشيء ليس بخطيئة إلا أن غيره أحسن منه وأخفى ذلك في نفسه خشية أن يفتتن به الناس» وروي عن علي بن الحسين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحى الله إليه أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها فلما شكا(8/24)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب وانها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: اتق الله في قولك وأمسك عليك زوجك وهذا هو الذي أخفي في نفسه وخشي رسول الله أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه لو أمره بطلاقها فعاتبه الله على هذا القدر من أن خشي الناس في شيء قد أباحه الله تعالى وأعلمه أن الله أحق بالخشية» .
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: «أما والله لولا ما أدخل الضعفاء والمدلسون من مثل هذه الرواية ما خطر ببال مطلع على الآية الكريمة شيء مما يرمون إليه فإن نصّ الآية ظاهر جليّ لا يحتمل معناه التأويل ولا يذهب إلى النفس منه إلا أن العتاب كان على التمهل في الأمر والتريث به وان الذي كان يخفيه في نفسه هو ذلك الأمر الإلهي الصادر إليه بأن يهدم تلك السعادة المتأصلة في نفوس العرب وأن يتناول المعول لهدمها بنفسه كما قدر له أن يهدم أصنامهم بيده لأول مرة عند فتح مكة وكما هو شأنه في جميع ما نهى عنه من عاداتهم وهذا الذي كان يخفيه في نفسه كان الله مبديه بأمره الذي أوحاه إليه في كتابه وبتزويجه زوجة من كانوا يدعونه ابنا له ولم يكن يمنعه من من إبداء ما أبدى الله إلا حياء الكريم وتؤدة الحليم مع العلم بأنه سيفعل لا محالة لكن مع معاونة الزمان» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 38 الى 40]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)(8/25)
الإعراب:
(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) استئناف مسوق لنفي الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في زواجه بزينب وهي امرأة زيد الذي تبناه وما نافية وكان فعل ماض ناقص وعلى النبي خبر كان المقدم ومن حرف جر زائد وحرج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه اسم كان المؤخر وفيما صفة لحرج وجملة فرض الله صلة لما. (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً) سنة الله اسم موضوع موضع المصدر لأن السنة بمعنى الطريقة والسيرة وتأتي أيضا بمعنى الطبيعة والشريعة والوجه أو دائرته، وهذا ما جنح إليه الزمخشري في إعرابه واختار غيره أن يكون نصبا على المصدر أو على نزع الخافض أي كسنة الله في الأنبياء الذين من قبل وسيأتي مزيد من القول في هذا الصدد في باب الفوائد، وفي الذين متعلقان بمحذوف حال أي متبعة وجملة خلوا صلة الذين ومن قبل متعلقان بخلوا وكان أمر الله كان واسمها وقدرا خبرها ومقدورا صفة لازمة للتأكيد كيوم أيوم وليل أليل وظل ظليل. (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ) الذين لك أن تجعلها صفة للأنبياء أي في الأنبياء الذين خلوا من قبل والذين يبلغون رسالات الله ولك أن تقطعها فتعربها خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يبلغون صلة ورسالات الله مفعول يبلغون.(8/26)
(وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً) ويخشونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به ولا نافية ويخشون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ولفظ الجلالة مفعول يخشون وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله فاعل كفى محلا وحسيبا تمييز أو حال. (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ما نافية وكان محمد كان واسمها وأبا أحد خبرها ومن رجالكم صفة لأحد (وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه خفف، ورسول الله عطف على أبا أحد أو نصب على تقدير كان لدلالة كان السابقة عليها أي ولكن كان رسول الله، وخاتم النبيين عطف على رسول الله، والخاتم هو الطابع بفتح التاء وكسرها وكان واسمها وخبرها وبكل شيء متعلقان بعليما.
البلاغة:
في قوله «ما كان محمد أبا أحد من رجالكم» الآية فن التلفيف، وفي محيط المحيط: التلفيف عند البلغاء هو التناسب وهو عبارة عن إخراج الكلام مخرج التعليم بحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وإنما قصد ذكر حكم داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرح بتعليمه، وأوضح من هذا أن يقال انه جواب عام عن نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة إلى بيانها كلها فيعدل المجيب عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع الى جواب عام يتضمن الإبانة على الحكم المسئول عنه وعن غيره مما تدعو الحاجة الى بيانه فإن قوله:
«ما كان محمد ... إلخ» جواب عن سؤال مقدر وهو قول قائل:
أليس محمدا أبا زيد بن حارثة؟ فأتى الجواب يقول: ما كان محمد(8/27)
أبا أحد من رجالكم، وكان مقتضى الجواب أن يقول: ما كان محمد أبا زيد وكان يكفي أن يقول ذلك ولكنه عدل عنه ترشيحا للإخبار بأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا يتم هذا الترشيح إلا بنفي أبوته لأحد من الرجال فإنه لا يكون خاتم النبيين إلا بشرط أن لا يكون له ولد قد بلغ فلا يرد أن له الطاهر والطيب والقاسم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ثم احتاط لذلك بقوله من رجالكم فأضاف الرجال إليهم لا إليه فالتف المعنى الخاص في المعنى العام وأفاد نفي الأبوة الكلية لأحد من رجالهم وانطوى في ذلك نفي الأبوة لزيد ثم ان هناك تلفيفا آخر وهو قوله ولكن رسول الله فعدل عن لفظ نبي الى لفظة رسول لزيادة المدح لأن كل رسول نبي ولا عكس على أحد القولين فهذا تلفيف بعد تلفيف.
الفوائد:
المفعول المطلق والمصدر:
المفعول المطلق هو الحاصل بالمصدر أي الأثر لا المصدر الذي هو التأثير فإطلاق المصدر على المفعول بضرب من المسامحة وعدم التمييز بين التأثير والأثر وإيضاح ذلك أن صيغ المصادر موضوعة للأثر الحاصل بتأثير الفاعل المسمى بلفظ المصدر كما أنها موضوعة لإيقاع ذلك الأثر وإلا يلزم التجوز في كل مفعول مطلق ولا سبيل إليه لوجود أمارة الحقيقة من تبادر معناه من غير حاجة الى القرينة وفي عدم التمييز بين التأثير والأثر وإن صرح به ابن سينا نظرا لأنهما من مقولتين مختلفتين فالأول من مقولة الفعل والثاني من مقولة الانفعال وقال بعض المحققين: الاتحاد أمر موجود لكن لا ينافي الاختلاف بحسب(8/28)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
المفهوم فإن الضوء الحاصل من الشمس في البيت أمر موجود لكن إذا نسب الى الشمس يسمى اضاءة وإذا نسب الى البيت يسمى استضاءة.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) كلام مستأنف مسوق لبيان أن الذكر ليس له حدود ينتهي إليها ويقف عندها إذ ما من عبادة إلا ولها حدود معلومة ورسوم مرسومة، ما عدا الذكر فانه يتجاوز حدود الزمان والمكان. واذكروا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وذكرا مفعول مطلق وكثيرا صفة. (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) فعل أمر(8/29)
وفاعل ومفعول به وبكرة ظرف لأول النهار متعلق بسبحوه، وأصيلا عطف على بكرة وهو ظرف لآخر النهار وسيأتي سر تخصيصهما وتخصيص التسبيح بالذكر في باب البلاغة. (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) تعليل لما تقدم من الأمر بالذكر والتسبيح وهو مبتدأ والذي خبره وجملة يصلي صلة الموصول وعليكم متعلقان بيصلي وملائكته عطف على الضمير المستكن في يصلي. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) اللام للتعليل ويخرجكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر والكاف مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيخرجكم وكان الواو اعتراضية وكان واسمها المستتر وبالمؤمنين متعلقان برحيما ورحيما خبرها والاعتراض بمثابة التقرير لمضمون ما تقدم.
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) استئناف مسوق لبيان ما أعد لهم في الآجلة، وتحيتهم مبتدأ والهاء مضاف لتحية من إضافة المصدر إلى مفعوله أي يحيون يوم لقائه بسلام والظرف متعلق بمحذوف حال وجملة يلقونه في محل جر باضافة الظرف إليها وسلام خبر تحيته والواو استئنافية وأعد فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ولهم متعلقان بأعد وأجرا مفعول به وكريما صفة.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ان واسمها وجملة أرسلناك خبرها وشاهدا حال مقدرة وسيأتي ذكر الحال المقدرة وسرها في باب الفوائد ومبشرا ونذيرا عطف على شاهدا. (وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) وداعيا عطف أيضا على شاهدا والى الله متعلقان بداعيا وبإذنه حال وسيأتي سر هذه الاستعارة في باب البلاغة.
وسراجا منيرا عطف أيضا والكلام تشبيه بليغ سيأتي حكمه في باب البلاغة (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً) عطف على ما تقدم وبشر(8/30)
فعل أمر والمؤمنين مفعول به وبأن متعلقان ببشر ولهم خبر أن ومن الله حال وفضلا اسم إن المؤخر وكبيرا صفة لفضلا.
(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) عطف على ما تقدم ولا ناهية وتطع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به والمنافقين عطف على الكافرين ودع أذاهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به من باب إضافة المصدر الى فاعله أو مفعوله فيكون المعنى على الأول دع أذيتهم إياك من غير مجازاة وعلى الثاني دع ما آذوك ولا تؤاخذهم حتى تؤمر بذلك وقد جاء الأمر بعد ذلك بالقتال (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا) عطف على ما تقدم وعلى الله متعلقان بتوكل وكفى فعل ماض والباء زائدة والله فاعل كفى محلا ووكيلا تمييز أو حال وقد تقدم نظيره.
البلاغة:
التخصيص:
خص البكرة والأصيل في قوله «وسبحوه بكرة وأصيلا» بالذكر لإظهار فضلهما والتنويه بهما لأن العبادة فيهما آكد على الإنسان كما خص التسبيح وهو من أنواع الذكر ليبين فضله على سائر الأذكار، روى الترمذي في خطابه صلى الله عليه وسلم لجويرية أم المؤمنين: «ألا أعلمك كلمات تقولينها: سبحان الله عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته» قال الجلال السيوطي في التعليق على هذا الحديث: «سئلت قديما عن إعراب هذه الألفاظ ووجه النصب فيها فأجبت بأنها منصوبة على الظرف بتقدير قدر»(8/31)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
وقد نص سيبويه على أن من المصادر التي تنصب على الظرف قولهم زنة الجبال ووزن الجبل وقد صنف الجلال السيوطي كتابا لطيفا سماه «رفع السنة عن نصب الزنة» وقيل بل يعربان نصبا على المصدرية وعليها فقدره بعضهم أعد تسبيحه بعدد خلقه وقدره آخرون: سبحته تسبيحا يساوي خلقه عند التعداد، قال ابن حجر في المشكاة:
«والأول أوضح» وأعربه آخرون نصبا بنزع الخافض. هذا وللنووي كتاب لطيف في الأذكار اسمه: «الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار» فارجع إليه.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52)(8/32)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ) إذا ظرف مستقبل وجملة نكحتم المؤمنات في محل جر بإضافة الظرف إليها وسيأتي معنى نكحتم المؤمنات في باب البلاغة. (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) ثم حرف عطف وتراخ وطلقتموهن فعل وفاعل ومفعول به والميم علامة جمع الذكور والواو لإشباع الضمة ومن قبل متعلقان بطلقتموهن وأن تمسوهن المصدر المؤول مضاف لقبل ولمراد بالمس الجماع والفاء رابطة لجواب إذا وما نافية ولكم خبر مقدم وعليهن متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لعدة ومن حرف جر زائد وعدة مجرور لفظا مبتدأ محلا وجملة تعتدونها صفة لعدة وتعتدونها من العدد أي تستوفون عددها من قولك عد الدراهم فاعتدها. (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا) الفاء الفصيحة ومتعوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به وسرحوهن عطف على متعوهن وسراحا جميلا مفعول مطلق، وأحكام التمتيع مبسوطة في كتب الفقه فليرجع إليها من شاء هناك. والسراح الجميل الذي لا ضرر فيه.(8/33)
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ) كلام مستأنف مسوق لاختصاص النبي بالأطيب الأزكى بعد أن خيّر نساءه فاخترنه. وان واسمها وجملة أحللنا خبرها ولك متعلقان بأحللنا وأزواجك مفعول به واللاتي صفة وجملة آتيت صلة وأجورهن أي مهورهن مفعول به.
(وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ) وما عطف على أزواجك وجملة ملكت صلة ويمينك فاعل ملكت ومما حال مبينة لما ملكت وأفاء الله فعل وفاعل والفيء الغنيمة وعليك متعلقان بأفاء وسيأتي ما يزيد ذلك وضوحا في باب الفوائد. (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) عطف على ما تقدم واللاتي صفة وجملة هاجرن صلة ومعك ظرف متعلق بهاجرن وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهن كما قال تعالى: «فيهما فاكهة ونخل ورمان» (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) وامرأة معطوف على مفعول أحللنا أي وأحللنا لك امرأة وهبت نفسها لك بغير صداق اما غير المؤمنة فلا تحل له إذا وهبت نفسها منه، وإن شرطية ووهبت فعل الشرط ونفسها مفعول به وللنبي متعلقان بوهبت وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي أحللنا وإن شرطية مقيدة للأولى وأراد فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والنبي فاعل وأن يستنكحها مصدر مؤول مفعول أراد. والاستنكاح مثل النكاح يقال نكحها واستنكحها قال النابغة:
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر(8/34)
وهو في اللغة بمعنى الضم والجمع ومنه تناكحت الأشجار إذا تمايلت وانضم بعضها الى بعض. قال عمر بن أبي ربيعة:
واستنكح النوم الذين نخافهم ... ورمى الكرى بوّابهم فتجدلا
والجملة الشرطية الثانية في محل نصب حال لأن الحال قيد فإن هبتها نفسها منه لا توجب له حلها إلا بإرادته نكاحها نكاحها كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها لأن إرادته هي قبول وما به تتم. (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) مصدر مؤكد لفعل محذوف أي خلصت لك خالصة وقد ورد المصدر على هذه الزنة كالعاقبة والكاذبة، وفاعل المصدر مستتر تقديره النكاح بلفظ الهبة وأل عوض عن الضمير المحذوف أي خالصا لك نكاحها وعلى هذا الوجه اقتصر الزمخشري، واختار الزجاج وأبو البقاء أن تكون حالا من امرأة لأنها وضعت فتخصصت جريا على القاعدة المشهورة وقيل حال من فاعل وهبت أي حال كونها خالصة لك دون غيرك ولا يبعد أن تكون نعت مصدر مقدر أي هبة خالصة، ولك متعلقان بخالصة ومن دون المؤمنين حال. (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها وقد حرف تحقيق وعلمنا فعل وفاعل وما مفعول علمنا وجملة فرضنا صلة وعليهم متعلقان بفرضنا وفي أزواجهم حال وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت أيمانهم صلة، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أن الله قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة يجب أن يكون ففرضه كما علم اختصاص رسوله بما تتوفر فيه المصلحة فاختصه بذلك.(8/35)
(لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) لكيلا متعلقان بأحللنا أو بخالصة باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له وعليك خبر يكون المقدم وحرج اسمها المؤخر وكان واسمها وخبراها. (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) كلام مستأنف للشروع في بيان حكم معاشرته لنسائه بعد بيان حلهن له.
وترجي أي تؤخر فعل مضارع مرفوع وقرىء بالهمزة أي ترجىء والفاعل مستتر تقديره أنت ومن تشاء مفعول به ومنهن حال وتؤوي أي تضم عطف على ترجىء وإليك متعلقان بتؤوي ومن تشاء مفعوله أي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيّرا في أزواجه.
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) الواو استئنافية ومن يجوز أن تكون موصولة فهي في محل رفع مبتدأ وجملة ابتغيت صلة والعائد محذوف والفاء رابطة لما تقدم من أن في الموصول رائحة الشرط وجملة لا جناح عليك خبر من ويجوز أن تكون شرطية فهي في محل نصب مفعول مقدم لابتغيت وقوله فلا جناح عليك جوابها ولا نافية للجنس وجناح اسمها وعليك خبرها.
(ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ) ذلك مبتدأ والاشارة الى التخيير والتفويض الى مشيئته صلى الله عليه وسلم وأدنى خبر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي الى أن تقرّ وهو متعلق بأدنى وأعينهن فاعل تقر ولا يحزن عطف على تقر أي وأقرب الى قلة حزنهن وأقرب الى رضائهن جميعا لتسويته بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء فلم يكن بينهن ثمة تفاضل وتمايز. (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً) ويرضين عطف على ما تقدم وبما متعلقان بيرضين وجملة آتيتهن صلة وكلهن تأكيد(8/36)
للنون في يرضين والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول يعلم وفي قلوبكم متعلقان بمحذوف صلة ما أي استقر في قلوبكم وكان واسمها وخبراها. (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) كلام مستأنف مسوق لتبيان ما يحل له ولا نافية ويحل فعل مضارع مرفوع وبك متعلقان بيحل والنساء فاعل، ومن بعد حال وبني بعد على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا لا معنى والمعنى من بعد التسع المجتمعات في عصمتك وهن نصابه كما أن الأربع نصاب أمته، والواو عاطفة ولا نافية وأن تبدل مصدر مؤول معطوف على النساء ونائب فاعل تبدل مستتر تقديره أنت وبهن متعلقان بتبدل ومن حرف جر زائد وأزواج مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به، قال ابن زيد: هذا شيء كانت العرب تفعله يقول أحدهم: خذ زوجتي وأعطني زوجتك.
(وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) الواو للحال والجملة حالية من الضمير في تبدل أي مفروضا إعجابك بهن، ولو شرطية وأعجبك حسنهن فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر، قال ابن عطية: «وفي هذا اللفظ أعجبك حسنهن دليل على جواز أن ينظر الرجل الى من يريد زواجها» وإلا ما ملكت يمينك: في هذا الاستثناء وجهان أحدهما انه مستثنى من النساء فيجوز فيه وجهان النصب على الاستثناء والرفع على البدلية وهو الأرجح والثاني انه مستثنى من أزواج فيجوز فيه النصب على الاستثناء والجر على البدلية منهن على اللفظ أو النصب على المحل وجملة ملكت يمينك صلة ما وكان واسمها وخبرها وعلى كل شيء متعلقان برقيبا.(8/37)
البلاغة:
في قوله «يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ... إلخ» تسمية العقد نكاحا مجاز مرسل علاقته الملابسة من حيث أنه طريق إليه ونظيره تسميتهم الخمر إثما لأنها سبب في مقارفة الاسم.
وفي قوله تمسوهن كناية عن الوطء ومن آداب القرآن الكناية عن الوطء بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشي والإتيان.
وفي قوله «إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين» الالتفات من الغيبة الى الخطاب وقد تقدم بحث الالتفات مفصلا في أكثر من موضع، والسر في الالتفات هنا أنه رجوع الى أصل الكلام فقد صدر الكلام بمخاطبة النبي بقوله: يا أيها النبي إنا أحللنا لك إلخ ثم عدل عن الخطاب الى الغيبة في قوله إن أراد النبي أن يستنكحها للإيذان بأنه مما خص به وأوثر وأن هذا الاختصاص تكرمة له من أجل النبوة. وهذا من أسرار البيان فتنبه له.
الفوائد:
في قوله «لا يحل لك النساء من بعد» قلنا في باب الإعراب أن الظرف بني على الضم لانقطاعه عن الإضافة لفظا لا معنى، وأراد من بعد التسع اللواتي اخترنك واللواتي توفي عنهن وهن عائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وصفية بنت حيي بنت أخطب(8/38)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
الخيبرية وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجورية بنت الحارث الصطلقية، رضي الله عنهن والمعنى أن التسع في حقه كالأربع في حقنا.
[سورة الأحزاب (33) : آية 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53)
اللغة:
(إِناهُ) بكسر الهمزة وفتحها حلول الوقت والنضج وهو مصدر أنى يأني أي مصدر سماعي لأنه من باب رمى وقياس مصدره أني كرمي ولكنه لم يسمع ولكن المسموع إنى بالكسر والقصر بوزن رضا.(8/39)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان ما يجب على الناس من رعاية حقوق نساء النبي. ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا وبيوت النبي مفعول به على السعة. (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) إلا أداة حصر وأن يؤذن المصدر استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مأذونا لكم، واختار الزمخشري أن يكون استثناء مفرغا من أعم الظروف أي لا يدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم وليس اختياره ببعيد.
ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول ولكم متعلقان بيؤذن وكذلك قوله إلى طعام لتضمن يؤذن معنى الدعاء واختار السمين أيضا أن يكون المصدر في موضع نصب بنزع الخافض أي إلا بسبب الإذن لكم وتكون الباء للسببية، وغير ناظرين حال من لا تدخلوا وقع الاستثناء على الظرف والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وإناه أي نضجه فهو مفعول به لناظرين وهم قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه.
(وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مخفف مهمل وإذا ظرف مستقبل وجملة دعيتم في محل جر بإضافة الظرف إليها، فادخلوا الفاء رابطة وادخلوا فعل أمر وفاعل، فإذا الفاء عاطفة وجملة طعمتم مضاف إليها الظرف، فانتشروا جواب إذا، ولا مستأنسين الواو عاطفة(8/40)
ولا نافية ومستأنسين معطوف على غير ناظرين وقيل هو معطوف على حال مقدرة أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين واختار الزمخشري وغيره انه مجرور عطفا على ناظرين، ولحديث متعلقان بمستأنسين فاللام للعلة أي مستأنسين لأجل أن يحدث بعضكم بعضا ويجوز أن تكون لتقوية العامل أي ولا مستأنسين حديث أهل البيت وغيرهم.
(إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) الجملة تعليل للنهي وإنّ حرف مشبه بالفعل وذلكم اسمها وجملة كان يؤذي النبي خبرها والاشارة الى المكث واللبث وجملة يؤذي النبي خبر كان، فيستحيي عطف على يؤذي ومنكم متعلقان به ولا بد من تقدير مضاف أي من إخراجكم والواو حالية أو استئنافية والله مبتدأ وجملة لا يستحيي من الحق خبره والمراد بالحق الإخراج وسيأتي معنى هذا المثل في باب البلاغة. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة سألتموهن في محل جر بإضافة الظرف إليها فاسألوهن الفاء رابطة واسألوهن فعل أمر وفاعل ومفعول به ومتاعا مفعول به ثان لسأل ومن وراء حجاب متعلقان باسألوهن. (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) اسم الاشارة مبتدأ أي ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث وسؤال المتاع من وراء حجاب، وأطهر خبر ولقلوبكم متعلقان بأطهر وقلوبهن عطف على قلوبكم.
(وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) الواو استئنافية وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولكم خبرها المقدم وان وما في حيزها مصدر مؤول في محل رفع اسمها المؤخر ورسول الله مفعول به ولا أن تنكحوا عطف على أن تؤذوا(8/41)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
وأزواجه مفعول به ومن بعده حال وأبدا ظرف. (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً) إن واسمها والاشارة الى ما ذكر من إيذائه ونكاح أزواجه من بعده وجملة كان خبر إن واسم كان مستتر وعظيما خبر وعند الله متعلق بمحذوف حال.
البلاغة:
المجاز في قوله «والله لا يستحيي من الحق» وعلاقة هذا المجاز السببية لأن من استحيا من شيء تركه عادة والكلام جار مجرى المثل ليكون تأديبا يتعظ به الثقلاء، وما أجمل قول عائشة: «حسبك في الثقلاء أن الله تعالى لم يحتملهم» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 54 الى 56]
إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)
الإعراب:
(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) إن شرطية وتبدوا فعل الشرط والواو فاعل وشيئا مفعول به، أو(8/42)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
تخفوه عطف على تبدوا وهو فعل وفاعل ومفعول به، فإن الله الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وجملة كان خبرها وبكل شيء متعلقان بعليما وعليما خبر كان. (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ) لا نافية للجنس وجناح اسم لا وعليهن خبرها وفي آبائهن حال أي لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن من هؤلاء (وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) عطف على ما تقدم ومعنى قوله ولا نسائهن أي ولا جناح على زوجات النبي في عدم الاحتجاب عن نسائهن أي النساء المسلمات.
(وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) الواو عاطفة واتقين فعل أمر معطوف على محذوف أي امتثلن ما أمرتن به، واتقين الله على طريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة، ونون النسوة ولفظ الجلالة مفعول به وإن واسمها وجملة كان واسمها المستتر وخبرها في محل رفع خبر ان.
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) كلام مستأنف مسوق لتشريفه صلى الله عليه وسلم حيا وميتا. وان واسمها وملائكته عطف على الله وجملة يصلون على النبي خبر إن. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) تسليما مصدر مؤكد
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 57 الى 59]
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59)(8/43)
اللغة:
(جَلَابِيبِهِنَّ) : الجلابيب: الملاحف والواحد جلبات، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا:
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
وقال أبو الطيب:
من الجآذر في زي الأعاريب ... حمر الحلي والمطايا والجلابيب
وفي القاموس وغيره: «الجلباب والجلباب بتشديد الباء الأولى وهو القميص أو الثوب الواسع» وفي الكشاف: «الجلباب ثوب واسع أوسع من الخمار ودون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها» .
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) إن واسمها وجملة يؤذون الله ورسوله صلة ومعنى إيذاء الله ورسوله(8/44)
فعل ما يسخطهما وجملة لعنهم الله خبر إن وفي الدنيا والآخرة متعلقان بلعنهم. (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) عطف على جملة الخبر وعذابا مفعول أعد ولهم متعلقان بأعد. (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) الذين مبتدأ وجملة يؤذون المؤمنين والمؤمنات صلة وبغير متعلقان بيؤذون وما موصولة أو مصدرية وعلى كل فهي أو المصدر مضافان الى غير. (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وقد حرف تحقيق واحتملوا فعل وفاعل والجملة خبر الذين وبهتانا مفعول احتملوا وإثما عطف على بهتانا ومبينا صفة. (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف مسوق لأمر المستهدفات للأذى بفعل ما يبعد الأذى عنهن من التستر. ولأزواجك متعلقان بقل وما بعده عطف عليه.
(يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) جملة يدنين مقول القول محذوف يدل عليه جوابه أي قل لهن أرنيه ويحتمل أن يكون مجزوما بجواب الأمر وجوزوا أن يكون يدنين بمعنى ليدنين فهو مجزوم بلام الأمر ويكون هذا اهو المقول وقد تقدم في الرعد بحث نظيره مفصلا فارجع اليه. وعليهن حال ومن جلابيبهن متعلقان بيدنين على أنه مفعوله، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى من في جلابيبهن قلت هو للتبعيض إلا أن معنى التبعيض محتمل وجهين أحدهما أن يتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب والمراد أن لا تكون الحرة مبتذلة في درع وخمار كالأمة والماهنة ولها جلبابان فصاعدا في بيتها والثاني أن ترخي المرأة بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة» وقوله الماهنة مؤنث الماهن وهو الخادم. وذلك(8/45)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
مبتدأ وأدنى خبر وأن يعرفن المصدر المؤول نصب بنزع الخافض أي أقرب إلى أن يعرفن والفاء عاطفة ولا نافية ويعرفن فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة وهو معطوف على أن يعرفن.
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الواو عاطفة وكان واسمها وخبراها.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 63]
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63)
اللغة:
(الْمُرْجِفُونَ) : قال في الأساس: «وأرجفوا في المدينة بكذا إذا أخبروا به على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم. وهذا من أراجيف الغواة والإرجاف مقدمة الكون، وتقول:
إذا وقعت المخاويف كثرت الأراجيف» وجاء في غيره ما نصه:
«أرجف: خاص في الأخبار السيئة والفتن قصد أن يهيج الناس، وأرجف القوم بالشيء وفيه: خاضوا فيه، وأرجفت الريح الشجر:
حركته، وأرجفت الأرض بالبناء للمجهول: زلزلت، وأصل الإرجاف(8/46)
التحريك مأخوذ من الرجفة وهي الزلزلة ووصفت به الأخبار الكاذبة لكونها متزلزلة غير ثابتة» .
وسمي البحر رجافا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر:
المطعون اللحم كلّ عشية ... حتى تغيب الشمس في الرّجاف
(مَلْعُونِينَ) : قال في الأساس واللسان: «لعنه أهله: طردوه وأبعدوه وهو لعين طريد وقد لعن الله إبليس: طرده من الجنة وأبعده من جوار الملائكة، ولعنت الكلب والذئب: طردتهما ويقال للذئب:
اللعين ولعنّه وهو ملعّن: مكثّر لعنه، وتلاعن القوم وتلعّنوا والتعنوا والتعن فلان: لعن نفسه ورجل لعنة ولعنة كضحكة وضحكة، ولا تكن لعّانا: طعّانا، ولاعن امرأته ولا عن القاضي بينهما، ووقع بينهما اللعان وتلاعنا والتعنا، ومن المجاز: أبيت اللعن وهي تحية الملوك في الجاهلية أي لا فعلت ما يستوجب به اللعن وفلان ملعّن القدر، قال زهير:
ومرهّق النيران يحمد في اللأ ... واء غير ملعّن القدر
ونصب اللعين في مزرعته وهو الفزّاعة، والشجرة الملعونة:
كل من ذاقها لعنها وكرهها» .
(ثُقِفُوا) : وجدوا وأدركوا وفي الأساس: «وطلبناه فثقفناه في مكان كذا أي أدركناه وثقفت العلم أو الصناعة في أوحى مدة: إذا أسرعت أخذه وغلام ثقف لقف وثقف لقف وقد ثقف ثقافة وثاقفة مثاقفة: لاعبه بالسلاح وهي محاولة أخذ الغرّة في المسايفة(8/47)
وغيرها وفلان من أهل المثاقفة وهو مثاقف: حسن الثّقافة بالسيف بالكسر ولقد تثاقفوا فكان فلان أثقفهم، وخلّ ثقيف وثقّيف وفي كتاب العين: ثقيف وقد ثقف ثقافة ومن المجاز: أدّبه وثقّفه ولولا تثقيفك وتوقيفك لما كنت شيئا وهل تهذبت وتثقفت إلا على يدك» وعبارة القاموس: «ثقف ككرم وفرح ثقفا وثقفا وثقافة صار حاذقا خفيفا فطنا فهو ثقف كحبر وكتف وأمير» .
الإعراب:
(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وينته فعل مضارع مجزوم بلم وهو بمثابة فعل الشرط والمنافقون فاعله والذين عطف على المنافقون وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة الموصول. (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) والمرجفون عطف أيضا فاستوفى به الأوصاف الثلاثة لشيء واحد فقد كانوا اقساما ثلاثة فمنهم المنافقون وأهل الفجور مرضى القلوب والمرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله أو هو عام في كل إرجاف وتأليف لأخبار السوء. وفي المدينة متعلقان بالمرجفون واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم ونغرينك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبهم متعلقان بنغرينك.
(ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وإنما أوثر حرف العطف الدال على التراخي لأن الجلاء عن(8/48)
الأوطان كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه، وفيه إشارة الى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر على حسب الاجتهاد. ولا نافية ويجاورونك فعل مضارع معطوف على نغرينك فهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله والكاف مفعوله وفيها متعلقان بمحذوف حال وإلا أداة حصر وقليلا ظرف زمان متعلق بيجاورونك أو مصدر- أي إلا جوارا- أي زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويلتقطون أنفسهم وعيالاتهم. (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) ملعونين حال من مقدر حذف هو وعامله أي ثم يخرجون أو من فاعل يجاورونك وقد دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معا كما في قوله «إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه» وقال الزمخشري:
«ولا يصح أن ينتصب عن أخذوا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها وقيل في قليلا هو منصوب على الحال أيضا ومعناه لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين» وأجاز الكسائي والفراء أن ينتصب عن أخذوا لأنهما يجيزان تقديم معمول الجواب على أداة الشرط نحو: خيرا إن تأتيني تصب. وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بأخذوا أي بجوابه وثقفوا فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط وأخذوا فعل ماض مبني للمجهول أيضا وهو جواب الشرط وقتلوا فعل ماض مبني للمجهول وتقتيلا مفعول مطلق.
(سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) سنة الله في موضع نصب على المصدرية أي أنه مصدر مؤكد أي سن(8/49)
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
الله في الذين ينافقون أن يقتلوا حيثما ثقفوا، وفي الذين حال وجملة خلوا صلة ومن قبل متعلقان بخلوا ولن الواو عاطفة ولك أن تجعلها حالية ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنة الله متعلقان بتبديلا وتبديلا مفعول به. (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) كلام مستأنف مسوق لحكاية حال المستهزئين من المشركين واليهود الذين كانوا يسألون النبي عن الساعة استعجالا بطريق الاستهزاء. ويسألك فعل مضارع ومفعول به مقدم والناس فاعل وعن الساعة متعلقان بيسألك. (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ) إنما كافة ومكفوفة وعلمها مبتدأ وعند الله ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر.
(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) الواو عاطفة وما اسم استفهام للانكار مبتدأ وجملة يدريك خبره ولعل واسمها وجملة تكون خبرها والجملة معلقة بالاستفهام فهي في محل نصب مفعول ثان وقريبا خبر تكون على أن الموصوف محذوف أي شيئا قريبا، وقل قريبا كثر استعماله استعمال الظروف فهو هنا ظرف في موضع الخبر، وقد أشار الزمخشري الى الوجهين بقوله «قريبا شيئا قريبا أو لأن الساعة في معنى اليوم أو في زمان قريب» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 64 الى 68]
إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)(8/50)
اللغة:
(سادَتَنا) : جمع تكسير على وزن فعلة بفتحتين وهو شائع في وصف لمذكر عاقل صحيح اللام نحو كامل وكملة وساحر وسحرة وسافر وسفرة وبار وبررة، قال الله تعالى: «وجاء السحرة» «بأيدي سفرة، كرام بررة» فخرج بالوصف الاسم نحو واد وباز، وبالتذكير نحو حائض وطالق، وبالعقل نحو سابق ولا حق صفتي فرسين وبصحة اللام نحو قاض وغاز فلا يجمع شيء من ذلك على فعلة بفتحتين باطراد وشذّ في غير فاعل نحو سيد وسادة فوزنها فعلة، ويجوز أن يكون جمعا لسائد نحو فاجر وفجرة وكافر وكفرة وهو أقرب الى القياس كما رأيت، على أن صاحب القاموس لم يلتزم بالقاعدة فقال: «والسائد السيد أو دونه والجمع سادة وسيايد وقرأ ابن عامر ساداتنا فجمعه ثانيا بالألف والتاء وهو غير مقيس أيضا» .
الإعراب:
(إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) إن واسمها وجملة لعن الكافرين خبرها وأعد عطف على لعن ولهم متعلقان بأعدّ وسعيرا مفعول به والسعير النار المسعورة الشديدة الإيقاد ولذلك أعاد الضمير(8/51)
عليها مؤنثة. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) حال من الكافرين وفيها متعلقان بخالدين وأبدا ظرف زمان متعلق بخالدين أيضا وجملة لا يجدون حال ثانية ووليا مفعول يجدون ولا نصيرا عطف على وليا. (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) يوم ظرف زمان متعلق بيقولون أو متعلق بمحذوف تقديره اذكر وعلقه أبو البقاء بقوله لا يجدون أو بنصيرا وجملة تقلب في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو فعل مضارع مبني للمجهول ووجوههم نائب فاعل وفي النار متعلقان بتقلب وجملة يقولون إما مستأنفة وإما حالية من ضمير وجوههم أو من نفس الوجوه وسيأتي في باب البلاغة سر تخصيص الوجوه ومعن تقليبها، ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وليت واسمها وجملة أطعنا الله خبرها وأطعنا الرسولا عطف على أطعنا الله.
(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) كلام مستأنف مسوق لامتهاد العذر لأنفسهم ولك أن تعطفه على يقولون على طريق العدول عن المضارع الى الماضي للدلالة على أن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب من الاعتذار غير الوارد وغير المقبول. وربنا منادى مضاف وإن واسمها وجملة أطعنا سادتنا وكبراءنا خبرها، فأضلونا عطف على أطعنا وأضلونا فعل ماض وفاعل ومفعول به أول والسبيلا مفعول به ثان يقال ضل السبيل وأضله إياه وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر وفائدتها الوقف والاشارة الى أن الكلام قد انقطع وأن وما بعده مستأنف. (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) آتهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به أول وضعفين مفعول به ثان ومن(8/52)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
العذاب صفة لضعفين والعنهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ولعنا مفعول مطلق وكبيرا نعت للعنا.
البلاغة:
في قوله «يوم تقلب وجوههم في النار» تخصيص الوجوه بالذكر لإنافة الوجه على جميع الأعضاء وهو مثابة المقابلة، ومعنى تقليبها تصريفها في الجهات المختلفة كاللحم يشوى في النار أو توضع في ماء القدر وهو يغلي فيترامى بها الغليان الى كل جانب.
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)(8/53)
اللغة:
(وَجِيهاً) : الوجيه: سيد القوم ذو الجاه والوجاهة يقال وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه.
(سَدِيداً) : صوابا، يقال سدّ يسدّ من باب ضرب صار سديدا والسداد بفتح السين: القصد الى الحق والقول بالعدل أما السداد بالكسر فكل شيء سددت به شيئا وذلك مثل سداد القارورة وسداد الثغر، وجاء في أخبار النحويين أن النضر بن شميل المازني استفاد بإفادة هذا الحرف ثمانين ألف درهم قال: كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلة وعليّ قميص مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين بهذه الخلقان؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحرّ مرو شديد فأبترد بهذه الخلقان.
قال: لا ولكنك قشف، ثم أجرينا الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج الرجل الزوجة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز فأورده بفتح السين. قال: فقلت صدق يا أمير المؤمنين هشيم، حدثنا عوف بن أبي جميلة عن الحسن عن علي ابن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز. قال: وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا وقال: يا نضر كيف قلت سداد؟ قلت: لأن السّداد هنا لحن. قال: أو تلحنني؟ قلت: إنما لحن هشيم وكان لحّانة فتبع أمير المؤمنين لفظه. قال فما الفرق بينهما؟ قلت: السداد(8/54)
بالفتح القصد في الدين والسبيل وبالكسر البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سدادة قال: أو تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم هذا العرجي يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له وأطرق مليا ثم قال:
ما مالك يا نضر؟ قلت: أريضة لي بمرو أتمزّزها، قال: أفلا نفيدك مالا معها؟ قلت: إني الى ذلك لمحتاج، قال: فأخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال: كيف تقول إذا أمرت أن يترب؟: أترب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب، قال: فمن الطين؟ قلت: طنه، قال:
فهو ماذا؟ قلت: مطين، قال: هذه أحسن من الأولى ثم قال: يا غلام أتربه وطنه. ثم صلى بنا العشاء وقال لخادمه: تبلغ معه الى الفضل ابن سهل. قال: فلما قرأ الفضل الكتاب قال يا نضر إن أمير المؤمنين قد أمر لك بخمسين ألف درهم ثم أمر لي الفضل بثلاثين ألف فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني هذا وقد نظم بعضهم هذا الفرق بين الفتح والكسر مع ذكر الضم بقوله:
والاستقامة هي السّد ... وبلغة من عيش السّداد
وجمع سدّة أتى سداد ... وهي زكام مانع للنشر
وقال في القاموس: السّداد: داء في الأنف يمنع تنشم الريح.
(أَشْفَقْنَ) : خفن.(8/55)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) لا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها وكالذين خبرها على أن الكاف اسم بمعنى مثل والذين مضاف إليه ويجوز أن تكون جارة والجار والمجرور خبر تكونوا وجملة آذوا موسى صلة قيل انهم قرفوه بعيب في جسده من برص أو أدرة وسيأتي حديث مسلم بهذا الصدد في باب الفوائد. (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً) الفاء عاطفة وبرأه الله فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومما: يجوز أن تكون ما موصولة أو مصدرية أي من الذي قالوه أو من قولهم وعلى كل هو متعلق ببراءة والواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو يعود على موسى وعند الله متعلق بوجيها ووجيها خبر كان. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعوله وقولوا فعل أمر وفاعل وقولا مفعول مطلق وسديدا نعت.
(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) جزم يصلح جوابا للطلب ولكم متعلقان بيصلح وأعمالكم مفعول به وجملة ويغفر لكم ذنوبكم عطف على الجملة السابقة. (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويطع الله فعل الشرط، فقد الفاء رابطة للجواب لاقترانه بقد وفاز فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على من وفوزا مفعول مطلق وعظيما نعت والجملة في محل جزم جواب الشرط. (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) كلام مستأنف مسوق للتنويه بشأن(8/56)
الأمانة وتفخيم أمرها وسيأتي مزيد بسط فيها في باب البلاغة، وان واسمها وجملة عرضنا خبرها والأمانة مفعول عرضنا وعلى السموات متعلقان بعرضنا وما بعده عطف على السموات. (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) الفاء عاطفة وأبين فعل ماض وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أبين وأشفقن عطف على أبين ومنها متعلقان بأشفقن.
(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا) الواو عاطفة وحملها فعل ماض ومفعول به مقدم والإنسان فاعل مؤخر وإن واسمها وجملة كان خبرها وظلوما خبرها الأول وجهولا خبرها الثاني.
(لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) اللام متعلقة بحملها وقيل بعرضنا فاللام للتعليل على طريق المجاز لأن التعذيب نتيجة حمل الأمانة ويعذب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والله فاعل والمنافقين مفعول به وما بعده عطف عليه.
(وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) ويتوب الله عطف على يعذب الله وعلى المؤمنين متعلقان بيتوب والمؤمنات عطف على المؤمنين وكان واسمها وخبراها.
البلاغة:
التمثيل:
في قوله «إنا عرضنا الأمانة على السموات إلخ» فن التمثيل والمراد بالأمانة الطاعة عامة ولا مجال لتخصيصها، وعرضها على السموات والأرض والجبال تمثيل فهي استعارة تمثيلية وقد سبق القول فيها، ولكن عبد القاهر جعل فرقا بين الاستعارة والتمثيل فهو يفرق(8/57)
أول ما يفرق بينهما بأن الاستعارة تكون في لفظ ينقل عن أصله اللغوي ويجري على ما لم يوضع له من أجل شبه ما نقل اليه وما نقل عنه فإذا قلت رأيت أسدا تريد به الرجل الشجاع كانت الاستعارة في كلمة الأسد، أما التمثيل فهو التشبيه المنتزع من مجموع أمور لا تحصل إلا بجملة من الكلام أو أكثر وقد تجد الألفاظ في الجمل التي يعقد منها جارية على أصولها وحقائقها في اللغة، هذا ويقوم التمثيل هنا على ما هو متخيل في الذهن فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم فالمشبه به إذن غير معقول ولكنك تتخيل حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها، والأمانة التي هي الطاعات كأنها راكبة للمؤمن وهو حاملها ألا تراهم يقولون: ركبته الديون ولي عليه حق فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها، ونحوه قولهم لا يملك مولى لمولى نصرا يريدون أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل على حد قول القطامي وقيل ذي الرمة.
أخوك الذي لا تملك الحس نفسه ... وترفض عند المحفظات الكتائف
أي لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده بل يبذل ذلك ويسمح به، وحسّ له حسا رقّ وعطف والحس أيضا العقل والتدبير والنظر في العواقب والارفضاض من الترشرش والتناثر.
