الإعراب:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا) اذكر فعل أمر وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان باذكر وموسى مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها ومخلصا خبر كان وكان رسولا نبيا عطف على كان الأولى. (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) وناديناه عطف على ما سبق وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن جانب متعلقان بناديناه والطور مضاف اليه والأيمن صفة لجانب قالوا لأنه كان يلي يمين موسى حين أقبل من مدين وقربناه عطف على ناديناه ونجيا حال من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه وهو فعيل بمعنى فاعل أي مناجيا. (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ووهبنا عطف أيضا وله متعلقان بوهبنا ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا ومعنى من هنا التبعيض أي بعض رحمتنا أو للتعليل أي من أجل رحمتنا وأخاه مفعول به لوهبنا وهارون بدل ونبيا حال. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا) اعرابها ظاهر وقد تقدم وجملة انه كان تعليلية. (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) جملة يأمر خبر كان وأهله مفعول به وبالصلاة متعلقان بيأمر وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر تقديره هو وعند ربه متعلقان بمرضيا ومرضيا خبر كان اجتمعت الياء والواو فقلبت الواو ياء وأدغمت في الأخرى. (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) تقدم اعراب مثيلاتها ولا بأس بذكر ما قاله الزمخشري بصدد إدريس وهذا نصه:
«قيل سمي إدريس لكثرة دراسته كتاب الله عز وجل وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه(6/120)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
إلا سبب واحد وهو العلمية فكان منصرفا فامتناعه من الصرف دليل العجمة وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون ولا يعقوب من العقب ولا إسرائيل باسرال كما زعم ابن السكيت ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات ويجوز أن يكون معنى إدريس في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي مشتقا من الدرس» وما أجمل حرية الرأي. (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) رفعناه فعل وفاعل ومفعول به ومكانا ظرف متعلق برفعناه وعليا صفة وقد رويت أساطير كثيرة حول هذا الرفع ومرجعها المطولات.
(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) أولئك مبتدأ أي الأنبياء العشرة المذكورون في السورة والذين خبر أو بدل من اسم الاشارة وجملة أنعم الله عليهم صلة ومن النبيين حال ومن ذرية آدم بدل بإعادة الجار. (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) عطف على ما تقدم. (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) جملة إذا تتلى عليهم وجوابها استئنافية لا محل لها إذا أعربنا الذين خبرا وإذا أعربنا الذين بدلا فتكون هي الخبر وجملة خرّوا لا محل لها لأنها جواب إذا والواو في خروا فاعل وسجدا حال من الفاعل وبكيا عطف على سجدا جمع ساجد وباك والثاني شاذ لأن قياس فاعل من المنقوص أن يجمع على فعله كقاض وجمعه قضاة وباك وجمعه بكاة.
[سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)(6/121)
اللغة:
(خلف) : أي عقب وبعض اللغويين يستعملون الخلف بسكون اللام كما هنا في الشر فيقال خلف سوء وبفتحها في الخير فيقال خلف صالح، قال في الكشاف: «خلفه إذا عقبه ثم قيل في عقب الخير خلف بالفتح وفي عقب السوء خلف بالسكون كما قالوا وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر» وقال اللحياني: الخلف بفتحتين الولد الصالح والخلف بفتح فسكون الرديء.
(غَيًّا) : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد، قال المرقش الأصغر:
أمن حلم أصبحت تنكت واجما ... وقد تعتري الأحلام من كان نائما
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
يقال غوي يغوى من باب ضرب انهمك في الجهل.(6/122)
الإعراب:
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) الفاء عاطفة وخلف فعل ماض ومن بعدهم حال وخلف فاعل وجملة أضاعوا الصلاة صفة لخلف واتبعوا الشهوات عطف على أضاعوا الصلاة والفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعلم عاقبتهم، وسوف حرف استقبال ويلقون فعل مضارع وفاعل وغيا مفعول به.
(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) إلا أداة استثناء و «من» إن جعلنا الاستثناء منقطعا كانت إلا بمعنى لكن ومن مستثنى واجب النصب ووجه الانقطاع أن المستثنى منه كفار والمستثنى مؤمنون وهذا اختيار الزجاج واختار أبو حيان الاتصال وربما كان أظهر لأنه خطاب صالح لكل أمة وفيها من آمن ومن كفر وعلى كل حال هو واجب النصب لأن الكلام تام موجب، وجملة تاب صلة وآمن عطف على تاب وعمل عطف أيضا وصالحا يجوز أن يكون مفعولا به وأن يكون مفعولا مطلقا أي عملا صالحا، فأولئك الفاء الفصيحة وأولئك مبتدأ وجملة يدخلون خبر والجنة مفعول به على السعة ولا يظلمون عطف على يدخلون وشيئا مفعول مطلق ولك أن تجعله مفعولا ثانيا بتضمين يظلمون معنى ينقصون. (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) جنات بدل من الجنة وعدن مضاف إليه من عدن بالمكان أي أقام وقد جرى مجرى العلم ولذلك ساغ وصفها بالتي والتي صفة لجنات عدن وجملة وعد صلة والرحمن فاعل وعد وعباده مفعول وبالغيب حال من عباده أي من المفعول والمعنى غائبة عنهم لا يشاهدونها ويحتمل أن يكون حالا من ضمير الجنة وهو الضمير العائد على الموصول أي وعدها وهم غائبون عنها لا يرونها.(6/123)
(إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) إن واسمها والضمير يعود على الله تعالى أي الرحمن والمعنى أن الرحمن كان وعده مأتيا أو انه ضمير الشأن لأنه مقام تعظيم وتفخيم والجملة تعليلية مستأنفة وجملة كان خبر إن واسم كان يعود على الله تعالى أيضا ووعده بدلا من ذلك الضمير بدل اشتمال ومأتيا خبرها ويجوز أن لا يكون فيها ضمير، ووعده اسمها ومأتيا خبرها واختار الجلال وشراحه أن يكون مآتيا مفعول بمعنى فاعل أي آتيا ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال: «قيل في مأتيا مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها» والحقّ مع الزمخشري لأن ما تأتيه فهو يأتيك فلا موجب للتأويل. (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الجملة حال من جنات عدن ولا نافية ويسمعون فعل مضارع والواو فاعل وفيها متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونهم في الجنة ولغوا مفعول به أي مالا طائل تحته من الكلام وهو ما يشقشق به أكثر الناس في مجالسهم من ثلب للآخرين وتدخل في شؤون الناس أو من حديث تافه أشبه بالفضول، وإلا أداة حصر وسلاما بدل من لغوا أو يحمل على الاستثناء المنقطع وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة ولهم خبر مقدم ورزقهم مبتدأ مؤخر وفيها حال وبكرة ظرف متعلق بمعنى الاستقرار المستكن في الخبر المقدم وعشيا عطف على بكرة. (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) اسم الاشارة مبتدأ والجنة خبر والتي صفة للجنة وجملة نورث صلة ومن اسم موصول مفعول نورث وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وجملة تقيا خبر كان.
البلاغة:
1- توكيد المديح بما يشبه الذم وعكسه:
في قوله تعالى «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً» فن رفيع من(6/124)
فنون البلاغة وهو توكيد المدح بما يشبه الذم وقد سبقت الاشارة اليه في المائدة ولم نقسمه آنذاك فنقول انه ينقسم الى نوعين:
آ- أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية ومنه قول النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
فقد جعل الفلول عيبا على سبيل التجوز بتا لنفي العيب بالكلية كأنه يقول: إن كان فلول السيف من القراع عيبا فانهم ذوو عيب معناه إن لم يكن عيبا فليس فيهم عيب البتة لأنه لا شيء سوى هذا فهو بعد هذا التجوز والفرض استثناء متصل.
ب- ان تثبت لشيء صفة مدح وتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك الشيء نحو: أنا أفصح العرب بيد أني من قريش وقال النابغة أيضا:
فتى كملت أوصافه غير أنه ... جواد فما يبقي على المال باقيا
وأصل الاستثناء في هذا الضرب أن يكون منقطعا لكنه لم يقدّر متصلا بل بقي على حاله من الانقطاع لأنه ليس في هذا الضرب صفة ذم منفية عامة يمكن تقدير دخول صفة المدح فيها فحينئذ لا يستفاد التوكيد فيه إلا من الوجه الثاني من الوجهين المذكورين في الضرب الاول ولهذا كان الضرب الاول أبلغ لإفادته التأكيد من الوجهين.
إذا عرفت هذا فاعلم أن في الآية الكريمة: «لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما» ثلاثة أوجه:(6/125)
آ- أن يكون معناه إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة لغوا فلا يسمعون لغوا إلا ذلك وهو بهذا من وادي قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ب- انهم لا يسمعون فيها إلا قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة وهذا يتعين فيه الاستثناء المنقطع.
ج- ان معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وهي دار السلامة وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ففي الوجه الاول والثالث يتعين الاتصال في الاستثناء أما الأول فلجعل ذلك لغوا على سبيل التجوز والفرض وأما الثاني فواضح لأنه فيه اطلاق اللغو على السلام وأما الثالث فلحمل الكلام على ظاهره من دون تجوز أو فرض.
2- التشبيه التمثيلي البليغ:
وذلك في قوله تعالى «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» فقد شبه عطاء الجنة لهم بالعطاء الذي لا يرد وهو الميراث الذي يرثه الوارث فلا يرجع فيه المورث أي نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه والوارثة أقوى لفظ يستعمل في التمليك والاستحقاق من حيث أنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا تبطل برد ولا إسقاط والإرث في اللغة البقاء، قال عليه الصلاة والسلام: «إنكم على إرث من إرث أبيكم ابراهيم» أي على بقية من(6/126)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
بقايا شريعته والوارث الباقي من أسماء الله تعالى أي الباقي بعد فناء خلقه وهو في الشرع انتقال مال الغير الى الغير على سبيل الخلافة.
[سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
الإعراب:
(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية قول جبريل حيث استبطأه الرسول عليه السلام لما سئل عن قصة أهل الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب، كما تقدم، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما وقيل أربعين حتى قال المشركون: ودعه ربه وقلاه، فالواو استئنافية وما نافية وتتنزل فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وإلا بأمر ربك استثناء من أعم الأحوال فإلا أداة حصر وبأمر متعلقان بمحذوف حال فالتنزل نزول فيه إبطاء أو بمعنى النزول على الإطلاق، قال الشاعر:
فلست لإنسيّ ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب
وهذا البيت لرجل من عبد القيس يمدح الملك النعمان بن المنذر وقيل لأبي وجرة يمدح عبد الله بن الزبير وقبله:(6/127)
تعاليت ان تعزى الى الانس جلة ... وللإنس من يعزوك فهو كذوب
أي لست منسوبا لإنسي ولكن لملك وبالغ في ذلك حتى جعله نازلا من جهة السماء يصوب أي يقصد الى جهة معينة والملأك معفل بتقديم العين من الألوكة بالفتح وهي الرسالة وقال أبو عبيدة هو مفعل على اسم المكان من لأك إذا أرسل ولعله جاء على مفعل لتصوير أن الرسول مكان الرسالة وقال ابن كيسان: هو فعأل من الملك فالهمزة زائدة وعلى كل يخفف بالنقل فيقال ملك.
(لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) له خبر مقدم وما موصول مبتدأ مؤخر والجملة حال من ربك والظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيدينا مضافة للظرف وما خلفنا عطف على ما بين أيدينا وما بين ذلك عطف أيضا. (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) الواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها وخبرها. (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) رب السموات والأرض خبر لمبتدأ محذوف أي هو رب السموات والأرض ويجوز أن يعرب بدلا من ربك. (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) الفاء هي الفصيحة ولا حاجة لتأويل الكلام بجعلها عاطفة من باب عطف الإنشاء على الخبر أي إذا عرفت ربوبيته الكاملة فاعبده واصطبر عطف على اعبده ولعبادته متعلقان باصطبر وقد أحسن الزمخشري في الفهم حيث جعل العبادة بمنزلة القرن تقول للمحارب اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته وصولاته والمراد لا تضق ذرعا ولا تهن قوة إذا تأخر عنك الوحي ولا تبتئس لشماتة الكافرين فما هي إلا غمرة ثم تنجلي، وظلمة ثم تنحسر وهل حرف(6/128)
استفهام معناه النفي وتعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وسميا مفعول به والسمي هو الشريك في الاسم.
الفوائد:
عطف الإنشاء على الخبر وبالعكس:
منعه البيانيون وبعض النحاة وأجازه بعض النحاة قال أبو حيان:
وأجاز سيبويه ذلك واستدل بقول امرئ القيس:
وإن شفائي عبرة مهراقة ... وهل عند رسم دارس من معول
فجملة إن شفائي إلخ خبرية وجملة وهل عند رسم إلخ جملة انشائية عطفا على الخبرية وقول الآخر:
تناغي غزالا عند باب ابن عامر ... وكحّل مآقيك الحسان بإثمد
وقول الآخر:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلوكما هيا
ورد ابن هشام هذه الأقوال فقال ردا على أبي حيان: «وأما ما نقله أبو حيان عن سيبويه فغلط عليه وأما بيت امرئ القيس فالاستفهام خرج معناه الى النفي كما ذكرنا، وأما قوله فانكح فتاتهم فهو معطوف على فعل أمر محذوف مفهوم من المبتدأ أي تنبه لخولان وأما وكحل مآقيك إلخ فيتوقف على النظر فيما قبله من الأبيات وقد(6/129)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
يكون معطوفا على أمر مقدر يدل على المعنى أي فافعل كذا وكحل كما قيل في لأرجمنك واهجرني ان التقدير فاحذرني واهجرني مليا لدلالة لأرجمنك.
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
اللغة:
(جِثِيًّا) : بضم الجيم وكسرها وبهما قرئ جمع جاث من جثا يجثو أجثى ويجثي لغتان: أي جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه فهو جاث.
(صِلِيًّا) : بكسر الصاد وضمها وبهما قرئ مصدر صلي بكسر اللام وفتحها النار أي دخلها.(6/130)
الإعراب:
(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) الواو استئنافية ويقول الإنسان فعل مضارع وفاعل وأل فيه للجنس والهمزة للاستفهام بمعنى النفي وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق بفعل محذوف دل عليه قوله لسوف أخرج لأن اللام تمنع من تعليقه بأخرج المذكورة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها وما زائدة وجملة مت صلة واللام لام الابتداء وسوف حرف استقبال واخرج فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره أنا وحيا حال وساغ اجتماع اللام وهي نمحض الفعل للحال وسوف وهي تمحضه للاستقبال ان اللام هنا لمجرد التوكيد وإنما جردت اللام من معناها لتلائم سوف دون أن تجرد سوف من معناها لتلائم اللام لأنه لو عكس هذا للغت سوف إذ لا معنى لها سوى الاستقبال وأما اللام فانها إذا جردت من الحال بقي لها التوكيد فلم تلغ. (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أولا: الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة ولا نافية ويذكر فعل مضارع معطوف على يقول ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف والإنسان فاعل وأنّا: ان واسمها وجملة خلقناه خبر أنا وان وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يذكر ومن قبل الجار والمجرور متعلقان بيذكر ولم الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسمها ضمير مستتر تقديره هو، وشيئا خبر يك والمضاف الى قبل محذوف تقديره قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه وقدره بعضهم قبل بعثه. (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) الفاء عاطفة والواو للقسم وربك مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وفائدة هذا القسم سترد في باب البلاغة(6/131)
واللام واقعة في جواب القسم ونحشرنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والشياطين عطف على الهاء أو الواو بمعنى مع والشياطين مفعول معه. (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) ثم حرف عطف للتراخي ولنحضرنهم عطف على لنحشرنهم وحول ظرف مكان متعلق بنحضرنهم وجهنم مضاف اليه وجثيا حال. (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) ثم لننزعن عطف على لنحضرنهم ومن كل شيعة متعلقان بننزعن وأيهم اسم موصول بمعنى الذي وحركتها عند سيبويه حركة بناء لخروجها عن النظائر أي لأنها أضيفت وحذف صدر صلتها وهي في محل نصب مفعول به لننزعن وأشد خبر لمبتدأ محذوف والجملة صلة أي وعتيا تمييز وعلى الرحمن متعلقان بأشد أو بمحذف حال وسيأتي مزيد بحث في هذه الآية في باب الفوائد. (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) ثم حرف عطف للترتيب والتراخي واللام للابتداء ونحن مبتدأ وأعلم خبر وبالذين متعلقان بأعلم وهم مبتدأ وأولى خبر والجملة صلة وبها متعلقان بأولى وصليا تمييز وقيل صليا جمع صال فانتصب على الحال وفي التمييز فائدة وهي التخصيص بشدة العذاب لا التخصيص بأصل العذاب لاشتراكهم فيه. (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) الواو عاطفة وإن نافية ومنكم صفة لمبتدأ محذوف تقديره أحد أي ما منكم أحد وإلا أداة حصر وواردها خبر وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو أي الورود وحتما خبرها ومقضيا صفة لحتما. (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) ثم ننجي عطف على ما تقدم وفاعل ننجي مستتر تقديره نحن والذين موصول مفعول واتقوا صلة ونذر عطف على ننجي والفاعل مستتر تقديره نحن والظالمين مفعول به وفيها متعلقان بنذر أو(6/132)
بجثيا ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من جثيا لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم عليها فنصب على الحال، وجثيا حال أو تجعلها مفعولا ثانيا لنذر أي نتركهم فيها جثيا.
البلاغة:
1- فن القسم:
في قوله تعالى «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ» فن القسم وهو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له وتعظيم لشأنه أو تنويه لقدره أو ما يكون ذما لغيره أو جاريا مجرى الغزل والترقق أو خارجا مخرج الموعظة والزهد فقد أفاد القسم هنا أمران أحدهما أن العادة جرت بتأكيد الخبر باليمين والثاني أن في إقسام الله تعالى باسمه مضافا الى رسوله صلى الله عليه وسلم رفعا منه لقدره وتنويها بشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ» وسيأتي تحقيق ذلك في مواضعه.
وقد توسّع الشعراء في القسم لأن فيه حلاوة ورفعا لشأن المتغزل به، وما ألطف قول عبد المحسن الصوري وهو من أبرع ما سمغنا:
يا غزالا قد رمى باللحظ ... قلبي فأصابا
بالذي ألهم تعذيبي ... ثناياك العذابا
والذي ألبس خديك ... من الورد نقابا
والذي أودع في فيك من الشهد شرابا
والذي صيّر حظي ... منك هجرا واجتنابا(6/133)
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا
ولابن خفاجة الاندلسي:
لا وسحر بين أجفانكم ... فتن الحب به من فتنا
وحديث من مواعيدكم ... تحسد العين عليه الأذنا
ما رحلت العيس عن أرضكم ... فرأت عيناي شيئا حسنا
وبلغ العباس بن الأحنف الغاية بقوله:
واني ليرضيني قليل نوالكم ... وإن كان لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الود إلا عدتم بجميل
وأبدع أبو الطيب بقوله:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا
والوجد يقوى كما تقوى النوى أبدا ... والصبر ينحل في جسمي كما نحلا
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
بما بجفنيك من سحر صلي دنفا ... يهوى الحياة وأما إن صددت فلا(6/134)
2- الافتنان:
وذلك في قوله تعالى «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» والافتنان هو أن يفتن المتكلم فيأتي في كلامه بفنين إما متضادين أو مختلفين أو متفقين والآية التي نحن بصددها جمعت بين المتضادين:
جمعت بين الوعد والوعيد، بين التبشير والتحذير وما يلزم من هذين الفنين من المدح للمختصين بالبشارة والذم لأهل النذارة وستأتي منه أمثلة عديدة في القرآن الكريم.
ومن الجمع بين المتضادين في الشعر قول عبد الله بن طاهر بن الحسين ونسبهما في الكامل لأبي دلف:
أحبك يا ظلوم وأنت مني ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان
فانظر كيف جمع في هذا الشعر بين الغزل والحماسة والغزل لين والحماسة شدة وقال عنترة وأبدع:
إن تغد في دوني القناع فانني ... طب بأخذ الفارس المستلئم
وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب فإنه جمع فيه بين الغزل والحماسة والجد والهزل فأتى فيه بنادرة طريفة وطرفة غريبة حيث قال بعد وصفها بستر وجهها دونه بالقناع حتى صار ما بين بصره وبين وجهها كالليل المغدف الذي يحول بين الأبصار والمبصرات: انني طب بأخذ الفارس المستلئم يقول: إن تتبرقعي دوني فانني خبير لدربتي بالحرب بأخذ الفارس الذي سترته لأمته، وحالت دوني ودون مقاتلته فأبرز(6/135)
الجد في صورة الهزل فجاء في بيته مع الافتنان التندير الطريف وعبر عن معناه اللطيف بهذا اللفظ الشريف.
وجمع الحطيئة بين المدح والهجاء في بيت واحد من قصيدة يمدح بها بغيضا ويهجو الزبرقان وقد شكاه الزبرقان بسببها الى عمر بن الخطاب:
قد ناضلونا وسلوا من كنانتهم ... مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس
ومعنى هذا البيت لا يعرفه إلا من عرف أن عادة العرب إذا منوا على أسير أعطوه نبلا من نبلهم عليها اشارة تدلّ على أنها لأولئك القوم لا تزال في كنانته، فقال الحطيئة لهذا الممدوح الذي عناه بهذا المدح:
إن عداك لما فاخروك سلوا من كنانتهم تلك التي أعطيتها لهم حتى مننت عليهم تشهد لك بأنهم عتقاؤك فكان هذا مجدا تليدا لك لا يقدرون على جحده تثبته لك هذه النبل التي ليست بأنكاس يعني الصائبات التي لا تنكب إذا ناضلت بها عن الغرض وهذا غاية المدح للمدوح ونهاية الهجاء لعداه إذ أخبر بأنهم مع معرفتهم بفضله عليهم يفاخرونه بما إذا أظهروه أثبت له الفضل عليهم وهذا غاية الجهل منهم والغباوة.
ومن الجمع بين الهجاء والمدح أو الفخر قول أبي العلاء المعري:
بأي لسان ذامني متجاهل ... عليّ وخفق الريح فيّ ثناء
تكلم بالقول المضلّل حاسد ... وكل كلام الحاسدين هراء
أتمشي القوافي تحت غير لوائنا ... ونحن على قوالها أمراء(6/136)
ولا سار في عرض السماوة بارق ... وليس له من قومنا خفراء
فهو إذ يفخر بنفسه يهجو أبناء جنسه الذين يتطاولون وهم قصار ويدعون المعرفة والجهل يكتنفهم أولم يقل لهم مخاطبا:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتخبر أبناء العقول الصحائح
والروح العلائية معروفة فلا لزوم للشرح والتبسط.
أما الجمع بين التهنئة والتعزية فهو غريب حقا وهو يحتاج الى الكثير من شفوف الطبع ورهافة الحس للاجادة فيه ومن أجمل ما سمعنا منه مثل قول المعزّي ليزيد بن معاوية عند ما جلس في دست الخلافة وأتت الوفود مهنئة معزية بأبيه فلما اجتمعوا لم يفتح على أحد بما فتح به لهم باب القول حتى تقدم هذا المتقدم ذكره فاستأذن في الكلام فلما أذن له قال: آجرك الله يا أمير المؤمنين على الرزية وبارك الله لك في العطية فلقد رزئت عظيما وأعطيت جسيما، رزئت خليفة الله، وأعطيت خلافة الله، فاصبر على ما رزئت، واشكر على ما أعطيت وأنشد:
اصبر يزيد فقد فارفت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا
لا رزء أصبح في الأقوام تعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا
أصبحت راعي أمور الناس كلهم ... فأنت ترعاهم والله يرعاكا(6/137)
وفي معاوية الباقي لنا خلف ... إذا نعيت ولا نسمع بمنعاكا
ففتح للناس باب القول: فقالوا وكان له فضل السبق.
وقال أبو نواس للعباس بن الفضل يعزيه بالرشيد ويهنئه بخلافة الأمين:
تعزّ أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها ... لهنّ مساو مرة ومحاسن
وفي الحيّ بالميت الذي غيّب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
3- فن الالتفات:
في قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ... الخ» التفات على أحد القولين وهو مفرع على إرادة العموم من الأول فيكون المخاطبون أولا هم المخاطبين ثانيا إلا أن الخطاب الاول بلفظ الغيبة والثاني بلفظ الحضور واما إذا بنينا على أن الأول إنما أريد منه خصوص على التقديرين جميعا فالثاني ليس التفاتا وإنما هو عدول عن خطاب خاص لقوم معينين الى خطاب العامة والقول في الورود على جهنم طويل يرجع فيه الى المطولات.(6/138)
الفوائد:
نقاش طويل حول أيهم:
وعدناك بمزيد من البحث حول أيهم في قوله تعالى «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» قال أبو حيان في شرح التسهيل: «وسأل الكسائي في حلقة يونس لم لا يجوز أعجبني أيهم قام فقال: أي كذا خلقت» أي كذا وضعت وقال ابن السراج موجها قول الكسائي بالمنع ما معناه إن أيا وضعت على العموم والإبهام فإذا قلت يعجبني أيهم يقوم فكأنك قلت يعجبني الشخص الذي يقع منه القيام كائنا من كان ولو قلت أعجبني أيهم قام لم يقع إلا على الشخص الذي قام فأخرجها ذلك عما وضعت له من العموم ولذلك يشترط في عاملها أن يكون مستقبلا متقدما عليها نحو «لننزعن من كل شيعة أيهم أشد» وذلك لأجل الفرق بين الشرطية والاستفهامية وبين الموصولة لأن الشرطية والاستفهامية لا يعمل فيهما إلا متأخر والمشهور عند الجمهور افرادها وتذكيرها وقد تؤنث وتثنى وتجمع عند بعضهم فتقول أية وأيان وأيتان وأيون وأيات وهي معربة فقيل مطلقا وهو قول الخليل ويونس والأخفش والزجاج والكوفيين وقال سيبويه تبنى على الضم إذا أضيفت لفظا وكان صدر صلتها ضميرا محذوفا وقال الزجاج مستنكرا: ما تبين لي أن سيبويه غلط إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يسلم انها تعرب إذا أفردت فكيف يقول ببنائها إذا أضيفت.
وزعم المانعون أن أيا في الآية استفهامية وانها مبتدأ وأشد خبره ثم اختلفوا في مفعول ننزع فقال الخليل محذوف والتقدير لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد وقال يونس المفعول الجملة وعلقت ننزع عن العمل فيها وقال الكسائي والأخفش المفعول كل شيعة ومن زائدة وقد رد(6/139)
ابن هشام هذه الأقوال كلها حيث قال ويرد أقوالهم أن التعليق مختص بأفعال القلوب وانه لا يجوز أن يقال لأضربن الفاسق بالرفع بتقدير الذي يقال فيه هو الفاسق وانه لم يثبت زيادة من في الإيجاب.
ونورد هنا ما قاله أبو البقاء لوجازته وشموله قال «قوله أيهم أشد يقرأ بالنصب شاذا والعامل فيه لننزعن وهي بمعنى الذي ويقرأ بالضم وفيه قولان: أحدهما انها ضمة بناء وهو مذهب سيبويه وهي بمعنى الذي وانما بنيت هاهنا لأن أصلها البناء لأنها بمعنى الذي ومن الموصولات إلا أنها أعربت حملا على كل أو بعض فإذا وصلت بجملة تامة بقيت على الاعراب وإذا حذف العائد عليها بنيت لمخالفتها بقية الموصولات فرجعت الى حقها من البناء بخروجها عن نظائرها وموضعها نصب بنزع الخافض، والقول الثاني هي ضمة الاعراب وفيه خمسة أقوال أحدها انها مبتدأ وأشد خبره وهو على الحكاية والتقدير لننزعن من كل شيعة الفريق الذي يقال أيهم فهو على هذا استفهام وهو قول الخليل والثاني كذلك في كونه مبتدأ وخبرا واستفهاما إلا أن موضع الجملة نصب بننزعن وهو فعل معلق عن العمل ومعناه التمييز وهو قريب من معنى العلم الذي يجوز تعليقه كقولك علمت أيهم في الدار وهو قول يونس والثالث أن الجملة مستأنفة وأي استفهام ومن زائدة أي لننزعن كل شيعة وهو قول الأخفش والكسائي وهما يجيزان زيادة من في الواجب، والرابع أن أيهم مرفوع بشيعة لأن معناه تشيع والتقدير: لننزعن من كل فريق يشيع أيهم وهو على هذا بمعنى الذي وهو قول المبرد والخامس أن ننزع علقت عن العمل لأن معنى الكلام معنى الشرط والشرط لا يعمل فيما قبله والتقدير لننزعنهم تشيعوا أم لم يتشيعوا أو ان تشيعوا ومثله لأضربن أيهم غضب أي ان غضبوا أو لم يغضبوا وهو قول يحيى عن الفراء وهو أبعدها عن الصواب» .(6/140)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
اللغة:
(مَقاماً) : بفتح الميم اسم مكان من قام أو مصدر ميمي وقرئ مقاما بالضم فيكون أيضا اسم مكان أو مصدرا ميميا من أقام الرباعي المزيد والمراد هنا موضع القوم.
(نَدِيًّا) : الندي المجلس ومجتمع القوم وحيث ينتدون ويقال النادي.
(أَثاثاً) : الأثاث: متاع البيت والمال ويقال أثّ يئث ويأث ويؤث أثاثا وأثوثا وأثاثة النبات أو الشعر: التفّ وكثر فهو أث وأثيث.(6/141)
(رِءْياً) : فعل بمعنى مفعول ومعناه المنظر فهو كالطحن والذبح بمعنى المطحون والمذبوح من رأيت على القلب كقولهم راء في رأى أو من الري الذي هو النعمة والترف من قولهم ريان النعيم.
الإعراب:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو استئنافية وإذا شرط مستقبل وجملة تتلى مضافة للظرف وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال من آياتنا أي واضحات مبينات المقاصد والمعاني وجملة قال الذين كفروا لا محل لها لأنها جواب. (لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) للذين آمنوا متعلقان بقال وجملة آمنوا صلة وأي استفهامية مبتدأ وخير خبر ومقاما تمييز وأحسن عطف على خير ونديا تمييز. (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) كم خبرية في محل نصب مفعول أهلكنا وأهلكنا فعل وفاعل ومن قرن تمييز غير صريح لكم لأن تمييز كم الخبرية كثير ما يكون مجرورا بمن وسيأتي تفصيل لذلك وهم مبتدأ وأحسن خبر والجملة في محل نصب صفة لكم الخبرية ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية هذا ما ذكره الزمخشري وتابعه أبو البقاء على أن هم أحسن صفة لكم ونص أصحابنا على أن كم الاستفهامية والخبرية لا توصف ولا يوصف بها، وأثاثا تمييز ورئيا عطف عليه ويجوز أن يكون صفة لقرن. (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) من اسم شرط جازم مبتدأ وكان فعل الشرط وهو فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من وفي الضلالة خبر كان والفاء رابطة للجواب واللام لام الأمر ويمدد(6/142)
فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وله متعلقان بيمدد والرحمن فاعل ومدا مفعول مطلق. (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) حتى حرف غاية وجر متعلق بالجواب وهو فسيعلمون وقيل مستأنفة أي تبدأ بعدها الجمل قال الشهاب في حاشية البيضاوي: وحتى هنا حرف ابتداء أي تبدأ بعدها الجمل أي تستأنف فليست جارة ولا عاطفة، وهكذا حيث دخلت على إذ الشرطية، وجملة رأوا مضافة للظرف وما مفعول به وجملة يوعدون صلة وإما حرف شرط وتفصيل والعذاب والساعة بدل من ما والمعنى: يستمرون في الطغيان إلى أن يعلموا إذا رأوا العذاب أو الساعة من هو شر مكانا وأضعف جندا. (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) الفاء واقعة في جواب إذا وهذا ما يرجح جعل إذا للغاية وسيعلمون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ومن موصولة مفعول به وهو مبتدأ وشر خبر والجملة صلة ويجوز أن تكون من استفهامية في محل رفع بالابتداء وهو مبتدأ ثان وشر خبر المبتدأ الثاني وهو وخبره خبر من وعندئذ تكون الجملة معلقة لفعل الرؤية فالجملة في محل نصب مفعول يعلمون. (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) لك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة ولك أن تجعلها عاطفة فتعطف الجملة على جملة الشرط المحكية بالقول أي وقل يزيد الله ويزيد الله الذين اهتدوا فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة اهتدوا صلة وهدى تمييز أو مفعول به ثان ليزيد.
(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) والباقيات مبتدأ والصالحات صفة وخير خبر الباقيات وعند ربك الظرف متعلق بخير وثوابا تمييز وخير مردا عطف على خير ثوابا أي مرجعا وعاقبة ومغبة.(6/143)
الفوائد:
1- من الداخلة على التمييز:
اختلف في معنى من التي يصرح بها مع التمييز فقيل للتبعيض ولذلك لم تدخل في نحو طاب نفسا لأن نفسا ليست أعم من المبهم الذي انطوت عليه الجملة وقال الشلوبين: زائدة عند سيبويه لمعنى التبعيض ويدل على صحته انه عطف على موضعها نصبا قال الحطيئة:
طافت أمامة بالركبان آونة ... يا حسنه من قوام ما ومنتقبا
وأمامة بضم الهمزة اسم امرأة وآونة بالمد نصب على الظرفية والشاهد في قوله من قوام فإنه تمييز جر بمن الزائدة في الكلام الموجب ولهذا عطف منتقبا على محلها بالنصب وما زائدة لتوكيد الكلام وقال ابن هشام: انها لبيان الجنس وقد سبقه الزمخشري الى ذلك لأن المشهور من مذاهب النحويين ما عدا الأخفش أن من لا تزاد إلا في غير الإيجاب.
2- معنى التفضيل:
قيل: ما معنى التفضيل في قوله «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» وهل ثمة من شك وهل للمفاخر شرك في الثواب والمرد وأجيب بجوابين أو لهما انه من وجيز كلامهم يقولون الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وثانيهما أن اسم التفضيل ذكر على سبيل المشاكلة لكلامهم السابق وقال الشهاب في حاشيته على البيضاوي: «وهذا جواب عما تخيل كيف فضلوا عليهم في خيرية الثواب والعاقبة والتفضيل يقتضي المشاركة وهم لا ثواب لهم وعاقبتهم لا خير فيها» .(6/144)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
[سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 84]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
اللغة:
(أَطَّلَعَ) أصله أاطلع حذفت همزة الوصل وبقيت همزة الاستفهام المفتوحة واطلع يتعدى بنفسه وبحرف الجر يقال اطلع الأمر وعليه: علمه ويقال أيضا: اطّلع طلمع العدو بكسر الطاء وسكون اللام عرف باطن أمرهم وقد توهم بعضهم انه لا يتعدى إلا بعلى فأعرب الغيب بنزع الخافض وإنما هو من قولهم اطلع الجبل إذا ارتقى الى أعلاه وطلع الثنية قال جرير:
إني إذا مضر عليّ تحدثت ... لاقيت مطلع الجبال وعورا
فمطلع اسم مكان من اطّلع المشدّد أصله اطتلع على بناء الافتعال فقلبت التاء طاء وأدغمت فيما قبلها وهو في البيت نصب على الظرفية والوعور جمع وعر أي صعب مفعول لاقيت أو مطلع هو المفعول به(6/145)
ووعورا حال يقول: إذا تقولت على مضر مالا أرتضيه أو حدثتها نفسها بقتلي تمرست بالصعاب ولا أبالي بها وسيأتي مزيد بحث عن استعمالها في الآية في باب البلاغة.
(وَنَمُدُّ) : مضارع مد الشيء يمده من باب نصر أطاله وبسطه وجذبه ومدّ الحبل فامتدّ وهذا ممدّ الحبل قال ابن مقبل:
وللشمس أسباب كأن شعاعها ... ممدّ حبال في خباء مطنّب
وتمدّد الأديم وطراف ممدّد وأمد الجيش وضم إليه ألف رجل مددا وللميم مع الدال خاصة التمدد كأن أصل المادة يشمل غيرها من الفروع وهذه من ميزات لغتنا العربية الخالدة ويقال مدحه وامتدحه أطال الثناء عليه، ومدخ فلانا بالخاء المعجمة أمده بالعون خيرا كان أم شرا عمله، وتمدخ تكبر وتطاول ولا يخفى ما في الكبرياء والتطاول من تمدد وانتفاخ، ومدر المكان طاله وامتد اليه ومدر الحوض شد خصاص حجارته بالمدر وهو الطين العلك الذي لا يخالطه رمل وهو سريع الامتداد إذا طينت به الحائط أو سيعته، ومدس الجلد ونحوه دلكه ليمتد، ومدشت عينه: امتد عليها الظلام وارتخى عصبها ومدشت يده نحلت وضؤلت فظهرت للرائي ممتدة لقلة اللحم عليها. والمدش بفتحتين ظلمة تمتد على العين من جوع ورخاوة عصب اليد وتمدل بالمنديل شده على رأسه أو اعتم به وهو قريب من معنى الامتداد، ومدّن المدائن بناها ومصرها وجدد بناءها فامتدت عرضا وطولا والمدينة مجتمع بيوت زادت وامتدت فسميت مدينة ومنها سميت مدينة بيثرب ومدينة السلام أي بغداد والمدائن مدينة قرب بغداد كان فيها إيوان كسرى وسميت بالجمع لكبرها وامتدادها وفيها يقول البحتري سينيته ويشير إليها بقوله:(6/146)
حضرت رحلي الهموم فوجهت الى أبيض المدائن عنسي
أتسلى عن الهموم وآسى ... لمحلّ من آل ساسان درس
ومدهه أي مدحه وقد تقدم والمدى الغاية الطويلة الممتدة وأمدى فلانا وماداه أمهله وأمدى الرجل تقدمت به السن وامتدت وتمادى في عيه دام على فعله وامتد في فجوره والمدية بضم الميم الشفرة الكبيرة الممتدة وهذا من غريب أمر لغتنا الشريفة.
(وَنَرِثُهُ) : أي نسلبه منه ونأخذه بأن نخرجه من الدنيا خاليا من ذلك والمراد نزوي عنه ما يقوله من أنه سيناله في الآخرة.
(تَؤُزُّهُمْ) : الأز: الاستفزاز والتهيج وشدة الإزعاج وهذه من أغراب مواد اللغة العربية كلها تدل على هذا المعنى والأز أيضا شدة الصوت ومنه أز المرجل أزا وأزيزا أي غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت وفي الحديث «فكان له أزيز» وفي القاموس: وأزّت القدر تؤز بالضم وتئز بالكسر أزا وأزيزا وأزازا بالفتح اشتد غليانها وأز النار أوقدها وأز الشيء حركه شديدا» وفي اللسان والأساس وغيرهما:
هالني أزيز الرعد وصدّعني أزيز الرحى وهزيزها وأزه على كذا:
أغراه به وحمله عليه بإزعاج وهو يأتز من كذا: يمتعض منه وينزعج وتأزر المجلس هاج بمن فيه جميع ذلك يدل على الحركة والانزعاج، وأزب الماء يأزب بالضم والكسر جرى مسرعا والميزاب مجرى الماء والجمع مآزيب، وأزج البيت بناه طولا وعرضا، وأزحت قدمه زلت، وأزر يأزر بالكسر بالشيء أحاط به والنبات التف وآزره مؤازرة عاونه وبادر الى إغاثته والأزر القوة والظهر يقال شد به أزره أي ظهره والمئزر معروف ويقال شد للأمر مئزره إذا تشمر له وسارع اليه. وأزف(6/147)
يأزف بالفتح أزفا وأزوفا اقترب وأزف الرجل عجل وآزفه إنزافا أعجله وأزفت الآزفة اقتربت القيامة وفلان يمشي الأزفى بثلاث حركات أي يمشي سريعا، والمأزق المضيق وموضع الحرب، وأزل يأزل وقع في ضيق وشدة، وأزمه أزما وأزوما عضه والحبل أحكم فتله وتأزم القوم أصابتهم أزمة والأزمة بفتح الهمزة وسكون الزاي والآزمة الشدة والضيقة وأزمى الرجل حاذاه وداناه وجلس ازاءه أي أمامه وفي كل ذلك ما يدل على الحركة وحرف الزاي اجمالا يدل على ذلك وما هو قريب منه وسيأتيك ما هو معجب من غريب أمره.
(وَوَلَداً) : الولد اسم مفرد قائم مقام الجمع والولد بضم الواو وسكون وقد قرئ بها بمعنى الولد فهما لغتان وقيل بل هي جمع لولد نحو أسد وأسد وعرب وعرب.
الإعراب:
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً) الهمزة للاستفهام التعجبي والفاء على حالها من التعقيب كأنه قال أخبرك أيضا بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك ورأيت هنا بمعنى أخبرني وقد تقدم بحثها مفصلا والذي هو مفعولها الأول وجملة كفر بآياتنا صلة وقال عطف على كفر، لأوتين اللام جواب لقسم مقدر ونائب الفاعل مضمر تقديره أنا وما لا مفعول به ثان لأوتين وولدا عطف على ما لا. (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) الهمزة للاستفهام واطلع فعل ماض وفاعله هو يعود على الكافر قيل هو العاصي بن وائل وستأتي قصته في باب الفوائد وأم حرف عطف معادل للهمزة واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر يعود عليه وعند الرحمن مفعول به ثان لاتخذ وعهدا مفعول به أول.(6/148)
(كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) كلا حرف ردع وزجر وفيها أقوال كثيرة سنوردها في باب الفوائد وسنكتب فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وصدره بالسين من باب ما يقوله المتوعد لخصمه سوف أنتقم منك يعني لا تغتر بطول الزمان فإن الانتقام آتيك أو سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا، وما مفعول به وجملة يقول صلة ونمد عطف على نكتب وله متعلقان بنمد ومن العذاب حال لأنه كان صفة لمدا ومدا مفعول مطلق أو مفعول به ان كان بمعنى المدد.
(وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) ونرثه عطف على نمد والفاعل نحن والهاء منصوب بنزع الخافض وما مفعول به والتقدير ونرث منه ما يقوله ويجوز أن تكون الهاء هي المفعول به وما بدل اشتمال من الهاء والمعنى نرث ما عنده من المال والأهل والولد وجملة يقول صلة ويأتينا عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره هو ونا ضمير فصل فاعل وفردا حال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) واتخذوا فعل وفاعل وحذف المفعول الأول وهي الأوثان المفهومة من سياق الحديث ومن دون الله حال وآلهة هي المفعول الثاني، ليكونوا اللام لام التعليل ويكونوا فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو اسمها ولهم حال وعزا خبر يكونوا. (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) كلا تقدم أنها حرف ردع وزجر لتعززهم بها سيكفرون فعل مضارع مرفوع وبعبادتهم متعلقان بيكفرون أي سيجحدون عبادتها وينكرونها، فالمصدر أضيف الى مفعوله ويكونون عطف على يكفرون والواو اسمها وعليهم حال وضدا خبر يكونون ووحّده وهم جمع لمحا لأصله لأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تثنى ولا تجمع أو لأنه مفرد في معنى الجمع وللزمخشري في توحيد الضد كلام حسن سننقله في باب البلاغة. (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى(6/149)
الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)
ألم الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة أرسلنا خبرها والشياطين مفعول به وجملة تؤزهم حالية وأزا مفعول مطلق. (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا كله فلا تعجل وعليهم متعلقان بتعجل وإنما كافة ومكفوفة وجملة نعد لهم حالية وعدا مفعول مطلق.
البلاغة:
1- الاستعارة المكنية:
1- الاستعارة المكنية في قوله «اطلع الغيب» فقد شبه الغيب المجهول الملثم بالاسرار بجبل شامخ الذرا لا يرقى الطير الى مداه فهو مجهول تتحطم عليه آمال الذين يريدون استشفاف آفاقه وادراك تهاويله ثم حذف الجبل أي المشبه به وأخذ شيئا من خصائصه ولوازمه وهو الاطلاع والارتقاء واستشراف مغيباته والغرض من هذه الاستعارة السخرية البالغة كأنه يقول أو بلغ هذا مع حقارته وتفاهة أمره وصغار شأنه أن ارتقى الى الغيب المحجب بالاسرار المطلسم بالخفاء؟
2- توحيد الضد:
قال الزمخشري: «فإن قلت: لم وحّد؟ قلت وحّد توحيد قوله عليه الصلاة والسلام «وهم يد على من سواهم» لاتفاق كلمتهم وانهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم» والواو في يكفرون يجوز أن تعود على الآلهة أي يجحدون عبادتهم لها أو للمشركين أي ينكرونها لسوء المغبة والمصير.(6/150)
الفوائد:
أوجه كلّا:
للنحاة في هذه اللفظة مذاهب ستة:
1- مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد أنها حرف ردع وزجر وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن الكريم وقد زجر بها العشاق لائميهم فقال أحدهم وهو عروة بن أذينة على الأرجح:
يقلن لقد بكيت فقلت: كلّا ... وهل يبكي من الطرب الجليد؟
ولكن أصاب سواد عيني ... عويد قذى له طرف حديد
فقلن فما لدمعهما سواء ... أكلتا مقلتيك أصاب عود؟
2- مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم فتكون جوابا ولا بد حينئذ من شيء يتقدمها لفظا أو تقديرا.
3- مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصر بن يوسف وابن واصل انها بمعنى حقا.
4- مذهب أبي عبد الله الباهلي أنها رد لما قبلها وهذا قريب من الأول.
5- انها صلة في الكلام بمعنى إي كذا قيل وفيه نظر فإن إي حرف جواب مختص بالقسم.
6- انها حرف استفتاح وهو قول أبي حاتم.(6/151)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
هذا وقد ذكرت كلا في خمس عشرة سورة مكية وجملة ما ذكرت ثلاث وثلاثون مرة.
[سورة مريم (19) : الآيات 85 الى 98]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
اللغة:
(وَفْداً) : الوفد مصدر وفد يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة.(6/152)
إلى أو على الأمير قدم وورد رسولا فهو وافد، وجمع وافد وهم القوم يجتمعون فيردون البلاد ويفدون على الأمير ونحوه.
(وِرْداً) : القوم الواردون الى الماء عطاشا قد تقطعت أعناقهم من العطش.
(إِدًّا) : بالكسر والفتح العجب وقيل العظيم المنكر ولادة الشدة وآدني الأمر أثقلني وعظم علي إدا وفي القاموس «الإد والإدة بكسرهما العجب والأمر الفظيع والداهية والمنكر كالأد بالفتح وأدته الداهية تؤده بالضم وتئده بالكسر وتأده بالفتح دهته» .
(وُدًّا) : مودة ومحبة وفي المصباح «وودته أوده من باب تعب ودّا بفتح الواو وضمها أجببته والاسم المودة وودت لو كان كذا أيضا ودا وودادة تمنيته» وفي المختار: «الود بضم الواو وفتحها وكسرها المحبة فهي مثلثة الواو والأرجح الضم وبها قرأ السبعة وقرئ في غير السبعة بفتحها وكسرها ويحتمل أن يكون المفتوح مصدرا والمضموم والمكسور اسمين» .
(لُدًّا) : جمع ألد أي شديد الخصومة وجميل قول الزمخشري:
«اللد الشداد والخصومة بالباطل الآخذون في كل لديد أي في كل شق من المراء والجدال لفرط لجاجهم» وفي الأساس: «رجل ألد وألندد ويلندد وفيه لدد وقوم لدّ ولادّه ملادة ولدادا وهو شديد اللداد وتركت فلانا يتردد ويتلدد يتلفت وضربه على لديدي عنقه وهما صفحتاها وضربه على متلدّده على عنقه قال:
ولو شئت نجتني من القوم جسرة ... بعيدة بين العجب والمتلدّد(6/153)
(رِكْزاً) : الركز الصوت الخفي ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون.