واحفظه إحفاظا فالمحفظات المغضبات والكتائف جمع كتيفة وهي الضغينة والسخيمة والحقد. يقول: هو أخوك الذي لا تملك نفسه(8/58)
الرحمة بل يبذلها لك أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأني كي يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك لأنها تغضبه أيضا.
الفوائد:
هذه الآيات نزلت في شأن زيد وزينب وما راج فيه من قالة الناس وما أرجف به بعض المرجفين، وقيل في أذى موسى أقوال شتى، روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم الى سوءة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا: والله ما منع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر، قال: فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجعل موسى عليه السلام يعدو أثره يقول ثوبي حجر، ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل الى سوءة موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظروا إليه قال: فأخذ ثوبه فاستتر به وطفق بالحجر ضربا. قال أبو هريرة: والله إن به ندبا ستة أو سبعة من ضرب موسى، وفي القاموس: «الندبة أثر الجرح الباقي على الجلد والجمع ندب مثل شجرة وشجر وأنداب وندوب» والأدرة بضم الهمزة وسكون الدال المهملة وراء مفتوحة مرض تنتفخ منه الخصيتان وتكبران جدا لانصباب مادة أو ريح غليظ فيهما ورجل آدر بالمد كآدم به أدره.(8/59)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
(34) سورة سبإ مكيّة وآياتها اربع وخمسون
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)(8/60)
اللغة:
(يَعْزُبُ:) في المصباح: «وعزب الشيء من بابي قتل وضرب غاب وخفي» وفي الأساس: «يقال: عزب عنه حلمه وأعزب حلمه كقولك أضل بعيره وأعزب الله عقلك وروض عازب وعزيب ومال عزب وجشر ولا يكون الكلأ العازب إلا بفلاة حيث لا زرع، وفلان معزاب ومعزابة لمن عزب بإبله، ويقال عزب ظهر المرأة إذا أغابت، ومن المستعار قول النابغة:
وصدر أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الحزن من كل جانب
ولك أن تقول امرأة عزبة والمعزابة الذي طالت عزوبته وتمادت ويقال ليس لفلان امرأة تعذبه أي تذهب بعزوبته» وفي القاموس:
«العزب محركة من لا أهل له كالمعزابة والعزيب ولا تقل أعزب أو قليل جمعه أعزاب وهي عزبة وعزب والاسم العزبة والعزوبة بضمتين والفعل كنصر وتعزّب ترك النكاح والعزوب الغيبة يعزب ويعزب والذهاب» ومن غريب أمر العين والزاي أنهما إذا كانتا فاء وعينا للكلمة دلت على معنى الذهاب والبعد والانفراد والغلبة وفي الحديث: من قرأ القرآن في أربعين ليلة فقد عزّب أي أبعد العهد بأوله. وعز الرجل صار عزيزا أي أبعد عن غيره بصفاته حتى سما عليهم وعز الشيء قلّ فكاد لا يوجد وعز عليّ أن أسوءك أي اشتد وغلب وتقول للرجل: أتحبني؟ فيقول لعزّما ولشدّما واستعزّ به المرض أي غلب واشتد. وتعزز لحم الناقة اشتد وصلب «فعززنا بثالث»(8/61)
أي قوينا وعزّز بهم أي شدد عليهم ولم يرخّص ومنه حديث عمر رضي الله عنه: أن قوما اشتركوا في صيد فقالوا له: أعلى كلّ واحد منا جزاء أم جزاء واحد؟ فقال: إنه لمعزّز بكم إذن بل عليكم جزاء واحد. وعزف عن الشيء عافه وزهد فيه والعزف صوت الرياح وصوت الدف تقول: فلان ألهاه ضرب المعازف عن ضروب المعازف، وسلكت مفازة فيها للجن عزيف. وعزله يعزله من باب ضرب عن كذا نحاه عنه وعزل فلانا عن منصبه: نحاه عنه وصرفه وتقول: مالي أراك في معزل عن أصحابك؟ وأنا بمعزل عن هذا الأمر واعتزلت الباطل وتعزلته قال الأحوص:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل
وأعوذ بالله من الأعزل على الأعزل أي من الرجل الذي لا سلاح معه على الفرس المعوج العسيب فهو يميل ذنبه الى شق قال امرؤ القيس:
ضليع إذا استدبرته سدّ فرجه ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
واعتزم الفرس في عنانه إذا مرّ جامحا لا ينثني، قال:
سبوح إذا اعتزمت في العنان ... مروح ململمة كالحجر
وعزمت على الأمر واعتزمت عليه ولا يكون ذلك إلا عن شدة وغلبة وهو عزهاة عن اللهو والنساء إذا لم يردهنّ وابتعد عنهنّ، قال:(8/62)
إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبا ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وعزا الشيء أو فلانا الى فلان نسبه ورفعه إليه، وإن فلانا ليعزى الى الخير ويعتزي اليه وهذا الحديث يعزى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيتهم حوله عزين أي جماعات. وهذا من أسرار لغتنا الشريفة.
(رِجْزٍ) : بكسر الراء وضمها العذاب أو سيئه والإثم والذنب والقذر.
الإعراب:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الحمد مبتدأ ولله خبره والذي نعت وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) الواو عاطفة وله خبر مقدم والحمد مبتدأ مؤخر وفي الآخرة حال وهو مبتدأ والحكيم خبر أول والخبير خبر ثان. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) لك أن تجعلها جملة خبرية فتكون خبرا ثالثا لهو كأنها تفصيل لبعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور المتعلقة بمصالح العباد الدينية والدنيوية ولك أن تجعلها حالا مؤكدة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم. ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى وما مفعول به وجملة يلج صلة وفي الأرض متعلقان بيلج وما يخرج عطف على ما يلج في الأرض. (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ(8/63)
وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)
عطف على ما تقدم وضمن العروج معنى الاستقرار فعدّاه بفي دون إلى. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولا نافية وتأتينا الساعة فعل مضارع ومفعول به وفاعل وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبلى حرف جواب لاثبات النفي أي ليس الأمر إلا إتيانها وربي: الواو حرف قسم وجر وربي مجرور بواو القسم، أكد إيجاب النفي بما هو الغاية في التأكيد والتشديد وهو القسم بالله عز وجل واللام جواب للقسم وتأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والكاف مفعول به وهو تأكيد ثالث.
(عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) عالم صفة لربي أو بدل ويجوز أن يرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ وخبره جملة لا يعزب وقد قرىء بهما وجملة لا يعزب إما خبر أو حال وعنه متعلقان بيعزب ومثقال ذرة فاعل وفي السموات حال ولا في الأرض عطف على في السموات. (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة ولا نافية وأصغر من ذلك مبتدأ ومن ذلك خبر ولا أكبر عطف على ولا أصغر وإلا أداة حصر وفي كتاب مبين خبر أصغر ولك أن تنسق الكلام فتعطف ولا أصغر على مثقال ويكون في كتاب في محل نصب على الحال والأول أولى. (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ليجزي اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجارّ والمجرور متعلقان بتأتينكم كأنه علة وبيان لما يقتضيه إتيانها أو بقوله لا يعزب فكأنه قال يحصي ذلك ليجزي والذين مفعول به وجملة آمنوا(8/64)
صلة الذين وعملوا الصالحات عطف على آمنوا وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة.
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) الواو إما عاطفة فيكون الذين منسوقا على ما قبله أي ويجزي الذين سعوا ويجوز أن تكون استئنافية فيكون الذين مبتدأ وجملة سعوا صلة وفي آياتنا متعلقان بسعوا على تقدير مضاف أي في إبطال آياتنا بالطعن فيها أو وصفها بالسحر والشعر وغير ذلك ومعاجزين حال، قال الراغب: «أصل معنى العجز التأخر لكون المتأخر خلف عجز السابق أو عنده ثم تعورف فيما هو معروف ظاهرا فالمراد هنا بالمعاجزة التأخر المسبوق بتقدم السابق ومعنى المفاعلة غير مقصود هنا إذ المقصود السبق وعدم قدرة غيرهم عليهم لغلبتهم وذلك كله بناء على مزاعمهم الفاسدة وأهوائهم المتخيلة. وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية مستأنفة على الوجه الأول أو خبر الذين على الوجه الثاني ومن رجز صفة لعذاب وأليم صفة ثانية. (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) ويرى في موضع الرفع على أنه مستأنف أو في موضع النصب فهو منسوق على يجزي والذين فاعل يرى وجملة أوتوا العلم صلة والذي مفعول يرى الأول لأنها قلبية وجملة أنزل صلة وإليك متعلقان بأنزل ومن ربك حال أو متعلقان بأنزل أيضا وهو ضمير فصل لا محل له والحق هو المفعول الثاني ليرى.
(وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ويهدي عطف على الحق وساغ العطف لأن الفعل في تأويل الاسم كأنه قيل وهاديا ولك أن(8/65)
تجعل الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة وفاعل يهدي ضمير مستتر يعود على الذي أنزل إليك وإلى صراط متعلقان بيهدي والعزيز مضاف الى صراط والحميد نعت.
البلاغة:
1- في قوله «الحمد لله» التعبير بالجملة الاسمية يفيد الاستمرار والثبوت، والحمد لغة الوصف بالجميل الاختياري على قصد التعظيم، والوصف لا يكون إلا باللسان فيكون مورده خاصا، وهذا الوصف يجوز أن يكون بإزاء نعمة وغيرها فيكون متعلقه عاما، والشكر اللغوي على العكس لكونه فعلا ينبىء عن تعظيم المنعم من حيث أنه منعم على الشاكر فيكون مورده اللسان والجنان والأركان ومتعلقه النعمة الواصلة الى الشاكر فكل منهما أعم وأخص من الآخر بوجه، ففي الفضائل حمد فقط وفي أفعال القلب والجوارح شكر فقط وفي فعل اللسان بإزاء الانعام حمد وشكر.
2- شكر المنعم واجب أم لا:
قال الأشاعرة: شكر المنعم ليس بواجب أصلا ومثلوها بتمثيل فقالوا: ليس مثله إلا كمثل الفقير حضر مائدة ملك عظيم يملك البلاد شرقا وغربا، ويعم البلاد وهبا ونهبا، فتصدق عليه بلقمة خبز فطفق يذكره في المجامع ويشكره عليها بتحريك أنملته دائما لأجله فإنه يعد استهزاء بالملك فكذا هنا بل اللقمة بالنسبة الى الملك وما يملكه أكثر مما أنعم الله به على العبد بالنسبة الى الله، وشكر العبد أقل قدرا في جنب الله من شكر الفقير بتحريك أصابعه. وقالت المعتزلة: التمثيل(8/66)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
المناسب للحال أن يقال: إذا كان في زاوية الخمول وهاوية الذهول رجل أخرس اللسان مشلول اليدين والرجلين فاقد السمع والبصر بل جميع الحواس الظاهرة والمشاعر الباطنة فأخرجه الملك من تلك الهاوية وتلطف عليه بإطلاق لسانه وإزالة شلل أعضائه ووهب له الحواس لجلب المنافع ودفع المضار ورفع رتبته على كثير من أتباعه وخدمه ثم إن ذلك الرجل بعد وصول تلك النعم الجليلة اليه وفيضان تلك التكريمات عليه طوى عن شكر ذلك الملك كشحا وضرب عنه صفحا ولم يظهر منه ما ينبىء عن الاعتناء بشيء من غير فرق بين وجودها وعدمها فلا ريب أنه مذموم بكل لسان، مستحق للإهانة والخذلان.
[سورة سبإ (34) : الآيات 7 الى 9]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) الواو استئنافية وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة أي قال بعضهم لبعض وهل حرف استفهام وندلكم فعل مضارع وفاعل(8/67)
مستتر ومفعول به وعلى رجل متعلقان بندلكم والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، وسيأتي سر تنكيره في باب البلاغة، وجملة ينبئكم صفة لرجل وإذا ظرف مستقبل متعلق بمحذوف تقديره تبعثون أو تحشرون خلفا جديدا ولا يجوز تعليقه بينبئكم لأن التنبئة لم تقع ذلك الوقت ولا بمزقتم لأنه مضاف اليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا بجديد لأن إن ولام الابتداء يمنعان من ذلك لأن لهما الصدر، وأيضا فالصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف ولا يسوغ أن يقال قدرها خالية من معنى الشرط فتغني عن جوابها وتكون معمولة لما قبلها وهو قال أو ندلكم أو ينبئكم لأن هذه الأفعال لم تقع وقت التمزيق فلا تكون إذا ظرفا لها إذ لا يقال لهم بعد تمزيقهم وإنما وقعت حال حياتهم، وكان الرجل من الكفار يقول لأصحابه استهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم: هل أدلكم على رجل ... إلخ. ومزقتم فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وكل ممزق مفعول مطلق لأن كلّا بحسب ما تضاف إليه وقد أضيفت الى ممزق وهو مصدر ميمي بمعنى تمزيق، وأجاز الزمخشري أن يكون اسم مكان قال: «فإن قلت قد جعلت الممزق مصدرا كبيت الكتاب:
ألم تعلم مسرحي القوافي ... فلا عيابهن ولا اجتلابا
فهل يجوز أن يكون مكانا؟ قلت نعم ومعناه ما حصل في بطون الطير وما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب وما سفته الريح فطرحته في كل مطرح» وعلى هذا يكون كل ظرف مكان. (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) إن وما بعدها سدت مسد مفعولي ينبئكم وإنما كسرت همزتها لدخول اللام المزحلقة في خبرها وان واسمها واللام المزحلقة(8/68)
المؤكدة وفي خلق خبر إن وجديد صفة خلق وهو فعيل بمعنى فاعل وقيل بمعنى مفعول. (أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) الهمزة للاستفهام واستغنى بها عن همزة الوصل في التوصل للنطق بالساكن وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول افترى وأم حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام وبه خبر مقدم وجنة مبتدأ مؤخر أي جنون.
(بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) بل حرف عطف وإضراب والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وفي العذاب خبر المبتدأ والضلال عطف على العذاب والبعيد نعت للضلال وسيأتي معنى هذا النعت في باب البلاغة.
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه وقالوه والهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف يقدر بحسب المقام أي أعموا فلم يروا أو أن الهمزة مقدمة على حرف العطف وقد تقدم تقرير هذا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والى ما متعلقان بيروا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديهم مضاف إليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم ومن السماء حال والأرض عطف على السماء.
(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) إن شرطية ونشأ فعل الشرط ونخسف جوابه وبهم متعلقان بنخسف والأرض مفعول به وأو حرف عطف ونسقط عطف على نخسف وعليهم متعلقان بنسقط وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا.(8/69)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر ولكل عبد صفة لآية ومنيب صفة لعبد.
البلاغة:
المجاز العقلي في قوله «والضلال البعيد» لأن البعد وصف الضال إذا بعد عن الجادة المستقيمة وكلما أوغل في البعد عنها أوغل في الضلال.
[سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 13]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)(8/70)
اللغة:
(أَوِّبِي) : فعل أمر من التأويب والأوب أي رجعي معه التسبيح أو راجعي معه في التسبيح لأنه إذا رجعه فقد رجع فيه.
(سابِغاتٍ) : دروعا واسعة ضافية.
(وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) : السرد نسج الدرع قال في الأساس:
«سرد النعل وغيرها خرزها، قال الشماخ يصف حمرا:
شككنا باحساء الذناب على هوى ... كما تابعت سرد العنان الخوارز
أي تتابعن على هوى الماء. وثقب الجلد بالمسرد والسّراد وهو الأشفى الذي في طرفه خرق وسرد الدرع إذا شك طرفي كل حلقتين وسمرهما ودرع مسرودة ولبوس مسرّد» وقال أبو الطيب يصف قميصه:
مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودة من حديد
المسرودة المنسوجة من الحديد وهي الدروع. ومعنى التقدير في السرد أي لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتفصم الحلق والمراد جعل السرد على قدر الحاجة، وذهب الخطيب في تفسيره مذهبا طريفا قال: «قوله تعالى: وقدر في السرد أي انك غير مأمور به أمر إيجاب وإنما هو اكتساب والكسب يكون بقدر الحاجة وباقي الأيام(8/71)
والليالي للعبادة فقدر في ذلك العمل ولا تشتغل جميع أوقاتك بالكسب بل حصل فيه القوت فحسب» ولكن سياق الحديث يبعد هذا التأويل لأنه في صدد الحديث عن الدروع ونسجها وأحكامها وتقدير صنعها.
وفي المختار: «سرد الدرع أي نسجها وهو إدخال الحلق بعضها في بعض يقال سرد الدرع سردا من باب نصر» .
(غُدُوُّها) : سيرها غدوة وهي ما بين الفجر وطلوع الشمس، يقال: غدا يغدو غدوا ذهب غدوة ويستعمل بمعنى صار فيرفع المبتدأ وينصب الخبر.
(رَواحُها) : سيرها في الرواح أي العشي.
(الْقِطْرِ) : بكسر القاف النحاس المذاب وسيأتي سر تسميته بعين القطر في باب البلاغة.
(مَحارِيبَ) : المحاريب: المساكن والابنية الشريفة المصونة عن الابتذال سميت محاريب لأنه يذب عنها ويحارب عليها ثم نقل الى الطاق التي يقف الامام فيها وهي مما أحدث في المساجد والمفرد محراب.
(تَماثِيلَ) : جمع تمثال وهو الصورة المصوّرة أو هو ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق الله من ذوات الروح والصورة، روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما.
(جِفانٍ) : جمع جفنة وهي القصعة الكبيرة.(8/72)
(كَالْجَوابِ) جمع جابية وهي الحوض الكبير وسمي جابية لأن الماء يجبى فيه أي بجمع، قال الأعشى يمدح المحلق:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق
الجفنة قصعة الثريد والجابية الحوض يجبي الماء أي يجمعه الى الحوض والسيح الماء الكثير الجاري وفهق يفهق كفرح يفرح اتسح وامتلأ حتى يتصبب، قيل كان يقعد على الجفنة ألف رجل.
(قُدُورٍ راسِياتٍ) : القدور جمع قدر بكسر القاف وهو إناء يطبخ فيه، وراسيات ثابتات لها قوائم لا تتحرك عن أماكنها.
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا داود فعل ماض وفاعل ومفعول به ومنا متعلقان بآتينا أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لفضلا وفضلا مفعول به ثان. (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جملة النداء معمول قول محذوف أي وقلنا، وأجاز الزمخشري أن تكون بدلا من فضلا ويا حرف نداء وجبال منادى نكرة مقصودة وأوّبي فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل ومعه ظرف مكان متعلق بأوّبي والطير عطف على محل جبال وهو النصب وقرىء بالرفع عطفا على اللفظ وسيأتي حكم المنسوق على المنادى في باب الفوائد، وألنّا عطف على آتينا وألنّا فعل ماض وفاعل وله(8/73)
متعلقان بألنّا والحديد مفعول به. (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) أن مصدرية مؤولة بما بعدها بمصدر منصوب بنزع الخافض أي لأن أعمل واختار أبو البقاء أن تكون مفسرة وتبعه الجلال وهذا مردود لأن شرط أن المفسرة أن يتقدم عليها ما هو بمعنى القول دون حروفه وقدر بعضهم فعلا فيه معنى القول فقال: التقدير أمرناه أن اعمل، وسابغات صفة لمفعول به محذوف أي دروعا سابغات، والسابغات الكوامل الواسعات، وقدر فعل أمر وفي السرد متعلقان بقدر.
(وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) واعملوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وصالحا مفعول به أو صفة لمفعول مطلق محذوف أي عملوا عملا صالحا وإن واسمها وبما تعملون متعلقان ببصير وبصير خبر إن. (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) الواو عاطفة ولسليمان متعلقان بالفعل المحذوف أي وسخرنا لسليمان الريح فالريح مفعول للفعل المحذوف وذلك على قراءة النصب وعلى قراءة الرفع هي مبتدأ مؤخر ولسليمان خبر مقدم وجملة غدوها شهر المؤلفة من المبتدأ والخبر حال من الريح وقيل هي مستأنفة وجملة ورواحها شهر عطف عليها. (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) عطف على سخرنا المقدرة وأسلنا فعل ماض وفاعل وله متعلقان بأسلنا وعين القطر مفعول به. (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) لك أن تعلق من الجن بفعل مقدر تقديره وسخرنا له فتكون من مفعولا به للفعل المقدر ولك أن تجعل الجار والمجرور خبرا مقدما فتكون مبتدأ مؤخرا وجملة يعمل صلة وبين يديه الظرف متعلق بيعمل وبإذن ربه متعلقان بمحذوف حال. (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ)(8/74)
الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويزغ فعل الشرط ومنهم حال وعن أمرنا متعلقان بيزغ ونذقه فعل الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ ومن عذاب السعير متعلقان بنذقه.
(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) الجملة بدل من يعمل لتفصيل ما ذكر من عملهم وله متعلقان بيعملون وما مفعول به وجملة يشاء صلة ومن محاريب في موضع الحال من مفعول يشاء المحذوف أي يشاؤه ومنعت محاريب من الصرف لأنها جمع على صيغة منتهى الجموع وتماثيل عطف على محاريب وجفان عطف أيضا وكالجواب صفة لجفان وحذفت ياء الجواب في خط القرآن وقدور راسيات عطف أيضا. (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) كلام مستأنف مسوق للمنة على آل داود واعملوا فعل أمر وفاعل وآل داود منادى محذوف منه حرف النداء وشكرا مفعول لأجله أي لأجل الشكر وقيل مصدر من معنى اعملوا كأنه قيل اشكروا شكرا أو على الحال أي شاكرين وأجاز الزمخشري أن ينتصب باعملوا مفعولا به ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا على طريق المشاكلة والواو حالية وقليل خبر مقدم والشكور مبتدأ مؤخر ومن عبادي صفة لقليل.
الفوائد:
لتابع المنادى أقسام أربعة:
1- ما يجب نصبه مراعاة لمحل المنادى وهو ما اجتمع فيه أمران أحدهما أن يكون التابع نعتا أو بيانا أو توكيدا، والثاني أن يكون التابع مضافا مجردا من ال.(8/75)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
2- ما يجب رفعه مراعاة للفظ المنادى وهو تابع أي وتابع اسم الاشارة.
3- ما يجوز رفعه ونصبه وهو نوعان أحدهما النعت المضاف المقرون بأل، والثاني ما كان مفردا من نعت أو بيان أو توكيد أو كان معطوفا مقرونا بأل ومنه الآية التي نحن بصددها.
4- ما يعطي تابعا ما يستحقه إذا كان منادى مستقلا وهو البدل والمنسوق المجرد من أل فيضم ان كان مفردا وينصب ان كان مضافا.
[سورة سبإ (34) : آية 14]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
اللغة:
(مِنْسَأَتَهُ) : المنسأة مفعلة اسم آلة وهي العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر كالمكنسة والمكسحة والمقعصة وقرأ نافع وأبو عمرو وجماعة منساته بألف.
الإعراب:
(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) الفاء استئنافية ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجملة قضينا مضاف إليها الظرف على الوجه الأول ونا فاعل(8/76)
وعليه متعلقان بقضينا والموت مفعول به وما نافية ودلهم فعل ماض ومفعول به وعلى موته متعلقان بدلهم وإلا أداة حصر ودابة الأرض فاعل دلهم والجملة لا محل لها لأنها جواب لما على الوجهين ودابة الأرض هي الدويبة التي يقال لها السرقة فأضيفت إليه يقال أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة وجملة تأكل منسأته حال من دابة الأرض. (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) الفاء عاطفة ولما تقدم القول فيها قريبا وخرّ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على سليمان وجملة تبينت الجن جواب لما لا محل لها وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولو شرطية وجملة كانوا خبر أن وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجن على حد قولك تبين زيد جهله، وقدره أبو البقاء بدلا من محذوف أي تبين أمر الجن وهو أنهم لو كانوا يعلمون الغيب، وأجاز أيضا أن يكون موضع أن وصلتها النصب أي تبينت الجن جهلها ولا مانع من هذين التقديرين، وجملة يعلمون الغيب خبر كانوا وجملة ما لبثوا لا محل لها لأنها جواب لو وفي العذاب متعلقان بلبثوا والمهين صفة للعذاب.
الفوائد:
أفاض المفسرون في الحديث عن قصة وفاة سليمان مما يخرج بنا عن نطاق كتابنا ولكننا نورد بعضا مما قيل في دابة الأرض لعلاقته باللغة، ويتلخص مما أوردوه أن فيها وجهين: أظهرهما ما قدمناه في باب البلاغة من أنها الدويبة التي تأكل الخشب وفي القاموس والتاج:
«والدابة ما دبّ من الحيوان وغلب على ما يركب ويقع على المذكر، ودابة الأرض من أشراط الساعة أو أولها تخرج بمكة من جبل الصفا(8/77)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
ينصدع لها والناس سائرون الى منى أو من الطائف أو بثلاثة أمكنة ثلاث مرات معها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام تضرب المؤمن بالعصا وتطبع وجه الكافر بالخاتم فينتقش فيه هذا كافر» والثاني أن الأرض مصدر قولك أرضت الدابة الخشبة تأرضها أرضا بفتح عين المصدر وقد قرأ بها ابن عباس والعباس ابن الفضل وقد تقدم البحث في حركة عين فعل الثلاثي فجدد به عهدا.
[سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 19]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
اللغة:
(الْعَرِمِ) : لم نجد كلمة اختلف فيها المفسرون كهذه الكلمة(8/78)
ولذلك، سنورد ما نختاره من أقوال ثم نعمد الى الترجيح بينها ونبدأ بما ذكره صاحب القاموس قال في مادة عرام: «عرام الجيش حدتهم وشدتهم وكثرتهم ومن العظم والشجر العراق وما سقط من قشر العوسج ومن الرجل الشراسة والأذى، عرم كنصر وضرب وكرم وعلم عرامة وعراما بالضم فهو عارم وعرم اشتد والصبي علينا أشر ومرح أو بطر أو فسد ويوم عارم نهاية في البرد وعرم العظم نزع ما عليه من لحم كتعرّمه والصبي أمه رضعها والإبل الشجر نالت منه وفلانا أصابه بعرام وعرم العظم كفرح فتر والعرم محركة والعرمة بالضم سواد مختلط ببياض في أي شيء كان أو هو تنقيط بهما من غير أن تتسع كل نقطة وبياض بمرمة الشاة وهو أعرم وهي عرماء وبيض القطا عرم والعرماء الحية الرّقشاء والأعرم المتلون والأبرش والقطيع من ضأن ومعزى والأقلف والجمع عرمان وجمع الجمع عرامين والعرمة محركة رائحة الطبيخ والكدس المدوس لم يذرّ ومجتمع الرمل وأرض صلبة تتاخم الدّهناء ويقابلها عارض اليمامة وكفرحه سد يعترض به الوادي والجمع عرم أو هو جمع بلا واحد أو هو الأحباس تبنى في الأودية والجرذ الذكر والمطر الشديد وواد وبكل فسر قوله تعالى: سيل العرم» واختار الجلال أن يكون العرم جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره الى وقت حاجته وهذا ما نعبر عنه اليوم بالسدود وهو أولى ما تفسر به الآية وقد يحدث تصدع السدود وانهيارها بأسباب مختلفة.
(ذَواتا) : مثنى ذوات أو ذات ولفظ ذوات مفرد لأن أصله ذوية فالواو عين الكلمة والياء لامها لأنه مؤنث ذو وذو أصله ذوى فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا فصار ذوات ثم حذفت(8/79)
الواو تخفيفا فعندما يراد تثنيته يجوز أن ينظر للفظه فيقال ذاتان ويجوز أن ينظر الى أصله فيقال ذواتان.
هذا وذات مؤنث ذو ومثناها ذواتان والجمع ذوات ويعرب المؤنث والمثنى والجمع إعراب نظيره من الأسماء المفردة والمثناة والمجموعة، يقال لقيته ذات يوم أو ذات ليلة أو ذات مرة أي يوما ما ومرة ما، وكان ذلك ذات العويم أي السنة الماضية وجلس ذات اليمين أي عن اليمين ولقيته أول ذات يدين أي بادىء بدء وذات الصدر الفكر أو السر وذات اليمين أي جهتها وذات البين: الحال يقال أصلحوا ذات بينكم أي حالكم التي تجتمعون عليها وذات شفة كلمة يقال: كلمته فماردّ عليّ ذات شفة وذات اليد ما تملكه يقال: قلّت ذات يده أي ما ملكت يده ويقال ألقت الدجاجة ذات بطنها أي باضت أو سلحت وذات الجنب عند الأطباء: التهاب يحدث في غلاف الرئة فيحدث منه سعال وحمى ونخس في الجنب وذات الرئة وذات الصدر وذات الكبد علل فيها، والذات أيضا: ما يصلح لأن يعلم ويخبر عنه وذات الشيء: نفسه وعينه وجوهره واسم الذات عند النحاة ما علق على ذات كالرجل والأسد ويقابله اسم المعنى كالعلم والشجاعة، والذوات عند المولدين:
أكابر القوم.
(أُكُلٍ خَمْطٍ) : الأكل بضمتين وبضم فسكون الثمر أو ما يؤكل والخمط المر والحامض يقال خمر خمطة: حامضة ولبن خامض:
قارص متغير وفي المختار: «الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل» وعن أبي عبيدة: «كل شجر ذي شوك» وقال الزجاج: «كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله» .
(أَثْلٍ) : الأثلة: السمرة وقيل شجر من العضاه طويلة(8/80)
مستقيمة الخشبة تعمل منها القصاع والأقداح فوقعت مجازا في قولهم:
نحت أثلته إذا تنقّصه، وفلان لا تنحت أثلته، قال الأعشى:
ألست منتهيا عن نحت أثلتنا ... ولست ضائرها ما أطّت الإبل
ولفلان أثلة مال أي أصل مال ثم قالوا أثّلت مالا وتأثلته وشرف مؤثّل وأثيل.
(سِدْرٍ) : السدر: شجر النبق يطيب أكله ولذا يغرس في البساتين وقيل ان السدر صنفان صنف يؤكل ثمره وينتفع بورقه في غسل الأيدي وصنف له ثمرة غضة لا تؤكل أصلا وهو الضال.
الإعراب:
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكان فعل ماض ناقص ولسبأ خبرها المقدم وفي مسكنهم حال من سبأ أي حال كونهم في مسكنهم وآية اسم كان المؤخر وقد تقدم القول مفصلا في سبأ في سورة النمل فجدد به عهدا.
(جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) جنتان بدل من آية أو خبر لمبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان وعن يمين وشمال صفة لجنتان ويبدو أن في بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا مظروفة لهما. (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) الجملة مقول قول محذوف أي وقيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال وكلوا فعل أمر وفاعل والمراد بهذا الأمر الإباحة ومن رزق ربكم متعلقان بكلوا وبلدة خبر لمبتدأ محذوف يعني هذه البلدة بلدة طيبة وطيبة صفة ورب غفور عطف على ما تقدم أي وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور.
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) الفاء عاطفة وأعرضوا فعل ماض(8/81)
وفاعل ومتعلقه محذوف أي عن شكره فأرسلنا عطف على فأعرضوا وعليهم متعلقان بأرسلنا وسيل العرم مفعول به.
(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) وبدلناهم الواو عاطفة وبدلناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وبجنتهم متعلقان ببدلناهم وجنتين مفعول به ثان وذواتى صفة وأكل مضاف إليه وخمط صفة كأنه قيل أكل بشع وقرىء بالإضافة وعبارة أبي البقاء: «أكل خمط: يقرأ بالتنوين والتقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف لأن الخمط شجر والأكل ثمره وقيل التقدير أكل ذي خمط وقيل هو بدل منه وجعل خمط أكلا لمجاورته إياه وكونه سببا له ويقرأ بالإضافة وهو ظاهر» وأثل عطف على أكل وشيء عطف أيضا ومن سدر صفة لشيء وقليل صفة ثانية. (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ذلك مفعول ثان لجزيناهم مقدم عليه لأنه ينصب مفعولين أي جزيناهم ذلك التبديل وجزيناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وبما متعلقان بجزيناهم والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب صبرهم وهل حرف استفهام بمنى النفي ونجازي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا أداة حصر والكفور مفعول به.
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل وبينهم الظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وبين القرى عطف على بينهم والتي صفة للقرى وجملة باركنا فيها صلة للموصول وقرى مفعول به أول وظاهرة نعت والجملة معطوفة على ما قبلها عطف قصة على قصة فقد ذكر أولا ما أسبغ(8/82)
عليهم من نعمة الجنتين ثم تبديلهما بما سلف ذكره ثم جعل بلادهم متفاصلة متشتتة بعد أن كانت متواصلة ملمومة الشمل. (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) وقدرنا الواو عاطفة وقدرنا فعل ماض وفاعل وفيها متعلقان بقدرنا أو بالسير والسير مفعول به وجملة سيروا في محل نصب مقول قول محذوف وفيها متعلقان بسيروا وليالي وأياما ظرفان متعلقان بسيروا أيضا وآمنين حال ولم يتوجه معنا إعراب القرطبي لليالي وأياما فقد قال أنهما منصوبان على الحال وسيأتي سر تنكيرهما في باب البلاغة. (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الفاء عاطفة وقالوا فعل وفاعل وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وباعد فعل أمر وبين ظرف متعلق بباعد وأسفارنا مضاف إليه وظلموا عطف على فقالوا وأنفسهم مفعول وذلك لأنهم بطروا وبشموا من طيب العيش وبلهنة الحال فطلبوا الكد والتعب والتنقل في البلاد، فجعلناهم عطف على ظلموا أنفسهم وأحاديث مفعول به ثان لجعلناهم.
(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ومزقناهم عطف أيضا وكل ممزق نائب مفعول مطلق أي فرقناهم تفريقا لا التئام بعده. قال الشعبي «فلحقت الأنصار بيثرب وغسان بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة فكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول تفرقوا أيادي سبأ وقد تقدم معنى هذا المثل وإعرابه في النمل فجدد به عهدا. وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولكل صبار صفة لآيات وشكور صفة لصبار.(8/83)
البلاغة:
1- المشاكلة:
في قوله «جنتين» فن المشاكلة وقد تقدم أنه ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته فقد سمى البدل جنتين للمشاكلة وفيه نوع من التهكم بهم، قال أبو تمام:
والدهر ألأم من شرقت بلؤمه ... إلا إذا أشرقته بكريم
أي اقتصرت عليه بكريم فقال أشرقته مشاكلة.
2- التنكير:
وفي تنكير ليالي وأياما إلماع إلى قصر أسفارهم فقد كانت قصيرة لأنهم يرتعون في بحبوحة من العيش ورغد منه لا يحتاجون إلى مواصلة الكد وتجشم عناء الأسفار للحصول على ما يرفه عيشهم.
3- التذييل:
وفي قوله: «ذلك جزيناهم» الآية فن التذييل وقد تقدم بحثه أيضا وهو قسمان الأول ما جرى مجرى المثل وقد تقدم بحثه أيضا، والثاني ما لم يخرج مخرج المثل وهو أن تكون الجملة الثانية متوفقة على الأولى في إفادة المراد أي وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص، ومضمون الجملة الأولى أن آل سبأ جزاهم الله تعالى بكفرهم ومضمون الثانية أن ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور وفرق بين قولنا(8/84)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
جزيته بسبب كذا وبين قولنا ولا يجزى ذلك الجزاء إلا من كان بذلك السبب ولتغايرهما يصح أن يجعل الثاني علة للأول ولكن اختلاف مفهومهما لا ينافي تأكيد أحدهما بالآخر للزوم معنى.
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 22]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
الإعراب:
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة على ما تقدم أو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وصدق فعل ماض وعليهم متعلقان بصدق وإبليس فاعله وظنه مفعوله كأنه ظن فيهم أمرا وواعده نفسه فصدقه وقرىء صدق بالتخفيف على المعنى نفسه فيكون ظنه منصوبا بنزع الخافض ويصح أن يكون مفعولا به أيضا، وقرىء بنصب إبليس على المفعولية ورفع ظنه على الفاعلية وقرىء برفعهما معا على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس، فاتبعوه الفاء عاطفة واتبعوه فعل ماض وفاعل ومفعول به،(8/85)
ويجوز أن يكون الكلام خاصا فالضمير يعود على أهل سبأ وأن يكون عاما فالضمير يعود على بني آدم، وإلا أداة استثناء وفريقا مستثنى يجوز أن يكون منقطعا ويجوز أن يكون متصلا ومن المؤمنين صفة لفريقا. (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص وله خبرها المقدم وعليهم حال لأنه كان في الأصل نعت لسلطان ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا اسم ليس المؤخر محلا.
(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) إلا أداة حصر واللام للتعليل وقيل للعاقبة والاستثناء مفرغ من أعم العلل فهو في محل نصب مفعول لأجله ونعلم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، ومن يجوز أن تكون استفهامية فتسد مسد مفعولي العلم وتكون في محل رفع مبتدأ وجملة يؤمن بالآخرة خبر، ويجوز أن تكون موصولة في محل نصب مفعول نعلم وهذا أرجح وجملة يؤمن صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمن وممن جار ومجرور متعلقان بنعلم لأنه متضمن معنى نميز وهو مبتدأ ومنها حال لأنه كان في الأصل صفة لشك وفي شك خبر والجملة صلة. (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) وربك مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بحفيظ وحفيظ خبر ربك. (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قل فعل أمر مبني على السكون وحرك بالكسر للتخلص من التقاء الساكنين وجملة ادعوا الذين مقول القول وجملة زعمتم صلة ومن دون الله صفة للمفعول الثاني المحذوف والمفعول الأول محذوف أيضا تقديره زعمتوهم آلهة فحذف الأول لطول الموصول بصلته وحذف الثاني لقيام صفته، أعني من دون الله مقامه. وهذا من أعجب الكلام وأوكده ونحن ننقل لك عبارة الزمخشري بنصها في هذا(8/86)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
الصدد قال: «فإن قلت أين مفعولا زعم؟ قلت: أحدهما الضمير المحذوف الراجع منه الى الموصول وأما الثاني فلا يخلو إما أن يكون من دون الله أو لا يملكون أو محذوفا فلا يصح الأول لأن قولك هم من دون الله لا يلتئم كلاما ولا الثاني لأنهم ما كانوا يزعمون ذلك فكيف يتكلمون بما هو حجة عليهم وبما لو قالوه قالوا ما هو حق وتوحيد فبقي أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون الله فحذف الراجع الى الموصول كما حذف في قوله: أهذا الذي بعث الله رسولا استخفافا لطول الموصول بصلته وحذف آلهة لأنه موصوف صفته من دون الله والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوما فإذن مفعولا زعم محذوفان جميعا بسببين مختلفين» .
(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الجملة حال من الذين زعمتموهم آلهة ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لبيان حالهم ولا نافية ويملكون فعل مضارع وفاعل ومثقال ذرة مفعول به وفي السموات والأرض متعلقان بيملكون أو بمحذوف حال. (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم وفيهما حال ومن حرف جر زائد وشرك مجرورا لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ مؤخر أو اسم ما على رأي من يجيز تقدم خبرها على اسمها والواو عاطفة أيضا وما نافية وله خبر مقدم ومنهم حال ومن ظهير مبتدأ مؤخر كما تقدم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 23 الى 27]
وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)(8/87)
اللغة:
(فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) : بالبناء للمجهول وفزّع عنه بالتشديد أذهب عنه الفزع والفزع بفتحتين: الذعر والمخافة والإغاثة، وفي الأساس:
«وفزع عن قلبه: كشف الفزع عنه» فالتضعيف هنا للسلب كما يقال:
قرّدت البعير أي أزلت قراده.
الإعراب:
(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) الكلام مستأنف مسوق لبيان المصير الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين إلا لمن سبق القلم بالإذن له. ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل وعنده ظرف متعلق بتنفع أو بمحذوف حال وإلا أداة حصر ولمن متعلقان بالشفاعة إذ يقال شفعت له أو بتنفع، وللزمخشري بحث لطيف في متعلق هذه اللام نورده بنصه قال: «تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع كما تقول:
الكرم لزيد وعلى معنى أنه المشفوع له كما تقول: القيام لزيد فاحتمل(8/88)
قوله: ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يكون على أحد هذين الوجهين أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك أذن لزيد لعمرو أي لأجله وكأنه قيل: إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيف وهو الوجه» وأذن فعل ماض مبني للمعلوم والفاعل مستتر يعود على الله وله متعلقان بأذن وقرىء أذن بالبناء للمجهول.
(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حتى حرف غاية وجر والغاية لمحذوف يفهم من سياق الكلام كأنه قيل يتربصون ويتوفقون حائرين مشدوهين وجلين تتفارسهم المخاوف وتتقاذفهم الشكوك أيؤذن لهم أم لا حتى إذا فزع. وفزع بالبناء للمجهول ونائب الفاعل هو الجار والمجرور أي عن قلوبهم وقرىء بالبناء للمعلوم فيتعلق الجار والمجرور به أي فزع الله عن قلوبهم. (قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قالوا جواب إذا وما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر والجملة مقول قال مقدم عليه وقال ربكم فعل وفاعل والجملة مقول قالوا الأولى وقالوا فعل وفاعل والحق منصوب بقول مقدر أي قال ربنا القول الحق ولك أن تعرب القول مفعولا مطلقا أو مفعولا به والحق صفة وهو مبتدأ والعلي خبر أول والكبير خبر ثان وهو تتمة كلام الشفعاء. (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) قل فعل أمر والفاعل مستتر يعود على الرسول تبكيتا للمشركين وإلزاما لهم بالاعتراف بالعجز ومن اسم استفهام مبتدأ وجملة يرزقكم خبر ومن السموات متعلقان يرزقكم والأرض عطف على السموات وقل فعل أمر والله مبتدأ خبره محذوف أي الله يرزقنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله.(8/89)
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الواو عاطفة وان واسمها أو إياكم ضمير منفصل معطوف على اسم إن واللام المزحلقة وعلى هدى خبر إن وأو حرف عطف على بابها عند البصريين وليست للشك وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب في باب البلاغة أو في ضلال عطف على قوله لعلى هدى ومبين صفة. (قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لا نافية وتسألون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعما متعلقان بتسألون وما موصولة أو مصدرية وأجرمنا فعل وفاعل ولا نسأل عما تعملون عطف على لا تسألون عما أجرمنا وسيأتي المزيد من بحثه أيضا في باب البلاغة. (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) جملة يجمع مقول القول وبيننا ظرف متعلق بيجمع وربنا فاعل يجمع ثم يفتح بيننا عطف على ما تقدم وبالحق حال وهو مبتدأ والفتاح خبر أول والعليم خبر ثان.
(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أروني فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به أول لأن الرؤية علمية متعدية قبل النقل الى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثة، والذين اسم موصول مفعول به ثان لأروني وجملة ألحقتم صلة والعائد محذوف أي ألحقتموهم وهو المفعول الثاني وبه متعلقان بألحقتم وشركاء مفعول به ثالث لأروني ويجوز أن تكون الرؤية بصرية متعدية قبل النقل الى واحد فلما جيء بهمزة النقل تعدت لاثنين أولهما ياء المتكلم والثاني الموصول وشركاء نصب على الحال من العائد المحذوف أي بصروني الملحقين به حال كونهم شركاء وسيأتي معنى الأمر هنا في باب البلاغة.
(كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كلا حرف ردع وزجر وبل حرف إضراب وهو ضمير الشأن مبتدأ والله مبتدأ ثان والعزيز الحكيم خبراه(8/90)
والجملة خبر هو، ولك أن تجعل هو ضميرا عائدا على الله وتعربه مبتدأ خبره الله والعزيز الحكيم صفتان.
البلاغة:
حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة نوجزها فيما يلي:
1- الفرائد:
في قوله «حتى إذا فزع عن قلوبهم» فن طريف يسمى فن الفرائد وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد وهي الجوهرة التي لا نظير لها بحيث لو سقطت من الكلام لم يسدّ غيرها مسدها وقد مرت نماذج منها، وفي لفظة فزع عن قلوبهم من غرابة الفصاحة ما لا مزيد عليه. ومن شواهد هذا الفن في الشعر قول أبي تمام:
ومعترك للشوق أهدى به الهوى ... إلى ذي الهوى نجل العيون ربائبا
فالفريدة في لفظة معترك وقد اقتبسها الشيخ عمر بن الفارض فقال:
ما بين معترك الأحداق والمهج ... أنا القتيل بلا إثم ولا حرج(8/91)
2- الاستدراج:
في قوله: «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» وهو فن يعتبر من البلاغة محورها الذي تدور عليه لأنه يستدرج الخصم ويضطره الى الإذعان والتسليم والعزوف عن المكابرة واللجاج فإنه لما ألزمهم الحجة خاطبهم بالكلام المنصف الذي يقول من سمعه للمخاطب به قد أنصفك صاحبك ونحوه قول الرجل لصاحبه:
مني ومنك وإن أحدنا لكاذب، ومنه قول الشاعر حسان بن ثابت:
أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما الفداء
وهو من قصيدة طويلة يهجو بها أبا سفيان قبل إسلامه والهمزة للاستفهام التوبيخي والواو حال أي لا ينبغي ذلك وشر وخير من قبيل أفعل التفضيل واختصا بحذف همزتهما تخفيفا لكثرة استعمالهما لكن المراد بهما هنا أصل الوصف لا الزيادة فيه والشر أبو سفيان والجملة دعائية دعا عليه بأن يكون فداء لرسول الله وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الإنصاف في الكلام ولذلك لما سمعه الحاضرون قالوا: هذا أنصف بيت قالته العرب.
3- المخالفة في الحروف:
وفي هذه الآية مخالفة بين حرفي الجر فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء وصاحب الباطل كأنه.(8/92)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلمّا يراعى مثله في الكلام وكثيرا ما سمعنا إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور فيقول له: أنت على ضلالك القديم كما أعهدك فيأتي بعلى في موضع في، وإن كان هذا جائزا إلا أن استعمال «في» هنا أولى لما أشرنا إليه والاستعارة التصريحية واضحة وقد تقدمت في غير هذا الموضع.
4- معنى الأمر:
قوله «أروني» أمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه إظهار لخطئهم واطلاعهم على بطلان رأيهم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 33]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)(8/93)
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو استئنافية وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر وكافة حال من الكاف في أرسلناك أو من الناس أي للناس كافة على رأي من يجيز تقدم الحال على الجار والمجرور، أو صفة لمصدر محذوف أي إرسالة كافة للناس وسيأتي المزيد من بحث «كافة» في باب الفوائد وهو بحث ممتع. وللناس صفة لكافة أو بكافة وبشيرا ونذيرا حالان من الكاف ولكن حرف مشبه بالفعل وأكثر الناس اسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية وهذا الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وصادقين خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله. (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) لكم خبر مقدم وميعاد يوم مبتدأ مؤخر وهو مصدر مضاف إلى الظرف وجملة لا تستأخرون صفة ليوم أو لميعاد وعنه متعلقان بتستأخرون وساعة ظرف متعلق بتستأخرون أيضا ولا تستقدمون عطف على لا تستأخرون.(8/94)
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) قال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن فعل مضارع منصوب بلن والجملة مقول القول وبهذا متعلقان بنؤمن والقرآن بدل ولا بالذي عطف على بهذا القرآن وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة للذي ويديه مضاف الى الظرف والمراد بما بين يدي القرآن ما تقدمه من كتب الله عز وجل. (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) لو شرطية وترى فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنت وهو فعل الشرط والجواب محذوف أي لرأيت العجب العجاب أو لرأيت حالا مذهلة وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري والظالمون مبتدأ وموقوفون خبر أي محبوسون جمع موقوف اسم مفعول من وقف الثلاثي المتعدي فقد جاء في المصباح ما يلي: «وقفت الدابة تقف وقفا ووقوفا سكنت ووقفتها أنا يتعدى ولا يتعدى ووقفت الرجل عن الشيء وقفا منعته عنه» وعند ربهم ظرف متعلق بموقوفون وجملة يرجع حال من ضمير موقوفون وبعضهم فاعل والى بعض متعلقان بيرجع والقول مفعول به ليرجع لأنه يتعدى (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) جملة يقول مفسرة ليرجع فلا محل لها والذين فاعل يقول وجملة استضعفوا صلة وللذين متعلقان بيقول وجملة استكبروا صلة.
(لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) لولا حرف امتناع لوجود وأنتم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي موجودون واللام رابطة لجواب لولا وجملة كنا مؤمنين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكان واسمها ومؤمنين خبرها. (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) قال(8/95)
الذين فعل وفاعل وجملة استكبروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة استضعفوا صلة وهو بالبناء للمجهول والجملة مستأنفة. (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري كأنهم أنكروا أن يكونوا هم الذين ارتكبوا جريرة صدهم عن الإيمان. ونحن مبتدأ وجملة صددناكم خبر وعن الهدى متعلقان بصددناكم وبعد ظرف متلعق بمحذوف حال لوقوعه بعد المعرفة وإذ ظرف أضيف الى مثله توسعا في الظروف وقيل: إذ بمعنى أن المصدرية وهو مفهوم تفسير الزمخشري وجملة جاءكم في محل جر بإضافة الظرف إليها وبل حرف إضراب وعطف وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها ومجرمين خبرها. (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) تقدم إعرابها وأثبتت حرف العطف هنا بينما حذفها في الجملة الآنفة لأنه كلام آخر للمستضعفين (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بل حرف إضراب ومكر الليل مبتدأ خبره محذوف أي مكر الليل والنهار، صدنا أو خبر لمبتدأ محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار، وإضافة المكر الى الليل والنهار من باب الاسناد المجازي وقد تقدمت له نظائر فهو مصدر مضاف لمرفوعه وقال الزمخشري: «ومعنى مكر الليل والنهار مكر كم في الليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر اليه أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي» وأصل المكر في كلام العرب: الخديعة والحيلة.
(إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) الظرف متعلق بمكر وجملة تأمروننا في محل جر بإضافة الظرف إليها وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض متعلق بتأمروننا ونجعل عطف على نكفر وله حال لأنه كان في الأصل صفة لأندادا وأندادا مفعول به ويجوز(8/96)
أن يكون الجار والمجرور مفعول نجعل الثاني وأندادا مفعول نجعل الأول. (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) الواو حالية أو استئنافية وأسروا فعل وفاعل والندامة مفعول به والضمير راجع الى الفريقين أي أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة ولما ظرفية حينية متعلقة بأسروا وجملة رأوا في محل جر بإضافة الظرف إليها والعذاب مفعول به. (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل والأغلال مفعول جعلنا الأول وفي أعناق الذين كفروا مفعوله الثاني والكلام من باب القلب والأصل وجعلنا أعناق الذين كفروا في الأغلال. (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) الجملة حال من الذين كفروا وهل حرف استفهام والاستفهام بمعنى النفي ويجزون فعل مضارع مبني للمجهول ونائب فاعل وإلا أداة حصر وما مفعول يجزون الثاني وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا.
الفوائد:
الأصل في الحال أن تتأخر عن صاحبها، وقد تتقدم عليه جوازا نحو: جاء راكبا علي، ومنه قول طرفة بن العبد:
فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الربيع وديمة تهمي
وقد تتقدم عليه وجوبا في موضعين:
1- أن يكون صاحبها نكرة غير مستوفية للشروط نحو:
لعليّ مهذبا غلام وقول الشاعر:(8/97)
لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل
وقول الآخر:
وفي الجسم مني بينا لو علمته ... شحوب وإن تستشهدي العين تشهد
2- أن يكون محصورا فيها نحو: ما جاء ناجحا إلا عليّ وإنما جاء ناجحا علي تقول ذلك إذا أردت أن تحصر المجيء بحالة النجاح في علي.
وتتأخر عنه وجوبا في ثلاثة مواضع:
1- أن تكون هي المحصورة نحو ما جاء خالد إلا ناجحا وإنما جاء خالد ناجحا تقول ذلك إذا أردت أن تحصر مجيء خالد في حالة النجاح ومنه قوله تعالى «وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين» .
2- أن يكون صاحبها مجرورا بالاضافة نحو يعجبني وقوف علي خطيبا، وسرني عملك مخلصا، أما المجرور بحرف جر أصلي فقد منع الجمهور تقديم الحال عليه فلا يقال مررت راكبا بعلي وأخذت عاثرا بيد خليل. وأجاز الفارسي وابن كيسان وابن جني وغيرهم التقديم، قال ابن مالك والتقديم هو الصحيح لوروده في الفصيح كقوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس» فكافة حال من المجرور وهو الناس وقد تقدم على صاحبه المجرور، ونحو قول الشاعر:(8/98)
تسليت طرا عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي
وقال المانعون والحق أن هذا البيت ضرورة أو طرا حال من عنكم محذوفة مدلولا عليها بعنكم المذكورة وان كافة في الآية حال من الكاف في أرسلناك وأن التاء للمبالغة لا للتأنيث قاله الزجاج وردّه ابن مالك بأن إلحاق التاء للمبالغة مقصور على السماع ولا يتأتى غالبا إلا في أبنية المبالغة كعلاقة، وكافة خلاف ذلك.
هذا ولزيادة الفائدة نورد أقوالا لبعض الأعلام في صدد إعراب كافة قال الزمخشري «ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم نرى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يكتفي به حتى يضم اليه أن يجعل اللام بمعنى إلى فيرتكب الخطأين معا» .
وقال أبو علي: «وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به وإذا جاز تقديمها على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجوز» .
وقال الفيروز بادي صاحب القاموس: «وجاء الناس كافة أي كلهم ولا يقال جاءت الكافة لأنه لا يدخلها أل ووهم الجوهري، ولا تضاف» . واستدرك عليه شارحه فقال في تاج العروس ما ملخصه:
«عبارة الجوهري: الكافة الجميع من الناس يقال لقيتهم كافة أي كلهم. وهذا كما ترى لا وهم فيه لأن النكرة، إذا أريد لفظها جاز تعريفها وما ذكره المصنف هو الذي أطبق عليه الجمهور وأورده(8/99)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
النووي في التهذيب وعاب على الفقهاء استعماله بأل أو الاضافة قال شيخنا: ويدل على أن الجوهري لم يرد ما قصده المصنف أنه إنما مثل بما هو موافق للجمهور على أن قولهم ذلك رده الشهاب في شرح الدرة وصحح انه يقال وإن كان قليلا» هذا وقد أطال الشهاب الخفاجي في تصحيح إدخال أل على كافة وإضافتها وقال شارح اللباب:
انه استعمل مجرورا واستدل له بقول عمر بن الخطاب: «قد جعلت لآل بني كاهلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مئتي مثقال ذهبا إبريرا» .
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 37]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم. وما أرسلنا فعل وفاعل وفي قرية(8/100)
متعلقان بأرسلنا ومن حرف جر زائد ونذير مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وإلا أداة حصر وجملة قال مترفوها حال من قرية وإن كانت نكرة لوقوعها في سياق النفي ومترفوها فاعل قال أي المتنعمون فيها. (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) الجملة مقول قولهم، وإن واسمها وبما متعلقان بكافرون وما موصولة وجملة أرسلتم صلة وأرسلتم بالبناء للمجهول والتاء نائب فاعل وبه متعلقان بأرسلتم وكافرون خبر إن والتقدير إننا كافرون بالذي أرسلتم به. (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ونحن مبتدأ وأكثر خبر وأموالا تمييز وأولادا عطف على أموالا وما حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إن واسمها وجملة يبسط الرزق خبرها ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط ومعناه يضيقه، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها ومفعول يعلمون محذوف أي وجه الحكمة في ذلك فهو يبسط الرزق للعاصي بطريق الاستدراج والإملاء ويقدره على المطيع بطريق الاختبار والابتلاء.
(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) الواو عاطفة أو استئنافية وما حجازية وأموالكم اسمها ولا أولادكم عطف على أموالكم والباء حرف جر زائد والتي مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس ووصف الأموال والأولاد بالتي لأن جمع التكسير العاقل وغير العاقل يعامل معاملة المؤنثة الواحدة وجملة تقربكم صلة وعندنا ظرف متعلق بمحذوف حال وزلفى مصدر من معنى العامل فهو مفعول(8/101)
مطلق على المعنى أي تقربكم قربة. (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) إلا بمعنى لكن فالاستثناء منقطع لأن الخطاب للكفار ومن آمن ليس منتظما في سلكهم ومن مستثنى ويجوز أن يكون متصلا مستثنى من المفعول في يقربكم ويجوز أن يعرب مبتدأ وما بعده الخبر وجملة آمن صلة وعمل عطف على آمن وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق أي عملا صالحا. (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) الفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وأولئك اسم إشارة مبتدأ والاشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن افراد الفعلين باعتبار لفظها، ولهم خبر مقدم وجزاء الضعف مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشرا، والإضافة إما من إضافة المصدر الى مفعوله أو من إضافة الموصوف الى صفته والمعنى على الأول أن يجازيهم الله الضعف وعلى الثاني لهم الجزاء المضاعف وبما متعلقان بجزاء وما موصولة أو مصدرية.
(وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وفي الغرفات حال أو متعلقان بآمنون وآمنون خبرهم.
البلاغة:
في قوله «وما أموالكم ولا أولادكم الآية» التفات من الغيبة الى الخطاب والسرّ فيه المبالغة في تحقيق الخبر وأن ذلك الذي تسرون به وتحبرون من كثرة الأولاد والأموال لن يجديكم فتيلا، ولن يقربكم منّا ما دمتم مصرّين على ما أنتم فيه مسترسلين في تلبية دواعي الغي والضلال، وفي ذلك إشارة ضمنية إلى إنفاق الأموال في سبيل الله وأوجه الخير وتهذيب الأولاد وتأهيلهم لما يصلح دينهم ودنياهم. والزلفى القربى والزلفة القربة.(8/102)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
[سورة سبإ (34) : الآيات 38 الى 42]
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
الإعراب:
(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم والذين مبتدأ وجملة يسعون صلة وفي آياتنا متعلقان بيسعون، والسعي فيها بإبطال أحكامها، ومعاجزين حال أي مقدرين عجزين وقد تقدمت في مكان آخر وجملة أولئك خبر الذين وأولئك مبتدأ وفي العذاب متعلقان بمحضرون ومحضرون خبر أولئك.
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) تقدم إعرابها وإنما أعادها لأنها سيقت هنا في شخص واحد بدليل قوله له وما سبق في شخصين فلا تكرار، وهبه كان تكرارا فهو للتأكيد. (وَما أَنْفَقْتُمْ(8/103)
مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)
يجوز في ما أن تكون شرطية وهو أظهر في محل نصب مفعول مقدم لأنفقتم وأنفقتم فعل الشرط ومن شيء حال والفاء رابطة للجواب، ويجوز أن تكون موصولة في موضع رفع بالابتداء ودخلت الفاء على الخبر لما في الموصول من رائحة الشرط وهو مبتدأ وجملة يخلفه خبر والجملة الاسمية إما في محل جزم على أنها جواب الشرط وإما في محل رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.
رفع على أنها خبر والواو عاطفة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) الواو استئنافية ويوم ظرف متعلق باذكر مضمرا وجملة يحشرهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجميعا حال وثم حرف عطف ويقول فعل مضارع مرفوع عطفا على يحشرهم وللملائكة متعلقان بيقول والهمزة للاستفهام التقريعي وهؤلاء مبتدأ وإياكم ضمير منفصل في محل نصب مفعول مقدم ليعبدون وجملة كانوا خبر المبتدأ والواو اسم كانوا وجملة يعبدون خبرها.
(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) قالوا فعل ماض وفاعل وسبحانك مفعول مطلق وأنت مبتدأ وولينا خبر ومن دونهم حال.
(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) بل حرف إضراب وكانوا كان واسمها وجملة يعبدون خبرها والجن مفعول به وأراد بالجن الشياطين التي كانت في اعتقادهم تتقمص الأصنام التي يعبدونها وأكثرهم مبتدأ وبهم متعلقان بمؤمنون ومؤمنون خبر والجملة بدل من جملة يعبدون الجن. (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بيملك ولا نافية ويملك فعل مضارع مرفوع وبعضكم فاعل ولبعض متعلقان بنفعا ونفعا مفعول(8/104)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
به ولا ضرا عطف على نفعا. (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الواو عاطفة ونقول فعل مضارع معطوف على لا يملك وللذين متعلقان بنقول وجملة ظلموا صلة وذوقوا فعل أمر وفاعل والجملة مقول القول وعذاب النار مفعول به والتي صفة للنار وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 45]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)
اللغة:
(مِعْشارَ) : قال في القاموس: «والعشير جزء من عشرة كالمعشار والعشر» وتابعه من نقل عنه كالمنجد وغيره وقال في الكشاف:
«والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع» وعبارة البحر: «المعشار مفعال من العشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير(8/105)
المرباع ومعناهما العشر والربع وقال قوم المعشار عشر العشر» وقال الماوردي: «المعشار هنا هو عشر العشير والعشير هو عشر العشر فيكون جزءا من ألف» قال: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل.
الإعراب:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر بإضافة الظرف إليها وهو مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال من آياتنا والتالي هو النبي صلى الله عليه وسلم وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وما نافية وهذا مبتدأ والاشارة الى التالي وهو النبي وإلا أداة حصر ورجل خبر هذا وجملة يريد صفة لرجل وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول يريد وعما متعلقان بيصدكم وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة يعبد خبرها وآباؤكم فاعل والمسألة من باب التنازع وأعمل الثاني لقربه ولو أعمل الأول لقال يعبدونه. (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر ومفترى صفة وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة.
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة وللحق متعلقان(8/106)
بقال ولما ظرفية حينية أو رابطة وجاءهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر هذا ومبين صفة.
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) الواو عاطفة ويجوز جعلها حالية كما سيأتي في حلّ المعنى وما نافية وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن حرف جر زائد وكتب مجرور لفظا في محل نصب مفعول ثان لآتيناهم وجملة يدرسونها صفة لكتب. (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) عطف على ما تقدم وإعرابها مماثل للجملة قبلها والمعنى: انتفاء العذر عن هؤلاء المشركين لأنهم لم يؤتوا كتبا يدرسونها ولم ترسل إليهم رسل بالنذر بخلاف أهل الكتاب فإنهم قد يتشبثون بما آتاهم وبما هم عاكفون عليه فلا يريدون تركه وان كان تشبثهم باطلا أما هؤلاء فليس لهم أدنى عذر وليس لها أي مبرر في جنوحهم الى التنطع ولجوئهم الى التكذيب. (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) الواو عاطفة وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم متعلقان بالصلة والواو حالية وما نافية وبلغوا فعل وفاعل ومعشار مفعول به وما اسم موصول مضاف اليه وجملة آتيناهم صلة.
(فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) الفاء عاطفة وكذبوا فعل وفاعل ورسلي مفعول به والفاء عاطفة وكيف اسم استفهام خبر مقدم لكان ونكيري اسمها واختار البيضاوي أن تكون جملة فكيف كان نكير معطوفة على محذوف قدره بقوله: «فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم أي عليهم فليحذر هؤلاء من مثله» ولا مانع من ذلك.(8/107)
البلاغة:
في هذه الآيات تكرار يدل على الغضب والإنكار، فقد تكرر الفعل وهو قولهم وصرح باسمهم وهو «الذين كفروا» وجاء باللام المؤذنة بالقوة وصرح بقوله «لما جاءهم» للعجب من مبادهتهم بالكفر وذلك للدلالة على مدى السخط عليهم والزراية بأقدارهم والتعجب من ارتكاس عقولهم ونبوها عن الحق وطمسها لمعالمه، ثم أضفى على ذلك ما هو أبلغ في الدلالة على رسوخهم في الكفر وتماديهم في الباطل وهو أن من قبلهم من أصحاب الكتاب لم يؤتوا مثلما أوتوا، بل لم يبلغ ما أوتوه معشار ما أتاهم وهو جزء من عشرة بل من مائة على رأي بعضهم بل جزء من ألف على رأي آخرين. وللتكرار مواضع يحسن فيها ومواضع يقبح فيها فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعاني وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، ومما ورد فيه التكرار على جهة الوعيد والتهديد قول الأعشى ليزيد بن مهر الشيباني:
أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا ... أبا ثابت أقصر وعرضك سالم
وذرنا وقوما إن هم عمدوا لنا ... أبا ثابت واقعد فإنك طاعم
وسيأتي المزيد من بحث التكرار.(8/108)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
[سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)
الإعراب:
(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإنما كافة ومكفوفة وأعظم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبواحدة متعلقان بأعظكم وأن وما في حيزها مصدر مؤول في محل جر عطف بيان لواحدة أو بدل منها أو رفع على تقدير هي أن تقوموا أو نصب على تقدير أعني، ومثنى وفرادى نصب على الحال وسيأتي السر في تقديم مثنى على فرادى في باب البلاغة.
(ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي وسيأتي سر العطف بثم في باب البلاغة، وتتفكروا معطوف على أن تقوموا وما نافية وبصاحبكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وجنة مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ والجملة مستأنفة ويجوز أن تتضمن تتفكروا معنى تعلموا فتكون من أفعال القلوب وما استفهامية(8/109)
علقت تعلموا عن العمل فهي مبتدأ خبره بصاحبكم ومن جنة حال أي جنون.
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر هو ولكم متعلقان بنذير وبين ظرف متعلق بمحذوف حال أو صفة لنذير ويدي مضاف اليه وشديد صفة.
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) ما شرطية في محل نصب مفعول ثان مقدم لسألتكم وسألتكم فعل وفاعل ومفعول به أول وهو في محل جزم فعل الشرط ومن أجر حال والفاء رابطة لجواب الشرط وهو مبتدأ ولكم خبر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، هذا ويحتمل أن تكون ما موصولة مبتدأ وجملة سألتكم صلة والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وجملة هو لكم خبر.
(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) إن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى الله خبر وهو مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر هو. (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن واسمها وجملة يقذف خبرها وبالحق متعلقان بيقذف وعلام الغيوب خبر ثان لإن أو خبر لمبتدأ محذوف واختار الزمخشري أن يكون مرفوعا على محل إن واسمها أو على المستكن في يقذف على أنه بدل منه، وقال ابن هشام: «فقدر علام نعتا للضمير المستتر في يقذف» وتعقبه الدسوقي قائلا: «وحمله الجمهور على البدل منه» (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) جملة جاء الحق مقول القول والواو عاطفة وما نافية ويبدىء الباطل فعل مضارع وفاعل وما يعيد عطف على ما يبدىء.(8/110)
البلاغة:
1- الطباق:
في قوله «مثنى وفرادى» طباق بديع أتى به احترازا من القيام جماعة لأن في الاجتماع تشويشا للخواطر، وحئولا دون التأمل والاستغراق في التفكير، أما قيامهم مثنى وفرادى فيتيح لهم أن يفكروا ويعملوا الروية فإن تبين الحق للاثنين جنح كل فرد الى إعمال رأيه، وكثيرا ما يؤدي التعصب الى طمس الحقائق وضياع الفوائد إذ يصبح الفرد كالببغاء ينقاد للآخرين على حد قول شوقي:
يا له من ببغاء ... عقله في أذنيه
2- الكناية:
في قوله «وما يبدىء الباطل وما يعيد» كناية عن هلاكه والتطويح به لأنه إذا هلك لم يعد له إبداء أو إعادة، ومنه قول عبيد:
أفقر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
فقد كان المنذر بن ماء السماء يخرج في يوم من كل سنة فينعم على كل من يلقاه وفي آخر فيقتل أول من يلقاه فصادفه فيه عبيد فقيل له امدحه بشعر لعله يعفو عنك فقال: حال الجريض دون القريض.
فضرب مثلا وقال هذا البيت بعد ذلك تحسرا، وروي أن المنذر قال له: أنشدني أفقر من أهله ملحوب، فقال أقفر من أهله عبيد إلخ أي لا قدرة لي على إبداء شعر جديد ولا على إعادة شعر قديم وفي قوله يبدىء ويعيد أيضا طباق.(8/111)
الفوائد:
قال النحاة: ويعطف على أسماء الأحرف المشبهة بالفعل بالنصب قبل مجيء الخبر وبعده كقول رؤبة:
إن الربيع الجود والخريف ... يدا أبي العباس والصيوفا
فعطف الخريف بالنصب على الربيع وقبل مجيء الخبر وهو يدا أبي العباس وعطف الصيوف جمع صيف على الربيع بالنصب بعد مجيء الخبر، والجود بفتح الجيم وسكون الواو وبالدال المطر الغزير ويروى الجون بالنون بدل الدال والمراد به السحاب الأسود. والمراد بالربيع والخريف والصيوف أمطارهن والمراد بأبي العباس السفاح أول الخلفاء من بني العباس، وهذا من عكس التشبيه مبالغة لأن الغرض تشبيه يديه بالأمطار الواقعة في الربيع والخريف والصيف، ويعطف بالرفع على محل هذه أسماء هذه الأحرف بشرطين: استكمال الخبر وكون العامل إن أو أن أو لكن مما لا يغير معنى الجملة نحو إن الله بريء من المشركين ورسوله فعطف رسوله على محل الجلالة بعد استكمال الخبر وهو بريء، والمحققون على أن الرفع في ذلك ونحوه على أنه مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر الناسخ عليه.
قال اللقاني: «قال الرضي: والوصف وعطف البيان كالمنسوق عند الجرمي والزجاج والفراء في جواز الحمل على المحل ولم يذكر غيرهم في ذلك منعا ولا إجازة والأصل الجواز إذ لا فارق ولم يذكروا البدل والقياس كونه كسائر التوابع في جواز الرفع» وفي شرح المفصل لابن الحاجب: «أجاز الزجاج جعل ارتفاع علام الغيوب في(8/112)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله تعالى: قل إن ربي الآية على أنه صفة لربي بالتأويل الذي في العطف قال: ويمكن حمله على غير ما ذكره بأن يكون علام الغيوب فاعلا بيقذف ولا ضمير فيه فاستغنى عن العائد بظاهر موافق للأول في المعنى» وارجع الى المطولات.
[سورة سبإ (34) : الآيات 50 الى 54]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
اللغة:
(التَّناوُشُ) : قال الزمخشري: «والتناوش والتناول اخوان إلا أن التناوش تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم ويقال تناوشوا في الحرب: ناش بعضهم بعضا» وفي المصباح:
«ناشه نوشا من باب قال تناوله والتناوش التناول يهمز ولا يهمز وتناوشوا بالرماح تطاعنوا بها» وقال ابن السكيت: «يقال للرجل(8/113)
إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته ناشه ينوشه نوشا ومنه المناوشة في القتال إذا تدانى الفريقان» .
الإعراب:
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) إن شرطية وضللت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة وأضل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره أنا وعلى نفسي متعلقان بأضل وهي في قوة بنفسي فيصح مقابلتها مع ما بعدها.
(وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) عطف على ما سبق وما من قوله فيما يوحي إلي ربي يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة فعلى الأول يكون التقدير بسبب إيحاء ربي إليّ وعلى الثاني يكون التقدير: بسبب الذي يوحيه إلي ربي، وجملة يوحي لا محل لها على كل حال وإلي متعلقان بيوحي وربي فاعل يوحي وان واسمها وسميع خبرها الأول وقريب خبرها الثاني. (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال الكفار عند نزول الموت واضطرارهم الى الإخلاد للحق والرجوع إليه. ولو شرطية وترى فعل مضارع وفعل مستتر تقديره أنت والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري وجملة فزعوا بالبناء للمجهول في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب لو محذوف كما حذف مفعول ترى والتقدير: ولو ترى حالهم وقت فزعهم لرأيت أمرا عظيما مذهلا والفاء عاطفة أو استئنافية ولا نافية للجنس وفوت اسمها المبني على الفتح والخبر محذوف أي لهم والمعنى لا يفوتوننا ولا ينجيهم منا هرب أو ملجأ وقد كثر حذف(8/114)
خبر لا النافية للجنس أو العاملة عمل ليس، حتى قيل أنه لا يذكر، وصيغ الماضي الواردة في إذ، وأخذوا أريد بها الاستقبال وأخذوا الواو عاطفة وأخذوا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومعناه الاستقبال أيضا ومن مكان متعلقان بأخذوا وقريب صفة ومعنى من مكان قريب أي من ظهر الأرض الى بطنها إذا ماتوا.
(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وقالوا عطف على ما تقدم وجملة آمنا مقول قولهم وبه متعلقان بآمنا وأنى اسم استفهام معناه من أين أو كيف في محل نصب خبر مقدم والتناوش مبتدأ مؤخر ولهم متعلقان بمحذوف حال ومن مكان متعلقان بالتناوش وبعيد صفة أي عن محله وهو الدنيا. (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) الواو حالية وقد حرف تحقيق وكفروا فعل وفاعل وبه متعلقان بكفروا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ويقذفون معطوف على قد كفروا على أنها حكاية حال ماضية أي وكانوا يتكلمون ويرجمون بالظن ومن مكان بعيد متعلقان به والبعد المكاني هنا معناه البعد المعنوي أي وهمهم الفاسد وظنهم الكاذب الذي هو بعيد عن الحقيقة والواقع كل البعد وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة. (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) الواو عاطفة وحيل فعل ماض مبني للمجهول ومعناه الاستقبال أيضا لأن ما يفعله الله في المستقبل بمثابة ما قد حصل والظرف نائب فاعل ولم يرفع لأنه أضيف إلى غير متمكن وهو الضمير، وفعل حال لازم لا يبنى للمجهول إلا مع الظرف أو الجار والمجرور وقيل نائب الفاعل هو ضمير المصدر المفهوم من الفعل كأنه قيل وحيل هو أي الحول والظرف متعلق بحيل، وبين عطف على الظرف الأول(8/115)
وما موصولة أو مصدرية والتقدير وبين الذي يشتهونه أو وبين مشتهاهم، ويشتهون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة لا محل لها على كل حال والكاف نعت لمصدر محذوف أي فعل بهم فعلا كما فعل بأشياعهم أي أتباعهم، وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره أو أشباههم لأن من أشبه الثاني تبعه، وبأشياعهم متعلقان بفعل ومن قبل حال. (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وفي شك خبرها ومريب صفة.
البلاغة:
في قوله «وأنى لهم التناوش من مكان بعيد» استعارة تمثيلية وقد تقدم تعريف هذه الاستعارة ونقول في إجرائها هنا أنه شبه طلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما ينفع المؤمنين إيمانهم بالدنيا بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناوله الآخر من مقياس ذراع تناولا سهلا لا تعب فيه فقد كانوا يتكلمون بالغيب ويأتون به من مكان بعيد وهو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ساحر كذاب، وهذا رجم بالظن، وقذف بالباطل لأنهم لم يشاهدوا منه شعرا ولا سحرا ولا كذبا، ولو أنهم رجعوا الى قرارة نفوسهم يسألونها عن حقيقة ما يرجفون ويرجمون لكذبتهم وأدانتهم.
الفوائد:
تقدم في موضع آخر من هذا الكتاب أنه ينوب عن الفاعل واحد من أربعة: وهي المفعول به نحو وغيض الماء، والثاني المجرور نحو(8/116)
ولما سقط في أيديهم، والثالث مصدر متصرف مختص بالصفة نحو فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وقد ينوب عن المصدر ضميره نحو قول طرفة بن العبد:
فيا لك من ذي حاجة حيل دونها ... وما كل ما يهوى امرؤ هو نائله
فيكون المعنى حيل هو أي الحول المعهود وليس النائب الظرف لأنه غير متصرف عند جمهور البصريين، وعن الأخفش أنه يجوز مع فتحه، قال أبو علي وتلميذه ابن جني فتحة اعراب، وقال غيرهما فتحة بناء، وعلى ذلك توجه الآية التي نحن بصددها، أما الرابع فهو ظرف مختص نحو صيم رمضان.(8/117)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
(35) سورة فاطر مكّيّة وآياتها خس وأربعون
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
اللغة:
(فاطِرِ السَّماواتِ) خالقها على غير مثال وأصل الفطر الشقّ مطلقا وقيل الشق طولا وبابه نصر كما في المختار وعن مجاهد عن ابن عباس: ما كنت أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اختصم(8/118)
إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وابتدعتها، وقد جمع بعضهم معنى هذه المادة على اختلافه فقال:
الابتداء والابتداع فطر ... والصّدع والغمز وأما الفطر
فترك صوم بعض كمء فطر ... وما بدا من عنب في الشجر
(تُؤْفَكُونَ) : تصرفون من الأفك بالفتح وهو الصرف يقال:
ما أفكك عن كذا أي ما صرفك عنه وقيل هو من الإفك بالكسر وهو الكذب وفي المختار: «والأفك بالفتح مصدر أفكه أي قلبه وصرفه عن الشيء وبابه ضرب ومنه قوله تعالى: «قالوا أجئتنا لتأفكنا عما وجدنا عليه آباءنا» .
الإعراب:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الحمد مبتدأ ولله خبره وفاطر السموات صفة له والأرض عطف على السموات وأل في الحمد جنسية استغراقية أي جنس الحمد، والاضافة في فاطر السموات محضة لأنه للماضي. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) جاعل الملائكة صفة ثانية والإضافة هنا محضة أيضا واعتبرها بعضهم غير محضة لأنها حكاية حال ولهذا ساغ اعمال اسم الفاعل لأنه لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، ولهذا جعل بعضهم رسلا منصوبة بفعل مضمر، وجوز الكسائي عمله على كل حال. ورسلا مفعول ثان لجاعل وإذا كانت جاعل بمعنى خالق كانت رسلا حالا مقدرة وأولي أجنحة نعت لرسلا ومثنى وثلاث ورباع صفات لأجنحة(8/119)
وقد منعت من الصرف للوصف والعدل عن المكرر أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وقد تقدم الكلام في هذه الصفات في سورة النساء وأعربها الكازروني في حاشيته بدلا من أجنحة. (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كلام مستأنف مقرر لما قبله وفي الخلق متعلقان بيزيد وما مفعول به وجملة يشاء صلة وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر إن والجملة تعليلية لا محل لها.
(ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) ما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول به مقدم ليفتح ويفتح فعل الشرط والله فاعل وللناس متعلقان بيفتح ومن رحمة حال والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية للجنس وممسك اسمها ولها خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط. (وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الواو عاطفة وما اسم شرط جازم في محل نصب أيضا مفعول مقدم ليمسك ويمسك فعل الشرط والفاء رابطة ولا نافية للجنس ومرسل اسمها وله خبرها وفي قوله أولا فلا ممسك لها حمل التأنيث على معنى ما لأن المراد الرحمة وفي الثاني حمل على اللفظ، ومن بعده حال أي بعد إمساكه وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) يا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والناس بدل واذكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به ومضاف إليه وعليكم متعلقان بنعمة لأنها بمعنى الإنعام وإذا كانت بمعنى المنعم به تعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال.(8/120)
(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) هل حرف استفهام ومن حرف جر زائد وخالق مبتدأ مجرور لفظا مرفوع محلا وغير الله صفة لخالق على المحل أو على اللفظ أو منصوب على الاستثناء وقرىء بها جميعا وخبر خالق محذوف أي لكم ويجوز أن تكون جملة يرزقكم نصبا على الحال أو رفعا صفة لخالق على المحل أو جرا صفة لخالق على اللفظ ويجوز أن تكون خبرا لخالق، ومن السماء متعلقان بيرزقكم والأرض عطف وسيأتي المزيد من إعراب هذه الآية وما قيل فيها في باب الفوائد ومعنى الاستفهام التقرير والتوبيخ.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام وقد تقدم إعراب لا إله إلا الله مفصلا، فأنى الفاء استئنافية وأنى اسم استفهام في محل نصب حال وتؤفكون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
الفوائد:
1- معنى «نزيد في الخلق ما نشاء» :
اشتملت هذه الآيات على فوائد كثيرة أولها معنى الزيادة في الخلق، ونرى أن خير ما قيل فيها ما أورده الزمخشري في كشافه فبعد أن أورد ما قاله العلماء فيها قال: «والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وجراءة في القلب وسماحة في النفس وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم وحسن تأنّ في مزاولة الأمور وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف» وهذا(8/121)
الكلام على وجازته وبلاغته جامع مانع وفيه تعليل مرض لما تراه من تفاوت في مخلوقات الله.
واستعار الفتح للإطلاق والإرسال كأنما هي أبواب موصدة لا يفتح مغالقها إلا الله من صنوف النعم وضروب الآلاء كالرزق والمطر والصحة والأمن في الأوطان وغير ذلك مما لا يحصى عدده.
وفي تنكير الرحمة ما يدل على الاشاعة والإبهام لتندرج في مطاويها ضروب النعم كما تقدم.
2- إعراب هل من خالق:
منع بعضهم أن تكون جملة يرزقكم خبرا لخالق لأن هل لا تدخل على مبتدأ مخبر عنه بفعل على الأصح.
3- مواضع زيادة «من» :
قلنا في مكان آخر أن «من» الجارة تزاد قبل النكرة إذا سبقت بنفي أو نهي أو استفهام ونضيف هنا أن ذلك يطرد في تسعة أوجه:
1- في الابتداء.
2- في الفاعل.
3- في اسم كان.
4- في مفعول ما يتعدى لواحد.
5- في أول مفعولي ظننت.(8/122)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
6- في أول مفاعيل علمت.
7- في أول مفعولي أعطيت.
8- في ثاني مفعولي أعطيت.
9- في مفعول ما لم يسم فاعله.
[سورة فاطر (35) : الآيات 4 الى 7]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
الإعراب:
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم بأن له فيمن تقدمه من الأنبياء أسوة حسنة. وإن حرف شرط جازم ويكذبوك فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والكاف مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط وجملة قد كذبت في محل جزم جواب الشرط وهي من وضع السبب موضع المسبب وهو التأسي والتقدير فتأس بتكذيب الرسل من(8/123)
قبلك، ورسل نائب فاعل ومن قبلك صفة لرسل وبهذا التقدير يجاب عن الاعتراض بأن من حق الجزاء أن يتعقب الشرط وهذا سابق له.
(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) الواو عاطفة والى الله متعلقان بترجع والأمور نائب فاعل. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) يا أيها الناس: تقدم إعرابها كثيرا وان واسمها وخبرها. (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتغرنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقلية وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به والحياة فاعل والدنيا صفة ولا يغرنكم بالله الغرور عطف على ما تقدم والغرور بفتح الغين صيغة مبالغة كالصبور والشكور والمراد بها الشيطان لأن ذلك ديدنه.
(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) إن واسمها ولكم متعلقان بعدو أو حال منه وعدو خبر إن والفاء الفصيحة واتخذوه فعل أمر وفاعل ومفعول به أول وعدوا مفعول به ثان.
(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) إنما كافة ومكفوفة ويدعو فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وحزبه مفعول به واللام للتعليل ويكونوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازا بعد لام التعليل ويجوز أن تكون اللام هي لام الصيرورة أو العاقبة، والواو اسم يكونوا ومن أصحاب السعير خبرها. (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين وشديد صفة ويجوز أن يكون اسم الموصول بدلا من الواو في ليكونوا أو صفة لحزبه فيكون موضعه النصب كما يجوز أن يكون محله الجر على أنه بدل(8/124)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
من أصحاب أو انه نعت لأصحاب. (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) الذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة خبر الذين وأجر عطف على مغفرة وكبير صفة.
[سورة فاطر (35) : آية 8]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
الإعراب:
(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من التباين بين عاقبتي الفريقين ببيان تباين حالهما المؤدي إلى تينك العاقبتين.
والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدمت نظائرها ومن اسم موصول في محل رفع مبتدأ خبره محذوف دل عليه سياق الكلام والتقدير كمن هداه الله، وأعربه بدر الدين بن مالك اسم شرط وجواب الشرط محذوف تقديره: ذهبت نفسك عليهم حسرة، وجملة زين صلة من وله متعلقان بزين وسوء عمله نائب فاعل، فرآه الفاء عاطفة ورآه عطف على زين والهاء مفعول رأى الأول وحسنا مفعول رأى الثاني لأنها قلبية والفاء رابطة لما في الموصول من معنى الشرط وان واسمها وجملة يضل خبرها ومن يشاء مفعول يضل وجملة ويهدي من يشاء عطف على جملة يضل من يشاء. (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ(8/125)
عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)
الفاء الفصيحة ولا ناهية وتذهب فعل مضارع مجزوم بلا ونفسك فاعل وعليهم متعلقان بتذهب كما تقول هلك عليه حبا ومات عليه حزنا، ولا يجوز أن يتعلق بحسرات لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته، وحسرات مفعول لأجله والمعنى فلا تهلك نفسك للحسرات وقال المبرد انها تمييز وقال الزمخشري: «يجوز أن يكون حالا كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير:
مشق الهواجر لحمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلا كلا وصدورا
يصف نوقا بالهزال يقال فرس ممشوق أي طويل مهزول وجارية ممشوقة القوام والهاجرة شدة الحر والسرى بالضم سير الليل والكلكل والكلكال الصدر أي صرن من شدة الحر كأنهن عظام فقط لا لحم عليهن وعطف الصدور على الكلاكل للتفسير وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة.
وان واسمها وخبرها وبما يصنعون متعلقان بعليم.
البلاغة:
في قوله: «فلا تذهب نفسك عليهم حسرات» فن الإيغال وهو الإتيان بكلام يعتبر بمثابة التتمة لكلام سبقه احتياطا فقد أقسم الله تعالى بحياة الرسول أكثر من مرة ان الذين أعرضوا عنه وخالفوه قد تجاوزوا كل حدّ بإعراضهم ودللوا على أنهم مفرطون في الغباوة(8/126)
موغلون في الضلال كما قال تعالى في أكثر من موضع «لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون» وقوله أيضا «ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» وقوله «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» وذهاب النفس حسرة وأسفا تعبير مرموق رمقه الشعراء كثيرا فقال شاعر قديم:
فعلى إثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام
لما أصابه الحزن بعد ذهاب الأحباب وتمكن من نفسه وسيطر بدمه، تخيل أنها تتناثر وتنزل من جسمه حال كونها حسرات متتابعة، وجعل النفس حسرات لامتزاجها بها فكأنها هي، أو تتساقط بعدهم لأجل الحسرات والأحزان، وذكرهم أي تذكرهم سقام لي وهو بالفتح مصدر كالسقم. وقال ابن الرومي مقتبسا هذه اللفظة البديعة في رثاء ابنه محمد وهو أوسط أولاده:
وظل على الأيدي تساقط نفسه ... ويذوي كما يذوي القضيب من الزند
وإنما يحمل المريض على الأيدي إذا كان صغيرا وقد مات ابنه محمد منزوفا وهو فيما بين الرابعة والخامسة.