و (تُحِسُّ) : بضم التاء مضارع أحسّ وفي المصباح: «الحس والحسيس الصوت الخفي وحسه حسا فهو حسيس مثله قتله قتلا فهو قتيل وأحس الرجل الشيء إحساسا علم به يتعدى بنفسه مع الألف قال تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ» ، وربما زيدت فيه الباء فقيل أحس به على معنى شعر به وحسست به من باب قتل لغة فيه والمصدر الحس بالكسر يتعدى بالباء على معنى شعرت أيضا» .
الإعراب:
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) الظرف منتصب بفعل محذوف قدره بعضهم باذكر وقدره الزمخشري بقوله «نصب يوم بمضمر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف» وقال غيره العامل فيه قوله فيما بعد «لا يملكون» وجملة نحشر مضافة الى الظرف وفاعل نحشر ضمير مستتر تقديره نحن والمتقين مفعول به والى الرحمن متعلقان بنحشر ووفدا حال وقد تكرر ذكر الرحمن في هذه السورة ست عشرة مرة. (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) عطف على الجملة السابقة ووردا حال أيضا أي واردين كما يرد العطاش إليهم مشاة عطاشا يكاد يقتلهم الظمأ. (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم ولا علاقة لها بالفريقين المتقدمين فلا نافية ويملكون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل تعود على الناس كلهم والشفاعة مفعول به وإلا أداة حصر ومن اسم موصول محله الرفع على البدل من(6/154)
الواو أو النصب على الاستثناء المتصل وجملة اتخذ صلة وعند الرحمن ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لاتخذ وعهدا هو المفعول الأول واختار أبو البقاء والزمخشري أن يكون الاستثناء منقطعا هذا وقد اضطربت الأقوال في هذه الآية ولهذا سنفرد بها بحثا خاصا في باب الفوائد. (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) جملة اتخذ الرحمن ولدا مقول القول واتخذ الرحمن ولدا فعل وفاعل ومفعول به. (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجئتم فعل وفاعل وشيئا مفعول به وإدا صفة. (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) تكاد من أفعال المقاربة العاملة عمل كان والسموات اسمها وجملة يتفطرن خبرها والنون فاعل ومنه جار ومجرور متعلقان بيتفطرن وتنشق الأرض فعل مضارع وفاعل وتخر الجبال فعل مضارع وفاعل وهدا مصدر في موضع الحال أي مهدودة أو مفعول مطلق لأنه مصدر على غير لفظ الفعل وانما هو مرادفه لأن الخرور هو السقوط والهدم واختار الزمخشري أيضا أن يكون مفعولا لأجله أي لأن تهد وهدّ يستعمل متعديا ولازما فعلى الوجه الاول هو متعد لأنه صيغ منه معنى اسم المفعول وعلى الثاني هو لازم لأن خر لازم ومرادفه يجب أن يكون مثله فتأمل هذا فانه دقيق. (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أن وما في حيزها مصدر فيه ثلاثة أوجه البدلية من الهاء في منه فهو كقوله:
على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم
فقد روي حاتم مجرورا لأنه بدل من ضمير جوده وسنتحدث في باب الفوائد عن هذا البيت والنصب بنزع الخافض والجار والمجرور في محل نصب مفعول لأجله علل الهدّ بدعاء الولد للرحمن والرفع بأنه فاعل هدا أي هدها دعاء الولد للرحمن.(6/155)
ودعوا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين وللرحمن متعلقان بدعوا وولدا مفعول دعوا الثاني والأول محذوف تقديره معبودهم لأن معنى دعوا سموا وهي تتعدى لاثنين ويجوز دخول الباء على الثاني تقول دعوت ولدي بزيد ودعوت ولدي زيدا، وقال الشاعر:
دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
وقال آخر:
ألا رب من يدعى نصيحا وإن يغب تجده بغيب منك غير نصيح وقال الزمخشري: «اقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلبا للعموم والإحاطة بكل ما دعا له ولدا، أو من دعا بمعنى الذي مطاوعه ما في قوله عليه السلام: من ادعى إلى غير مواليه وقول الشاعر:
إنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه ولا هو لا بالأبناء يشرينا
أي لا تنسب إليه» . (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) الواو حالية أو عاطفة وما نافية وينبغي فعل مضارع وللرحمن متعلقان به وأن يتخذ مصدر مؤول في محل رفع فاعل وولدا مفعول به.
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) إن نافية وكل مبتدأ ومن مضاف اليه وفي السموات والأرض متعلقان بمحذوف صلة من ويجوز أن تكون من نكرة موصوفة بالجار والمجرور لأنها وقعت بعد كل نكرة ولعله أولى وإلا أداة حصر وآتي الرحمن خبر وعبدا حال(6/156)
من الضمير المستتر في آتي. (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) اللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأحصاهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وعدهم عطف على أحصاهم وعدا مفعول مطلق. (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) الواو عاطفة وكلهم مبتدأ وآتيه خبر، وكل إذا أضيف الى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفردا على لفظ كل فتقول كلكم ذاهب ويجوز أن يعود جمعا مراعاة للمعنى فتقول كلكم ذاهبون أما إن حذف المضاف المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان لأن الأول أنكره بعضهم، ويوم القيامة ظرف متعلق بآتيه وفردا حال. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات عطف على آمنوا وجملة سيجعل خبر ان ولهم مفعول يجعل الثاني والرحمن فاعل وودا مفعول يجعل الاول وهذا الجعل بالنسبة للدنيا طبعا أي يزرع في قلوبهم مودة من غير تودد منهم. (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) الفاء الفصيحة لأنها عطفت على مقدر كأنه قيل بلغ هذا المنزل عليك وبشر به وأنذر فإنما يسرناه وانما كافة ومكفوفة وقد أفادت التعليل لهذا المقدر ويسرناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وبلسانك متعلقان بمحذوف حال أي جاريا، لتبشر اللام للتعليل وتبشر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وبه متعلقان بتبشر والمتقين مفعول به وتنذر معطوف وبه متعلقان بتنذر وقوما مفعول به ولدا صفة. (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) كم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا وقبلهم ظرف متعلق بأهلكنا ومن قرن تمييز وقد تقدم تقريره والمراد أمة. (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) هل حرف للاستفهام الانكاري وتحس فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت ومنهم حال لأنه كان صفة لأحد ومن حرف جر زائد وأحد(6/157)
مجرور بمن لفظا مفعول به منصوب محلا أو حرف عطف وتسمع عطف على تحس ولهم حال وركزا مفعول به.
البلاغة:
انطوت خواتيم سورة مريم على فنون عديدة:
أولها: التكرار فقد تكرر ذكر الرحمن كما قلنا ست عشرة مرة في السورة معظمها في خواتيمها والفائدة فيه انه هو الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره وخلق لهم جميع متطلباتهم التي بها قوام معايشهم فهل اعتبر الإنسان؟ أم لا يزال الغطاء مسدولا على عينيه والوقر يغشى أذنيه؟ فمن أضاف اليه ولدا جعله كالاناسي المخلوقة وأخرجه بذلك عن استحقاق هذا الاسم الجدير به وحده.
وثانيها: الالتفات في قوله «لقد جئتم» التفت من الغيبة الى الخطاب لمشافهتهم بالأمر المنكر الذي اجترحوه، والبدع العجيب الذي ارتكبوه.
الفوائد:
1- قلنا ان أقوال المعربين اضطربت في قوله تعالى لا يملكون الشفاعة الى آخر الآية وقد اخترنا ما رأيناه- في نظرنا- أمثل الأوجه وننقل فيما يلي لمعا من أقوالهم مع التعليق عليها بما يناسب المقام فقد تورط الزمخشري، وجلّ المعصوم، بقوله «ويجوز أن تكون- أي الواو في يملكون- علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث» من جهتين الأولى إنه نسب الى القرآن وهو أبلغ الكلام أردأ اللغات(6/158)
وأشدها نكرا حتى لقد ضرب المثل بقبحها والثانية انه إذا جعله علامة لمن فقد كشف معناه وأفصح بأنها متناولة جمعا ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير اتخذ ففيه الاعادة على لفظها بعد الاعادة على معناها بما يخالف ذلك وهو مستنكر عندهم لأنه إجمال بعد إيضاح وذلك تعكيس على طريق البلاغة وانما محجتها الواضحة الإيضاح بعد الإجمال.
وقال البيضاوي: «إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا» إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن يشفع للعصاة من الايمان والعمل الصالح على ما وعد الله تعالى أو إلا من اتخذ من الله إذنا فيها كقوله تعالى:
«لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ» من قولهم عهد الأمير الى فلان بكذا إذا أمره به ومحل الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ» وهو شبيه بالرأي الذي جنحنا اليه إلا أنه جنح الى القول بأن الاستثناء منقطع. وعبارة أبي حيان: «والضمير في لا يملكون عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه والاستثناء متصل ومن بدل من ذلك الضمير أو نصب على الاستثناء ولا يملكون استئناف اخبار» ثم أورد أقوالا عديدة نضرب عنها صفحا.
وقال أبو البقاء «لا يملكون حال إلا من اتخذ في موضع نصب على الاستثناء المنقطع وقيل هو متصل على أن يكون الضمير في يملكون للمتقين والمجرمين وقيل هو في موضع رفع بدلا من الضمير في يملكون» .
وفي الكرخي شارح الجلالين «قوله أي الناس قدره تمهيدا لجعل الاستثناء في قوله إلا من اتخذ منصلا لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين إذ هما قسماه وقيل ضمير يملكون عائد على المجرمين المراد بهم الكفار، قال بعضهم لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون» وحسبنا ما تقدم فقد طال مجال القول.(6/159)
2- عودة الى بيت الفرزدق:
ونعود الى بيت الفرزدق وهو من أبيات له يعتذر عما وقع منه في السفر مع دليله عاصم العنبري حين ضل عن الطريق والأبيات هي:
فلما تصافنا الأداوة أجهشت ... الى غضون العنبري الجراضم
فجاء بجلمود له مثل رأسه ... ليشرب ماء القوم بين الصرائم
على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضنّ بالماء حاتم
والتصافن اقتسام الماء القليل بالصفن وهو وعاء صغير لنحو الوضوء والأداوة ظرف الماء وجمعها أداوى وإيقاع التصافن عليها مجاز لأنها محل الماء والمراد تقاسمنا الماء فهو مجاز مرسل علاقته المحلية والجهش والإجهاش تضرع الإنسان الى غيره وتهيئته للبكاء اليه كالصبي الى أمه، وغضون الجلد مكاسره، وإسناد الإجهاش إليها مجاز عقلي أو مجاز مرسل علاقته المحلية أيضا لأنها محل ظهور أثره والجراضم واسع البطن كثير الأكل والمراد بالجلمود إناء صلب كبير مثل رأسه أي رأس العنبري وفيه إشارة بارعة إلى حمقه لأن افراط الرأس في العظم أمارة البلادة وفي الصلابة أيضا اشارة الى ذلك وقوله بين الصرائم جمع صريمة وهي منقطع الرمل إشارة الى أنهم كانوا في مفازة عمياء لا ماء بها على حالة ضنكة بحيث لو ثبت في تلك الحالة أن حاتما في القوم مع جوده المشهور لبخل بالماء وعلى بمعنى في ورواية المبرد في كامله على ساعة.(6/160)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
(20) سورة طه مكيّة وآياتها خمس وثلاثون ومائة
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
اللغة:
(الْعُلى) : ويجوز كتابتها بالياء والألف لأن الفعل علا يعلو وعلي يعلى وهي المرتبة والرفعة وقال السيوطي وأبو البقاء: هي جمع عليا ككبرى وكبر فكتبت بالياء.
(اسْتَوى) : لها في اللغة معان كثيرة قال في القاموس: «استوى الشيء اعتدل واستقام يقال: سويت الشيء فاستوى واستوى الرجل:(6/161)
استقام أمره وانتهى شبابه وبلغ أشده، واستوى عليه: ظهر واستولى واستوى على ظهر الدابة استقر، يقال: استوى على سرير الملك كناية عن التملك واستوى الى الشيء قصده واستوت به الأرض هلك ودفن فيها واستوى الطعام نضج. وأصل الفعل الثلاثي سوي يسوى سوى الرجل: استقام أمره.
وقال في الأساس: «استوى الشيئان وتساويا وساوى أحدهما صاحبه وفلان يساويك في العلم وساوى بين الشيئين وسوّى بينهما وساويت هذا بهذا وسويته قال الراعي:
بجرد عليهنّ الأجلّة سوّيت ... بضيف الشتاء والبنين الأصاغر
أي يصونها صيانة الضيوف والأطفال وسويت المعوج فاستوى ورزقك الله تعالى ولدا سويا لا داء به ولا عيب وهما على سوية من الأمر وسواء وفيه النصفة والسوية وهما سواء وهم سواسية في الشر وأنتما سيان وما هو بسيّ لك وفعل القوم كذا ولا سيما زيد ومكان سوى: وسط بين الحدين وجاءوا سوى فلان وسواءه «فرآه في سواء الجحيم» في وسطها وضرب سواءه وسطه وضربه على مستوى مفرقه قال بعض بني أزنم:
نحن من خير معدّ نسبا ... ولنا قدما على الناس المهل
إذ ضربنا الصّمة الخير على ... مستوى مفرقه حتى انجدل
ورجل سواء القدم: مستويها ليس لها أخمص، ومن المجاز:
إذا صليت الفجر استويت إليك قصدتك قصدا لا ألوي على شيء(6/162)
«ثم استوى الى السماء» واستوى على الدابة والفراش والسرير وانتهى شبابه واستوى واستوى على البلد» وسيأتي المراد به في الآية في باب البلاغة.
(الثَّرى) : في المصباح: «الثرى وزان الحصى ندى الأرض، وأثرت الأرض بالألف كثر ثراها والثرى أيضا: التراب الندي فإن لم يكن نديا فهو تراب ولا يقال له حينئذ ثرى» وفيه أيضا: «نديت الأرض ندى من باب تعب فهي ندية مثل تعبة ويعدّى بالهمز والتضعيف وأصابها نداوة وندوة بالضم والتثقيل» وفي الأساس واللسان وغيرهما: «شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى أي تكون الأرض ندية أولا ثم ترى الخضرة ثم يطول النبات حتى يصلح للراعية وثرى المطر التراب يثريه وهو مثري وثري التراب فهو ثرّ وثرّيت التراب نديته وثرّيت السويق» .
(وَأَخْفى) سيأتي الكلام فيها في باب الإعراب.
الإعراب:
(طه) تقدم القول في فواتح السور واعرابها. (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليك متعلقان بأنزلنا والقرآن مفعول به ولتشقى اللام للتعليل وتشقى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وسيأتي المراد بالشقاء في باب الفوائد.
(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) إلا أداة حصر وتذكرة مفعول لأجله والاستثناء منقطع، قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولا من أجله لأنزلنا المذكورة لأنها قد تعدت الى مفعول له وهو لتشقى فلا تتعدى الى آخر من جنسه ولا يصح أن يعمل فيها لتشقى لفساد المعنى، وقيل تذكرة(6/163)
مصدر في موضع الحال واختار الزمخشري أن تكون تذكرة مفعولا لأجله قال: «وكل واحد من لتشقى وتذكرة علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماع الشرائط» وعلى هذا جرى معظم المعربين والمفسرين، قال الكرخي في تعليقه على عبارة الجلال السيوطي: «أشار الى أن الاستثناء منقطع وأن تذكرة مفعول من أجله والعامل أنزلناه المقدر لا المذكور وكل واحد من لتشقى وتذكرة علة لقوله ما أنزلنا وتعدى في لتشقى باللام لاختلاف العامل لأن ضمير أنزلنا لله وضمير لتشقى للنبي فلم يتحد الفاعل واتحد في تذكرة لأن المذكر هو الله تعالى وهو المنزل فنصب بغير لام» وأنكر أبو علي الفارسي أن يكون مفعولا لأجله أو بدلا من لتشقى قال وانما هو منصوب على المصدرية أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، وإنما أوردنا هذه الأقوال على تباينها وتدافعها لأننا لم نستطع الترجيح بينها.
(تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) مفعول مطلق لفعل محذوف وتقديره نزلناه تنزيلا فحذف وجوبا على حد قول ابن مالك:
والحذف حتم مع آت بدلا ... من فعله كندلا اللذ كاندلا
وأجاز الزمخشري فيه وجوها كلها واردة فقال «في نصب تنزيلا وجوه: أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه وأن ينصب بنزل مضمرا وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولا به أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله وهو معنى حسن واعراب بين» وممن متعلقان بتنزيلا وجملة خلق الأرض والسموات صلة والعلى صفة. (الرَّحْمنُ(6/164)
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)
الرحمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أو مبتدأ وعلى العرش متعلقان باستوى وجملة استوى خبر ثان ل «هو» المقدرة أو خبر الرحمن وسيأتي معنى الاستواء على العرش في باب الفوائد.
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) له خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات وما بينهما كذلك وما عطف على ما وتحت الثرى ظرف متعلق بمحذوف صلة ما. (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) الواو استئنافية مسوقة لبيان شرع الله تعالى في دعائه وان شرطية وتجهر فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت وبالقول جار ومجرور متعلقان بتجهر فإنه الفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان واسمها وجملة يعلم السر خبرها وأخفى عطف على السر أي أخفى منه فهو اسم تفضيل من خفي بمعنى استتر وغاب وأجاز بعضهم أن يكون فعلا ماضيا أي وأخفى الله عن عباده غيبه وعندنا أن ذلك غير جائز لأنه من جهة اللفظ يلزم منه عطف الفعلية على الاسمية إن كان المعطوف عليه هو الجملة الكبرى أو عطف الماضي على المضارع إن كان المعطوف عليه الجملة الصغرى وكلاهما دون الأحسن ومن جهة المعنى واضح أن المقصود الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته من حيث إن الله يعلم السر وما هو أخفى منه فكيف يبقى للجهر فائدة وكلاهما على هذا التأويل مناسب لترك الجهر وأما إذا جعل فعلا فيخرج عن مقصود السياق، واعلم أنهم قد يحذفون من من افعل إذا أريد به التفضيل ومعنى الفعل وهم يريدونها فتكون كالمنطوق بها نحو زيد أكرم وأفضل فلم تأت بألف ولام كما لم تأت بها مع من لأن الموجود حكما كالموجود لفظا أي: يعلم السرّ وأخفى منه والذي يدل على ارادة من أن أخفى لا ينصرف كما لا ينصرف آخر من قولك مررت برجل آخر إذا أردت من معه وإن لم تذكره وانما(6/165)
نكره للمبالغة في الخفاء. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الله مبتدأ وجملة لا إله إلا هو الاسمية خبر وقد تقدم اعراب لا إله إلا هو مفصلا وله خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى صفة للأسماء والجملة خبر ثان. ومعلوم أن جمع التكسير في غير العقلاء يعامل معاملة المؤنثة الواحدة.
الفوائد:
1- روى التاريخ: ان أبا جهل والنضر بن الحارث قالا له:
إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلّم الى نيل كل فوز والسبب في ادراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وروي انه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدّت قدماه أي تورمت كما في الصحاح فقال له جبريل عليه السلام أبق على نفسك فإن لها عليك حقا ويحتمل أن يراد لا تتعب نفسك بفرط أسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا البلاغ، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا بعد ان لم تفرط في أداء الرسالة وإسداء الموعظة الحسنة. والشقاء يجيء في معنى التعب قال ابن كيسان: «وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب ومنه قول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
2- الاستثناء المنقطع:
استثناء الشيء من غير جنسه لا معنى له ولا مورد من ذلك فليست فيه «إلا» للاستثناء على سبيل الأصل وانما هي بمعنى «لكن» وهو(6/166)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
ما يسونه «الاستثناء المنقطع» ومع ذلك فلا بد من الارتباط بين المستثنى منه والمستثنى ومن ذلك قوله تعالى «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى» أي لكن أنزلناه تذكرة فتذكرة مستثنى من المصدر المؤول من تشقى بأن المضمرة بعد لام التعليل لأن المعنى ما أنزلنا القرآن لشقائك.
[سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)
اللغة:
(آنَسْتُ) : أبصرت والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبصر به الأشياء وقال جرير:(6/167)
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
وفي قوله إنسانا تورية بديعة.
(بِقَبَسٍ) : القبس: الجذوة من النار.
(طُوىً) : اسم علم للوادي ويقرأ بغير تنوين على أنه معرفة مؤنث علم للبقعة وقيل هو معدول وإن لم يعرف لفظ المعدول عنه فكأن أصله طاوي فهو في ذلك كجمع وكتع وقال في القاموس: «وطوى بالضم والكسر وينون واد بالشام» وقال علماء النحو: وأما طوى فمن منع صرفه فالمعتبر فيه التأنيث باعتبار البقعة لا العدل عن طاو ولأنه أي العدل قد أمكن غيره وهو التأنيث فلا وجه لتكلف العدل.
(أُخْفِيها) : سيأتي الكلام عنها في الاعراب.
(فَتَرْدى) : في المختار: ردى من باب صدى أي هلك وأرداه غيره وردى في البئر تردى يردي إذا سقط فيها أو تهور من جبل.
الإعراب:
(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الواو للاستئناف والجملة استئنافية مسوقة لسرد قصة موسى ليتأسى به النبي صلى الله عليه وسلم في تحمل(6/168)
أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ومعاناة الأهوال، وأتاك فعل ومفعول به وحديث موسى فاعل والاستفهام للتقرير ومعناه أليس قد أتاك حديث موسى؟ وقيل معناه: قد أتاك حديث موسى. (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) الظرف متعلق بالحديث لأنه حدث أو بمضمر تقديره اذكر وجملة رأى مضاف إليها الظرف ونارا مفعول به فقال عطف على رأى ولأهله متعلقان بقال وجملة امكثوا مقول القول وجملة إني تعليل للأمر بالمكوث وان واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) لعل واسمها وجملة آتيكم خبرها ومنها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لقبس أو حرف عطف وأجد معطوف على آتيكم وفاعل أجد مستتر تقديره أنا وعلى النار جار ومجرور متعلقان بأجد وهي على مكانها للاستعلاء على حد قول الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
أي أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد انه لصوق بمكان يقرب من زيد. وهدى مفعول به أي يهديني الطريق ويدلني عليها قال الفراء: أراد هاديا فذكره بلفظ المصدر أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف أي ذا هدى.
(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فيمم شطر النار ولما ظرفية حينية أو رابطة وأتاها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويا موسى حرف نداء ومنادى. (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) إن واسمها وأنا تأكيد للضمير أو مبتدأ وربك خبر إني أو خبر أنا(6/169)
والجملة خبر إن والأول أولى، فاخلع الفاء الفصيحة واخلع فعل أمر وفاعل مستتر ونعليك مفعول به وجملة إنك تعليل للخلع وان واسمها وبالوادي خبرها والمقدس صفة وطوى بدل أو عطف بيان وقد تقدم القول في منعه من الصرف أو عدم منعه في باب اللغة. (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) الواو عاطفة وأنا مبتدأ وجملة اخترتك من الفعل والفاعل والمفعول به خبر، فاستمع الفاء عاطفة واستمع فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ولما متعلقان باستمع وجملة يوحى صلة ويوحى بالبناء للمجهول. (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) الجملة بدل من «ما» في لما يوحى وان واسمها وأنا تأكيد للضمير أو مبتدأ والله خبر إنني أو خبر أنا والجملة خبر إن وجملة لا إله إلا أنا خبر ثان فاعبدني الفاء الفصيحة واعبدني فعل أمر وفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول وأقم الصلاة عطف على اعبدني ولذكري متعلقان بأقم وهو مصدر مضاف لمفعول أي لتذكرني فيها وقيل المصدر مضاف للفاعل أي لذكري إياك. (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) إن واسمها وخبرها وأكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره أنا وجملة أخفيها خبر أي أريد إخفاء وقتها أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ويجوز أن يراد أكاد أظهرها وفعل أخفى من الأضداد وسيرد له مزيد بحث في باب البلاغة، ولتجزى اللام للتعليل وتجزى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وهو متعلق بأخفيها أو بآتية وجملة أكاد أخفيها اعتراضية بينهما وكل نفس نائب فاعل وبما متعلقان بتجزى وجملة تسعى صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بجزاء سعيها على حذف مضاف. (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) الفاء الفصيحة ولا ناهية ويصدنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد(6/170)
وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به وعنها متعلقان بيصدنك ومن فاعل وجملة لا يؤمن صلة وبها متعلقان بيؤمن واتبع هواه فعل وفاعل مستتر ومفعول به فتردى الفاء فاء السببية وتردى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء بفتحة مقدرة على الألف.
البلاغة:
فن الإبهام:
في قوله تعالى «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» وهو فن رفيع ينطوي على الكثير من جلائل المعاني ودقائقها وهو ضد الإيجاز وضد الاطناب وحدّه أن يأتي المتكلم الى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل فيدل عليه باللفظ الكثير لا لقصد إفهام البليد وسماع البعيد ولا للتقرير والتوكيد، بل للاتيان بمعنى يتشعب إلى عدة أمور كل واحد منها مستقل المفهومية فقد قال لعلي آتيكم منها بقبس ولم يبت في الأمر لئلا يعد ما ليس بمستيقن من الوفاء به وما أجملها حكمة تكون درسا للذين يكيلون الوعود جزافا ولا يفكرون في الوفاء بها ثم قال لعلي أجد على النار هدى وهذا يحتوي على معنى آخر ثم يتشعب فالهداية هي المعنى الرئيسي ثم ان الهداية قد تكون بالنار نفسها بخاصة الاضاءة الكامنة فيها وإما بواسطة القوم الذين يقومون بإيقادها ويفهم من هذا ضمنا أنه ضل مع أهله الذين يرافقونه وهم امرأته بنت شعيب وقد ولدت في الطريق ابنا في ليلة شاتية مظلمة باردة وقيل مثلجة فلما أسقط في يده آنس النار فقال ما قال ثم قد يقصد بالهداية معناها المجازي الآخر أي لعلي أهتدي بنور العلم لأن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم فتبارك قائل هذا الكلام.(6/171)
وفي قوله تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» إبهام وهو فن عجيب يقول فيه المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر فكلمة أخفيها أولا تعني أمورا منها:
آ- أي أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به.
ب- أكاد أخفيها عن نفسي.
ثم انه جاء في بعض اللغات أخفاه بمعنى خفاه فهي من الأضداد أي أكاد أظهرها لقرب وقتها وبه فسر قول امرئ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي إن تكتموا الضغائن التي بيننا نكتمها نحن أيضا ولا نظهرها.
على أن أحسن محامل الآية الكريمة هو أن يكون المراد أكاد أزيل خفاءها أي أظهرها إذ الخفاء الغطاء وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق نيابها يسترها ثم تقول العرب أخفيته إذا أزلت خفاءه كما تقول أشكيته وأعتبته إذا أزلت شكايته وعتبه.
قال أبو علي القالي: «وقال اللحياني: خفيت الشيء أخفيه خفيا وخفيا إذا استخرجته وأظهرته وأنشد لامرئ القيس:
خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنما ... خفاهن ورق من سحاب مركب
قال أبو علي: وغيره يروي: من عشني مجلّب أي مصوت ويقال: اختفيت الشيء أي أظهرته وأهل الحجاز يسمون النباش(6/172)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
المختفي لأنه يستخرج أكفان الموتى وأخفيت الشيء أخفيه إخفاء إذا سترته قال الله عز وجل: «أَكادُ أُخْفِيها» وهي قراءة العامة أي أظهرها وقال أبو عبيدة: أخفيت الشيء كتمته وأظهرته ويقال دعوت الله خفية وخفية أي في خفض.
مجموعة من الاضداد في اللغة:
هذا ومن الاضداد الجلل للعظيم وللهين فمن الأول قول الشاعر:
ولئن عفوت لا عفون جللا ... ولئن سطوت لأوهننّ عظمي
ومن الثاني قول امرئ القيس لما قتل أبوه:
بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
ومنها: غابر للذاهب والآتي، والجون للأبيض والأسود والبين للبعد والقرب، والصريم: الليل والنهار، والناصع الأبيض والأسود، والأمم للعظيم واليسير، والناهل للريان والظمآن، ووراء بمعنى قدام وخلف، وبعت الشيء إذا بعته من غيرك وبعته اشتريته، وشعبت الشيء:
أصلحته وشققته، والصارخ للمستغيث والمغيث، والهاجد للمصلي بالليل والنائم، والوهدة: الارتفاع والانحدار، والتعزير للاكرام والاهانة، والتقريظ للمدح والذم، وترب للغني والفقير، والاهماد للسرعة في السير والاقامة، وعسعس: إذا أقبل وإذا أدبر، والقرء للحيض والطهر.
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 23]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)(6/173)
اللغة:
(أَهُشُّ) : في المصباح: هشّ الرجل هشّا من باب رد: صال بعصاه وفي التنزيل «وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي» وهش الشجرة هشا ضربها ليتساقط ورقها وهش الشيء يهش من باب تعب هشاشة لان واسترخى فهو هش وهش العود يهشّ أيضا هشوشا صار هشا سريع الكسر وهش الرجل هشاشة إذا ابتسم من بابي تعب وضرب.
(جَناحِكَ) : سيأتي تفسيرها في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) الواو عاطفة وما اسم استفهام للتقرير مبتدأ وتلك خبره وبيمينك متعلق بمحذوف حال وهي تشبه قوله تعالى «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» والعامل في الحال المقدرة اسم الاشارة ويا موسى نداء فما اسم نكرة في موضع رفع بالابتداء والتقدير أي شيء تلك بيمينك وهي مبنية لتضمنها همزة الاستفهام وإنما جيء بها لضرب من الاختصار وذلك أنك إذا قلت ما بيدك فكأنك قلت: أعصا بيدك أم سيف أم خنجر ونحو ذلك مما يكون بيده وليس عليه إجابتك(6/174)
عما بيده إذا لم تأت على المقصود فجاءوا بما وهو اسم واقع على جميع مالا يعقل مبهم فيه وضمنوه همزة الاستفهام فاقتضى الجواب من أول وهلة فكان فيه من الإيجاز ما ترى. (قالَ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) هي مبتدأ وعصاي خبره وجملة أتوكأ عليها حالية وقيل مستأنفة وأهش بها على غنمي عطف على أتوكأ عليها وبها متعلقان بأهش وكذلك على غنمي وتعدية أهش بعلى يفيد معنى التهويل والتخويف للغنم. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) هذا هو الجواب الرابع الذي أجاب به موسى عن سؤال واحد وسيأتي سر ذلك في باب البلاغة ولي خبر مقدم وفيها حال ومآرب جمع مأربة بتثليث الراء مبتدأ مؤخر وأخرى صفة لمآرب، وهذه المآرب الأخرى سيرد قسم كبير منها في باب البلاغة كما يرد تلخيص مفيد لكتاب العصا للجاحظ. (قالَ: أَلْقِها يا مُوسى) جملة ألقها مقول القول ويا موسى نداء. (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ألقاها فعل وفاعل ومفعول به والفاء عاطفة وإذا للمفاجأة وهل هي ظرف أم حرف؟ تقدم بحث ذلك مفصلا، وهي مبتدأ وحية خبر وجملة تسعى حال أو خبر ثان وقد تقدم ذكر المسألة الزنبورية بين سيبويه والكسائي. (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) جملة خذها مقول القول والواو حرف عطف ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والسين حرف استقبال ونعيدها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن وسيرتها منصوب بنزع الخافض أي الى سيرتها وهذا أسهل الأعاريب وقيل هي ظرف قالوا «السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت الى معنى المذهب والطريقة وقيل سير الأولين فنصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى» وأجاز آخرون كأبي البقاء وبه بدأ أن تكون بدل اشتمال من ضمير المفعول لأن معنى سيرتها صفتها وطريقتها(6/175)
وأتي الزمخشري بإعراب آخر مهد له وحسنه قال «ووجه ثالث حسن وهو أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أولا ونصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى» والأولى صفة لسيرتها على كل حال. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) واضمم عطف على ألقها ويدك مفعول به والفاعل مستتر تقديره أنت والى جناحك جار ومجرور متعقان باضمم وتخرج جزم لأنه جواب الطلب وبيضاء حال ومن غير سوء متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل نحو ابيضت من غير سوء وليكون الاحتراس كاملا كما سيأتي في باب البلاغة أو متعلقان بتخرج وآية حال ثانية من فاعل تخرج أيضا وأخرى صفة لآية واختار الزمخشري وجها آخر لنصب آية وهو «بإضمار نحو خذأ ودونك وما أشبه ذلك» ولا نرى داعيا لذلك. (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) اللام للتعليل ونريك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وهو تعليل لمحذوف متعلق به أي أمرناك بما ذكرنا لنريك بها أي بيدك ومن آياتنا متعلقان بمحذوف على أنه حال من الكبرى وتكون الكبرى على هذا مفعولا ثانيا لنريك أو صفة للمفعول الثاني على الأصح والتقدير لنريك الآية الكبرى من آياتنا أي حال كونها من آياتنا وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى فلا داعي لذكره.
البلاغة:
قد تستوعب هذه الآية أجلادا ضخمة لما انطوت عليه من ضروب البلاغة وذلك ما نهدف اليه من كتابنا، ولكننا سنجتزئ بقدر الإمكان فنقول:(6/176)
1- فن التلفيف:
في قوله تعالى «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» الى آخر ما أجاب به موسى صلوات الله عليه من الاجوبة الاربعة فن طريف لم يرد ذكره حتى الآن وهو فن التلفيف، وحدّه إخراج الكلم مخرج التعليم بحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وانما قصد ذكر حكم خاص داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرح بتعليمه. وهذا التعريف المطول نعتقد أنه يحتاج الى بيان وهو أن يسأل السائل عن حكم هو نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة الى بيانها كلها أو أكثرها فيعدل المسئول عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع ويجيب بجواب عام يتضمن الإبانة على الحكم المسئول عنه وعن غيره بدعاء الحاجة الى بيانه فقول موسى جوابا عن سؤال الله تعالى له «هِيَ عَصايَ»
هو الجواب الحقيقي للسؤال ثم قال: «أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى» فأجاب عن سؤال مقدر كأنه توهم أن يقال له: وما تفعل بها؟ فقال معددا منافعها ولم يقع ذلك من موسى عليه السلام إلا لأمور ثلاثة:
آ- بغية الشكر لله تعالى الذي رزقه تلك العصا التي وجد فيها من المآرب ما لا يوجد في مثلها.
ب- ان المقام مقام خطاب الحبيب وهو يقتضي البسط والإسهاب.
ح- تعظيم مساءلة ربه له عن منافعها فابتدأه بالجواب عن السؤال المقدر قبل وقوعه أدبا مع ربه.
والواقع أن السؤال إذا كان واردا على شيء ظاهر فذلك السؤال إنما يتوجه الى أمر يتعلق به بحسب مقتضى الحال وإلا كان عبثا لظهوره(6/177)
كما إذا سألت شخصا عن لبس ثياب السفر بقولك: ما هذا الثوب؟
فإنك لا تسأل عن نفس الثوب وما هيته بل إنما سألت عن سبب لبسه فكأنك قلت: ما سبب عزيمتك؟ فجواب اللابس حينئذ أن يقول:
أريد سفر كذا ولو أجاب بأنه كتان مثلا عدّ لاغيا فكذلك هاهنا لما كان السؤال عن أمر ظاهر فيكون متوجها الى ما يتعلق بالعصا من منافعها فكأنه قال: ما تفعل بما في يمينك با موسى؟ فلذلك قال: هي عصاي أتوكأ عليها ... الآية فإن قلت: لو كان قوله تعالى: وما تلك بيمينك سؤالا عما لا يتعلق بالعصا فكان حقّ الجواب أن بقول: أريد أن أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولكان قوله: هي عصاي ضائعا غير مطابق للسؤال كما في السؤال عن نبس السفر.
قلت: هذا السؤال وإن كان عما يتعلق بالعصا لكنه تعالى لما علم أنه سيرد عليها الصورة الثعبانية عند سحر السحرة وكان ذلك مقام أن يخاف موسى بمشاهدة الصورة المنكرة التي ليس يعهدها فأراد تثبيت ماهيتها وعوارضها في نفسه لئلا يدهش عند ورودها عليه فلذلك قال: ما تلك ليجيب عن ماهيتها أيضا كما يجيب عن منافعها لزيادة التثبيت فحاصل معنى الجواب حينئذ هي عصاي أعرفها بالذات والعوارض وإن صورتها مقررة في نفسي لا تنفع إلا منافع أمثالها فإني قديما أتوكأ عليها وأهش بها على عنمي ولي فيها مآرب أخرى.
واختار «تلك» مع قرب المشار اليه إما لتحقيره بالنسبة الى جناب كبريائه أو للتعظيم لاشتمالها على الأمور العجيبة والمنافع الكثيرة.
2- التقرير:
وفيها أيضا التقرير وهو بالاستفهام فإنه سبحانه عالم بما بيمينه وإنما أراد أن يقر موسى ويعترف بكونها عصا ويزداد علمه بما يمنحه الله(6/178)
في عصاه فلا يعتريه شك إذا قلبها الله ثعبانا بل يعرف أن ذلك كائن بقدرة الله وانه هين عليه يسير.
عصا موسى وما فيها من أقوال:
هذا وقد صنف الجاحظ كتابا سماه كتاب العصا وهو جزيل الفائدة ونورد فيما يلي أضاميم منه، فقد جمع الله لموسى بن عمران في عصاه من البرهانات العظام والعلامات الجسام ما عسى أن يفي ذلك بعلامات عدة من المرسلين قال الله تبارك وتعالى فيما يذكر في عصاه:
«إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما» الى قوله «ولا يفلح الساحر حيث أتى» فلذلك قال الحسن بن هانئ- أبو نواس- في شأن خصيب وأهل مصر حين اضطربوا عليه:
منحتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصح بنصيب
ولا تثبوا وثب السفاه فتركبوا ... على حد حامي الظهر غير ركوب
فإن يك باق إفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية ... أكول لحيات البلاد شروب(6/179)
ألم تر أن السحرة لم يتكلفوا تغليط الناس والتمويه عليهم إلا بالعصا ولا عارضهم موسى إلا بعصاه، ألا ترى أنهم لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم بالعصي والحبال لم يجعل الله للحبال من الفضيلة في إعطاء البرهان ما جعل للعصا؟ وقدرة الله على تصريف الحبال في الوجوه كقدرته على تصريف العصا.
ثم تحدث الجاحظ بأسلوبه العذب السمح عن الشجر ومنافعها مما تأتي الاشارة إليه في حينه، وأورد قصصا مأثورة عن الانتفاع بالعصا، وما كان لها عند العرب من شأن فأورد قصة عامر بن الظرب العدواني- حكم العرب في الجاهلية- لما أسنّ واعتراه النسيان أمر بنته «عمرة» أن تقرع بالعصا إذا هو فهّ عن الحكم وجار عن القصد وكانت من حكيمات بنات العرب، حتى جاوزت في ذلك مقدار صحر بنت لقمان، وهند بنت الخس وخمعة بنت حابس وكان يقال لعامر ذو الحلم ولذلك قال الحارث بن وعلة:
وزعمتم أن لا حلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم
وقال الفرزدق:
فإن كنت أنساني حلوم مجاشع ... فإن العصا كانت لذي الحلم تقرع
قلت:
قلت: هذا ما رواه الجاحظ بصدد قرع العصا، وليس هذا القول حاسما ففي أول من قرعت له العصا خلاف طويل فقيل هو عامر(6/180)
ابن الظرب كما ذكر الجاحظ وقيل هو قيس بن خالد ذو الجدين وقيل هو عمرو بن حممة الدوسي ولكن الأشهر ما رواه الجاحظ.
وذكر العصا عندهم يجري في معان كثيرة تقول العرب: «العصا من العصية، والأفعى بنت حية» تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير، ويقال: طارت عصا فلان شققا ويقال: فلان شق عصا المسلمين ولا يقال شق ثوبا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق وقال المضرّس الأسدي:
وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
ويقال لبني أسد «عبيد العصا» يعنى أنهم ينقادون لكل من حالفوا من الرؤساء وتسمي العرب كل صغير الرأس «العصا» وكان عمرو بن هبيرة صغير الرأس قال سويد بن كراع العكلي:
فمن مبلغ رأس العصا أن بيننا ... ضغائن لا تنسى وإن قدم الدهر
وكان والبة بن الحباب الأسدي أحد من أخذ عنهم أبو نواس وكان شاعرا ماجنا صغير الرأس فقال أبو العتاهية في رأس والبة ورؤوس قومه:
رؤوس عصي كنّ من عود أثلة ... لها قادح يفري وآخر مخرب(6/181)
قلت:
قلت: هذا وكان والبة قد هاجى بشارا وأبا العتاهية فغلباه وفر الى الكوفة منهما ومما قاله في أبي العتاهية:
كان فينا يكنى أبا اسحق ... وبها الركب سار في الآفاق
فتكنى معتها بعتاه ... يا لها كنية أتت باتفاق
حلق الله لحية لك لا تنفك معقودة بداء الحلاق ودخل عمرو بن سعد بن أبي وقاص على عمر بن الخطاب حين رجع اليه من عمل حمص وليس معه إلا جراب وإداوة وقصعة وعصا فقال له عمر: ما الذي أرى بك من سوء الحال، أم ما تصنع؟ فقال:
وما الذي تراني؟ ألست تراني صحيح البدن، معي الدنيا بحذافيرها؟
قال: وما معك من الدنيا؟ قال معي جرابي أحمل فيه زادي، ومعي قصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي إن لقيت عدوا قاتلته، وإن لقيت حية قتلتها، وما بقي من الدنيا تبع لما معي.
ومن جميل القول في العصا وما يجوز فيها من المنافع والمرافق تفسير شعر غنيه الاعرابية في شأن ابنها وذلك انها كان لها ابن شديد العرامة كثير التلفت الى الناس مع ضعف أسر، ودقة عظم، فواثب مرة فتى من الأعراب فقطع الفتى أنفه وأخذت غنية دية أنفه فحسنت حالها بعد فقر مدقع ثم واثب آخر فقطع أذنه فأخذت الدية فزادت دية أذنه في المال وحسن الحال ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته فلما رأت(6/182)
ما قد صار عندها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حسن رأيها فيه فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:
أحلف بالمروة حقا والصفا ... أنك خير من تفاريق العصا
فقيل لابن الأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورا وتقطع عصا الساجور فتصير أوتادا ويفرق الوتد فتصير كل قطعة شظاظا فإن كان رأس الشظاظ كالعلكة صار للبختي مهارا وهو العود الذي يدخل في أنف البختي (والبختي الجمل الخراساني) وإذا فرق المهار جاءت منه تواد والسواجير تكون للكلاب والأسرى من الناس.
وسئل عن قوله «ولي فيها مآرب أخرى» قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى عليه السلام ولكني سأنبئكم جملا تدخل في باب الحاجة الى العصا من ذلك: انها تحمل للحية والعقرب والذئب والفحل الهائج ولعير العانة في زمن هيج الفحول وكذلك فحول الجحور في المروج ويتوكأ عليها الكبير الدانف والسقيم المدنف والأقطع الرجل والأعرج فإنها تقوم مقام رجل أخرى، وقال أعرابي مقطوع الرجل:
الله يعلم أني من رجالهم ... وإن تخدّد عن متنيّ أطماري
وإن رزئت يدا كانت تجمّلني ... وإن مشيت على زج ومسمار
والعصا تنوب للأعمى عن قائده وهي للقصار والفاشكار والدباغ ومنها المفأد للملّة (أي الخشبة يحرك بها الرماد الحار) والمحراك للتنور وهي لدق الجص والجبسين والسمسم ولخبط الشجر وللفيج (ساعي البريد والدولة) وللمكاري فانهما يتخذان المخاصر فإذا طال(6/183)
الشوط وبعدت الغاية استعانا في حضرهما وهرولتهما في أضعاف ذلك بالاعتماد على وجه الأرض وهي تعدل من ميل المفلوج وتقيم من ارتعاش المبرسم (المصاب بمرض البرسام) ويتخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمركبه، ويدخل عصاه في عروة المزود ويمسك بيده الطرف الآخر وربما كان أحد طرفيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حمل ثقيل، وتكون- إن شئت- وتدا في حائط وإن شئت ركزتها في الفضاء وجعلتها قبلة وإن شئت جعلتها مظلة وإن جعلت فيها زجا كانت عنزة وإن زدت فيها شيئا كانت عكازا، وإن زدت فيها شيئا كانت مطردا وإن زدت فيها شيئا كانت رمحا، والعصا تكون سوطا وسلاحا.
ونجتزئ بما تقدم من كتاب الجاحظ ونعود الى مآرب موسى فقد ذكر في الكشاف «وقيل في المآرب كانت ذا شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غمه» .
3- الاستعارة المكنية:
في قوله «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» الجناح معروف وقيل لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلها والمراد الى جنبك تحت العضد دل على ذلك قوله تخرج.(6/184)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
4- الاحتراس والكناية:
وفي قوله «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» فن الاحتراس وقد تقدم ذكره والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكني به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة وكان جذيمة بن الوضاح أبرص فكنوا عنه بالأبرش لأن البرص أبغض شيء الى العرب وبهم عنه نفرة عنبسة فكان جديرا أن يكنى عنه ولا أحسن ولا ألطف من كنايات القرآن كما يأتي ولو أنه لم يذكر من غير سوء لتوهم أن البياض قد ازداد حتى صار برصا فأتى بقوله من غير سوء دفعا لذلك التوهم.
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 35]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
اللغة:
(وَزِيراً) : مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره أي أثقاله فهو معين على أمر الملك وقائم بأمره وقيل بل هو مشتق من الوزر بفتحتين وهو الملجأ ومنه قوله تعالى: «كَلَّا لا وَزَرَ» وقيل بل(6/185)
هو مشتق من المؤازرة وهي المعاونة وفي القاموس الأزر الإحاطة والقوة والضعف فهو من الأضداد، والتقوية والظهر.
الإعراب:
(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) اذهب فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والى فرعون متعلقان باذهب وان واسمها وجملة طغى خبرها وجملة إنه طغى تعليلية لا محل لها. (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة واشرح فعل دعاء ولي متعلقان باشرح وصدري مفعول به وذكر كلمة لي لفائدة سترد في باب البلاغة. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) عطف على اشرح لي صدري. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) عطف على اشرح وعقدة مفعول به ومن لساني متعلقان بمحذوف صفة لعقدة كأنه قيل عقدة من عقد لساني وسيأتي ما قيل في العقدة في باب البلاغة.
(يَفْقَهُوا قَوْلِي) يفقهوا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والواو فاعل وقولي مفعول به. (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (هارُونَ أَخِي) الواو عاطفة واجعل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولي في محل نصب مفعول ثان ووزيرا مفعول به أول ومن أهلي صفة لوزيرا وهارون بدل من وزيرا وأخي بدل من هارون ويجوز أن يكون وزيرا مفعولا ثانيا وهارون مفعولا أول وقدم الثاني عليه اعتناء بأمر الوزارة ولي متعلقان بمحذوف حال أو بنفس الجعل ومن أهلي صفة ويجوز أن يكون وزيرا هو المفعول الاول ومن أهلي هو الثاني وجميع هذه الأوجه متساوية الرجحان. (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) اشدد فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وبه متعلقان باشدد وأزري مفعول به وأشركه عطف على اشدد والهاء مفعول به وفي أمري(6/186)
متعلقان باشركه وقرئ اشدد وأشركه مضارعين مجزومين بالطلب.