أقول روى التاريخ أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام لما زين له سوء عمله فرآه صوابا أو جميلا فهام في الضلال، وأطلق آمر النهي واعتنق طاعة الهوى حتى رأى الحسن قبيحا والقبيح حسنا كأنما ران عليه وسلبه عقله ولبه وتمييزه وقد رمق أبو نواس سماء هذا المعنى فقال:(8/127)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح
يقول لساقي الخمر: اسقني حتى أسكر فيحسن عندي القبيح، وحسنا هو المفعول الثاني لتراني والقبيح فاعل حسنا لأنه صفة مشبهة.
[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 10]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
اللغة:
(بَلَدٍ) : في المصباح: «البلد يذكر ويؤنث» والبلدة البلد وتطلق البلد والبلدة على كل موضع من الأرض عامرا كان أو خلاء، وفي التنزيل: «الى بلد ميت» أي الى أرض ليس بها نبات ولا مرعى فيخرج ذلك بالمطر فترعاه أنعامهم فأطلق الموت على عدم النبات والمرعى وأطلق الحياة على وجودهما» .
(الْكَلِمُ) : اسم جنس لأنه يدل على الماهية من حيث هي هي وليس بجمع خلافا لصاحب القاموس ولغيره من النحاة لأنه يجوز تذكير ضميره والجمع يغلب عليه التأنيث ولا اسم جمع لأن له واحدا من لفظه والغالب على اسم الجمع خلاف ذلك وواحدة كلمة والكلمة(8/128)
فيها ثلاث لغات: كلمة بفتح الكاف وكسر اللام وكلمة بكسر الكاف وسكون اللام وكلمة بفتح الكاف وسكون اللام.
(يَبُورُ) : يهلك ويفسد يقال: بار يبور بورا وبوارا: هلك وبارت السوق أو السلعة كسدت وبار العمل: بطل وبارت الأرض:
لم تزرع وبوّر الأرض تركها أو صيرها بائرة وأباره: أهلكه وتبوّر نفسه رثاها وناح من البوار، والبائر: ما بار من الأرض والجمع بور يقال: حائر بائر أي لا يطيع مرشدا ولا يتجه لشيء والبور أيضا:
الفاسد الهالك الذي لا خير فيه يقال امرأة بور وقوم بور، والبور من الأرض: ما لم يزرع والبوار الهلاك والفساد ودار البوار: جهنم.
الإعراب:
(وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) الله مبتدأ والذي خبره وجملة أرسل الرياح صلة الموصول والرياح مفعول به والفاء عاطفة وتثير فعل مضارع وسيأتي سر عطف المضارع على الماضي وكيف جاء مخالفا لما قبله وما بعده في باب البلاغة وسحابا مفعول به. (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) فسقناه عطف أيضا على طريق الالتفات وسقناه فعل وفاعل ومفعول به والى بلد متعلقان بسقناه وميت صفة، فأحيينا به الأرض عطف أيضا والظرف متعلق بمحذوف حال وكذلك خبر مقدم والنشور مبتدأ مؤخر وسيأتي سر هذا التشبيه في باب البلاغة. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على ما وجملة يريد خبرها والعزة مفعول به والفاء(8/129)
رابطة لجواب الشرط ولله خبر مقدم والعزة مبتدأ مؤخر والجملة في محل جزم جواب الشرط، وساغ قيام هذه الجملة مقام الجواب لدلالتها عليه لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه ومالكه ونظيره قولك من أراد النصيحة فهي عند الأبرار، تريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت ما يدل عليه مقامه، ومعنى فلله العزة جميعا أن العزة كلها مختصة لله، وقال آخرون: «ومن شرطية مبتدأ وجواب الشرط محذوف تقديره فليعطه وقوله فلله العزة تعليل للجواب المحذوف» وقدر البيضاوي جواب الشرط المحذوف بقوله «فليطعه» ولله خبر مقدم والعزة مبتدأ مؤخر وجميعا حال وجملة الشرط وجوابه خبر من.
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الجملة نصب على الحال وإليه متعلقان بيصعد ويصعد الكلم فعل مضارع وفاعل والطيب صفة للكلم والعمل مبتدأ، ويجوز رفعه على العطف والصالح صفة وجملة يرفعه خبر العمل وفاعل يرفعه ضمير مستتر يعود على العمل أي العمل الصالح يرفع الكلم وقيل الفاعل ضمير الله فتعود الهاء على العمل، وعن ابن المقفع «قول بلا عمل كثريد بلا دسم وسحاب بلا مطر وقوس بلا وتر» (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) كلام مستأنف مسوق لبيان حال الكلم الخبيث والعمل السيّء بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح وأهلهما. والذين مبتدأ وجملة يمكرون صلة الذين والسيئات صفة مفعول مطلق وتقديره المكرات السيئات ولا يجوز نصبه على أنه مفعول به لأن مكر فعل غير متعد والمكرات بفتحات جمع مكرة بسكون الكاف وهي المرة من المكر الذي هو الحيلة والخديعة وقال بعضهم يجوز تضمين يمكرون(8/130)
السيئات معنى يكسبون السيئات فيجوز نصبها على أنها مفعول به، ومكر مبتدأ وأولئك مضاف إليه ووضع اسم الاشارة موضع الضمير للإيذان بتميزهم بالشر والفساد عن سائر المفسدين أي هم لا غيرهم، وهو ضمير فصل لا محل له وجملة يبور خبر مكر ويجوز أن يكون هو مبتدأ وجملة يبور الخبر والجملة الاسمية خبر مكر وقد اختلف في وقوع ضمير الفصل قبل الخبر فمنعه قوم وأجازه آخرون ونحن أميل الى الجواز.
البلاغة:
1- الالتفات:
في قوله «والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلخ» التفاتان: الأول في الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي فقد قال «فتثير» مستقبلا وما قبله وما بعده ماض لحكاية الحال الماضية واستحضار لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب أو تهم المخاطب وغير ذلك كما قال تأبط شرا:
فمن ينكر وجود الغول إني ... أخبر عن يقين بل عيان
بأني قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران
والغول أنثى الشياطين والعيان المشاهدة بالعين والهوي الهبوط والمراد سرعة العدو والسهب بالفتح الفضاء المستوي البعيد الأطراف(8/131)
والصحيفة الكتاب والصحصحان بالفتح المستوي من الأرض والجران ككتاب مقدم عظم العنق من الحلق الى اللبة وجمعه جرنه ككتبه وأجرنة كأفئدة يقول: من ينكر وجود الغول فقد كذب فإني أخبر عن يقين أو المعنى فيا من تنكر وجود الغول إني أخبر إخبارا ناشئا عن يقين وهو ما كان بدليل قاطع بله عيان ومشاهدة بالعين.
وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام في غزوة بدر فإنه قال: لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه وهو يقول: أنا أبو ذات الكئوس، وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه فوقع وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقفة. فقوله فأطعن بها في عينه وأطأ برجلي معدول به عن لفظ الماضي الى المستقبل ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم، ألا ترى أنه قال أولا لقيت عبيدة بلفظ الماضي ثم قال بعد ذلك فأطعن بها في عينه ولو عطف كلامه على أوله لقال فطعنت بها في عينه.
والالتفات الثاني في قوله: «فسقناه الى بلد ميت فأحيينا إلخ» ولو جرى على نمط الكلام لقال فسقى وأحيا ولكنه عدل بهما عن لفظ الغيبة الى لفظ التكلم وهو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه وإنما عبر بالماضيين بعد المضارع للدلالة على التحقق.
2- التشبيه:
وفي قوله «كذلك النشور» تشبيه مرسل لوجود الأداة أي كمثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية أو في كيفية الاحياء.(8/132)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
3- المجاز الاسنادي:
وفي قوله «إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه» مجاز في المسند ومجاز في الاسناد فالصعود مجاز عن العلم لأن الصعود صفة من صفات الاجرام والكلم معلوم فأسند الفعل للمفعول به.
[سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 14]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)(8/133)
اللغة:
(فُراتٌ) : شديد العذوبة وفي القاموس «وفرت الماء ككرم فروتة عذب» .
(أُجاجٌ) : شديد الملوحة وفي القاموس «وأجّ الماء أجوجا بالضم يأجج كيسمع ويضرب وينصر إذا اشتدت ملوحته» وتقول هجير أجاج للشمس فيه مجاج وهو لعاب الشمس وماء أجاج يحرق بملوحته.
(قِطْمِيرٍ) : القطمير لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها وقيل هي النكتة في ظهرها، ومعلوم أن في النواة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة: الفتيل وهو ما في شق النواة والقطمير وهو اللفافة والنقير وهو ما في ظهرها والثفروق وهو بين القمع والنواة وقال الجوهري: «ويقال هو النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة» .
الإعراب:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) كلام مستأنف مسوق لإيراد تقرير آخر أو دليل آخر على صحة البعث والنشور. والله مبتدأ وجملة خلقكم خبر ومن تراب متعلقان بخلقكم ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي ومن نطفة عطف على من تراب، ثم جعلكم أزواجا عطف على خلقكم من تراب وأزواجا مفعول ثان لجعل أي أصنافا ذكورا وإناثا. (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ)(8/134)
اللغة:
(جُدَدٌ) : بضم الجيم وفتح الدال جمع جدة وهي طريق في الجبل أو غيره أو هي الخطة والطريقة من قولك جددت الشيء أي قطعته، قال لبيد بن ربيعة: «أو مذهب جدد على ألواحه» وقال أبو الفضل: «هي ما يخالف من الطرائق لون ما يليها ومنه جدة الحمار للخط الذي في ظهره» والمراد في الجبال ما هو ذو جدد يخالف لونها لون الجبل.
(غَرابِيبُ) : جمع غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد يقال أسود غربيب وأسود حلكوك وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب وفي القاموس «وأسود غربيب حالك فأما غرابيب سود فالسود بدل لأن توكيد الألوان لا يتقدم» وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب الإعراب.
الإعراب:
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الواو عاطفة وإن شرطية ويكذبوك فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به، فقد الفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وكذب الذين فعل وفاعل ومن قبلهم(8/148)
متعلقان بمحذوف صلة وجملة فقد كذب في محل جزم جواب الشرط والأولى أن يكون الجواب محذوفا تقديره فاصبر كما صبروا وقوله فقد كذب دليل عليه (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) جملة جاءتهم حال وهو فعل ماض ومفعول به ورسلهم فاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم وما بعده عطف عليه والمنير صفة لكتاب والمراد بالزبر صحف إبراهيم وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل. (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ثم حرف عطف وأخذت الذين كفروا فعل وفاعل ومفعول به والفاء استئنافية وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر لكان مقدم عليها ونكيري اسمها وحذفت الياء في الرسم لمراعاة الفاصلة والنكير بمعنى الإنكار أي إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك، والاستفهام هنا معناه التقرير أي انه وقع موقعه وصادف أهله.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) كلام مستأنف مسوق لتقرير ما تقدم من ذكر اختلاف أحوال الناس وأنه أمر مطرد في جميع الكائنات. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره أنت وان واسمها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة أنزل من السماء خبرها وماء مفعول أنزل. (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) الفاء عاطفة وأخرجنا عطف على أنزل على طريق الالتفات من الغيبة الى التكلم وبه متعلقان بأخرجنا وثمرات مفعول أخرجنا ومختلفا صفة لثمرات وهو نعت سببي وألوانها فاعل به ولذلك لم يؤنث لأنه أسند الى جمع تكسير يجوز فيه التذكير والتأنيث وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة.
(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) ومن(8/149)
الجبال الواو استئنافية ومن الجبال الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وجدد مبتدأ مؤخر وسيرد سر هذه الجملة الاسمية في باب البلاغة، وبيض صفة لجدد وحمر عطف على بيض ومختلف صفة لجدد أيضا وألوانها فاعل بمختلف، وقد تقدم نظيره ولذلك لا يجوز أن تعرب مبتدأ مؤخرا وخبرا مقدما لأن المطابقة واجبة حينذاك، وغرابيب عطف على جدد وسود بدل من غرابيب وجعله الزمخشري معطوفا على بيض أو جدد، قال «كأنه قيل ومن الجبال مخطط ذو جدد ومنها ما هو على لون واحد» ثم قال «ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله ومن الجبال جدد بمعنى ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يئول الى قولك ومن الجبال مختلف ألوانها كما قال ثمرات مختلفا ألوانها» ولم يذكر بعد غرابيب سود مختلف ألوانها كما ذكر ذلك بعد بيض وحمر لأن الغربيب هو البالغ في السواد فصار لونا واحدا غير متفاوت بخلاف ما تقدم.
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) الواو عاطفة ومن الناس خبر مقدم والدواب والأنعام معطوفان على الناس ومختلف ألوانه نعت لمحذوف هو المبتدأ أي صنف مختلف ألوانه من الناس وكذلك نعت لمصدر محذوف لمختلف أي اختلاف كذلك.
(إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) الجملة تعليل للرؤية لأن الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وأفعاله فمن كان أعلم به كان أخشى منه. وإنما كافة ومكفوفة ويخشى الله فعل مضارع ومفعول به مقدم ومن عباده حال والعلماء فاعل، وسيأتي سر هذا الحصر في باب البلاغة، وان واسمها وخبراها.(8/150)
البلاغة:
انطوت هذه الآيات على فنون رفيعة من البيان نورد منها:
1- الالتفات في قوله «فأخرجنا» فقد التفت عن الغيبة الى التكلم لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء، ولإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة.
2- التدبيج في قوله «ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود» وقد تقدم أن التدبيج هو أن يذكر المتكلم ألوانا يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح أو هجاء أو نسيب أو غير ذلك من الفنون، وقد أراد الله تعالى بذلك الكناية عن المشتبه من الطرق لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جدا وهي أوضح الطرق وأبينها يأمن فيها المتعسف ولا يخاف اجتيازها الموغل في الاسفار والممعن في افتراش صعيد المغاور، ولهذا قيل ركب بهم الحجة البيضاء ودونها الحمراء ودون الحمراء السوداء كأنها في خفائها والتباس معالمها ضد البيضاء في الظهور والوضوح، ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة بينهما، فالطرف الأعلى في الظهور البياض والطرف الأدنى في الخفاء السواد والأحمر بينهما على وضح الألوان والتراكيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج، في الغالب، عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل علم نصب للهداية منقسمة هذه القسمة، أتت الآية الكريمة على هذا التقسيم فحصل فيها التدبيج مع صحة التقسيم وهي مسرودة على نمط متعارف، مسوقة للاعتداد بالنعم على ما هدت اليه(8/151)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
من السعي في طلب المصالح والمنافع وتجنب المعاطب والمهالك الدنيوية والأخروية.
3- العدول الى الاسمية:
وذلك في قوله «ومن الجبال» فإن إيراد هذه الجملة والجملة التي بعدها وهي «ومن الناس» اسميتين مع مشاركتهما للجملة الفعلية قبلهما في الاستشهاد بمضمون كل من هذه الجمل على تباين الناس في الأحوال، كما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار، وأما إخراج الثمرات المختلفة فأمر حادث متجدد فعبر عنه بما يدل على الحدوث.
4- التقديم والتأخير والحصر:
في قوله «إنما يخشى الله من عباده العلماء» لحصر الخشية بالعلماء كأنه قيل: إن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، أما إذا قدمت الفاعل فإن المعنى ينقلب الى أنهم لا يخشون إلا الله وهما معنيان مختلفان كما يبدو للمتأمل.
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)(8/152)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) إن واسمها وجملة يتلون صلة وكتاب الله مفعول يتلون وأقاموا الصلاة فعل ماض وفاعل ومفعول به وهي عطف على الصلة داخلة في حيزها. (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) عطف أيضا وأنفقوا فعل وفاعل ومما متعلقان بأنفقوا وجملة رزقناهم صلة وسرا وعلانية منصوبان بنزع الخافض أي في السر والعلانية وفي ذلك إلماع الى الإنفاق كيفما تهيأ ولك أن تنصبهما على الحال أي مسرين ومعلنين وقيل هو إلماع الى الصدقة المطلقة والأحسن فيها أن تكون سرا والزكاة وهي لا تكون إلا علانية.
(يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) جملة يرجون خبر إن وتجارة مفعول به ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتبور فعل مضارع منصوب بلن وجملة لن تبور صفة لتجارة.
(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) اللام للعاقبة والصيرورة أو للتعليل ويوفيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بلن تبور على معنى أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة، وقيل إن اللام متعلقة بمحذوف دل عليه السياق أي فعلوا ذلك ليوفيهم والهاء مفعول يوفيهم الأول وأجورهم مفعول به ثان ويزيدهم عطف على يوفيهم وان واسمها وغفور خبرها الأول وشكور خبرها الثاني وجملة إن تعليل لما تقدم من التوفية والزيادة، وأجاز الزمخشري جعل جملة يرجون في محل نصب على الحال أي وأنفقوا راجين، وخبر إن قوله إنه غفور شكور. (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ) الذي مبتدأ(8/153)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا ومن الكتاب حال وهو مبتدأ أو ضمير فصل والحق خبر هو والجملة الاسمية خبر الذي أو الحق خبر الذي. (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) مصدقا حال مؤكدة أي وموافقا لما تقدمه من الكتب ولما متعلقان بمصدقا والظرف متعلق بمحذوف صلة ما ويديه مضاف اليه أي من الكتب التي تقدمته وإن واسمها وبعباده متعلقان بخبير واللام المزحلقة وخبير وبصير خبران لإن أي عالم بما ظهر وما بطن منهم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 32 الى 35]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)
اللغة:
(نَصَبٌ) : تعب وفي القاموس: «نصب كفرح أعيا» وفي المختار: «ونصب تعب وبابه طرب» .(8/154)
(لُغُوبٌ) : إعياء من التعب وفي القاموس: «لغب لغبا ولغوبا كمنع وسمع وكرم أعيا أشد الإعياء» وفي المختار: «اللغوب بضمتين التعب والإعياء وبابه دخل ولغب بالكسر لغوبا لغة ضعيفة» فظاهر ما ورد في كتب اللغة أنهما متفقان في المعنى ولكن الزمخشري فرق بينهما تفريقا دقيقا فقال: «فإن قلت: ما الفرق بين النصب واللغوب؟
قلت: النصب والتعب والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له وأما اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب فالنصب نفس المشقة والكلفة واللغوب نتيجته وما يحدث منه من الكلال والفترة» .
الإعراب:
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأورثنا الكتاب فعل وفاعل ومفعول به ثان وإنما قدم المفعول الثاني قصد التشريف والتعظيم للكتاب وسيأتي معناه في باب البلاغة والذين هو المفعول الاول وجملة اصطفينا صلة الذين ومن عبادنا حال. (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) الفاء تفريعية لأنه قسم عبادة الذين أورثهم الكتاب كما سيأتي ومنهم خبر مقدم وظالم مبتدأ مؤخر ولنفسه متعلقان بظالم وهؤلاء هم القسم الأول ومنهم مقتصد عطف على ما قبله وهم القسم الثاني ومنهم سابق بالخيرات عطف أيضا وهم القسم الثالث وبإذن الله حال أو متعلقان بسابق وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد.
(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان أو ضمير فصل والفضل الكبير خبر هو والجملة خبر ذلك، أو خبر ذلك.(8/155)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) جنات عدن مبتدأ وجملة يدخلونها خبر وأعربها الزمخشري بدلا من الفضل وليس ثمة مانع ولكن الزمخشري تسلل من هذا الإعراب الى تثبيت عقيدته الاعتزالية كما سيأتي في باب الفوائد لطرافته. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) الجملة خبر ثان وقد تقدم إعرابها في سورة الحج فقد وردت هناك بلفظها فجدد به عهدا. ومن العجيب أن الزمخشري الذي أعرب لؤلؤا منصوبة بفعل محذوف في سورة الحج أي ويؤتون قد أعربها هنا عطفا على محل من أساور فقال:
«ولؤلؤا معطوف على محل من أساور ومن داخلة للتبعيض أي يحلون بعض أساور من ذهب» ولباسهم مبتدأ وفيها حال وحرير خبر.
(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الواو عاطفة وقالوا فعل ماض أراد به المضارع وعدل الى الماضي للدلالة على التحقيق، والحمد مبتدأ ولله خبر والذي نعت وجملة أذهب عنا صلة والحزن مفعول به لأذهب الذي تعدى بالهمز وعنا متعلقان بأذهب. (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) ان واسمها واللام المزحلقة وغفور خبر أول لإن وشكور خبر ثان (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ) بدل من الذي المتقدمة وجملة أحلنا صلة وهو فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أول ودار المقامة مفعول به ثان أي أنزلنا دار المقامة ومن فضله متعلقان بأحلنا ومن للابتداء أو للتعليل. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) جملة لا يمسنا حال من مفعول أحلنا الأول ويجوز أن تكون حالا من المفعول الثاني والأول أرجح ويمسنا فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفيها متعلقان بيمسنا ونصب فاعل ولا يمسنا فيها لغوب عطف على ما تقدم.(8/156)
البلاغة:
1- في قوله «ثم أحدثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا» استعارة مكنية تبعية، شبّه إعطاء الكتاب إياهم من غير كد أو تعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث.
2- وفي هذه الآية أيضا فن «الجمع مع التقسيم» وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم ثم يقسم ما جمعه أو يقسم أولا ثم يجمع، فالأول كالآية المذكورة وقوله تعالى «يوم تأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد» إلى آخر الآية.
الفوائد:
1- الترتيب على مقامات الناس:
قال الزمخشري: «فإن قلت: لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: للإيذان بكثرة الفاسقين وغلبتهم وان المقتصدين قيلل بالاضافة إليهم والسابقين أقل من القليل» وأوضح الخازن هذا المعنى بعبارة أكثر بسطا فقال: «فإن قلت: لم قدم الظالم ثم المقتصد ثم السابق؟ قلت: قيل: رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال الناس ثلاثة: معصية وغفلة وتوبة، فإذا عصى الرجل دخل في حيز الظالمين فإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت توبته وكثرت عبادته ومجاهدته دخل في عداد السابقين» .
2- بين المعتزلة وأهل السنة:
قال الزمخشري: «فإن قلت كيف جعلت جنات عدن بدلا من(8/157)
الفضل الكبير؟ قلت: لأن الاشارة بالفضل الى السبق بالخيرات وهو السبب في الجنات ونيل الثواب، فأقام السبب مقام المسبب، وفي اختصاص السابقين بذكر الجزاء دون الآخرين ما يوجب الحذر فليحذر المقتصد وليملك الظالم لنفسه حذرا وعليهما بالتوبة النصوح ولا يغترا بما رواه عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له فإن شرط ذلك صحة التوبة فلا يعلل نفسه بالخدع» وهذا الكلام جار على مذهب المعتزلة أما أهل السنة فيجوزون الغفران بمجرد الفضل، قال ابن المنير في الرد على الزمخشري: «وقد صدرت هذه الآية بذكر المصطفين من عباد الله ثم قسمتهم الى الظالم والمقتصد والسابق ليلزم اندراج الظالم لنفسه من الموحّدين في المصطفين وانه لمنهم، وأي نعمة أتم وأعظم من اصطفائه للتوحيد والعقائد السالمة من البدع فما بال المصنف (أي الزمخشري) يطنب في التسوية بين الموحد المصطفى والكافر المجترئ.
قبسة عن المعتزلة:
هذا والمعتزلة طائفة من المسلمين يرون أن أفعال الخير من الله وأفعال الشر من الإنسان وأن الله تعالى يجب عليه رعاية الأصلح للعباد وان القرآن محدث مخلوق ليس بقديم وأن الله تعالى ليس بمرئي يوم القيامة وأن المؤمن إذا ارتكب الكبيرة كان في منزلة بين المنزلتين يعنون بذلك أنه ليس بمؤمن ولا كافر وأن من دخل النار لم يخرج منها وأن الايمان قول وعمل واعتقاد وأن إعجاز القرآن في الصرف عنه لا أنه(8/158)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
في نفسه معجز ولو لم يصرف العرب عن معارضته لأتوا بما يعارضه وأن المعدوم شيء وأن الحسن والقبح عقليان وأن الله تعالى حيّ لذاته لا بحياة وعالم لذاته لا بعلم وقادر لذاته لا بقدرة.
ومن مشهوري المعتزلة وأعيانهم الجاحظ وأبو الهذيل العلاف وابراهيم النظام وواصل بن عطاء وأحمد بن حابط وبشر بن المعتمر ومعمر بن عباد السلمي، وأبو موسى عيسى الملقب بالمزداد ويعرف براهب المعتزلة وثمامة بن أشرس وهشام بن عمر الفوطي وأبو الحسن ابن أبي عمر والخياط وأستاذ الكعبي وأبو علي الجبائي أستاذ الشيخ أبي الحسن الأشعري أولا وابنه أبو هاشم عبد السلام، هؤلاء هم رءوس مذهب الاعتزال وغالب الشافعية أشاعرة والغالب في الحنفية معتزلة والغالب في المالكية قدرية والغالب في الحنابلة حشوية ومن المعتزلة أبو القاسم الصاحب إسماعيل بن عباد والزمخشري والفراء النحوي والسيرافي.
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 38]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)(8/159)
اللغة:
(يَصْطَرِخُونَ) : يتصارخون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد ومشقة، قال الأعشى:
قصدت الى عنس لأحدج رحلها ... وقد حان من تلك الديار رحيلها
فأنّت كما أنّ الأسير وصرخت ... كصرخة حبلى أسلمتها قبيلها
أي أنّت كأنين الأسير في الأول ورفعت برفع صوتها ثانيا كصرخة حبلى عند الطلق تركتها قبيلها التي تخدمها عند الولادة والقبيل والقبول والقابلة التي تقوم بمصلحة المرأة عند الولادة وتتلقى الولد عند خروجه. والفعل المبدوءة بأحد أحرف الاطباق وهي الصاد والضاد والطاء والظاء إذا صيغ منها على وزن افتعل وما يتصرف منه أبدلت تاء الافتعال طاء مثال ذلك الأفعال: صلح، ضرب، طرد، ظلم إذا بنينا منها صيغة افتعل قلنا: على القياس: اصتلح، اضترب، اطترد، اظتلم، ولتخفيف اللفظ أبدلت التاء طاء والمجانسة بينهما ظاهرة فنقلت الى اصطلح، اضطرب، اطرد، اظطلم، ويجوز في نحو اظطلم وجهان آخران اظّلم واطّلم.
الإعراب:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) عطف على قوله «إن الذين يتلون كتاب الله» والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة ولهم خبر مقدم(8/160)
ونار جهنم مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر الذين. (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) الجملة خبر ثان للذين أو حال منهم ولا نافية ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول أي لا يحكم عليهم بالموت وعليهم متعلقان بيقضى والفاء السببية ويموتوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ولا يخفف عطف على لا يقضى وعنهم يجوز أن يقوم مقام الفاعل ومن عذابها متعلقان بيخفف ويجوز العكس. (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعل مستتر وكل كفور مفعول به.
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة يصطرخون خبر وفيها متعلقان بيصطرخون وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وجملة النداء وما بعدها مقول قول محذوف في محل نصب على الحال أي قائلين ربنا، وأخرجنا فعل أمر معناه الدعاء والفاعل مستتر ونا مفعول ونعمل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره نحن وصالحا غير الذي يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول به محذوف ويجوز أن يكون صالحا نعتا للمصدر وغير الذي هو المفعول وجملة كنا صلة الموصول وكان واسمها وجملة نعمل خبر كنا.
(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) الجملة مقول قول محذوف أي فيقال لهم أولم نعمركم، والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والواو للعطف على مقدر أي ألم نمهلكم ونؤخركم عمرا يتذكر فيه من تذكر أي وقتا يتيح لكم التفكير لو خطر لكم أن تتفكروا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ونعمركم فعل مضارع مجزوم(8/161)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
بلم وفاعله مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وما نكرة مقصودة بمعنى وقتا فهي في محل نصب على الظرفية الزمانية أو على المصدرية أي تعميرا وجملة يتذكر صفة لما وفيه متعلقان بيتذكر ومن فاعل وجملة تذكر صلة. (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) الواو عاطفة وجملة جاءكم النذير عطف على أولم نعمركم لأن لفظه لفظ استخبار ومعناه معنى إخبار كأنه قيل قد عمرناكم وجاءكم النذير، فذوقوا الفاء الفصيحة لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير، والفاء في فما للتعليل وما نافية وللظالمين خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونصير مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا ويجوز أن تكون ما حجازية عند من يجيز تقديم خبرها على اسمها.
(إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)
ان واسمها وعالم خبرها وما بعده مضاف اليه. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)
ان واسمها وعليم خبرها وبذات الصدور متعلقان بعليم وقد تقدم القول مسهبا في ذات.
[سورة فاطر (35) : الآيات 39 الى 40]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)(8/162)
اللغة:
(خَلائِفَ) : جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا وعبارة الزمخشري: «يقال للمستخلف خليفة وخليف فالخليفة تجمع خلائف والخليف خلفاء» هذا ولم نجد مادة توزعت على كثير من المعاني كهذه المادة ومن يرجع إليها في معاجم اللغة ير العجب، ولذلك جمع بعضهم معانيها في هذه الأبيات:
عديم خير حدّ سيف خلف ... والاستقا والقرن أما الخلف
فاسم لعشب الصيف ثم الخلف ... للوعد ليس من صفات الحر
ذهاب شهوة الطعام خلفه ... ورقعة ونبت صيف خلفه
كذا اختلاف الوحش ثم الخلفة ... اسم الى العيب وذاك يزري
الولد الصالح هذاك خلف ... وجمع خلفة لرقعة خلف
وخلفة بالضم جمعها خلف ... لعنب وذاك أصل الخمر(8/163)
الإعراب:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحوال الكافرين الذين غمطوا نعمة الله عليهم بعد أن استخلفهم في الأرض، وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعلكم صلة وجعلكم فعل وفاعل ومفعول به أول وخلائف مفعول به ثان وفي الأرض متعلقان بخلائف أو بمحذوف صفة له. (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) الفاء الفصيحة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وكفر فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وعليه خبر مقدم وكفره مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط والواو عاطفة ولا نافية ويزيد الكافرين كفرهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وكفرهم فاعل مؤخر وعند ربهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال وإلا أداة حصر ومقتا مفعول به ثان أو تمييز.
(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) عطف على الجملة السابقة وكررت للتوكيد ولزيادة التقرير على رسوخ الكفر في نفوسهم واقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين وهما المقت والخسار (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أرأيتم تقدم القول فيها أنها بمعنى أخبروني والرؤية هنا تتعدى لاثنين كما سيأتي وقيل الاستفهام هنا حقيقي ولم تضمن الكلمة معنى أخبروني، ورأيتم فعل وفاعل وشركاءكم مفعول به أول لرأيتم والذين صفة وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال.
(أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أروني فعل أمر وفاعل ومفعول به والمراد بالأمر التعجيز والجملة معترضة وأعربها الزمخشري بدلا من أرأيتم ورد عليه أبو حيان بما لا يتسع له المجال. وجملة ماذا خلقوا في محل نصب مفعول به ثان إما لرأيتم وإما لأروني فالمسألة من(8/164)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
باب التنازع أو أن جملة أروني اعتراضية وماذا يجوز فيها الوجهان المعروفان لها أو إن جملة أروني بدل من جملة أرأيتم كأنه قيل أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا ومن الأرض متعلقان بخلقوا.
(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أم حرف عطف وهي منقطعة فهي بمعنى بل ويكون قد أضرب عن الاستفهام الأول وشرع في استفهام الآخر والاستفهام إنكاري ولهم خبر مقدم وشرك مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بشرك أي شركة. (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) عطف على ما تقدم وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وكتابا مفعول به ثان والفاء حرف عطف وهم مبتدأ وعلى بينة خبر ومنه صفة لبينة.
(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) إن نافية ويعد الظالمون فعل مضارع وفاعل وبعضهم بدل من الظالمون بدل بعض من كل وبعضا مفعول يعد وإلا أداة حصر وغرورا منصوب بنزع الخافض أو نعت لمصدر محذوف أي إلا وعدا باطلا وذلك بقولهم إن الأصنام تشفع لنا عند الله.
[سورة فاطر (35) : الآيات 41 الى 43]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)(8/165)
الإعراب:
(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) إن واسمها وجملة يمسك السموات والأرض خبرها، وأن تزولا أن وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي مخافة أن تزولا وقيل ضمن يمسك معنى يمنع فتكون أن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان أو على نزع الخافض أي عن أن تزولا والجار والمجرور متعلقان بيمسك قاله الزجاج وقيل أن وما في حيزها في محل نصب بدل اشتمال من السموات أي يمسك زوالهما. (وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وزالتا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وإن نافية وأمسكهما فعل ماض ومفعول به ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا فاعل أمسكهما محلا ومن بعده حال أو صفة لأحد، فعلى الأول يكون المعنى من بعد إمساكه وعلى الثاني يكون المعنى سواه أي من أحد غيره، وجملة إن أمسكهما لا محل لها لأنها جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور على حد قوله في الخلاصة:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم
(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ان واسمها وجملة كان خبرها وحليما خبر كان وغفورا خبر ثان. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أقسموا فعل وفاعل وبالله متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم منصوب على المصدرية أو على الحال(8/166)
أي جاهدين، قال الفراء: «الجهد بالفتح من قولك اجهد جهدك أي ابلغ غايتك والجهد بالضم الطاقة وعند غير الفراء كلاهما بمعنى الطاقة واللام واقعة في جواب القسم وان شرطية وجاءهم نذير فعل ومفعول به وفاعل واللام جواب القسم أيضا، ويكونن فعل مضارع مرفوع لعدم اتصاله المباشر بنون التوكيد وأصله ليكونونن حذفت إحدى النونات كراهة توالي الأمثال فلما التقى ساكنان حذفت الواو وبقيت الضمة دليلا عليها فهو مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة اسمها وأهدى خبرها ومن إحدى الأمم متعلقان بأهدى أي من كل واحدة منها.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة متضمنة معنى الشرط وجاءهم نذير فعل ومفعول به وفاعل وجملة ما زادهم جواب لما لا محل لها، قال الشهاب الحلبي:
«وفيه دليل على أنها- أي لما- حرف لا ظرف إذ لا يعمل ما بعد ما النافية فيما قبلها» وإلا أداة حصر ونفورا مفعول به ثان أو تمييز.
(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) استكبارا مفعول لأجله أي لأجل الاستكبار أو بدل من نفورا أو حال أي حال كونهم مستكبرين وفي الأرض متعلقان باستكبارا ومكر السيّء عطف على استكبارا أو على نفورا وهو من إضافة الموصوف الى صفته والأصل المكر السيّء أو أن هناك موصوفا محذوفا أي مكر العمل السيء. (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) الواو حالية ولا نافية ويحيق المكر فعل مضارع وفاعل والسيّء صفته وإلا أداة حصر وبأهله متعلقان بيحيق.
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام وينظرون فعل مضارع(8/167)
وفاعل أي ينتظرون وإلا أداة حصر وسنة الأولين مفعول به وسنة مصدر أضيف الى مفعوله تارة كما هنا ولفاعله أخرى كقوله: فلن تجد لسنة الله لأنه تعالى سنها بهم فصحت إضافتها الى الفاعل والمفعول ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتجد فعل مضارع منصوب بلن ولسنة الله متعلقان بتبديلا وتبديلا مفعول تجد.
البلاغة:
1- ائتلاف اللفظ مع المعنى:
في قوله «وأقسموا بالله جهد أيمانهم» فن ائتلاف اللفظ مع المعنى أي أن تكون ألفاظ المعنى المراد يلائم بعضها بعضا ليس فيها لفظة نافرة عن إخوانها غير لائقة بمكانها أو موصوفة بحسن الجوار بحيث إذا كان المعنى غريبا قحا كانت ألفاظه غريبة محضة وبالعكس، ولما كانت جميع الألفاظ المجاورة للقسم في هذه الآية كلها من المستعمل المتداول لم تأت فيها لفظة غريبة تفتقر الى مجاورة ما يشاكلها في الغرابة، وقد تقدم هذا البحث بتفصيل واف في سورة يوسف.
2- إرسال المثل:
وفي قوله «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» فن إرسال المثل وقد تقدمت الاشارة الى هذا الفن مع إيراد أمثال كثيرة وخاصة في شعر أبي الطيب وهو هنا واضح لأن المكر لا يقع إلا على أهله، وفي أمثالهم:
«من حفر مغواة وقع فيها» قال في الصحاح: وقع الناس في أغوية أي في داهية والمغوّيات بفتح الواو المشددة جمع المغواة وهي حفرة(8/168)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
كالزبية، يقال من حفر مغويات وقع فيها. قال كعب لابن عباس: في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، فقال له ابن عباس: إنا وجدنا هذا في كتاب الله: «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» .
3- الاسناد المجازي:
وفي قوله: «ما زادهم إلا نفورا» إسناد مجازي لأن إسناد الزيادة للنذير مجاز مرسل لأنه سبب في ذلك.
[سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
الإعراب:
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مسوق للاستشهاد على جريان سنته تعالى على تعذيب المكذبين، والهمزة للاستفهام الانكاري والواو للعطف على مقدر يستدعيه المقام أي ألزموا مساكنهم ولم يسيروا، ولم حرف نفي وقلب(8/169)
وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وفي الأرض متعلقان بيسيروا، فينظروا الفاء عاطفة وينظروا عطف على يسيروا وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والجملة في محل نصب مفعول ينظروا والذين مضاف إليه ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صفة الذين. (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الواو للحال وكانوا كان واسمها وأشد خبرها ومنهم متعلقان بأشد وقوة تمييز والجملة في محل نصب على الحال. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة وما نافية وكان واسمها واللام لام الجحود ويعجزه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود والهاء مفعول به ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مرفوع على أنه فاعل شيء وفي السموات صفة لشيء ولا في الأرض عطف على في السموات.
(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وعليما وقديرا خبراها. (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الواو عاطفة ولو شرطية ويؤاخذ الله الناس فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بيؤاخذ وما موصولة أو مصدرية أي بالذي كسبوه أو بكسبهم وعلى كل فجملة كسبوا لا محل لها وجملة ما ترك لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعلى ظهرها متعلقان بترك ومن حرف جز زائد ودابة مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول ترك. (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة فهي للاستدراك ويؤخرهم فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر والى أجل متعلقان بيؤخرهم ومسمى نعت لأجل، فإذا الفاء(8/170)
عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة جاء أجلهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وجواب إذا العامل فيها محذوف تقديره فيجازيهم والفاء رابطة وان واسمها وجملة كان خبرها وبعباده متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كان.
البلاغة:
في قوله «ما ترك على ظهرها إلخ» استعارة مكنية فقد شبه الأرض بالدابة التي يركب الإنسان عليها ثم حذف المشبه به وهو الدابة وأبقى لها شيئا من لوازمها وهو الظهر، ولزاده في حاشيته على البيضاوي سؤال لطيف نورده بنصه قال: «فإن قيل كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابل الوجه فهو من قبيل إطلاق الضدين على شيء واحد قلت صح ذلك باعتبارين فإنه يقال لظاهرها ظهر الأرض من حيث أن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال ويقال له وجه الأرض لكون الظاهر منها كالوجه للحيوان وإن غيره كالبطن هو الباطن منها» .(8/171)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
(36) سورة يس مكيّة وآياتها ثلاث وثمانون
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
اللغة:
(الْحَكِيمِ) : ذو الحكمة يقال قصيدة حكيمة أي ذات حكمة، والحكمة تقدم القول فيها وحكم الرجل من باب كرم أي صار حكيما ومنه قول النابغة:(8/172)
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
وأحكمته التجارب جعلته حكيما، وقال آخر:
وقصيدة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها
وعبارة الكرخي: «فعيل بمعنى مفعل كقولهم عقدت العسل فهو عقيد بمعنى معقد وليس بمعنى مفعول كشيطان رجيم بمعنى مرجوم وليس هو في الآية كذلك لأنه إنما يقال محكوم به ونحو ذلك ولا بمعنى فاعل أي حاكم لأن الحاكم الحقيقي هو الله تعالى فظهر بذلك أن القرآن الحكيم محكوم فيه لا حاكم وان الحاكم المطلق هو الله تعالى أو على معنى النسب أي ذي الحكم لأنه دليل ناطق بالحكمة بطريق الاستعارة والمتصف بها على الاسناد المجازي» .
(الْأَذْقانِ) : جمع ذقن بفتح الذال والقاف وبكسر الذال وفتح القاف مجتمع اللحيين من أسفلهما.
(مُقْمَحُونَ) : المقمح هو الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره، يقال قمح البعير فهو قامح إذا رفع رأسه بعد الشرب لارتوائه أو لبرودة الماء أو لكراهة طعمه وفي المختار: «الاقماح: رفع الرأس وغض البصر يقال أقمحه الغل إذا ترك رأسه مرفوعا من ضيقه» وفي القاموس: «وأقمح الغل الأسير ترك رأسه مرفوعا لضيقه» .(8/173)
(سَدًّا) السد والسد بفتح السين وضمها: الحاجز بين الشيئين والجبل والجمع أسداد قال علي بن أبي طالب «وضرب على قلبه بالأسداد» أي سدت عليه الطرق وعميت عليه المذاهب.
(فَأَغْشَيْناهُمْ) : أي فأغشينا أبصارهم أي غطيناها وجعلنا عليها غشاوة عن أن تطمح الى مرئي وسيأتي المزيد من هذه الصور في بابي البلاغة والاعراب.
الإعراب:
(يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) يس تقدم القول في فواتح السور معنى وإعرابا. والواو حرف قسم وجر والقرآن مقسم به والحكيم صفة والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره أقسم. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وان واسمها واللام المزحلقة ومن المرسلين خبرها. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) على صراط خبر ثان لإن وقيل حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور وأجاز الزمخشري أن يتعلق بالمرسلين ومستقيم صفة لصراط أي الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة ولا بأس بهذا الإعراب.
(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) تنزيل مفعول مطلق لفعل محذوف أي نزل القرآن تنزيلا وأضيف لفاعله أو منصوب بفعل محذوف تقديره أعني أو أمدح وقرىء بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وعبارة الزمخشري: «قرىء تنزيل العزيز الرحيم بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وبالنصب على أعني وبالجر على البدلية من القرآن» .
(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) اللام للتعليل وتنذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور(8/174)
متعلقان بتنزيل أو بمعنى قوله من المرسلين أي مرسل لتنذر، وقوما مفعول به وما نافية لأن قريشا لم يبعث إليهم نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم وأنذر فعل ماض مبني للمجهول وآباؤهم نائب فاعل فالجملة على هذا صفة لقوما أي قوما لم ينذروا ويجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أو مصدرية فتعرب هي وصفتها أو صلتها مفعولا ثانيا لتنذر على الأولين ومفعولا مطلقا على الثالث وسنورد لك التأويلات الثلاثة:
الموصولة: لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم.
النكرة: لتنذر قوما عذابا أنذره آباؤهم.
المصدرية: لتنذر قوما إنذار آبائهم.
الزائدة: وأورد أبو البقاء وجها رابعا وهو أن تكون زائدة وتكون جملة أنذر صفة لقوما.
فهم الفاء تعليلية للنفي إذا جعلت ما نافية أي لم ينذروا فهم غافلون على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم أو تعليلية للارسال كما تقول أرسلتك الى فلان لتنذره فإنه غافل وهم مبتدأ وغافلون خبر.