(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) كي حرف مصدرية ونصب واستقبال وسيأتي بحثها في باب الفوائد ونسبحك فعل مضارع منصوب بكي وفاعل نسبحك ضمير مستتر تقديره نحن وكثيرا صفة لمصدر محذوف أو صفة لظرف محذوف فهي مفعول مطلق أو مفعول فيه ونذكرك كثيرا عطف على نسبحك كثيرا. (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) إن واسمها وجملة كنت خبر والتاء اسم كنت وبنا متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كنت.
البلاغة:
1- الزيادة:
زيادة «لي» في قوله تعالى «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» والكلام تام بدونها وقد ذكر الزمخشري سرا ونذكر الثاني فيما بعد قال: «فإن قلت «لي» من قوله اشرح لي صدري ويسر لي أمري ما جدواه والكلام مستتب بدونه، قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره» أما السر الثاني فهو أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر وتيسير الأمر راجعة إليه وعائدة عليه فإن الله عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره تعالى وتقدس.
2- التنكير:
وفي تنكير العقدة من قوله تعالى «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» دلالة(6/187)
على أنه لم يسأله حل جميع عقد لسانه بل حل بعضها الذي يمنع الافهام بدليل قوله «يفقهوا قولي» كأنه قال واحلل عقدة من عقد لساني وهذه العقدة ناشئة كما يروى عن جمرة وضعها في فمه وهو صغير وقصتها في المطولات.
الفوائد:
بحث كي:
(كَيْ) أحد أحرف النصب وهي قسمان:
1- المصدرية وهي الداخل عليها اللام لفظا نحو لكي لا تأسوا أو تقديرا نحو جئتك كي تكرمني إذا قدرت الأصل لكي وانك حذفت اللام استغناء عنها بنيتها فإن لم تقدر اللام فهي:
2- التعليلية، فأما المصدرية فناصبة بنفسها وأما التعليلية فجارة والناصب بعدها أن مضمرة لزوما في النثر وقد تظهر في الشعر:
فقالت أكل الناس أصبحت مانحا ... لسانك كيما ان تغرّ وتخدعا
وهذا مذهب سيبويه والخليل وجمهور البصريين أما الكوفيون فيرون أن كي ناصبة دائما تقدمتها اللام أو لم تتقدمها.
قال أبو حيان: وأجمعوا على أنها يجوز الفصل بينها وبين معمولها بلا النافية وما الزائدة وأما الفصل بغير ما ذكر فلا يجوز عند البصريين.(6/188)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
[سورة طه (20) : الآيات 36 الى 40]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
اللغة:
(السؤل) : الطلبة وهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول.
(التَّابُوتِ) : الصندوق من خشب.
(الْيَمِّ) : البحر وأراد به نهر النيل.
الإعراب:
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) جملة قد أوتيت مقول القول وأوتيت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وسؤلك مفعول(6/189)
به ثان لأوتيت. (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ومننا فعل وفاعل وعليك متعلقان بمننا ومرة ظرف أو مفعول مطلق وأخرى صفة لمرة.
(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) إذ ظرف يفيد هنا التعليل وهو متعلق بمننا وجملة أوحينا مضافة إليها الظرف والى أمك متعلقان بأوحينا وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر هو مفعول مطلق أو موصولة فهي نائب فاعل وجملة يوحى صلة وهي تفيد الإبهام وسترد في باب البلاغة.
(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أن مفسرة لأن الوحي بمعنى القول واقذفيه فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي التابوت متعلقان باقذفيه، فاقذفيه في اليم عطف على فاقذفيه في التابوت ولم تختلف الضمائر لأن المقذوف هو موسى عليه السلام. (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) الفاء عاطفة واللام لام الأمر ويلقه فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول به واليم فاعل وهذا أمر معناه الخبر ولكونه أمرا لفظا جزم جوابه في قوله يأخذه وسيأتي مزيد بيان له في باب البلاغة وبالساحل متعلقان بيلقه أو بمحذوف حال أي ملتبسا به ويأخذه جواب الطلب والهاء مفعول وعدو فاعل ولي صفة وعدو له عطف على عدو لي. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) الواو حرف عطف وألقيت فعل وفاعل وعليك متعلقان بألقيت ومحبة مفعول به ومني صفة لمحبة أي محبة عظيمة كائنة مني فلا جرم أحبك كل من رآك ويجوز تعليق مني بألقيت ولتصنع عطف على علة مضمرة مفهومة من سياق الكلام أي لتحب من الناس، ولتصنع: اللام للتعليل وتصنع فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد اللام وعلى عيني حال أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك وكالئك وسيأتي بحث المجاز المرسل هنا في(6/190)
باب البلاغة. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟) إذ ظرف للتعليل متعلق بألقيت أو بتصنع أو بمحذوف تقديره اذكر وجملة تمشي مضاف إليها الظرف وأختك فاعل فتقول عطف على تمشي وهل حرف استفهام وأدلكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى من متعلقان بأدلكم وجملة يكفله صلة.
(فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز تقديره فأجيبت الى طلبها فجاءت أمه فقبل موسى ثديها.
ورجعناك فعل وفاعل ومفعول به والى أمك متعلقان برجعناك وكي حرف ناصب وتقر منصوب بكي وعينها فاعل ولا تحزن عطف على كي تقر.
(وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) وقتلت فعل وفاعل ونفسا مفعول قتل وقد قتل موسى القبطي بمصر واسمه قاب قان وكان طباخا لفرعون وكانت سن موسى إذ ذاك ثلاثين سنة، فنجيناك الفاء عاطفة ونجيناك فعل وفاعل ومفعول به ومن الغم متعلقان بنجيناك وفتناك فعل وفاعل ومفعول به وفتونا مفعول مطلق إذا كان مصدرا وهو الأرجح كالقعود والجلوس والشكور والثبور واللزوم أو منصوب بنزع الخافض إذا كان جمع فتنة أي بضروب من الفتن والمعنى ابتليناك وامتحناك بأنواع من الشدائد. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) الفاء عاطفة ولبثت فعل وفاعل وسنين ظرف زمان متعلق بلبثت قيل مكث عند النبي شعيب في مدين عشر سنوات وتزوج خلالها ابنته وقيل ثمانيا وعشرين سنة منها مهر ابنته وهو عشر حجج حيث قضى أوفى الأجلين، وفي أهل مدين متعلقان بلبثت ومدين مضاف لأهل ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ثم حرف عطف وجئت فعل وفاعل وعلى قدر حال أي موافقا لما قدر لك أو مستقرا على قدر معين(6/191)
ويا موسى نداء، وقد اقتبس هذا التركيب جرير بقوله مادحا عمر ابن عبد العزيز:
أتى الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر
البلاغة:
فنون هذه الآيات البيانية كثيرة جدا نورد أهمها فيما يلي:
1- التفسير بعد الإبهام:
فأولها التفسير بعد الإبهام وهذا النوع يؤتى به لتفخيم أمر المبهم وإعظامه لأنه يطرق السمع بعد أن كان متعلقا بشيء مبهم فتترنح الجوارح، ويذهب بلب السامع كل مذهب وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى» فابهم الكلام وأتى به مجملا ليتعلق الذهن، ويتطلع ما عسى أن يكون السؤال؟ وما هي المنة الأخرى؟ وما عسى أن يردفها من منن وآلاء؟
انه يتشوف للمعرفة، ويحاول اكتناه الحقيقة فيأتي قوله بعد ذلك مفسرا ما أبهم، فيقول «إذ أوحينا الى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم» فإن قلت ما هي المنة الأولى؟ وما هي المنة الثانية؟
وهل بعد ذلك من منن؟ قلت ان مجموع المنن التي امتن الله بها على نبيه موسى ثماني منن:
آ- قوله إذ أوحينا إلى قوله «وعدو له» .
ب- قوله: «وألقيت عليك محبة مني» إلخ..
ج- قوله: «ولتصنع على عيني» الى قوله «من يكفله» .(6/192)
د- قوله: «فرجعناك الى أمك» الى قوله «ولا تحزن» .
هـ- قوله: «وقتلت نفسا فنجيناك من الغم» .
وقوله: «وفتناك فتونا» .
ز- قوله: «فلبثت في أهل مدين» الى قوله «يا موسى» .
ح- قوله: «واصنعتك لنفسي» .
2- الإبهام:
أما الإبهام المجرد فقوله «ما يوحى» وهو كثير شائع في القرآن الكريم ومثله في الشعر قول دريد بن الصمة في رثاء أخيه:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه ... فلما علاه قال للباطل: ابعد
وسيرد منه المزيد المطرب.
3- المجاز العقلي:
المجاز العقلي: في قوله تعالى «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» أسند الإلقاء الى اليم وهو لا يعقل ولكنه يمثل مشيئة الله وإرادته التي لا تخطئ ولا يعزب عنها شيء، أسند اليه الإفضاء المقرر في عالم الغيب ودنيا المشيئة كأنه ذو تمييز يطيع الأمر ويمتثل رسمه.
4- التنكير:
نكر المحبة وأسندها اليه سبحانه، لأمرين هامين:(6/193)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
1- ما في التنكير من الفخامة الذاتية كأنها محبة تعلو على الحب المتعارف المتبادل بين المخلوقات.
2- ما في إسنادها اليه من الفخامة الاضافية أي محبة عظيمة مني وقد زرعتها في القلوب وركزتها في السرائر ومنطويات الضمائر فسبحان المتكلم بهذا الكلام.
5- المجاز المرسل:
في قوله على عيني مجاز مرسل فقد أراد بالعين المحبة أي على المحبة مني لأن العين رائدها وسببها فالعلاقة السببية قال أبو عبيدة وابن الأنباري: إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي تقول أتخذ الأشياء على عيني أي على محبتي، قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد الارادة والاختيار، من قول العرب: فلان على عيني أي على المحبة مني قيل واللام متعلقة بمحذوف أي فعلت ذلك لتصنع وقيل متعلقة بألقيت.
[سورة طه (20) : الآيات 41 الى 47]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47)(6/194)
اللغة:
(وَاصْطَنَعْتُكَ) : اخترتك لي من بين الناس جميعا، وسيأتي المزيد من بحث المجاز في هذا التعبير الرشيق.
(تَنِيا) : تفترا والونى الفتور والتقصير يقال ونى يني ونيا كوعد يعد وعدا إذا فتر والاسم الونى وهو الفتور وونى فعل لازم لا يتعدى وزعم بعض النحاة انه يكون من أخوات زال وانفك فيعمل عملهما بشرط النفي يقال: ما وني زيد قائما أي ما زال زيد قائما وفي المصباح:
وني في الأمر ونيا من باب تعب ووعد ضعف وفتر فهو وان وفي التنزيل «ولا تنيا في ذكري» وتوانى في الأمر توانيا: لم يبادر الى ضبطه ولم يهتم به فهو متوان أي غير مهتم ولا محتفل» وهو في الآية من باب وعد لأجل كسر النون إذ لو كان من باب تعب لكان بفتحها وقد أشار في الأساس إلى إمكان عمل هذا الفعل عمل لا يزال قال: «ولا يني يفعل: لا يزال يفعل وامرأة وناة: فيها فتور» وفي القاموس:
«الونى كفتى التعب والفترة ضد ويمد ونى يني ونيا وونيا ووناء وونية ونية وونى وأوناه وتوانى هو وناقة وانية: فاترة طليح وامرأة وناة وأناة وإنية: حليمة بطيئة القيام والقعود والمشي والمينا مرفأ السفينة ويمد وجوهر الزجاج والونية كاللؤلؤة كالوناة أو العقد من الدر» .
(يَفْرُطَ) : يقال فرط يفرط من باب قعد علينا فلان إذا عجل بمكروه.(6/195)
الإعراب:
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) فعل ماض وفاعل ومفعول به ولنفسي متعلقان به. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) اذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأنت ضمير منفصل تأكيد للضمير المستتر والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير المراد بالاصطناع وأخوك عطف على الضمير المرفوع وعلامة رفعه الواو والكاف مضاف اليه وبآياتي حال لأن الباء للمصاحبة أي مصحوبين بآياتي ومعتصمين بها وليست للتعدية لأن المراد إظهار الآيات للناس لا مجرد الذهاب الى فرعون والواو حرف عطف ولا ناهية وتنيا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والألف فاعل وفي ذكري متعلقان بتنيا، قيل «في» هنا بمعنى عن أي عن عبادتي ولم أره لأحد فالأولى أن تبقى على حقيقتها من الظرفية كأنه اشتمل على التقصير، لكن قال في المغني «والظاهر أن معنى ونى عن كذا جاوزه ولم يدخل فيه وونى فيه دخل فيه وفتر» وهذا يرجح انها للظرفية لا للمجاوزة. (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) اذهبا فعل وفاعل والى فرعون متعلقان باذهبا وان واسمها وجملة طغى خبرها. (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الفاء عاطفة وقولا فعل أمر وفاعل وله متعلقان بقولا وقولا مفعول مطلق ولينا صفة ولعل واسمها وجملة يتذكر خبرها أو حرف عطف ويخشى عطف على يتذكر وسيأتي معنى الترجي هنا وبصورة عامة في باب الفوائد. (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) قالا فعل ماض وفاعل وربنا منادى مضاف وإن واسمها وجملة نخاف خبرها وأن وما في حيزها مفعول نخاف وعلينا متعلقان بيفرط أو حرف عطف أن يطغى عطف على أن يفرط.
(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) لا ناهية وتخافا فعل مضارع(6/196)
مجزوم بلا والألف فاعل وجملة لا تخافا مقول القول وجملة إنني معكما تعليلية لعدم الخوف وان واسمها والظرف متعلق بمحذوف خبرها وجملة أسمع خبر ثان أو حالية وأرى عطف على أسمع. (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) فأتياه الفاء هي الفصيحة وأتياه فعل أمر وفاعل ومفعول به فقولا عطف على فأتياه وإن واسمها ورسولا خبرها وربك مضاف اليه. (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) الفاء هي الفصيحة أيضا وأرسل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ومعنا ظرف مكان متعلق بأرسل وبني إسرائيل مفعول به ولا تعذبهم لا ناهية وتعذبهم مجزوم بلا والهاء مفعول به. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) جملة قد جئناك حالية جرت من جملة إنا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا مدعومة بالآيات والدلائل الظاهرة الدالة عليها وقد حرف تحقيق وجئناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وبآية متعلقان بجئناك ومن ربك صفة لآية والواو استئنافية والسلام مبتدأ وعلى من اتبع الهدى خبر.
الفوائد:
اهتم العلماء اللغويون والنحاة بمعنى الرجاء في قوله تعالى «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» وسنلخص الأوجه التي ذكرها هؤلاء لأن إيرادها بنصوصها لا يتسع له المجال، فالرجاء يحتمل الأمور التالية:
1- أن يكون الترجي هنا على بابه وذلك بالنسبة الى المرسل وهو موسى وهارون أي اذهبا على رجائكما في إيمانه وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله فهو يفرغ جهده ويبذل ما في وسعه ويستحيل أن يرد ذلك في حق الله تعالى(6/197)
إذ هو عالم بالعواقب والمغاب وعن سيبويه «كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب» وهذا صريح في أن الترجي يستحيل بقاؤه على معناه في حق الله تعالى.
2- ان لعل تفيد التعليل فهي بمثابة كي وهذا قول الفراء قال:
كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك أي كي تأخذ أجرك.
3- انها استفهامية أي هل يتذكر ويخشى وهذا قول مردود لأنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى.
ما يقوله النحاة:
ويقول النحاة إن لعل للتوقع وعبر عنه قوم بالترجي في الشيء المحبوب نحو لعل الحبيب قادم ومنه قوله تعالى: «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» والإشفاق في الشيء المكروه نحو «فلعلك باخع نفسك» أي قاتل نفسك والمعنى أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك وقد تقدم بحثه والإشفاق لغة الخوف يقال أشفقت عليه بمعنى خفت عليه وأشفقت منه بمعنى خفت منه وحذرته.
وقال الأخفش والكسائي: وتأتي لعل للتعليل نحو: ما يقول الرجل لصاحبه: افرغ من عملك لعلنا نتغدى واعمل عملك لعلك تأخذ أجرك أي لنتغدى ولتأخذ، ومنه «لعله يتذكر» أي ليتذكر وقال في المغني: ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ويصرفه للمخاطبين أي اذهبا على رجائكما.(6/198)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
[سورة طه (20) : الآيات 48 الى 55]
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)
الإعراب:
(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) إن واسمها وجملة قد أوحي خبر وإلينا متعلقان بأوحي وأن وما في حيزها في تأويل مصدر نائب فاعل لأوحى وأن واسمها وعلى من خبرها وجملة كذب صلة وتولى عطف على كذب. (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أي فأتياه وقالا جميع ما ذكر، فالفاء عاطفة على مقدر ومن اسم استفهام مبتدأ وربكما خبر والجملة مقول القول ولم يذكر هارون لأنه تبع وردء ووزير له وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته. (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ(6/199)
ثُمَّ هَدى)
ربنا مبتدأ والذي خبره وجملة أعطى صلة وكل شيء مفعول به أول وخلقه مفعول به ثان وقيل خلقه أول مفعولي أعطى وكل شيء ثانيهما وقدم للاهتمام أي أعطى خليقته «وهي جمع الخلائق» كل شيء يحتاجون اليه وقرئ خلقه على أنه فعل والمفعول الثاني محذوف للعلم. ثم هدى عطف على أعطى أي أعطى كل شيء صورته وأفرغه في مسلاخه الخليق بما نيط به من خصائص ومنافع وهدى كل مخلوق إلى ما خلق له، وفي هذا الإيجاز كلام طويل يطالعه القارئ في باب البلاغة. (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) الفاء عاطفة وما استفهام مبتدأ وبال خبر والقرون مضاف اليه والأولى صفة. (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) علمها مبتدأ وعند ربي الظرف متعلق بمحذوف خبر وفي كتاب حال أو في كتاب هو الخبر وعند ربي حال أو هما خبران أو هما خبر واحد على حد قولك الرمان حلو حامض أي مز وجملة لا يضل مستأنفة وقيل صفة لكتاب والعائد محذوف تقديره في كتاب لا يضله ربي أو لا يضل حفظه ربي، وربي فاعل يضل ولا ينسى عطف على لا يضل وسيأتي في باب الفوائد ما قاله العلماء في معنى هذه الآية. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا) الذي خبر لمبتدأ محذوف أي هو وجملة جعل صلة ولكم حال لأنه كان صفة لمهادا والأرض مفعول به أول ومهادا مفعول به ثان وسلك فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لسبلا وفيها متعلقان بسلك وسبلا مفعول به. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) وأنزل عطف على ما تقدم ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأخرجنا الفاء عاطفة وأخرجنا فعل وفاعل وبه متعلقان بأخرجنا وأزواجا مفعول به ومن نبات صفة لأزواجا وشتى صفة لأزواجا أو حال منه لأنه وصف وأجاز الزمخشري(6/200)
أن يكون صفة للنبات. (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) كلوا فعل أمر وفاعل والجملة معمولة لحال محذوفة أي قائلين أو آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها وارعوا عطف على كلوا وأنعامكم مفعول به لارعوا وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولأولي النهى صفة لآيات والنهى مضاف لأولي وهي جمع نهيه وقيل اسم مفرد. (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) منها متعلقان بخلقناكم وفيها متعلقان بنعيدكم ومنها متعلقان بنخرجكم وتارة ظرف متعلق بنخرجكم وأخرى صفة لتارة.
البلاغة:
1- الإيجاز:
في قوله تعالى «ثُمَّ هَدى» إيجاز بليغ لأنه حذف جملا لا يقع عليها الحصر لأنه ليس بالمتاح إحصاء المخلوقات الحية وغير الحية، العاقلة وغير العاقلة التي خلقها الله ولكل منها عمله الميسر له على حد قوله صلى الله عليه وسلم «كل ميسر لما خلق له» فمن العسير بل من المستحيل أن يتحدث أحد عن المرتفقات العامة وإعطاء كل مرتفق الى صاحبه المخلوق له الذي عرف كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل اليه ولهذا أحسن الزمخشري بقوله: «ولله در هذا الجواب ما أحصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق» ثم إن للايجاز فائدة أخرى وهي أن فرعون أراد أن يصرف موسى عليه السلام بعد أن أوشك أن يفضحه ويبطل خرافاته، الى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات(6/201)
والأساطير فأجابه موسى بأن ذلك ليس من خصائص الرسالة وانما علمه عند ربي فلما سأله عن ربه أوجز الكلام على هذا الشكل البديع.
2- الالتفات:
من الغيبة الى لفظ التكلم على الحكاية لكلام الله عز وجل والفائدة منه التنبيه على ظهور ما في الأرض من الدلالة على كمال القدرة الإلهية والحكمة التي لا تطيش وانقياد المخلوقات جميعا لمشيئته وقيل لا التفات في الكلام لأنه يشترط في الالتفات أن يكون في كلام المتكلم الواحد يصرف كلامه على وجوه شتى وما نحن فيه ليس من ذلك فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله: الذي جعل لكم الأرض مهادا الى قوله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فإما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وانما يريدون الملك وليس هذا بالتفات وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات انعامه على خلقه فليس التفاتا أيضا وانما هو انتقال من حكاية الى إنشاء خطاب.
وقد يبدو هذا الرد وجيها لأول وهلة ولكن نذكر أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال: الذي جعل لكم الأرض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عنه أسند الضمير الى ذاته لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى فمرجع الضميرين واحد وهذا الوجه دقيق وهو أقرب الوجوه الى الالتفات.(6/202)
الفوائد:
حول «لا يضل ربي ولا ينسى» :
أقرب ما يقال في نفي الضلال والنسيان عن الله تعالى وهو غني عن النفي لأنه علام الغيوب أن يقال هو من باب التعريض والمعنى: ان كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده في كتاب ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أي لا يضل كما تضل أنت يا مدعي الربوبية بالجهل والصلف والوقاحة.
وقال القفال: «هناك فرق بين يضل وينسى أي لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علمه من ذلك لم ينسه فاللفظ الاول إشارة الى كونه عالما بكل المعلومات واللفظ الثاني دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو اشارة الى نفي التغير» .
هذا، واختلف في معنى لا يضل ربي ولا ينسى على أقوال:
الاول: انه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد تم الكلام عند قوله في كتاب.
الثاني: ان معنى لا يضل لا يخطئ.
الثالث: ان معناه لا يغيب.
الرابع: ان معناه لا يحتاج الى كتاب ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا ينسى ما علمه منها.
الخامس: ان هاتين الجملتين صفة لكتاب والمعنى ان الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له.(6/203)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
[سورة طه (20) : الآيات 56 الى 63]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63)
اللغة:
(ضُحًى) : الضحى: شروق الشمس بعد طلوعها وقد سمت العرب ساعات النهار بأسماء فالأولى الذرور ثم البزوغ ثم الضحى ثم الغزالة ثم الهاجرة ثم الزوال ثم الدلوك ثم العصر ثم الأصيل ثم الصبوب ثم الحدور ثم الغروب.
ويقال فيها: البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرأد ثم الضحى ثم المتوع ثم الزوال ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر ثم الطفل ثم الغروب.(6/204)
(فَيُسْحِتَكُمْ) : يهلككم من أسحت الرباعي وهي لغة نجد وتميم أي أهلك ويقال سحت وهي لغة الحجاز وأصل هذه المادة تدل على الاستقصاء والنفاد ومنه سحت الحالق الشعر أي استقصاه فلم يترك منه شيئا ويستعمل في الإهلاك والإذهاب وفي القاموس «سحت يسحت من باب فتح وسحّت بالتشديد اكتسب السحت أي المال الحرام وسحته أهلكه واستأصله وذبحه وسحت الشحم عن اللحم قشره وسحت وجه الأرض محاه وأسحت: أفسده وأهلكه واستأصله» .
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وأريناه فعل ماض من رأى البصرية ولكنها تعدت الى اثنين لدخول همزة النقل عليها ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل والهاء مفعول به أول وآياتنا مفعول به ثان وكلها تأكيد لآياتنا فكذب وأبى عطف على أريناه وقد مرت آيات موسى التسع ثم الآيتان الأخيرتان وهما العصا ونزع اليد. (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي فرعون وجملة أجئتنا مقول القول والهمزة للاستفهام الانكاري وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به ولتخرجنا اللام للتعليل وتخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ونا مفعول به ومن أرضنا متعلقان بتخرجنا وبسحرك متعلقان بتخرجنا. (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) الفاء الفصيحة واللام جواب قسم محذوف تقديره والله لنأتينك وبسحر متعلقان بنأتينك ومثله صفة لسحر ويجوز أن يتعلق بسحر بمحذوف حال أي متلبسين بسحر مثله في الغرابة يعارضه ويدحضه، فاجعل الفاء عاطفة واجعل فعل أمر(6/205)
وفاعله أنت وبيننا ظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وبينك عطف وموعدا مصدر ميمي مفعول به أول وجملة لا نخلفه صفة لموعدا ونحن تأكيد للضمير في نخلفه والواو عاطفة ولا نافية وأنت عطف على الضمير في نخلفه ومكانا بدل من موعدا بتقدير مضاف أي مكان موعد أو تعرب مكانا منصوبا بنزع الخافض أي في مكان أو تنصبه بالمصدر وهو موعد وسوى صفة أي وسطا وهو بضم الواو وكسرها وهذا وجه من أعاريب أخرى ستأتي في باب الفوائد. (قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) موعدكم مبتدأ ويوم الزينة خبر وان وما بعدها عطف على يوم الزينة إما على اليوم فيكون محل المصدر الرفع وإما على الزينة فيكون محله الجر والناس نائب فاعل وضحى ظرف متعلق بيحشر وسيأتي بحث يوم الزينة والعلة في اختياره. (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) الفاء عاطفة وتولى فعل ماض وفرعون فاعل فجمع عطف على فتولى وكيده مفعول به على حذف مضاف أي ذوي كيده وهم السحرة ثم حرف عطف وأتى عطف على جمع وعبر بثم للدلالة على انه استغرق وقتا في جمع السحرة ورسم الخطط. (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) قال فعل ماض ولهم متعلقان به وموسى فاعل وويلكم مصدر للدعاء أمات العرب فعله فهو منصوب بفعل محذوف ولا ناهية وتفتروا فعل مضارع مجزوم بلا وعلى الله متعلقان بتفتروا وكذبا مفعول به.
(فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) الفاء فاء السببية ويسحتكم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالنهي وبعذاب متعلقان بيسحتكم وقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخاب فعل ماض ومن فاعل وجملة افترى صلة. (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) الفاء عاطفة وتنازعوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل وأمرهم مفعول به أو منصوب بنزع الخافض وبينهم ظرف(6/206)
متعلق بمحذوف حال وأسروا عطف على تنازعوا والنجوى مفعول به أي أخفوها أي انهم تشاوروا في السر. (قالُوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) إن مخففة من الثقيلة ومهملة وهذان اسم اشارة للمثنى في محل رفع مبتدأ واللام الفارقة وساحران خبر هذان وجملة يريدان صفة لساحران وان وما في حيزها مفعول يريدان ومن أرضكم متعلقان بيخرجاكم بسحرهما حال أي متلبسين بسحرهما ويذهبا عطف على يخرجاكم وبطريقتكم متعلقان بيذهبا والمثلى صفة لطريقتكم.
البلاغة:
في قوله «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» فن رد العجز على الصدر وسماه المتأخرون التصدير وهو أخف على السمع وأليق بالمقام وقد تقدم البحث فيه ونضيف هنا أن ابن المعتز فسمه ثلاثة أقسام:
الأول ما وافق آخر كلمة في المصراع الأول آخر كلمة في المصراع الثاني أو كانت مجانسة لها كقول بعضهم:
يلقى إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأي لا يفل عرمرم
والقسم الثاني ما وافق آخر كلمة في البيت أول كلمة منه كقول الآخر:
سريع الى ابن العم يلطم وجهه ... وليس الى داعي الندى بسريع
والقسم الثالث ما وافق آخر كلمة في البيت بعض كلمة في الصدر منه كقوله:(6/207)
سقى الرمل صوب مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
وقال الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع: «والذي يحسن أن يسمى القسم الأول تصدير التقفيه والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو» . والامثلة على ذلك كثيرة.
الفوائد:
كثر اختلاف المعربين في قوله تعالى «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» والحق انه من معضلات التراكيب وقد اخترنا في الاعراب أمثل الوجوه وأقربها الى المنطق وأدناها الى السهولة، بقيت هناك أمور لا بد من إيضاحها:
موعدا: اختلف فيه على الأوجه التالية:
آ- اسم زمان ويرجحه قوله «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» والمعنى عيّن لنا وقت اجتماع ولذلك أجابهم بقوله: «موعدكم يوم الزينة» .
ب- اسم مكان ويرجحه قوله «مَكاناً سُوىً» والمعنى بيّن لنا مكانا معلوما نعرفه نحن وأنت فتأتيه.
ج- مصدر ميمي بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان وعد ويؤيد هذا قوله «لا نخلفه نحن ولا أنت» لأن المواعدة توصف بالخلف وعدمه وهذا ما اخترناه.
فإن جعلته زمانا لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفا وأن يفضل عليك ناصب مكانا وان جعلته مكانا لزمك أيضا أن توقع(6/208)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
الأخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد ويجعل الضمير في نخلفه للموعد ومكانا بدل من المكان المحذوف.
وجوز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصب مكانا على المفعول الثاني لا جعل قالا وموعدا على هذا مكان أيضا ولا ينتصب بموعدا لأنه مصدر قد وصف يعني أنه يصح مفعولا ثانيا ولكن بشرط أن يكون الموعد بمعنى المكان ليطابق الخبر.
وجعل الحوفي انتصاب مكانا على الظرف وانتصابه باجعل فتحصل في نصب مكانا خمسة أوجه:
1- أنه بدل من مكانا المحذوف.
2- انه مفعول ثان للجعل.
3- انه نصب بإضمار فعل.
4- انه منصوب بنفس المصدر.
5- انه منصوب على الظرف بنفس اجعل.
وانما أوردنا هذه الأقوال لأنها قريبة ولأن استيعابها مفيد للغاية فتدبر.
[سورة طه (20) : الآيات 64 الى 70]
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68)
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70)(6/209)
اللغة:
(فَأَجْمِعُوا) : أي ازمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا كالمسألة المجمع عليها ويقال: اجمعوا الأمر واجمعوا عليه، وفلانة بجمع أي عذراء وضربه بجمع كفه واستجمع لفلان أمره واستجمع السيل واستجمع الفرس جريا قال يصف السراب:
ومستجمع جريا وليس ببارح ... تباريه في ضاحي المتان سواعده
أي مجاريه واستجمع الوادي إذا لم يبق منه موضع إلا سال وعن بعض العرب: الرّمة وفلج لا يستجمعان إنما يسيلان في نواحيهما وأضواحهما، واستجمع القوم ذهبوا كلهم وجمعوا لبني فلان إذا حشدوا لقتالهم «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ» وأجمعت القدر غليا قال امرؤ القيس:
ونحشّ تحت القدر نوقدها ... بغضا الغريف فأجمعت تغلي(6/210)
ومن الكناية: فلانة قد جمعت الثياب أي كبرت لأنها تلبس الدرع والخمار والملحفة.
(فَأَوْجَسَ) : الإيجاس: الإضمار وايجاس الخوف إضمار شيء منه وكذلك توجس الصوت تسمع نبأة يسيرة منه وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية.
(تَلْقَفْ) : تبتلع وأصله التناول بسرعة قال في القاموس: لقف يلقف من باب تعب لقفا والتقف الشيء تناوله بسرعة.
الإعراب:
(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين إلخ فأجمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وأجمعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكيدكم مفعول به إذا اعتبرت أجمعوا متعدية وبعضهم لم يعتبرها متعدية فيكون كيدكم منصوبا بنزع الخافض ثم ائتوا عطف على أجمعوا وصفا حال وانما أمرهم بذلك لإدخال الرهبة في صدور الرائين، وقال أبو عبيدة:
الصف موضع المجمع ويسمى المصلى الصف قال الزجاج: وعلى هذا معناه ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم يقال أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى فعلى هذا يكون انتصابه على المفعولية.
وقد الواو اعتراضية وقد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض واليوم ظرف متعلق بأفلح ومن فاعل أفلح وجملة استعلى صلة. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) إما حرف شرط وتفصيل ومعناها هنا التخيير ولا يكون إلا بعد الطلب، وأن وما بعدها في(6/211)
تأويل مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره اختر أحد الأمرين أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر القاؤك أو مبتدأ والخبر محذوف والتقدير إلقاؤك أول وإما أن تكون عطف على ما تقدم واسم نكون مضمر تقديره نحن وأول خبرها ومن مضاف اليه وجملة ألقى صلة. ويجوز أن تكون ان وما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر أي اختر إلقاءك أولا أو القاءنا. (قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) بل حرف إضراب وعطف وألقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل فإذا الفاء عاطفة على محذوف تقديره فألقوا فإذا وإذا هذه للمفاجأة وقد تقدم أنها حرف أو ظرف ثم اختلف أهو ظرف مكان أو زمان وسننقل قول الزمخشري فهو غاية الغايات قال:
«والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ» ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي» .
وحبالهم مبتدأ وعصيهم عطف عليه وجملة يخيل اليه خبر حبالهم وإذا جعلت إذا خبرا فتكون جملة يخيل إليه حال ومن سحرهم متعلقان بيخيل وأنها وأن واسمها وجملة تسعى خبر أن وأن وما بعدها في تأويل مصدر نائب فاعل ليخيل أي يخيل إليه سعيها وجعل الزمخشري المصدر بدل اشتمال من الضمير في حبالهم وعصيهم. (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الفاء عاطفة وأوجس فعل ماض، وفي نفسه متعلقان بأوجس(6/212)
وخيفة مفعول به وموسى فاعل. (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) قلنا فعل وفاعل وجملة لا تخف مقول القول ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وجملة انك مستأنفة كتعليل للنهي عن الخوف الذي ساوره لطبع البشرية من ضعف القلب وان كان متيقنا من أن الله ناصره وأنهم لن يصلوا اليه بسوء وإن واسمها وأنت تأكيد أو ضمير فصل أو مبتدأ والأعلى خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن وسيأتي الكلام على المبالغة في هذا التعبير في باب البلاغة. (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وألق الواو عاطفة وألق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وما مفعول به وفي يمينك متعلقان بمحذوف صلة ما وسيأتي سر هذا الإبهام في باب البلاغة وتلقف جواب الطلب مجزوم وعلامة جزمه السكون وفاعل تلقف ضمير مستتر تقديره هي وما مفعول به وجملة صنعوا صلة أي ما زوّروه وكذبوا فيه. (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) تعليل لقوله تلقف وإن واسمها وجملة صنعوا صلة وكيد ساحر خبر إن، وقد درج المصحف على كتابة ما متصلة بان، ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد ولا الواو حالية أو عاطفة ولا نافية ويفلح الساحر فعل مضارع وفاعل وحيث ظرف مكان مبني على الضم متعلق بيفلح وجملة أتى مضافة الى الظرف.
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) الفاء عاطفة على جملة محذوفة تقديرها فألقى موسى عصاه فتلقفت كل ما صنعوه فألقي السحرة فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل وسجدا حال من السحرة قالوا فعل وفاعل وجملة آمنا مقول القول وهو فعل وفاعل وبرب هارون وموسى متعلقان بآمنا.(6/213)
البلاغة:
في هذه الآيات فنون من البيان تذهل العقول، فأولها:
1- فن الاستدراج
وقد تقدم القول فيه وهو بالاضافة الى ما فيه من البلاغة ينطوي على نكت دقيقة في استدراج الخصم واضطراره الى الإذعان والتسليم فقد شاء السحرة في بادئ الأمر استدراج موسى ثقة منهم بأنهم فائزون عليه وكأنما ألهمهم الله حسن الأدب مع موسى في تخييره وإعطائه النصفة من أنفسهم عند ما قالوا «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» ففوضوا ضرب الموعد اليه ولكن موسى استدرجهم بإلهام من الله عز وجل أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لسترهم ولما استدرجوه الى التخيير في الإلقاء أيكون هو البادئ أم يكونون هم البادئين استدرجهم هو إلى أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون القاؤه العصا بعد قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق فما أروع هذا الكلام.
2- فن توكيد الضميرين،
وقد تتساءل وما علاقة البحث النحوي بالبلاغة؟ والضمائر وتوكيد بعضها لبعض مذكورة في كتب النحو ونقول ان المسألة أجلّ وأسمى من النحو، والنحاة بمعزل عن هذا الفن الرفيع ونعني بتوكيد الضميرين أن يؤكد المتصل بالمنفصل كقولك إنك أنت أو يؤكد المنفصل بمنفصل مثله كقولك أنت أنت أو يؤكد المتصل بمتصل مثله كقولك إنك إنك لعالم وانما يؤتى بمثل ذلك في معرض المبالغة وهو من أسرار علم البيان ومن ذلك قوله تعالى «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» فإن إرادة السحرة(6/214)
الإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله الى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما نكون ونحن دلّ ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله إن كان قالوا: إما أن تلقي وإما أن نلقي لتكون الجملتان متقابلتين فحيث قالوا عن أنفسهم «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» استدل بهذا القول على رغبتهم في الإلقاء قبله ومنه أيضا قوله تعالى «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» فتوكيد الضميرين هاهنا في قوله إنك أنت الأعلى أنفى للخوف من قلب موسى وأثبت للغلبة والقهر ولو قال: لا تخف إنك الأعلى أنت الأعلى لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف ما لقوله «إنك أنت الأعلى» وفي هذه الكلمات الثلاث ست فوائد:
1- «إن» المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها وتأكيده وقد نص علماء المعاني على أن الخبر يكون مع إن طلبيا أو إنكاريا لا ابتدائيا كقولك زيد قائم ثم تقول: إن زيدا قائم ففي قولك إن زيدا قائم من الإثبات لقيام زيد ما ليس في قولك زيد قائم.
2- تكرير الضمير في قوله «إنك أنت» ولو اقتصر على أحد الضميرين لما كان بهذه المثابة في التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره.
3- لام التعريف في قوله «الأعلى» ولم يقل أعلى أو عال لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره وكان صالحا لكل واحد من جنسه كقولك رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال وإذا قلت الرجل فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علما فيهم وكذلك جاء قوله «إنك أنت الأعلى» أي دون غيرك.(6/215)
4- لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل ولم يقل العالي فهو أعلى من كل عال.
5- لفظ العلو الدال على أن الغلبة ثابتة له من جهة العلو ومعلوم أن الغرض من قوله «الأعلى» الغلبة إلا أن في الأعلى زيادة وهي كونها صادرة عن مكان عال.
6- الاستئناف وهو قوله تعالى: «لا تخف إنك أنت الأعلى» ولم يقل لأنك أنت الأعلى فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة والاستعلاء وأثبت ذلك في قرارة نفسه بما لا يدع أي مجال للشك.
هذا وقد تقدم نوع من هذا الفن وسيرد غيره في حينه ومواضعه ان شاء الله، بقي أن تتحدث عن اختيار موسى يوم الزينة فما هو هذا اليوم؟
يوم الزينة:
قيل فيه يوم عاشوراء، ويوم النيروز، ويوم عيد كان لهم في كل عام وكانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ويظهرون فيه كل بهارجهم إذ يحشر فيه الناس منذ ضحوة النهار حتى المساء.
3- فن الإبهام:
وذلك في قوله «ما في يمينك» فقد أبهمها لأمرين متضادين أولهما استصغار أمرها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيدك فانه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته(6/216)
وكثرتها وصغره وعظمها، وثانيهما تعظيم أمرها أي لا تعبأ بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئا هو أعظم منها كلها فألقها تمحقها وتطح بها بإذن الله، وقد يقول قائل كيف يحتقر العصا؟
والجواب ان المقصود بتحقيرها في جنب القدرة الإلهية تحقير كيد السحرة بطريق الأولى لأنها إذا كانت وهي الحقيرة الضئيلة التي لا يؤبه بها بالنسبة للقدرة الإلهية قد طاحت بما أتوا به من أضاليل مموّهة وأكاذيب مخترعة فما ظنك بكيدهم وأقل شيء يذهب به وهذا معنى دقيق قل من يتفطن له، وقد رمق سماءه شاعر الخلود أبو الطيب المتنبي فقال من قصيدة يمدح بها بدر بن عمار ويذكر الأسد وقد أعجله فضربه بسوطه:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادّخرت الصارم المصقولا؟
والمعنى إذا كنت تلقى هذا الأسد وهو أقوى الحيوانات وأشجعها بسوطك فلمن خبأت صارمك المصقول؟
ولأصحاب البلاغة أيضا طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه وقد رمق سماءه أبو الطيب إذ وصف جيش الروم الذي لاقاه سيف الدولة فبالغ في تعظيم أمره وتصوير عدده البالغة والغاية هي أن يتناهى في تعظيم أمر سيف الدولة وجيشه فقال في وصف جيش الروم:
أتوك يجرون الحديد كأنهم ... سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ... ثيابهم من مثلها والعمائم(6/217)
جعل الروم يبرقون لكثرة ما عليهم من الحديد ولم يفرق بين سيوفهم وبينهم لأن على رءوسهم البيض والمغافر وثيابهم الدروع فهم كالسيوف وأشار بهذا الوصف الى كثرة سلاح هذا الجيش تمهيدا للاشارة الى قوته:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما تفهم الحداث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغشّ ناره ... فلم يبق إلا صارم أو ضبارم
وستأتي تتمة هذا الوصف البديع في موطن آخر من مواطن البلاغة التي رمق أبو الطيب سماء القرآن فيها.
نكتة أخرى في الإبهام:
وهناك نكتة أخرى سوى قصد التعظيم والتحقير وهي أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى عند ما سأله:
وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها فلما دخل وقت الحاجة الى ظهور الآية منها قال تعالى: وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ» وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت(6/218)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
ظهور آيتها وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت في موقف يزايل الوقار أشد النفوس قوة ورباطة.
4- فن التكرير:
وقد تقدم كثيرا بحثه والاشارة اليه وذكر نماذج رائعة منه وسيأتي المزيد والأكثر وهنا في هذه الآيات تكرر لفظ الإلقاء ولكنه تكرر لم يطرد على وتيرة واحدة وانما هو لفظ واحد في معنيين متضادين متناقضين نقل بهما سبحانه عباده من غاية الكفر والعناد، الى نهاية الايمان والسداد فما أعظم الفرق بين الإلقاءين: لقد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود. ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود.
[سورة طه (20) : الآيات 71 الى 76]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)(6/219)
الإعراب:
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة آمنتم مقول القول والقائل هو فرعون وآمنتم الهمزة للاستفهام والتقريع والتوبيخ حذفت الهمزة الأولى وسهلت الثانية وهو فعل ماض وفاعل وله متعلقان بآمنتم وقبل ظرف متعلق بآمنتم أيضا وأن آذن لكم المصدر المؤول مضاف لقبل. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ان واسمها واللام المزحلقة وكبيركم خبرها والذي صفة وجملة علمكم السحر صلة والسحر مفعول به ثان لعلمكم، أي أن موسى لكبيركم أي معلمكم وأستاذكم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري، وقال الواحدي: والكبير في اللغة الرئيس ولهذا يقال للمعلم الكبير، وأراد فرعون من ذلك إلقاء الشبهة على الناس وإدخالها في صدورهم ليستريبوا ولا يؤمنوا وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ولا كان رئيسا لهم ولا صلة بينه وبينهم. (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) الفاء الفصيحة واللام موطئة للقسم وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا وأيديكم مفعول به وأرجلكم عطف على أيديكم ومن خلاف حال بمعنى مختلفة ومن ابتدائية كأن القطع ابتدئ من مخالفة العضو للعضو. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) الواو حرف عطف ولأصلبنكم عطف على لأقطعن(6/220)
وفي الظرفية شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف في الظرف وهو متعلق بأصلبنكم وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة.
(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) ولتعلمن عطف على لأصلبنكم وأينا استفهامية مبتدأ وأشد خبر والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي تعلمن لأن الفعل علق بأي الاستفهامية ويجوز أن تكون أي موصوليه وبنيت لأنها أضيفت وحذف صدر صلتها وقد تقدمت نظائرها كثيرا وعندئذ تكون هي المفعول به لتعلمن وأشد خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو وجملة أشد صلة الموصول وأبقى عطف على أشد.
(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤثرك مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة مقول قولهم وعلى ما متعلقان بنؤثرك وجملة جاءنا صلة ومن البينات متعلقان بمحذوف حال والذي عطف على ما وأخروا ذكر الباري من باب تقديم الأدنى على الأعلى وسيرد بحث التقديم والتأخير في باب البلاغة وقيل الواو للقسم والذي مجرور بواو القسم أي مقسم به وهو الله تعالى وفطرنا صلة والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وجواب القسم محذوف تقديره لا نؤثرك على الذي جاءنا من الحق. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) الفاء الفصيحة واقض فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وما مفعول به وأنت مبتدأ وقاض خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وجملة أنت قاض صلة والعائد محذوف أي قاضيه وانما كافة ومكفوفة على الأرجح وتقضي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول تقضي محذوف تقديره لبانتك أو مأربك وهذه ظرف والحياة بدل والدنيا صفة والظرف متعلق بتقضي ويجوز أن تكون ما(6/221)
موصولة أو مصدرية وهي اسم إن والخبر هو الظرف ويجوز اعراب هذه الحياة الدنيا مفعولا به على السعة. (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ان واسمها وجملة آمنا خبرها وبربنا متعلقان بآمنا واللام للتعليل ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولنا متعلقان بيغفر وما عطف على خطايانا أي ليغفر لنا خطايانا ويغفر لنا أيضا الذي أكرهتنا عليه ولك أن تجعل الواو ابتدائية وما مبتدأ وجملة أكرهتنا صلة والخبر محذوف أي مرفوع عنا وملقى عن كواهلنا وعليه متعلقان بأكرهتنا ومن السحر حال والله مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) إن واسمها ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويأت فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعل يأت مستتر تقديره هو وربه مفعول به والهاء مضاف اليه ومجرما حال من فاعل يأت فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم وجهنم اسمها المتأخر وجملة لا يموت فيها حالية من الهاء في له أو من جهنم وفيها متعلقان بيموت ولا يحيا عطف على يموت. (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) ومن يأته مؤمنا تقدم إعراب نظيرها وجملة قد عمل الصالحات صفة لمؤمنا فأولئك الفاء رابطة وأولئك اسم اشارة مبتدأ ولهم خبر مقدم والدرجات مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك وجملة فأولئك في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من والعلى صفة للدرجات. (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) جنات عدن بدل من الدرجات العلى أو خبر لمبتدأ محذوف وجملة تجري من تحتها الأنهار(6/222)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
صفة لجنات وخالدين فيها حال من «من» وفيها متعلقان بخالدين وذلك مبتدأ وجزاء خبر ومن مضاف اليه وجملة تزكى صلة.
البلاغة:
معنى لأصلبنكم في جذوع النخل:
قوله «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» في الكلام استعارة مكنية تبعية وتقريرها انه شبّه استعلاء المصلوب على الجذع بظرفية المقبور في قبره ثم استعمل في المشبه «في» الموضوعة للمشبه به أعني الظرفية فجرت الاستعارة في الاستعلاء والظرفية وبتبعيتها في على وفي واذن، ففي على بابها من الظرفية وهذا أصح الأقوال فيها وقيل ان في بمعنى على فلا يكون في الكلام استعارة.
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)(6/223)
اللغة:
(يَبَساً) : بفتحتين قال في القاموس: يبس الشيء ييبس من بابي علم وحسب يبسا ويبسا واتّبس كان رطبا فجف فهو يبس ويبس ويابس ويبوس ويبيس وأيبس» وسمع بعض العرب: جمّرت الخبز كي يابس ظهره: جعلت عليه الجمر وقد يبست: إذا ذهب نداها وعود يابس وعيدان يبس والسفينة لا تجري على يبس «طريقا في البحر يبسا» وهي ترعى اليبس واليبيس: ما يبس من النبات فاستعمال العامة للنبات اليبيس ليطبخ في غير أوانه لا غبار عليه ومن المجاز قد يبس ما بينهما: إذا تقاطعا ولا توبس الثرى بيني وبينك قال جرير:
أتغلب أولي حلفة ما ذكرتكم ... بسوء ولكني عتبت على بكر
فلا توبسوا بيني وبينكم الثرى ... فإن الذي بيني وبينكم مثري
(دَرَكاً) : بفتحتين أي أن يدركك فرعون وجنوده والدرك والدرك بفتحتين وبفتح الدال وسكون الراء اللحاق وادراك الحاجة وأقصى قعر الشيء يقال بلغ الغواص درك البحر ويقال فرس درك الطريدة أي يدركها ومنه قولهم: ما لحقك من درك فعليّ خلاصه فاستعمال رجال الدرك صحيح لا غبار عليه.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) الواو عاطفة أو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وأوحينا فعل وفاعل والى موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة وأسر بقطع الهمزة من أسرى فعل(6/224)
أمر مبني على حذف حرف العلة وبعبادي متعلقان بأسر أي سربهم ليلا.
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) فاضرب عطف على أسر أي اجعل، من قولهم ضرب له في ماله سهما وضرب اللبن عمله فقول العامة: ضرب لبنا لا غبار عليه. ولهم متعلقان باضرب أي قائم مقام المفعول الثاني وطريقا مفعول به أول وفي البحر صفة ويبسا صفة ثانية وهو وصف لما يئول اليه كما سيأتي في باب البلاغة أو مصدر وصف به مبالغة كرجل عدل وصدق وجملة لا تخاف حالية من فاعل اضرب أي اضرب غير خائف أو صفة لطريقا والعائد محذوف أي لا تخاف فيه أو هي جملة مستأنفة والأول أظهر ولا نافية وتخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت ودركا مفعول به وجملة ولا تخشى عطف على لا تخاف. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الفاء عاطفة واتبعهم فعل ماض متعد لاثنين حذف ثانيهما والتقدير فأتبعهم فرعون عقابه والهاء هو المفعول الأول وقيل الباء زائدة في المفعول الثاني والتقدير فأتبعهم فرعون جنوده فهو كقوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» واتبع قد جاء متعديا الى اثنين مصرح بهما قال «وَأَتْبَعْناهُمْ ذرياتهم» وقيل هو بمعنى تبع يتعدى لواحد فتكون بجنوده في محل نصب على الحال فغشيهم الفاء عاطفة وغشيهم فعل ماض والهاء مفعوله أي غمرهم وما فاعل وجملة عشيهم صلة وهو من الإبهام وسيأتي الكلام عنه مرة ثانية في باب البلاغة.
(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) الواو عاطفة مع تقديم وتأخير في الكلام لأن إضلاله قومه كان قبل العرق طبعا وأضل فعل ماض وفرعون فاعل وقومه مفعول به وجملة وما هدى عطف على أضل وسيأتي الكلام عن هذا العطف في باب البلاغة والتهكم فيه. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) يا حرف نداء وبني إسرائيل منادى مضاف وقد(6/225)
حرف تحقيق وأنجيناكم فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن عدوكم متعلقان بأنجيناكم. (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) وواعدناكم عطف على أنجيناكم وواعدناكم فعل وفاعل ومفعول به أول وجانب الطور مفعول به ثان على حذف مضاف أي إتيان جانب ولا يكون ظرفا لأنه محدود، والأيمن صفة لجانب ونزلنا عطف على ما قبله لتتمة تعداد النعم الدنيوية والدينية المترادفة عليهم وعليكم متعلقان بنزلنا والمن مفعول به والسلوى عطف على المن وقد تقدم ذكرهما والنداء إما أن يكون لبني إسرائيل بعد انجائهم من البحر وإهلاك فرعون وجنوده وإما أن يكون موجها الى اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، خوطبوا بما أنعم الله به على أجدادهم ومع ذلك كفروا بالنعمة وغمطوها وجحدوها فهم علة العلل في مختلف ظروف الزمان والمكان، وهم أداة تعطيل السلام في كل آن.
(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) كلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن طيبات متعلقان بكلوا وما مفعول به وجملة رزقناكم صلة ولا تطغوا الواو عاطفة ولا ناهية وتطغوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وفيه متعلقان بتطغوا فيحل الفاء السببية ويحل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة لأنه وقع في جواب النهي وعليكم متعلقان بيحل وغضبي فاعل وقيل هو معطوف فيكون نهيا أيضا. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويحلل فعل الشرط وعليه متعلقان بيحلل وغضبي فاعل يحلل والفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وهوى فعل ماض أي هلك والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من على التحقيق. (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة(6/226)
وغفار خبر إن ولمن متعلقان بغفار وجملة تاب صلة وآمن وعمل عطف وصالحا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف أي عمل عملا صالحا ثم اهتدى عطف متأخر باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الاهتداء أو للتفاوت بين المرتبتين فإن الاستمرار في التوبة والايمان والعمل الصالح هو الشرط الاساسي لقبول الأعمال.
البلاغة:
في هذه الآيات أفانين متنوعة من الفنون ندرجها فيما يلي:
1- المجاز المرسل:
وذلك في قوله يبسا لأنه لم يكن حين خاطبه الله تعالى يبسا ولكن باعتبار ما يئول اليه كقوله تعالى «إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) وقد تقدم القول فيه مفصلا.
2- الإبهام:
وذلك في قوله «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» أي علاهم وغمرهم من الأمر الهائل الذي ليس في طوقهم احتماله ما لا يمكن ادراك كنهه ولا سبر غوره وهو من جوامع الكلم التي يقل لفظها ويتشعب القول في معناها.
3- التهكم:
تقدم القول فيه مرارا وهو هنا في قوله «وَما هَدى» والمعروف أن التهكم هو أن يأتي المتكلم بعبارة والمقصود عكس معناها كقوله «إنك لأنت الحليم الرشيد» وغرضهم وصفه بضد هذين الوصفين وأما قوله تعالى «وَما هَدى» فمضمونه هو الواقع فهو حينئذ مجرد(6/227)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
إخبار عن عدم هدايته لقومه فأين التهكم؟ ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا بثبوت الهداية لزيد في نفسه ولكنه يؤخذ عليه انه لم يهد عمرا ولكن فرعون ضال في نفسه بل ان الضلال مركوز في سليقته كامن فيه كمون الطبائع الاصيلة فكيف يتوهم انه يهدي غيره وإذن فهو جمع بين المثلبتين واكتنفه الشر من ناحيتين فحق لمثله وقد صار مهزأة ان يتهكم به ويكون أداة للتهكم.
4- المجاز العقلي:
وفي قوله تعالى «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» فإن لقائل أن يقول ان المواعدة كانت لموسى عليه السلام فكيف أضيفت إليهم، وإيضاح الجواب الدقيق الذي لم أر من وفّاه حقه أنه مجاز عقلي أسند المواعدة إليهم من قبل الله كما تسند الأمور المدركة الى من ليس له ادراك على حد المجاز العقلي وهذا من أسمى ما يصل اليه الأسلوب اللبق تقول لابن صديقك المتعسف المرتطم في حمأة الهوان لقد عرفتكم أهل حجا وتصون، تريد أن تنسب اليه ما هو بعيد عنه بعد الأمور المدركة عن غير العقلاء حين تنسب إليهم على طريق المجاز العقلي.
[سورة طه (20) : الآيات 83 الى 86]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)(6/228)
اللغة:
(عَلى أَثَرِي) : الأثر بقية الشيء والجمع آثار وأثور والخبر وخرج في أثره وإثره: بعده وائتثره وتأثّره تبع اثره والأثر فرند السيف ويكسر كالأثير والجمع أثور.
(السَّامِرِيُّ) : في القاموس: الذي عبد العجل وكان علجا من كرمان أو عظيما من بني إسرائيل ينسب الى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة نسبة الى مقاطعة في فلسطين، قال في المنجد: وهم قوم «يخالفون اليهود في نقاط دينية جوهرية منها أنهم لا يقرون من كتب الوحي إلا أسفار موسى الخمسة المعروفة بالتوراة وانهم يقولون بواجب العبادة لا في أورشليم ولكن على جبل جريزيم جنوبي شكيم» وقال في الخازن «واسمه موسى بن ظفر» .
الإعراب:
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) الواو عطف على محذوف يفهم من السياق والتقدير فسار موسى لحضور الميقات مع قوم مخصوصين وهم السبعون الذين اختارهم موسى من بين قومه ليذهبوا معه الى جبل الطور ليأخذوا التوراة، عجل من بينهم شوقا الى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وخلفهم وراءه فقال له تعالى:
وما أعجلك وسيأتي المزيد عن هذا السؤال في باب البلاغة. وما اسم استفهام مبتدأ وأعجل فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو يعود على ما والكاف مفعول به والجملة خبر ما وعن قومك متعلقان بأعجلك.
(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) هم مبتدأ وأولاء خبر وعلى أثري خبر ثان أو حال وعجلت فعل وفاعل والواو حالية(6/229)
بتقدير قد أو عاطفة وإليك متعلقان بعجلت ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف ولترضى اللام للتعليل وترضى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بعجلت أيضا كأنه تعليل لعجلته. (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) قال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعلم مصير قومك، وان واسمها وجملة قد فتنا خبرها وهي فعل وفاعل وقومك مفعول به وأضلهم السامري فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر. (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) تقدم القول في فاء التعقيب انها قد تتخلف في وقتها دون أن يحدث فاصل فلم يرجع موسى إلا بعد أن استوفى الأربعين يوما وأخذ التوراة، ورجع فعل ماض وموسى فاعل والى قومه متعلقان برجع وغضبان أسفا حالان. (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة، ألم الهمزة للاستفهام الانكاري ويعدكم فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به وربكم فاعل ووعدا مفعول مطلق وحسنا صفة. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف على محذوف وطال فعل ماض وعليكم متعلقان بطال والعهد فاعل وأم حرف عطف معادل للهمزة وأردتم فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أردتم وعليكم متعلقان بيحل وغضب فاعل يحل ومن ربكم صفة لغضب فأخلفتم الفاء حرف عطف وأخلفتم عطف على أردتم وموعدي مفعول أخلفتم.
البلاغة:
الاستفهام من الله تعالى لا يقع لاستدعاء المعرفة ولكنه يخرج عن(6/230)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
معناه الأصلي لأغراض أخر تدرك من سياق الكلام وقد أفاد السؤال هنا أغراضا نوجزها فيما يلي:
آ- لتعريف المسئول بما يجهله من أمور وقد أراد سبحانه تعريفه بفتنة قومه فقد قيل انهم كانوا نحو ستمائة ألف نفس ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا.
ب- تبكيت المسئول وتفهيمه وتنبيهه الى خطل ما جاء به من ترك القوم وافساح المجال للسامري كي يضلهم لأنه مغرق في الضلالة وماهر في الإضلال.
ج- تعليم المسئول آداب السفر وهي: انه ينبغي على رئيس القوم أن يتأخر عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بهم ونافذا فيهم ومهيمنا عليهم، وقاطعا الطريق على كل فتنة قد تتسرب الى صفوفهم.
على أن موسى عليه السلام أغفل هذه الأمور ولعله ملم بها ومطلع عليها ولكن الشوق الى لقاء الله والمسارعة الى ميعاده ألهب قلبه فلم يملك عنان صبره الجامح وذلك شأن الموعود بما طال حنينه اليه يودّ لو امتطى أجنحة الطير واستبق الساعات وهل ثمة ما يلهب الشوق مثل مواعدة الله؟
[سورة طه (20) : الآيات 87 الى 98]
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98)(6/231)
اللغة:
(بِمَلْكِنا) : بقدرتنا مصدر ملك وهو مثلث الميم وفي القاموس وشرحه التاج ملك يملك من باب تعب ملكا وملكا وملكا بفتح الميم وضمها وكسرها وملكة ومملكة بفتح اللام ومملكة بكسرها(6/232)
ومملكة بضمها الشيء احتواه قادرا على التصرف والاستبداد به وملك على القوم: استولى عليهم وملك على فلان أمره استولى عليه وملك نفسه قدر على حبسها وملك المرأة تزوجها.
(أَوْزاراً) : أثقالا وأرادوا بها حلي القبط التي استعاروها منهم وأرادوا بالأوزار انها آثام وتبعات لأنهم استعاروها منهم وليس لهم فيها حق.
(خُوارٌ) : بضم الخاء صوت البقر والعجاجيل وعبر بالجسد مع أنه لا يقال للعاقل: ولأن الجسد لا يقال إلا للانسان تغليبا وتشبيها له بالعاقل كأنه غاير البقر ولا يقال جسد لغير الإنسان إلا للزعفران ويقال جساد بفتح الجيم أيضا وللدم إذا يبس ويقال له جاسد أيضا.
َا بْنَ أُمَّ)
: سيأتي في باب الفوائد.
(فَقَبَضْتُ) : قبض يقبض من باب جلس بيده الشيء وعلى الشيء:
أمسكه بيده وضم عليه أصابعه وقبض يده عن الشيء: امتنع عن إمساكه وقبضه عن الأمر أنحاه وقبضه الله أماته وقبض الشيء: خلاف بسطه ووسعه وقبض الطائر جناحه: جمعه وقبض الدار ونحوها تسلمها وقبض منه المال: أخذه لنفسه وقبض قبضة أخذها ويقال قبص بالصاد المهملة لأنهما تتعاقبان في كثير من الكلمات نورد أهمها فيما يلي:
قال يعقوب بن السكيت: وقضت قبضة وقبصت قبصة ويقال:
إن القبصة أقل من القبضة وقال غيره: القبص بأطراف الأصابع والقبض بالكف كلها ويقال عاد الى ضئضئه وصئصئه أي الى أصله والهمز الأصل وأنشد:(6/233)
أنا من ضئضىء صدق ... بخ ومن أكرم حذل
من عزاني قال به به ... سنخ ذا أكرم أصل
الحذل: الحجر وقال اللحياني: بخ بخ وبه به تقال للانسان إذا عظّم، وقال أبو عمرو: ما ينوض بحاجة وما يقدر على أن ينوص أي يتحرك ومنه قوله عز وجل: «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ» ومناص ومناض واحد ويقال: أنقاص وأنقاض بمعنى واحد وقال الأصمعي:
المنقاض: المنقعر من أصله والمنقاص: المنشقّ طولا وقال أيضا:
مضمض لسانه ومصمص لسانه إذا حركه وقال اللحياني: يقال: إنه لصلّ أصلال وضلّ أضلال والصل الحية التي تقتل إذا نهشت من ساعتها ويقال مصمص إناءه ومضمضه إذا غسله فقول العامة مصمص العظم صحيح لا غبار عليه.
(بَصُرْتُ) : بصر بالشيء بضم الصاد وأبصره بمعنى علمه وهو من باب ظرف ويقال بصر بالكسر من باب علم.
(مِساسَ) : بكسر الميم مصدر ماس وستأتي حقيقة هذا التركيب في باب الإعراب.
الإعراب:
(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) قالوا فعل وفاعل وما نافية وأخلفنا فعل وفاعل وموعدك مفعول به وبملكنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي حال كوننا مالكين أمرنا ولكننا غلبنا على أمرنا من جهة السامري وكيده. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) الواو(6/234)
عاطفة ولكن واسمها وحملنا فعل ماضي بالبناء للمجهول ونا نائب فاعل وأوزارا مفعول به ثان ومن زينة القوم صفة. (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) الفاء عاطفة وقذفناها فعل وفاعل ومفعول وهو معطوف على محذوف أي فقال لنا السامري اقذفوها في النار لأن موسى تأخر عنكم بسببها فقذفناها الفاء حرف عطف وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا وألقى السامري فعل وفاعل. (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ) الفاء عاطفة وأخرج فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على السامري والعطف على فأضلهم السامري لئلا يتوهم أنه من كلامهم ولهم متعلقان بأخرج وعجلا مفعول به وجسدا حال من عجلا ولكن يشكل على هذا الإعراب الذي اختاره عدد من المفسرين أن صاحب الحال لا يكون إلا معرفة ولعل هذا العجل الذي أخرجه السامري من الحفرة التي فيها تراب اثر حافر الرسول الى موسى كما سيأتي صار بحكم المعرفة نقول ولا مانع من إعرابه بدلا من عجلا وجملة له خوار من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر صفة. (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) الفاء حرف عطف وقالوا فعل وفاعل وهذا مبتدأ وإلهكم خبر وإله موسى عطف على إلهكم فنسي الفاء حرف عطف ونسي فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على موسى أي نسي ربه فذهب يطلبه وقيل الضمير يعود على السامري أي ترك ما كان عليه من الايمان الظاهر. (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ولا نافية ويرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأن مخففة من الثقيلة ولا نافية ويرجع فعل مضارع واسم أن المخففة ضمير الشأن أي انه، وفاعل يرجع مضمر تقديره هو يعود على العجل وإليهم متعلقان بيرجع وقولا مفعول به ولهذا ارتفع الفعل بعدها. (وَلَقَدْ(6/235)
قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ)
الواو حرف عطف واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وقال لهم هارون فعل ماض وفاعل ومن قبل متعلقان بمحذوف حال أي قبل رجوع موسى. (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإنما كافة ومكفوفة وفتنتم فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والميم علامة جمع الذكور وبه متعلقان بفتنتم وإن ربكم الرحمن ان واسمها وخبرها والفاء الفصيحة واتبعوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به وأطيعوا أمري عطف على اتبعوني. (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونبرح فعل مضارع ناقص منصوب بلن واسمها ضمير مستتر تقديره نحن وعليه متعلقان بعاكفين وعاكفين خبر نبرح، حتى حرف غاية وجر ويرجع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وإلينا متعلقان بيرجع وموسى فاعل وهذا التعليق الذي جعلوه غاية لعكوفهم أم يكن منهم إلا تسويفا وتعللا ليس من قبيل الوعد بترك عبادته بعد رجوع موسى. (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة منعك خبر وإذ ظرف متعلق بمنعك وجملة رأيتهم مضافة للظرف ورأيتهم فعل وفاعل ومفعول به وجملة ضلوا حالية أو مفعول به ثان لرأيتهم إذا اعتبرتها قلبية. (أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) أن حرف مصدري ونصب ولا مزيدة أي أي شيء منعك من اتباعي في الغضب لله وهلا قاتلت من كفر بمن آمن، والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر وعصيت فعل ماض وفاعل وأمري مفعول به.
الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)
يا ابن أم يا حرف نداء وابن أم اسمان مبنيان على الفتح لتركبهما تركب الأعداد مثل خمسة(6/236)
عشر أو الظروف مثل صباح مساء فعلى هذا ليس ابن مضافا الى أم بل هو مركب معها فحركتهما حركة بناء وقد تقدم تفصيل هذا التركيب في «الأعراف» وعلى كل فهما في محل نصب منادى وانما اقتصر في خطابه على الأم مع أنه شقيقه لأن ذكر الأم أعطف لقلبه، ولا ناهية وتأخذ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وبلحيتي متعلقان بتأخذ ولا برأسي عطف على بلحيتي. قيل كان موسى مجبولا على الحدة والغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون غير الله أن أخذ برأس أخيه وبشعر وجهه يجره إليه. ِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)
ان واسمها وجملة خشيت خبر إن وأن وما في حيزها مفعول خشيت وجملة فرقت مقول القول وبين ظرف مكان متعلق بفرقت وبني إسرائيل مضاف اليه ولم ترقب قولي عطف على فرقت أي وخشيت أن تقول لم ترقب قولي وعلى هذا يكون الضمير في قولي واقعا على موسى، ويجوز عطفها على خشيت فيكون الضمير في قولي واقعا على هارون. (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على موسى والفاء عاطفة أو استئنافية وما استفهامية مبتدأ وخطبك خبر ويا حرف نداء وسامري منادى مفرد علم. (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) جملة بصرت مقول القول وفاعل قال هو أي السامري، وبما متعلقان ببصرت وجملة لم يبصروا به صلة، فقبضت عطف على بصرت وقبضة مفعول به، وهي مصدر مرة من قبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر، ومن أثر صفة لقبضة وأثر مضاف والرسول مضاف اليه على تقدير محذوفين أي من أثر حافر فرس الرسول والمعنى من تربة موطئه، وتفصيل القصة في المطولات وسنلخص لك ما قالوه في باب البلاغة (فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي(6/237)
نَفْسِي)
فنبذتها عطف على قبضت أي ألقيتها، وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم وسولت لي نفسي فعل وفاعل أي زينت لي نفسي.
(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) قال فعل ماض وفاعله يعود على موسى، فاذهب الفاء عاطفة واذهب فعل أمر فاعله أنت، فإن الفاء عاطفة وان حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم وفي الحياة متعلقان بمحذوف حال وأن وما بعدها اسم إن ولا نافية للجنس ومساس اسم لا والخبر محذوف فهو مبني مع لا الجنسية والمراد به النهي أي لا تمسني ولا أمسّك، ومساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل، قال الزمخشري: «عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش وذلك انه منع من مخالطة الناس منعا كليا وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه» . (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) وإن حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم وموعدا اسمها المؤخر ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتخلفه منصوب بلن ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به ثان. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) وانظر الواو عاطفة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإلى إلهك متعلقان بانظر، والذي صفة وجملة ظلت صلة وظلت فعل ماض ناقص، وأصله ظللت بلامين وأولاهما مكسورة حذفت تخفيفا، وعليه متعلقان بعاكفا وعاكفا خبر ظلت، ولنحرقنه اللام موطئة للقسم ونحرقنه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به، ثم حرف عطف لننسفنه مثل نحرقنه وفي اليم متعلقان بننسفنه ونسفا مفعول مطلق.
(إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) إنما كافة(6/238)
ومكفوفة وإلهكم مبتدأ والله خبره والجملة مستأنفة والذي نعت وجملة لا إله إلا هو صلة وقد تقدم اعرابها كثيرا ووسع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وكل شيء مضاف اليه وعلما تمييز من فاعل وسع.
البلاغة:
الإيجاز في هذه الآيات واضح جدا وهو في كل واحدة، لأن تسلسل الحوادث يقتضي تقدير جمل لا بد منها، وقد أشرنا إليها إشارات واضحة تجزئ عن إعادتها ولكننا نورد هنا إيجازا بالحذف ورد في قوله تعالى «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ» فقد حذف المضاف مكررا هنا والتقدير من أثر حافر فرس الرسول وهذا الحذف شائع كثيرا في القرآن كقوله تعالى «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى» وقوله «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» فحذف المضاف الى يأجوج ومأجوج وهو سدهما كما حذف المضاف الى القرية في قوله تعالى: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» أي أهل القرية وقد ورد في الشعر أيضا ومما جاء منه قول الخزيمي يرثي أبا الهندام وهو من شعراء الحماسة:
إذا لاقيت قومي فاسأليهم ... كفى قوما بصاحبهم خبيرا
هل أعفو عن أصول الحق فيهم ... إذا عسرت وأقتطع الصدورا
أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيره فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه. وحذف المضاف أكثر من حذف المضاف اليه ومما جاء من حذف المضاف اليه في القرآن الكريم قوله تعالى «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» أي من قبل الغلب ومن بعده.(6/239)
خلاصة قصة السامري:
هذا وسنخرج عن النطاق الذي ترسمناه في هذا الكتاب وهو نطاق الاعراب واللغة والبيان فنورد لمحة خاطفة عن قصة السامري لعلاقتها بما نحن بصدده تاركين للقارئ مجال الرجوع الى المطولات.
ففي الوقت الذي حل ميعاد الذهاب الى الطور أرسل الله الى موسى جبريل راكبا حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال:
إن لهذا شأنا فقبض قبضة من أثر تربة موطئه فلما سأله موسى عن قصته قال: قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ولعله لم يعرف انه جبريل، وقيل انه كلما وضعت الفرس حافرها على شيء اخضر، فعرف أن للتراب الذي تضع الفرس حافرها عليه شأنا وقيل غير ذلك مما لا تطمئن اليه النفس ويحتاج الى كثير من التمحيص.
الفوائد:
صاحب الحال:
الأصل في صاحب الحال التعريف لأنه محكوم عليه بالحال وحق المحكوم عليه أن يكون معرفة لأن الحكم على المجهول لا يفيد غالبا، ويقع صاحب الحال نكرة بمسوغ يقربه من المعرفة وذلك في المواضع التالية:
1- إذا تقدمت عليه الحال نحو في الدار جالسا رجل، وقول كثير عزة:
لمية موحشا طلل ... يلوح كأنه خلل(6/240)
وفي المغني ان تقديم حال النكرة عليها ليس لأجل تسويغ الحال فيها بل لئلا يلتبس الحال بالصفة.
2- أن يكون صاحبها مخصوصا بوصف كقول الشاعر:
نجيت يا رب نوحا واستجبت له ... في فلك ماخر في اليم مشحونا
فمشحونا حال من فلك لوصفه بماخر.
3- أن يكون صاحبها مخصوصا باضافة كقوله تعالى «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» فسواء حال من أربعة لاختصاصها بالاضافة الى أيام.
4- أن يكون صاحبها مخصوصا بمعمول نحو: عجبت من ضرب أخوك شديدا، فشديدا حال من ضرب لاختصاصه بالعمل في الفاعل وهو أخوك.
5- أن يكون صاحبها مخصوصا بعطف نحو: هؤلاء أناس وعبد الله منطلقين، فمنطلقين حال من أناس لاختصاصه بالعطف عليه وهو عبد الله.
6- أن يكون صاحبها مسبوقا بنفي كقوله تعالى «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ» فجملة ولها كتاب معلوم حال من قرية لكونها مسبوقة بالنفي، وقد مرّ أن الزمخشري يرد هذا القول ويجعل الجملة صفة لقرية وانما توسطت الواو بينهما لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.
7- أن يكون صاحبها مسبوقا بنهي كقول الطرماح:
لا يركنن أحد الى الاحجام ... يوم الوغى متخوفا لحمام(6/241)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
فمتخوفا حال من أحد لأنه مسبوق بالنهي.
8- أن يكون صاحبها مسبوقا باستفهام كقول أحد الطائبين:
يا صاح هل حم عيش باقيا فترى ... لنفسك العذر في إبعادها الأملا
فباقيا حال من عيش لكونه مسبوقا بالاستفهام بهل، وصاح منادى مرخم صاحب على غير قياس وحم بالحاء المهملة بمعنى قدر والإبعاد مصدر أبعد والأمل مفعوله.
هذا وقد يقع صاحب الحال نكرة بلا مسوغ كقولهم عليه مائة بيضا، فبيضا بلفظ الجمع حال من مائة وليس تمييزا خلافا للمبرد لأن تمييز المائة لا يكون جمعا منصوبا ولا مجرورا وهو من أمثلة سيبويه، وفي الحديث: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا ووراءه رجال قياما، فقياما حال من رجال وهو نكرة بلا مسوغ.
[سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)(6/242)
اللغة:
(وِزْراً) : حملا ثقيلا والمراد بها هنا العقوبة الثقيلة المرهقة الباهظة، سماها وزرا تشبيها لها في ثقلها على من يحل به العقاب بالحمل الثقيل ينوء به الكاهل ويرزح الحامل تحت عبئه الفادح.
(زُرْقاً) : جمع أرزق وسبب اختياره لعيونهم القيامة لوجهين:
1- ان الزرقة أبغض شيء من ألوان العيوب الى العرب لأن الروم كانوا أعداءهم وهم زرق العيون ومن أقوالهم في صفة العدو:
«أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين» فأصهب من الصهبة بالصاد المهملة وهي حمرة أو شقرة في الشعر، والسبال: ما على الشارب من الشعر ومقدم اللحية والاثنان مرادان بها هنا وقال بشار في وصف البخيل:
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
وهو من أبيات ممتعة نوردها بكاملها:
ظل اليسار على العباس ممدود ... وقلبه أبدا بالبخل معقود
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنيا وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرهت أن تعطي القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود
أورق بخير ترجّي للنوال فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود
بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكل ما سدّ فقرا فهو محمود(6/243)
2- ان المراد العمى لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق.
(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لما لحقهم من الرعب والهول وفي المختار: خفت الصوت سكن وبابه جلس والمخافتة والتخافت والخفت بوزن السبت: أسرار المنطق.
(أَمْثَلُهُمْ) : أفضلهم وأعدلهم رأيا أو عملا في الحياة الدنيا وجمعه أماثل ومثل ومؤنثه مثلى، وأماثل القوم خيارهم، والطريقة المثلى الشبهى بالحق ويقال المريض اليوم أمثل أي أحسن حالة، وقال امرؤ القيس يصف الليل من معلقته:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
الإعراب:
(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) كذلك: نعت لمصدر محذوف أي كما قصصنا يا محمد هذه القصة ونقص فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنقص ومن أنباء صفة لموصوف محذوف هو مفعول به لنقصّ أي نقصّ نبأ من أنباء، وما مضاف اليه وجملة قد سبق صلة، وقد الواو عاطفة وقد حرف تحقيق وآتيناك فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن لدنا حال لأنه كان صفة لذكرا، وذكرا مفعول به ثان أي قرآنا. (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) من شرطية في محل رفع مبتدأ وأعرض فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو(6/244)
وعنه متعلقان بأعرض والفاء رابطة وان واسمها وجملة يحمل خبرها والفاعل مستتر تقديره هو ويوم القيامة ظرف متعلق بيحمل ووزرا مفعول وجملة من أعرض في محل نصب نعت لذكرا أي قرآنا منطويا مشتملا على هذه القصص يحمل المعرض عنها وزرا كاملا يوم القيامة.
(خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا) خالدين حال وفيه متعلقان بخالدين والضمير يعود للوزر أي في العقاب المتسبب عنه ففي الكلام مجاز كما سيأتي، وساء الواو حالية أو عاطفة وساء فعل ماض من أفعال الذم وقد تقدم كثيرا وفاعله مستتر مميز بنكرة وهو حملا والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم، ولهم متعلقان بقول مقدر أي يقال لهم هذا الكلام، وقيل هي كاللام في هيت لك أي لمجرد البيان فراجع سورة يوسف. ويوم القيامة ظرف متعلق بساء وحملا تمييز. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) الظرف بدل من يوم القيامة وجملة ينفخ مضافة الى الظرف وينفخ فعل مضارع بالبناء للمجهول وفي الصور متعلقان بينفخ، ونحشر الواو عاطفة ونحشر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والمجرمين مفعول به ويوم ظرف أضيف الى ظرف مثله متعلق بنحشر والتنوين في إذ عوض عن جملة وزرقا حال من المجرمين. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) الجملة حال من المجرمين أو مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في ذلك اليوم ويتخافتون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل وبينهم ظرف متعلق بيتخافتون، وإن لبثتم جملة منصوبة بقول دل عليه يتخافتون والقول نصب على الحال أي قائلين في السر، وان نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وعشرا ظرف زمان ذهابا الى الليالي لأن الشهور غررها الليالي فتكون الأيام داخلة تبعا وتخافتهم ناجم عن الرعب الذي داخلهم، فكأن أيام الدنيا لم تكن شيئا مذكورا(6/245)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
فهم يتذكرون أيام السرور التي سنحت لهم في الدنيا كيف مرت عليهم كظل الطائرة.
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) نحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يقولون صلة، وإذ ظرف متعلق بأعلم وجملة يقول مضافة الى الظرف وأمثلهم فاعل وطريقة تمييز وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر ويوما ظرف متعلق بلبثتم.
البلاغة:
المجاز المرسل في قوله «خالِدِينَ فِيهِ» أي في الوزر، والوزر لا يقام فيه ولكن أراد العقاب المتسبب عن الوزر، فالعلاقة فيه السببية.
[سورة طه (20) : الآيات 105 الى 114]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)(6/246)
اللغة:
(قاعاً) : القاع: أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام والجمع أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعة، وقيل هو المنكشف من الأرض، وقيل المستوي الصلب منها، وقيل مالا نبات فيه ولا بناء.
(صَفْصَفاً) : الصفصف: الأرض المستوية الملساء كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة، وفي القاموس: المستوي من الأرض، وقاع صفصف مستو مطمئن فهو بمثابة التأكيد للقاع لأنه بمعناه.
(أَمْتاً) : الأمت هو النتوّ اليسير، يقال مدّ حبله حتى ما فيه أمت وقيل: الأمت هو التل وهو قريب من الأول وقيل الشقوق في الأرض وقيل الآكام وفي القاموس «أمته يأمته قدره وحزره كأمّته وقصده وأجل مأموت مؤقت والأمت المكان المرتفع والتلال الصغار والانخفاض والارتفاع والاختلاف في الشيء والجمع أمات وأموت(6/247)
والضعف والوهن والطريقة الحسنة والعوج والعيب في الفم وفي الثوب والحجر وأن يغلظ مكان ويرق مكان والمؤمّت المملوء والمتهم بالشر ونحوه والخمر حرمت لا أمت فيها أي لا شك في حرمتها» .
(هَمْساً) : الهمس: الصوت الخفي وهو مصدر همست الكلام من باب ضرب إذا أخفيته ومنه الحروف المهموسة وقيل هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت.
(وَعَنَتِ) : في المختار: عنا يعنو من باب سما يسمو سموّا فالألف محذوفة قبل تاء التأنيث لالتقاء الساكنين إذا ذل وخضع ومنه العناة جمع عان وهو الأسير.
(هَضْماً) : الهضم: النقص، تقول العرب: هضمت لزيد من حقه أي نقصت منه، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما، قال امرؤ القيس:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ... عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل
ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى.
الإعراب:
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تعنتهم وإصرارهم على الجدل والمكابرة والاستهزاء، ويسألونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به، فقل الفاء عاطفة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة ينسفها مقول القول والهاء مفعول به مقدم وربي(6/248)
فاعل مؤخر ونسفا مفعول مطلق. (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) الفاء عاطفة ويذرها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى والهاء مفعول به وقاعا لك أن تعربها حالا من الضمير المنصوب أو مفعولا به ثانيا لتضمين يذر معنى التصيير، وصفصفا حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وأعربها بعضهم صفة له. (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الجملة حال ثالثة أو حال أولى ولا نافية وترى فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وفيها متعلقان بتري وعوجا مفعول به ولا أمتا عطف. وسيأتي مزيد من التقرير حول هذه الآية في باب البلاغة.
(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الظرف متعلق بيتبعون أو بدل من يوم القيامة المتقدم وقد تقدم تقرير اضافة يوم الى الظرف ويتبعون الداعي فعل مضارع وفاعل ومفعول به ولا نافية للجنس وعوج اسمها مبني على الفتح وله خبرها وجملة لا عوج له حال من الداعي أو صفة لمصدر محذوف أي يتبعونه اتباعا لا عوج له ويجوز أن تكون مستأنفة والأول أظهر لأن الضمير في له يعود عليه أي لا عوج لدعائه بل يسمع جميعهم فلا يميل الى أناس دون أناس. (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) الواو عاطفة وخشعت الأصوات فعل وفاعل وللرحمن متعلقان بخشعت والفاء عاطفة ولا نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر وهمسا مفعول به لأن الاستثناء مفرغ. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) الظرف متعلق بتنفع وإذ مضاف ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل، وإلا أداة حصر ومن يجوز فيه أن يكون مفعولا لتنفع وعندئذ تكون من واقعة على المشفوع ويجوز أن يكون بدلا من الشفاعة على قاعدة المستثنى المنفي أو النصب على الاستثناء المتصل من الشفاعة ولا بد في هذين الوجهين من تقدير مضاف تقديره إلا شفاعة من أذن له وإذا(6/249)
اعتبر مستثنى منقطعا وجب نصبه فتلخص فيه أربعة أوجه متقاربة الرجحان ورجح الزمخشري الرفع على البدلية وتبعه القاضي البيضاوي.
وجملة أذن له الرحمن صلة ورضي له قولا عطف على أذن له ورجح أبو البقاء النصب على المفعولية. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) الجملة استئنافية مسوقة لتقرير علمه تعالى ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلهم، ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيديهم مضافة لبين، وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم، ولا يحيطون لك أن تجعل الواو عاطفة ولك أن تجعلها حالية، ويحيطون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وبه متعلقان بيحيطون وعلما مفعول به. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) وعنت الوجوه فعل وفاعل وللحي متعلقان بعنت والقيوم صفة، وسيأتي المراد بالوجوه في باب البلاغة والواو حالية وجملة وقد خاب حالية ومن فاعل خاب وجملة حمل ظلما صلة. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) الواو عاطفة على وقد خاب، ومن شرطية مبتدأ ويعمل فعل الشرط ومن الصالحات صفة لمفعول به محذوف أي ومن يعمل أعمالا من الصالحات والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية ويخاف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وظلما مفعول به ولا هضما عطف على ظلما وجملة لا يخاف خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهو لا يخاف، وجملة فهو لا يخاف في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الكاف صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الانزال أنزلناه وقرآنا حال وعربيا صفة. (وَصَرَّفْنا فِيهِ(6/250)
مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)
وصرفنا فعل وفاعل وفيه متعلقان بصرفنا ومن الوعيد صفة لمفعول محذوف أي صرفنا وعيدا من الوعيد، ولعل واسمها وجملة يتقون خبرها وأو حرف عطف ويحدث عطف على يتقون ولهم متعلقان بيحدث وذكرا مفعول به، وفاعل يحدث هو أي القرآن. (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) الفاء استئنافية وتعالى الله فعل ماض وفاعل والملك الحق صفتان لله ولا تعجل الواو عاطفة ولا ناهية وتعجل فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وبالقرآن متعلقان بتعجل ومن قبل متعلقان بتعجل وأن يقضى المصدر المؤول مضاف لقبل وإليك متعلقان بيقضى ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول ووحيه نائب فاعل، وقل عطف على لا تعجل ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وزدني فعل أمر والنون للوقاية والياء مفعول به أول وعلما مفعول به ثان أو تمييز.
البلاغة:
في قوله تعالى: «لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» فن طريف يذهل العقول، ويسكر العواطف، ولا يكاد يدركه إلا من أودع الله فيهم سر البيان، وارتاضوا بالمعاناة والدربة على إدراك النكت التي تعز على من رامها وتطول، وهذا الفن سموه فن «التنكيت» وحدّه أن يخص المتكلم شيئا بالذكر دون غيره مما يسد مسده وما يقتضيه ظاهر الكلام لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه، وهو كثير في القرآن الكريم وسيرد في مواطنه، أما في هذه الآية فقد تقدم في الكهف أن أهل اللغة فرقوا بين العوج والعوج فقالوا: العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان ولذلك قال في الكهف «الحمد لله الذي(6/251)
أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجا» أما في هذه الآية فالأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين؟ أوليس مقتضى اللغة يوجب أن يستعمل العوج بالفتح؟ وهنا يأتي هذا الفن ليسبر غور هذه النكتة التي تدق على النظرة السطحية الأولى، ولا تقف عند التقارير اللغوية، فنقول:
إن اختيار العوج بالكسر في الآية له موضع حسن بديع في استواء الأرض ووصفها بالملاسة وانتفاء الاعوجاج عنها على أبلغ وجه، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة من الأرض فسويتها وبالغت في تسويتها على عينك وعلى عيون البصراء بالأراضي واتفقتم بالإجماع على انه لم يبق فيها اعوجاج قط ثم عمدت الى المهندس تستطلع رأيه لا بحسب الحدس والتخمين والنظر المجرد بل بحسب المقاييس الهندسية المبنية على العلم الدقيق لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي الذي لا يضل ولا يعزب عنه القليل النادر.
فنفى الله سبحانه ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك والفهم أللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الاحساس ولحق بالمعاني وسما عن الأعيان فقيل فيه عوج بالكسر.
وقد مرّ معنا وسيمر في هذا الكتاب نماذج رائعة لهذا التنكيت الذي ظهر لك في هذه الآية الكريمة مما لا يدركه إلا الحذاق الملهمون، فلنرجئ القول فيها وسنعرض الآن على ناظريك نماذج من الشعر الجميل التي اشتملت على نكتة بارعة لتكون لك معالم صبح تحتذيها، فمن ذلك قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره لكل غروب شمس(6/252)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
وقد سئل الأصمعي عن قولها هذا: لم اختصت فيه طلوع الشمس وغروبها دون أثناء النهار؟ فقال لأن طلوع الشمس وقت الركوب الى الغارات وغروب الشمس وقت قرى الضيفان.
ومنه قول الحسن بن هانئ، أبي نواس:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فقال «وقل لي هي الخمر» وذلك لأن الحواس الأربع قد التذت حين شربها وبقيت حاسة وحدة لم تستكمل لذتها وهي حاسة السمع فقال «وقل لي هي الخمر» ليسمع ذلك فتكمل له اللذة بجميع حواسه.
ونكتفي الآن بما تقدم ولنا عودة الى هذا الفن الجميل.
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 123]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123)(6/253)
اللغة:
(تَضْحى) : ينتابك حر الشمس في الضحى وفي القاموس:
«وضحا يضحو كغزا يغزو ضحوا برز للشمس وكسعى ورضي ضحوا وضحيا أصابته الشمس» .
(وسوس) : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ووعوعة الذئب في أنها حكايات للأصوات، وسنتحدث عن أسماء الأصوات وحكاياتها في باب الفوائد، وجاء في القاموس: «وسوس وسواسا ووسوسة الشيطان له وإليه حدثه بشر أو بما لا نفع فيه ولا خير ووسوس الرجل:
أصيب في عقله وتكلم بغير نظام وأصابته الوساوس فهو موسوس وتكلم بكلام خفي، والوسواس صوت الحلي، ووسوس الرجل كلمه كلاما خفيا، ووسوس به بالبناء للمجهول اختلط كلامه ودهش، والوسواس الاسم من وسوس، والوسواس الشيطان، والوسواس مرض يحدث من غلبة السوداء ويختلط معه الذهن ويقال لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه وسواس وجمعه وساوس.(6/254)
(سَوْآتُهُما) : عوراتهما وقد تقدمت.
(يَخْصِفانِ) : أي يلزقان من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان ورق الشجر بعضه ببعض حتى يصير عريضا صالحا للاستتار.
(اجْتَباهُ) : اصطفاه وقربه من جبى إلي كذا فاجتبيته فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره.
الإعراب:
(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير مساوئ النسيان الذي هو صنو الجهل وقرينه ولذلك يجب التحوط منه والدعاء دائما بقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» . واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعهدنا فعل وفاعل والى آدم جار ومجرور متعلقان بعهدنا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال، فنسي عطف على عهد أي نسي ما أمرناه به أي أن النسيان أمر مركوز في طباع بني آدم، ولم نجد: الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم والفاعل مستتر تقديره نحن وعزما مفعول به. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) الظرف متعلق باذكر مقدرا أي واذكر وقت ما جرى على آدم من معاداة إبليس ووسوسته له وتزيينه له الأكل من الشجرة ومبادرة آدم بالطاعة له بعد ما سلف من النصيحة البالغة والتحذير من الشيطان ومكره وأحابيله. وقد تقدم اعراب الآية كثيرا فلا حاجة الى الاعادة، ولا تنس اختلاف العلماء في اتصال الاستثناء وانقطاعه. وجملة أبى حالية. (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) الفاء عاطفة وقلنا فعل وفاعل ويا آدم نداء وجملة إن(6/255)
مقول القول وهذا اسم ان وعدو خبرها ولك صفة لعدو ولزوجك عطف على لك. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) الفاء عاطفة ولا ناهية ويخرجنكما فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به والفاعل مستتر وهو إبليس والميم والألف للتثنية، فتشقى الفاء فاء السببية وتشقى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره أنت وأسند فعل الشقاء الى آدم وحده لأن شقاء زوجه منوط بشقائه كما أن سعادتها منوطة بسعادته فاختصر الكلام مع المحافظة على الفاصلة. (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) إن حرف مشبه بالفعل ولك خبر مقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وفيها متعلقان بتجوع ولا تعرى عطف على لا تجوع. (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) عطف على سابقتها وسيأتي كلام بديع حول فصل الجوع عن الظمأ والعري عن الضحو والسر البياني الذي تتقطع دونه الأعناق في باب البلاغة. بقيت هناك مشكلة وهي عطف أنك على أن لا تجوع فكأنها اسم لإن بالكسر وهذا ممتنع فلا يقال: إن أن زيدا منطلق ولكن لما فصل هنا بينهما جاز فتقول: إن عندي أن زيدا قائم، فعندي هو الخبر قدم على الاسم وهو ان وما في حيزها لكونه ظرفا.
والآية من هذا القبيل، ورأى الزمخشري رأيا آخر فقال «فإن قلت:
إن لا تدخل على أن فلا يقال إن أن زيدا منطلق، والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها، فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إن، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة كأن لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إن وأن» .
قال ابن هشام في صدد الحديث عن المواضع التي يجوز فيها كسر همزة إن وفتحها: السادس أن تقع بعد واو مسبوقة بمفرد صالح(6/256)
للعطف عليه نحو إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى، قرأ نافع وأبو بكر بالكسر في «وانك لا تظمأ» إما على الاستئناف فتكون جملة منقطعة عما قبلها أو بالعطف على جملة إن الأولى وهي إن لك أن لا تجوع وعليهما فلا محل لها من الإعراب وقرأ الباقون من السبعة بالعطف على أن لا تجوع من عطف المفرد على مثله والتقدير ان لك عدم الجوع وعدم الظمأ» .
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فوسوس الفاء عاطفة ووسوس فعل ماض واليه متعلقان بوسوس والشيطان فاعل، قال يا آدم فعل ماض ونداء وهل حرف استفهام وأدلك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى شجرة الخلد متعلقان بأدلك وملك عطف على شجرة وجملة لا يبلى صفة لملك. (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فأكلا فعل ماض والألف فاعل ومنها متعلقان بأكلا فبدت عطف على أكلا ولهما متعلقان ببدت وسوءاتهما فاعل، وطفقا فعل ماض من أفعال الشروع العاملة عمل كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا والالف اسمها وجملة يخصفان خبر طفقا وعليهما متعلقان بيخصفان ومن ورق الجنة صفة لموصوف محذوف هو المفعول به أي ورقا من ورق الجنة قيل هو التين والأولى أن يكون عاما ليشمل جميع أوراق الأشجار، وعصى آدم ربه فعل وفاعل ومفعول به، فغوى عطف على عصى. (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ثم حرف عطف واجتباه فعل ومفعول به وربه فاعل فتاب عليه عطف على اجتباه وهدى عطف على تاب. (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) اهبطا فعل أمر مبني على حذف النون والألف فاعل ومنها متعلقان(6/257)
باهبطا وجميعا حال وبعضكم مبتدأ ولبعض حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبر وجملة بعضكم لبعض عدو في محل نصب على الحال.
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) الفاء عاطفة وإن شرطية وما زائدة ويأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به ومني متعلقان بيأتينكم وهدى فاعل يأتينكم، فمن اتبع الفاء رابطة ومن شرطية مبتدأ واتبع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهداي مفعول به والفاء رابطة للجواب وجملة لا يضل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة من اتبع في محل جزم جواب إن.