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وحق القول فعل وفاعل وعلى أكثرهم متعلقان بحق والفاء تعليلية أيضا وهم مبتدأ وجملة لا يؤمنون خبر والمعنى والله لقد ثبت وتحقق عليهم القول بسبب إصرارهم على الكفر والإنكار. (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) كلام مستأنف مسوق لتمثيل تصميمهم على الكفر وانه لا سبيل الى(8/175)
ارعوائهم عن غيهم وان واسمها وجملة جعلنا خبرها وجعلنا فعل وفاعل وفي أعناقهم في محل نصب مفعول جعلنا الثاني وأغلالا مفعول جعلنا الأول فهي الفاء للعطف والتعقيب أو للعطف والتعليل وسيرد الفرق بين المعنيين، وهي مبتدأ والى الأذقان متعلقان بمحذوف خبر أي مجموعة أو مرفوعة، وسيأتي المزيد من أسرار هذا التعبير في باب البلاغة، فهم الفاء كالفاء الأولى وسماها بعضهم فاء النتيجة وهم مبتدأ ومقمحون خبر.
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل ومن بين أيديهم في موضع نصب مفعول جعلنا الثاني وسدا مفعول جعلنا الأول ومن خلفهم سدا عطف على من بين أيديهم سدا. (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة وأغشيناهم فعل وفاعل ومفعول به والفاء تعليلية وهم مبتدأ وجملة لا يبصرون خبر هم.
البلاغة:
في قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» الآية فنون شتى نوردها فيما يلي:
1- الاستعارة التمثيلية:
تقدم القول كثيرا في الاستعارة التمثيلية وهي هنا تمثيل لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد بأن جعلهم كالمغلولين المقموحين في أنهم لا يلتفتون الى الحق ولا يثنون أعناقهم نحوه، لأن(8/176)
الأغلال واصلة الى الأذقان ملزوزة إليها فلا تخليهم يطأطئون فهم دائما مقمحون رافعون رءوسهم غاضون أبصارهم، أي شبهت حالتهم وهيئتهم في عدم إتاحة الايمان لهم بهيئة من غلت يده وعنقه فلم يستطع أن يتعاطى ما يريدون، والجامع مطلق المانع. بقي هناك مبحث هام وهو هل يعود الضمير وهو قوله فهي الى الأذقان على الأغلال أو على الأيدي، وقد رجح الزمخشري عودة الضمير على الأغلال قال:
«فالأغلال واصلة الى الأذقان ملزوزة إليها وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادر من الحلقة الى الذقن فلا تخليه يطأطىء رأسه ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا» واستطرد الزمخشري داعما رأيه في عودة الضمير على الأغلال فقال: «فإن قلت فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدي وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق، وبذلك يسمى جامعة، كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدي؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك والدليل عليه قوله: فهم مقمحون، ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة قوله فهي الى الأذقان ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى الى نفسه الى الباطل الذي يجفو عنه وترك للحق الأبلج الى الباطل اللجلج» ولعل الزمخشري قد بلغ الذروة في هذا التقرير الفريد ودل على اطلاعه وتمكنه من علم البيان، على أن الوجه الثاني وهو عودة الضمير على الأيدي لا يخلو من وجاهة وسمو بيان وفيها مبالغة في تصوير الهول تتلاءم مع سياق الكلام فإن اليد وإن لم يجر لها ذكر في العبارة فإن الغل يدل عليها بل ويستلزمها، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في العنق يوجب الاقماح، أضف الى ذلك أن اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرح(8/177)
بإطلاقها، ولعله يتحيل بها ويستعين على فكاك الغل وليس الأمر كذلك إذا كانت مغلولة فيضاف الى ما تقدم من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والانخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدي لأن اليد- كما قلنا- آلة الحيلة والوسيلة الى الخلاص.
2- استعارة تمثيلية ثانية:
وفي قوله «وجعلنا من بين أيديهم سدا الآية» استعارة تمثيلية ثانية فقد شبههم بمن أحاط بهم سدان هائلان فغطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم وورائهم في أنهم محبوسون في وهدة الجهالة ممنوعون من النظر في الآيات والدلائل أو كأنهم وقد حرموا نعمة التفكير في القرون الخالية والأمم الماضية والتأمل في المغاب الآتية والعواقب المستقبلة قد أحيطوا بسد من أمامهم وسد من ورائهم فهم في ظلمة داكنة لا تختلج العين من جانبها بقبس ولا تتوسم بصيصا من أمل.
3- القلب:
وفي قوله «إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا» القلب وهو من فنون كلام العرب إذ حقيقته جعلنا أعناقهم في الأغلال، وقال ثعلب: في قوله تعالى: «ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه» ان المعنى اسلكوا فيه سلسلة أي ادخلوا في عنقه سلسلة.
4- التنكير:
وفي تنكير أغلالا مبالغة في تعظيمها وتهويل أمرها.(8/178)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
[سورة يس (36) : الآيات 10 الى 12]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)
الإعراب:
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان شأنهم بطريق التوبيخ بعد بيانه بطريق التمثيل ولك أن تعطفه على ما قبله فتكون الواو عاطفة، وسواء خبر مقدم وعليهم متعلقان بسواء والهمزة للاستفهام وهي همزة التسوية وقد تقدم بحثها مفصلا في سورة البقرة المماثلة وهي مع الفعل بعدها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر أي مستو عندك إنذارك إياهم وعدمه، وأم حرف عطف معادل للهمزة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنذرهم فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر والهاء مفعول به وجملة لا يؤمنون استئناف مؤكد لما قلبه أو حال مؤكدة له أو بدل منه.
(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) إنما كافة ومكفوفة وتنذر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ومن مفعول به وجملة اتبع الذكر صلة وجملة خشي الرحمن عطف على اتبع الذكر وبالغيب حال من الفاعل أو من المفعول به، ونتساءل: ما وجه ذكر الانذار الثاني في معرض المخالفة للأول مع أن الأول إثبات والوجه هو أن(8/179)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
البغية المرومة بالإنذار غير حاصلة وهي الايمان فقفّى بقوله إنما تنذر على معنى انما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم الذين اتبعوا الذكر وهو القرآن والخاشون ربهم فالمحصور إنما هو الانذار النافع فلا ينافيه وجود غيره لمن لم ينتفع به.
(فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) الفاء الفصيحة وبشره فعل أمر وفاعل ومفعول به وبمغفرة متعلقان ببشره وأجر عطف على بمغفرة وكريم صفة لأجر. (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) إن واسمها ونحن مبتدأ أو ضمير فصل وجملة نحيي الموتى خبر نحن والجملة خبر إن أو الجملة خبر إنا ونكتب عطف على نحيي وما مفعول به وجملة قدموا صلة ما وآثارهم عطف على ما والمراد بها ما استن بعدهم وفي الحديث: «من سن سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من وزرهم شيء» .
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) نصب كل شيء بفعل محذوف يفسره ما بعده فهو نصب على الاشتغال وأحصيناه فعل وفاعل ومفعول به والجملة مفسرة لا محل لها وفي إمام متعلقان بأحصيناه ومبين نعت إمام أي في كتاب بيّن.
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 19]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)(8/180)
اللغة:
(الْقَرْيَةِ) : القرية بفتح القاف وكسرها: الضيعة والمصر الجامع وجمع الناس والجمع قرى وقرى بضم القاف وكسرها والنسبة إليها قرويّ وقريي والمراد بها هنا انطاكية وسيأتي شيء عنها في باب الفوائد.
(فَعَزَّزْنا) : قوينا.
(طائِرُكُمْ) : تقدم ذكره في هذا الكتاب وفي المختار: «وطائر الإنسان عمله الذي قلده والطير أيضا الاسم من التطير ومنه قولهم:
لا طير إلا طير الله كما يقال لا أمر إلا أمر الله وقال ابن السكيت:
يقال: طائر الله لا طائرك ولا تقل طير الله وتطير من الشيء وبالشيء والاسم الطيرة بوزن عنبة وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء.(8/181)
الإعراب:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) كلام مستأنف مسوق لأمر النبي بأن يضرب لقومه مثلا بأصحاب القرية، واضرب فعل أمر بمعنى اجعل ولهم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لمثلا وتقدمت عليه ومثلا مفعول به ثان لاضرب وأصحاب مفعول به أول، ومن المفيد أن نورد عبارة أبي السعود في تفسيره وهي: «ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله تعالى: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد الى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى: «وضربنا لكم الأمثال» فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على تكذيب الرسل أي طبق حالهم بحالهم، على أن مثلا مفعول ثان لاضرب وأصحاب القرية مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه، وعلى الثاني اذكر وبيّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل» وعلى هذا تكون اضرب بمعنى اذكر ومثلا مفعول به وأصحاب بدل على حذف مضاف أي مثل أصحاب والأول أولى، وإذ ظرف لما مضى من الزمن ومحله بدل اشتمال من أصحاب القرية وجملة جاءها المرسلون في محل جر بإضافة الظرف إليها.
(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما) إذ ظرف بدل من إذ الأولى أي بدل مفصل من مجمل وهو يدخل في نطاق البدل المطابق أو بدل الكل من الكل وجملة أرسلنا في محل جر بالإضافة وإليهم متعلقان بأرسلنا واثنين مفعول به لأرسلنا والفاء عاطفة وكذبوهما فعل ماض(8/182)
وفاعل ومفعول به. (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) الفاء عاطفة وعززنا فعل ماض وفاعل، بثالث متعلقان بعززنا، فقالوا عطف على فعززنا وان واسمها وإليكم متعلقان بمرسلون ومرسلون خبر إن والجملة مقول القول ومفعول عززنا محذوف وسيأتي سر حذفه في باب البلاغة. (قالُوا: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) قالوا فعل وفاعل وما نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر أنتم ومثلنا صفة لبشر والخطاب للثلاثة وجملة ما أنتم مقول القول. (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) الواو عاطفة وما نافية وأنزل الرحمن فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا بمن منصوب محلا على أنه مفعول أنزل وإن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وجملة تكذبون خبر.
(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) ربنا مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وإن واسمها وكسرت همزتها لمجيء اللام في خبرها وإليكم متعلقان بمرسلون واللام المزحلقة ومرسلون خبر إنا وجملة إنا إليكم لمرسلون سدت مسد مفعولي يعلم وسيأتي بحث تأكيد الخبر في باب البلاغة. (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو عاطفة وما نافية وعلينا خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة. (قالُوا: إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) قالوا فعل وفاعل وان واسمها وكسرت همزتها لوقوعها بعد القول وجملة تطيرنا خبرها وبكم متعلقان بتطيرنا وسبب تطيرهم أنهم توقعوا الشرّ وأوجسوه بعد أن كذبوهم وقد ترامت إليهم مصائر الأقوام الهالكة بسبب تكذيبها الأنبياء.
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنتهوا فعل(8/183)
مضارع مجزوم بلم والواو فاعل واللام واقعة في جواب القسم ونرجمنكم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثفيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به والجملة لا محل لها وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفاقا للقاعدة المشهورة وليمسنكم عطف على لنرجمنكم ومنّا متعلقان بيمسنكم وعذاب فاعل وأليم صفته. (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) طائركم مبتدأ ومعكم ظرف متعلق بمحذوف خبر والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وإن شرطية وذكرتم فعل ماض مبني للمجهول وهو في محل جزم فعل الشرط وجواب الشرط محذوف والقاعدة عند سيبويه أنه إذا اجتمع شرط واستفهام يجاب الاستفهام ويحذف جواب الشرط وذهب غيره الى إجابة الشرط، والتقدير عند سيبويه تتطيرون وعند الآخرين تطيروا بالجزم وبل حرف عطف وإضراب أي ليس الأمر كذلك وأنتم مبتدأ وقوم خبر ومسرفون صفة.
البلاغة:
1- الحذف:
في قوله «فعززنا بثالث» فن الإيجاز بالحذف فقد حذف مفعول عززنا والتقدير فعززناهما بثالث وإنما جنح الى هذا الحذف لانصباب الغرض على المعزز به الثالث وإذا كان الغرض هو المراد وكان الكلام منصبّا عليه كان ما سواه مطروحا، ونظيره قولك حكم(8/184)
الحاكم اليوم بالحق والغرض المسوق اليه قولك بالحق فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه وإنما اهتمامك كله هو مراعاة جانب الحق، وستأتي أسماء الثلاثة في باب الفوائد.
2- التأكيد:
وفي هذه الآيات يبدو التأكيد بأروع صوره للخبر فقد قال أولا «إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما» فأورد الكلام ابتدائي الخبر ثم قال إنا إليكم مرسلون فأكده بمؤكدين وهو إن واسمية الجملة فأورد الكلام طلبيا ثم قال إنا إليكم لمرسلون فترقى في التأكيد بثلاثة وهي إن واللام واسمية الجملة فأورد الكلام إنكاري الخبر جوابا عن إنكارهم، قيل وفي قوله ربنا يعلم تأكيد رابع وهو اجراء الكلام مجرى القسم في التأكيد به وفي أنه يجاب بما يجاب به القسم. وفي هذه الآية ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام فإن ذكر الرسالة مهد لذكر البلاغ والبيان.
الفوائد:
ذكرنا في باب اللغة أن القرية انطاكية بفتح الهمزة وكسرها وسكون النون وكسر الكاف وفتح الياء المخففة، روى التاريخ ما ملخصه: بعث عيسى عليه السلام رسولين من الحواريين الى أهل انطاكية وهما يحيى وبولس بفتح الباء الموحدة، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار فسلما عليه فقال لهما الشيخ من أنتما؟ فقالا رسولا عيسى فقال أمعكما آية فقالا نشفي المرضى ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فقام(8/185)
على الفور فآمن حبيب وفشا الخبر في المدينة فشفي على أيديهما خلق كثير ورقى حديثهما الى الملك وقال لهما ألنا إله سوى آلهتنا قالا نعم من أوجدك وآلهتك. فتبعهما الناس وضربوهما وقيل حبسا، ثم بعث عيسى عليه السلام رأس الحواريين شمعون الصفي على أثرهما فدخل شمعون البلد متنكرا فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به فرفعوا خبره الى الملك فدعاه وأنس به فقال له شمعون ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ فقال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك فدعاهما فقال شمعون من أرسلكما؟ قالا الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال: صفاه وأوجزا. قالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال وما آيتكما؟ قالا ما يتمنى الملك.
فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصره وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مغلقتين ينظر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف. قال: ليس لي عنك سر، إن إلهنا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبونه أنه منهم، ثم قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميت آمنا به، فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إني أدخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة. قال الملك: ومن هم؟
قال: شمعون وهذان. فتعجب الملك، فلما رأى شمعون أن قوله قد أثر فيه نصحه أخبره بالحال أنه رسول عيسى ودعاه فآمن الملك وآمن معه قوم وكفر آخرون وقيل بل كفر الملك وأجمع على قتل الرسل هو وقومه فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم الى طاعة المرسلين.(8/186)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قال وهب: اسمهما يوحنا وبولس وقيل صادق ومصدوق والثالث شمعون.
[سورة يس (36) : الآيات 20 الى 29]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
الإعراب:
(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) الواو عاطفة أو استئنافية وجاء فعل ماض ومن أقصى المدينة متعلقان بجاء وأراد بالمدينة القرية الآنفة الذكر أي انطاكية ورجل فاعل وجملة يسعى صفة والرجل هو حبيب النجار وستأتي لمحة عنه في باب الفوائد. (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا(8/187)
الْمُرْسَلِينَ)
يا حرف نداء وقوم منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وقد تقدم بحثه واتبعوا فعل أمر وفاعل والمرسلين مفعول به أي الذين هم رسل عيسى عليه السلام. (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) اتبعوا تأكيد للأول وهو فعل أمر وفاعل ومن مفعول به وجملة لا يسألكم صلة والكاف مفعول به أول وأجرا مفعول به ثان والواو واو الحال وهم مبتدأ ومهتدون خبر والجملة نصب على الحال، وأجاز بعضهم أن تكون من بدلا من المرسلين ولا أدري ما هو مسوغه بعد وجود عامله وكأنهم تصوروا حذف مفعول اتبعوا ولا أرى داعيا إليه، وسيأتي المزيد من بحث هذا الكلام في باب البلاغة.
(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الواو عاطفة وما اسم استفهام مبتدأ ولي خبره وجملة لا أعبد حالية والفاعل مستتر تقديره أنا والذي مفعوله وجملة فطرني صلة واليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) الهمزة للاستفهام الإنكاري ويجوز أن يكون معنى الاستفهام النفي واتخذ فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ومن دونه مفعول به ثان وآلهة مفعول به أول. (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) إن شرطية ويردن فعل الشرط والنون للوقاية والياء المحذوفة لاتباع خط المصحف مفعول به والرحمن فاعل وبضر متعلقان بيردن ولا نافية وتغن جواب الشرط وعني متعلقان بتغن وشفاعتهم فاعل وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقد تقدم ذكرها كثيرا ولا ينقذون عطف على لا تغن وحذفت الياء أيضا مراعاة لسنة المصحف والجملة الشرط استئنافية ويجوز أن تكون صفة لآلهة. (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها وإذن حرف جواب(8/188)
وجزاء لا عمل لها واللام لام المزحلقة وفي ضلال خبر إن ومبين صفة وسيأتي بحث هام عن إذن في باب الفوائد.
(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) إن واسمها وجملة آمنت خبرها وبربكم متعلقان بآمنت والفاء الفصيحة واسمعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والياء المحذوفة مفعول به، ومعنى اسمعون اسمعوا قولي واتبعوا المرسلين وفيه دليل على تصلبه لمبدئه وصدق إيمانه وقيل اسمعوا إيماني تشهدوا لي به. (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) قيل فعل ماض مبني للمجهول ومتعلقه محذوف أي قيل له عند قتله ورؤيته ما أعد له جزاء على صدق إيمانه وقال فعل ماض ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وليت واسمها وجملة يعلمون خبرها. (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بما متعلقان بيعلمون وما مصدرية أو موصولة أي بغفران ربي أو بالذي غفره لي ربي من الذنوب وقال الفراء هي استفهامية ورد عليه بأنها لو كانت كذلك لحذفت ألفها كما هي القاعدة، وقيل ان حذف الألف أكثري لا كلي وهبه كذلك لا يسوغ حمل القرآن على الضعيف من الوجوه، وجعلني فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به أول ومن المكرمين مفعول به ثان.
(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) كلام مستأنف مسوق لاحتقار أمرهم أي لا حاجة الى إرسال جنود لهم فأقل شيء كاف لإبادتهم واستئصال شأفتهم، وما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بأنزلنا ومن بعده متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد وجند مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به ومن السماء صفة لجند والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها(8/189)
ومنزلين خبرها. (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) إن نافية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مضمر والتقدير ما كانت الصيحة إلا صيحة واحدة والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ وخامدون خبر.
البلاغة:
1- الالتفات في قوله «ومالي لا أعبد الذي فطرني» وفائدته أن انتقاله من مخاطبتهم ومناصحتهم الى التكلم تلطفا بهم من جهة ووعيدا لهم من جهة ثانية، فقد صرف الكلام أولا الى نفسه وأراهم أنه لا يختار لهم إلا ما يختاره لنفسه، ثم التفت الى مخاطبتهم ثانيا مقرعا مهددا بالعواقب التي تنتظرهم، ثم عاد أخيرا الى التلطف في النصيحة لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه، وقد وضع قوله: «ومالي لا أعبد الذي فطرني» مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى الى قوله «وإليه ترجعون» ولولا أنه قصد ذلك لقال الذي فطرني وإليه أرجع وقد ساقه ذلك المساق الى أن قال: «إني آمنت بربكم فاسمعون» فانظر أيها المتأمل الى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها.
2- ائتلاف الفاصلة:
وفي قوله: «قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» فن ائتلاف الفاصلة مع ما يدل عليه سائر الكلام، فإن ذكر الجنة مهد لفاصلتها وفي ذلك تنبيه عظيم على(8/190)
وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمير فيه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته ولمن ترصدوا له وتربصوا به الدوائر ونصبوا له الغوائل والمهالك، هذا من جهة ثم إن في تمنيه أن يعلموا ليروعوا إلى أنفسهم بعد أن ينجلي الرين عن صدورهم وتنجاب الغواشي عن عيونهم فيبدو الصبح لذي عينين، وتتبدد حنادس الشك والمين، وفي ذلك انتصار له وقوز لدعوته وما بعد ذلك غبطة لمستزيد.
3- التشبيه البليغ في قوله «فإذا هم خامدون» شببهم بالنار الخامدة التي صارت رمادا على حد قول لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا إذ هو ساطع
أي ليس حال المرء وحياته وبهجته ثم موته وفناؤه بعد ذلك إلا مثل حال شهاب النار وضوئه يصير رمادا بعد إضاءته. وبعد هذا البيت:
وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بدّ يوما أن ترد الودائع
شبه مال الشخص وأقاربه بالودائع تشبيها بليغا بجامع أنه لا بد من أخذ كل منها.
4- في قوله: «قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون» وإنما ختم بقوله «وهم مهتدون» مع تمام الكلام بدونه لزيادة الحث على الاتباع ففيه إطناب.(8/191)
الفوائد:
بحث هام عن إذن:
تحدثنا في هذا الكتاب عن إذن ونضيف الى ما تقدم ما قاله الرضي ففيه جلاء لموقعها من الآية، قال: «إنها اسم وأصلها إذ، حذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين وفتح ليكون في صورة ظرف منصوب وقصد جعله صالحا لجميع الأزمنة بعد ما كان مختصا بالماضي وضمن معنى الشرط غالبا وإنما قلنا غالبا لأنه لا معنى للشرط في نحو «قال فعلتها إذن وأنا من الضالين» ثم قال الرضي: وإذا كان بمعنى الشرط في الماضي جاز اجراؤه مجرى لو في قرن جوابه باللام نحو «إذن لأذقناك» أي لو ركنت شيئا قليلا لأذقناك، وإذا كان بمعنى الشرط في المستقبل جاز قرن جوابه بالفاء كقول النابغة:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذن فلا رفعت سوطي الي يدي
أي إن أتيت، وقد تستعمل بعد لو وإن توكيدا لهما نحو لو زرتني لأكرمتك وإن جئتني إذن أزورك» ثم قال: ولما احتملت إذن التي يليها المضارع معنى الجزاء فالمضارع مستقبل واحتملت معنى مجرد الزمان، فالمضارع حال وقصد التنصيص على معنى الجزاء في إذن نصب المضارع بأن المقدرة لأنها تخلصه للاستقبال فتحمل إذن على الغالب فيها من الجزاء لانتفاء الحالية المانعة من الجزاء بسبب النصب بأن» وقد أطال الرضي في البحث فحسبنا ما اقتبسناه من كلامه ليضاف الى ما تقدم عنها.(8/192)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
[سورة يس (36) : الآيات 30 الى 32]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
الإعراب:
(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) في هذا النداء وجهان أولهما أنه منادى شبيه بالمضاف ولذلك نصب وإنما كان شبيها بالمضاف لأنه اتصل به شيء من تمام معناه وهو على العباد ولك أن تجعله منادى نكرة مقصودة كأنما المنادى حسرة معينة وإنما نصبت لأنها وصفت بالجار والمجرور وقد تقدم معنا أن المنادى النكرة المقصودة إذا وصف نصب والوجه الثاني أن المنادى محذوف وحسرة مصدر أي أتحسر حسرة واختلف المفسرون في المتحسر ولا داعي للاختلاف فالحسرة جديرة بهم والمستهزءون بالرسل أحرياء بأن يتحسر عليهم المتحسرون أو يتحسروا على أنفسهم. والنداء هنا مجازي أي يا حسرة احضري فهذا أوانك. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) كلام مستأنف مسوق لتعليل التحسر عليهم وما نافية ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد ورسول مجرور بمن لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وإلا أداة حصر وجملة كانوا استثناء من أعم الأحوال فهي جملة في محل نصب على الحال من الهاء في يأتيهم وكان واسمها وبه جار ومجرور متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا.(8/193)
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري أي لقد علموا ذلك جيدا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل وقد علقت يروا عن العمل لأن الرؤية هنا قلبية علمية وكم خبرية في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا والجملة في محل نصب مفعول يروا ويجوز أن تكون كم استفهامية وقبلهم ظرف متعلق بأهلكنا ومن القرون حال وأن وما في حيزها بدل من معنى كم أهلكنا والتقدير: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم ويجوز أن يكون المصدر المؤول معمولا لفعل محذوف دل عليه السياق والمعنى تقديره وقضينا وحكمنا أنهم إليهم لا يرجعون وان واسمها وإليهم متعلقان بيرجعون ولا نافية وجملة يرجعون خبر ان وللزمخشري فيها كلام لطيف نورده في باب الفوائد. (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) الواو عاطفة وإن نافية وكل مبتدأ ولما بمعنى إلا وجميع خبر كل ولدينا ظرف متعلق بجميع أو بمحضرون ومحضرون خبر ثان وسيأتي مزيد من إعراب هذه الآية وقراءاتها.
الفوائد:
1- كلام الزمخشري في الآية:
للمعربين كلام طويل في إعراب قوله تعالى: «ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون» وقد أوردنا لك ما رأيناه أمثل الأوجه في إعرابها ونرى من المفيد أن نورد لك الكلام الذي أورده الزمخشري بهذا الصدد قال: «ألم يروا: ألم يعلموا وهو معلق عن العمل في كم لأن كم لا يعمل فيها عامل قبلها سواء كانت(8/194)
للاستفهام أو لمضمر لأن أصلها الاستفهام إلا أن معناها نافذ في الجملة كما نفذ في قولك ألم يروا إن زيدا لمنطلق وان لم يعمل في لفظه وانهم إليهم لا يرجعون بدل من كمّ أهلكنا على المعنى لا على اللفظ تقديره ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم» .
هذا وقد قرىء بتخفيف «لما» فتكون إن مخففة من الثقيلة وإن مهملة عن العمل وكل مبتدأ وما بعده خبره ولزمت اللام في الخبر فرقا بين المخففة والنافية وما مزيدة.
2- مناقشة لطيفة:
اعلم أن الزمخشري أورد سؤالا في الآية فقال: كيف أخبر عن كل بجميع مع أن الفارسي نص على أنه لا يجوز: إن الذاهبة جارية صاحبها، واستشكلوا قوله تعالى «فإن كانتا اثنتين» لأنه أخبر عن ضمير الاثنين بالاثنين فلا فائدة فيه، وانتقد بعض الناس على الفارسي وقال إن الجارية مضافة والإضافة تكون بأدنى ملابسة فلا تدل إضافة الجارية إليه على أنها ملكه بل قد تكون جارته فأضافها باعتبار الجوار فقط ثم قل صاحبها فأفاد أنها ملكه، وأجاب الزمخشري عن السؤال بأن كلا لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع وهذا قد نصّ عليه ابن عصفور فإنه فرق بين أجمع وجميع بأن أجمع لا يقتضي الجمعية بخلاف جميع لكن إنما ادعى ذلك في حالة النصب نحو جاء الزيدون جميعا أما في الرفع فلا فرق بين جاء الزيدون أجمعون أو جميع فما قاله الزمخشري مشكل لأن جميعا لا يفيد الجمعية إلا إذا انتصب على الحال فيبقى السؤال واردا، وأجاب عنه الفخر الرازي بجواب حسن وهو أنه إذا كان في الخبر زيادة صفة أو إضافة تقييد صح أن يؤتى بلفظ المبتدأ أو معناه كقولك الرجل رجل صالح.(8/195)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
الإعراب:
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) كلام مستأنف مسوق لإيراد آية على البعث والتوحيد. وآية خبر مقدم ولهم صفة والأرض مبتدأ مؤخر وجملة أحييناها يجوز فيها أن تكون حالية وأن تكون صفة وسيأتي السر في وصفيتها في باب الفوائد. (وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) عطف على أحييناها وأخرجنا فعل وفاعل ومنها متعلقان بأخرجنا وحبا مفعول به والفاء استئنافية ومنه متعلقان بيأكلون.
(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) وجعلنا فعل وفاعل والجملة عطف على أحييناها وفيها متعلقان بجعلنا أو بمحذوف مفعول به ثان لجعلنا وجنات مفعول به ومن نخيل صفة لجنات وأعناب عطف على نخيل وفجرنا عطف أيضا وفيها متعلقان بفجرنا ومن العيون صفة لمفعول فجرنا المحذوف أي ينابيع كائنة من العيون، وقدره أبو البقاء بقوله: ما ينتفعون به من العيون فمن للتبعيض. (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ليأكلوا تعليل لما تقدم ومن ثمره جار ومجرور متعلقان بيأكلوا وما(8/196)
موصولية أو نكرة موصوفة عطف على من ثمره وجملة عملته أيديهم صلة أو صفة ولك أن تجعلها مصدرية أي ومن عمل أيديهم فهو بمعنى ما تقدم، وإعرابه: قال الزمخشري: «ولك أن تجعل ما نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه» والهمزة للاستفهام الانكاري لأنه لا شيء أقبح من إنكار النعمة وغمط الصنيع والفاء تقدم أنها في مثل هذا المقام عاطفة على محذوف يقتضيه السياق أي أيرون هذه النعم ويستمتعون بها فلا يشكرونها ولا نافية ويشكرون فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف كما أشرنا.
(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وقد تقدم القول فيه والجملة مستأنفة مسوقة لتنزيهه تعالى عما لا يليق به والذي مضاف إليه وجملة خلق صلة والأزواج مفعول به وكلها تأكيد ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة تنبت الأرض صلة.
(وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) عطف على قوله مما تنبت الأرض وبهذا استمر في الأمور الثلاثة التي لا يخرج عنها شيء من أصناف المخلوقات وهي على التوالي:
1- ما تنبته الأرض من الحبوب وأصناف الشجر.
2- ما يتوالده الناس من ذكر وأنثى.
3- من أزواج لم يطلع الله عباده عليها بعد ولم يكتنهوا حقيقتها.
البلاغة:
في قوله: «سبحان الذي خلق الأزواج كلها» الآية فن التناسب(8/197)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
بين المعاني أو صحة التفسير وهو أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، فإما أن يكون مجملا يحتاج إلى تفصيل أو موجها يفتقر إلى توجيه أو محتملا يحتاج المراد منه إلى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه، ووقوع التفسير في الكلام على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور وآونة بعد المبتدأ الذي التفسير خبره، وقد أتت صحة التفسير في هذه الآية مقترنة بصحة التقسيم واندمج فيهما الترتيب والتهذيب فكان فيها أربعة فنون فقد قدم سبحانه النبات كما ذكرنا في الإعراب وانتقل على طريق البلاغة إلى الأعلى فثنى بأشرف الحيوان وهو الإنسان ليستلزم ذكره بقية الحيوان ثم ثلث بقوله:
«ومما لا يعلمون» فانتقل من الخصوص إلى العموم ليندرج تحت العموم فسبحان منزل القرآن.
الفوائد:
ذكر الزمخشري أن الثمر يجمع على ثمر بفتحتين وثمر بضمتين وثمر بضمة فسكون ولم يذكر غيره الاثنين الأولين.
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)(8/198)
اللغة:
(نَسْلَخُ) : نفصل يقال سلخ جلد الشاة إذا كشطه عنها وأزاله، وسلخ الحية. وفي معاجم اللغة: سلخ يسلخ من باب نصر وفتح سلخا الخروف كشط جلده وسلخت المرأة درعها: نزعته وسلخت الحية انكشفت عن سلختها وسلخها أي قشرها فاستعير السلخ لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله.
(العرجون) : بضم العين ويقال له أيضا العرجد والعرجد بتشديد الدال أصل العذق الذي يعوج ويبقى على النخل يابسا بعد أن تقطع عنه الشماريخ، والجمع عراجين. وقال الزجاج: هو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف. وسيأتي سر تشبيه القمر به في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) الواو عاطفة وآية خبر مقدم ولهم صفة والليل مبتدأ مؤخر وجملة نسلخ حالية ومنه متعلقان بنسلخ والنهار مفعول والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ ومظلمون خبر ومعنى مظلمون أي داخلون في الظلام. يقال أظلمنا كما يقال أعتمنا وأدجينا وأظهرنا وكذلك أصبحنا وأضحينا وأمسينا.
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) الشمس مبتدأ وجملة تجري خبر ولمستقر متعلقان بتجري وسيرد في باب الفوائد معنى المستقر ولها(8/199)
متعلقان بمحذوف صفة. (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ذلك مبتدأ والاشارة الى جريها وتقدير خبره والعزيز مضاف اليه والعليم صفة ثانية. (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) الواو عاطفة والقمر مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده أي فهو منصوب على الاشتغال وجملة قدرناه من الفعل والفاعل والمفعول به مفسرة وقرىء بالرفع على أنه معطوف على المبتدأ المقدم أو على انه مبتدأ خبره قدرناه ومنازل فيه أوجه: أحدها أنه حال على حذف مضاف أي ذا منازل لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل وثانيها أنه مفعول ثان لقدرناه أي صيّرناه منازل والثالث انه ظرف أي قدرنا سيره في منازل وقد جنح الى هذا الوجه الزمخشري والجلال، وحتى حرف غاية وجر وعاد فعل ماض وفاعله هو أي القمر في آخر منازله ولك أن تجعل عاد ناقصة فيكون الاسم مستترا والكاف اسم بمعنى مثل خبر عاد وان اعتبرتها تامة كانت في محل نصب على الحال والقديم صفة للعرجون وسيأتي سر هذا التشبيه في باب البلاغة.
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) لا نافية والشمس مبتدأ وجملة ينبغي خبر ولها متعلقان بينبغي وأن وما في حيزها فاعل ينبغي والقمر مفعول ومعنى ادراك الشمس للقمر الإخلال بالسير المقدر والنظام المتبع لئلا يختل تكوين الكون ونظامه. (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) عطف على ما تقدم والليل مبتدأ وسابق خبر والنهار مضاف اليه وسيأتي المزيد من معناه. (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ولأن التنوين عوض عن كلمة مضافة أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وفي فلك متعلقان بيسبحون وجملة يسبحون خبر والواو فاعل لأنه نزلها منزلة العقلاء وسيأتي السر في ذلك في باب البلاغة.(8/200)
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على العديد من فنون البلاغة:
1- الاستعارة:
فأولها الاستعارة المكنية في قوله «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» فقد شبه تبرؤ الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ وذلك انه لما كانت هوادي الصبح عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليها اسم السلخ وكان ذلك أولى من أن يقال نخرج مثلا لأن السلخ لا يتأتى إلى بجهد ومشقة لفرط التحامه باللحم والعظام، والجامع بينهما الإزالة والتعرية فكما أن الشاة تتعرى حين يسلخ إهابها كذلك الليل إذا انسلخ عنه النهار زال ضوءه وبدت ظلمته الحالكة تغمر الكون بسوادها.
2- التوشيح:
وفي قوله: «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار» الآية فن التوشيح وهو أن يكون في أول الكلام معنى إذا علم علمت منه القافية إن كان شعرا أو السجع إن كان نثرا بشرط أن يكون المعنى المتقدم بلفظه من جنس معنى القافية أو السجعة بلفظه أو من لوازم لفظه فإن من كان حافظا للسورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة تكون مظلمون لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم أي دخل في الظلمات ما دامت تلك الحال.(8/201)
3- التشبيه المرسل:
وذلك في قوله «حتى عاد كالعرجون القديم» فقد مثل الهلال بأصل عذق النخلة والعذق بكسر العين وهو الكباسة والكباسة عنقود النخل وهو تشبيه بديع للهلال فإن العرجون إذا قدم دق وانحنى واصفر وهي وجوه الشبه بين الهلال والعرجون فهو يشبهه في رأي العين في الدقة لا في المقدار والاستقواس والاصفرار.
4- الاستعارة أيضا:
واستعار الإدراك للشمس والسبق لليل والنهار ليبين ما هو مقرر في علم الجغرافيا من دورات الشمس والقمر والأرض وتكون الليل والنهار، وجعل الشمس غير مدركة والقمر غير سابق لأن الشمس ثابتة لا تدور إلا دورة لم تعرف مدتها حول شيء مجهول لنا بالكلية ولها أيضا دورة على محورها كالأرض تقطعها في خمسة وعشرين يوما أو هي بالضبط خمسة وعشرون يوما وست ساعات وست عشرة دقيقة وثماني ثوان، أما القمر فله حركتان: إحداهما حول محوره وثانيتهما حول الأرض وكل منهما يتجه من المغرب إلى المشرق ويقطع مداره حول الأرض في تسعة وعشرين يوما ونصف تقريبا وهذا هو المسمى بالشهر القمري فكانت الشمس جديرة بأن توصف بالإدراك لتباطؤ سيرها والقمر خليق بأن يوصف بالسبق لسرعة سيره.
5- التغليب:
وغلب العقلاء لأنه نزل الشمس والقمر والنجوم والكواكب(8/202)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
منزلتهم والسر فيه انه لما وصفهم بالسباحة وهي من أوصاف العقلاء ساغ له ذلك.
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 46]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)
اللغة:
(الْمَشْحُونِ) : شحن السفينة ملأها وأتم جهازها كله «في الفلك المشحون» وبينهما شحناء: عداوة وهو مشاحن لأخيه ويقال للشيء الشديد الحموضة انه ليشحن الذباب أي يطرده وبابه فتح إذا كان بمعنى الملء وإذا كان بمعنى الطرد فهو من باب فتح ونصر، يقال:
شحنت الكلاب أي أبعدت الطرد ولم تصد شيئا وإذا كان بمعنى الحقد فهو من باب تعب.
(صَرِيخَ) : مغيث ويطلق أيضا على الصارخ أي المستغيث فهو من الأضداد ويكون مصدرا بمعنى الإغاثة وكل منهما مراد هنا وفي الأساس: «وصرخ يصرخ صراخا وصريخا وهو صارخ وصريخ وقد نقع الصريخ قال:(8/203)
قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم ... من بين ملجم مهره أو سافع
والصراخ: صوت المستغيث وصوت المغيث إذا صرخ بقومه للإغاثة.
قال سلامة:
إنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب
أي كان الغياث له وتقول: جاء فلان صارخا وصريخا ومستصرخا: مستغيثا وأقبل صارخا وصارخة وصريخا ومصرخا:
مغيثا قال:
وكانوا مهلكي الأبناء لولا ... تداركهم بصارخة شفيق
وفي المثل: «عبد صريخه أمة» أي مغيثه وأصرخته أغثته، واستصرخني استغاثني وتصارخوا واصطرخوا: تصايحوا» .
(الذرية) : سيأتي بحثها في باب الإعراب.
الإعراب:
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) اختلف في عود الضمير ونرى أن الأصوب أن يكون عاما وأن يكون بمثابة امتنان عليهم بأصناف من النعم منها حملهم في السفن فتكون الألف واللام في الفلك للجنس لا لسفينة نوح خاصة. وآية خبر مقدم ولهم صفة وأنا أن وما في حيزها مبتدأ مؤخر وأن واسمها وجملة حملنا خبرها(8/204)
وحملنا فعل وفاعل وذريتهم مفعول به وفي الفلك متعلقان بحملنا والمشحون صفة وقد أطلقت الذرية على الأصول وهي تطلق أيضا على الفروع لأن لفظ الذرية مشترك بين الضدين لأن الذرية من الذرء أي الخلق والفروع مخلوقون من الأصول والأصول خلقت منها الفروع وقال البغوي: «واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد» وفي القاموس: «ذرأ كجعل خلق والشيء كثره ومنه الذرية مثلثة لنسل الثقلين» واستدرك في التاج فقال: «وقد يطلق على الآباء والأصول قال الله تعالى: أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون والجمع ذراري كسراري» فليس في الآية إشكال كما زعم القرطبي وسيأتي نص عبارته في باب الفوائد.
(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) الواو عاطفة وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا ومن مثله في محل نصب على الحال من المفعول المؤخر وهو ما وجملة يركبون صلة ما والضمير في مثله يعود على الفلك فإما أن يراد بالمثل ما اصطنعوه بعد ذلك من وسائل الركوب أو أنه مقتصر على الإبل لأنهم كانوا يسمونها سفائن الصحراء وهناك أقوال يرجع إليها في المطولات. (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) الواو عاطفة وإن شرطية ونشأ فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره نحن ونغرقهم جواب الشرط والفاء عاطفة واختار ابن عطية أن تكون استئنافية وفي ذلك قطع للكلام، ولا نافية للجنس وصريخ اسمها مبني على الفتح ولهم خبرها والواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينقذون خبر وينقذون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو نائب فاعل. (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) إلا أداة حصر ورحمة مفعول لأجله فهو استثناء مفرغ من أعم العلل وقيل هو(8/205)
استثناء منقطع وقيل هو مفعول مطلق لفعل محذوف وقيل منصوب بنزع الخافض ومتاعا عطف على رحمة وإلى حين صفة وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان إعراضهم عن هذه الآيات الآنفة الذكر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اتقوا مقول القول واتقوا فعل أمر وفاعل وما مفعول به والظرف متعلق بمحذوف صلة ما وأيديكم مضاف إليه وما خلفكم عطف على ما بين أيديكم ولعلكم لعل واسمها وجملة ترحمون خبرها وجواب إذا محذوف مدلول عليه بقوله الآتي والتقدير أعرضوا وأشاحوا. (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد وآية مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل ومن آيات ربهم صفة ومعنى من التبعيض وإلا أداة حصر وجملة كانوا عنها معرضين في محل نصب حال وكان واسمها وعنها متعلقان بمعرضين ومعرضين خبرها.
البلاغة:
في قوله: «وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم» إلى قوله:
«ومتاعا إلى حين» سلامة الاختراع وهي الإتيان بمعنى لم يسبق إليه فإن نجاتهم من الغرق برحمة منه تعالى هي في حد ذاتها متاع يستمتعون به ولكنه على كل حال إلى أجل مقدر يموتون فيه لا مندوحة لهم عنه، فهم إن نجوا من الغرق فلن ينجوا مما يشبهه أو يدانيه، والموت(8/206)
لا تفاوت فيه. وقد رمق أبو الطيب، كعادته، سماء هذا المعنى فقال من قصيدة قالها بمصر يذكر بها حماه التي كانت تغشاه:
وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
يقول: فإن أسلم من مرض لم أبق خالدا ولكن سلمت من الموت بهذا المرض إلى الموت بمرض آخر وهذا معنى بديع تداوله الشعراء، فقال آخر:
إذا بلّ من داء به خال أنه ... تجاذبه الداء الذي هو قاتله
وقد دندن أبو الطيب لتصوير المتاع المستعجل ببيتين ولم يسم إلى الآية فقال:
تمتع من سهاد أو رقاد ... ولا تأمل كرى تحت الرجام
فإن لثالث الحالين معنى ... سوى معنى انتباهك والمنام
أراد بثالث الحالين الموت يقول ما دمت حيا تمتع من حالتي النوم والسهاد فإنك لا تنام في القبر، والموت غير اليقظة والرقاد فلا تحسبن الموت نوما.