البلاغة:
في قوله تعالى «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» فن بديع يسمى قطع النظير عن النظير وذلك انه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلّا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. ويسميه بعض علماء البيان «فن التوهيم» وقد سبقت الاشارة اليه وهو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها وهو يريد غير ذلك، ومنها أن يأتي في ظاهر الكلام ما يوهم أن فيه لحنا خارجا عن اللسان، ومنها ما يأتي ظاهره يوهم أن الكلام قد قلب عن وجهه لغير فائدة، ومنها ما يأتي دالا على أن ظاهر الكلام فاسد المعنى وهو صحيح.
وهذه الآية من القسم الذي يوهم ظاهره أن نظم الكلام جاء على غير طريق البلاغة لكون لفظه غير مؤتلف بمعناه لما ترى في الألفاظ من(6/258)
عدم ملاءمة، وإذا تأمله المتأمل حق التأمل وجده جاريا على منهج البلاغة بحيث لو جاء على ما توهمه المعترض لكان النظم معيبا. وفي الآية يقول المتوهم لو قيل لا تجوع ولا تظمأ ولا تضحى ولا تعرى لكان ذلك جاريا على ما توجبه البلاغة من الملاءمة والجواب ان مجيئها على ما توهمه المتوهم يفسد معنى النظم لأنه لو قيل: ان لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ لوجب أن يقول وانك لا تعرى فيها ولا تضحى، والتضحي البروز للشمس بغير سترة. قال الهذلي وقيل للمجنون كما في أمالي القالي:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... مجردة تضحى لديك وتخصر
أي تلقى الشمس الضاحية مجردة فينال منها حرها وتلقى برد الليل مجردة فينال منها برده فهي معذبة ليلها ونهارها وإذا كان التضحي البروز للشمس بغير سترة كان معناه التعري فيصير معنى الكلام:
وانك لا تعرى فيها ولا تعرى وهذا فساد ظاهر، ولما كان هذا الفساد لازما للنظم على الوجه الذي توهمه المتوهّم وجب العدول عنه الى لفظ القرآن وهو أن يضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوعة وستر العورة اللذين تدعو إليهما ضرورة الحياة وتطلبهما طبيعة الإنسان بالجبلّة، ولما كان الجوع مقدّما على العطش كتقديم الأكل على الشراب أوجبت البلاغة تأخر ذكر الظمأ عن الجوع وتقديمه على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع، ويتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع فإن قيل: لم ذكر التضحي وهو عري في المعنى وقد أغنى ذكر العري؟ قلت: في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها كما قال سبحانه:
«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» فإن التضحي عري مخصوص(6/259)
مشروط بالبروز الى الشمس وقت الضحى لذلك سمي تضحيا والانتقال من الأعم الى الأخص بلاغة لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم وقال العز بن عبد السلام في الأمالي: كان المناسب من طريق المجاز أن لا تجوع ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى للجمع بين المتماثلين فلم عدل عن هذا؟ والجواب: ان في الآية جناسا خيرا من هذا وذلك أن الجوع تجرد الباطن من الغذاء والعري تجرد الظاهر من الغشاء فجانس في الآية بين التجردين وكذلك الظمأ حر الباطن والضحى وهو الظهور للشمس حرّ الظاهر فجانس بالجمع بين الحرّين.
وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال أبو الطيب المتنبي:
وفقت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
يحكى انه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
فلما بلغ الى هذين البيتين قال سيف الدولة: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله:(6/260)
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم اسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس وكان ينبغي لك أن تقول:
وفقت وما في الموت شك لواقف ... ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال المتنبي إن صحّ أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس واخطأت انا، ومولاي يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف تفاصيله، وانما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت «ووجهك وضاح وثغرك باسم» لأجمع بين الأضداد.
على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر وهو أنه قصد تناسب الفواصل ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رؤوس الآي وأحسن به منتظما.(6/261)
الفوائد:
أسماء الأصوات:
وعدناك ببحث أسماء الأصوات ونرى أن نتوسع فيها قليلا لأن كتب النحو قلّما تهتم لها. فهي تجري مجرى أسماء الافعال لأنها متواخية معها وهي مبنية وتنقسم الى قسمين:
آ- ما خوطب به مالا يعقل مما يشبه اسم الفعل في الاكتفاء به، ولكن اسم الفعل مركب واسم الصوت مفرد لعدم تحمله الضمير كقولهم في دعاء الإبل لتشرب: جىء جىء بكسر الجيم فيهما مكررين مهموزين، وفي المحكم انهما أمر للابل بورود الماء يقال جأجأت الإبل إذا دعوتها لتشرب فقلت جىء جىء نقله الجوهري عن الاموي، وكقولهم في دعاء الضأن حاحا وفي دعاء المعز عاعا غير مهموزين والفعل منهما حاحيت وعاعيت، قال سيبويه وأبدلوا الألف من الياء لشبهها بها لأن قولك حاحيت انما هو صوت بنيت منه فعلا وليست فاعلت وكقولهم في زجر البغل:
عدس ما لعباد عليك إمارة ... أمنت وهذا تحملين طليق
فعدس صوت يزجر به البغل وقد يسمى البغل به والتقدير على التسمية به يا عدس فحذف حرف النداء. وإمارة بكسر الهمزة أي حكم.
ب- ما حكي به صوت مسموع، والمحكي صوته قسمان حيوان وغيره: فالأول كغاق بالغين المعجمة والقاف لصوت الغراب، والثاني نحو طاق حكاية لصوت الضرب وطق بفتح الطاء حكاية لصوت(6/262)
وقع الحجارة بعضها على بعض. هذا وسيرد المزيد من بحث أسماء الأصوات في هذا الكتاب.
نبذة من أسماء الأصوات:
وفيما يلي طائفة مختارة من أسماء الأصوات:
الصرير صوت القلم والسرير والباب والطست والنعل، والنشيش صوت غليان القدر والشراب، الرنين: صوت الثكلى والقوس، القصيف: صوت الرعد والبحر، وهدير الفحل، النقيق صوت الدجاج والضفدع، القعقعة: صوت السلاح والجلد اليابس والقرطاس، الغرغرة: صوت غليان القدر وتردد النفس في صدر المحتضر، العجيج:
صوت الرعد والنساء والشاء، الزفير: صوت النار والحمار والمكروب إذا امتلأ صدره غما فزفر به، الخشخشة والشخشخة: صوت حركة القرطاس والثوب الجديد والدرع، الجلجلة: صوت السبع والرعد وحركة الجلاجل، الحفيف: صوت حركة الأغصان وجناح الطائر وحركة الحية، الصليل والصلصلة: صوت الحديد واللجام والسيف والدراهم والمسامير، الطنين: صوت البعوض والذباب والطنبور، الأطيط: صوت الناقة والمحمل والرجل إذا أثقله ما عليه، الصرصرة:
صوت البازي والبط، الدوي: صوت النحل والأذن والمطر والرعد، الانقاض: صوت الدجاجة والفروج، التغريد صوت المغني والحادي والطائر وكل صائت طرب الصوت فهو غرد، الزمزمة والزهزمة:
صوت الرعد ولهب النار وحكاية صوت المجوسي إذا تكلف الكلام وهو مطبق فمه.(6/263)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
[سورة طه (20) : الآيات 124 الى 135]
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128)
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)(6/264)
اللغة:
(ضَنْكاً) : بالتنوين مصدر بمعنى ضيقة ولهذا لم يؤنث بأن يقال ضنكة على حد القاعدة التي ذكرها صاحب الخلاصة:
ونعتوا بمصدر كثيرا ... فالتزموا الإفراد أو التذكيرا
وفي القاموس: «الضنك الضيق في كل شيء للذكر والأنثى يقال ضنك ككرم ضنكا وضناكة وضنوكة ضاق» وقرئ ضنكى على فعلى.
(يَهْدِ لَهُمْ) : أي يهتدي لهم فهو لازم ومعناه يتبين.
(آناءِ اللَّيْلِ) : جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى بكسر الميم.
وفي المختار: آناء الليل ساعاته، قال الأخفش واحدها إنى مثل معى وقيل واحدها أني وأنو، يقال مضى من الليل أنوان وانيان.
(مُتَرَبِّصٌ) : منتظر ما يئول اليه الأمر.
الإعراب:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الواو عاطفة على جواب الشرط المتقدم وهو «فمن اتبع هداي» ومن اسم شرط جازم مبتدأ وأعرض فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعن ذكري متعلقان بأعرض، فإن الفاء رابطة للجواب لأنه(6/265)
جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم ومعيشة اسمها المؤخر وضنكا صفة والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ونحشره الواو استئنافية ونحشر فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق بنحشره وأعمى حال من الهاء في نحشره وقد قرئ بالجزم عطفا على محل «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً» .
(قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ولم اللام حرف جر وما الاستفهامية في محل جر باللام وقد حذفت ألف ما الاستفهامية كما هي القاعدة والجار والمجرور متعلقان بحشرتني، وحشرتني فعل وفاعل ومفعول به وأعمى حال والواو للحال وقد حرف تحقيق وكنت: كان واسمها وبصيرا خبر كنت.
(قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) كذلك نعت لمصدر محذوف أي حشرا مثل ذلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وأتتك آياتي فعل وو مفعول به مقدم وفاعل مؤخر، فنسيتها الفاء عاطفة ونسيتها فعل وفاعل ومفعول به، وكذلك نعت لمصدر محذوف واليوم ظرف متعلق بتنسى. (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومن موصول مفعول به وجملة أسرف صلة، ولم يؤمن عطف على أسرف فهو داخل في حيز الصلة وبآيات متعلقان بيؤمن وربه مضاف إليه، ولعذاب: الواو حالية أو عاطفة واللام للابتداء وعذاب مبتدأ والآخرة مضاف إليه وأشد خبر وأبقى عطف على أشد. (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) الهمزة للاستفهام وهي داخلة على محذوف عطف عليه بالفاء وقد تقدم تقريره كثيرا وأعدناه الآن للتذكير والتقدير أغفلوا فلم(6/266)
يتبين لهم، وفاعل يهد المصدر المفهوم من أهلكنا أي أفلم يتبين لهم إهلاكنا ويحتمل أن يكون فاعل يهد ضميرا عائدا على الله تعالى أي يبين الله والأول أولى لأن يهدي معناه يتبين فهو لازم فالفاعل هو الجملة المنسبكة مصدرا لأهلكنا. وقد أنكر البصريون وقوع الجملة فاعلا وجوزه غيرهم قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم، قال النحاس: وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها وقال الزجاج: المعنى أولم يهد لهم الأمر باهلاكنا من أهلكناه وحقيقته تدل على الهدى فالفاعل هو الهدى. ولهم متعلقان بيهد وكم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا ومن القرون نعت لتمييزكم الخبرية أي كم قرن من القرون والمراد الأمة، وجملة يمشون في مساكنهم حال من مفعول أهلكنا أو من الضمير في لهم وفي مساكنهم متعلقان بيمشون والضمير يعود على المهلكين بفتح اللام يريد أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم وفيها ما يدعوا الى العبرة والاتعاظ، وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المعنى كما سيأتي في باب البلاغة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر، ولأولي صفة لآيات والنهى مضاف اليه وهي جمع نهية بمعنى العقل.
(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت من ربك صفة لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت، لكان اللام واقعة في جواب لولا وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على الإهلاك ولزاما خبرها، وأجل مسمى عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى لكان الإهلاك لازما لهم ويجوز كما يرى الزمخشري وأبو البقاء أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في «كان» أي لكان الإهلاك العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ومن العجيب ان معظم المفسرين كالجلال والبيضاوي وغيرهما جروا على هذا الوجه رغم(6/267)
ما فيه من تكلف وقالوا: ان الفصل بالخبر قام مقام التأكيد لأنه كان من حق العطف أن يؤكد الضمير المستتر في كان بالضمير المنفصل فكان يقال هو لزاما وأجل مسمى ولا داعي لكل هذا التكلف وعطفه على كلمة أسهل وأسرع في تأدية المعنى المراد. (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس باهمال بل امهال وهو واقع بهم وآت عليهم فاصبر. واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى ما متعلقان باصبر وجملة يقولون صلة وسبح عطف على اصبر وبحمد ربك في موضع نصب على الحال أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه وسيأتي المراد بالصبر في باب الفوائد. وقبل متعلق بسبح وطلوع الشمس مضاف وقبل غروبها عطف على قبل طلوع الشمس. (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) الجار والمجرور متعلقان بسبح والفاء هي الفصيحة أيضا وسبح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأطراف النهار نصب عطفا على محل «ومن آناء» المنصوب ويجوز عطفه على قبل طلوع الشمس ولعل حرف ترج ونصب والكاف اسمها وجملة ترضى خبرها ومتعلق نرضى محذوف مفهوم من السياق أي بما تعطاه من الثواب وجملة لعلك ترضى حالية من فاعل سبح أي صل حال كونك راجيا في أن الله تعالى يرضيك بما يعطيكه من الثواب. (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد وهو في محل جزم بلا وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وعينيك مفعول به والى ما متعلقان بتمدن وجملة متعنا صلة وبه متعلقان بمتعنا والهاء هي العائد وأزواجا مفعول متعنا أي أصنافا منهم ومنهم صفة ويجوز أن يعرب(6/268)
نصبا على الحال من هاء الضمير فيكون منهم متعلقا بمتعنا وزهرة الحياة الدنيا توسع المعربون في اعرابها فأوصلوا أوجه نصبها الى تسعة وقد محصناها فرأيناها كلها سائغة ولهذا نعرضها كما ذكروها لنتوصل إلى الترجيح:
1- أن تكون مفعولا ثانيا إذا أعربنا أزواجا هو المفعول الاول لأن معنى متعنا أعطينا.
2- أن تكون منصوبة على الحال من ما الموصولة.
3- أن تكون منصوبة على البدلية من أزواجا على المبالغة كأنهم نفس الزهرة.
4- أن تكون منصوبة بفعل مضمر دل عليه متّعنا تقديره جعلنا لهم زهرة.
5- أن تكون منصوبة على الذم أي أذم زهرة الحياة الدنيا.
6- أن تكون منصوبة على الاختصاص.
7- أن تكون منصوبة على البدلية من محل «به» .
8- أن تكون منصوبة على الحال من الضمير في «به» .
9- أن تكون منصوبة على التمييز ل «ما» أو للهاء في «به» .
ومن تمحيص هذه الوجوه ومراعاة جانب السهولة يتبين أن نصب زهرة يترجح في نصبها على الذم أو المفعولية على تضمين متعنا معنى أعطينا وبهما بدأ الزمخشري وغيره.
ولنفتنهم اللام للتعليل ونفتنهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد(6/269)
لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بمتعناهم والهاء مفعول به وفيه متعلقان بنفتنهم. (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) الواو للحال ورزق ربك مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) وأمر الواو استئنافية أو عاطفة وأمر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأهلك مفعول به وبالصلاة متعلقان بفعل الأمر واصطبر فعل أمر وفاعله مستتر وتقديره أنت وعليها متعلقان باصطبر وجملة لا نسألك استئنافية ونسألك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ورزقا مفعول به ثان. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) نحن مبتدأ وجملة نرزقك خبر والعاقبة مبتدأ وللتقوى خبر وهاتان الجملتان مستأنفتان أيضا. (وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) لولا حرف تحضيض أي هلا ويأتينا فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبآية متعلقان بيأتينا ومن ربه متعلقان بمحذوف صفة لآية، اقترحوا جريا على دينهم المعروف وعادتهم في التعنت واللجاج، أولم الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق والتقدير ألم تأتهم البينات تترى ولم تأتهم بصورة خاصة بينة ما في الصحف الأولى، وبينة فاعل لتأتهم وما موصول مضاف لبينة وفي الصحف متعلقان بمحذوف صلة الموصول والأولى صفة للصحف وفيها ما يكفي المنصف أما المكابر المتعنت فهيهات أن يقنعه شيء. (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا) تقدم اعراب مثل هذا التركيب أي لو ثبت إهلاكنا، فأنا وما بعدها فاعل لفعل محذوف والجملة مستأنفة سيقت لدعيم ما تقرر من تعنتهم وصلفهم ومجادلتهم وبعذاب متعلقان بأهلكناهم ومن قبله صفة لعذاب. لقالوا: جواب لو والجملة لا محل لها وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ولولا حرف تحضيض(6/270)
وأرسلت فعل وفاعل وإلينا متعلقان بأرسلت ورسولا مفعول به والجملة مقول القول. (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) فنتبع الفاء هي السببية وتنبع منصوب بأن مضمرة في جواب التحضيض والفاعل مستتر تقديره نحن وآياتك مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم ومن قبل متعلقان بنتبع وان وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لقبل ونخزى عطف على نذل. (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) كل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ومتربص خبر والجملة مقول القول والفاء الفصيحة وتربصوا فعل أمر، فستعلمون الفاء استئنافية والسين حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومن اسم استفهامية مبتدأ وأصحاب الصراط السوي خبر ومن اهتدى عطف على من أصحاب والجملة من أصحاب مفعول تعلمون المعلقة عن العمل ويجوز أن تكون من موصولة مفعول تعلمون وأصحاب الصراط خبر لمبتدأ محذوف أي هم أصحاب.
البلاغة:
1- المجاز المرسل فقد ذكر القرون وأراد الأمم التي تعيش عبرها والاعتبار بآثار الأمم البائدة، والقرون الخالية، كان مثارا لأخيلة الشعراء وخاصة في مقام الرثاء وأبرع من سما بخياله الى هذا المعنى أبو الطيب المتنبي والبحتري فنكتفي بهما وسنورد أبياتا مختارة من قصيدتين لهما.
يقول عبد الله بن المعتز الشاعر العباسي الخليفة: «لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته في ايوان كسرى وقصيدته في وصف بركة المتوكل لكان أشعر الناس» فقد زار البحتري بعد أن سئم الحياة في بغداد بعد(6/271)
مقتل المتوكل على الله المدائن وهي مدينة يقع فيها ايوان كسرى وقد أبدع في وصف الايوان إبداعا فريدا زاده روعة أنه من شعراء العرب أول من وصف الآثار القديمة الخالدة واستوحاها وصب عليها من روحه وهذه مختارات منها:
صنت نفسي عما يدنّس نفسي ... وترفعت عن جدا كلّ جبس
وتماسكت حيث زعزعني الده ... ر التماسا منه لتعسي ونكسي
حضرت رحلي الهموم فوجه ... ت الى أبيض المدائن عنسي
ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسي
حلل لم تكن كأطلال سعدى ... في فقار من البسابس ملس
فكأن الجرماز من عدم الأن ... س وإخلاله بنية رمس
لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتما بعد عرس(6/272)
فإذا ما رأيت صورة انطا ... كية ارتعت بين روم
وفرس والمنايا مواثل وانوشر ... ... ... وان يزجي الصفوف تحت ال
درفس في اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال في صبيغة
ورس عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزي رباعهم وال
تأسي فلها ان أعينها بدموع ... موفقات على الصبابة حبس
ولا يتسع المجال لا يراد القصيدة بكاملها، فهي نموذج حي معبر من أدبنا العربي، كما لا يتسع المجال لدراستها فنكتفي بإيراد بعض الملاحظات السريعة عليها:
1- تشعر حين تقرأ السينية بروعة موسيقاها الناتجة عن خفة الجر وجماله (الخفيف) وتلاؤمه مع العواطف والمعاني والألفاظ والروي المهموس وهو السين وترداد الحروف المهموسة كالسين والصاد والتاء.(6/273)
2- تشعر بتأثر الشاعر بالعظمة حين قدم لوصف الايوان ثم ما تعتم أن تأسى وتحزن حين تقرأ أن الليالي جعلت فيه مأتما بعد عرس وهذا التجاوب النفسي بين ما يصفه الشاعر وبين ما يصف ميزة فنية بحتة.
3- تشعر أن الشاعر يعجب بكل ما هو عظيم في الدنيا ولو كان من غير قومه فنراه هنا معجبا بالفرس فبكاهم أصدق بكاء ورثاهم أحر رثاء وهكذا الفن يسمو ليستحيل انسانية صرفا.
4- وأخيرا تعجب من أن الشاعر يطرق في الأدب العربي فنا جديدا لم يطرقه أحد من قبله وهو رثاء الممالك الزائلة والآثار الباقية، ولم يشر إليه قبل القرآن أحد فيقول الله تعالى «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى» .
وننتقل الى عينية أبي الطيب المتنبي وهي القصيدة التي رثى بها أبا شجاع فاتك وفيها تحدث عن شعور الإنسان حيال الآثار المتخلفة عن أصحابها فقال منها:
إني لأجبن عن فراق أحبتي ... وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ... ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه؟ ما المصرع(6/274)
تتخلّف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
ويظهر أن أبا الطيب كان يحب القائد فاتكا أبا شجاع حبا خالصا قائما على الاعجاب فهو يرثيه بقصيدتين يجعل منهما وسيلة إلى الإبانة عما في نفسه من هموم ومحن وترى من خلالهما بعض النظرات الفلسفية فهو كما ترى يرى الحياة لا تصفو إلا للجاهل أو الغافل أما الشجاع الأبي فقلما تخطئه سهامها ونراه هنا معاني مظلمة قاتمة في نفسه حتى ليكاد يلقي سلاحه أمام عوادي الزمان لولا بقية من قوة يستمسك بها:
المجد أخسر والمكارم صفقة ... من أن يعيش لها الهمام الأروع
والناس أنزل في مكانك منزلا ... من أن تعايشهم وقدرك أرفع
2- وفي قوله: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ... » الآية فن المناسبة وهي على ضربين معنوية ولفظية والمعنوية هي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ فالآية موعظتها سمعية فختمها بأشد مناسبة معنوية بقوله «أَفَلا يَسْمَعُونَ» وقال في الآية التي موعظتها مرئية وهي آية السجدة: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ» فقد ختمها بقوله:
«أَفَلا يُبْصِرُونَ» لأن ذلك مما يتبين بالرؤية وما فوق هذه المناسبة مناسبة. ومن بديع ما ورد فيها شعرا قول القاضي الفاضل:
وبدر بأفلاك الخواطر طالع ... وغصن بريحان الغدار وريق(6/275)
لئن بت في بحر من الفكر سابحا ... فإنسان عيني في الدموع غريق
فالمناسبة في الشطر الاول في البدر والافلاك والطلوع وفي الشطر الثاني بين الغصن والريحان ووريق وفي الثالث بين البحر وسابحا وفي الرابع بين إنسان العين والدموع وغريق ففي كل شطر من البيتين مناسبات عديدة، وأما المناسبة اللفظية فهي دون رتبة المعنوية وهي الإتيان بكلمات متزنات وهي أيضا على ضربين: تامة وغير تامة فالتامة تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة والناقصة موزونة غير مقفاة فمن شواهد التامة من القرآن العظيم قوله تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» ومن الشعر قول ابن هانئ الاندلسي:
وعوابس وقوابس وفوارس ... وكوانس وأوانس وعقائل
ومن غير التامة قول ابن خلوف المغربي:
كالورد خدا والغزالة بهجة ... والغصن قدا والغزال مقلدا
وقد اجتمعت التامة والناقصة في قول أبي تمام:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس قنا الحظ إلا أن تلك ذوابل فبين قنا ومها مناسبة لفظية تامة وبين الوحش والحظ وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة.(6/276)
الفوائد:
النسخ في القرآن:
في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» مبحث هام جدير بالتأمل وهو أن معظم المفسرين درجوا على القول إن هذه الآية منسوخة بآية القتال والصواب انها ليست منسوخة بل هي أمر بالصبر المحمود على كل حال وهو عدم الاضطراب ومساورة الجزع لما يقولون ولما يصدر عنهم من الأذية وليس فيها أية اشارة أو تلميح الى عدم القتال حتى يكون الأمر بالقتال ناسخا لها.
وموضوع النسخ في القرآن الكريم من الموضوعات الشائكة الصعبة، والاختلاف حوله كثير وما علم في هذا الباب من استقراء كلام الصحابة والتابعين انهم كانوا يستعملون النسخ بإزالة المعنى اللغوي الذي هو إزالة شيء بشيء لا بإزاء مصطلح الأصوليين فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى إما بانتهاء مدة العمل أو بصر الكلام عن المعنى المتبادر الى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا أو تخصيص عام أو بيان الفارق بين المنصوص وما قيس ظاهرا عليه أو ازالة عادة الجاهلية أو الشريعة السابقة فاتسع باب النسخ عندهم وكثر جولان العقل هنالك واتسعت دائرة الاختلاف.
أما المنسوخ باصطلاح المتأخرين فهو قليل جدا وقد ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي في الإتقان بتقرير مبسوط، كما ينبغي، بعض ما ذكره العلماء ثم حرر المنسوخ الذي فيه رأي المتأخرين على وفق الامام الحافظ القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي المعافري(6/277)
الاندلسي فعنده قريبا من عشرين آية، وأتى في العصر الحديث الشيخ الامام محمد عبده فأنكر النسخ في القرآن وقال ان كل ما زعموا انه منسوخ يمكن تأويله كما رأيت في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» وهو ظاهر في هذه الآية يطيح بالقول القديم ان الآيات المنسوخة تبلغ حوالي خمسمائة آية وهو قول ظاهر البطلان بالبداهة.(6/278)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
(21) سورة الأنبياء مكية وآياتها اثنتا عشرة ومائة
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
اللغة:
(النَّجْوَى) : الكلام السرّ وهي اسم من التناجي ولا تكون إلا خفية، وفي القاموس: «وهو وصف بالمصدر يستوفى فيه المفرد والجمع يقال: هم نجوى» .
(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : أخلاط رآها في النوم وقد تقدم بحثها.(6/279)
الإعراب:
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) اقترب فعل ماض مبني على الفتح وللناس متعلقان باقترب ويجوز أن تكون تأكيدا لإضافة الحساب إليهم كقولك أزف للحي رحيلهم. والأصل أزف رحيل الحي ثم أزف للحي الرحيل ثم أزف للحي رحيلهم، وحسابهم فاعل اقترب لأن كل آت قريب مهما يطل الأمد والواو للحال وهم مبتدأ وفي غفلة خبر ومعرضون خبر ثان. (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) الجملة تعليل للجملة السابقة فلا محل لها وما نافية ويأتيهم فعل مضارع والهاء مفعول به ومن حرف جر زائد لسبقه بالنفي وذكر مجرور لفظا مرفوع محلا على الفاعلية ومن ربهم صفة لذكر ومحدث صفة ثانية ويجوز تعليق من ربهم بيأتيهم أو بمحذوف حال من ذكر لأنه وصف بمحدث وإلا أداة حصر لأن الاستثناء مفرغ وجملة استمعوه في محل نصب على الحال من مفعول يأتيهم وقد مقدرة وهم الواو حالية وهم مبتدأ وجملة يلعبون خبر هم والجملة نصب على الحال من فاعل استمعوه، هذا وقد استدل بوصف الذكر بكونه محدثا على أن القرآن محدث لأن الذكر هنا هو القرآن وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول فالمعنى محدث تنزيله وإنما النزاع في الكلام النفسي.
(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) لاهية حال من فاعل يلعبون أيضا فتكون حالا متداخلة ويجوز أن تكون حالا من فاعل استمعوه فتكون الحالان مترادفتين لأن الحال يجوز تعددها وقلوبهم فاعل لاهية وأسروا فعل وفاعل والنجوى مفعول به والذين بدل من واو وأسروا النجوى(6/280)
إشعارا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش الذي جاءوا به وسيأتي المزيد من إعراب هذه الكلمة في باب الفوائد، وجملة ظلموا صلة وهل حرف استفهام وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر. ومثلكم صفة والجملة الاستفهامية في محل نصب بدل من النجوى لأنها بمثابة التفسير لها وأجاز الزمخشري أن تكون في محل نصب مقول قول محذوف ويجوز أن تكون في محل نصب محكية للنجوى لأنها في معنى القول، ولا أرى مانعا من أتكون جملة لا محل لها لأنها مفسرة. (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وهذه الجملة تنطبق عليها الأوجه المتقدمة والهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدر وتأتون السحر فعل مضارع وفاعل ومفعول به والواو للحال وأنتم مبتدأ وجملة تبصرون خبر وجملة وأنتم تبصرون حالية من فاعل تأتون مقررة للانكار. (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ربي مبتدأ وجملة يعلم القول خبر والجملة مقول القول وفي السماء والأرض متعلقان بمحذوف حال من القول أو بيعلم وهو الواو عاطفة وهو مبتدأ والسميع العليم خبران لهو وحذف متعلقهما للعلم به أي السميع لما أسروه والعليم به.
(بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أضربوا عن قولهم هو سحر فقالوا هو أضغاث أحلام فأضغاث أحلام خبر لمبتدأ محذوف والجملة في محل نصب مقول قالوا بل افتراه ثم أضربوا عن ذلك فقالوا اختلقه فافتراه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ثم أضربوا أيضا فقالوا هو شاعر مبتدأ وخبر. (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) الفاء الفصيحة لأنها أفصحت عن شرط مقدر كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا فليأتنا واللام لام الأمر ويأت فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره هو ونا ضمير متصل في محل نصب مفعول به كما يجوز في الكاف أن تكون نعتا لآية أي(6/281)
كائنة مثل الآية التي أرسل بها الأولون وعندئذ فما موصولة ويجوز أن تكون نعتا لمصدر محذوف وما مصدرية أي فليأتنا بآية اتيانا كائنا مثل إرسال الأولين.
الفوائد:
قوله تعالى «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» قال أبو البقاء:
«الذين ظلموا في موضعه ثلاثة أوجه: أحدها: الرفع، وفيه أربعة أوجه:
آ- أن يكون بدلا من الواو في وأسروا.
ب- أن يكون فاعلا والواو حرف للجمع لا اسم.
ج- أن يكون مبتدأ والخبر هل هذا والتقدير يقولون: هل هذا؟
د- أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ظلموا.
وثانيها: أن يكون منصوبا على إضمار أعني.
وثالثها: أن يكون مجرورا صفة للناس.
والمعروف أن الفعل يجب أن يبقى مع الفاعل بصيغة الواحد وان كان مثنى أو مجموعا قال ابن مالك:
وجرد الفعل إذا ما أسندا ... لاثنين أو جمع كفاز الشهدا
إلا على لغة ضعيفة لبعض العرب فيطابق فيها الفعل الفاعل، وحكى البصريون عن طيء وحكى بعضهم عن ازدشنوءة نحو ضربوني قومك(6/282)
وضربنني نسوتك وضرباني أخواك وفي الحديث «أو مخرجيّ هم» وقال عمرو بن ملقط الجاهلي:
ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه
فألفيتا بالبناء للمجهول فعل ماض وعيناك نائب الفاعل فألحق الفعل علامة التثنية مع اسناده الى الظاهر ونائب الفاعل كالفاعل وعند ظرف بمعنى قرب متعلق بألفيتا وذا واقية حال من المضاف إليه وهو الكاف وواقية مصدر معناه الوقاية كالكاذبة مصدر معناه الكذب وأولى، فأولى لك دعاء أي قاربك ما يهلكك قال العيني: فإن قلت: ما موقع أولى من الاعراب؟ قلت: يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره دعائي أولى لك، فأولى لك عطف على أولى الأول كرر للتأكيد وقال أبو البقاء في إعراب أولى لك فأولى فيه قولان أحدهما فعلى والألف فيه للإلحاق لا للتأنيث والثاني أفعل وهو على القولين هنا ولذلك لم ينون ويدل عليه ما حكى أبو زيد في النوادر وهي أولات بالتاء غير مصروف لأنه صار علما للوعيد فصار كرجل اسمه أحمد فعلى هذا يكون أولى مبتدأ ولك الخبر والثاني أن يكون اسما للفعل مبنيا ومعناه ويلك شر بعد شر ولك تبيين، وهذا البيت يصف به رجلا إذا اشتد الوطيس فهو يلتفت الى ورائه مخافة أن يتبع فتلفى عيناه عند فقاه من شدة الالتفات، وقال أبو فراس:
تنج الربيع محاسنا ... ألقحنها غر السحائب
وأبو فراس من المولدين والغرض من كلامه التمثيل لا الاستشهاد.
وارتأى الشيخ مصطفى الغلاييني رأيا جميلا وسنورد نص كلامه:(6/283)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
«وما ورد من ذلك من فصيح الكلام فيعرب الظاهر بدلا من المضمر وعليه قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أو يعرب الظاهر مبتدأ والجملة قبله خبر مقدم، أو يعرب فاعلا لفعل محذوف فكأنه قيل بعد قوله وأسروا النجوى: من أسرها؟ فيقال أسرها الذين ظلموا وهو الحق وهذا لا يكون إلا حيث يستدعي المقام تقدير كلام استفهامي كما ترى في الآية الكريمة» ونحسب أن القول قد أشبع فحسبنا ما تقدم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 الى 13]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13)
اللغة:
(قَصَمْنا) : القصم أبلغ من الكسر وفي القاموس «قصم من باب(6/284)
صرب قصما الشيء: كسره، وقصم الرجل: أهلكه، ويقال: قصم الله ظهر الظالم أي أنزل به البلية» وللقاف مع الصاد فاء وعينا للكلمة سر عجيب، انهما تدلان على الكسر والمحق والإهلاك فقولهم: قصب الشاة يعني قطعها قطعا أو عضوا عضوا ومنه سمي القصاب أي الجزار والقصّابة مؤنث القصاب ولها معنى آخر وهو ما نسميه اليوم «الناي» أي قصبة ينفخ بها للغناء وعن بعض العرب: قلت أبياتا فغنى بها حكم الوادي فو الله ما حرك بها قصّابة إلا خفت النار فتركت قول الشعر، وهي الوتر، ونفخ في القصابة: في المزمار، وأقصدته المنية أهلكته ومنه قصد الرجل أتى اليه ونحا نحوه، وقصرته حبسته وقصرت نفسي على هذا الأمر إذا لم تطمح الى غيره وقصرت طرفي لم أرفعه الى مالا ينبغي وهنّ قاصرات الطرف: قصرنه على أزواجهنّ، وقص الشعر والريش وقصّصه معروف وجناح مقصوص ومقصص، وقصع الصّؤاب بين ظفريه قتله وقصعت الرحى الحب فضخته وصبي قصيع قميء لا يشب، وقصف القناة والعود كسرهما وقصف ظهره ورجل مقصوف والعامة تقول لمن تدعو عليه يا مقصوف وهي فصيحة لا غبار عليها وعصفت ريح فقصفت السفينة وعود قصف: سريع الانكسار، قال الطرماح:
تميم تمنّى الحرب ما لم ألاقها ... وهم قصف العيدان في الحرب خورها
وقصله قطعه قطعا وحيّا وسيف قاصل وقصّال ومقصل وقصل فرسه يقصله: علفه القصيل ومنه المقصلة وهي آلة للاعدام قوامها سكين تسقط على رأس المجرم فتقطعه، وقصا يقصو قصوا وقصوا وقصا وقصاء الرجل تباعد وفي البعد اشارة الى الهلكة لأنها بعد أيضا.(6/285)
(أُتْرِفْتُمْ) : نعمتم من العيش الرافه والحال الناعمة والإتراف ابطار النعمة.
الإعراب:
(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) ما نافية وآمنت فعل ماض والتاء للتأنيث والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم واستبعاد إيمانهم وقبلهم ظرف متعلق بآمنت ومن حرف جر زائد وقرية مجرور لفظا فاعل آمنت محلا وجملة أهلكناها صفة لقرية والمراد بالقرية أهلها كما سيأتي في باب البلاغة، أفهم الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يؤمنون خبر. (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) الواو عاطفة وما نافية وأرسلنا فعل ماض وفاعل إلا أداة حصر ورجالا مفعول أرسلنا وجملة نوحي إليهم صفة لرجالا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة واسألوا فعل أمر وفاعل وأهل الذكر مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وجملة لا تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دلت عليه الفاء الفصيحة. (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) الواو عاطفة وما نافية وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به وجسدا مفعول ثان إذا كانت جعل بمعنى التصيير وإن كانت بمعنى الخلق فجسدا حال مؤولة بالمشتق أي متغذين، وجملة لا يأكلون الطعام في محل نصب نعت لجسدا وجسد مفرد أريد به الجمع وانما وحدّه ليشمل الجنس عامة لأن الجسد لا بد له من غذاء، والواو عاطفة وما نافية وكانوا خالدين كان واسمها وخبرها والجملة معطوفة(6/286)
على لا يأكلون. (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ثم حرف عطف وصدقناهم فعل وفاعل ومفعول والوعد منصوب بنزع الخافض لأن صدق يتعدى لاثنين الى ثانيهما بحرف الجر والأصل في الوعد، فأنجيناهم عطف على صدقناهم ومن نشاء عطف على الهاء وجملة نشاء صلة وأهلكنا المسرفين عطف على أنجيناهم والمسرفين مفعول به. (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وأنزلنا فعل وفاعل وإليكم متعلقان بأنزلنا وكتابا مفعول به وفيه خبر مقدم وذكركم مبتدأ مؤخر والجملة صفة لكتابا وسيأتي معنى فيه ذكركم في باب الفوائد والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تتفكرون فلا تعقلون شيئا من الأشياء المذكورة لكم، (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) الواو عاطفة أو استئنافية مسوقة للتمثيل بالأمم التي هلكت قبلهم وكم خبرية مفعول به مقدم لقصمنا ومن قرية تمييز لكم الخبرية مجرور بمن وقد تقدم ذلك وجملة كانت ظالمة صفة لقرية والمراد بالقرية أهلها وكانت ظالمة كان واسمها المستتر وخبرها وأنشأنا عطف على قصمنا وبعدها ظرف متعلق بأنشأنا وقوما مفعول به وآخرين صفة لقوما. (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وإذا الفجائية وقد تقدم الكلام حولها والخلاف فيها مشبعين وهم مبتدأ وجملة يركضون خبرهم ومنها متعلقان بيركضون وقد استدل بعضهم بهذه الآية على أن لما حرف وسماها ابن هشام رابطة لأنه لا عامل لها إذا أعربت ظرفا بمعنى حين ونرى أن معنى المفاجأة التي دلت عليه إذا هو العامل وسيأتي مزيد بحث عن لما في باب الفوائد.
(لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ)(6/287)
لا ناهية وتركضوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وجملة لا تركضوا مقول قول محذوف والقائل اختلف فيه فقيل هم الملائكة وقيل هم من كان هناك من المؤمنين وهذا القول على سبيل الاستهزاء بهم طبعا، وارجعوا فعل أمر معطوف على لا تركضوا والى ما متعلقان بارجعوا وجملة أترفتم صلة وفيه متعلقان بأترفتم ومساكنكم بالجر عطف على ما، ولعلكم تسألون لعل واسمها وخبرها والترجي هنا استهزاء بهم وتهكم بما كانوا يظنونه بأنفسهم من أنهم مظنة السخاء ومطلع الكرم والمعنى ارجعوا الى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون شيئا من دنياكم حسبما تتصورون أنفسكم من أنكم أهل النوال والعطاء حيث يسألكم الناس في العوادي والنوازل ويندبونكم للملمات ويستشيرونكم في المعضلات وسيأتي المزيد عن هذا البحث الشيق في باب البلاغة.
البلاغة:
1- المجاز المرسل في قوله «قرية» إذ المراد أهلها وقد تقدم مثال ذلك كثيرا.
2- التهكم بقوله «وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» وقد ألمعنا الى المراد من هذا التهكم ونزيد عليه هنا احتمالين هامين مترتبين على هذا التهكم:
آ- انهم كانوا أسخياء حقيقة يجودون بالنوال ويبسطون أيديهم بالعطايا ولكنهم كانوا يفعلون ذلك رئاء الناس واكتسابا للشهرة والثناء وفي ذلك من الإيلام والايجاع ما فيه، إذ يرون أن ما أنفقوه وما بذلوه لم يكن إلا زيادة في برحائهم وإمعانا في عذابهم:(6/288)
ب- انهم كانوا بخلاء يكرهون البذل ويصدون عمن جاء يستندي سحاب أكفهم ويمتري اخلاف جدواهم فقيل لهم ذلك ليزيدهم إيلاما على إيلام وايجاعا على إيجاع.
الفوائد:
1- قوله «كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ»
أي فيه ما يوجب الثناء عليكم لكونه نازلا بلسانكم وبين ظهرانيكم وعلى رسول منكم وقيل فيه ما تنشدونه من حسن الذكر وبعد الصيت وطيب الأحدوثة وقيل فيه الموعظة لكم والإرشاد لما ينفعكم في دينكم ودنياكم وجميع ذلك محتمل.
2- بحث لما:
تقع لما في العربية على ثلاثة أوجه:
الأول:
أن تختص بالمضارع فتجزمه وتنفيه وتقلبه ماضيا ك «لم» إلا أنها تفارقها في خمسة أمور:
1- انها لا تقترن بأداة شرط فلا يقال: إن لما تقم ويقال: إن لم تقم.
2- ان منفيها مستمر النفي الى الحال أما منفي لم فيحتمل الاتصال والانقطاع مثل: «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» ولهذا جاز أن تقول: لم يكن ثم كان، ولكن لا يجوز أن تقول: لما يكن ثم كان.
3- ان الغالب في منفي لما ان يكون قريبا من الحال بخلاف منفي لم.(6/289)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
4- ان منفي لما متوقع ثبوته بخلاف منفي لم.
5- ان منفي لما جائز الحذف لدليل كقوله: «فجئت قبورهم بدءا ولما» أي ولما أكن بدءا قبل ذلك أي سيدا ولا يجوز:
«وصلت الى حمص ولم» تريد ولم أدخلها.
الثاني:
أن تختص بالماضي فتقتضي جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما نحو: لما جاءني أكرمته ويقال فيها حرف وجود لوجود وبعضهم يقول وجوب لوجوب وقيل هي ظرف لفعل وقع لوقوع غيره وقال جماعة: انها ظرف بمعنى حين.
الثالث:
أن تكون حرف استثناء بمعنى إلا فتدخل على الجملة الاسمية نحو: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» فيمن شدد الميم وعلى الماضي لفظا لا معنى نحو أنشدك الله لما فعلت أي ما أسألك إلا فعلك.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 14 الى 23]
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)(6/290)
اللغة:
(حَصِيداً) : فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد وغيره وستأتي قاعدته في باب الفوائد وهو الزرع المحصود.
(خامِدِينَ) : يقال خمدت النار وهمدت كل منهما من باب دخل لكن الاول عبارة عن سكون لهبها مع بقاء الجمر والثاني عبارة عن ذهابها بالكلية.
(لَهْواً) : في المصباح: «اللهو معروف، تقول أهل نجد: لهوت عنه ألهو لهيّا والأصل على فعول من باب قعد، وأهل العالية لهيت عنه ألهى من باب تعب ومعناه السلوان والترك ولهوت به لهوا من باب قتل أولعت به أيضا، قال الطرطوشي: وأصل اللهو الترويح عن النفس بما لا تقضيه الحكمة وألهاني الشيء بالألف شغلني» اهـ.
وفي القاموس والتاج: «لهى لهوا لعب كالتهى وألهاه ذلك والملاهي آلاته وتلاهى بذاك والألهوة والألهية والتلهية ما يتلاهى به ولهت المرأة الى حديثه لهوا ولهوّا: أنست به وأعجبها واللهوة المرأة الملهو بها كاللهو وبالضم والفتح ما ألقيته في فم الرحى والعطية أو أفضل العطايا وأجزلها كاللهية والحفنة من المال أو الألف من الدنانير(6/291)
والدراهم لا غير ولهي به كرضي أحبه وعنه سلا وغفل وترك ذكره كلها كدعا لهيا ولهيانا، وقال شارح القاموس قوله: لها لهوا لعب قضية اتحادهما وقد فرق بينهما جماعة فقيل يشتركان في أنهما اشتغال بما لا يعني حراما أو لا قيل واللهو أعم مطلقا فاستماع الملاهي لهو لا لعب وقال الجوهري: قد يكنى باللهو عن الجماع ويدل على ما قاله امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وان لا يحسن اللهو أمثالي
(فَيَدْمَغُهُ) : فيذهبه وبابه قطع وفي القاموس: دمغة قهره ودمغ الحق بالباطل: أبطله ومحقه وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة.
(يَسْتَحْسِرُونَ) يكلون ويتعبون يقال: استحسر البعير أي كلّ وتعب ويقال حسر البعير وحسرته أنا فيكون لازما ومتعديا وأحسرته أيضا فيكون فعل وأفعل بمعنى واحد وسيأتي مزيد بيان عن الاستحسار في باب البلاغة.
الإعراب:
(قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يا أداة نداء وويلنا منادى مضاف يدعون الويل والثبور لأن هذا وقته ويجوز أن تكون يا للتنبيه وويلنا مصدر لفعل محذوف والجملة مقول قولهم وإن واسمها وجملة كنا ظالمين خبرها وكان واسمها وظالمين خبرها. (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) الفاء عاطفة وما زالت فعل ماض ناقص والتاء علامة التأنيث وتلك اسم اشارة اسمها في محل رفع ودعواهم(6/292)
خبرها منصوب بفتحة مقدرة على الألف والهاء مضاف اليه والميم حرف دال على جمع الذكور والمراد بالدعوى تلك الكلمات وهي «يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» وحتى حرف غاية وجر وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وحصيدا خامدين مفعول به ثان لأن حكمهما حكم الواحد. إذ أن معنى جعلناهم حصيدا خامدين: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ومثال ذلك قولك جعلته حلوا حامضا أي جامعا للطعين أي مزا، ولك أن تجعل خامدين صفة لحصيدا. (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) الواو حرف عطف أو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لعرض البدائع والعجائب التي انطوى عليها خلق السموات والأرض وما فيهما للعظة ولتكون مطارح اعتبار وحافزا للتفكير والاستدلال وما نافية وخلقنا فعل وفاعل والسماء مفعول به والأرض عطف على السماء وما عطف على السماء والأرض وبينهما ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ولاعبين حال من فاعل خلقنا. (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) لو شرطية امتناعية وأردنا فعل وفاعل وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أردنا وفاعل نتخذ ضمير مستتر تقديره نحن ولهوا مفعول به ولاتخذناه اللام واقعة في جواب لو واتخذناه فعل وفاعل ومفعول به من لدنا متعلقان بمحذوف مفعول به ثان لاتخذ وإن يجوز أن تكون نافية بمعنى ما وكنا فاعلين كان واسمها وخبرها والجملة حالية من فاعل اتخذناه أي حال كوننا غير فاعلين ويجوز أن تكون إن شرطية وجوابها محذوف يدل عليه جواب لو ولعل هذا أولى وأشبه الوجهين بمذهب العربية. (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) بل إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتنزيه منه تعالى لذاته ونقذف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وبالحق جار ومجرور متعلقان بنقذف وعلى الباطل متعلقان(6/293)
بمحذوف حال أي مستعليا على الباطل، فيدمغه عطف على نقذف فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وقد تقدم ذكرها وهو مبتدأ وزاهق خبرها ولكم الواو استئنافية ولكم خبر مقدم والويل مبتدأ مؤخر ومما متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو مما، أي استقر لكم الويل من كل ما تصفون ومما يجوز أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية وعلى كل جملة تصفون لا محل لها. (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة وله خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وفي السموات والأرض صلة. (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) الواو عاطفة ومن معطوفة على من الأولى وعنده ظرف متعلق بمحذوف صلة وجملة لا يستكبرون حالية من من الأولى وعن عبادته متعلقان بيستكبرون وجملة لا يستحسرون عطف على جملة لا يستكبرون ويجوز أن تكون الواو للاستئناف ومن عنده أي الملائكة مبتدأ خبره جملة لا يستكبرون والجملة مستأنفة. (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما يصنعه من عند الله في عبادتهم ويسبحون فعل مضارع وفاعل ويجوز أن تكون الجملة حالية والليل والنهار ظرفان متعلقان بيسبحون وجملة لا يفترون حال من فاعل يسبحون. (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) أم المنقطعة عاطفة وتفيد الإنكار واتخذوا فعل وفاعل وآلهة مفعول به ومن الأرض صفة وهم مبتدأ وجملة ينشرون خبر وجملة هم ينشرون صفة لآلهة ومفعول ينشرون محذوف أي يحيون الموتى ويجوز جعلها جملة مستأنفة لم يدعوا لآلهتهم انها تنشر الموتى ولكنهم بمجرد دعواهم ألوهيتها يترتب عليهم أن يدعوا ضمنا انها تنشر الموتى وسيأتي مزيد بحث حول الضمير الذي هو «هم» في باب البلاغة. (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) لو
شرطية(6/294)
امتناعية وكان فعل ماض ناقص وفيهما خبر كان المقدم وآلهة اسمها المؤخر وإلا بمعنى غير صفة لآلهة ظهر اعرابها على ما بعدها ولا يصح أن تكون استثنائية لأن مفهوم الاستثناء فاسد هنا إذ حاصله انه لو كان فيهما آلهة لم يستثن الله منهم لم تفسدا وليس كذلك فإن مجرد تعدد الآلهة يوجب لزوم الفساد مطلقا وسيأتي مزيد بسط لهذا المبحث الهام، ولفسدتا اللام واقعة في جواب لو وجملة فسدتا لا محل لها من الإعراب فسبحان الله الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف ولفظ الجلالة مضاف اليه ورب العرش بدل أو صفة للفظ الجلالة وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون لا محل لها لأنها صلة ما ويجوز أن تكون ما مصدرية. (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تفرده سبحانه بالسلطان، بحيث لا يسأله أحد عما يفعله ولا نافية ويسأل فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وعما متعلقان بيسأل وهم الواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وجملة يسألون خبر.
البلاغة:
في هذه الآيات فنون عديدة أولها:
1- الاستعارة في قولهم «يا ويلنا» فقد خاطبوا الويل وهو الهلاك كأنه شخص حي يدعونه لينقذهم مما هم فيه.
2- التشبيه البليغ في قوله «جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» .
فقد شبههم بعد حلول العذاب بهم بالحصيد أولا وهو الزرع المحصود ووجه الشبه بين المشبه والمشبه به هو الاستئصال من المنابت ثم شبههم(6/295)
ثانيا بالنار المنطفئة ولم يبق منها إلا جمر منطفىء لا نفع فيه ولا قابلية لشيء من النفع منه فلا ترى إلا أشلاء متناثرة وأجزاء متفرقة قد تمددت وقدران عليها البلى.
3- الاستعارة المكنية في قوله «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق» فقد شبه الحق والباطل وهما معنويان بشيئين ماديين محسوسين يقذفان ويدفعان ثم حذف هذين الشيئين واستعار ما هو من لوازمهما وهما القذف والدمغ لتجسيد الاطاحة بالباطل واعتلاء الحق عليه وتصوير إبطاله وإهداره ومحقه كأنه جرم صلب كصخرة أو ما يماثلها في القوة والصلابة قذف به على جرم رخو أجوف فدمغه وهي من استعارة المحسوس للمعقول وقد تقدم بحث ذلك مفصلا مع استيفاء أقسام الاستعارة بالنسبة لطرفي التشبيه.
4- قوة اللفظ لقوة المعنى: وقد تقدم الكلام عن هذا الفن ونعني به نقل اللفظ من وزن الى وزن آخر أكثر منه ليتضمن من المعنى الدال عليه أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني وأمثلة للابانة عنها فاذا زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني وهذا الضرب من الزيادة لا يستعمل إلا في مقام المبالغة وهو هنا في قوله تعالى «وَلا يَسْتَحْسِرُونَ» فقد عدل عن الثلاثي وهو حسر الى السداسي وهو استحسر وقد كان ظاهر الكلام أن يقال يحسرون أي يكلون ويتعبون، لأن أقل ملل منهم أو كلال إزاء الملائكة وإزاء عبادتهم لله سبحانه لا يتصور منهم ولكنه عدل عن ذلك لسرّ يخفى على النظرة السطحية الأولى وهو أن ما هم فيه من انهماك بالعبادة وانصراف بالكلية لها يوجب غاية الحسور وأقصاه.(6/296)
5- التصريح بالضمير: وذلك في قوله: «هم ينشرون» وقد كان يكفي أن يقول ينشرون ولكنه عدل عن ذلك الى التصريح بالضمير لإفادة معنى الخصوصية أولا كأنهم قالوا ليس هنا من يقدر على الإنشار غيرهم وثانيا لتسجيل إلزامهم ادعاء صفات الألوهية لآلهتهم وهذا الادعاء قد أبطله الله في الآية التالية لهذه الآية بدليل التمانع المغترف من بحر هذه الآية وهي «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» كما سيوضح في الاعراب، وهذا من جوهر الكلام وخالصه.
6- المذهب الكلامي: وذلك في قوله «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» وذكر ابن المعتز أن الذي سماه هذه التسمية هو الجاحظ والكتاب الكريم مشحون به وتعريفه هو انه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام وله طرق متعددة وقد أوصلها الرماني في تفسيره المسمى بالنكت في اعجاز القرآن الى خمسة ضروب ومنها إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل فملزوم قوله «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» انهما ما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله، وإيضاح ذلك إن دليل التمانع هو انه لو وجد مع الله إله آخر ربما قالوا لو فرضنا وجود إلهين فإما أن يكونا جميعا موصوفين بصفات الكمال اللاتي يندرج فيها القدرة على احياء الموتى وانشارهم وغير ذلك من الممكنات أو لا يتصف بها واحد منهما أو أحدهما دون الآخر وعندئذ تفسد الرعية بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف وعن عبد الملك بن مروان حين قتل عمرو بن سعيد الأشدق: «كان والله أعز علي من دم ناظري ولكن لا يجتمع فحلان في شول» وللمتكلمين في طريقة التمانع جولات واسعة تؤخذ في مظانها، وسيرد إيضاحها في باب الفوائد.(6/297)
الفوائد:
«إلا» بمعنى «غير» :
الأصل في «إلا» أن تكون للاستثناء وفي «غير» أن تكون وصفا ثم قد تحمل إحداهما على الأخرى فيوصف بإلا ويستثنى بغير فإن كانت إلا بمعنى غير وقعت هي وما بعدها صفة لما قبلها وذلك حيث لا يراد بها الاستثناء وانما يراد بها وصف ما قبلها بما يغاير ما بعدها كقوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فإلا وما بعدها صفة لآلهة لأن المراد نفي الآلهة المتعددة واثبات الإله الواحد الفرد ولا يصح الاستثناء بالنصب لأن المعنى يكون حينئذ: لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وذلك يقتضي أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا وهذا ظاهر الفساد، وسامح الله ابن يعيش شارح مفصل الزمخشري حيث أجاز النصب على الاستثناء في الآية الكريمة غير مقدر ما يترتب على النصب من فساد وعبارة ابن يعيش «قال الله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والمراد غير الله فهذا لا يكون إلا وصفا ولا يجوز أن يكون بدلا يراد به الاستثناء لأنه يصير في تقدير لو كان فيهما إلا الله لفسدتا وذلك فاسد لأن لو شرط فيما مضى فهي بمنزلة إن في المستقبل وأنت لو قلت إن أتاني إلا زيد لم يصح لأن الشرط في حكم الموجب فكما لا يصح أتاني إلا زيد كذلك لا يصح إن أتاني إلا زيد فلو نصب على الاستثناء فقلت لو كان فيهما إلا الله لجاز» . ثم لا يصح أيضا أن يعرب لفظ الجلالة بدلا من آلهة لأنه حيث لا يصح الاستثناء لا تصح البدلية ثم إن الكلام موجب فلا تجوز البدلية ولو صح الاستثناء لأن النصب واجب في الكلام الموجب التام وأيضا لو جعلته بدلا لكان التقدير:(6/298)
لو كان فيهما إلا الله لفسدتا لأن البدل على نية طرح المبدل منه كما هو معلوم ولعدم صحة الاستثناء هنا وعدم جواز البدلية تعين أن تكون إلا بمعنى غير.
ولتتمة هذا المبحث الدقيق ننقل الفصل الممتع الذي أورده العلامة ابن هشام في مغني اللبيب ورده على المبرد مع تعليقات مناسبة ليستوفي الموضوع حقه قال ابن هشام بعد أن ذكر أن لإلا أربعة أوجه:
«والثاني أن تكون صفة بمنزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه فمثال الجمع المنكر: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» فلا يجوز في إلا هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى إذ التقدير حينئذ لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم تفسدا وليس ذلك المراد، ولا من جهة اللفظ لأن آلهة جمع منكر في الإثبات فلا عموم له فلا يصح الاستثناء منه فلو قلت قام رجال إلا زيدا لم يصح اتفاقا، وزعم المبرد أن «إلا» في الآية للاستثناء وان ما بعدها بدل محتجا بأن «لو» تدل على الامتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وان نحو «لو كان معنا إلا زيد» أجود كلام ويرده انهم لا يقولون «لو جاءني ديّار أكرمته» ولا «لو جاءني من أحد أكرمته» ولو كانت بمنزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد ولما لم يجز ذلك دل على أن الصواب قول سيبويه إن إلا وما بعدها صفة» . الى أن يقول:
«وشرط ابن الحاجب في وقوع إلا صفة تعذر الاستثناء وجعل من الشاذ قول حضرمي بن عامر الصحابي وقيل عمرو بن معدى كرب:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان(6/299)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
ومعنى الشذوذ فيه انه ليس استثناء إذ لم ينصب بعد الكلام التام الموجب فتعين انه صفة ولم يتعذر الاستثناء فهو شاذ إذ كان يمكنه أن يقول إلا الفرقدين، ونحسب أن البحث طال فحسبنا ما تقدم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 24 الى 29]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
الإعراب:
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» أم حرف عطف للاضراب والانتقال الى إظهار بطلان ما اتخذوه آلهة مع خلوها من خصائص الألوهية، واتخذوا فعل ماض وفاعل ومن دونه في محل نصب مفعول به ثان لاتخذوا وآلهة هو المفعول الأول. (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) هاتوا فعل(6/300)
أمر مبني على الكسر دائما إلا مع واو الجماعة فيضم وواو الجماعة فاعل وبرهانكم مفعول به. (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) هذا مبتدأ والاشارة للقرآن وجميع الكتب السماوية وذكر خبر ومن مضاف اليه ومعي ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول وذكر عطف على ذكر الأولى ومن مضاف اليه والظرف صلة والجملة مستأنفة.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) بل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر والواو فاعل والحق مفعول به، فهم الفاء للتعليل وهم مبتدأ ومعرضون خبر. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) الواو استئنافية وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال ومن حرف جر زائد ورسول مجرور لفظا منصوب محلا على انه مفعول به وإلا أداة حصر ونوحي فعل وفاعل واليه متعلقان بنوحي ولا إله إلا أنا تقدم اعرابها كثيرا والفاء الفصيحة واعبدوني فعل أمر والواو فاعل والياء المحذوفة تبعا لرسم المصحف مفعول به والجملة مستأنفة مقررة لما سبق اجماله من توحيد الله كما نطقت بذلك الكتب السماوية استدلالا بمقتضيات العقل والمنطق. (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، سُبْحانَهُ، بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) استئناف آخر مسوق لحكاية أقوال بعض القبائل العربية الذين قالوا:
الملائكة بنات الله ويقال انهم بنو خزاعة وبنو جهينة وبنو سلمة وبنو مليح وجملة اتخذ الرحمن ولدا مقول القول وسبحانه مصدر لفعل محذوف وقد مر والجملة معترضة وبل حرف إضراب وعباد خبر لمبتدأ محذوف ومكرمون صفة وقد وصف الملائكة بسبع صفات تقدمت الأولى. (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وهاتان صفتان ثانيتان الأولى جملة لا يسبقونه بالقول والثانية جملة هم بأمره يعملون، وبأمره متعلقان بيعملون وجملة يعملون خبرهم.(6/301)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) وهذه هي الصفة الرابعة وما موصول مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيديهم مضاف اليه وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم. (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) وهاتان صفتان أخريان ويشفعون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ولمن متعلقان بيشفعون وارتضى صلة الموصول وهم مبتدأ ومن خشيته جار ومجرور متعلقان بمشفقون ومشفقون خبرهم. (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) وهذه هي الصفة السابعة والأخيرة ومن شرطية مبتدأ ويقل فعل الشرط مجزوم ومنهم حال وان واسمها وإله خبرها والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه وقع جملة اسمية وذلك اسم اشارة مبتدأ وجملة نجزيه خبر والهاء مفعول نجزي وجهنم مفعول نجزي الثاني والجملة جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر ذلك وكذلك نجزي الظالمين الكاف نعت لمصدر محذوف أي نجزي الظالمين جزاء مثل ذلك.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)(6/302)
اللغة:
(رَتْقاً) : في المختار: «الرتق: ضد الفتق وقد رتقت الفتق من باب نصر سددته فارتتق أي التأم ومنه قوله تعالى: كانتا رتقا ففتقناهما، والرتق بفتحتين مصدر قولك امرأة رتقاء أي لا يستطاع جماعها لارتتاق ذلك الموضع منها» وفي الأساس: «رتق الفتق حتى ارتتق وقرئ كانتا رتقا ورتقا وعن ابن الكلبي كانتا رتقاوين ففتق الله السماء بالماء وفتق الأرض بالنبات وامرأة رتقاء بينة الرّتق إذا لم يكن لها خرق إلا المبال» .
(رَواسِيَ) : جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ وفي المختار: «والرواسي من الجبال الرواسخ واحدتها راسية» وفي المصباح: «رسا الشيء يرسو رسوا ورسوّا ثبت فهو راس وجبال راسية وراسيات ورواس» .
(تَمِيدَ) : في المصباح: «ماد يميد ميدا من باب باع وميدانا بفتح الياء تحرك» وفي الأساس: «غصن مائد مائل وماد يميد ميدانا ومن المجاز مادت المرأة وماست وتميّدت وتميّست ومادت به الأرض دارت، ورجل مائد: يدار به والمطعون يميد في الرمح» .
(فِجاجاً) : في المختار: «الفج بالفتح: الطريق الواسع بين الجبلين والجمع فجاج بالكسر مثل سهم وسهام والفج بالكسر البطيخ الشامي وكل شيء من البطيخ والفواكه لم ينضج فهو فج بالكسر» وفي القاموس: الفج وجمعه فجاج، والفجاج: الطريق الواسع بين جبلين.(6/303)
الإعراب:
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو حرف عطف على مقدر ولم حرف نفي وقلب وجزم والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما بعدها سدت مسد مفعولي رأى لأن الرؤية قلبية وان واسمها وجملة كانتا خبرها والالف اسم كان ورتقا خبرها وفي الاخبار به ما تقدم في زيد عدل أي كانت الشمس والأرض نفس الرتق، ففتقناهما الفاء عاطفة وفتقناهما فعل وفاعل ومفعول به والجملة معطوفة على كانتا والميم والالف حرفان دالان على التثنية، قال الأخفش: إنما قال كانتا لأنهما صنفان أي جماعتا السموات والأرضين كما قال سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» وقال الزجاج: انما قال كانتا لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد لأن السموات كانت سماء واحدة وكذلك الأرضون. (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) وجعلنا عطف على ما تقدم وجعلنا فعل وفاعل بمعنى خلق ومن الماء متعلقان بجعلنا لأنها بمعنى خلقنا أو بمحذوف حال من كل شيء لأنه كان في الأصل وصفا له فلما قدم عليه نصب على الحال ولك أن تجعل وجعلنا بمعنى صير متعديا لاثنين فيكون من الماء في محل نصب على أنه مفعول ثان وكل شيء مفعول أول، أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل.
(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) وجعلنا عطف على جعلنا وفي الأرض إما مفعول ثان ورواسي هو المفعول الاول وإما متعلقان بجعلنا أو بمحذوف حال ورواسي مفعول به وان وما في حيزها في محل نصب مفعول لأجله أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد وبهم متعلقان بتميد.(6/304)
(وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) وجعلنا عطف على ما تقدم وفيها هو المفعول الثاني أو متعلق بجعلنا وفجاجا حال لأنه كان صفة لسبلا وتقدم عليه وسبلا مفعول به ولعل واسمها وجملة يهتدون خبرها.
(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) وجعلنا السماء فعل وفاعل ومفعول به أول وسقفا مفعول به ثان وهم مبتدأ وعن آياتها متعلقان بمعرضون ومعرضون خبرهم والجملة حالية أو استئنافية.
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة خلق صلة وفاعل خلق ضمير مستتر تقديره هو والليل مفعول به وما بعده عطف عليه وكل مبتدأ وساغ الابتداء لما فيه من معنى العموم وفي فلك متعلقان بيسبحون وجملة يسبحون خبر كل وجملة كل في فلك يسبحون محلها النصب على الحال من الشمس والقمر، وانما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعل هو من خصائص العقلاء هو السباحة وتقدم نظيره في قوله «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» .
الفوائد:
1- بحث شيق في المفعول لأجله:
هذا بحث طريف أفرد له سيبويه فصلا خاصا في كتابه وهو بتعلق بالمفعول لأجله المؤول وهو هنا في قوله «وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ» قال ما خلاصته: هو من وادي قولهم: أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه قال ومعناه «ان ادعم الحائط إذا مال» وانما قدم ذكر الميل اهتماما بشأنه ولأنه أيضا هو السبب في الإدغام، وادعام سبب في إعداد الخشبة فعامل سبب السبب معاملة(6/305)
السبب وعليه حمل قوله تعالى «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» كذلك ما نحن بصدده يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي لأجل أن تثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب كما جعل الميل في المثل المذكور سببا وصار الكلام وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد فتثبتها ثم حذف فتثبتها لأمن الإلباس إيجازا واختصارا» وهذا لعمري أولى مما درجنا عليه في الاعراب لأن مقتضى ما ذكرناه وذكره أكثر المعربين والمفسرين يقتضي أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله كره ذلك ومكروه الله تعالى محال أن يقع كما أن مراده واجب أن يقع والمشاهد خلاف ذلك فكم من زلزلة مادت لها الأرض وكادت تقلب عاليها سافلها واما على تقرير سيبويه فالمراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت وهذا لا يأبى وقوع الميد، وهذا بحث جليل قلّ من ينتبه له إلا بعد هذا التفصيل فتأمله تر السحر الحلال وان من البيان لسحرا.
2- ذهب سيبويه والجمهور الى القول بأن لفظي كل وبعض معرفتان بنية الاضافة ولذلك يأتي الحال منهما كقولهم مررت بكل قائما وببعض جالسا، وأصل صاحب الحال التعريف وذهب الفارسي إلى أنهما نكرتان وألزم من قال بتعريفهما أن يقول إن نصفا وسدسا وثلثا وربعا ونحوها معارف لأنها في المعنى مضافات وهي نكرات بإجماع، ورد بأن العرب تحذف المضاف وتريده وقد لا تريده ودلّ مجيء الحال بعد كل وبعض على إرادته، بقي هنا سؤال واحد وهو لم أتى بصيغة الجمع وهما اثنان؟ والجواب ان الضمير عائد عليهما مع الليل والنهار وذلك لأن الليل والنهار يسبحان أيضا لأن الليل ظل الأرض وهو يدور على محيط كرة الأرض على حسب دوران الأرض وكذلك النهار يدور أيضا لأنه يخلف الليل في المحيط.(6/306)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 40]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
الإعراب:
(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير عدم خلود البشر جوابا لقولهم أن محمدا سيموت، وما نافية وجعلنا فعل وفاعل ولبشر في محل نصب مفعول ثان ومن قبلك صفة لبشر والخلد مفعول جعلنا الاول والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة وإن شرطية ومت فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة وهم مبتدأ والخالدون خبر والجملة في محل جزم جواب الشرط وهي بنية التقديم لأن أصل الكلام أفهم(6/307)
الخالدون إن مت، قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت قال ويجوز حذف الفاء واضمارها والمعنى إن مت فهم يموتون أيضا فلا شماتة في الموت. (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) كل مبتدأ ونفس مضاف اليه وذائقة الموت خبر والجملة مستأنفة مسوقة للتدليل على عدم الخلود فلا مجال للشماتة ورحم الله القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا
(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) الواو استئنافية أيضا ونبلوكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبالشر متعلقان بنبلوكم والخير عطف على الشر أي نختبركم بما يجب فيه الصبر وبما يجب فيه الشكر وفتنة مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه لأن الابتلاء فتنة فكأنه قيل نفتنكم فتنة ويجوز أن يعرب مفعولا من أجله أو نصبا على الحال من فاعل نبلوكم أي فاتنين لكم وإلينا متعلقان بترجعون وترجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل والجملة معطوفة على نبلوكم أو حالية. (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) لك أن تجعل الواو استئنافية فتكون الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير موقفهم من النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن تجعلها عاطفة فتكون الجملة معطوفة على قوله الآنف «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى» وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة رآك مضاف لها الظرف وفاعل رآك الذين والكاف مفعول به وجملة كفروا صلة وإن نافية ويتخذونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وإن النافية وما في حيزها جواب إذا وسيأتي ذكر السبب في عدم اقتران الجواب بالفاء في باب الفوائد وإلا أداة حصر وهزوا مفعول به ثان اما على الوصف بالمصدر مبالغة(6/308)
وقد مرت له نظائر واما على حذف مضاف، هذا ويجوز ان تكون ان النافية وما بعدها جملة معترضة فيكون الجواب قوله الآتي:
(أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) الهمزة للاستفهام والاستفهام معناه السخرية والجملة اما جواب إذا كما تقدم وإما مقول قول محذوف أي يقول بعضهم لبعض على سبيل السخرية والهزء أهذا، وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة يذكر صلة وآلهتكم مفعول به والواو حالية وهم مبتدأ وبذكر متعلقان بكافرون والرحمن مضاف اليه وهم تأكيد لهم الأولى تأكيدا لفظيا وكافرون خبر هم والجملة حال إما من فاعل يتخذونك وإما من فاعل القول المقدر كما أسلفنا ومفعول يذكر محذوف وسيرد بحثه في باب البلاغة.
(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) الجملة مستأنفة مسوقة للرد على استعجالهم العذاب وخلق فعل ماض مبني للمجهول والإنسان نائب فاعل ومن عجل متعلقان بخلق أو بمحذوف حال وسيأتي معنى هذا التركيب في باب البلاغة وسأريكم السنين للاستقبال وأريكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به أول وآياتي مفعول به ثان والفاء عاطفة ولا ناهية وتستعجلون فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والياء المحذوفة للرسم مفعول به وجملة سأريكم مستأنفة أيضا مسوقة لتأكيد العجلة وعاقبتها التي هي رؤية العذاب. (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لإيراد نمط من استعجالهم المذموم ويقولون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ومتى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وهذا مبتدأ مؤخر والوعد بدل وإن شرطية وكنتم كان(6/309)
واسمها في محل جزم فعل الشرط وصادقين خبر كنتم وجواب ان محذوف تقديره فعينوا موعده وخطابهم للنبي وأصحابه.
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) لو شرطية ويعلم فعل مضارع والذين فاعل وجملة كفروا صلة وحين يجوز أن يكون مفعول يعلم أي الوقت الذي يستعجلون فيه بقولهم متى هذا الوعد وهو وقت صعب ضنك تحيط بهم النار من كل مكان لما كانوا بتلك المثابة من الكفر فجواب لو محذوف وقد تقدمت الاشارة اليه كثيرا ويجوز أن يكون يعلم متروكا بلا تعدية بمعنى لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا متعجلين وحين منصوب بمضمر أي حين لا يكفوا عن وجوههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل والأرجح ان مفعول يعلم محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستبطئوه وحين منصوب بالمفعول الذي هو مجيء وجملة لا يكفون مضافة الى الظرف وعن وجوههم متعلقان بيكفون والنار مفعول به ولا عن ظهورهم معطوفة، والواو حرف عطف ولا نافية وهم مبتدأ وجملة ينصرون خبر وينصرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف وتأتيهم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على النار وبغتة حال أتى مصدرا وقيل مفعول مطلق وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الفوائد، فتبهتهم عطف على تأتيهم فلا يستطيعون عطف أيضا وردها مفعول يستطيعون ولا هم ينظرون عطف أيضا وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر كما أنظروا وأمهلوا من قبل.(6/310)
البلاغة:
1- التذييل: في قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» فن طريف من فنون البلاغة أطلق عليه علماؤها اسم «التذييل» وعرفوه بأنه تذييل الكلام بعد تمامه وحسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا وتخرجه مخرج المثل السائر ليشيع الكلام بعد دورانه على الألسنة فإن لم تكن الزيادة تفيد ذلك فلا يسمى تذييلا وبعضهم يسميه آنذاك تذييلا ولكنه يقول عنه أنه معيب وما أجدر المعيب أن ينتفى عن فنون البلاغة أو يندرج في سلكها وهو شائع في القرآن الكريم وستأتي أمثلة كثيرة منه، أما في الآية التي نحن بصددها فإن المعنى مستوفى في الاخبار بأنه سبحانه لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد ثم ذيل ذلك الاخبار بما أخرجه مخرج تجاهل العارف وهو قوله «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» ثم ذيل هذا التذييل بما أخرجه مخرج المثل السائر حيث قال: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» .
ومن أروع أمثلة التذييل في الشعر قول شاعر الخلود أبي الطيب:
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ... فما يقول لشيء ليت ذلك لي
يقول أبو الطيب: لا تصل الأماني الى قلبه فتستميله، ولا الى لسانه فتجري عليه لأنه لا يحتاج أن يتمنى شيئا إلا وله خير منه أو صار له ذلك الشيء فالأماني تقصر عن بلوغ قدره، وتقصر عن جلالة أمره وتمسي صرعى دون إدراك مجده فما يتمنى في الرفعة أكثر مما(6/311)
قد بلغه، ولم يزل سيف الدولة لهجا بهذا البيت معظما له، مثنيا عليه، مقرا له بأنه لا يلحق سبقا ولا يأتي أحد في بابه من المبالغة بمثل ما أتى به.
وقال ابن نباتة السعدي وأجاد:
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
لقد حقق له جميع آماله ومشتهياته فلم يعد لديه ما يؤمله وهبه صبا الى شيء فإنه واثق بحضوره فغدا بلا آمال.
2- الإيجاز بالحذف: وذلك في حذف مفعول يذكر في قوله تعالى:
«أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» والذكر يكون بالخير والشر فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد كقولك للرجل: سمعت فلانا يذكرك فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء وإن كان عدوا فذم ومن جهة ثانية لم يقولوا: أهذا الذي يذكر آلهتكم بكل سوء لأنهم استفظعوا حكاية ما يقوله النبي من القدح في آلهتهم رميا بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ورئبوا بها عن نقل ذمها تفصيلا وتصريحا فنقلوه إجمالا وتلميحا، بل أومئوا اليه بالاشارة المذكورة كما يتحاشى المؤمن من حكاية كلمة الكفر وان كان قائلها غير كافر فيومىء إليها بلفظ يفهم المقصود بطريق التعريض فسبحان من أضلهم حتى تأدبوا مع الأوثان، وأساءوا الأدب على الرحمن.
3- الاستعارة المكنية في قوله «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» فقد شبه العجل الذي طبع عليه الشخص وصار له كالجبلة بأصل مادته وهي الطين ثم حذف المشبه به ورمز اليه بشيء من لوازمه وهو قوله «خلق» وقيل لا استعارة فيه وانما هو من باب القلب والأصل خلق العجل من(6/312)
الإنسان لشدة صدوره عنه وملازمته له والقلب موجود كثيرا في كلامهم وقد تقدمت الإشارة اليه والأول أولى وأقعد بالبلاغة ومن بدع التفاسير ما قالوه من أن العجل هو الطين بلغة حمير وقال شاعرهم:
النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل ينبت بين الماء والعجل
يقول النبع وهو شجر تتخذ منه القسي في الصخرة الصماء الصلبة لا في غيرها منبته أي نباته والنخل ينبت في الأرض اللينة الريانة فهو بين الماء والعجل أي الطين وهذه لغه حمير كما قيل والظاهر أن الشطر الأول تمثيل للصعب البخيل والثاني للسهل الجواد أو الاول للشجاع والثاني للجبان لشدة الاول ورخاوة الثاني وعلى كل حال هذا المعنى غير وارد في الآية الكريمة لأن السياق يأباها فهم يستعجلون والله سبحانه ينعى عليهم عجلتهم.
وفي هذه الآية الاستعارة المكنية بقوله «ذائقة الموت» وليس الموت مما يذاق ولكنه شبهه بطعام غير مريء ولا مستساغ ولكنه لحتمية وقوعه وكونه أمرا لا بد منه أصبح بمثابة المريء المستساغ فلا مندوحة لنفس عن ذوقه وقد تقدمت نظائر لهذه الاستعارة.
الفوائد:
1- جواب «إذا» :
تخالف «إذا» أدوات الشرط جيمعا، فإن أدوات الشرط متى أجيبت بأن النافية أو بما النافية وجب الإتيان بالفاء كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى أيضا: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا» .(6/313)
2- مجيء المصدر حالا:
جاءت مصادر تعرب أحوالا بكثرة في النكرات كطلع زيد بغتة وجاء ركضا وقتلته صبرا وهو أن تحبسه حيا ثم يرمى حتى يقتل وذلك كله على كثرته مؤول بالوصف فيؤول بغتة بوصف من باغت لأنها بمعنى مفاجأة أي مباغتا ويؤول ركضا بوصف الفاعل من ركض أي راكضا ويؤول صبرا بوصف المفعول من صبر أي مصبورا محبوسا ومع كثرة وروده قال سيبويه: لا ينقاس مطلقا وقاسه بعضهم بما يمكن الرجوع اليه في المطولات.
ونعود الى بغتة فقد أكد بعضهم أنه يجوز جعلها مفعولا مطلقا وكذلك القول في الأمثلة المتقدمة إذ هي نوع من عاملها فهي كرجع القهقرى.
ويتحصل مما ذكره النحاة أن المصدر المنصوب فيه أقوال ثلاثة:
1- مذهب سيبويه ان المصدر هو الحال وهو الأصل.
2- مذهب المبرد والأخفش انه مفعول مطلق غير منصوب بالعامل قبله وانما هو منصوب بالعامل المحذوف من لفظه وذلك المحذوف هو الحال وهو قول جميل كما ترى.
3- مذهب الكوفيين انه مفعول مطلق منصوب بالعامل قبله وليس في موضع الحال.(6/314)
ومما يرد في هذا المجال اعراب «أسفا» من قول أبي الطيب:
أبلى الهوى أسفا يوم النوى بدني ... وفرق الهجر بين الجفن والوسن
روح تردّد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن
كفى بجسمي نحولا إنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فالحال هنا غير واردة لأن المعنى يأباها والمفعول لأجله لا يصح لاختلاف الفاعل فلم يبق إلا المفعولية المطلقة والتقدير أسفت أسفا ودل على فعله ما تقدمه لأن إبلاء الهوى بدنه يدل على أسفه كأنه قال أسفت أسفا، وتعسف ابن هشام فحاول أن يبرر نصبه على أنه مفعول لأجله فقال: فمن لم يشترط اتحاد الفاعل فلا إشكال (والقائل بهذا هو ابن خروف) واما من اشترطه فهو على إسقاط لام العلة توسعا كما في قوله «يَبْغُونَها عِوَجاً» (أي يبغون لها عوجا) أو الاتحاد موجود تقديرا إما على أن الفعل المعلل مطاوع أبلى محذوفا أي فبليت أسفا ولا تقدر فبلي بدني لأن الاختلاف حاصل إذ الأسف فعل النفس لا البدن أو لأن الهوى لما حصل بتسببه كأنه قال أبليت بالهوى بدني ولا طائل تحت هذه التأويلات المتعسفة.(6/315)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 41 الى 47]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47)
اللغة:
(يَكْلَؤُكُمْ) : في المصباح: «كلأه الله يكلؤه مهموز بفتحتين من باب قطع كلاءة بالكسر والمد حفظه ويجوز التخفيف فيقال كليته أكلاه وكلئته أكلؤه من باب تعب لغة لقريش لكنهم قالوا: مكلوّ بالواو(6/316)
أكثر من مكليّ بالياء» وفي القاموس: «كلأ يكلأ بالفتح كلئا وكلاءة وكلاء بكسر الكاف الله فلانا حرسه وحفظه وكلأه بالسوط ضربه به وكلأ بصره في الشيء ردّده فيه وكلأ النجم متى يطلع: رعاه» وفي الأساس: «الله يكلؤك، وتداركه الله بكلاءته واكتلأت منه: احترست قال كعب بن زهير:
أنخت قلوصي واكتلأت بعينها ... وآمرت نفسي أيّ أمري أفعل
أي احترست بعينها لأنها إذا رأت شيئا ذعرت، وكلأ دينه كلوءا: تأخر فهو كالىء ونهي عن «بيع الكالئ بالكالئ» وكلّأته أنا تكلئة واستكلأت كلأة وتكلأت: استلفت سلفا وتقول: «إن الكلى تذيب شحم الكلى» جمع كلأة» .
(خَرْدَلٍ) : الخردل: نبات له حبّ صغير جدا أسود مقرح والواحدة خردلة ويقال خردل الطعام: أكل خياره وخردل اللحم قطع أعضاءه والخرادل القطع من اللحم.
الإعراب:
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته واللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق واستهزئ فعل ماض مبني للمجهول وبرسل قام مقام نائب الفاعل ومن قبلك نعت لرسل.
(فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء عاطفة وحاق فعل ماض وبالذين متعلقان بحاق وجملة سخروا لا محل لها لأنها صلة(6/317)
الموصول ومنهم حال من فاعل سخروا وما فاعل حاق وجملة كانوا صلة الموصول وكان واسمها وبه متعلقان بقوله يستهزئون ويستهزئون جملة فعلية في محل نصب خبر كانوا. (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) من اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يكلؤكم خبر والجملة مقول القول وبالليل متعلقان ييكلؤكم والنهار عطف على الليل ومن الرحمن أي من عذابه وأمره وهما متعلقان بيكلؤكم. (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) بل حرف إضراب وهم مبتدأ وعن ذكر ربهم متعلقان بمعرضون، ومعرضون خبر هم وهو إضراب عما تضمنه الكلام من النفي والتقدير ليس لهم كالىء ولا مانع غير الرحمن مع انهم لا يخطرونه في بالهم فضلا عن أن يخافوا بأسه وعذابه. (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) أم حرف عطف وإضراب فهي بمعنى بل ولهم خبر مقدم وآلهة مبتدأ مؤخر وهمزة الاستفهام مقدرة والتقدير ألهم آلهة تمنعهم وجملة تمنعهم صفة لآلهة ومن دوننا صفة لآلهة أيضا.
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير أن من ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره ولا نافية ويستطيعون فعل مضارع وفاعل ونصر أنفسهم مفعول به ولا الواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ ومنا متعلقان بيصحبون ويصحبون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة يصحبون خبرهم، تقول العرب أنا لك صاحب من فلان أي مجير لك منه وتقول أيضا: صحبك الله أي حفظك وأجارك. (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) بل حرف إضراب انتقالي ومتعنا فعل وفاعل وهؤلاء اسم اشارة مبني على الكسر في محل نصب مفعول به وآباءهم عطف على هؤلاء وحتى حرف غاية وجر وطال فعل ماض وعليهم متعلقان بطال والعمر فاعل طال.(6/318)
(أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر وقد تكرر هذا التعبير حتى لم يعد ثمة موجب لإعادته ولا نافية ويرون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يرون لأن الرؤية هنا علمية ويجوز أن تكون بصرية وان واسمها وجملة نأتي الأرض خبرها وجملة ننقصها من أطرافها حالية من فاعل نأتي أو من مفعوله أي نفتحها أرضا بعد أرض بما ينقص من أطراف المشركين ويزيد في أطراف المؤمنين وقد تقدم بسط هذا مفصلا في سورة الرعد فجدد به عهدا وسيأتي السر في اسناد الفعل الى نفسه في باب البلاغة وقوله أفهم الهمزة للاستفهام الانكاري التقريعي والفاء عاطفة على مقدر وهم مبتدأ والغالبون خبر (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) إنما كافة ومكفوفة وأنذركم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وبالوحي متعلقان بأنذركم ولا يسمع الواو عاطفة ويجوز أن تكون حالية ولا نافية ويسمع الصم الدعاء فعل مضارع وفاعل ومفعول به وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وهي لمجرد الظرفية متعلقة بيسمع أي وقت إنذارهم، وما زائدة وينذرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة ينذرون في محل جر باضافة الظرف إليها وسيأتي تفصيل لهذه الآية في باب البلاغة.
(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية ومستهم فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به ونفحة فاعل والمراد بالنفحة القليل مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان ومنه قول النعمان بن بشير:
وعمرة من سروات النسا ... ء تنفح بالمسك أردانها(6/319)
وقال المبرد: النفحة الدفعة من الشيء التي دون معظمه يقال نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة، وقيل: هي النصيب، وقيل هي الطرف والمعنى متقارب أي ولئن مسهم أقل شيء من العذاب، ومن عذاب ربك صفة لنفحة، ليقولن اللام واقعة في جواب القسم لأنه سبق ويقولنّ فعل مضارع مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون للتوكيد ويا ويلنا إما نداء للويل ليحضر فهذا أوانه واما ان يا للتنبيه وويلنا مفعول مطلق لفعل محذوف وإنا إن واسمها وجملة كنا خبرها ونا اسم كان وظالمين خبرها. (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سيقع عند إتيان ما أنذروه ونضع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والموازين مفعول به والقسط وصف الموازين وقد وصفت بنفس المصدر مبالغة من قسط إذا عدل وليوم القيامة متعلق بنضع واللام بمعنى «في» كقولهم مضى لسبيله وقيل يمعنى عند قال الزمخشري: «مثلها في قولك جئته لخمس خلون من الشهر ومنه بيت النابغة:
توسمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع
ومعناه تتبعت رسومها وآثارها فعرفتها أي في تلك المواضع المذكورة في البيت قبله وقوله لستة أعوام أي تمام ستة أعوام مضت من عهدها وهذا العام الحاضر الذي نحن فيه هو السابع ولو قال لسبعة أعوام لأفاد أن السبعة كلها مضت وليس مرادا فقول بعضهم انه كان يكفيه أن يقول لسبعة أعوام فعجز عن إتمامه وكمله بما لا معنى له ولا وجه إلا عدم التبصر. فلا الفاء عاطفة وتظلم فعل مضارع مبني للمجهول ونفس نائب فاعل وشيئا مفعول مطلق أو مفعول ثان لتظلم.(6/320)
(وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط واسمها مستتر تقديره هو يعود على العمل ومثقال حبة خبر كان ومن خردل صفة لحبة وأتينا بها في محل جزم جواب الشرط وكفى الواو عاطفة وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد وحاسبين تمييز أو حال وأنث ضمير المثقال لأنه أضيف الى الحبة وقد مرت قاعدته.
البلاغة:
1- وضع الظاهر موضع المضمر: في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» فن لطيف يمكن تسميته وضع الظاهر موضع المضمر والفائدة منه التسجيل عليهم فقد كان مقتضى السياق أن يقول ولا يسمعون ولكنه صرح بالصم وتجاوز بالظاهر عن ضميره للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إن أنذروا، وللدلالة على صدور إنكار شديد وغضب عظيم وتعجب من نبو أسماعهم عن الوحي وعدم إصاختهم لما ينفعهم وإمعانهم في ركوب الغي والتعسف في متاهات الضلال وهذا فن عجيب تميز به القرآن الكريم وسيرد عليك الكثير من نماذجه.
2- اسناد الضمير الى الله تعالى في قوله تعالى: «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها» أسند سبحانه الضمير الى نفسه تعظيما للمسلمين الذين أجرى على أيديهم الانتصار العظيم وافتتاح البلاد والأمصار وان عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها(6/321)
ناقصة من أطرافها فأصله تأتي جيوش المسلمين ولكنه أسند الإتيان الى نفسه تنويها بقدر المجاهدين وتعظيما لما أتوا به من جلائل الأعمال وناهيك بمن يعمل عملا ينسبه الله الى نفسه ألا يصح فيه أن يكون مصداقا لقوله في حديثه «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها» الى آخر الحديث القدسي.
3- مبالغات ثلاث:
وفي قوله تعالى: «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا» ثلاث مبالغات:
آ- ذكر المس وهو أقل شيء بل هو شيء رفيق جدا فما بالك إذا انثال عليهم؟ أي يكفي للدلالة على ذلهم وهوان أمرهم ووهن عزيمتهم أن أقل مس يكفيهم ليذعنوا ويتطامنوا ويعلنوا ذلهم وخضوعهم والإقرار على أنفسهم بأنهم تصاموا وأعرضوا وقد رمق المتنبي سماء هذه المبالغة فقال في وصف قوم جبناء:
وضاقت الأرض حتى كاد هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
ب- وما في النفحة من معنى القلة والنزارة يقال: نفحته الدابة ونفحه بعطية.
ج- بناء المرة من النفح فمصدر المرة يأتي على فعلة أي نفحة واحدة لا ثاني لها تكفي لتشتيت أمرهم وتوهين كيانهم وتصدع صفوفهم فكيف إذا عززت بثانية أو ثالثة؟.(6/322)
الفوائد:
مصدرا المرة والهيئة:
مصدر المرة هو ما يذكر لبيان عدد الفعل ويبنى من الثلاثي المجرّد على وزن فعلة بفتح الفاء وسكون العين مثل: وقفت وقفة ووقفتين ووقفات فإن كان الفعل فوق الثلاثي ألحقت بمصدره التاء مثل أكرمته إكرامة وفرّحته تفريحة وتدحرج تدحرجة إلا ان كان المصدر ملحقا في الأصل بالتاء فيذكر بعده ما يدلّ على العدد مثل رحمته رحمة واحدة وأقمت إقامة واحدة واستقمت استقامة واحدة.
أما مصدر النوع أو الهيئة فهو ما يذكر لبيان نوع الفعل وصفته نحو وقفت وقفة ويبنى من الثلاثي المجرد على وزن فعلة بكسر الفاء مثل عاش عيشة حسنة ومات ميتة سيئة وفلان حسن الجلسة وفلانة هادئة المشية فإن كان الفعل فوق الثلاثي يصير مصدره بالوصف مصدر نوع مثل أكرمته إكراما عظيما.
هذا وهنا تنبيه هام نبه عليه الشيخ أبو حيان وهو أن هذه التاء الدالة على المرة الواحدة لا تدخل على كل مصدر بل على المصادر الصادرة عن الجوارح المدركة بالحس نحو قومة وضربة وقعدة وأكلة، وأما مصادر الأفعال الباطنة والخصال الجليلة الثابتة نحو الظرف والحسن والجبن والعلم فلا يقال من ذلك علمته علمة ولا فهمته فهمة ولا صبرته صبرة.(6/323)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 55]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52)
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
اللغة:
(التَّماثِيلُ) : جمع تمثال بكسر التاء أي الصورة المصورة أو ما تصنعه وتصوره مشبها بخلق الله من ذوات الروح والصورة وهذا الوزن فيه زائدان أحدهما قبل الفاء والآخر قبل اللام وقد جاء اسما وصفة. فالاسم تمثال للصورة ويجمع على تماثيل وقالوا تجفاف وتبيان فالتجفاف واحد تجافيف الفرس وهو ما يلبس عند الحرب والزينة وتبيان بمعنى البيان فمنهم من يجعله مصدرا من قبيل الشاذ لأن المصادر إنما تجيء على تفعال بالفتح نحو التلعاب والتهدار ولم يجيء بالكسر إلا تبيان وتلقاء، وسيبويه يجعلهما من الأسماء التي وضعت(6/324)
موضع المصادر كالغارة وضعت موضع الإغارة. وقال غير واحد من علماء اللغة: التمثال هو الصورة المصنوعة من رخام أو نحاس أو خشب شبيهة بخلق الآدمي.
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما يكابده من قومه وتقوية لقلبه وحفزا لاستدامته في تأدية الرسالة وذكر منها في هذه السورة عشر قصص وستأتي. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به وهارون معطوف على موسى والفرقان مفعول به ثان وضياء عطف على الفرقان وذكرا عطف على ضياء وللمتقين متعلقان بضياء وعطف الصفات جائز فهو من هذا الوادي واختار الزمخشري أن يعرب حالا وعامله محذوف دل عليه ما قبله وقدره: وآتينا به ضياء، أما ما ارتآه بعضهم من أن الواو زائدة وضياء حال من الفرقان فهذا مجرد تحكم لا نتردد في رده.
(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) الذين اسم موصول في محل جر صفة للمتقين ولك أن تعربه خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يخشون صلة والواو فاعل وربهم مفعول به وبالغيب حال من الفاعل في يخشون وهم الواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ ومن الساعة جار ومجرور متعلقان بمشفقون ومشفقون خبرهم وسيأتي سر التعبير بالاسمية في باب البلاغة. (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لخطاب أهل مكة ومحاورتهم حول القرآن الكريم الذي أنزل بلسانهم، وهذا مبتدأ وذكر خبر ومبارك صفة وجملة أنزلناه صفة لذكر وهو فعل وفاعل(6/325)
ومفعول به والهمزة للاستفهام التوبيخي لأنه خطاب للعرب وهم أهل اللسان العربي ومعادن الفصاحة فما أجدرهم باكتناه أسرار القرآن وإدراك بلاغته والفاء عاطفة على محذوف وأنتم مبتدأ وله متعلقان بمنكرون ومنكرون خبر أنتم. (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وابراهيم مفعول به أول ورشده مفعول به ثان ومن قبل حال أي من قبل موسى وهارون وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وبه متعلقان بعالمين وعالمين خبر كنا. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟) الظرف متعلق بفعل محذوف أي اذكر ولك أن تعلقه بعالمين وعلقه الزمخشري بآتينا أو برشده أيضا وليس ثمة ما يمنع من ذلك وجملة قال مضاف إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال وقومه عطف على لأبيه، وما اسم استفهام مبتدأ وهذه خبر والتماثيل بدل من اسم الاشارة والتي صفة وجملة أنتم لها عاكفون صلة الموصول وأنتم مبتدأ وعاكفون خبر ولها متعلقان بعاكفون وسيأتي السر في عدوله عن القول عليها عاكفون الى لها عاكفون في باب البلاغة. (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) قالوا فعل وفاعل ووجدنا فعل وفاعل والجملة مقول القول وآباءنا مفعول وجدنا الأول ولها متعلقان بعابدين وعابدين مفعول وجدنا الثاني. (قالَ: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكنتم كان واسمها وأنتم تأكيد للتاء وآباؤكم عطف على التاء وفي ضلال خبر كنتم ومبين صفة لضلال. (قالُوا: أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) الهمزة للاستفهام وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بجئتنا وأم حرف عطف معادل للهمزة وأنت مبتدأ ومن اللاعبين خبره.(6/326)
البلاغة:
1- العدول عن الفعلية الى الاسمية: في قوله تعالى: «وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» عدول عن الخطاب بالجملة الفعلية كما هو مقتضى السياق الى الخطاب بالجملة الاسمية وانما يعدل عن أحد الخطابين وإن كان السياق يقتضيه لضرب من التأكيد والمبالغة وقد جيء بها هنا تنويها بالخاص بعد العام فالخشية من الله ملازمة لهم ولكنها من الساعة أكثر ملازمة وأشد امتلاكا لقلوبهم وأسرا لجوارحهم، ما يريمون عن تذكرها، وتفادي كل ذنب خشية مواجهتها بما هم فيه، وأمر ثان هو الديمومة والاستمرار اللذان تفيدهما الجملة الاسمية أكثر مما تفيدهما الجملة الفعلية التي تتوزع على الأزمنة.