الفوائد:
عبارة القرطبي في تفسير الآية:
وعدناك أن ننقل لك عبارة القرطبي وبرا بهذا الوعد نوردها لك: «هذه الآية من أشكل ما في هذه السورة لأنهم هم المحمولون(8/207)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون فالضميران مختلفان، ذكره المهدوي وحكاه النحاس عن علي ابن سليمان انه سمعه يقوله وقيل الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون المراد بذرياتهم أولادهم وضعفاءهم فالفلك على القول الأول سفينة نوح وعلى الثاني يكون اسما للجنس أخبر تعالى بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يضعف عن المشي والركوب من الذرية والضعفاء فيكون الضميران على هذا متفقين، وقيل الذرية الآباء والأجداد حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام فالآباء ذرية والأبناء ذرية بدليل هذه الآية قاله أبو عثمان وسمي الآباء ذرية لأنه ذرأ منهم الأبناء، وقول رابع أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذكره الماوردي» والقول الصحيح والوجيه ما أسلفناه.
[سورة يس (36) : الآيات 47 الى 50]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)(8/208)
اللغة:
(يَخِصِّمُونَ) : بفتح الياء وكسر الخاء وكسر الصاد المشددة وأصله يختصمون فلما حذفت حركة التاء صارت ساكنة فالتقت ساكنة مع الخاء فحركت الخاء بالكسر على أصل التخلص من التقاء الساكنين وهناك قراءات أخرى يرجع إليها في المطولات.
الإعراب:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بالإضافة وجملة أنفقوا مقول القول ومما جار ومجرور متعلقان بأنفقوا وجملة رزقكم الله صلة. (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) جملة قال لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذين فاعل وجملة كفروا صلة وللذين متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة والهمزة للاستفهام ومعناه الاستهزاء: كان بمكة زنادقة فإذا أمروا بالصدقة على المساكين قالوا لا والله أيفقره الله ونطعمه نحن؟
وقيل نزلت في مشركي قريش حين قال فقراء أصحاب رسول الله:
أعطونا مما زعمتم من أموالكم إنها لله يعنون قوله: «وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا» فحرموهم وقالوا: لو شاء الله لأطعمكم استهزاء منهم بالمؤمنين أي فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. ونطعم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومن مفعول به ولو شرطية ويشاء الله فعل مضارع وفاعل وجملة أطعمه لا محل لها وجملة لو يشاء الله أطعمه لا محل لها لأنها صلة من.(8/209)
(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إما أن يكون تتمة كلام المشركين وإما أن يكون من قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم وإما أن يكون من قول الله تعالى لهم، وروى القرطبي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يطعم مساكين المسلمين فلقيه أبو جهل فقال: يا أبا بكر أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم، قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى وأمر الفقراء بالصبر وأمر الأغنياء بالإعطاء، فقال أبو جهل: والله يا أبا بكر إن أنت إلا في ضلال أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء وهو لا يطعمهم ثم تطعمهم أنت فنزلت الآية. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كلام مستأنف لبيان ضرب آخر من تعسفهم وركوبهم متن الضلالة ويقولون فعل مضارع وفاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل من اسم الإشارة وإن شرطية وكنتم صادقين كان واسمها وخبرها وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فمتى هذا الوعد؟
(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) ما نافية وينظرون فعل مضارع وفاعل ومعناه ينتظرون: جعلهم منتظرين وقوعها مع أنهم كانوا قاطعين بعدمها محاكاة لكلامهم. وإلا أداة حصر وصيحة مفعول به وواحدة صفة وجملة تأخذهم صفة ثانية أو حالية والواو حالية وهم ضمير منفصل مبتدأ وجملة يخصمون خبر والجملة نصب على الحال والمعنى أنها تبغتهم وهم سادرون في الغفلة مسترسلون في الخصومات حول المتاجر والمعاملات. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) الفاء عاطفة ولا نافية ويستطيعون فعل(8/210)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
مضارع وفاعل وتوصية مفعول به والواو عاطفة ولا نافية وإلى أهلهم جار ومجرور متعلقان بيرجعون والجملة معطوفة على فلا يستطيعون.
[سورة يس (36) : الآيات 51 الى 54]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
اللغة:
(الصُّورِ) : هو القرن أو ما يسمى اليوم البوق وهو شيء مجوف مستطيل ينفخ فيه ويزمر ويجمع على أبواق وبيقان وبوقات.
قال أبو الفتح بن جني: عاب على أبي الطيب من لا خبرة له بكلام العرب جمع بوق على بوقات في قوله:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
والقياس يعضده إذ له نظائر كثيرة مثل حمام وحمامات وسرادق وسرادقات وجواب وجوابات وهو كثير في جميع ما لا يعقل من المذكر.(8/211)
(الْأَجْداثِ) : القبور جمع جدث كفرس وأفراس وقرىء من الأجداف بالفاء وهي لغة في الأجداث يقال جدث وجدف.
(يَنْسِلُونَ) : يعدون بكسر السين وضمها يقال نسل الذئب ينسل من باب ضرب يضرب وقيل ينسل بالضم أيضا وهو الاسراع في المشي وفي القاموس: «نسل ينسل وينسل بكسر السين وضمها نسلا ونسلا ونسلانا في مشيه أسرع» .
ومنه قول امرئ القيس:
فإن تك ساءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل
الإعراب:
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير البعث يوم القيامة. ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وفي الصور متعلقان بنفخ والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ ومن الأجداث متعلقان بينسلون وإلى ربهم متعلقان بينسلون أيضا وجملة ينسلون خبرهم. (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) قالوا فعل وفاعل ويا حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف وويلنا مصدر لا فعل له من لفظه ونا مضاف إليه ويجوز أن يكون منادى مضافا من النداء المجازي أي يا ويل احضر فهذا أوانك، ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة بعثنا خبر ومن مرقدنا متعلقان ببعثنا ويجوز في المرقد أن يكون مصدرا ميميا أي من رقادنا ويجوز أن يكون اسم مكان(8/212)
وقد أقيم المفرد مقام الجمع. (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هذا مبتدأ وما اسم موصول خبر وجملة وعد الرحمن فعل وفاعل ومفعول وعد محذوف أي وعدنا وصدق المرسلون فعل وفاعل والمفعول محذوف وعلى هذا الإعراب يكون الوقوف على مرقدنا تاما، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع مدخولها خبر هذا، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون اسم الاشارة نعتا لمرقدنا فيوقف عليه وما وعد مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا لمبتدأ محذوف والتقدير على الأول حق وعلى الثاني هذا أو بعثنا.
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) إن نافية وكانت فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره الصيحة وإلا أداة حصر وصيحة خبر كانت والفاء حرف عطف وإذا الفجائية وهم مبتدأ وجميع خبر ولدينا ظرف متعلق بمحضرون ومحضرون خبر ثان أو صفة لجميع. (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الفاء استئنافية واليوم ظرف متعلق بتظلم ولا نافية وتظلم فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وشيئا مفعول مطلق ولا تجزون عطف على لا تظلم على طريق الالتفات وإلا أداة حصر وما مفعول به ثان لتجزون وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم.
البلاغة:
في قوله: «قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا» استعارة تصريحية أصلية فقد استعار الرقاد للموت والجامع بينهما عدم ظهور الفعل لأن كلّا من النائم والميت لا يظهر فيه فعل والمراد الفعل الاختياري المعتد به فلا يرد أن النائم يصدر منه فعل وإنما قلنا انها(8/213)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
أصلية لأن المرقد مصدر ميمي كما تقدم وأما إذا جعلناه اسم مكان فتكون الاستعارة تبعية.
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 61]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
اللغة:
(شُغُلٍ) : بسكون الغين وضمها وقد قرىء بهما معا وفي القاموس: «الشغل بالضم وبضمتين وبالفتح وبفتحتين ضد الفراغ وجمعه أشغال وشغول وشغله كمنعه شغلا ويضم، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة واشتغل به وشغل كعني ويقال منه ما أشغله وهو شاذ لأنه لا يتعجب من المجهول» وأنكر شارح القاموس أشغل وقال:
لا يعرف نقله عن أحد من أئمة اللغة.
(فاكِهُونَ) : ناعمون أو متلذذون في النعمة من الفكاهة بالضم وهي التمتع والتلذذ مأخوذ من الفاكهة. قال الجوهري في صحاحه:
الفكاهة بالضم: المزاح والفكاهة بالفتح مصدر فكه الرجل بالكسر فهو فكه(8/214)
إذا كان طيب العيش فرحانا ذا نشاط من التنعم فإذا فسرنا قوله «فاكهون» بأنهم ناعمون كانت من الفكاهة بالفتح وفي القاموس: «الفاكهة: الثمر كله وقول مخرج التمر والعنب والرمان منها مستدلا بقوله تعالى فيهما فاكهة ونخل ورمان باطل مردود وقد بينت ذلك مبسوطا في اللامع المعلم العجاب، والفاكهاني بائعها وكخجل: آكلها والفاكه صاحبها وفكههم تفكيها أتاهم بها والفاكهة: النخلة المعجبة واسم والحلواء وفكههم بملح الكلام تفكيها أطرفهم بها والاسم: الفكيهة والفكاهة بالضم وفكه كفرح فكها وفكاهة فهو فكه وفاكه طيب النفس ضحوك أو يحدث صحبه فيضحكهم ومنه تعجب كتفكه والتفاكه التمازح» .
(الْأَرائِكِ) : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة وقيل الفرش الكائن في الحجلة بفتحتين أو بسكون الجيم مع ضم الحاء وقيل مع كسرها والمراد بها نحو قبة تغلق على السرير وتزين به العروس.
(يَدَّعُونَ) مضارع ادعى بوزن افتعل من دعا يدعو وقد اشرب معنى التمني، قال أبو عبيدة: «العرب تقول: ادع علي ما شئت أي تمن وفلان في خير ما يدعي أن يتمنى» وقال الزجاج: «هو من الدعاء أي ما يدعونه يأتيهم، وقيل افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه» وقال الزمخشري: «يدعون يفتعلون من الدعاء أي يدعون به لأنفسهم كقولك اشتوى واجتمل إذا شوى وجمل لنفسه قال لبيد:
وغلام أرسلته أمه ... بألوك فبذلنا ما سأل
أرسلته فأتاه رزقه ... فاشتوى ليلة ريح واجتمل»(8/215)
أي ورب غلام أرسلته أمه إلينا برسالة وهي هنا السؤال فبذلنا ما سأله من الطعام عقب سؤاله وبين ذلك بقوله: أرسلته فأتاه رزقه وفيه دلالة على انه لم يكن عندهم طعام حين أتاهم الغلام أي فأتاه رزقه من الصيد فاشتوى لنفسه من اللحم في ليلة ريح مظلمة يقل فيها الجود واجتمل أي أذاب الشحم، وفي الصحاح: حميت الشحم واجتملته إذا أذبته.
الإعراب:
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير أحوال أهل الجنة إغاظة للكفار وتقريعا لهم وزيادة في ندامتهم وحسرتهم. وإن واسمها واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وفي شغل خبر إن الثاني وفاكهون خبرها الأول ويجوز العكس، ويجوز أن يتعلق في شغل بفاكهون أو في محل نصب على الحال، وسيأتي معنى الشغل والفكاهة في باب البلاغة. (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) هم مبتدأ وأزواجهم عطف على هم وفي ظلال خبر أي لا تصيبهم الشمس لانعدامها بالكلية وعلى الأرائك متعلقان بمتكئون ومتكئون خبر ثان لهم، ويجوز أن يتعلق قوله في ظلال بمحذوف حال. (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) لهم خبر مقدم وفيها متعلقان بمحذوف حال وفاكهة مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على الجملة السابقة ويجوز في ما أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة أو مصدرية وجملة يدعون لا محل لها أو صفة.(8/216)
(سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) اختلفت أقوال المعربين في إعراب هذه الآية وأوصل بعضهم القول فيها إلى ستة أوجه، ونرى أن نثبت نص عبارة الشهاب السمين لوجاهتها قال: «قوله سلام: العامة على رفعه وفيه أوجه أحدها أنه خبر ما يدعون. الثاني أنه بدل من ما، قاله الزمخشري، قال الشيخ: وإذا كان بدلا كان ما يدعون خصوصا والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموما لم يكن بدلا منه.
الثالث أنه صفة لما وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخالفهما تعريفا وتنكيرا، الرابع أنه خبر ابتداء مضمر أي هو سلام. الخامس أنه مبتدأ خبره الناصب لقولا أي سلام يقال لهم قولا وقيل تقديره سلام عليكم. السادس أنه مبتدأ وخبره من رب» وقولا مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر وقال الزمخشري «والأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه» وجعله السيوطي الجلال منصوبا بنزع الخافض وقال آخرون هو مصدر منصوب بفعل محذوف وهو مع عامله صفة لسلام أي يقول لهم وجملة سلام قولا من رب رحيم في محل نصب معموله لقول محذوف ومن رب صفة لقولا ورحيم صفة لرب.
(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) وهذه الجملة معمولة لقول محذوف أيضا أي ويقول لهم الله. وامتازوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل أي وانفردوا عن المؤمنين، واليوم ظرف متعلق بامتازوا وأيها منادى نكرة مقصودة محذوف منه حرف النداء والهاء للتنبيه والمجرمون بدل. (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) جملة منتظمة في سلك المقول لهم جارية مجرى التقريع والتوبيخ والتبكيت والإلزام.(8/217)
والهمزة للاستفهام المتضمن هذه المعاني ولم حرف نفي وقلب وجزم وأعهد فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وإليكم متعلق بأعهد ويا حرف نداء وبني منادى مضاف وآدم مضاف إليه.
(أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أن مفسرة لأنها وقعت بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتعبدوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والشيطان مفعول به ويجوز أن تكون أن مصدرية فتكون هي ومدخولها في محل نصب بنزع الخافض، أي ألم أعهد إليكم بترك عبادة الشيطان. وان واسمها ولكم متعلقان بعدو أو بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفه له وتقدمت وعدو خبر إن ومبين صفة والجملة تعليلية للنهي لا محل لها. (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) عطف على أن لا تعبدوا واعبدوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة والجملة تعليلية للأمر وسيأتي سر تقديم النهي على الأمر في باب البلاغة.
البلاغة:
في هذه الآيات ضروب من أفانين البلاغة نشير إليها فيما يلي:
1- تنوين شغل وفيه تنويه بأن ما هم فيه من شغل أعلى من أن ترقى إليه رتبة البيان أو يستطيع وضعه اللسان كما أن في إبهامه إيجازا انطوى تحته مالا يعد ويحصى من ضروب الملاذ التي يستمتعون بها في الجنان، وأن ما عداها يعتبر كلا شيء كما أن فيه تصويرا لما أعده الله لعباده المتقين من ضروب المتعة وأفانين اللذة من افتضاض أبكار، وسماع أوتار، وتزاور في العشايا والأسحار، وقد أكده بأنهم فاكهون ناعمون لا يشغل بالهم ما يشغل بال أهل الدنيا من تصاريف(8/218)
الحياة ومشاغل السنين ولا ينغص صفوهم همّ طارئ أو غم نازل، وان كل ما تمتد إليه الأعين وتسافر نحوه الظنون من صنوف الملاذ حاضر لديهم ينالونه وهم متكئون على الأرائك متمددون تحت الظلال مما ورد وصفه مجسّدا. وذلك كله على طريق الكناية وقد تقدم القول فيها مطولا.
2- تنوين صراط وفيه تفخيم كما تقدم وإيجاز يشير إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان وطاعة الرحمن إذ لا صراط أقوم منه ومن نماذج هذا التنوين في الشعر قول كثير عزة:
لئن كان يهدي برد أنيابها العلا ... لأفقر مني انني لفقير
وقيل هذا البيت من أبيات المجنون وقبله:
دعوت إلهي دعوة ما جهلتها ... وربي بما تخفي الصدور بصير
وبعده:
فما أكثر الأخبار أن قد تزوجت ... فهل يأتيني بالطلاق بشير
وقوله لئن كان يهدي بيان للدعوة التي دعاها عن قصد وحضور قلب وما بينهما اعتراض للتأكيد وإفادة أن الدعوة كانت في السر أي لئن كان يعطي برد أسنانها العليا وخصها بالذكر لأنها أول ما يبدو عند التبسم لأحوج مني إنني لبليغ الفقر حقيق بأن أوصف به لكمال(8/219)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
شرائطه فيّ، ويجوزان «برد أنيابها» كناية عن ذاتها كلها و «إنني لفقير» خبر مؤكد يدل على شدة الاحتياج وعظم الفاقة وأي فاقة أشد على العاشق من احتياجه إلى من يعشق يداوي أوصابه. وان في قوله «أن قد تزوجت» مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهي على تقدير حرف الجر أي أتعجب من كثرة الأخبار المخبرة بزواجها وهل استفهام بمعنى التمني أو التعجب مجازا مرسلا لعلاقة مطلق الطلب أي أتمنى ذلك أو أتعجب من عدمه.
3- تقديم النهي على الأمر في قوله «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم» وذلك لأن حق التخلية التقديم على التحلية كما هو مقرر في علم التوحيد وليتصل به قوله «هذا صراط مستقيم» .
[سورة يس (36) : الآيات 62 الى 67]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)(8/220)
اللغة:
(جِبِلًّا) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام كسجل، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء وتخفيف اللام، وجبلا بضم الجيم وسكون الباء، وجبلا بكسر الجيم وسكون الباء وهذه اللغات في الجبل بمعنى الخلق أو طائفة منه أقلها عشرة آلاف والكثير لا يتناهى.
(اصْلَوْهَا) : ذوقوا حرّها.
(مَكانَتِهِمْ) : المكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام والمعنى لمسخناهم مسخا يجمدهم مكانهم لا يقدرون على مبارحته.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأضل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ومنكم جار ومجرور متعلقان بأضل وجبلا مفعول به وكثيرا صفة والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها وجملة تعقلون خبرها. (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) كلام مستأنف مسوق لمجابهتهم بالمصير الهائل الذي يصيرون اليه بعد أن بلغ الغاية في توبيخهم وتقريعهم. واسم الاشارة مبتدأ وجهنم خبره والتي صفة وجملة كنتم صلة والتاء اسم كان وجملة توعدون خبرها.(8/221)
(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) اصلوها فعل أمر وفاعل ومفعول به واليوم ظرف متعلق باصلوها وبما متعلقان باصلوها أيضا والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب كفركم وكنتم تكفرون كان واسمها وخبرها وجملة كنتم تكفرون لا محل لها. (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) اليوم ظرف زمان متعلق بنختم ونختم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وعلى أفواههم متعلقان بنختم أيضا.
(وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) وتكلمنا أيديهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وسيأتي سر تكليم الأيدي، وتشهد أرجلهم عطف على تكلمنا أيديهم وبما متعلقان بتكلمنا وما مصدرية أو موصولة وكانوا كان واسمها وجملة يكسبون خبرها.
(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) الواو عاطفة ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعل والمفعول به محذوف أي لو نشاء طمسها واللام واقعة في جواب لو وجملة طمسنا لا محل لها وعلى أعينهم متعلقان بطمسنا والطمس شق العين حتى تعود ممسوحة وفي المصباح «طمست الشيء طمسا من باب ضرب محوته» .
(فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) الفاء عاطفة واستبقوا فعل وفاعل والجملة عطف على لطمسنا والصراط قال الزمخشري: «لا يخلو من أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل، والأصل فاستبقوا الى الصراط أو يضمن معنى ابتدروا أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه أو ينتصب على الظرف، والمعنى أنه لو شاء لمسح أعينهم فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه الى مساكنهم والى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرا كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم لم يقدروا وتعايا عليهم أن يبصروا ويعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره أو لو شاء(8/222)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
لأعماهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا أو لو شاء لأعماهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا» وقال السمين: «والصراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول به مجازا جعله مسبوقا له وتضمين استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط» والفاء عاطفة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف في محل نصب على الحال ويبصرون فعل مضارع وفاعل والاستفهام هنا معناه النفي أي لا يبصرون.
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) عطف على ما ولو شرطية ونشاء فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومفعول نشاء محذوف أيضا أي لو نشاء مسخهم واللام واقعة في جواب لو وجملة مسخناهم لا محل لها وعلى مكانتهم حال أي لمسخناهم على حالتهم فهم ممسوخون في محالهم وفي منازلهم، فما الفاء عاطفة وما نافية واستطاعوا فعل وفاعل ومضيا مفعول به ولا يرجعون عطف أيضا أي فما يبرحون مكاناتهم ولا يستطيعون الفرار منها بإقبال ولا بإدبار.
[سورة يس (36) : الآيات 68 الى 76]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72)
وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)(8/223)
اللغة:
(نُعَمِّرْهُ) : نطيل أجله، وعمره الله بالتشديد أبقاه وقد تقدم ذكر هذه المادة بتفصيل واف.
(نُنَكِّسْهُ) نقلبه أي فنجعله على عكس ما خلقناه فيتناقص حتى يرجع إلى حال شبيهة بحال الصبي. وفي القاموس وغيره «نكسه تنكيسا بالتشديد بمعنى نكسه ونكسه ينكسه من باب نصر نكسا قلبه على رأسه وجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره» وفي المصباح:
«نكسته نكسا من باب قتل قلبته ومنه قيل ولد منكوس إذا خرج رجلاه قبل رأسه لأنه مقلوب مخالف للعادة، ونكس المريض نكسا بالبناء للمجهول عاوده المرض كأنه قلب الى المرض» وقد جمع بعضهم معاني هذه المادة فقال:
قلب على رأس فهذا نكس ... والرجل الفسل الضعيف نكس(8/224)
رجوع داء بعد برء نكس ... والناكس المرخي لرأس فادر
ومن ريب أمر النون مع الكاف أنهما إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة دلت على أثر في الشيء ويكون مصحوبا بالايلام والايجاع: فنكأ القرحة قشرها قبل أن تبرأ فنكسها قال:
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع
ونكب عنه عدل ونكب الإناء أراق ما فيه والنكبة المصيبة وأثرها بليغ ومنه الريح النكباء وهي التي تهب بين الصبا والشمال خاصة. ونكت الأرض بقضيبه أو بأصبعه ومرّ الفرس ينكت إذا نبا عن الأرض في عدوه ونكت العظم أخرج مخه وفلان نكّات في الأعراض أي طعّان فما يستعمله العامة قريب من الصحيح. ونكث الحبل والسواك والسأف في أصول الأظفار وقد انتكث بنفسه أي انتقض واختل وهذه نكاثة الحبل: لما انتكثت من طرفه ونكاثة السواك لما تشعّث من رأسه، ومن مجازه نكث العهد والبيعة نقضهما وهو نكاث للعهود. ونكح المرأة واستنكحها. قال النابغة:
وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ... أبا جابر واستنكحوا أم جابر
واستنكح النوم عيونهم. قال عمر بن أبي ربيعة:(8/225)
واستنكح النوم الذين تخافهم ... ورمى الكرى بوّابهم فتجدّلا
ونكد فلانا حاجته منعه إياها أو لم يعطه إلا القليل منها ونكد الغراب استقصى في شحيحه ونكد العيش بكسر الكاف اشتد وعسر ونكد عيشه بالتشديد أي جعله نكدا وعطاء منكود ومنكّد أي قليل غير مهنأ. قال:
وأعط ما أعطيته طيبا ... لا خير في المنكود والناكد
ونكّد عطاءه بالمنّ. وأنكر الشيء ونكره واستنكره وقيل نكر بالكسر أبلغ من أنكره وهذا غريب وقيل: نكر بالقلب وأنكر بالعين، قال الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
ونكزت الحية تنكز بأنفها ونكز البحر غاض. ونكش البئر نزفها أو أخرج ما فيها من الطين فما تستعمله العامة لا غبار عليه.
ونكص على عقبيه معروف ويقال: فلان حظه ناقص، وجده ناكص.
ونكف منه بكسر الكاف واستنكف: امتنع وانقبض أنفا وحمية.
ونكل عن اليمين وعن العدو نكولا ونكلته عن كذا فطمته ونكلت به بالتشديد أصبته بنازلة أو جعلت غيره ينكل أن يفعل مثل فعله والقعاب النكال. ونكهته تشممت ريح فيه ونكه الشارب في وجهه ولا يخفى ما يحدثه من أثر وقد يأتي بمعنى الطيب يقال هو طيب النكهة وقد(8/226)
استعملها أبو الشمقمق في المعنيين بقوله يهجو داود بن بكر وكان والي الأهواز:
وله لحية تيس ... وله منقار نسر
وله نكهة ليث ... خالطت نكهة صقر
ونكيت في العدو نكاية إذا أكثرت الجراح، تقول: فلان قليل النكاية طويل الشكاية، قال:
قليل النكاية أعداءه ... يراعي الفرار يراخي الأجل
الإعراب:
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) كلام مستأنف مسوق لاستعراض حال الإنسان كيف يستحيل إلى ضعف بعد قوة وإلى نقص بعد تمام. ومن اسم شرط جازم ونعمره فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وننكسه جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وفي الخلق متعلقان بننكسه أو بمحذوف حال والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ولا نافية ويعقلون فعل مضارع مرفوع وفاعله. (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) كلام مستأنف مسوق للرد على من زعموا أن القرآن شعر. وما نافية وعلمناه فعل ماض وفاعل ومفعول به والشعر مفعول به ثان وما عطف وينبغي فعل مضارع معطوف على علمناه وله متعلقان بينبغي وسيأتي مزيد بيان حول هذا الموضوع.(8/227)
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) إن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر وقرآن عطف على ذكر ومبين صفة. (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) اللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تدل عليه قرينة الكلام أي أنزل عليه لينذر ومن مفعول به وجملة كان صلة واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وحيا خبرها ويحق عطف على لينذر والقول فاعل والمراد به العذاب وعلى الكافرين متعلقان بيحق.
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري وقد تقدم أن في هذا التركيب وجهين صحيحين أو لهما أن أصل التركيب وألم يروا ولكن لما كان الاستفهام له الصدارة قدمت الهمزة على الواو، والوجه الثاني أن يكون الكلام على حاله والواو عاطفة على محذوف يقتضيه السياق وقد جرينا على هذا الوجه في أكثر ما قدمناه والتقدير ألم يتفكروا ولم يروا وقد أعدناه هنا لطول العهد به. ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والرؤية علمية وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا وأن واسمها وجملة خلقنا خبرها وخلقنا فعل وفاعل ولهم متعلقان بخلقنا أي لأجلهم وانتفاعهم ومما متعلقان بمحذوف حال وجملة عملت صلة والعائد محذوف أي عملته وأيدينا فاعل وأنعاما مفعول خلقنا والفاء عاطفة وهم مبتدأ ولها متعلقان بمالكون ومالكون خبر هم وهي كالابل والبقر والغنم والخيل والحمير.
(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) وذللناها فعل ماض وفاعل ومفعول ولهم متعلقان بذللناها والفاء للتفريع ومنها خبر مقدم(8/228)
وركوبهم مبتدأ مؤخر وفيها متعلقان بيأكلون ويأكلون فعل مضارع مرفوع وفاعل. (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وفيها حال ومنافع مبتدأ مؤخر ومشارب عطف على منافع وهو جمع مشرب مصدر ميمي واسم مكان والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة كما تقدم ولا نافية ويشكرون فعل مضارع وفاعل. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) الواو عاطفة على مقدر يستدعيه السياق أي ما فعلوا الشكر. واتخذوا فعل أمر وفاعل ومن دون الله في موضع المفعول الثاني لاتخذوا وآلهة مفعوله الأول ولعل واسمها وجملة ينصرون خبرها والواو نائب فاعل وجملة الرجاء حالية أي حال كونهم راجين النصر من آلهتهم.
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) لا نافية ويستطيعون فعل مضارع وفاعل، أسند ضمير العقلاء إلى آلهتهم تنزيلا لها منزلة العقلاء ونصرهم مفعول به والواو للحال وهم مبتدأ ولهم حال من جند لأنه كان في الأصل صفة له وقدمت عليه وجند خبرهم ومحضرون خبر ثان لهم أو نعت لجند.
(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) الفاء الفصيحة أي ان علمت ما تقدم وأيقنت أنهم يعلّقون أطماعهم الفارغة على ما يستوجب الخسران ويستدعي تقويض الأحلام وتبديد الأوهام فلا يحزنك قولهم. ولا ناهية ويحزنك فعل مضارع مجزوم بلا والكاف مفعول به وقولهم فاعل ثم علل النهي فقال: إنا بكسر الهمزة ولو فتحت لفسد المعنى، وان واسمها وجملة نعلم خبرها والفاعل مستتر تقديره نحن وما مفعول به وهي موصولة أو مصدرية وجملة(8/229)
يسرون لا محل لها على كل حال أي الذي يسرونه أو أسرارهم وما يعلنون عطف على ما يسرون أي والذي يعلنون أو واعلانهم وللزمخشري فصل ممتع بين كسر همزة إن وفتحها نورده في باب الفوائد.
الفوائد:
حاول بعض المنتصرين للنثر، الطاعنين على الشعر، أن يحتج بأن القرآن كلام الله تعالى منثور، وان النبي صلى الله عليه وسلم غير شاعر لقوله تعالى: «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» ويرى أنه قد أبلغ في الحجة، ولكن الواقع أن الله تعالى لما بعث رسوله أميا غير شاعر إلى قوم يعلمون منه حقيقة ذلك حين استوت الفصاحة واشتهرت البلاغة آية للنبوة، وحجة على الخلق، وإعجازا للمتعاطين، وجعله منثورا ليكون أظهر برهانا لفضله على الشعر الذي يترتب على صاحبه أن يكون قادرا على ما يحبه من الكلام، وتحدي جميع الناس من شاعر وغيره بمثل مثله فأعجزهم ذلك، فمن هنا قال الله تعالى «وما علمناه الشعر وما ينبغي له» أي لتقوم عليكم الحجة ويصح قبلكم الدليل، ويدحض أباطيلكم البرهان، والمعنى: ان القرآن ليس بشعر، وما هو من الشعر في شيء وأين هو عن الشعر؟ والشعر إنما هو كلام موزون مقفى يدل على معنى فأين الوزن؟ وأين التقفية؟ وأين المعاني التي ينتحيها الشعراء عن معانيه؟ وأين نظم كلا منهم عن نظمه وأساليبه؟
فإذن لا مناسبة بينه وبين الشعر، قال الزمخشري: «فإن قلت فقوله:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب(8/230)
وقوله:
هل أنت إلّا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
قلت: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به على السليقة من غير صنعة ولا تكلف إلا أنه اتفق ذلك من غير قصد إلى ذلك ولا التفات منه إليه أن جاء موزونا كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة لا يسميها أحد شعرا ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنها شعر، وإذا فتشت في كل كلام عن نحو ذلك وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز، على أن الخليل ما كان يعد المشطور من الرجز شعرا» .
قلت: وقد تقدم في موضع آخر بحث مستفيض عن الشعر فجدد به عهدا.
بين كسر همزة إن وفتحها:
وقال الزمخشري في صدد قوله تعالى: «فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون» : «فإن قلت: فما تقول فيمن يقول:
إن قرأ قارئ أنا نعلم بالفتح انتقضت صلاته وإن اعتقد ما يعطيه من المعنى كفر؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يكون على حذف لام التعليل وهو كثير في القرآن وفي الشعر وفي كل كلام وقياس مطّرد، وهذا معناه ومعنى الكسر سواء، وعليه تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الحمد والنعمة لك، كسر أبو حنيفة وفتح الشافعي وكلاهما تعليل. والثاني أن يكون بدلا من قولهم كأنه قيل فلا(8/231)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
يحزنك أنا نعلم ما يسرون وما يعلنون، وهذا المعنى قائم مع المكسورة إذا جعلتها مفعولة للقول فقد تبين أن تعلّق الحزن بكون الله عالما وعدم تعلقه لا يدوران على كسر إن وفتحها وإنما يدوران على تقديرك، فتفصل إن فتحت بأن تقدر معنى التعليل ولا تقدر البدل كما أنك تفصل بتقدير معنى التعليل إذا كسرت ولا تقدر معنى المفعولية ثم إن قدرته كاسرا وفاتحا على ما عظم فيه من الخطب ذلك القائل فما فيه إلا نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن على كون الله عالما بسرهم وعلانيتهم وليس النهي عن ذلك مما يوجب شيئا ألا ترى إلى قوله تعالى: «فلا تكونن ظهيرا للكافرين، ولا تكونن من المشركين، ولا تدع مع الله إلها آخر» .
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)(8/232)
اللغة:
(خَصِيمٌ) : مخاصم مجادل والخصومة الجدل قال في القاموس:
«خاصمه مخاصمة وخصومة فخصمه يخصمه غلبه وهو شاذ لأن فاعلته ففعلته يرد يفعل منه إلى الضم إن لم تكن عينه حرف حلق فإنه بالفتح كفاخره ففخره يفخره وأما المعتل كوجدت وبعت فيرد إلى الكسر إلا ذوات الواو فإنها ترد إلى الضم كراضيته فرضوته أرضوه وخاوفني فخفته أخوفه وليس في كل شيء يقال نازعته لأنهم استغنوا عنه بغلبته واختصموا تخاصموا والخصم المخاصم والجمع خصوم وقد يكون للاثنين والجمع والمؤنث، والخصيم المخاصم والجمع خصماء وخصمان ورجل خصم كفرح مجادل والجمع خصمون ومن قرأ «وهم يخصمون» أراد يختصمون فقلب التاء صادا فأدغم ونقل حركته إلى الخاء ومنهم من لا ينقل ويكسر الخاء لاجتماع الساكنين وأبو عمرو يختلس حركة الخاء اختلاسا وأما الجمع بين الساكنين فلحن، والخصم بالضم الجانب والزاوية والناحية وطرف الزاوية الذي بحيال العزلاء في مؤخرها والجمع أخصام وخصوم واخصام العين ما ضمت عليه الأشفار» وإنما نقلنا لك هذه المادة بطولها لفائدتها ولنبين لك مدى الوهم الذي وقع فيه صاحب المنجد فقد خلط فيها خلطا عجيبا وجعل الأخصام جمعا للخصم والخصيم وهو كما رأيت وهم من أوهام هذا الكتاب العجيب!! (رَمِيمٌ) : بالية وفي المختار «رم بالفتح يرم بالكسر إذا بلي وبابه ضرب» فهو اسم لا صفة ولذلك لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث، ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. وإيضاح هذا الكلام أن فعيلا(8/233)
بمعنى فاعل لا تلحق التاء في مؤنثه إلا إذا بقيت وصفية وما هنا انسلخ عنها وغلبت عليه الاسمية أي صار بالغلبة اسما لما بلي من العظام.
الإعراب:
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) كلام مستأنف مسوق لتقبيح إنكارهم البعث وقد سما الزمخشري في تقرير هذا المعنى كما سيأتي في باب الفوائد. والهمزة للاستفهام الإنكاري التعجبي، والواو عاطفة وقد تقدم القول فيها مسهبا ولم حرف نفي وقلب وجزم وير فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والإنسان فاعل وأنا وما في حيزها سدت مسد مفعولي ير لأن الرؤية هنا علمية وأن واسمها وجملة خلقناه خبرها وخلقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن نطفة جار ومجرور متعلقان بخلقناه والفاء حرف عطف وإذا فجائية وهو مبتدأ وخصيم خبر ومبين صفة وجملة إذا هو خصيم مبين عطف على جملة لم ير الإنسان داخلة معها في حيز الإنكار والتعجب. (وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ) الواو عاطفة وضرب فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولنا متعلقان بضرب ومثلا مفعول به ونسي عطف على ضرب وخلقه مفعول به والعطف داخل في حيز التعجب والإنكار أو الواو للحال بتقدير قد أي وقد نسي خلقه.
(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) من اسم استفهام مبتدأ وجملة يحيي العظام خبر والواو حالية وهي مبتدأ ورميم خبر والجملة في موضع نصب على الحال. (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) جملة يحييها مقول القول وهو فعل مضارع ومفعول(8/234)
به والذي فاعل وجملة أنشأها صلة وأول مرة نصب على الظرف متعلق بأنشأها والواو استئنافية أو حالية وهو مبتدأ وبكل متعلقان بعليم وعليم خبر هو. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) الذي بدل من الذي الآنفة الذكر وجملة جعل صلة ولكم في موضع المفعول الثاني ومن الشجر الأخضر حالا لأنه كان في الأصل صفة لنارا ونارا مفعول جعل الأول، فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وأنتم مبتدأ ومنه متعلقان بتوقدون وجملة توقدون خبر أنتم.
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشأها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السموات والأرض بقادر، وليس فعل ماض ناقص والذي اسمها وجملة خلق السموات والأرض صلة والباء حرف جر زائد وقادر مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ليس وعلى حرف جر وأن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بقادر وفاعل مستتر تقديره هو ومثلهم مفعول به.
(بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) حرف جواب لإثبات النفي والواو عاطفة على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو قادر على ذلك وهو الخلاق، وهو مبتدأ والخلاق خبر والعليم خبر ثان. (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنما كافة ومكفوفة وأمره مبتدأ وإذا ظرف مستقبل وجملة أراد مضاف إليها الظرف وشيئا مفعول به وأن وما في حيزها خبر أمره وله متعلقان بيقول وجملة كن مقول القول وكن فعل(8/235)
أمر تام وفاعله مستتر تقديره أنت والفاء عاطفة ويكون فعل مضارع مرفوع لأنه وفاعله جملة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف والجملة عطف على أمره وقرىء بالنصب عطفا على يقول.
(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) الفاء الفصيحة وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف والذي مضاف إليه وبيده خبر مقدم وملكوت كل شيء مبتدأ مؤخر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول وإليه الواو عاطفة وإليه متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل.
البلاغة:
حسن البيان:
في قوله: «وضرب لنا مثلا ونسي خلقه» الآيات. حسن البيان، وحقيقته إخراج المعنى في أحسن الصور الموضحة له وإيصاله إلى فهم المخاطب بأقرب الطرق وأسهلها، وقد تأتي العبارة عنه من طريق الإيجاز وقد تأتي من طريق الإطناب بحسب ما تقتضيه الحال، وقد أتى بيان الكتاب العزيز في هذه الآية من الطريقين فكانت جامعة مانعة في الاحتجاج القاطع للخصم، وقد أتى منفصلا عما قبله لأنه سبحانه ذكر المثل وليس في الكلام كله لا قبله ولا بعده ما خرج مخرج المثل ولا ما يصح أن يكون مثلا وهو أن أمية بن خلف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم نخر في يده وقال يا محمد أنت تزعم ربك يحيي هذا بعد أن صار إلى هذه الحال فنزلت، وفي رواية أنه العاصي بن وائل وقيل هو أبي بن خلف الجمحي.(8/236)
وقد آن أن ننقل الفصل البليغ الذي أورده الزمخشري في صدد هذه الآيات قال: «قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحا لا ترى أعجب منه وأبلغ وأدل على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود النعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسة، وتغلغله في القحة حيث قرر أن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه وهو النطفة المذرة الخارجة من الإحليل الذي هو قناة النجاسة ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار، وشرز صفحته لمجادلته، ويركب متن الباطل ويلج ويمحك ويقول: من يقدر على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه ثم يكون خصامه في ألزم وصف له وألصقه به وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر إنشاءه من موات وهي المكابرة التي لا مطمح وراءها.
وروي أن جماعة من قريش منهم أبي بن خلف الجمحي وأبو جهل والعاصي بن وائل والوليد بن المغيرة تكلموا في ذلك فقال لهم أبي ألا ترون إلى ما يقول محمد إن الله يبعث الأموات ثم قال: واللات والعزّى لأصيرن إليه ولأخصمنه، وأخذ عظما باليا فجعل يفته بيده وهو يقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ! قال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثك ويدخلك جهنم.(8/237)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
(37) سورة الصّافات مكيّة وآياتها ثنتان وثمانون ومائة
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)
اللغة:
(دُحُوراً) : مصدر دحره أي طرده وأبعده وهو من باب خضع.
وللدال مع الحاء فاء وعينا للفعل معنى القذف والطرد والدفع فمن ذلك دح الشيء في الأرض أي دسه فيها ودح الطعام بطنه ملأه حتى(8/238)
يسترسل إلى أسفل ودح الرجل: دعّه في قفاه والعامة تستعمله بهذا المعنى فيقولون: دحّه على ظهره فهي من العامي الفصيح. ودحرج الشيء فتدحرج: أي قلبه وأداره على نفسه متتابعا في حدور فانقلب.
ودحس بين القوم أفسد بينهم ودحس الشيء ملأه ودحس برجله فحص ويقال ما بي من داحس وهو تشعث الإصبع وسقوط الظفر وما تسميه العامة ورم حار في طرف الإصبع فهي عربية فصيحة قال مزرّد:
تشاخت إبهاماك إن كنت كاذبا ... ولا برئا من داحس وكناع
وخرج الحجاج في بعض الليلي فسمع صوتا هائلا فقال: إن كان هذا صاحب عائر أو قادح أو داحس فلا تحدث شيئا وإلا فأخرج لسانه من قفاه أي صاحب رمد أو وجع ضرس، ويقال للرجل والدابة إذا أصابهما الجرح فارتكضا للموت: تركته يفحص ويدحص الأرض برجله. ودحضت رجله زلقت دحضا ودحوضا وأدحض فلان قدمه ومزلقة مدحاض وهذه مدحضة القدم ودحض الحجة أبطلها.
ودحقه يدحقه من باب فتح دحقا: طرده وأبعده ودحقت الرحم بساء الفحل رمت به فلم تقبله ودحقت الحامل بولدها أجهضته وولد دحيق وقيل: دحقت به: ولدته وأصابها دحاق وهو أن تخرج رحمها بعد الولادة وهي دحوق وداحق وأدحقه الله باعده من الخير وهو دحيق تقول: أسحقه الله وأدحقه وهو سحيق دحيق. ودحل: توارى في دحل وهو حفرة غامضة ضيقة الأعلى واسعة الأسفل تقول: طلبوا بالذحول فتواروا في الدحول ودحل البئر: حفر في جوانبها ونصب الصائد الدواحيل وهي مصائد للحمر الواحد داحول وبئر دحول(8/239)
ذات تلحف وهو تكسر جوانبها مما أكلها من الماء فما يستعمله العامة منها محرف ولم يرد في اللغة بهذا المعنى إلا على مجاز بعيد وتسميتهم أخيرا المدحلة بالمعنى الشائع فيه تسامح ولكننا نتسامح به أيضا.
ودحمه دحما دفعه دفعا شديدا فاستعمال العامة لها بهذا المعنى لا غبار عليه. ودحمس الليل أظلم أو ألقى بظلامه على كل شيء. ودحمل به دحرجه على الأرض. ودحا الله الأرض: افترشها وبسطها ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض أي دفعها وبابه نصر وفتح يقال دحا يدحو ودحى يدحى وليس معنى البسط أنها ليست كالكرة ولكنها ممدودة متسعة كما يأخذ الخباز الفرزدقة فيدحوها. قال ابن الرومي:
ما أنسى لا أنسى خبازا مررت به ... يدحو الرّقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في لجة الماء يرمي فيه بالحجر
وهذا من أعاجيب لغتنا العربية الشريفة.
(واصِبٌ) : دائم وفي المختار وصب الشيء يصب بالكسر وصوبا دام ومنه قوله تعالى «وله الدين واصبا» وقوله تعالى «ولهم عذاب واصب» .(8/240)
(فَأَتْبَعَهُ) : في المختار: تبعه من باب طرب إذا مشى خلفه أو مرّ به فمضى معه وكذا اتبعه وهو افتعل وأتبعه على أفعل وقال الأخفش:
تبعه وأتبعه بمعنى مثل ردفه وأردفه ومنه قوله تعالى «فأتبعه شهاب ثاقب» .