2- في قوله تعالى: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» عدول عن «على» التي يتعدى فعل العكوف بها ولكنه أم يقصد التعدية ولو قصد التعدية لقال عليها ولكنه عدل عنها الى اللام لأنه قصد من العكوف معنى العبادة ليجيبوه بقولهم «وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» وانهم لا ينفكون عن التقليد الأعمى وفي ذلك ما فيه من التنديد بالتقليد والقول بغير برهان والانجرار الى ما عليه آباؤهم ولو بالأرسان، وكفى أهل التقليد سبة أن عبدة الأوثان والأصنام منهم وقيل إن اللام بمعنى على وقد نص النحاة على مجيئها بمعنى على ولكن تفوت بذلك النكتة التي ألمعنا إليها فالأولى بقاؤها على بابها من الاختصاص الذي هو معنى رئيسي للام.
3- خولف بين الجملتين في الآية «قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ» لملاحظة تجدد في إحداهما فبرزت في صورة الفعلية وثبات(6/327)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
في الأخرى فبرزت في صورة الاسمية والمعنى: أحدثت عندنا الإتيان بالحق وهو التوحيد فيما نسمعه منك أم أنت على ما كنت عليه من اللعب منذ أيام الصبا وأرادوا بالتجدد في الجملة الاولى أن التوحيد أمر محدث مخترع وبالثبات في الثانية أنه على عادتهم المستمرة من اللعب تحقيرا له، وما أقبح ضلالهم في تقليد آبائهم في عبادة جماد هو دونهم في الرتبة حيث ينحتونها بأيديهم ثم يعفرون وجوههم وجباههم دونها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 56 الى 61]
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
اللغة:
(جُذاذاً) : في القاموس الجذاذ بتثليث الجيم: ما تكسر من الشيء وفعله جذّ يجذّ من باب نصر وقد تقدمت الخصائص لاجتماع الجيم والذال فاء وعينا للكلمة.(6/328)
الإعراب:
(قالَ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) بل حرف إضراب وربكم مبتدأ ورب السموات والأرض خبر والذي صفة لرب وجملة فطرهن صلة والضمير يعود على السموات والأرض أو على التماثيل ورجح الزمخشري الثاني لكونه «أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم» ويدل على ذلك أيضا قوله «وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» كأنه قال وسأبين لكم ذلك وأبرهن عليه، وأنا مبتدأ خبره من الشاهدين وعلى ذلك متعلقان بالشاهدين. (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) وهذا شروع في تأكيد الطريقة الفعلية أو الدليل العملي كما يقال فالواو عاطفة والتاء تاء القسم وسيرد بحث هام عن حروف القسم الجارة في باب الفوائد والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم واللام جواب القسم وأكيدن فعل مضارع مبني على الفتح لوجوب توكيده بنون التوكيد الثقيلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنا وأصنامكم مفعول به وبعد ظرف متعلق بأكيدن وأن وما في حيزها مصدر مؤول مضاف الى الظروف ومدبرين حال أي تعودوا الى مجتمعاتكم. (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) الفاء عاطفة على محذوف تقديره فولوا وعادوا الى مجتمعاتهم وذهب معهم ابراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه وقال إني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا فرجع إبراهيم الى بيت الأصنام وقبالة الباب صنم عظيم والى جنبه أصغر منه وهكذا دواليك فقال لهم إبراهيم ألا تأكلون فلم ينبس أحد فانهال عليهم تكسيرا فجعلهم ... والقصة بكاملها مروية في الخازن وغيره.(6/329)
وجعلهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وجذاذا مفعول به ثان وإلا أداة استثناء لأن الكلام تام موجب وكبيرا مستثنى من الهاء أي لم يكسره وتركه لحبك النكتة واستكمال الهزء بهم، ولعل واسمها واليه متعلقان بيرجعون وجملة يرجعون خبر لعل وفي هذا من التهكم ما فيه.
(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) قالوا فعل وفاعل ومن اسم استفهام قصد به الإنكار مبتدأ وجملة فعل خبر وهذا مفعول فعل وبآلهتنا متعلقان بفعل ولم يشيروا إليها بهؤلاء وهي أمامهم لوضع الظاهر موضع المضمر وقد تقدم بحثه وجملة إنه لمن الظالمين مستأنفة مسوقة لتقرير ما تقدم وتأكيد استنكارهم لما حدث وان واسمها واللام المزحلقة ومن الظالمين خبران. (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) جملة سمعنا مقول القول وفتى مفعول سمعنا وجملة يذكرهم مفعول به ثان وستأتي خاصة فعل سمع في باب الفوائد وجملة يقال صفة لفتى وله متعلقان بيقال وابراهيم: في رفعه عدة أوجه متساوية الرجحان أولها انه نائب فاعل، يقال أي يقال له هذا اللفظ قال الزمخشري: وهو الصحيح لأن المراد الاسم لا المسمى وثانيها أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ابراهيم أو هذا ابراهيم وثالثها أنه مبتدأ محذوف الخبر أي ابراهيم فاعل ذلك ورابعها انه منادى وحرف النداء محذوف أي يا ابراهيم. (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) فأتوا الفاء الفصيحة وأتوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وبه متعلقان بقوله فأتوا، وعلى أعين الناس في محل نصب على الحال من الضمير المجرور بالباء أي ائتوا به حال كونه معاينا مشاهدا وسيأتي سر الاستعلاء في هذا التعبير ولعلهم لعل واسمها وجملة يشهدون خبرها أي يشهدون عليه انه الفاعل.(6/330)
الفوائد:
في هذه الآيات فوائد كثيرة نورد أهمها فيما يلي:
1- حروف القسم:
أصل حروف القسم الباء والواو مبدلة منها وانما قلنا ذلك لأنها حرف الجر الذي يضاف به فعل الحلف الى المحلوف وذلك الفعل أحلف أو أقسم أو نحوهما ولكنه لما كان الفعل غير متعد وصلوه بالباء المعدية فصار أحلف بالله أو أقسم بالله، قال الله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» وقال الشاعر:
أقسم بالله وآلائه ... والمرء عما قال مسئول
وقال زهير بن أبي سلمى:
فأقست بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
وانما خص الباء بذلك دون غيرها من حروف الجر لأمور:
آ- انه يجوز ذكر فعل القسم معها كما رأيت في الشواهد المتقدمة ولا يجوز ذلك في الواو والتاء فلا تقول أقسم والله ولا أقسم تالله.
ب- جواز دخولها على الضمير دون غيرها من الحروف تقول:
بك لأفعلن ولا تقول تك ولا وك، ومعروف أن الضمير يرد الشيء الى أصله.(6/331)
ج- استعمالها في القسم الاستعطافي وذلك أن القسم جملة انشائية يقصد بها تأكيد جملة أخرى فإن كانت هذه الجملة الاخرى انشائية أيضا فذلك هو القسم الاستعطافي نحو بالله هل قام زيد أي أسألك بالله مستحلفا. ومن القسم الاستعطافي بالباء قول المجنون:
بربك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الصبح أو قبلت فاها
د- اختصاص الباء دون الواو والتاء بمجيئها لغير القسم وهو ظاهر.
ولما كثر استعمال ذلك في الحلف آثروا التخفيف فحذفوا الفعل من اللفظ وهو مراد ليعلق حرف الجر به ثم أبدلوا الواو من الباء توسعا في اللغة ولأنها أخف لأن الواو أخف من الباء وحركتها أخف من حركة الباء وانما خصوا الواو بذلك لأمرين:
آ- انها من مخرج الباء أي من الشفتين.
ب- من جهة المعنى وذلك ان الباء معناها الإلصاق والواو معناها الاجتماع، والشيء إذا لاصق الشيء فقد جاء معه.
وأما التاء فهي مبدلة من الواو لأنه قد كثر إبدالها في نحو تكأة وتراث وتخمة لشبهها من جهة اتساع المخرج وهي من الحروف المهموسة فناسب همسها لين حروف اللين، ولما كانت الواو بدلا من الباء والبدل ينحط عن درجة الأصل فلذلك لا تدخل إلا على كل ظاهر ولا تدخل على المضمر لانحطاط الفرع عن درجة الأصل لأنه من المرتبة الثانية والتاء لما كانت بدلا من الواو وكانت من المرتبة الثالثة انحطت عن(6/332)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
درجة الواو فاختصت باسم الله تعالى لكثرة الحلف به وقد يكون فيها معنى التعجب قال الله تعالى: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ» على طريق التعجب وكالآية التي نحن بصددها كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه لأن ذلك كان أمرا مقنوطا منه أو مشكوكا فيه على الأقل لتعذره وصعوبته.
2- خصائص فعل سمع:
لهذا الفعل خصائص عجيبة وذلك انه إذا دخل على ما لا يسمع تعدى لاثنين كما في الآية الكريمة فالمفعول الأول فتى والثاني يذكرهم بخلاف ما لو دخلت على ما يسمع كأن قلت سمعت كلام زيد فانها تتعدى لواحد.
3- معنى الاستعلاء:
معنى الاستعلاء العلو فالسين والتاء للعلو لا للطلب ويكون الاستعلاء على نوعين حقيقي نحوَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»
ومجازي نحو «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» شبه التمكن من الهدى والأخلاق العظيمة الشريفة والثبوت عليها بمن على دابة يصرفها كيف شاء وكذلك قولهم: عليه دين كأن شيئا اعتلاه وكما في قوله «عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ» أي يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن منها ثبات الراكب على المركوب وتملكه منه.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 62 الى 70]
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)(6/333)
الإعراب:
(قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟) الهمزة للاستفهام وأنت مبتدأ وجملة فعلت خبر وهذا مفعول به وبآلهتنا متعلقان بفعلت ويا حرف نداء وابراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب منادى. (قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) بل حرف إضراب وفعله كبيرهم فعل ومفعول به وفاعل مؤخر وهذا نعت لكبيرهم أو بدل منه والفاء الفصيحة واسألوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به وإن شرطية وكانوا فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والواو اسمها وجملة ينطقون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فاسألوهم. (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) الفاء عاطفة ورجعوا فعل ماض وفاعل والى أنفسهم متعلقان برجعوا فقالوا عطف على فرجعوا وإنكم ان واسمها وجملة أنتم الظالمون خبرها ولك أن تجعل أنتم ضمير فصل والظالمون خبر إن. (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى(6/334)
رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ)
ثم حرف عطف للتراخي وسيأتي معنى التنكيس في باب البلاغة ونكسوا فعل ونائب فاعل وعلى رءوسهم حال أي كائنين على رءوسهم ولك أن تعلقه بنفس الفعل ومعنى التنكيس القلب يقال نكس رأسه ونكسه مخففا ومشددا أي طأطأه حتى صار أعلاه أسفله واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمت فعل وفاعل والخطاب لابراهيم والجملة معمول لقول محذوف في موضع الحال وما نافية حجازية وهؤلاء اسمها وجملة ينطقون خبرها وجملة ما هؤلاء ينطقون في موضع المفعولين لعلمت أو في موضع المفعول الواحد إن كانت علمت بمعنى عرفت. (قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف وتعبدون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا ينفعكم صلة وشيئا مفعول مطلق ولا يضركم عطف على لا ينفعكم. (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أف اسم فعل مضارع وقد تقدمت اللغات فيها ومعناه أتضجر ولكم متعلقان بمحذوف حال لأن اللام للبيان بالنسبة للمتأفف ولما تعبدون عطف على لكم وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال أفلا الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية وتعقلون فعل مضارع والواو فاعل. (قالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) حرقوه فعل أمر وفاعل ومفعول به والجملة مقول القول وانصروا فعل أمر وفاعل وآلهتكم مفعول به وإن شرطية وكنتم فعل الشرط والتاء اسم كان وفاعلين خبرها وجواب ان محذوف دل عليه ما قبله أي فحرقوه وانصروا آلهتكم. (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) لا بد من تقدير جمل محذوفة أي فأزمعوا أمرهم على حرقه فجمعوا الحطب الكثير وأضرموا النار وأوثقوا ابراهيم وجعلوه(6/335)
في منجنيق ورموه في النار، وقلنا فعل وفاعل ويا حرف نداء ونار منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب وكوني فعل أمر ناقص والياء اسمها وبردا خبرها وسلاما عطف على بردا وعلى ابراهيم صفة سلاما. (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) الواو حرف عطف وأرادوا فعل ماض وفاعل وبه متعلقان بأرادوا وكيدا مفعول به، فجعلناهم الفاء حرف عطف وجعلناهم عطف على أرادوا والأخسرين مفعول به ثان.
البلاغة:
1- تجاهل العارف: في قوله: «أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» فن طريف من فنونهم يسمى تجاهل العارف وهو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج الكلام مخرج المدح أو الذم أو ليدل على شدة الوله في الحب أو لقصد التعجب أو التوبيخ أو التقرير وهو على قسمين موجب ومنفي والآية التي نحن بصددها من التجاهل الموجب الجاري مجرى التقرير.
2- التعريض: في قوله «فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» فن التعريض، وقد تقدمت الاشارة اليه أكثر من مرة، أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله، فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة لانهم إذا قالوا لا ينطقون قال لهم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه، فهذا الكلام من فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته.(6/336)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 71 الى 75]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
الإعراب:
(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) الواو عاطفة ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به ولوطا معطوف على الهاء أو مفعول معه والواو واو المعية وهو ابن أخيه فنقلناه من أرض نمروذ بالعراق، الى الأرض متعلقان بنجيناه أو بمحذوف حال والتي صفة للأرض وجملة باركنا فيها للعالمين صلة وفيها حال وللعالمين متعلقان بباركنا وهي قرى بيت المقدس بفلسطين وسيأتي بحث هام عن فلسطين لغة في باب الفوائد (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ) الواو حرف عطف ووهبنا فعل وفاعل وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول به ويعقوب عطف على اسحق ونافلة حال من يعقوب أي أعطي يعقوب زيادة من غير سؤال وإذا جعلت معنى نافلة عطية فيكون انتصابها على المفعولية(6/337)
المطلقة من معنى العامل وهو وهبنا لأن الهبة والعطية متقاربان في المعنى وكلّا مفعول أول لجعلنا مقدم وجعلنا فعل وفاعل وصالحين مفعول به ثان. (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وجعلناهم فعل وفاعل ومفعول به وأئمة مفعول به ثان وجملة يهدون بأمرنا صفة لأئمة وبأمرنا حال أي يهدون الى ديننا ملتبسين بأمرنا. (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) وأوحينا عطف على ما تقدم وإليهم متعلقان بأوحينا وفعل الخيرات مفعول به وإقام الصلاة عطف على فعل الخيرات وكذلك إيتاء الزكاة، وكانوا الواو عاطفة وكانوا كان واسمها وعابدين خبرها ولنا متعلقان بعابدين. (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ولوطا منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده أي آتينا لوطا فهو من باب الاشتغال وجملة آتيناه مفسرة لا محل لها وحكما مفعول ثان لآتيناه وعلما معطوف على حكما.
(وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به ومن القرية متعلقان بنجيناه والتي صفة للقرية وجملة كانت صلة واسم كانت ضمير مستتر تقديره هي وجملة تعمل الخبائث خبر كانت وجملة انهم تعليلية لا محل لها وان اسمها وجملة كانوا خبرها وقوم خبر كانوا وسوء مضاف لقوم وفاسقين صفة لقوم. (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في رحمتنا متعلقان بأدخلناه وجملة انه من الصالحين تعليلية وان واسمها والجار والمجرور خبرها.
البلاغة:
في هذه الآيات مجازان الأول في قوله «وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ» والمراد أهلها لأنهم كانوا يمارسون الخبائث أي(6/338)
الأعمال القبيحة من اللواط والرمي بالبندق واللعب بالطيور وغيرها.
والثاني في قوله «وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا» أي في جنتنا لأنها مكان الرحمة فهو مجاز مرسل علاقته المحلية.
الفوائد:
1- فلسطين:
فلسطين بفتح الفاء وكسرها مع فتح اللام لا غير قرى بيت المقدس وفي القاموس: «فلسطون وفلسطين وقد تفتح فاؤهما: كورة بالشام وقرية بالعراق تقول في حال الرفع بالواو وفي حال النصب والجر بالياء أو تلزمها الياء في كل حال والنسبة فلسطي» هذا ويجوز في هذا النوع أي المسمى بجمع المذكر السالم أن يعرب بالحركات الثلاثة ظاهرة على النون حال كونه لم يكن أعجميا وإن كان أعجميا أعرب إعراب ما لا ينصرف أي لا ينون ويجر بالفتحة ويجوز فيه أن يعرب اعراب جمع المذكر السالم.
2- إقام الصلاة وإيتاء الزكاة:
(إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) القاعدة في مصدر الفعل الرباعي على وزن أفعل أن يأتي على إفعال إن كان صحيح العين نحو أكرم إكراما وأوجد إيجادا فان اعتلت عينه نحو اقام وأعان وأبان جاء مصدره على إفالة كإقامة وإعانة وابانة حذفت عين المصدر وعوض منها تاء التأنيث والأصل أقوام وإعوان وإبيان فنقلت حركة الواو والياء وهي الفتحة الى الحرف الساكن قبلهما ثم حذفتا فرارا من اجتماع الساكنين وعوض(6/339)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
منهما التاء وقد تحذف هذه التاء من المصدر إذا أضيف كقوله تعالى «وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» وما كان منه معتلّ اللام مثل أعطى وأهدى وأولى قلبت لامه في المصدر همزة مثل إعطاء وإهداء وإيلاء والأصل إعطاو وإهداي وايلاي قال في شرح القاموس «العرب تهمز الواو والياء إذا جاءتا بعد ألف لأن الهمزة أحمل للحركة منهما ولأنهم يستثقلون الوقف على الواو وكذلك الياء مثل الرداء أصله رداي» هذا ويرجع في هذا الى بحث الابدال في كتب النحو المطولة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 76 الى 82]
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)(6/340)
اللغة:
(الْحَرْثِ) : الزرع وبابه نصر أو كتب كما في المختار وفي القاموس:
الحرث مصدر والأرض التي تستنبت بالبذر والنوى والغرس قال ابن عباس وأكثر المفسرين إن الحرث كان كرما قد تدلت عناقيده وقيل كان زرعا.
(نَفَشَتْ) : تفرقت وانتشرت فيه فرعته وأفسدته وفي المختار:
«نفشت الغنم والإبل أي رعت ليلا بلا راع من باب جلس ... والنفش بفتحتين اسم منه ومنه قوله تعالى «إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ» ولا يكون النفش إلا بالليل» ونفش الصوف والقطن من باب نصر والنفش تشعيب الشيء بأصابعك حتى ينتشر.
(لَبُوسٍ) : اللبوس اللباس قال: «البس لكل حال لبوسها» والمراد الدرع، قال قتادة: كانت صفائح فأول من سردها وخلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وهي المسماة بالدرع والدرع كما في المختار مؤنثة، وقال أبو عبيدة تؤنث وتذكر.
الإعراب:
(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) ونوحا عطف على لوطا فيكون مشتركا معه في عامله الذي هو آتينا المفسر بآتينا الظاهر وكذلك داود وسليمان والتقدير ونوحا آتيناه حكما وداود وسليمان آتيناهما حكما فإذ بدل اشتمال من نوحا وداود وسليمان ولك أن تعربه مفعولا به لفعل محذوف أي واذكر(6/341)
نوحا وداود وسليمان أي اذكر خبرهم وقصتهم فتكون إذ منصوبة بنفس المضاف المقدر أي خبرهم الواقع في وقت كذا، وجملة نادى مضاف إليها ومن قبل متعلقان بنادى فاستجبنا عطف على نادى وله متعلقان باستجبنا، فنجيناه عطف على استجبنا ومن الكرب متعلقان بنجيناه والعظيم صفة. (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)
ونصرناه فعل وفاعل ومفعول به ومن القوم متعلقان بنصرناه والذين صفة للقوم وجملة كذبوا بآياتنا صلة وان واسمها وجملة كانوا خبرها وجملة انهم تعليلية لا محل لها وقوم سوء خبر كانوا فأغرقناهم عطف على ما تقدم وأجمعين تأكيد للهاء.
(وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) وداود وسليمان تقدم اعرابهما وإذ ظرف بدل من المضاف المحذوف أي اذكر قصة داود وسليمان وجملة يحكمان مضافة إليها وفي الحرث متعلقان بيحكمان وإذ ظرف متعلق بدل من المضاف المحذوف وجملة نفشت مضاف إليها وفيه جار ومجرور متعلقان بنفشت وغنم القوم فاعل وستأتي خلاصة القصة في باب الفوائد، وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وشاهدين خبرها ولحكمهم متعلقان بشاهدين وجمع الضمير لأنه أرادهما والمتحاكمين إليهما، أو انه ضمير يراد به المثنى وانما وقع الجمع مقام التثنية مجازا أو لأن التثنية جمع وأقل الجمع اثنان، ويدل على أن المراد التثنية قراءة ابن عباس لحكمهما بصيغة التثنية. (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ففهمناها عطف على يحكمان لأنه بمعنى الماضي أي فهمناه الصواب فيها وفهمناها فعل وفاعل ومفعول به وسليمان مفعول به ثان وكلّا مفعول أول مقدم لآتينا وحكما وعلما مفعول به ثان لآتينا. (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) وسخرنا فعل وفاعل ومع ظرف مكان(6/342)
متعلق بسخرنا وداود مضاف اليه والجبال مفعول به وجملة يسبحن حالية من الجبال أي مسبحة ويجوز أن تكون مستأنفة والطير عطف على الجبال أو مفعول معه وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وفاعلين خبرها. (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) وعلمناه عطف على ما تقدم وعلمناه فعل وفاعل ومفعول به وصنعة مفعول ثان لعلمناه ولبوس مضاف ولكم يجوز أن تتعلق بمحذوف صفة للبوس فاللام للتمليك ويجوز أن تتعلق بعلمناه فتكون اللام للتعليل وعلى هذا يكون قوله لتحصنكم بدلا باعادة اللام أي لكم ولإحصانكم، وعلى الوجه الأول يتعلق قوله لتحصنكم بعلمنا، ولتحصنكم اللام للتعليل وتحصنكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل مستتر تقديره هي والكاف مفعول به ومن بأسكم متعلقان بتحصنكم والفاء استئنافية وأنتم مبتدأ وشاكرون خبر.
(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) الواو عاطفة ولسليمان متعلقان بفعل محذوف تقديره سخرنا والريح مفعول به للفعل المحذوف المفهوم من قوله تعالى «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ» وعاصفة حال وجملة تجري بأمره حال ثانية والى الأرض متعلقان بتجري والتي صفة وجملة باركنا فيها صلة. (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) الواو عاطفة، وكنا: كان واسمها وبكل شيء متعلقان بعالمين وعالمين خبرها. (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) ومن الشياطين خبر مقدم ومن يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة مبتدأ مؤخر ولك أن تعطفها نسقا على الريح وجملة يغوصون صلة أو صفة وجمع الضمير حملا على معنى من وحسّن ذلك تقدم جمع ما قبله وله متعلقان بيغوصون. (وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) ويعملون عطف على يغوصون وعملا مفعول به أو مفعول مطلق ودون ظرف(6/343)
متعلق بمحذوف صفة وذلك مضاف اليه وكنا كان واسمها وحافظين خبرها ولهم متعلقان بحافظين.
البلاغة:
في قوله تعالى: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» الخ فن جمع المختلف والمؤتلف، وهو عبارة عن أن يريد المتكلم التسوية بين ممدوحين فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحهما ثم يروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا ينقص مدح الآخر فيأتي لأجل ذلك الترجيح بمعان تخالف معاني التسوية، وقبل أن نتحدث عن الآية نورد أبياتا للخنساء توضح هذا الفن بجلاء نظمتها في أخيها صخر وقد أرادت مساواته في الفضل بأبيها مع مراعاة حق الوالد بزيادة فضل لا ينقص بها مدح الولد فقالت:
جارى أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الحضر
وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطّا الى وكر
حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر
وعلا هتاف الناس أيهما ... قال المجيب هناك: لا أدري
برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
فلنتكم الآن على الآية والأبيات معا لتتضح لك حقيقة هذا الفن العجيب: ففي الآية ساوى أول الآية بين داود وسليمان عليهما السلام في(6/344)
أهلية الحكم ثم رجح آخرها سليمان حيث يقول «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» وحصل الالتفات الى مراعاة فأتى بما يقوم مقام تلك الزيادة التي يرجح بها سليمان لترشد الى المساواة في الفضل لتكون فضيلة السن وما يستتبعها من وفرة التجارب وحنكة الحياة قائمة مقام الزيادة التي رجح بها سليمان في الحكم أما معنى شعر الخنساء فإنها بعد قولها في المساواة:
وهما وقد برزا كأنهما ... صقران قد حطا الى وكر
وبعد قولها فيها أيضا:
حتى إذا نزت القلوب وقد ... لزت هناك العذر بالعذر
تريد أن عذر اللجم لز بعضها بعضا والعذر جميع عذار وهو السير الذي يكون على خد الدابة من اللجام وهذا يدل على المساواة في العدو ثم قالت في ترجيح الوالد:
برقت صحيفة وجه والده ... ومضى على غلوائه يجري
تعني أنه خرج وجهه من الغبار دون وجه رسيله سبقا.
ثم قالت في الحاق الولد بالوالد في الفضل:
أولى فأولى أن يساويه ... لولا جلال السن والكبر
تريد أن الولد كان قادرا على مساواة الوالد لولا ما التزمه من الأدب مع برّ أبيه، ومعرفته بحقه، فغض من عنانه وخفض جناح فضله ليؤثر أباه بالفضل على نفسه.(6/345)
والآية الكريمة ساوت بين داود وسليمان في التأهل للحكم وشركت بينهما فيه حيث قالت: «إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» وأخبرت ان الله سبحانه فهم سليمان إصابة الحكم ففضل أباه بذلك بعد المساواة ثم التفت سبحانه، الى مراعاة حق الوالد فقال: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» فرجعا بذلك الى المساواة بعد ترجيح سليمان ليعلم الولد بذلك بر الوالد ويعرفه ما له عليه من الحق حتى إذا فكر الناظر في هذا الكلام وقال: من أين جاءت المساواة في الحكم والعلم بعد الاخبار بأن سليمان فهم من الحكم ما لم يفهمه أبوه؟ علم أن حق الأبوة قام مقام تلك الفضيلة فحصلت المساواة وحصل في هذا الكلام من الزيادة على معنى الخنساء بعد اشتراكهما في جمع المختلف والمؤتلف ضرب آخر من المحاسن يقال له الالتفات وذلك في قوله تعالى فيها «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» وأدمج في هذا الالتفات ضربا آخر من المحاسن يقال له «التنكيت» فإن النكتة التي من أجلها جمع الضمير الذي كان من حقه أن يكون مثنى هي الاشارة الى أن هذا الحكم متبع يجب الاقتداء به لأنه عين الحق ونفس العدل وكيف لا يكون كذلك وقد أخبر سبحانه أنه شاهد له أي هو مراعى بعينه عز وجل ويجوز أن يكون جمع الضمير الذي أضيف اليه الحكم من أجل أن الحكم يستلزم حاكما ومحكوما له ومحكوما عليه فجمع الضمير لأجل ذلك.
هذا ومن طريف ما قيل في جمع المؤتلف والمختلف قول الخبز أرزي واسمه نصر الله بن أحمد البصري وكان أميا يخبز خبز الأرز في البصرة وبنشد أشعار الغزل فقد قال:
رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر
فلم أدر من حيرتي فيهما ... هلال السما من هلال البشر(6/346)
ولولا التورد في الوجنتين ... وما لاح لي من خلال ا
لشعر لكنت أظن الهلال الحبيب ... وكنت أظن الحبيب القمر
فقد سوى بينهما أولا ثم رجع ففضل الحبيب على الهلال.
الفوائد:
قصة حكم داود وسليمان في الحرث:
سنلخص قصة حكومة داود وسليمان في الحرث لما انطوت عليه من طرافة لتكون حافزا لأقلام كتاب القصة على ترجمتها على غرار قصة أهل الكهف فقد روى التاريخ: أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث ان هذا انفلتت غنمه فوقعت في حرثي فأفسدته فلم تبق منه شيئا فأعطاه داود رقاب الغنم في الحرث فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن احدى عشرة سنة فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه فقال سليمان لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا وروي انه قال: غير هذا أرفق بالفريقين فأخبر بذلك داود فدعاه فقال: كيف تقضي، ويروى أنه قال بحق النبوة والأبوة إلا ما أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، قال:
أدفع الغنم الى صاحب الزرع ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئته دفع الى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه فقال داود: القضاء ما قضيت كما قال تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» أي علمناه القضية ويروى قال سليمان أرى أن تدفع الغنم الى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها(6/347)
والحرث الى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد ثم يتراد ان فقال: القضاء ما قضيت وامضى الحكم بذلك.
الحكم بالشريعة الاسلامية:
أما حكم هذه القضية في الشريعة الاسلامية فقد تساءل عنه الزمخشري في كشافه فقال: «فإن قلت: فلو وقعت هذه الواقعة في شريعتنا ما حكمها؟ قلت: أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم لا يرون فيه ضمانا بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد، والشافعي رضي الله عنه يوجب الضمان بالليل» .
بقي هنا سؤال وهو لماذا استعمل ضمير الجمع لاثنين في قوله تعالى: «وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ» .
وفي الجواب قولان أولهما أن المراد المثنى ولو وقع الضمير جمعا لأن التثنية أقل الجمع والثاني أن المصدر المضاف انما هو مضاف للحاكمين وهما داود وسليمان والمحكوم عليه، فهؤلاء جماعة ولكن فيه على هذا اضافة المصدر الى فاعله ومفعوله دفعة واحدة وهما انما يضاف الى أحدهما فقط وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز فان الحقيقة اضافة المصدر الى فاعله والمجاز إضافته الى مفعوله» .
ومن عجائب حكم سليمان ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بينا امرأتان معهما ابناهما إذ جاء الذئب فذهب بأحدهما فقالت هذه: إنما ذهب بابنك وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك فاختصمتا الى داود عليه السلام فقضى به للكبرى فمرتا على سليمان فأخبرتاه فقال: ائتياني بسكين أشقه بينكما(6/348)
فقالت الصغرى: لا ويرحمك الله فقضى به للصغرى. قال أبو هريرة:
والله إن كنت سمعت بالسكين قبل ذلك ما كنت أقول إلا المدية.
قال في القاموس: والسكين مؤنثة كالسكينة وصانعها سكّان وسكاكيني، هذا وقد اشتهر داود بصنع الدروع والجواشن ونحوها وفد رمق أبو الطيب المتنبي سماء هذه الصناعة فقال يصف مفرشه وملبسه بصدد الافتخار بنفسه:
مفرشي صهوة الحصان ولكنّ ... قميصي مسرودة من حديد
لأمة فاضة أهناة دلاص ... أحكمت نسجها يدا داود
يقول: إني شجاع لا أفارق ظهر الفرس وملبوسي الدرع وقميصي لأمة أي ملتئمة الصنعة محكمة النسج من صنع داود وهو أول من عمل الدرع.
وسؤال آخر: كيف وصف الريح المسخرة لسليمان بأنها عاصف ووصفها في موضع آخر بأنها رخاء فوصفها تارة بالعصف وتارة بالرخاوة وقد أجاب الزمخشري على هذا السؤال ببراعة نادرة فقال: «كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال «غدوها شهر ورواحها شهر» فكأن جمعها بين الأمرين، أن تكون رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم، آية الى آية، ومعجزة الى معجزة، وقيل كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا لهبوبها على حكم إرادته» .(6/349)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قلت: ويشبه هذا الوصف عصا موسى تارة بأنها جان وتارة بأنها ثعبان والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم الجافي منها ووجه ذلك أنها جمعت الوصفين فكانت في خفتها وفي سرعة حركتها كالجان وكانت في عظم خلقها كالثعبان وقد رمق الشعراء سماء هذا المعنى فوصفوا اجتماع النقيضين في موصوف واحد، قال ابن الرومي في وصف وحيد المغنية:
خلقت فتنة غناء وحسنا ... ما لها فيهما جميعا نديد
فهي نعمى يميد منها كبير ... وهي بلوى يشيب منها الوليد
فوصفها بأنها نعمى يميد منها الكبير ثم وصفها بأنها بلوى يشيب منها الصغير فهي إن واصلت أحيت وإن هاجرت أماتت وقال من هذه القصيدة الممتعة التي أحب أن ترجع اليها في ديوانه:
ما تزالين نظرة منك موت ... لي مميت ونظرة تخليد
نتلاقى فلحظة منك وعد ... بوصال ولحظة تهديد
وهو في الشعر كثير نجتزى منه بهذا المثال.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 88]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)(6/350)
الإعراب:
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وأيوب مفعول به لفعل محذوف تقديره اذكر وهو على حذف مضاف أي اذكر خبر أيوب، وإذ بدل من خبر أي من المضاف المقدر وجملة نادى ربه مضاف اليه، وربه مفعول نادى، وأني أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأني وان واسمها وجملة مسني الضر خبر أن وأنت الواو حالية وأنت مبتدأ وأرحم خبر والراحمين مضاف إليه وستأتي في باب الفوائد. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) الفاء عاطفة واستجبنا فعل وفاعل وله متعلقان باستجبنا، فكشفنا عطف على فاستجبنا وما مفعول به وبه صلة ما ومن ضر حال. (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وأهله مفعول به ثان ومثلهم عطف على أهله أو مفعول معه ومعهم ظرف مكان متعلق بمحذوف حال أي كائنين معهم ورحمة مفعول من أجله ويجوز أن يكون مصدرا لفعل مقدر أي رحمناه رحمة والأول أرجح ومن عندنا صفة لرحمة وذكرى عطف على رحمة وللعابدين(6/351)
متعلقان بذكرى. (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) وإسماعيل مفعول به لفعل محذوف أي واذكر ويجوز أن يعطف نسقا على من تقدم من الأنبياء وإدريس عطف على إسماعيل وذا الكفل عطف أيضا وسيأتي سبب تسميته بذلك في باب الفوائد وكل مبتدأ ومن الصابرين خبره. (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) الجملة معطوفة وان واسمها ومن الصالحين خبرها. (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) وذا النون مفعول به لفعل محذوف أو معطوف نسقا على من تقدم وسيأتي بحثه في باب الفوائد، وإذ بدل من المضاف المحذوف كما تقدم وجملة ذهب مضاف إليها ومغاضبا حال أي لقومه لا لربه أي انه غضب عليهم لما كابده منهم، فظن الفاء عاطفة وظن معطوف على ذهب أي تركهم وذهب دون أن يؤذن له وفاعل ظن مستتر تقديره هو وأن مخففة من الثقلية واسمها ضمير الشأن وجملة لن نقدر عليه خبر وسيأتي معنى لن في باب الفوائد كما ستأتي خلاصة قصته. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فنادى عطف على ظن وفي الظلمات متعلقان بمحذوف حال وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وجملة لا إله إلا أنت هي الخبر ويجوز أن تكون مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه وسبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة حالية واني ان واسمها والجملة تعليلية وجملة كنت من الظالمين خبر إني ومن الظالمين خبر كنت. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) فاستجبنا عطف على ما تقدم وله متعلقان باستجبنا ونجيناه فعل وفاعل ومفعول به ومن الغم متعلقان بنجيناه، وكذلك الكاف نعت لمصدر محذوف وننجي المؤمنين فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به.(6/352)
الفوائد:
1- خلاصة قصة أيوب:
روى التاريخ أن أيوب كان رجلا روميا من ولد اسحق بن يعقوب وقد استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل فابتلاه الله بذهاب ولده انهدم عليهم البيت فهلكوا وبذهاب ماله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة وقيل ثلاث عشرة سنة وقالت له امرأته يوما: لو دعوت الله فقال لها كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة فقال: أنا أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي فلما كشف الله عنه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم، وقصة أيوب حافلة بالصور الشعرية الملهمة وهي ديوان حافل عن الصبر على البلاء وعدم البطر في الرخاء.
2- الفرق بين الضّر والضّر:
يقال ضر بفتح الضاد وضر بضمها والفرق بينهما أن الضر بالفتح هو الضرر بكل شيء والضر بالضم هو الضرر في النفس من هزال ومرض وفرق بين البناءين لافتراق المعنيين وقد نظم بعضهم الفرق بينهما كما أورد معاني أخرى لهما قال:
وضدّ نفع قيل فيه ضرّ ... وجود ضرّة لعرس ضرّ
وسوء حال المرء ذاك ضرّ ... كذا هزال مرض أو كبر(6/353)
3- التلطف في السؤال:
وقد تلطف أيوب في السؤال وألمح الى ما يعانيه من بلاء دون أن يصرح بمطلوبه حيث اكتفى بذكر المس في الضر وأدخل أل الجنسية على الضر لتشمل أنواعه المتقدمة ووصف ربه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها فكان درسا بليغا لكل من تتعاوره الأرزاء وتنتابه اللأواء ويحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصي فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنّها تثب وثب الفهود وملأ بيتها حبا. وقد تعلق أبو الطيب المتنبي بأذيال هذه البلاغة عند ما خاطب كافورا بما كان يرجوه منه وهو أن يعطيه ولاية وإن كان قصده المواربة:
أرى لي بقربي منك عينا قريرة ... وإن كان قربا بالبعاد يشاب
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب
أقلّ سلامي حبّ ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وفي البيت الثالث نكتة نحوية وهي انتصاب حبّ وذلك انه نصبه(6/354)
على أنه مفعول له وهو مصدر كأنه يقول الحب ما خف أي لإيثاري التخفيف وقد تلطف حبيب بن أوس أبو تمام وأجمل أغراضه كلها في بيت واحد وهو قوله:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي
أما أبو بكر الخوارزمي فقال راسما خظة الطلب:
وإذا طلبت الى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتسليم
فإذا رآك مسلما عرف الذي ... حملته فكأنه ملزوم
وسبقهم جميعا أمية بن أبي الصلت بقوله المشهور:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
4- ذو الكفل:
هذا لقبه والكفل هو النصيب واسمه بشير وقيل الياس وقيل زكريا كأنه سمي بذلك لأنه المجدور وذو النصيب الأوفى من الحظ، وقيل ذو الكفل اسمه وقد كان له اسمان ولم يكن لقبا.
5- ذو النون:
في المختار: «ذو النون الحوت وجمعه أنوان ونينان وذو النون لقب يونس بن متى على وزن شتى اسم والده على ما ذكر في القاموس أو اسم لأمه على ما قاله ابن الأثير في النهاية، وقيل ذا النون لأنه رأى(6/355)
صبيا مليحا فقال دسموا نونته لئلا تصيبه العين، وحكى ثعلب أن نونة الصبي هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا:
سودوا، وذو بمعنى صاحب، قال السهيلي في كتاب الأعلام في قوله تعالى «وذا» النون هو يونس بن متى أضاف ذا الى النون وهو الحوت فقال سبحانه «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» وبينهما فرق وذلك انه حين ذكر في معرض الثناء عليه قيل ذا النون ولم يقل صاحب النون والاضافة بذا أشرف من الاضافة بصاحب لأن قولك ذو يضاف الى التابع وصاحب يضاف الى المتبوع تقول: أبو هريرة صاحب النبي ولا تقول: النبي صاحب أبي هريرة إلا على وجه ما وأما ذو فانك تقول فيها ذو الملك وذو الجلال وذو العرش وذو القرنين فتجد الاسم الاول متبوعا غير تابع ولذلك سميت أقيال حمير أذواء منهم ذو جدن وذو يزن وذو رعين وذو كلاع وفي الإسلام ذو الشهادتين وذو الشمالين وذو اليدين وذلك كله تفخيم للمسمى بهذا وليس ذلك في لفظ صاحب وانما فيه تعريف لا يقترن به شيء من هذا المعنى» وستأتي قصته وابتلاع الحوت له في الصافات.
6- معنى لن نقدر عليه:
أما معنى قوله «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» لن نقضي عليه بما قضينا من حبسه في بطن الحوت أو نضيق عليه بذلك فهي من القدر. لا من القدرة كما في قوله تعالى «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك، قال وما هي يا معاوية؟ فقرأ عليه هذه الآية وقال: أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه، قال: هذا من القدر لا من القدرة على أن الزمخشري بعد أن ذكر الوجه(6/356)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
الذي أوردناه أجاز أن يفسر بالقدرة على معنى أن لن نعمل فيه قدرتنا وأن يكون من باب التمثيل بمعنى «فكانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله» .
وذهب جمهور من العلماء أن معناها فظنّ أن لن نضيق عليه من قدر عليه رزقه أي ضيق وقتر.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 93]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93)
اللغة:
(زَكَرِيَّا) : بالمد علم نبي وألفه للتأنيث فلذلك منع من الصرف وهو أيضا غير مصروف للعجمة والتعريف وقيل هو عربي مشتق من زكر أي امتلأ أو تزكر.(6/357)
الإعراب:
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) تقدم القول في اعراب وزكريا إذ نادى ربه، ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة ولا ناهية للدعاء وتذرني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول به وفردا حال وأنت الواو عاطفة على محذوف أي فارزقني وارثا وأنت مبتدأ وخير الوارثين خبر. (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) الفاء عاطفة واستجبنا فعل وفاعل وله متعلقان باستجبنا واستجبنا فعل وفاعل والمفعول محذوف أي نداءه وأصلحنا فعل وفاعل وله متعلقان بأصلحنا وزوجه مفعول به والمراد بإصلاحها جعلها صالحة للولادة بعد عقرها وعقمها والعقم انسداد الرحم كما في المختار. (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) الجملة تعليل للاصلاح وان واسمها وجملة كانوا كانوا خبرها وكان واسمها وجملة يسارعون في الخيرات خبر كان وعبر بفي دون الى للاشعار بديمومتهم على المسارعة كأنهم استقروا فيها (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) ويدعوننا عطف على يسارعون ويدعوننا فعل وفاعل ومفعول به ورغبا ورهبا مصدران منتصبان على الحال أو على المصدرية الملاقية لعاملها في المعنى دون اللفظ أو على المفعول له وكانوا كان واسمها وخاشعين خبرها ولنا متعلقان بخاشعين. (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) والتي أي واذكر مريم التي، وجملة أحصنت فرجها صلة فنفخنا عطف على أحصنت وفيها متعلقان بنفخنا ومن روحنا متعلقان بنفخنا أيضا ولك أن تعرب التي مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليهم وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به وابنها(6/358)
عطف على الهاء أو مفعول معه وآية مفعول به ثان وانما لم يطابق المفعول الاول فيثنى لأن كلّا من مريم وابنها آية بانضمامه للآخر فصار آية واحدة أو تقول انه حذف من أحدهما لدلالة الثاني عليه أي وجعلنا مريم آية وابنها كذلك أو بالعكس وللعالمين صفة لآية. (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) إن واسمها وخبرها وأمة حال لازمة وقيل بدل من هذه وواحدة صفة وأنا الواو عاطفة وأنا مبتدأ وربكم خبر والفاء الفصيحة واعبدوني فعل أمر وفاعل وياء المتكلم المحذوفة لرسم المصحف مفعول به. (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) الواو عاطفة وتقطعوا فعل ماض وفاعله والأصل وتقطعتم إلا أن الكلام صرف الى الغيبة على طريقة الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة، وأمرهم في نصبه وجوه أرجحها أنه منصوب بنزع الخافض أي تفرقوا في أمرهم ويجوز أن يكون تقطعوا معناه قطعوا فيكون أمرهم مفعولا به ورأى أبو البقاء أن يكون تمييزا ولا أدري كيف استقام ذلك معه.
البلاغة:
1- الالتفات: في قوله تعالى «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» الالتفات، الأصل في تقطعوا تقطعتم على الأول إلا أنه صرف الكلام من الخطاب الى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعى عليهم ما أفسدوه ويقبح عندهم ما فعلوه ويقول لهم ألا ترون الى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فيجازيهم على ما فعلوا.(6/359)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
2- معنى النفخ في مريم: ظاهر الكلام يوهم أن مريم هي التي أحييت لأن معنى النفخ الاحياء ولكن الله تعالى نزل نفخ الروح في عيسى لكونه في جوف مريم منزلة نفخ الروح في مريم ونحو ذلك أن يقول الزمار: نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 94 الى 100]
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98)
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
اللغة:
(كُفْرانَ) : الكفران مصدر الكفر قال في القاموس: «كفر يكفر من باب نصر كفرا وكفرا وكفورا وكفرانا ضد آمن وكفر بالخالق نفاه وعطّل وكفر كفرا وكفورا وكفرانا بنعم الله جحدها وتناساها.(6/360)
(حَدَبٍ) : بفتحتين مرتفع من الأرض ومنه الحدب في الظهر وكل كدية أو أكمة فهي حدبة.
(يَنْسِلُونَ) : يسرعون والنسلان مقاربة الخطا مع الاسراع، وفي المصباح: نسل في مشيه نسلانا: أسرع وبابه ضرب وفي القاموس هو من باب ضرب وقتل.
(حَصَبُ جَهَنَّمَ) : الحصب المحصوب به أي يحصب بهم في النار والحصب الرمي وفي المختار: «والحصب بفتحتين ما تحصب به النار أي ترمى وكل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به وبابه ضرب ومثله في القاموس.
الإعراب:
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعمل فعل الشرط ومن الصالحات صفة لمفعول به محذوف أي عملا من الصالحات والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والفاء رابطة ولا نافية للجنس وكفران اسمها ولسعيه خبر والواو استئنافية أو حالية وان واسمها وكاتبون خبرها وله متعلقان بكاتبون. (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) الواو عاطفة من عطف الجمل أو استئنافية وحرام خبر مقدم وعلى قرية متعلقان بحرام وجملة أهلكناها صفة لقرية وان وما في حيزها مبتدأ مؤخر وان واسمها وجملة لا يرجعون خبرها، وقيل لا زائدة وهو قول أبي عبيدة كقوله ما منعك أن لا تسجد، أي يرجعون الى الايمان والمعنى وممتنع على أهل القرية قدرنا عليهم(6/361)
إهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا الى الايمان الى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويصح أن تكون نافية على بابها والتقدير لأنهم لا يرجعون وقال الزجاج: وحرام على قرية أهلكناها حكمنا بإهلاكها أن نتقبل أعمالهم لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون ودلّ على هذا المعنى قوله قبل «فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ» أي يتقبل عمله ثم ذكر هذا عقيبه وبين أن الكافر لا يتقبل عمله.