(ثاقِبٌ) : أي يثقبه أو يحرقه ونقل القرطبي في تفسير الثاقب قولين: قيل بمعنى المضيء وقيل بمعنى المستوقد من قوله: اثقب زندك أي استوقد نارك وقال البيضاوي: ثاقب مضيء كأنه يثقب الجو بضوئه» ولهذه المادة عجائب في التنويع والتصرف ففي الأساس واللسان: «ثقب الشيء بالمثقب وثقب القداح عينه ليخرج الماء النازل وثقب اللّآل الدر، ودر مثقب وعنده در عذارى: لم يثقّبن وثقبّن البراقع لعيونهن قال المثقب العبدي:
أرين محاسنا وكننّ أخرى ... وثقبن الوصاوص للعيون
وبه سمي المثقّب. وكوكب ثاقب ودرّيء: شديد الإضاءة والتلألؤ كأنه يثقب الظلمة فينفذ فيها ويدرؤها ورجل ثقيب وامرأة ثقيبة مشبهان للهب النار في شدة حمرتهما وفيهما ثقابة وحسب ثاقب:
شهير، ورجل ثاقب الرأي إذا كان جزلا نظّارا، وأتتني عنك عين ثاقبة أي خبر يقين وثقب الطائر إذا حلق كأنه يثقب السكاك وثقّب الشيب في اللحية أخذ في نواحيها.
الإعراب:
(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) الواو حرف قسم وجر والصافات مجرور بواو القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم،(8/241)
والصافات اسم فاعل من صف قيل هم الملائكة المصطفون في السماء يسبحون لهم مراتب يقومون عليها صفوفا كما يصطف المصلون وقيل هم المجاهدون وقيل هم المصلون وقيل هي الطير الصافات أجنحتها كقوله والطير صافات، وفي الصافات ضمير مستتر هو الفاعل والمفعول به محذوف أي نفوسها أو أجنحتها وصفا مفعول مطلق مؤكد.
(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) الفاء حرف عطف، قال الزمخشري: «فإن قلت ما حكم الفاء إذا جاءت عاطفة في الصفات؟ قلت: إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله:
يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب
كأنه قيل الذي أصبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله: رحم الله المحلقين فالمقصرين، فعلى هذه القوانين الثلاثة ينساق أمر الفاء العاطفة في الصفات، وسيأتي تعقيب مفيد على هذا التقرير في باب البلاغة.
والزاجرات عطف على الصافات والمراد بها قيل نفوس العلماء لأنها تزجر العصاة بالنصائح والمواعظ أو الملائكة ترجر السحاب أي تسوقه وزجرا مصدر مؤكد أيضا. (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) قيل أراد نفوس العلماء لأنها تتلو آيات الله وتدرس شرائعه وقيل نفوس قواد الغزاة في سبيل الله التي تصف الصفوف وتزجر الخيل وتتلو الذكر مع ذلك لا تشغلها عنه تلك الشواغل وذكرا مفعول مطلق لأنها في معنى التاليات ويجوز أن تكون مفعولا به للتاليات، وسيأتي معنى القسم بهذه الأشياء في باب الفوائد.(8/242)
(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) الجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وواحد خبرها. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) رب السموات بدل من واحد أو خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف وما عطف على السموات والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ورب المشارق عطف على رب السموات وسيأتي سر إعادة الرب وعدم ذكر المغارب في باب البلاغة.
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير لطائف صنعه وبديع خلقه. وان واسمها وجملة زينا خبرها وزينا فعل ماض ونا فاعل والسماء مفعول به والدنيا صفة أي القريبة منكم والتي تتراءى لأعينكم وهي الجديرة بالتدبر والاعتبار وبزينة جار ومجرور متعلقان بزينا والكواكب عطف بيان أو بدل لزينة وهناك قراءات أخرى وأعاريب طريفة سنوردها في باب الفوائد. (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) الواو عاطفة وحفظا في نصبه أوجه أرقاها من جهة المعنى ما نحا إليه الزمخشري قال: «وحفظا مما حمل على المعنى لأن المعنى إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشيطان كما قال تعالى:
«ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين» ويجوز أن يقدر الفعل المعلل كأنه قيل وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب وقيل وحفظناها حفظا» وهذا الوجه الثاني أسهل من حيث الاعراب وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «وحفظا إما منصوب على المصدر بإضمار فعل أي حفظناها حفظا وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زينا أو على أن يكون العامل مقدرا أي لحفظها زيناها أو على الحمل على المعنى المتقدم أي إنا خلقنا السماء الدنيا زينة وحفظا» واقتصر أبو البقاء على المفعولية المطلقة ومن كل(8/243)
شيطان متعلقان بحفظا إن لم يكن مصدرا مؤكدا وبالمحذوف إن جعل مصدرا مؤكدا ويجوز أن يكون صفة لحفظا.
(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) في إعراب هذه الجملة كلام كثير ونقاش طويل نرجئه إلى باب الفوائد. ولا نافية ويسمعون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وإلى الملأ الأعلى متعلقان بيسمعون وسيأتي سر هذا التعدي في باب الفوائد، والأعلى صفة للملأ ويقذفون الواو عاطفة ويقذفون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومن كل جانب متعلقان بيقذفون أي من أي جهة صعدوا ليسترقوا السمع. (دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) دحورا مفعول من أجله أي يقذفون للدحور أو مدحورين على الحال أو مفعول مطلق وينوب عن المصدر مرادفه والقذف والطرد متقاربان والواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وواصب نعت لعذاب. (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) إلا أداة حصر واستثناء لأن الكلام تام منفي ومن في محل رفع بدل من الواو على الأول أو في محل نصب على الاستثناء على الثاني ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فيتعين النصب على الاستثناء والخطفة مفعول مطلق فهو مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية، فأتبعه الفاء عاطفة وأتبعه فعل ومفعول به مقدم وشهاب فاعل مؤخر وثاقب نعت لشهاب.
البلاغة:
التقديم والتأخير:
أثبتنا في باب الإعراب تقرير الزمخشري عن الفاء العاطفة(8/244)
للصفات وقد انتهى الزمخشري من تقريره الى القول، فعلى هذا إن وحدت الموصوف كانت للدلالة على ترتيب الصفات في التفاضل وإن ثلثته فهي للدلالة على ترتيب الموصوفات فيه، ومعنى توحيدها أن تعتقد أن صنفا مما ذكر في التفاسير المذكورة جامع للصفات الثلاث، على أن الأول هو الأفضل أو على العكس، ومعنى تثليثها أن تجعل كل صفة لطائفة ويكون التفاضل بين الطوائف إما أن الأول هو الأفضل أو على العكس. ووجهة الزمخشري قوية وتقريره ممتع مفيد ولكنه لم يبين وجه كل واحد منهما وخلاصة ما يقال فيه أن للعرب في التقديم مذهبان أولهما:
1- الاعتناء بالأهم فهم يقدمون ما هو أولى بالعناية وأجدر بأن يقرع السمع.
2- الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ومنه قوله:
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
ولا يقال إن هذا إنما ساغ لأن الواو لا تقتضي رتبة فإن هذا غايته أنه عذر وما ذكرناه بيان لما فيه من مقتضى البديع والبلاغة.
كلمة عامة في التقديم والتأخير:
هذا وقد عقد عبد القاهر فصلا مطولا في كتابه دلائل الإعجاز عن التقديم والتأخير يرجع إليه القارئ إن شاء، ونلخص هنا ما قاله علماء المعاني في صدد التقديم والتأخير فمن المعلوم أنه لا يمكن النطق بأجزاء الكلام دفعة واحدة بل لا بد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير البعض وليس شيء منها في نفسه أولى بالتقدم من الآخر(8/245)
لاشتراك جميع الألفاظ من حيث هي ألفاظ في درجة الاعتبار فلا بد لتقديم هذا على ذاك من داع يوجبه وهذه الدواعي كثيرة فمنها:
1- التشويق إلى المتأخر إذا كان المتأخر مشعرا بغرابة كقول أبي العلاء:
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد
2- تعجيل المسرة أو المساءة نحو العفو عنك صدر به الأمر أو القصاص حكم به القاضي.
3- كون المتقدم محط الإنكار والتعجب نحو: أبعد طول التجربة تنخدع؟
4- النص على عموم السلب أو سلب العموم فالأول يكون بتقديم أداة العموم على أداة النفي نحو: كل ذلك لم يقع أي لم يقع هذا ولا ذاك والثاني يكون بتقديم أداة النفي على أداة العموم نحو:
لم يكن كل ذلك أي لم يقع المجموع فيحتمل ثبوت البعض ويحتمل نفي كل فرد.
5- التخصيص نحو: ما أنا قلت، وإياك نعبد.
6- ومما يرى عبد القاهر تقديم الاسم فيه كاللازم (مثل) و (غير) في نحو قوله:
مثلك يثني المزن عن صوبه ... ويسترد الدمع عن غربه(8/246)
وقول أبي تمام:
وغيري يأكل المعروف سحتا ... وتشجب عنده بيض الأيادي
وفي التعبير الأول لا يقصد بمثل الى إنسان سوى الذي أضيف إليه ولكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال والصفة كان من مقتضى القياس، وموجب العرف والعادة أن يفعل ما ذكر وأن لا يفعل وكذلك في التعبير الثاني لا يراد بغير أن يومىء الى إنسان فيخبر عنه بأنه يفعل بل لم يرد إلا أن يقول: لست ممن يأكل المعروف سحتا.
الفوائد:
1- الواو في هذا التركيب:
مذهب سيبويه والخليل في مثل «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى» ان الواو الثانية وما بعدها عواطف وغير الخليل وسيبويه يذهب الى أنها حروف قسم، فوقوع الفاء في «والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا» موقع الواو والمعنى واحد إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق للعطف لا للقسم.
2- معنى القسم:
اختلف الناس في المقسم به والراجح هو أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل وأما النهي عن الحلف بغير الله فهو نهي للمخلوق عن ذلك، والقول الثاني أن المقسم به هو رب هذه الأشياء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى(8/247)
فلا بد من إضمار كلمة «رب» وتقدير الكلام ورب الصافات صفا إلخ وعلى كل حال ففي هذا القسم تنويه بهذه الأشياء وتعظيم لها وسيرد المزيد من هذا الحديث.
3- في إعراب «بزينة الكواكب» :
قال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «قوله بزينة الكواكب» قرأ أبو بكر بتنوين زينة ونصب الكواكب وفيه وجهان أحدهما أن تكون الزينة مصدرا وفاعله محذوف تقديره بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئة حسنة في أنفسها، والثاني أن الزينة اسم لما يزان به كالليقة لما تلاق به الدواة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو تكون بدلا من سماء الدنيا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل بزينة، وحمزة وحفص كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به والكواكب بدل أو بيان للزينة والباقون بإضافة زينة الى الكواكب وهي تحتمل ثلاثة أوجه أحدها أن تكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو ثوب خز والثاني أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زينت الكواكب السماء بضوئها والثالث أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضيئة في نفسها.
4- إعراب جملة لا يسمعون:
أفاض المعربون والمفسرون والنحاة في إعراب هذه الجملة، ونورد هنا مختارات من أقوال المشهورين منهم ونبدأ بالزمخشري:
«فإن قلت لا يسمعون كيف اتصل بما قبله؟ قلت: لا يخلو من أن يتصل بما قبله على أن يكون صفة لكل شيطان أو استئنافا فلا(8/248)
تصح الصفة لأن الحفظ من شياطين لا يسمعون ولا يتسمعون لا معنى له وكذلك الاستئناف لأن سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين فأجيب بأنهم لا يسمعون لم يستقم فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا الى كلام الملائكة أو يتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن ذلك، إلا أن من أمهل حتى خطف خطفة واسترق استراقة فعندها تعاجله الهلكة باتباع الشهاب الثاقب» ومضى الزمخشري في تقريره قائلا: «فإن قلت: هل يصح قول من زعم أن أصله لئلا يسمعوا فحذف اللام كما حذفت في قولك جئتك أن تكرمني فبقي أن لا يسمعوا فحذفت أن وأهدر عملها كما في قول طرفة:
ألا أيها ذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
قلت: كل واحد من هذين الحذفين غير مردود على انفراده فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات على أن صون القرآن عن مثل هذا التعسف واجب» .
وتعقبه ابن المنير صاحب الانتصاف فقال: «كلا الوجهين مستقيم والجواب عن إشكاله الوارد على الوجه الأول أن عدم سماع الشيطان سببه الحفظ منه فحال الشيطان حال كونه محفوظا منه هي حاله حال كونه لا يسمع وإحدى الحالين لازمة للأخرى فلا مانع أن يجتمع الحفظ منه وكونه موصوفا بعدم السماع في حالة واحدة لا على أن عدم السماع ثابت قبل الحفظ بل معه وقسمه. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، فقوله مسخرات(8/249)
حال مما تقدمه العامل فيه الفعل الذي هو سخر ومعناه مستقيم لأن تسخيرها يستلزم كونها مسخرة فالحال التي سخرت فيها هي الحال التي كانت فيها مسخرة لا على معنى تسخيرها مع كونها مسخرة قبل ذلك، وما أشار إليه الزمخشري في هذه الآية قريب من هذا التفسير إلا أنه ذكر معه تأويلا آخر كالمستشكل لهذا الوجه فجعل مسخرات جمع مسخر مصدر كممزّق وجعل المعنى وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر أنواعا من التسخير وفيما ذكرناه كفاية ومن هذا النمط: ثم أرسلنا رسلنا، وهم ما كانوا رسلا إلا بالإرسال وهؤلاء ما كانوا لا يسمعون إلا بالحفظ وأما الجواب على إشكاله الثاني فورود حذفين في مثل قوله تعالى: يبين الله لكم أن تضلوا، وأصله لئلا تضلوا فحذف اللام ولا جميعا من محليهما» .
وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: «وهذه الجملة منقطعة عما قبلها في الإعراب ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير من كل شيطان ما رد غير سامع أو مستمع وهو فاسد ولا يجوز أيضا أن يكون جوابا لسؤال سائل لم تحفظ من الشيطان إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم: أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت اللام وإن وارتفع الفعل وفيه تعسف، وقد وهم أبو البقاء فجوز أن تكون صفة وأن تكون حالا وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهرا الفساد والثالث إن عني به الاستئناف البياني فهو فاسد أيضا وإن أراد الانقطاع على ما قدمته فهو صحيح.
أما عبارة أبي البقاء التي شجبها السمين فهي: «قوله تعالى:
لا يسمعون جمع على معنى كل وموضع الجملة جر على الصفة أو نصب على الحال أو مستأنف وعدّاه بإلى حملا على معنى يصفون» .(8/250)
أما ابن هشام فقد عقد في المغني تنبيها خاصا حول هذه الجملة فقال: من الاستئناف ما قد يخفى وله أمثلة كثيرة أحدها لا يسمعون من قوله تعالى: وحفظا من كل شيطان ما رد لا يسمعون الى الملأ الأعلى، فإن الذي يتبادر الى الذهن أنه صفة لكل شيطان أو حال منه وكل منهما باطل إذ لا معنى للحفظ من شيطان لا يسمع وإنما هي للاستئناف النحوي ولا يكون استئنافا بيانيا لفساد المعنى أيضا، وقبل يحتمل أن الأصل لئلا يسمعوا ثم حذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن فارتفع الفعل كما في قوله:
ألا أيها ذا الزاجري احضر الوغى ... ......
فحين رفع أحضر، واستضعف الزمخشري الجمع بين الحذفين، فإن قلت اجعلها حالا مقدرة أي وحفظا من كل شيطان مارد مقدرا عدم سماعه بعد الحفظ قلت الذي يقدر وجود معنى الحال هو صاحبها كالممرور به في قولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقيدا حال المرور به أن يصيد غدا، والشياطين لا يقدرون عدم السماع ولا يريدونه.
ملاحظة هامة:
الاستئناف قسمان: بياني ونحوي: أما البياني فهو ما كان جوابا لسؤال مقدر نحو قوله تعالى: «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا: سلاما قال سلام قوم منكرون» فإن جملة القول الثانية جواب لسؤال مقدر تقديره فماذا قال لهم ولهذا فصلت عن الأولى فلم تعطف عليها، وأما النحاة فقالوا: هي المقتطعة عما قبلها سواء كانت جوابا عن سؤال أم لا، فالاستئناف عندهم أعم.(8/251)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
هذا وقد ردّ الدماميني على ابن هشام فقال: إذا كانت للاستئناف النحوي فيكون قد أخبر عن الشياطين المتحفظ منهم بعدم السماع وحينئذ يعود الإشكال بأنه كيف يتحفظ من شيطان لم يسمع في نفس الأمر، إذ المتحفظ منه من يسمع، فإن قلت: إن المراد لا يسمعون بعد الحفظ قلنا قدر ذلك في الصفة ويكون المعنى لا غبار عليه فما بالك قدرته في الاستئناف النحوي دون الصفة مع أن المعنى على كل حال ظاهر فهذا تحكم. وأجاب الشمني بأنه إخبار عن حال الشياطين لا يوصف كونه محفوظا منهم وفيه أنه لا يصح الإخبار عنهم بعدم السماع مع قطع النظر عن الحفظ لأنهم يحفظون في نفس الأمر وما الى عدم السماع إلا من الحفظ وإلا لما كان للحفظ معنى.
والذي حدانا إلى إيراد هذه الأقوال ما فيها من رياضة ذهنية ولعل ابن المنير كفانا مئونة الرد على هذه الأقوال فارجع إليه وتمعن فيه فإنه قد أصاب المحز.
فرق دقيق:
قال الزمخشري: «فإن قلت أي فرق بين سمعت فلانا يتحدث وسمعت إليه يتحدث، وسمعت حديثه والى حديثه؟ قلت: المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك» .
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 19]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)(8/252)
اللغة:
(فَاسْتَفْتِهِمْ) : فاستخبرهم يقال استفتى استفتاء العالم في مسألة: سأله أن يفتيه فيها والفتوى والفتوى والفتيا اسم من أفتى العالم إذا بيّن الحكم والجمع الفتاوي والفتاوى.
(لازِبٍ) : لازم لاصق يقال لزب يلزب لزوبا من باب دخل:
اشتد وثبت ولزب به: لصق ولزب يلزب لزبا من باب تعب ولزب يلزب لزبا ولزوبا من باب كرم الطين: لزق وصلب ولزب الشيء:
دخل بعضه في بعض واللازم اسم فاعل الثابت يقال صار الأمر ضربة لازب أي صار لازما ثابتا وطين لازب يلزق باليد لاشتداده وفي المختار:
«تقول: صار الشيء لازبا أي ثابتا وهو أفصح من لازما» .
وقال النابغة:
ولا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب
(داخِرُونَ) : صاغرون يقال دخر يدخر من باب فتح ودخر يدخر من باب تعب دخرا ودخورا أي ذل وصغر.(8/253)
الإعراب:
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) الفاء الفصيحة أي أن شئت أن تبكتهم وترد عليهم في أمر اثبات المعاد فاستفتهم لأن الفرق بيّن والبون بعيد بين المعاد وهو الأجزاء الأصلية كما سيأتي ولك أن تجعلها الفاء العاطفة المعقبة أي استفتهم عقب عدّ هذه الأشياء المذكورة آنفا. واستفتهم فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر وجوبا تقديره أنت والهاء مفعول به والهمزة للاستفهام وهم مبتدأ وأشد خبر وخلقا تمييز وأم حرف عطف وهي هنا متصلة عطفت من على هم وجملة خلقنا صلة الموصول. (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) إن واسمها وجملة خلقناهم خبر وخلقناهم فعل وفاعل ومفعول ومن طين جار ومجرور متعلقان بخلقناهم ولازب نعت لطين، وناهيك بهذا دليلا على ضعفهم وهو أن أمرهم وضآلة شأنهم وأن من كان بهذه المثابة لا يتأتى له أن يتكبر ويتطاول. (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف والمعطوف عليه مقدر دل عليه الاستفهام أي هم لا يقرون، وعجبت فعل وفاعل والخطاب للنبي والمتعلق محذوف أي من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة. وفي قراءة بضم التاء وإسناد العجب الى الله تعالى محال لأن العجب روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشيء وذلك على الله تعالى محال ولكن الكلام جرى على طريق تخيل العجب وافتراضه على طريق المشاكلة وقد تقدمت لها أمثلة.
والواو حالية وجملة يسخرون خبر لمبتدأ محذوف أي وهم يسخرون والجملة نصب على الحال.
(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذكروا في محل جر بإضافة الظرف إليها(8/254)
وذكروا بالبناء للمجهول والتشديد والواو نائب فاعل ولا نافية وجملة لا يذكرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم أي وديدنهم عدم الاتعاظ بشيء مهما يكن جديرا بالاعتبار. (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) عطف على ما تقدم والمراد بالآية المعجزة التي تدعو الى الإذعان ولكن هؤلاء لا تؤثر فيهم المعاجز ومعنى الاستسخار دعوة بعضهم لبعض بالسخرية أو أن زيادة السين والتاء لمجرد المبالغة في السخر. (وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وسحر خبر هذا ومبين نعت أي ظاهر للعيان والجملة مقول القول. (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الجملة مقول قول محذوف أيضا أي وقالوا منكرين للبعث، والهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكنا فعل ماض ناقص ونا اسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها.
(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف وآباؤنا معطوف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون وإنما جاز العطف مع أن ما بعد همزة الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله أن الهمزة الثانية مؤكدة للأولى فهي في النية مقدمة فصحّ عمل ما قبلها فيما بعدها، ولك أن تعرب آباؤنا مبتدأ محذوف الخبر والتقدير أو آباؤنا يبعثون أيضا وقرىء أو بسكون الواو فهي حرف عطف وليس هناك همزة استفهام وفيما يلي تقرير السمين عن هذه الآية:(8/255)
«قوله أو آباؤنا قرأ ابن عامر بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف وهذا الخلاف جار أيضا في الواقعة وقد تقدم مثل هذا في الأعراف في قوله: «أو أمن أهل القرى» فمن فتح الواو أجاز في أو آبائنا وجهين أحدهما أن يكون معطوفا على محل ان واسمها والثاني أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في لمبعوثون واستغنى بالفصل بهمزة الاستفهام ومن سكنها تعين فيه الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل» . (قُلْ: نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) فعل أمر وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ونعم حرف جواب والواو للحال وأنتم مبتدأ وداخرون خبر والجملة نصب على الحال والعامل فيها نعم بالنظر لمعناها أي نعم تبعثون وأنتم داخرون.
(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) الفاء الفصيحة لأنها واقعة في جواب شرط مقدر تقديره إذا كان ذلك فإنما، وإنما كافة ومكفوفة وهي مبتدأ وزجرة خبر وواحدة صفة وهي ضمير مبهم لأنه لا يرجع الى شيء وإنما يوضحه خبره، وأجازوا أن تعود هي على البعثة المدلول عليها بسياق الكلام لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والزجرة الصيحة المخيفة قال:
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفقن أن يختلطن بالغنم
يريد تصويته بها. والفاء عاطفة وإذا فجائية وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر ومفعوله محذوف أي ينظرون ما يفعل بهم أو هي بمعنى ينظرون.(8/256)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 26]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
الإعراب:
(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل ويا حرف تنبيه أو المنادى محذوف وويلنا مصدر لا فعل له من لفظه أو منادى وجملة النداء مقول قولهم وجملة هذا يوم الدين يحتمل أن تكون من تتمة مقولهم ويحتمل أن يتم الوقف على ويلنا والجملة مستأنفة فتكون من قول الملائكة لهم وهذا مبتدأ ويوم الدين خبره. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) هذا مبتدأ ويوم الفصل خبر ويحتمل أن تكون الجملة من تتمة مقولهم ويكون قوله تكذبون التفاتا من التكلم الى الخطاب والذي صفة ليوم وكنتم كان واسمها وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم.
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) خطاب من الله تعالى للملائكة أو خطاب بعضهم لبعض. واحشروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والذين مفعول به وجملة ظلموا صلة واسم الموصول عبارة عن المشركين ومفعول ظلموا محذوف تقديره أنفسهم وأزواجهم عطف على الموصول أو مفعول معه وما عطف أيضا أو مفعول معه وكان واسمها وجملة يعبدون خبرها.(8/257)
(مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) من دون الله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والفاء عاطفة واهدوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به والى صراط الجحيم متعلقان باهدوهم. (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وقفوهم عطف على ما تقدم أي واحبسوهم عند الصراط وإن واسمها ومسؤولون خبرها والجملة تعليل للأمر.
(ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) الجملة مقول قول محذوف أي ويقال توبيخا لهم. وما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تناصرون حالية ولا نافية وتناصرون فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والأصل لا تتناصرون أي لا ينصر بعضكم بعضا. (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) بل حرف إضراب وعطف وهم مبتدأ واليوم ظرف متعلق بمستسلمون ومستسلمون خبر هم أي قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز.
الفوائد:
يجوز في المضارع المبدوء بتاءين زائدتين الإدغام والفكّ ونورد هنا مناقشة بين علماء العربية نورد خلاصتها لفائدتها وطرافتها فقد ذكر ابن مالك في شرح الكافية وتبعه ابنه في شرح الخلاصة انك إذا أدغمت التاء الأولى في الثانية اجتلبت همزة الوصل ليتوصل بها الى النطق بالتاء المسكنة للادغام فتقول في تتجلى اتجلى ورد ابن هشام في أوضح المسالك وتبعه الشيخ خالد الأزهري عليهما بقولهما: «وفيه نظر فإنه لم يخلق الله أحدا من الفصحاء فيما نعلم أدخل همزة وصل في أول الفعل المضارع وإنما ادغام هذا النوع في الوصل دون الابتداء قال الحوفي: فإن وقف ابتدئ بالإظهار، ولا يجوز إدخال ألف الوصل عليه لأن ألف الوصل لا تدخل على الفعل المضارع،(8/258)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
وذكر الناظم- أي ابن مالك- في بعض كتبه هذه المسألة على الصواب فقال: يجوز ادغام تاء المضارعة في تاء أخرى بعد مد أو حركة نحو ولا تيمموا وتكاد تميز» .
ورد عليهما بعض العلماء فقال: في هذا النقد نظر لأن ابن مالك وابنه من أجلّ علماء العربية وقد ذكرا أنه يجوز الإدغام في الابتداء وتجتلب همزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ولا يخلو حالهما من أمرين إما أن يكون استندا فيه الى فهم ذلك من لغة العرب أو استنباط ذلك منها لعدم ما يناقضه وينافيه وعلى كل لا يحسن الرد عليهما بمجرد عدم العلم بأن الله لم يخلق همزة وصل في أول الفعل المضارع لأنهما مثبتان والراد عليهما ناف والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ولا تظن بهما أنهما أقدما على ما ذهبا إليه بمجرد التشهي من غير استناد الى شيء يعتمدان عليه ويستندان إليه لأن سوء الظن بالأئمة غير لائق كيف وقد نقل الثقات أن ابن مالك قال: طالعت الصحاح فلم أستفد منه إلا ثلاث مسائل ولا يضرهما عدم ذكرهما المستند في ذلك صريحا وإن ذكراه تلويحا، قال ابن المصنف: ومنهم من يدغم ويسكن أوله ويدخل عليه همزة وصل فيقول اتجلى لأنهما ثقتان مؤتمنان وقد ذكر صاحب القاموس في فصل الجيم من باب النون لما تكلم على جيان: «ومنها إماما العربية ابن مالك وأبو حيان» .
[سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 34]
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)
فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)(8/259)
الإعراب:
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الواو استئنافية وأقبل فعل ماض وبعضهم فاعل وعلى بعض متعلقان بأقبل وجملة يتساءلون حالية أي يتلاومون وينحي بعضهم باللائمة على بعض. (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قالوا فعل وفاعل وان واسمها وجملة كنتم خبرها وكان واسمها وجملة تأتوننا خبرها وتأتوننا فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن اليمين حال من فاعل تأتونا واليمين إما أن يراد بها الجارحة تعبيرا بها عن القوة وأما الحلف لأن المتعاقدين بالحلف يؤكدون حلفهم بأن يتصافحوا باليمين ويتماسحوا بها. وهناك أقوال كثيرة ضربنا عنها صفحا ويرجع إليها في المطولات وخلاصة المعنى إنكم غررتم بنا وأضللتمونا. (قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذا أحد أجوبة المتبوعين الخمسة وأولها وهو إضراب ابطالي لما ادعاه التابعون أي انكم لم تتصفوا بالإيمان في وقت من الأوقات. وقالوا فعل وفاعل وبل إضراب ابطالي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكونوا فعل مضارع مجزوم بلم والواو اسمها ومؤمنين خبرها.(8/260)
إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) وهذا هو الجواب الثاني وهو مبني على افتراض أنهم أضلوهم فهم لم يجبروهم عليه. وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولنا خبرها المقدم وعليكم حال ومن حرف جر زائد وسلطان مجرور لفظا اسم كان محلا. (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) بل إضراب ابطالي أيضا وكنتم كان واسمها وقوما خبرها وطاغين نعت لقوما وهو الجواب الثالث. (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) وهذا هو الجواب الرابع والفاء حرف عطف وحق فعل ماض وعلينا جار ومجرور متعلقان بحق وقول ربنا فاعل وان واسمها واللام المزحلقة وذائقون خبرها والجملة الاسمية تعليل لما تقدم ومفعول ذائقون محذوف أي العذاب والفاعل مستتر تقديره نحن.
(فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) الفاء عاطفة وأغويناكم فعل وفاعل ومفعول به وهذا هو الجواب الخامس وان واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها وغاوين خبرها. (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) الفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعرف مصائر الأتباع والرؤساء المتبوعين، وان واسمها ويومئذ ظرف متعلق بمحذوف حال وإذ ظرف أضيف إلى مثله والتنوين عوض عن جملة أي يوم إذ يتساءلون ويتلاومون ويتخاصمون، وفي العذاب متعلقان بمشتركون ومشتركون خبر انهم.
(إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) إن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف مقدم على فعله وجملة نفعل خبر إنا وبالمجرمين متعلقان بنفعل.
[سورة الصافات (37) : الآيات 35 الى 49]
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)(8/261)
اللغة:
(بِكَأْسٍ) : يقال للزجاجة فيها الخمر كأس وتسمى الخمر نفسها كأسا، قال الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم الناس أني امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
والكأس تطلق على الزجاجة فيها الخمر وعلى الخمر مجازا مشهور وهي مؤنثة بدليل ضميرها وصفتها وتجمع على كئوس وأكؤس وكاسات وكئاس، يقول الأعشى: ورب كأس شربتها مع لذة أو لأجل لذة فضرتني فشربت كأسا أخرى تداويت من الأولى بها ليعلم الناس أني مجرب للأمور، وكنى عن ذلك بقوله: «أتيت المعيشة من بابها» وشبه المعيشة مع أسبابها المناسبة لها بدار لها باب على(8/262)
طريق الاستعارة المكنية واثبات الباب تخييل ومن هذا المعنى أخذ أبو نواس قوله المشهور:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
ويروى عن الأخفش: «كل كأس في القرآن فهي الخمر» وقال أبو حيان: «الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه خمر وإلا فقدح وقد تسمى الخمر كأسا تسمية للشيء باسم محله» .
(مَعِينٍ) : قال أبو حيان: «اسم فاعل من معن بضم العين كشريف من شرف» أي من شراب معين أو نهر معين ظاهر للعيون أو خارج من العيون وهو صفة للماء من عان الماء إذا نبع وصف به خمر الجنة لأنها تجري كالماء وسنتبسط في هذه الكلمة لأنها تستعمل اليوم كثيرا لشكل هندسي فنقول: جاء في معاجم اللغة في مادة معن ما يلي: معن يمعن من باب فتح الماء ومعن يمعن من باب ظرف معنا ومعونا: جرى جريا سهلا فهو معين ومعن الفرس: تباعد في عدوه ومعن المطر الأرض تتابع عليها فأرواها ومعن يمعن من باب شرب معنا المكان أو النبت: روي من الماء والمعين الماء الجاري ويقال ماء معين أي جار وفي مادة عين «الماء المعين: الظاهر الذي تراه العين جاريا على وجه الأرض وعين معيونة لها مادة غزيرة من الماء» أما الشكل الهندسي فالأرجح إنه المعين بضم الميم وتشديد الياء المكسورة فهو اسم فاعل من عين المضعفة الياء وهو في الهندسة شكل مسطح متساوي الأضلاع الأربعة المستقيمة المحيطة به غير قائم الزوايا.(8/263)
(غَوْلٌ) : ما يغتال العقول يقال غاله يغوله غولا إذا أفسده، ومنه الغول الذي في تكاذيب العرب وفي أمثالهم «الغضب غول الحلم» ، وغالته الخمر: شربها فذهبت بعقله أو بصحة بدنه والغول مصدر والصداع والسكر وبعد المفازة والمشقة وما انهبط من الأرض والتراب الكثير.
(يُنْزَفُونَ) : بالبناء للمجهول من نزف الشارب إذا ذهب عقله ويقال للسكران نزيف ومنزوف ويقال للمطعون نزف فمات إذا خرج دمه كله ونزحت الركية حتى نزفتها وفي أمثالهم «أجبن من المنزوف ضرطا» .
وقصة هذا المثل: ان رجلين خرجا في فلاة فلاحت لهما شجرة فقال أحدهما: أرى قوما قد رصدونا فقال الآخر: إنما هي عشرة فظنه يقول عشرة فجعل يقول وما غناء اثنين عن عشرة ويضرط حتى مات ويروى من وجه آخر أن نسوة لم يكن لهن رجل فزوجت إحداهن رجلا كان ينام الصبحة فإذا أتينه بصبوح ونبهنه قال: لو نبهتنني لعاديه فلما رأين ذلك قلن إن صاحبنا لشجاع تعالين حتى نجربه فأتينه فأيقظنه فقال كعادته فقلن هذه نواصي الخيل فجعل يقول الخيل الخيل ويضرط حتى مات وفيه أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا.
وفي الصحاح: «نزفت ماء البئر إذا نزحته كله ونزفت هي يتعدى ولا يتعدى ونزفت أيضا على ما لم يسم فاعله» .
(قاصِراتُ الطَّرْفِ) : حابسات الأعين على أزواجهن لا ينظرن الى غيرهم ويجوز أن يكون من باب الصفة المشبهة أي قاصرات(8/264)
أطرافهن كمنطلق اللسان وأن يكون من باب اسم الفاعل على أصله وسيأتي الفرق بينهما في الاعراب.
(عِينٌ) : نجل العيون جمع عيناء والنجل جمع نجلاء وهي التي اتسع شقها سعة غير مفرطة.
الإعراب:
(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وكان واسمها وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل في محل جر بالإضافة ولهم متعلقان بقيل ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وجملة لا إله إلا الله مقول قول محذوف أي قولوا لا إله إلا الله وقد تقدم إعراب كلمة التوحيد مفصلا وجملة يستكبرون خبر كانوا وجواب إذا محذوف دل عليه ما قبله.
(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ويقولون عطف على يستكبرون والهمزة للاستفهام الانكاري وان واسمها واللام المزحلقة وتاركو خبر إن ولشاعر متعلقان بتاركوا أي لأجل شاعر ومجنون صفة.
(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) إضراب ابطالي وجاء فعل وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاء وصدق المرسلين عطف على جاء بالحق.
(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) إن واسمها وسيأتي سر هذا الالتفات في باب البلاغة واللام المزحلقة وذائقو العذاب خبر ان والأليم صفة.
(وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وما نافية وتجزون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وإلا أداة(8/265)
حصر وما مفعول به ثان وهو على حذف مضاف أي جزاء ما وجملة كنتم تعملون صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم.
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع وعباد الله مستثنى من الواو في تجزون والمخلصين صفة لعباد الله. (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) كلام مستأنف لتقرير ما أعد لعباد الله المخلصين وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم ورزق مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة لرزق ونائب الفاعل مستتر تقديره وقته أو معلوم ما يتميز به من خصائص منها الديمومة ومحض اللذة وطيب الطعم، وحسن الرداء والمنظر وجملة لهم رزق معلوم خبر أولئك. (فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ) فواكه بدل أو عطف بيان للرزق بدل كل من كل وسيأتي المزيد من مزايا هذا البدل في باب البلاغة والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ ومكرمون خبر. (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) متعلقان بمكرمون أو هو خبر ثان أو هما متعلقان بمحذوف في محل نصب على الحال. (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) على سرر متعلقان بمتقابلين ومتقابلين حال أو كلاهما حال وفي الكلام تصوير لمجالس الشراب سيأتي المزيد منه في باب البلاغة.
(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الجملة صفة لمكرمون أو حال من الضمير في متقابلين أو جملة مستأنفة وعليهم متعلقان بيطاف وبكأس ناب مناب المفعول المطلق وقد تقدم بحث ذلك مفصلا ومن معين لصفة لكأس. قال الضحاك كل كأس في القرآن فهي الخمر.
(بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وبيضاء صفة ثانية لكأس ولذة صفة ثالثة لكأس وصفت بالمصدر مبالغة أو على حذف المضاف أي ذات لذة أو(8/266)
هي تأنيث اللذ يقال لذ الشيء فهو لذ ولذيذ كقولك رجل طب أي طبيب، قال:
لذّ كطعم الصرخدي تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان
فاللذ وصف واللذة مؤنثة وهي اسم للكيفية القائمة بالنفس واسم للشيء اللذيذ والصرخد موضع بالشام ينسب إليه الشراب والحدثان مصدر كالحدث إلا أنه يدل على التجدد والتكرر يقول:
ورب شيء لذيذ يعني النوم طعمه كطعم الشراب تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بي. (لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) الجملة صفة رابعة لكأس ولا نافية وفيها خبر مقدم وغول مبتدأ مؤخر ولا عطف وهم مبتدأ وعنها متعلقان بينزفون وجملة ينزفون خبر هم وهو مبني للمجهول. (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) الواو عاطفة والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وقاصرات الطرف مبتدأ مؤخر والطرف مضاف إليه مرفوع المحل على أن قاصرات صفة مشبهة أو منصوب المحل على أن قاصرات اسم فاعل وعين صفة لقاصرات الطرف (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) صفة ثانية لقاصرات وإذا اعتبرت قاصرات صفة كانت صفة ثالثة وكأن واسمها وبيض خبرها ومكنون صفة وسيأتي بحث هذا التشبيه في باب البلاغة.
البلاغة:
1- الالتفات:
في قوله «إنكم لذائقو العذاب الأليم» فقد التفت من الغيبة الى الخطاب لمجابهتهم بالغضب وانه بلغ أقصى آماده وحدوده.(8/267)
2- الإيجاز:
وفي قوله: «فواكه» وإبداله من رزق إيجاز قصر دل على أنهم قد بلغوا غاية ما يتمناه المتمني ويغتبط به المغتبط، فالفواكه مساوية للرزق فهي تشبه الخبز واللحم لأن أكلهم لا لإقامة الصحة وحفظها وإنما هو للتلذذ والتفكه فأجسامهم هناك محكمة لا يعتورها وهن ولا يتطرق إليها ضعف أو فتور.
وهناك إيجاز آخر بقوله معلوم فقد نابت هذه الكلمة عن الأوقات والمدد واندرجت فيها العشايا والأصائل والبكر، كما نابت عن الطعوم المتفاوتة والروائح المتباينة التي تختلف في المظهر وتتفق في طيبها وتفاوح أرجها المسكر.
3- التجسيد:
والصورة الفنية الرائعة تبدو في قوله «على سرر متقابلين» وليس أشهى للشاربين في أويقات الصبوح أو الغبوق وفي البكر والأماسي من أن يتقابلوا فالتقابل أتم للسرور وأدعى الى الحبور وسيأتي أيضا تبادلهم للأحاديث والمتع.
4- الإيجاز أيضا:
وفي وصف الخمر إيجاز بليغ وهو قوله «لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون» فقد جمعت هاتان الكلمتان جميع عيوب خمر أهل الناس التي حرمت بسببها من مغص أو صداع أو خمار أو عربدة أو لغو أو تأثيم أو غير ذلك.(8/268)
5- التشبيه المرسل:
وفي قوله «كأنهن بيض مكنون» تشبيه مرسل والمراد بالبيض هنا بيض النعام، والمكنون من كننته أي جعلته في كن والعرب تشبه المرأة به في لونه وهو بياض مشرب بعض صفرة وهو الذي نطلق عليه اليوم اللون الكافوري. وأول من شبه المرأة بالبيضة امرؤ القيس بقوله:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل
والنساء يشبهن بالبيض من ثلاثة أوجه أحدها بالصحة والسلامة عن الطمث ومنه قول الفرزدق:
خرجن إلي لم يطمثن قبلي ... وهن أصح من بيض النعام
والثاني في الصيانة والستر لأن الطائر يصون بيضه ويحصنه، والثالث في صفاء اللون ونقائه لأن البيض يكون صافي اللون نقيه إذا كان تحت الطائر. هذا وهو من التشبيهات التي رغب المحدثون عنها اليوم وإن كانت بديعة في ذاتها لأن البيئة لم تعد تستسيغ تلك التشبيهات.
التشبيه بين البيئات المختلفة:
ولإيضاخ الفرق بين البيئات نقول كان العرب يستحسنون تشبيه الأصابع والبنان بدودة تكون في الرمل وتسمى جماعتها بنات النقا فمن ذلك قول امرئ القيس:(8/269)
وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك إسحل
فقد شبه البنانة بالأسروعة أي دودة الرمل. وقال ذو الرمة:
خزاعيب أمثال كأن بنانها ... بنات النقا تخفي مرارا وتظهر
فهي كأحسن البنان لينا وبياضا وطولا واستواء ودقة وحمرة رأس كأنه ظفر قد تخضب. إلا أن النفس ما لبثت أن اجتوت هذا التشبيه فعدل أبو نواس عنه بقوله:
تعاطيكها كف كأن بنانها ... إذا اعترضتها العين صف مداري
وابن الرومي أيضا بقوله:
سقى الله قصرا بالرصافة شاقني ... بأعلاه قصريّ الدلالي رصافي
أشار بقضبان هي الدر قمعت ... يواقيت حمرا فاستباح عفافي
أو قول عبد الله بن المعتز:
أشرن على خوف بأغصان فضة ... مقومة أثمارهن عقيق
وهكذا يختلف التشبيه باختلاف البيئات. وسيأتي المزيد من هذا البحث الهام وحسبنا الآن ما قدمناه.(8/270)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
[سورة الصافات (37) : الآيات 50 الى 61]
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
الإعراب:
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على يطاف عليهم والمعنى يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة الشرب، قال:
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
فيقبل بعضهم على بعض والبيت للفرزدق يقول ما بقيت لذة من اللذات إلا لذة أحاديث الكرام أو ما بقيت شهوة من الشهوات اللذيذة إلا أحاديث الكرام على الخمر وأتى بحرف الاستعلاء لأن الشراب يكون بين أيديهم والحديث من أفواههم فوقه. وأقبل بعضهم فعل(8/271)
وفاعل وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بأقبل وجملة يتساءلون حالية والتعبير بصيغة الماضي للتأكيد والدلالة على تحقق الوقوع وتلك عادة الله في أخباره. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) قال قائل فعل وفاعل ومنهم صفة لقائل أي من أهل الجنة وإن واسمها وجملة كان خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول القول ولي خبر كان مقدم وقرين اسمها مؤخر أي كان لي في الدار العاجلة صاحب. (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) جملة يقول صفة لقرين والهمزة للاستفهام الانكاري وإن واسمها واللام المزحلقة ومن المصدقين خبر إن والجملة مقول القول.
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر بإضافة الظرف إليها وكنا فعل ماض ناقص ونا اسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام وإن واسمها واللام المزحلقة ومدينون خبر إن أي مجزيون ومحاسبون. (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) قال فعل ماض ناقص والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود على ذلك القائل من أهل الجنة أي قال لإخوانه وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومطلعون خبره والاستفهام معناه الأمر أي تعالوا تنطلع من كوى الجنان لنطّلع على حال أهل النار. (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) الفاء عاطفة واطلع فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على ذلك القائل، فرآه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به أي رأى قرينه وفي سواء الجحيم متعلقان برآه أي في وسطها ولك أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف حال ولعله أولى أي مرتطما في وسط جهنم.
(قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) قال فعل ماض وفاعل مستتر وتالله التاء حرف قسم وجر وهو مع مجروره متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم(8/272)
وإن مخففة من الثقيلة ولك أن تعملها فيكون اسمها محذوفا أي انك وجملة كدت خبرها ويجوز أن تهملها فتكون جملة كدت جواب القسم لا محل لها وقد سبق أن قلنا أن إن إذا خففت فالأكثر أن تدخل على كاد كما تدخل على كان ونحوه واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتردين فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به وحذفت الياء تبعا لسنة المصحف.
(وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود ونعمة مبتدأ وربي مضاف إليه وخبر المبتدأ محذوف وجوبا والتقدير موجودة واللام واقعة في جواب لولا وكان واسمها ومن المحضرين خبرها أي من الذين أحضروا العذاب كما أحضرته أنت وأمثالك. (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف تقديره أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد وميتين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) إلا أداة حصر والاستثناء مفرغ وموتتنا مفعول مطلق وقيل هو استثناء منقطع فينصب على الاستثناء والأولى صفة أي الموتة التي في الدنيا والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وبمعذبين الباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ أو ضمير فصل والفوز خبر هو والجملة خبر إن، أو خبر إن والعظيم صفة للفوز.
(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) يحتمل أن يكون من كلامه ترغيبا للمكلفين في عمل الطاعات ويحتمل أن يكون من كلام بعضهم لبعض(8/273)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
وقيل يبعد الاحتمال الثاني قوله فليعمل العاملون فإن العمل والترغيب فيه إنما يكون في الدنيا. وعلى كل حال فالجار والمجرور متعلقان بيعمل وهذا مضاف إليه والفاء الفصيحة أي إن تبين حقيقة حال أهل الجنة فليعمل، واللام لام الأمر ويعمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والعاملون فاعل.
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
اللغة:
(نُزُلًا) : النزل بضمتين أو بضم النون وسكون الزاي: المنزل وما هيء للضيف والجمع أنزال والنزل أيضا بضمتين: الطعام ذو(8/274)
البركة والمنزل والقوم النازلون وريع ما يزرع ونماؤه والعطاء والفضل وقد استعير للحاصل من الشيء وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم.
(الزَّقُّومِ) : قال في القاموس: «الزقم اللقم والتزقّم التلقم وأزقمه فازدقمه: أبلعه فابتلعه والزقوم كتنور: الزبد بالتمر وشجرة بجهنم ونبات بالبادية له زهر ياسميني الشكل وطعام أهل النار» وقال في الأساس: «تقول: من أنكر أن يقوم أطعمه الله الزقوم، ويقال: إن أهل إفريقية يسمون الزبد بالتمر: زقوما وهو من قولهم:
أنه ليزقم اللقم، ويتزقمها ويزدقمها: يبتلعها وبات يتزقّم اللبن إذا أفرط في شربه» . وفي الخازن: والزقوم ثمر شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم يكره أهل النار على تناولها فهم يتزقمونه على أشد كراهية وقيل هي شجرة تكون بأرض تهامة من أخبث الشجر. وسيأتي المزيد من الحديث عن شجرة الزقوم في باب البلاغة.
(طَلْعُها) : الطلع حقيقة اسم لثمر النخيل في أول بروزه، فإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز بالاستعارة كما سيأتي في باب البلاغة، والطلع من النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود وما يبدو من ثمرته في أول ظهورها.
(شوبا) : بفتح الشين وهو مصدر على أصله وقيل يراد به اسم المفعول ويدل له قراءة بعضهم لشوبا بالضم، قال الزجاج:
المفتوح مصدر والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض والفعل منه شابه يشوبه من باب قال إذا خلطه فهو الخلط.
(حَمِيمٍ) : ماء حار وهو المقصود هنا ويطلق على الماء البارد فهو من الأضداد.(8/275)
الإعراب:
(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الجملة مقول قول محذوف يعود إلى ذكر الرزق المعلوم أي قل لهم يا محمد على سبيل الإنكار والتوبيخ والتهكم أذلك خير نزلا، فالهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وذلك مبتدأ وخير خبر ونزلا تمييز لخير وأم حرف عطف وشجرة الزقوم عطف على ذلك وقال الزمخشري: «وانتصاب نزلا على التمييز، ولك أن تجعله حالا كما تقول: أثمر النخلة خير بلحا أم رطبا» . (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) إن واسمها وجملة جعلنا خبر وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به أول وفتنة للظالمين مفعول به ثان وللظالمين صفة لفتنة أي ابتلاء وتعذيبا ومحنة لهم لأنهم قالوا النار تحرق الشجر فكيف تنبته. (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) إن واسمها وشجرة خبرها وجملة تخرج صفة لشجرة وفي أصل الجحيم متعلقان بتخرج. (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) طلعها مبتدأ وجملة التشبيه خبر وكأن واسمها ورؤوس الشياطين خبر كأن.
(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) الفاء عطف وان واسمها واللام المزحلقة وآكلون خبر إن ومنها متعلقان بآكلون فمالئون الفاء عاطفة للترتيب مع التعقيب ومالئون معطوف على آكلون ومنها متعلقان بمالئون والبطون مفعول مالئون لشدة جوعهم.
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان حرف مشبه بالفعل ولهم خبرها المقدم وعليها متعلقان بمحذوف حال واللام المزحلقة وشوبا اسمها المؤخر ومن حميم صفة لشوبا. (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وان واسمها واللام المزحلقة والى الجحيم خبرها. (إِنَّهُمْ(8/276)
أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ)
الجملة تعليل لما سبق من ابتلائهم بأفانين العذاب، وان واسمها وجملة ألفوا خبرها وآباءهم مفعول ألفوا الأول وضالين مفعول ألفوا الثاني. (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الفاء تعليلية وهم مبتدأ وعلى آثارهم متعلقان بيهرعون وجملة يهرعون خبر هم والاهراع السير الشديد بحثّ وانزعاج. وفي المصباح هرع وأهرع بالبناء للمفعول فيهما إذا أعجل. (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وضل فعل ماض مبني على الفتح وقبلهم ظرف متعلق بمحذوف حال وأكثر الأولين فاعل.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل وفيهم جار ومجرور متعلقان بأرسلنا ومنذرين مفعول به. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة اسمها المؤخر والمنذرين بفتح الذال مفعول به. (إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء بمعنى لكن لأن الاستثناء منقطع وعباد الله مستثنى والمخلصين صفة.
البلاغة:
حفلت هذه الآيات بضروب من البلاغة سنبسط القول فيها وسننقل لك خلاصات وافية لما أورده أساطين البلاغة في صددها فأول ما فيها من فنون:
1- التشبيه برؤوس الشياطين:
وهو تشبيه طلع شجرة الزقوم برؤوس الشياطين وهو تشبيه(8/277)
خيالي وقد سبق ذكره فيما قدمناه من أقسام التشبيه، ونورد لك هنا خلاصة ما قاله ابن رشيق فيه:
«واعلم أن التشبيه على ضربين: تشبيه حسن وتشبيه قبيح فالتشبيه الحسن هو الذي يخرج الأغمض الى الأوضح فيفيد بيانا والتشبيه القبيح ما كان خلاف ذلك» قال الرماني: «وشرح ذلك ما تقع عليه الحاسة أوضح مما لا تقع عليه الحاسة، والمشاهد أوضح من الغائب فالأول في العقل أوضح من الثاني، والثالث أوضح من الرابع وما يدركه الإنسان من نفسه أوضح مما يعرفه من غيره، والقريب أوضح من البعيد في الجملة، وما قد ألف أوضح مما لم يؤلف» ثم انتقل ابن رشيق الى التشبيه الوارد في الآية فقال:
«قال الله عز وجل: «طلعها كأنه رؤوس الشياطين» فقال قوم إن شجرة الزقوم وهي أيضا الأستن لها صورة منكرة وثمرة قبيحة يقال لها رؤوس الشياطين» والأستن كما يقول المجد:
«الأستن والأستان بفتح الهمزة وسكون السين فيهما، أصول الشجر يغشو في منابته فإذا نظر إليه الناظر شبهه بشخوص الناس» الى أن يقول: «والأجود الأعرف انه شبه بما لا يشك انه منكر وقبيح لما جعل الله عز وجل في قلوب الإنس من بشاعة صور الجن» .
فصل رائع للجاحظ:
وكم كنا نتمنى أن يكون كتاب «نظم القرآن» موجود بين أيدينا لنطلع على الفصل الرائع الذي كتبه الجاحظ بصدد هذا التشبيه ولكن الكتاب فقد مع ما فقد من آثارنا العربية فلا بد لنا من أن ننقل شذرات منه وردت في كتبه الأخرى، فقد جاء في كتاب الحيوان ما نصه: «وليس ان الناس رأوا شيطانا قط على صورة ولكن لما كان(8/278)
الله تعالى قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشياطين واستسماجه وكراهيته وقد أجرى على ألسنة جميعهم ضرب المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتنفير وبالإخافة والتقريع إلى ما قد جعله الله في طباع الأولين والآخرين وعند جميع الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم وهذا التأويل أشبه من قول من زعم من المفسرين أن رؤوس الشياطين نبات ينبت باليمن» .
وتعرض الجاحظ لهذا التشبيه مرة أخرى فقال: «فزعم ناس أن رؤوس الشياطين ثمر شجرة تكون ببلاد اليمن لها منظر كريه والمتكلمون لا يعرفون هذا التفسير وقالوا: ما عنى إلا رؤوس الشياطين المعروفين بهذا الاسم من فسقة الجن ومردتهم فقال أهل الطعن والخلاف: لس يجوز أن يضرب المثل بشيء لم نره فنتوهمه ولا وصفت لنا صورته في كتاب ناطق أو خبر صادق، ومخرج الكلام يدل على أن التخويف بتلك الصورة والتفزيع منها، وعلى أنه لو كان شيء أبلغ في الزجر من ذلك لذكره فكيف يكون الشأن كذلك والناس لا يفزعون إلا من شيء هائل شنيع قد عاينوه أو صوّره لهم واصف صدوق اللسان بليغ في الوصف ونحن لم نعافيها ولا صوّرها لنا صادق، وعلى أن أكثر الناس من هذه الأمم التي لم تعايش أهل الكتابين وحملة القرآن من المسلمين، ولم تسمع الاختلاف لا يتوهمون ذلك، ولا يقفون عليه، ولا يفزعون منه فكيف يكون ذلك وعيدا عاما؟ قلنا: وإن كنا نحن لم نر شيطانا قط ولا صور رؤوسها لنا صادق بيده ففي إجماعهم على ضرب المثل بقبح الشيطان حتى صاروا يضعون ذلك في مكانين أحدهما أن يقولوا: لهو أقبح من الشيطان، والوجه الآخر أن يسمى الجميل شيطانا على جهة التطيّر له كما تسمى(8/279)
الفرس الكريمة شوهاء، والمرأة الجميلة صمّاء وقرناء وخنساء وجرباء وأشباه ذلك على جهة التطيّر له، ففي إجماع المسلمين والعرب وكل من لقيناه على ضرب المثل بقبح الشيطان دليل على أنه في الحقيقة أقبح من كل قبيح» .
لقد فصل الجاحظ في المقال وجوه التشبيه وتصرف الأسلوب القرآني في المشبه به ووجه الشبه ينتزعه من غير مدرك بالحس اعتمادا على ثبوته في الإدراك عن طريق العادة والعرف وتناقل الناس له، وقد أجاز الجاحظ مثل هذا التشبيه وبين وجهته وناقش آراء غيره في التشبيه في ضرورة الاعتماد على الحس البصري لتصوير المعنى في الذهن، ومنذ ذلك العهد أو قبله بقليل اهتم الناس بهذين النوعين من التشبيه وتابعوهما في القرآن وفي البيان عامة ودارت بحوث البلاغة حول هذه النقطة وتفرعت من هذين النوعين أنواع أخرى، وهكذا كان لهذه الآبة ومثلها أثر في تنبيه الناس إلى التشبيه، فبحثه فيها أبو عبيدة وجدّد الجاحظ البحث وتوسّع فيه وظلت الآية على رأس الشواهد في التشبيه المعنوي في كتب النقد والبلاغة بعدهما.
ورفض الجاحظ تفسير اللغويين الحسي، وهو يتفق ووجهة نظر أهل الظاهر في التفسير ويعارض وجهة أهل النظر من المتكلمين والمعتزلة أيضا وقد فسر أولئك رؤوس الشياطين برؤوس نبات ينبت باليمن أو شجر كريه المنظر أو حيات قبيحة الشكل وكلها مدلولات مادية لكلمة شيطان قد يكون لها أصل من الواقع وقد تكون من ابتكار هؤلاء، وهي على الحالين لا تبلغ في أثرها في النفس مبلغ صورة الشيطان التي تثب الى الخيال وتجمع كل سمات الفزع والقبح وإن تكن غير واضحة وضوح النبات والشجر والحيات وهذا الغموض يضفي عليها مزيدا من التخويف.(8/280)
لهذا كان تفسير الجاحظ أكثر إدراكا لمرمى التعبير القرآني في النفوس وهو إدراك له قيمته من الوجهة النقدية ذلك هو أثر الأدب في النفس وهي لفتات جاءت عابرة في كتب الأقدمين وأولاها النقد الحديث عنايته، وهو يذكر أمثلة من التشبيه بالحيوان في القرآن وذلك لغلبة صفة ما في كل نوع منها أراد السياق إبرازها فيضرب الله مثلا بالعنكبوت في وهن البيت وضعفه والحمار في الجهل والغفلة وفي قلة المعرفة وغلظ الطبيعة والقرد في القبح والتشويه ونذاله النفس.
ولعل هذه الآية أو قل هذا التشبيه هو الذي حدا بأبي عبيدة الى تأليف كتابه «مجاز القرآن» الذي لم نطلع عليه ولكن ذكره ابن النديم صاحب «الفهرس» والخطيب صاحب «تاريخ بغداد» وابن الأنباري في «نزهة الألباء» وياقوت في «إرشاد الأريب» وابن خلكان في «الوفيات» والسيوطي في «بغية الوعاة» ويذكر ياقوت أن أبا عبيدة ألف كتاب «المجاز» عام ثمانية وثمانين ومائة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم يذكر على لسان أبي عبيدة:
«أرسل إليّ الفضل بن الربيع في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة فقدمت الى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسي ثم دخل علي رجل في زي الكتاب له هيئة فأجلسه الى جانبي وقال له: أتعرف هذا قال: لا، قال هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة، أقدمناه لنستفيد من علمه فدعا له الرجل وقرّظه لفعله هذا وقال: إني كنت مشتاقا إليك وقد سألت عن مسألة أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟ فقلت:
هات، قال: قال الله عز وجل: «طلعها كأنه رؤوس الشياطين» وانما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله وهذا مما لم يعرف، فقلت: إنما(8/281)
كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم أما سمعت قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل وعزمت في ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه فلما رجعت الى البصرة عملت كتابي الذي سميته «المجاز» .
وعبارة السمين بهذا الصدد: «قوله: كأنه رؤوس الشياطين، فيه وجهان أحدهما أنه حقيقة وأن رأس الشياطين شجر بعينه بناحية تسمى الاستن وهو شجر مرّ منكر الصورة سمته العرب بذلك تشبيها برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلا يشبه به وقيل الشياطين: صنف من الحيات، وقيل: هو شجر يقال له الصرم فعلى هذا قد خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقي والثاني أنه من باب التمثيل والتخيل وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره، والشياطين وإن كانوا موجودين لكنهم غير مرئبين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات» .
أما الزمخشري فقد جمع بين الأقوال كلها ولكنه قدم ما هو أولى فقال بأسلوبه الممتع: «والطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجر الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية وشبه برؤوس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر لأن الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيقولون في(8/282)
القبيح الصورة كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان وإذا صوره المصورون جاءوا بصورته على أقبح ما يقدروا هوله كما أنهم اعتقدوا في الملك انه خير محض لا شرّ فيه فشبهوا به الصورة الحسنة قال الله تعالى: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» وهذا تشبيه تخييلي، وقيل الشيطان حية عرفاء لها صورة قبيحة المنظر هائلة جدا، وقيل إن شجرا يقال له الأستن خشنا مرا منتنا منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين وما سمت العرب هذا الثمر برؤوس الشياطين إلا قصدا الى أحد التشبيهين ولكنه بعد التسمية بذلك رجع أصلا ثالثا يشبه به.
2- سر العطف ب «ثم» :
وفي قوله «ثم ان لهم عليها لشوبا من حميم» سر لطيف المأخذ، دقيق المسلك، قلّ من يتفطن إليه، فإن في معنى التراخي وجهين:
أحدهما: انهم يملئون البطون من شجر الزقوم وهو حارّ يحرق بطونهم ويزيد في عطشهم وغلتهم فلا يسقون إلا بعد ملي تعذيبا بذلك العطش ثم يسقون ما هو أحر من العطش وهو الشراب المشوب بالحميم، والوجه الثاني أنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ثم ذكر الشراب بما هو أوغل في الكراهة وأبعد في البشاعة فجاء بثم للدلالة على تراخي حال الشراب عن حال الطعام ومباينة صفته لصفته في الزيادة عليه ومعنى الثاني انه يذهب بهم عن مقارهم ومنازلهم في الجحيم وهي الدركات التي اسكنوها الى شجرة الزقوم فيأكلون إلى أن يملئوا بطونهم ويسقون بعد ذلك ثم يرجعون الى دركاتهم، ومعنى التراخي في ذلك واضح المفهوم.(8/283)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
الإعراب:
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في تفصيل ما أجمل فيما سبق. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ونادانا نوح فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر، والفاء عاطفة واللام جواب قسم محذوف وجواب كل من القسين محذوف، لدلالة السياق عليه والتقدير والله لقد نادانا نوح لما يئس من إيمان قومه بعد أن استنزف ألف سنة إلا خمسين عاما بين أظهرهم فلم يزدادوا إلا عتوا واستكبارا ونفورا فأجبناه أحسن إجابة فو الله لنعم المجيبون نحن. ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح والمجيبون فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف تقديره نحن وهذه هي الأولى من قصص ست ستأتي تباعا.
(وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الواو عاطفة ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به وأهله عطف على الهاء أو مفعول معه ومن الكرب جار ومجرور متعلقان بنجيناه العظيم نعت للكرب. (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) وجعلنا عطف على نجيناه وذريته مفعول به وهم ضمير(8/284)
فصل لا محل له والباقين مفعول جعلنا الثاني. (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) الواو عاطفة وتركنا فعل وفاعل وعليه صفة للمفعول المحذوف أي ثناء كائنا عليه وفي الآخرين في موضع نصب مفعول به ثان لتركنا وقيل في إعراب هذه الآية غير ذلك. (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء وعلى نوح خبر متعلق بمحذوف صفة لسلام أو متعلق بما تعلق به الأول وجملة سلام على نوح في العالمين مفسرة لتركنا. وقال السمين: «قوله سلام على نوح مبتدأ وخبر وفيه أوجه: أحدها أنه مفسر لتركنا أي تركنا عليه شيئا وهو هذا الكلام وقيل ثم قول مقدر أي فقلنا سلام وقيل ضمن تركنا معنى قلنا وقيل سلط تركنا على ما بعده، قال الزمخشري:
وتركنا عليه في الآخرين هذه الكلمة وهي سلام على نوح في العالمين يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له وهو من الكلام المحكي كقولك سورة أنزلناها وهذا الذي قاله قول الكوفيين جعلوا الجملة في محل نصب مفعولا بتركنا لا انه ضمن معنى القول بل هو على معناه بخلاف الوجه قبله وهو أيضا من أقوالهم» .
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) إن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف وجملة نجزي خبر إنا وفاعل نجزي مستتر تقديره نحن والمحسنين مفعول به لنجزي والجملة تعليل لمجازاة نوح بتلك التكرمة السامية وهي خلود ذكره وتسليم العالمين عليه أبد الدهر. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل للإحسان بالإيمان تنويها بشأن الإيمان وتشريفا له وحثا على الازدياد منه. وان واسمها ومن عبادنا خبرها والمؤمنين نعت لعبادنا. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) عطف على نجيناه وأهله فالترتيب حقيقي لأن نجاتهم حصلت قبل غرق الباقين ولكن بينهما تراخيا.(8/285)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 113]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)(8/286)
اللغة:
(شِيعَتِهِ) : في المختار: «الشيعة أتباع الرجل وأنصاره» وفي المصباح: «الشيعة: الأتباع والأنصار وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة ثم صارت الشيعة اسما لجماعة مخصوصة والجمع شيع سدرة وسدر والأشياع جمع الجمع» وفي الأساس: «شيّعته يوم رحيله وشايعتك على كذا: تابعتك عليه وتشايعوا على الأمر وهم شيعته وشيعه وأشياعه وهذا الغلام شيع أخيه: ولد بعده، وآتيك غدا أو شيعه قال:
قال الخليط: غدا تصدّعنا ... أو شيعه أفلا تشيّعنا
وأقمت عنده شهرا أو شيع شهر وكان معه مائة رجل أو شيع ذلك ونزلوا موضع كذا أو شيعه، وشاع الحديث والسر وأشاعه صاحبه ورجل مشياع مذياع وقطرت قطرة من اللبن في الماء فتشيع فيه: تفرق، وأشاعت الناقة بولها وأشاعت به وجاءت الخيل شوائع:
متفرقة، وتشايعت الإبل وله صهم في الدار شائع ومشاع وشيّع بالإبل وشايع بها: صاح بها ومنه قيل لنفاخ الراعي: الشياع وشايع(8/287)
بهم الدليل فأبصروا الهدى: نادى بهم. ومن المجاز شيعنا شهر رمضان بصوم الستة وشيّعت النار بالحطب وأعطني شياعا كما تقول: شبابا لما تشيّع به وتشبّ، وشيّع هذا بهذا: قوه به، قال الراعي:
إليك يقطع أجواز الفلاة بنا ... نصّ تشيعه الصّهب المراسيل
ورجل مشيّع القلب: للشجاع، وقد شيّع قلبه بما يركب كلّ هول وشاع في رأسه الشيب وشاعكم الله تعالى بالسلام وشاعكم السلام قال:
ألا يا نخلة في ذات عرق ... برود الظل شاعكم السلام»
لمحة عن الشيعة:
وقول صاحب المصباح: «اسم لجماعة مخصوصة» يقصد الشيعة أقدم الفرق الإسلامية وقد ظهروا بمذهبهم السياسي في آخر عصر عثمان ونما وترعرع في عهد علي وقوام هذا المذهب أن الإمامة ليست من مصالح العامة التي تفوض الى نظر الأمة ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفالها وتفويضها الى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويجب أن يكون معصوما عن الكبائر والصغائر وان علي بن أبي طالب كان هو الخليفة المختار من النبي وانه أفضل الصحابة. ولها فرق كثيرة يرجع إليها في الملل والنحل للشهرستاني والفصل في الملل والنحل لابن حزم.(8/288)
(فَراغَ) : مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته، وفي المختار: «راغ الثعلب من باب قال وروغانا بفتحتين والاسم منه الرواغ بالفتح وأراغ وارتاغ أي طلب وأراد، وراغ الى كذا مال إليه سرا وحاد، وقوله تعالى: «فراغ عليهم ضربا باليمين أي أقبل وقال الفراء: مال عليهم. وفلان يراوغ في الأمر مراوغة» .
(يَزِفُّونَ) : يسرعون في المشي من زفيف النعام ويزفون من أزفّ إذا دخل في الزفيف أو من أزفّه إذا حمله على الزفيف أي يزف بعضهم بعضا، وفي الأساس: «زف العروس إلى زوجها وهذه ليلة الزّفاف، وزف الظليم وزفزف وزفت الريح وزفزفت زفيفا وزفزفة وهي سرعة الهبوب والطيران مع صوت، وريح زفزف، وزفزفته الريح حرّكته وبات مزفزفا، وأنشدني سلامة بن عياش الينبعي بمكة يوم الصّدر:
فبتّ مزفزفا قد أنشبتني ... رسيسة ورد بينهم أحاحا
لعلمي أن صرف البين يضحي ... ينيل العين قرّتها لماحا
ومن المجاز: زفوا إليه: أسرعوا ويقال للطائش الحلم: قد زفّ رأله، وجئته زفة أو زفتين مرة أو مرتين وهي المرة من الزفيف كما أن المرة من المرور» .
(وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) : صرعه على شقه فوقع أحد جنبيه على الأرض تواضعا على مباشرة الأمر بصبر وجلد وفي المصباح: «والجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة الى الصدغ وهما جبينان عن يمين الجبهة(8/289)
وشمالها قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما فتكون الجبهة بين جبينين وجمعه جبن بضمتين مثل بريد وبرد وأجبنة مثل أسلحة» وفي القاموس: «تله تلا من باب قتل فهو متلول وتليل صرعه أو ألقاه على عنقه وخده» .
(الْجَحِيمِ) : النار الشديدة الوقود وقيل كل نار على نار وجمر فوق جمر فهي جحيم، وفي القاموس: «الجحيم النار الشديدة التأجج وكل نار بعضها فوق بعض كالجحمة وتضم، وكل نار عظيمة في مهواة والمكان الشديد الحر كالجاحم، وجحمها كمنعها أوقدها فجحمت ككرمت جحوما وكفرح جحما وجحيما اضطرب والجاحم الجمر الشديد الاشتعال» .
الإعراب:
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) الواو عاطفة عطفت القصة الثانية على القصة الأولى ولك أن تجعلها استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة إبراهيم بعد قصة نوح. وان حرف مشبه بالفعل ومن شيعته خبرها المقدم واللام المزحلقة وإبراهيم اسمها المؤخر.
(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) لك أن تعلق الظرف بفعل محذوف تقديره اذكر ولك أن تعلقه بما في الشيعة من معنى الاشتقاق فهو معمول له لما فيه من معنى المتابعة، وجملة جاء في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاعل مستتر تقديره هو يعود على إبراهيم وربه مفعول به وبقلب متعلقان بجاء وسليم صفة. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ) الظرف الثاني بدل من الظرف الأول وأجاز أبو البقاء أن يكون ظرفا(8/290)
لسليم أو لجاء وجملة قال في محل جر بالإضافة والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ولأبيه متعلقان بقال وماذا تقدم اعرابها كثيرا فما مبتدأ وذا اسم موصول خبر أو هي بكاملها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون لا محل لها على الأول وجملة ماذا مقول القول على الثاني.
(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وإفكا في نصبه أوجه أحدها أنه مفعول من أجله أي أتريدون آلهة دون الله إفكا فآلهة مفعول به ودون الله ظرف متعلق بتريدون وقدمت معمولات الفعل اهتماما به لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل وبهذا الوجه بدأ الزمخشري والجلال والثاني أنه مفعول به بتريدون ويكون آلهة بدلا منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها منه وفسره بها والثالث انه حال من فاعل تريدون أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) الفاء عاطفة وما اسم استفهام للانكار والتوبيخ أي ليس لكم سبب ولا عذر يحملكم على الظن وهو في محل رفع مبتدأ وظنكم خبره وبرب العالمين متعلقان بظنكم وفي البيضاوي: «والمعنى إنكار ما يوجب ظنا فضلا عن قطع يصدّ عن عبادته أو يجوز الإشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام وهي كالحجة على ما قبله» .
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) الفاء عاطفة ونظر فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ونظرة مفعول مطلق وفي النجوم متعلق بنظر، قيل الكلام على حذف مضاف أي في علم النجوم ولم يقل الى النجوم مع أن النظر إنما يتعدى بإلى لأن «في» تأتي بمعنى «إلى» لقوله تعالى «فردوا أيديهم في أفواههم» أي إليها وقيل إن نظر ضمن معنى فكر(8/291)
وهو يتعدى بفي. (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) الفاء عاطفة وقال فعل ماض وفاعل مستتر وإني إن واسمها وسقيم خبرها وإن وما في حيزها في محل نصب مقول القول وسيأتي الكلام في تجويز الكذب على إبراهيم.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) الفاء عاطفة وتولوا فعل ماض وفاعل وعنه متعلقان بتولوا ومدبرين حال من الواو في تولوا. (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) الفاء عاطفة وراغ فعل ماض وفاعل والى آلهتهم متعلقان براغ فقال عطف على راغ والهمزة للاستفهام ولا نافية وتأكلون فعل مضارع مرفوع وفاعل وجملة الاستفهام مقول القول.
(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) ما اسم استفهام مبتدأ ولكم خبر وجملة لا تنطقون في محل نصب على الحال وجملة مالكم مقول قول محذوف والتقدير فلم ينطقوا فقال مالكم لا تنطقون. (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فلم يجيبوا فراغ وعليهم جار ومجرور متعلقان براغ وضربا مصدر واقع موقع الحال أي فراغ عليهم ضاربا أو مصدر لفعل مقدر أي يضرب ضربا والجملة في محل نصب على الحال وباليمين متعلقان بضربا أو بعامله.
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) الفاء عاطفة وأقبلوا فعل ماض والواو فاعل وإليه متعلقان بأقبلوا وجملة يزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا ويجوز تعلق إليه به. (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتعبدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وما مفعول به وجملة تنحتون صلة والعائد محذوف، ويجوز أن تكون ما مصدرية أي نحتكم، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة أي منحوتكم، وقيل استفهامية للتوبيخ أي وأي شيء تعملون. (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(8/292)
الواو حالية والله مبتدأ وجملة خلقكم خبر والكاف مفعول به والواو عاطفة وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية وقيل هي استفهامية للتوبيخ أي وأي شيء تعملون وقيل هي نافية أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئا، وسيأتي مزيد بحث في هذا التركيب الذي شجر فيه الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، وجملة والله خلقكم حال ومعناها أتعبدون الأصنام على حالة تنافي ذلك وهي أن الله خالقكم وخالقهم جميعا ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة.
(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) قالوا فعل وفاعل وابنوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول القول وله متعلقان بابنوا وبنيانا مفعول به، فألقوه عطف على ابنوا وهو فعل أمر والواو فاعل والهاء مفعول به وفي الجحيم متعلقان بألقوه.
(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الفاء عاطفة وأرادوا فعل ماض وفاعل وبه متعلقان بأرادوا وكيدا مفعول به، فجعلناهم عطف على فأرادوا وهو فعل وفاعل ومفعول به أول والأسفلين مفعول به ثان لجعلناهم. (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) الواو عاطفة على محذوف تقديره فخرج من النار سالما وقال، وان واسمها وذاهب خبرها والى ربي متعلقان بذاهب والسين حرف استقبال ويهدين فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الياء والنون للوقاية وياء الضمير المحذوفة لرعاية الفواصل مفعول به أي سيهديني وسيأتي معنى ذهابه الى ربه في باب الفوائد. (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد تقدمه له نظائر وهب فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ولي متعلقان بهب ومن الصالحين صفة لمفعول به محذوف أي ولدا من الصالحين. (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ(8/293)
حَلِيمٍ)
الفاء عاطفة على محذوف تقديره فاستجبنا له، وبشرناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وبغلام متعلقان ببشرناه وحليم صفة وفي الكلام إيجاز سيأتي في باب البلاغة.
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) الفاء استئنافية ولما حينية أو رابطة وبلغ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو والظرف متعلق بمحذوف حال وعبارة الزمخشري: «فإن قلت بم يتعلق معه؟ قلت: لا يخلو إما أن يتعلق ببلغ أو بالسعي أو بمحذوف فلا يصح تعلقه ببلغ لاقتضائه بلوغهما معا حد السعي ولا بالسعي. لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه فبقي أن يكون بيانا كأنه لما قال فلما بلغ السعي أي الحد الذي يقدر فيه على السعي قيل مع من فقال مع أبيه والمعنى في اختصاص الأب انه أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته ولم يصلب عوده» . (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى) جملة قال لا محل لها لأنها جواب لما ويا حرف نداء وبني منادى مضاف لياء المتكلم وان واسمها وجملة أرى خبرها وفي المنام متعلقان بأرى وإن واسمها وجملة أذبحك خبرها وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي رأى الحلمية، فانظر الفاء الفصيحة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت وماذا ترى يجوز أن تكون ماذا مركبة استفهامية فتكون منصوبة بتري وما بعدها في محل نصب بانظر لأنها معلقة له ويجوز أن تكون ما استفهامية وذا موصولة فتكون ماذا مبتدأ وخبرا والجملة معلقة أيضا وأن تكون ماذا بمعنى الذي فتكون معمولا لأنظر وترى فعل مضارع من الرأي لا من رؤية العين ولا المتعدية الى مفعولين بل كقولك هو يرى رأي الخوار.(8/294)
(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) يا حرف نداء وأبت منادى مضاف الى ياء المتكلم المعوض عنها بالتاء وقد تقدم القول فيها وافيا مرارا والتاء في محل جر لأن المعوض عنه كذلك وافعل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وما اسم موصول مفعول افعل وجملة تؤمر صلة والعائد محذوف تقديره ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف في قولك أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ويجوز أن تكون ما مصدرية أي أمرك على إضافة المصدر للمفعول والسين حرف استقبال وتجدني فعل مضارع مرفوع والنون للوقاية والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والياء مفعول به ومن الصابرين في موضع المفعول الثاني. (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وأسلما فعل ماض والألف فاعل أي استسلما وخضعا وانقادا لأمر الله، وتله الواو عاطفة وتله فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو أي إبراهيم والهاء مفعول به وللجبين متعلقان بمحذوف حال وجواب لما محذوف تقديره ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما أو كان ما كان مما تنطق به الحال. وقال الكوفيون والأخفش الجواب وتله للجبين بزيادة الواو وقيل وناديناه بزيادة الواو أيضا والأول أرجح. (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) الواو عاطفة وناديناه فعل وفاعل ومفعول به وأن مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه ويا حرف نداء وإبراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم.
(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قد حرف تحقيق وصدقت فعل وفاعل والرؤيا مفعول به وإن واسمها وكذلك نعت لمصدر محذوف مقدم على عامله وجملة نجزي المحسنين خبر إن وجملة(8/295)
إنا تعليل لما منّ عليهما من الفرج بعد الشدة والرجاء بعد اليأس.
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) إن واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ أو ضمير فصل والبلاء خبر هو أو خبر إن والمبين نعت للبلاء.
(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الواو عاطفة وفديناه فعل وفاعل ومفعول به والجملة معطوفة على ناديناه وبذبح جار ومجرور متعلقان بفديناه والذبح اسم ما يذبح كبشا كان أم وعلا وعظيم صفة لذبح.
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) تقدم إعراب نظير هذه الآية ومفعول تركنا محذوف وفي الآخرين صفة لهذا المحذوف أي ثناء حسنا. (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سلام مبتدأ وعلى إبراهيم خبر وساغ الابتداء بالنكرة لما فيها من معنى الدعاء وجملة سلام على إبراهيم مقول قول محذوف أي يقال له هذا في الآخرين.
(كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي المحسنين فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها ومن عبادنا خبر والمؤمنين صفة والجملة تعليلية لا محل لها.
(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) الواو حرف عطف وبشرناه فعل وفاعل ومفعول به وبإسحاق متعلقان ببشرناه ونبيا حال من إسحق ومن الصالحين صفة لنبيا أو حال ثانية، وورودها على سبيل الثناء والتقريظ لأن كل نبي لا بد أن يكون صالحا. (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) وباركنا عطف على ما تقدم وعليه متعلقان بباركنا وعلى إسحق عطف على عليه (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) من ذريتهما خبر مقدم ومحسن مبتدأ مؤخر وظالم عطف على محسن ولنفسه متعلقان بظالم ومبين صفة لظالم.(8/296)
البلاغة:
انطوت هذه الآية على فنون شتى نورد أهمها فيما يلي:
1- في قوله «فقال إني سقيم» فن الرمز والإيماء وهو أن يريد المتكلم إخفاء أمر ما في كلامه فيرمز في ضمنه رمزا إما تعمية للمخاطب وتبرئة لنفسه وتنصلا من التبعة وإما ليهتدي بواسطته الى طريق استخراج ما أخفاه في كلامه وقد كان قوم إبراهيم نجّامين فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم التنجيم على انه يسقم فقال: إني سقيم أي مشارف للسقم وهو الطاعون وكان أغلب الأسقام عليهم وكانوا يخافون العدوى فقال ذلك ليوجسوا خوفا ويتفرقوا عنه فهربوا منه الى عيدهم وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ففعل بالأصنام ما فعل، وقد يوهم ظاهر الكلام أنه ارتكب بذلك جريرة الكذب والأنبياء معصومون عنه والصحيح أن الكذب حرام إلا إذا عرض عنه وورّى، ولقد نوى ابراهيم أن من في عنقه الموت سقيم ومنه المثل: «كفى بالسلامة داء» وقال لبيد:
كانت قناتي لا تلين لغامز ... فألا منها الإصباح والإمساء
فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ... ليصحني فإذا السلامة داء
يصف لبيد قوته زمن الشباب ثم ضعف حال المشيب بتتابع الأزمان عليه وانه طلب فسحة الأجل فكانت سبب اضمحلاله. والقناة الرمح استعارها لإقامته أو قوته على طريق الاستعارة التصريحية والليونة، والغمز ترشيح للاستعارة والغمز الجس باليد، ومات رجل فالتف عليه الناس وقالوا مات وهو صحيح فقال أعرابي أصحيح من(8/297)
الموت في عنقه وقيل أراد بقوله إني سقيم النفس لكفركم، على أن بعض الناس قد جوزه في المكيدة في الحرب والتقية وإرضاء الزوج والصلح بين المتخاصمين والمتهاجرين وسيأتي المزيد من هذه القصة الفريدة في باب الفوائد.
2- الإيجاز:
في قوله «فبشرناه بغلام حليم» إيجاز قصر وقد تقدم تعريفه، فقد انطوت هذه البشارة الموجزة على ثلاث: أن الولد ذكر، وأنه يبلغ أوان الحلم، وانه يكون حليما، وأي حلم أدل على ذلك من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فلم يضطرب ولم يتخاذل ولم يعترض على مشيئة أبيه بل قال: «ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ثم استسلم لذلك ولم يكن ليدور له في خلد أن الله سيفديه وسيهيئ له كبش الفداء.
الفوائد:
1- من هو الذبيح؟
اختلف المفسرون في المأمور بذبحه فعن ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين انه إسماعيل وحجتهم فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا ابن الذبيحين» وقال له أعرابي يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لمّا حفر بئر زمزم نذر الله لئن سهل الله له أمرها ليذبحنّ أحد ولده فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له: أفديناك بمائة من الإبل ففداه بمائة من الإبل(8/298)
والثاني إسماعيل، واحتجوا أيضا بأن الله وصفه بالصبر دون إسحق في قوله تعالى: «وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلّ من الصابرين» وهو صبره على الذبح، وعن علي بن أبي طالب وابن مسعود والعباس وعطاء وعكرمة وغيرهم أنه إسحق وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، والحجة فيه أن الله تعالى أخبر خليله ابراهيم حين هاجر الى الشام بأنه استوهبه ولدا ثم أتبع ذلك البشارة بغلام حليم ثم ذكر رؤياه بذبح ذلك الغلام المبشر به ويدل عليه كتاب يعقوب الى يوسف الذي جاء فيه: «من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله» وقال الزجاج: «الله أعلم أيهما الذبيحين» وهذا مذهب ثالث وهو الوقف عن الجزم بأحد القولين وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى ولعل هذا أولى فإن هذه المسأله ليست من العقائد التي كلفنا بمعرفتها فهيي مما ينفع علمه ولا يضر جهله والله أعلم. هذا وللمفسرين والمؤرخين كلام طويل في قصة الذبح يرجع إليها في المطولات.
2- مناقشة بين أهل السنة والمعتزلة:
وهناك مناقشة يجدر بنا تلخيصها بين أهل السنة والمعتزلة لطرافتها ولعلاقتها الوثيقة بالإعراب فقد تساءل الزمخشري حول قوله تعالى: «والله خلقكم وما تعملون» فقال: «كيف يكون الشيء الواحد لله تعالى معمولا لهم، وأجاب بأن هذا كما يقال عمل النجار الباب فالمراد عمل شكله لا جوهره وكذلك الأصنام جواهرها مخلوقة لله تعالى وأشكالها وصورها معمولة لهم فإن قلت: ما منعك أن تكون ما مصدرية لا موصولة ويكون المعنى والله خلقكم وعملكم كما يقول المجبرة» وأجاب: بأن «أقرب ما يبطل به هذا السؤال بعد(8/299)
بطلانه بالحجج العقلية أن معنى الآية يأباه فإن الله تعالى احتج عليهم بأنه خلق العابد والمعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد فيهما هو الذي عمل صورة المعبود» قال: ولو قلت والله خلقكم وعملكم لم يكن للكلام طباق وشيء آخر وهو أن قوله وما تعملون شرحه في قوله أتعبدون ما تنحتون ولا يقال في أن ما هذه موصولة فالتفرقة بينهما تعسف وتعصب» قال: «فإن قلت اجعلها موصولة ومعناها وما تعملونه من أعمالكم وحينئذ توافق الأولى في أنها موصولة فلا يلزمني التفرقة بينهما» وأجاب «بل الإلزامان في عنقك لا يفكهما إلا الإذعان للحق وذلك أنك وان جعلتها موصولة فهي واقعة عندك على المصدر الذي هو جوهر الضم وفي ذلك فكّ للنظم وتبتير كما لو جعلتها مصدرية» .
وتعقبه ابن المنير فقال: «يتعين حملها على المصدرية وذلك انهم لم يعبدوا هذه الأصنام من حيث كونها حجارة ليست مصورة فلو كان كذلك لم يتعاونوا في تصويرها ولا اختصوا بعبادتهم حجرا دون حجر فدل أنهم إنما يعبدونها باعتبار أشكالها وصورها التي هي أثر عملهم ففي الحقيقة انهم عبدوا عملهم وصلحت الحجة عليهم بأنهم مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله فقد ظهر أن الحجة قائمة عليهم على تقدير أن تكون ما مصدرية أوضح قيام وأبلغه فإذا ثبت ذلك فليتتبع كلامه بالإبطال أما قوله: إنها موصولة وان المراد بعملهم لها عمل أشكالها فمخالف للظاهر فإنه مفتقر الى حذف مضاف في موضع اليأس يكون تقديره: والله خلقكم وما تعملون شكله وصورته بخلاف توجيه أهل السنة فإنه غير مفتقر الى حذف البتة ثم إذا جعل المعبود نفس الجوهر فكيف يطابق توبيخهم ببيان أن المعبود من عمل العابد مع موافقته على(8/300)