وعبارة ابن هشام في المغني «وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون» فقيل لا زائدة والمعنى ممتنع على أهل قرية قدرنا إهلاكهم لكفرهم انهم يرجعون عن الكفر الى قيام الساعة وعلى هذا فحرام خبر مقدم وجوبا لأن المخبر عنه أن وصلتها ومثله وآية لهم أنا حملنا ذريتهم لا مبتدأ وان وصلتها فاعل أغنى عن الخبر كما جوز أبو البقاء لأنه ليس بوصف صريح ولأنه لم يعتمد على نفي ولا استفهام وقيل لا نافية والاعراب إما على ما تقدم والمعنى ممتنع عليهم انهم لا يرجعون الى الآخرة وإما على ان حرام مبتدأ حذف خبره أي قبول أعمالهم وابتدئ بالنكرة لتقييدها بالمعمول واما على انه خبر لمبتدأ محذوف أي والعمل الصالح حرام عليهم وعلى الوجهين فانهم لا يرجعون تعليل على إضمار اللام والمعنى لا يرجعون أعمالهم فيه ودليل المحذوف ما تقدم من قوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ» (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) حتى حرف غاية وجر وهي غاية لامتناع الرجوع فهي متعلقة بحرام على انها حرف غاية وجر ويجوز أن تكون ابتدائية وهي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكي هنا جملة الشرط والجزاء وإذا ظرف لما(6/362)
يستقبل من الزمن والجواب الذي تتعلق به إذا محذوف وتقديره قالوا يا ويلنا واختار الزمخشري وغيره أن يكون الجواب هو الفاء الداخلة على إذا الفجائية فإذا جاءت الفاء معها تساندتا وتعاونتا على وصل الجواب بالشرط فيتأكد ولو قيل إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة كان سديدا. هذا وقد اختار أبو حيان أن تكون حتى جارة متعلقة بتقطعوا على ما فيه من بعد قال: «وكون حتى جارة متعلقة بتقطعوا فيه من حيث كثرة الفصل لكنه من حيث المعنى جيد وهو انهم لا يزالون مختلفين على دين الحق الى قرب مجيء الساعة فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك» وفتحت فعل ماض مبني للمجهول ويأجوج ومأجوج نائب فاعل ولا بد من تقدير مضاف وهو سدهما والواو للحال وهم مبتدأ وخبره جملة ينسلون ومن كل حدب متعلقان بينسلون. (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) الواو عاطفة واقترب الوعد فعل وفاعل والحق صفة للوعد والفاء رابطة وإذا الفجائية وقد تقدم بحثها وهي مبتدأ وشاخصة خبر وأبصار الذين كفروا فاعل شاخصة. (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) النداء متعلق بقول محذوف في محل نصب على الحال أي يقولون يا ويلنا احضر فهذا أوانك وقد حرف تحقيق وكان واسمها وفي غفلة خبرها ومن هذا متعلقان بغفلة، بل حرف إضراب وكان واسمها وخبرها وهذه الجمل كلها مقول قولهم المحذوف.
(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ان واسمها والجملة ابتدائية وما عطف على الكاف وجملة تعبدون صلة ومن دون الله حال وحصب جهنم خبر انكم وجملة أنتم لها واردون جملة اسمية من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من جهنم وفيه أن مجيء الحال من المضاف اليه لم يرد في كلامهم إلا مشروطا ويجوز أن تكون بدلا من حصب جهنم ويجوز أن تكون خبرا ثانيا لإن وأجاز(6/363)
آخرون أن تكون مستأنفة. (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) لو شرطية امتناعية وكان فعل ماض ناقص وهؤلاء اسمها وآلهة خبرها وجملة ما وردوها لا محل لها لأنها جواب لو والواو للحال وكل مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبر. (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) لهم خبر مقدم وفيها حال وزفير مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وهم مبتدأ وفيها متعلقان بيسمعون وجملة لا يسمعون خبرهم.
البلاغة:
المذهب الكلامي: في قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» المذهب الكلامي وقد تقدمت الاشارة إليه، وسنزيده بسطا هنا فنقول:
إذا تقرر أن المذهب الكلامي هو احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له على طريقة أرباب الكلام أو استنتاج النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة كما سيأتي في سورة الحج فإن الآية التي نحن بصددها يترتب عليها ان هؤلاء الأصنام والأوثان ليسوا بآلهة فلو كانوا آلهة فهم حصب جهنم كما تقدم ان ملزوم قوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» هو ما تقديره لكنهما ما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله ومن النوع الثاني تقدم الكلام في سورة الأعراف على قوله تعالى:
«وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ» فوجه استنتاج النتيجة في هذه الجملة من المقدمتين أن يقال إن الكفار لا يدخلون الجنة أبدا حتى يلج الجمل في خرم الابرة، والجمل لا يدخل في خرم الابرة أبدا فهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن تعليق الشرط على مستحيل يلزم منه استحالة وقوع المشروط.(6/364)
ومن المذهب الكلامي قوله صلى الله عليه وسلم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» وتمام الدليل أن يقال: لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم، ومثله قوله مالك بن المرجل الأندلسي:
لو يكون الحب وصلا كله ... لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجرا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالغلل
فالبيتان الأولان قياس شرطي والثالث قياس فقهي فإنه قاس الوصل على الماء فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر، وأما الأقيسة الحملية فقد استنبطوها على صور، منها ما يروى أن أبا دلف قصده شاعر تميمي فقال له:
ممن أنت؟ فقال: من تميم، فقال أبو دلف:
تميم بطرق اللؤم اهدى من القطا ... ولو سلكت سبل الهداية ضلت
فقال التميمي نعم بتلك الهداية جئت إليك فأفحمه بدليل حملي ألزمه فيه أن المجيء إليه ضلال ولعمري إن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره وأعذب في الذوق وأسهل في التركيب فإنه جملة واقعة بعد لو وجوابها وهذه الجملة على اصطلاحهم مقدمة شرطية متصلة يستدل بها على ما تقدم من الحكم.
وقال ابن رشيق في كتاب العمدة «ذكر ابن المعتز أن الجاحظ سمى هذا النوع المذهب الكلامي قال ابن المعتز: وهذا باب ما علمت اني وجدت منه في القرآن شيئا وهو ينسب الى التكلف تعالى الله عن(6/365)
ذلك علوا كبيرا» وقد فات ابن رشيق وابن المعتز أن القرآن حافل بهذا النوع كما رأيت وكما سيأتي فيما بعد على أن ابن رشيق لاحظ على ابن المعتز شيئا آخر فقال: «غير أن ابن المعتز قد ختم بهذا الباب أبواب البديع الخمسة التي خصها بهذه التسمية وقدمها على غيرها وأنشد للفرزدق:
لكل امرئ نفسان: نفس كريمة ... وأخرى يعاصيها الفتى ويطيعها
ونفسك من نفسيك تشفع للندى ... إذا قل من احرارهن شفيعها
وأنشد لآخر ولا أظنه إلا ابراهيم بن العباس:
وعلمتني كيف الهوى وجهلته ... وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي
فأعلم ما لي عندكم فيميل بي ... هواي الى جهلي وأعرض عن ظلمي
وعاب على أبي تمام قوله:
فالمجد لا يرضى بأن ترضى بأن ... يرضى المؤمل منك إلا بالرضا(6/366)
وحكي أن اسحق الموصلي سمع الطائي ينشد ويكثر من هذا الباب وأمثاله عند الحسن بن وهب فقال: «يا هذا لقد شذرت على نفسك» وعندي أن النقد يتوجه الى أبي تمام في بيته لا من ناحية المذهب الكلامي الذي سلكه بل من ناحية التعقيد اللفظي فيه.
ومن طريف هذا المذهب ما أورده ابن رشيق لابن المعتز وهو قوله:
أسرفت في الكتمان ... وذاك مني دهاني
كتمت حبّك حتى ... كتمته كتماني
ولم يكن لي بد ... من ذكره بلساني
قال: «وهذه الملاحة نفسها والظرف بعينه» .
وقال أبو نواس:
سخنت من شدة البرودة حتى ... صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون صفتي ... كذلك الثلج بارد حار
فهذا مذهب كلامي فلسفي، وقوله أيضا:
فيك خلاف لخلاف الذي ... فيه خلاف لخلاف الجميل
ويمكن اعتبار أبي تمام صاحب طريقة خاصة في المذهب الكلامي، استمع الى قوله في الحسد:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود(6/367)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
ومن أزهار البهاء زهير قوله:
يا من أكابد فيه ما أكابده ... مولاي أصبر حتى يحكم الله
سميت غيرك محبوبي مغالطة ... لمعشر فيك قد فاهوا بما فاهوا
أقول زيد وزيد لست أعرفه ... وإنما هو لفظ أنت معناه
وكم ذكرت مسمّى لا اكتراث به ... حتى يجر الى ذكراك ذكراه
أتيه فيك على العشاق كلهم ... قد عز من أنت، يا مولاي، مولاه
كادت عيونهم بالبغض تنطق لي ... حتى كأن عيون الناس أفواه
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 105]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
اللغة:
(السِّجِلِّ) : كتاب العهود وكتاب الاحكام، وكتاب يكتب فيه القاضي صورة الدعاوى والحكم فيها وصكوك المبايعات ونحوها(6/368)
لنبقى محفوظة عنده والجمع سجلات ويقال سجّل الرجل: كتب السجل وسجل الأوراق قيدها في المحاكم وسجل القاضي عليه حكم وسجل عليه بكذا شهره به ووسمه وسجل له بماله قرره وأثبته له.
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) إن واسمها وجملة سبقت صلة ولهم متعلقان بسبقت ومنّا حال والحسنى فاعل وأولئك مبتدأ وعنها متعلقان بمبعدون ومبعدون خبر أولئك وجملة أولئك عنها مبعدون خبر إن وجملة إن إلخ ابتدائية.
(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) جملة لا يسمعون حسيسها تحتمل وجوها منها أن تكون بدلا من مبعدون لأنها تحل محله فتغني عنه ومنها أن تكون خبرا ثانيا لأولئك ويجوز أن تكون حالا من ضمير مبعدون ولا نافية ويسمعون حسيسها فعل مضارع مرفوع وفاعل ومفعول به والواو للحال أو استئنافية وهم مبتدأ وفيما متعلقان بخالدون وجملة اشتهت أنفسهم صلة وخالدون خبرهم. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) الجملة حالية أو بدل من الجملة السابقة ولا نافية ويحزنهم فعل ومفعول به والفزع فاعل والأكبر صفة للفزع وتتلقاهم الملائكة فعل ومفعول به وفاعل، وجملة هذا يومكم مقول قول محذوف واقع موقع الحال أي قائلين: هذا يومكم، وهذا مبتدأ ويومكم خبر والذي صفة ليومكم وجملة كنتم صلة وكان واسمها وجملة توعدون خبر كنتم. (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) الظرف متعلق(6/369)
بمحذوف تقديره اذكر ولك أن تعلقه بلا يحزنهم أو بالفزع أو تتلقاهم الملائكة وجملة نطوي في محل جر بإضافة الظرف إليها والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والسماء مفعول به وكطي الكاف نعت لمصدر محذوف أي كما يطوي الرجل صحيفته ليكتب فيها فالطي مصدر مضاف للمفعول والحذف للفاعل مع المصدر مطرد باستمرار وللكتب متعلقان بطي فهي لتقوية التعدية أي للمكتوبات جميعها أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف وما مصدرية وبدأنا فعل وفاعل وأول خلق مفعول بدأنا أي نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا له والزمخشري يجعل ما كافة للكاف دائما ووعدا مصدر منصوب بوعدنا مقدرا قبله وهو مفعول مطلق مؤكد لمضمون ما قبله، وعلينا متعلقان بوعدا وان واسمها وجملة كنا خبر إنا وكان واسمها وفاعلين خبرها وجملة إنا تعليلية بمثابة التأكيد للقدرة على فعل ذلك وقدرها أبو حيان في البحر «أي نحن قادرون على أن نفعل ذلك» واختار العمادي أن تكون حالية وقدرها «أي محققين هذا الوعد فاستعدوا لذلك» وستأتي فوائد هامة حول هذه الآية في بابي الفوائد والبلاغة. (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير أن الأرض للصالحين لها ولاستغلال مواردها وطاقاتها المكنوزة فيها واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وكتبنا فعل وفاعل وفي الزبور متعلقان بكتبنا ومن بعد متعلقان بمحذوف حال من الزبور وأن وما في حيزها مفعول كتبنا، أي كتبنا وراثة الأرض، وان واسمها وجملة يرثها خبر وعبادي فاعل والصالحون صفة.(6/370)
البلاغة:
1- المبالغة: في قوله تعالى: «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» فن المبالغة ذلك لأن لقائل أن يقول: إذا نزل أهل الجنة منازلهم فيها فأي بشارة لهم في أنهم لا يسمعون حسيسها؟ والجواب انه تأكيد للمبالغة وانها لن تقرب منهم أبدا لأن الذي يكون عن كثب منها يسمع، ولا شك، حسيسها، لأن أهل النار دركات جاءت وفق عدد سكانها وعدد داخليها ووفق عدة معبوداتهم ولذلك قال تعالى في آية أخرى «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» وسيأتي تفصيل ذلك في سورة الحجر ويروى أن عليا رضي الله عنه قرأ هذه الآية وهي «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ» ثم قال أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه وهو يقول: «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» .
2- التشبيه: في قوله تعالى «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» تشبيه للاعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء قال الزمخشري:
«فإن قلت: وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوله إيجاده من العدم فكما أوجده أولا من عدم يعيده ثانيا من عدم فإن قلت:
ما بال خلق منكرا؟ قلت: هو كقولك هو أول رجل جاءني تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته ارادة تفصيلهم رجلا رجلا فكذلك معنى أول خلق، أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع ووجه آخر وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده وما موصولة أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده وأول خلق ظرف لبدأناه أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى» .(6/371)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 106 الى 112]
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)
الإعراب:
(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) ان حرف مشبه بالفعل وفي هذا خبرها المقدم واللام المزحلقة ولقوم صفة لبلاغا وعابدين صفة.
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الواو حرف عطف وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ورحمة مفعول من أجله أو حال مبالغة في أن جعله نفس الرحمة أو على حذف مضاف أي ذا رحمة وللعالمين صفة لرحمة أو يتعلق بنفس الرحمة. (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) إنما كافة ومكفوفة ويوحى فعل مضارع مبني للمجهول وإلي متعلقان بيوحى وان وما في حيزها نائب فاعل يوحى وإلهكم. مبتدأ وإله خبر وواحد صفة والفاء الفصيحة أي ان علمتم هذا وهل حرف حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومسلمون خبر وسيأتي مبحث القصر بنوعيه في هذه الآية في باب البلاغة. (فَإِنْ تَوَلَّوْا(6/372)
فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ)
الفاء استئنافية وان شرطية وتولوا فعل ماض وهو فعل الشرط والواو فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط وقل فعل أمر وآذنتكم فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل جزم جواب الشرط وعلى سواء متعلقان بمحذوف حال من التاء أي الفاعل أو من الكاف أي المفعول أي مستوين في العلم بالحرب وسيأتي تفصيل هذا الإيجاز في باب البلاغة. (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) الواو للحال وإن نافية وأدري فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنا والهمزة للاستفهام وقريب خبر مقدم وأم حرف عطف وبعيد عطف عليه وما مبتدأ مؤخر وجملة توعدون صلة وجوز أبو البقاء أن يرتفع ما توعدون فاعلا بقريب سد مسد خبره وقريب مبتدأ قال لأنه اعتمد على الهمزة أو ببعيد لأنه أقرب اليه فتكون المسألة من باب التنازع وجملة أقريب أم بعيد ما توعدون في محل نصب مفعول أدري المعلقة عن العمل. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) ان واسمها وجملة يعلم خبرها وفاعل يعلم ضمير مستتر تقديره هو يعود على الله تعالى والجهر مفعول به ومن القول حال من الجهر ويعلم عطف على يعلم الأولى وما مفعول به وجملة تكتمون صلة. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) الواو عاطفة وإن نافية وأدري فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا ولعل واسمها وفتنة خبرها ولكم صفة ومتاع عطف على فتنة وإلى حين متعلقان بمحذوف صفة لمتاع أو يتعلق به وجملة لعله فتنة في محل نصب بأدري والكوفيون يجرون الترجي مجرى الاستفهام في التعليق عن العمل ولكن النحاة لم يذكروا لعل من المعلقات ولكنها وردت كثيرا في القرآن كقوله في هذه الآية وكقوله: «وما يدريك لعل الساعة قريب، وما يدريك لعله يزكى، وقيل ان قوله ومتاع ليس داخلا في حيز الترجي لأنه محقق فلا يصح عطفه على فتنة لأنه حيث(6/373)
كان معطوفا على خبرها كان معمولا لها وداخلا في حيزها وفي نطاق الترجي الذي تدل عليه فالأولى اذن أن يقال ان قوله ومتاع خبر لمبتدأ محذوف وتقديره وهذا متاع الى حين أي وتأخير عذابكم متاع لكم وتكون الجملة مستأنفة وليس هذا ببعيد. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة واحكم فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وبالحق حال وربنا الواو استئنافية وربنا مبتدأ والرحمن يجوز أن يكون خبرا والمستعان خبرا ثانيا ويجوز أن يكون صفة لربنا والمستعان خبر لأنه المحدث به وعلى ما متعلقان بالمستعان وجملة تصفون صلة والعائد محذوف أي تصفونه مخالفا للواقع.
البلاغة:
1- القصر:
في قوله تعالى «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» وقد تقدم بحث القصر مفصلا ونقول ان في هذه الآية قصرين الاول قصر الصفة على الموصوف وذلك في قصر الوحي على الوحدانية والمعنى لا يوحى إليّ إلا اختصاص الإله بالوحدانية لا لأنه لم يوح اليه بشيء غيرها ولكنها الأصل الرئيسي في كل عبادة وعمل وهي المطلوبة أولا وقبل كل شيء حتى كأن ما عداها غير منظور اليه أو غير جدير بالذكر والثاني قصر الموصوف على الصفة وذلك في قصر الله على الوحدانية وهو ظاهر.
2- الإيجاز:
وذلك في قوله تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ» تقدم(6/374)
القول في الإيجاز كثيرا وفي هذه الآية إيجاز قصر لأنه تحدث بثلاث كلمات وهي «آذنتكم على سواء» عن كلام طويل أي إن تولوا بعد هذه الآيات والشواهد وأعرضوا وطووا كشحا فقل لهم لقد أعلمناكم على بيان أنا وإياكم في حرب لا مهادنة فيها ولا صلح بيننا ولكنني لا أدري متى يأذن الله. وآذنتكم منقول من اذن إذا علم قال الحارث ابن حلزة:
آذنتنا ببنيها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
وقد سما الزمخشري في شرح هذا الإيجاز وهذه نبذة من كلامه:
«والمعنى اني بعد توليكم واعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله وتنزيهه عن الأنداد والشركاء كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحسّ منهم بغدرة فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعا بذلك «على سواء» أي مستوين في الاعلام به لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم وقشر العصا عن لحائه» .
3- التوليد:
في قوله: «قل رب احكم بالحق» فن التوليد وسماه ابن منقذ فن التلطيف وهو على ضربين: من الألفاظ ومن المعاني:
1- التوليد من الألفاظ على ضربين أيضا:
آ- توليد المتكلم من لفظه ولفظ غيره صورة من الكلام.
ب- توليد المتكلم صورة من موضعين من لفظ نفسه.
والأول هو أن يزوج لفظة من لفظة للفظة من لفظ غيره فيتولد(6/375)
بينهما كلام مناقض غرض صاحب اللفظة الأجنبية وذلك في الألفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة ومثاله ما حكي عن مصعب بن الزبير انه كان قد وسم خيله بلفظ «عدّة» وهو يريد عدة الحرب فلما قتل وصارت خيله عند الحجاج ورأى ذلك الوسم أمر أن يوسم الى جانب عدة بلفظة «الفرار» فتولد بين اللفظين معنى غير ما أراده مصعب وانقلب المدح قدحا.
2- التوليد من المعاني وستأتي أمثلته، أما الآية التي نحن بصددها فقد زوج فنا من فنون البديع لفن آخر فيه فتولد فن ثالث غيرهما وذلك انه يتوجه على ظاهر إشكال وهو أن يقال: ما الحكمة في كونه سبحانه أمر نبيه أن يسأله الحكم بالحق وهو عز وجل يعلم أن نبيه متيقن انه سبحانه لا يحكم إلا بالحق فلو اقتصر على قوله احكم فقط كان ذلك كافيا فلم عدل عن الأوجز الموفي بالمعنى المراد مع سلامة الظاهر من الإشكال الى الأطول الموجب للإشكال، والجواب:
ان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يدعون على من خالفهم حتى يؤذن لهم في ذلك لأنهم بعثوا مؤلفين لا منفرين وهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم به الله فإذا أعلمهم بمن لا يمكن إيمانه من قومهم ساغ لهم الدعاء على ذلك، ألا ترى أن نوحا عليه السلام لم يتجرأ أن يقول: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» إلا بعد قوله تعالى له: «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» ولذلك احترس في الدعاء بقوله: على الأرض فإن من آمن معه كان في السفينة ولم يبق على الأرض إلا من حق عليه العذاب ولما علم سبحانه ان الذين عادوا نببه محمدا صلى الله عليه وسلم لا يرجى فلاحهم أمره بالدعاء عليهم بيد أنه علمه كيف يدعو عليهم دعاء غير منفر لغيرهم فأراد سبحانه أن(6/376)
يقول: قل رب أهلك الظالمين فعدل عن هذا اللفظ الخاص لما فيه من التنفير الى لفظ الإرداف فقال: «قل رب احكم بالحق» فانه سبحانه إذا حكم بالحق وهو العدل عاقب من يستحق العقاب وأما قول مورد الاشكال: لم عدل عن الأوجز الى الأطول؟ ولو قال رب احكم لكان كافيا، فليس الأمر كما زعم لأن للحاكم المختار الذي لا شريك له أن يحكم بالفضل فينزل عن حق نفسه وله أن يحكم بالعدل ستوفي حقه وحق غيره وطلب مطلق الحكم لا يوفي بذلك فلهذا عدل من الأوجز الى الأطول ليوفي بالمعنى المراد.
وقد تنخّل عن هذا الجواب أربعة عشر ضربا من البديع اتفقت في هذه الألفاظ الثلاثة وهي:
1- الإرداف الذي قدمنا ذكره.
2- الإيضاح لأن إيضاح الإشكال الوارد على ظاهر الكلام جاء مدمجا في الإرداف.
3- التتميم إذ لو وقع الاقتصار على قوله: رب احكم لكان المعنى المراد ناقصا لأن مطلق الحكم لا يوفي بالمقصود كما بينا.
4- المقارنة لأن الادماج والإيضاح اقترنا في التتميم.
5 و6- الافتنان لجمع هذه اللفظات الثلاث بين فنين من الفنون التي يقصدها المتكلمون وهما:
آ- فن الأدب في تعليم الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعو على من خالفه دعاء غير منفّر عنه.(6/377)
ب- فن الهجاء لأن عدل الله سبحانه يأبى أن يأمر نبيه بالدعاء إلا على من علم تصميمه على العصيان وبراءته من الايمان ومن كان كذلك كان مستحقا للذم فأدمج سبحانه في أمر الرسول بالدعاء عليهم هجاءهم بمقتضى ما تضمنه الكلام من استحقاق الملام.
7- الإيجاز عن المعنى المراد بأقل ما يمكن من الحروف.
8- السهولة فقد تركبت الكلمات تركيبا سليما من سوء الجوار، سهلة المخارج ولأن الكلمات جاءت في مقارها فلا تتقدم كلمة عن كلمة ولا تتأخر.
9- التهذيب في كون تركيب الجملة وضع على أصح ترتيب وأسهل تهذيب إذ تقدم فيها ذكر المدعو وثنى بالطلب وثلث بالمطلوب.
10- حسن البيان لأن الذهن يسابق الى فهم معنى الكلام من غير توقف بمجرد سماعه أول وهلة لعدم التعقيد في اللفظ وخلوه من أسباب اللبس من التقديم والتأخير وسلوك الطريق الأبعد وإيقاع المشترك.
11- التمزيج لامتزاج الفنون بمعاني البديع فإن فني الأدب والهجاء امتزجا بمعنى الإرداف والتتميم ولم يظهر في اللفظ لكل معنيين سوى صورة واحدة فظهر فن الأدب وأدمج فيه فن الهجاء وظهر الإرداف وأدمج فيه التتميم.
12- الإبداع لما تتضمن كل لفظة من الجملة الضرب والضربين فصاعدا من البديع.(6/378)
13- التمثيل: لأن قوة البلاغة ورونق الفصاحة أخرجت هذه اللفظات مخرج المثل السائر الذي يصلح لأن يتمثل به في كل واقعة تشبه واقعته.
14- التوليد: لأن الإرداف لما زوج بالتتميم تولد منهما الإيضاح وتولد من الإيضاح والارداف الادماج ولما ظهرت فائدة الإتيان بالجار والمجرور وثبت التتميم وظهرت العلة في العدول عن لفظ الدعاء الخاص الى لفظ الارداف وتولد من ذلك فن الأدب ومن فن الأدب فن الهجاء ولما ثبت الائتلاف والتهذيب وما وقع في النظم من حسن الترتيب تولد من ذلك المثل السائر ولذلك غلب التوليد على جميع ما فيها من الضروب الثلاثة عشر وأثبتت في بابه دون أبوابها.
التوليد في الشعر:
أما في الشعر فلا يستحسن إلا التوليد في المعاني أما التوليد في الألفاظ فيأتي دونه في المرتبة بل ربما غالى بعضهم فجعله غير مقبول لشبهه بالسرقة وذلك أن يستعذب الشاعر لفظه في شعر غيره فيأخذها ويضمنها معنى غير معناها الأول كقول أبي تمام:
لها منظر قيد الأوابد لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب
أخذ لفظة قيد الأوابد من بيت امرئ القيس في وصف فرس ونقلها الى الغزل وبيت امرئ القيس هو:
وقد اغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل(6/379)
على أنه قد يكون عذبا كما فعل علي بن زريق البغدادي في قوله:
استودع الله في بغداد لي قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
فقد أخذ الأزرار من قول عبد الله بن المعتز:
يا حسن أحمد إذ بدا متشمرا ... في قرطق يسعى بكأس عقاره
والغصن في أثوابه والدر في ... فمه وجيد الظبي في أزراره
ولقد عابوا على عمارة اليمني بيته يمدح الخليفة المصري الفاطمي عند قدومه عليه من اليمن وهو:
فهل درى البيت أني بعد فرقته ... ماسرت من حرم إلا الى حرم
لأنه مأخوذ بلفظه من شعر أبي تمام مادحا:
يا من رأى حرما يسري الى حرم ... طوبى لمستلم يأتي وملتزم
وهنا يحار الناقد في كثرة وقوع الشعراء الكبار بهذه المزالق، قال ابن الأثير: «ومما كنت أستحسنه من شعر أبي نواس قوله من قصيدته التي أولها:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء
دارت على فتية ذل الزمان لهم ... فما يصيبهم إلا بما شاءوا(6/380)
وهذا من عالي الشعر ثم وفقت في كتاب الأغاني لأبي الفرج على هذا البيت في أصوات معبد وهو:
لهفي على فتية ذل الزمان لهم ... فما أصابهم إلا بما شاءوا
وما أعلم كيف هذا» .
أما توليد المعاني فهو مستحسن على إطلاقه كقول أبي الطيب المتنبي:
همام إذا ما فارق الغمد سيفه ... وعاينته لم تدر أيهما النصل
أخذه من قول أبي تمام:
يمدون بالبيض القواطع أيديا ... فهن سواء والسيوف القواطع
وقال المتنبي أيضا:
وما هي إلا لحظة بعد لحظة ... إذا نزلت في قلبه رحل العقل
أخذه من قول أبي نواس في وصف الخمرة:
إذا ما أتت دون اللهاة من الفتى ... دعا همه من صدره برحيل
وجميل أخذ المتنبي من أبي تمام قوله:
ومن الخير بطء سيبك عني ... أسرع السحب في المسير الجهام
وبيت أبي تمام:
هو الصنع إن تعجل فخير وإن ترث ... فللريث في بعض المواضع أنفع(6/381)
وبيت المتنبي أجمل وأرشق وفيه زيادة ضرب المثل:
وولد أحد الشعراء المولدين بيتا فارسيا فقال:
كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشهيّ العذب صاد
وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد
فقد ولد هذا الشاعر من تشبيه العذار باللام وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص وولد من معناها ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النجوم فحصل في البيت توليد وإغراب وادماج.
وقد أطلنا عنان القول ولكن الحسن غير مملول.
الفوائد:
التعليق:
للأفعال التي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر أحكام عديدة منها التعليق وهو إبطال العمل لفظا لا محلا لمجيء ما له صدر الكلام بعده والمعلقات عن العمل هي:
1- لام الابتداء نحو «لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» فمن مبتدأ وهو موصول اسمي وجملة اشتراه صلة من وعائدها فاعل اشتراه المستتر فيه وما نافية وله وفي متعلقان بالاستقرار خبر خلاق ومن زائدة وجملة ماله في الآخرة من خلاق خبر من والرابط بينهما الضمير المجرور باللام وجملة من وخبره في محل نصب معلق عنها العامل بلام الابتداء لأن لها الصدارة فلا يتخطاها عامل وانما تخطاها(6/382)
في باب إن فرفع الخبر لأنها مؤخرة من تقديم لاصلاح اللفظ وأصلها التقديم على إن.
2- لام القسم كقول لبيد:
ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها
فاللام في لتأتين لام القسم وتسمى جواب القسم، والقسم وجوابه في محل نصب معلق عنها العامل بلام القسم لا جملة الجواب فقط، فسقط ما قيل ان جملة جواب القسم لا محل لها وان الجملة المعلق عنها العامل لها محل فيتنافيان ولهذا قال أبو حيان «أكثر أصحابنا لا يذكرون لام القسم في المعلقات وفي العزة، ولام القسم لا تعلق كقوله:
لقد علمت أسد أننا ... لهم يوم نصر لنعم النصير
بفتح أن فهذه لام القسم ولم تعلق وتقول علمت أن زيدا ليقومن بفتح أن» اهـ وفي المغني أن أفعال القلوب لإفادتها التحقيق تجاب بما يجاب به القسم كقوله:
ولقد علمت لتأتين منيتي إلخ» اهـ.
فأخرج لام لتأتين عن كونها للقسم.
3- ما النافية نحو «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» فما نافية وهؤلاء مبتدأ وجملة ينطقون خبره والجملة الاسمية في موضع نصب بعلمت وهي معلق عنها العامل في اللفظ بما النافية.
4- لا وإن النافيتان الواقعتان في جواب قسم ملفوظ به أو(6/383)
مقدر فالملفوظ به نحو علمت والله لا زيد في الدار ولا عمرو وعلمت والله أن زيد في الدار والمقدر نحو علمت لا زيد في الدار ولا عمرو.
5- الاستفهام كالآية التي نحن بصددها وهي «وإن أدري أقريب إلخ» وقول كثير:
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ... ولا موجعات القلب حتى تولت
فعطف موجعات بالنصب على الكسرة على محل قوله: ما البكا الذي علق عن العمل فيه قوله أدري.(6/384)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
(22) سورة الحجّ مدنيّة وآياتها ثمان وسبعون
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
اللغة:
(مَرِيدٍ) : عات متجرّد للفساد قال الزجاج: المريد والمارد المرتفع الأملس وقال في القاموس وشرحه: المارد: العاتي المرتفع يقال بناء مارد أي مرتفع وهو مجاز وجمعه مردة وماردون ومرّاد، والمريد: الشديد المرادة والخبيث الشرير وجمعه مرد ومؤنثه مرداء يقال: مرد على جرد أي شبان مرد على خيول جرد.(6/385)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) يا أداة نداء وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والناس بدل من أي على اللفظ واتقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وإن زلزلة الساعة إن واسمها وشيء خبرها وعظيم صفة لشيء وجملة إن زلزلة الساعة إلخ تعليلية لا محل لها من الإعراب وذلك لقوله اتقوا ربكم. وزلزلة الساعة من إضافة المصدر الى فاعله أو الى مفعوله فعلى الأول كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي وعلى الثاني على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى «بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ» . (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها)
الظرف متعلق بتذهل وجملة ترونها مضاف إليها الظرف وأجازوا فيه أوجها أخرى منها أن يكون متعلقا بعظيم أو باذكر مقدرة أو انه بدل اشتمال من زلزلة لأن كلا من الحدث والزمان يصدق عليه انه مشتمل على الآخر والضمير في ترونها عائد على الساعة أي القيامة ولأنها بهذه المثابة التي تقطع نياط القلوب، ويجوز أن يعود على الزلزلة ولعله أقرب لأنه في الدنيا، وتذهل فعل مضارع مرفوع وكل مرضعة فاعل والجملة في محل نصب على الحال من ضمير ترونها أي الهاء فإن الرؤية هنا بصرية حتما هذا إذا لم نجعل يوم متعلقا بتذهل فإن تعلق به لم تجز الحال وصارت الجملة مستأنفة أو أنها حال من الزلزلة أو من الضمير المستتر في عظيم أو من الساعة وان كانت مضافا إليها لأنها إما فاعل واما مفعول به، كما تقدم، ولا بد عندئذ من تقدير ضمير محذوف أي تذهل فيها والمرضعة هي التي باشرت الإرضاع بأن ألقمت الرضيع ثديها والمرضع هي التي من شأنها أن ترضع سواء باشرت(6/386)
الإرضاع أم لم تباشره ففرقوا بينهما بالتاء المربوطة وسيأتي مزيد تفصيل لهذا السر في باب البلاغة وعما أرضعت متعلقان بتذهل وما موصولة أو مصدرية أي عن الذي أرضعته أو عن إرضاعها وتضع كل فعل مضارع وفاعل والجملة معطوفة على جملة تذهل وذات حمل مضاف لكل وحملها مفعول به لتضع والحمل بفتح الحاء المهملة ما كان في بطن أو على شجرة وبالكسرة ما كان على ظهر. (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)
الواو عاطفة وترى فعل مضارع معطوف على ترونها وإنما جمع في الأول وأفرد في الثاني لأن الرؤية الأولى علقت بالزلزلة أو الساعة وكل الناس يرونها أما الثانية فهي متعلقة بكون الناس سكارى فلا بد من جعل كل أحد رائيا للباقي بقطع النظر عن اتصافه بالسكر وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والناس مفعول به وسكارى حال والواو للحال وما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد وسكارى مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما والجملة في محل نصب على الحال من الناس، ويجوز في سكارى ضم السين وفتحها فهما لغتان وبهما قرىء، ولكن الواو عاطفة على محذوف مخالفة لما بعد لكن وهذا حكم مطرد لها والتقدير كما في البحر لأبي حيان: «فهذه الأحوال وهي الذهول والوضع ورؤية الناس شبه السكارى هينة لينة ولكن عذاب الله شديد أي ليس لينا وسهلا فما بعد لكن مخالف لما قبلها» وسيأتي مزيد بحث لهذه الآية في باب البلاغة. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لذكر من غفل عن الجزاء في ذلك وكذب به والمناسبة بينها وبين ما تقدم من ذكر أهوال الساعة وزلزلتها واضحة ومن الناس خبر مقدم ومن نكرة موصوفة حتما وهي مبتدأ مؤخر أي ناس موصوفة بالجدل واللجاج والسفسطة والمكابرة لا تنفع فيهم(6/387)
العظات ولا تؤثر فيهم الدلائل وجملة يجادل في الله صفة لمن وأفرد الضمير مراعاة للفظ من ولو جمع مراعاة لمعناها لجاز وفي الله متعلقان بيجادل على حذف مضاف أي قدرته وصفاته ودينه وبغير علم حال من الضمير الفاعل في يجادل أي جاهلا متخبطا في متاهات الضلالة العمياء والجهالة النكراء (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) ويتبع عطف على يجادل وكل مفعول به وشيطان مضاف اليه ومريد
صفة لشيطان ولا بد من تقدير مضاف أي خطوات كل شيطان. (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) كتب فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان به وأن وما في حيزها في محل رفع نائب فاعل ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويجوز أن تكون من اسم موصول مبتدأ وفأنه الخبر ودخلت الفاء لما في الموصول من رائحة الشرط وجملة يضله خبر انه وجملة الشرط أو الموصول خبر أنه وأجاز الزمخشري أن تكون فأنه معطوفة على الأولى وتعقبه أبو حيان فقال: وهذا لا يجوز لأنك إذا جعلت فأنه عطفا على انه بقيت انه بلا استيفاء خبر على أن كثيرين أيدوا الزمخشري في إعرابه ونرى أن ما اخترناه هو الأقرب للصواب، ويهديه عطف على يضله والى عذاب السعير متعلقان بيهديه.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى»
تشبيه بليغ فقد شبه الناس في ذلك اليوم العصيب بحالة السكارى الذين فقدوا التمييز وأضاعوا الرشد، والعلماء يقولون: إن من أدلة المجاز صدق نقيضه كقولك زيد حمار إذا وصفته بالبلادة والغباء ثم يصدق أن تقول وما هو بحمار فتنفي عنه الحقيقة فكذلك الآية بعد(6/388)
أن أثبتت السكر المجازي نفى الحقيقة أبلغ نفي مؤكد بالباء والسر في تأكيده التنبيه على أن هذا السكر الذي هو بهم في تلك الحالة ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله والاستدراك بقوله «وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ»
راجع الى قوله وما هم بسكارى وكأنه تعليل لاثبات السكر المجازي كأنه قيل: إذا لم يكونوا سكارى من الخمر وهو السكر المعهود فما هذا السكر الغريب؟ وما سببه؟ فقيل شدة عذاب الله تعالى.
2- وفي عدوله عن مرضع الى مرضعة سرّ قل من يتفطّن له وهو ان المرضعة هي التي باشرت الإرضاع فعلا فنزعها الثدي من فم طفلها عند حدوث الهول، ووقوع الارتباك أدل على الدهشة وأكثر تجسيدا لمواطن الذهول الذي استولى عليها وهناك فرق آخر وهو أن وروده على النسب أي مرضع لا يلاحظ فيه حدوث الصفة المشتق منها ولكن مقتضاه انه موصوف بها وعلى غير النسب أي مرضعة يلاحظ فيه حدوث الفعل وخروج الصفة عليه وهذا من أسرار لغتنا التي تندر في اللغات.
وقال في المفصل: «إن مذهب الكوفيين ان حذف التاء من حائض للاستغناء عنها وهذا يوجب إثبات التاء في محل الالتباس كضامر وعاشق وأيم وثيب وعانس» وهذا الاعتراض بيّن، وأما الاعتراض بإثبات التاء في الصفات المختصة بالإناث من امرأة معيبة وكلبة مجرية على ما في الصحاح فليس بسديد لأن ما ذكروه مجوز لا موجب لأنهم يقولون الإتيان بالتاء في صورة الاستغناء على الأصل كحاملة في المرأة قال في الصحاح: يقال امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى فمن قال(6/389)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
حامل قال هذا نعت ومن قال حاملة بناه على حملت فهي حاملة وأنشد لعمرو بن حسان:
تمخضت المنون له بيوم ... أتى ولكل حاملة تمام
فإذا حملت شيئا على ظهرها أو على رأسها فهي حاملة لا غير.
[سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
اللغة:
(النطفة) : ماء الرجل أو المرأة والجمع نطاف ونطف وهو ما يعرف بالمني كفني والمني كإلي والمنية كرمية ويجمع على مني كقفل.(6/390)
ومنى وأمنى ومنّى بمعنى واحد. والنطفة أيضا الماء الصافي قل أو كثر وسيأتي المزيد من الكلام عنه.
(عَلَقَةٍ) : العلقة: هي الدم الجامد وهو المراد هنا والذي يعلق باليد وكل ما يعلّق وما تتبلّغ به الماشية من الشجر ودويبة سوداء تمتص الدم والجمع علق.
(مُضْغَةٍ) : لحمة قدر ما يمضغ.
(مُخَلَّقَةٍ) : المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود إذا سواه وملسه من قولهم صخرة خلقاء كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة متباينة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك وعلى حسب ذلك التفاوت تتفاوت المخلوقات في الصور والخلق.
(طِفْلًا) : الطفل بكسر الطاء يطلق على الولد من حين الانفصال الى حين البلوغ وأما الطفل بالفتح فهو الناعم والمرأة طفلة وأما الطفل بفتح الطاء والفاء فهو وقت ما بعد العصر من قولهم طفلت الشمس إذا مالت للغروب وأطفلت المرأة أي صارت ذات طفل وفي المختار: الطفل يستعمل مفردا وجمعا وفي الحديث سئل صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين. وقال في الأساس واللسان ما خلاصته: هو طفل بين الطفولة، وفعل ذلك في طفولته وامرأة وظبية مطفل وطفّلت ولدها:
رشحته. قال الأخطل يصف سحابا:
إذا زعزعته الريح جرّ ذيولها ... كما زحفت عوذ ثقال تطفّل
وامرأة طفلة، وطفلة الأنامل: ناعمة وبنان طفل ناعمة(6/391)
قال ذو الرمة:
أسيلة مستنّ الوشاحين قانىء ... بأطرافها الحناء في سبط طفل
وقد طفل طفولة وطفالة وآتيه في طفل الغداة وطفل العشي وهو بعيد طلوع الشمس وقبيل غروبها قال:
باكرتها طفل الغداة بغارة ... والمبتغون خطار ذاك قليل
وقال لبيد:
فتدليت عليه قافلا ... وعلى الأرض غيابات الطّفل
وطفّلت الشمس إذا دنت للغروب وطفّل الليل أقبل وأظلّ وطفّل علينا وتطفّل وهو طفيلي وتقول: ما زال يطفّل على الناس، حتى نسخ طفيل الأعراس وهو رجل من الكوفة نسب اليه التطفيل.
(أشده) : تقدم بحثه ونقول هنا: الأشد كمال القول والعقل والتمييز وهو من ألفاظ الجمع التي لم يستعمل لها واحد وهو ما بين الثلاثين الى الأربعين.
(هامِدَةً) : الهمود السكون والخشوع وهمدت الأرض يبست ودرست وهمد الثوب بلي.
(اهْتَزَّتْ) : تحركت وتجوز به هنا عن إنبات الأرض نباتها بالماء.
(رَبَتْ) : زادت وارتفعت من ربا يربو.(6/392)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) يا أيها الناس تقدم إعرابها وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص فعل الشرط والتاء اسمها وفي ريب خبرها ومن البعث متعلقان بمحذوف صفة لريب فإنا الفاء رابطة وان واسمها وجملة خلقناكم خبرها ومن تراب متعلقان بخلقناكم وانما ساغ وقوع قوله فانا خلقناكم جوابا على تأويل فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم. (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) عطف بثم للدلالة على وجود تراخ في تطور الخلق وتدرجه من حال الى حال وقوله مخلقة صفة لمضغة وغير مخلقة عطف على مخلقة والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها من الأعضاء شيء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا.
(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) لنبين اللام للتعليل ونبين مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام مع مدخولها متعلقة بخلقناكم أو اللام للصيرورة والعاقبة أي أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه مالا يمكن اكتناهه أو الإحاطة به ولذلك حذف مفعول نبين، وذلك للاستدلال بهذه القدرة على ان من قدر على بدء الخلق قادر على إعادته فلا مجال للانكار ولا مساغ للتشكك، ونقر الواو استئنافية ونقر فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره نحن وفي الأرحام متعلقان بنقر وما مفعول به وجملة نشاء صلة والى أجل مسمى متعلقان بمحذوف حال وانما استأنف لأنه ليس المعنى خلقناكم لنقر، ومسمى صفة لأجل حرف أي ممتد الوقت خروجه. (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ثم حرف عطف وتراخ أيضا ونخرجكم عطف على نقر وفاعل نخرجكم ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به(6/393)
وطفلا حال من مفعول نخرجكم ثم لتبلغوا لا بد من تقدير فعل وهو نعمركم، ولتبلغوا اللام للتعليل أو الصيرورة وتبلغوا منصوب بأن مضمرة بعد اللام والواو فاعل وأشدكم مفعول به. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الواو عاطفة ومنكم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يتوفى صلة ومنكم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يرد صلة والى أرذل العمر متعلقان بيرد، ونسب الى علي بن أبي طالب قوله أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقيل ثمانون، وقال قتادة تسعون والصواب انه الهرم والخرف ووصول الإنسان الى مرحلة الاعياء والوهن أو يرتد إلى مرحلة الطفولة ضعيف البنية والعقل، بليد الفهم. (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) لكيلا متعلقان بيرد ويعلم منصوب بأن مضمرة بعد اللام وكي مصدرية ومن بعد علم متعلقان بمحذوف حال لأن علم بمعنى عرف وشيئا مفعول به ليعلم. (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الدليل الثاني لأن الدليل الأول منه ما هو مرئي مشاهد ومنه ما ليس كذلك فعبر عنه بالخلق أما هذا الدليل فهو داخل في حيز النظر ومندرج في سلك المرئيات فلذلك عبر عنه بقوله وترى، والأرض مفعول به وهامدة حال من الأرض فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنزلنا مضافة الى الظرف وعليها متعلقان بأنزلنا والماء مفعول به وجملة اهتزت لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وربت عطف على اهتزت وكذلك قوله وأنبتت ومن كل زوج صفة لمفعول به محذوف أي أشياء وأصنافا كائنة من كل صنف وبهيج صفة لزوج. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ذلك مبتدأ وبأن الله خبر وقيل ذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وعندئذ تكون الباء(6/394)
مع مدخولها في محل نصب على الحال وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والحق خبر ان أو خبر هو والمبتدأ الثاني وخبره خبر ان وانه عطف على بأن وان واسمها وجملة يحيي الموتى خبرها وانه على كل شيء قدير عطف أيضا ولا بأس هنا بأن نورد ملاحظة لأبي حيان خلاصتها أن الباء ليست للسببية وانما هي متعلقة بمحذوف تقديره شاهد بأن وهو ينطبق على ما ذكرنا من الوجهين المتقدمين. (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) وان الساعة خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الساعة، وان واسمها وآتية خبرها ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيها خبرها والجملة حالية أو خبر ثان لأن. (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) عطف على ما تقدم وان واسمها وجملة يبعث خبرها ومن مفعول به وفي القبور متعلقان بمحذوف صلة من.
البلاغة:
في قوله تعالى «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فنون لا يكاد يتسع لها صدر هذا الكتاب وسنحاول تلخيصها جهد المستطاع فأول ما فيها:
1- ائتلاف الطباق والتكافؤ:
لمجيء أحد الضدين أو أحد المتقابلين حقيقة والآخر مجازا فهمود الأرض واهتزازها ضدان لأن الهمود سكون فالاهتزاز هنا حركة خاصة وهما مجازان والربو والإنبات ضدان وهما حقيقتان وإنما قلنا ذلك لأن الأرض تربو حالة نزول الماء عليها وهي لا تنبت في تلك الحالة، فإذا انقطعت مادة السماء، وجفف الهواء رطوبة الماء خمد الربو وعادت الأرض الى حالها من الاستواء وتشققت وأنبتت فصدر الآية تكافؤ وما قابله في عجزها طباق.(6/395)
2- الارداف:
وفيها مع هذين الفنين فن الارداف وهو كما ذكر قدامة في نقد الشعر أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ الاشارة الدال على المعاني الكثيرة بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قريب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف وقد تقدمت الاشارة اليه في هود، وهنا في هذه الآية عدل عن لفظي الحركة والسكون الحقيقيين الى أردافهما من لفظي الهمود والاهتزاز لما في لفظي الارداف من الملاءمة للمعنى المراد لأن الهمود يراد به الموت، والأرض في حال عطلها من السقي والنبات موات فكان العدول الى لفظ الهمود المعبر به عن الموت أولى من لفظ السكون والاهتزاز المجازي مشعر بالعطالة كاهتزاز الممدوح للمدح فلأجل ذلك عدل عن لفظ الحركة العام الى لفظ الحركة الخاص لما يشعر أن الأرض ستعطي عند سقيها ما يرضي من نباتها بتنزل السقي لها منزلة ما يسرها فاهتزت لتشعر بالعطاء فقد ظهرت فائدة العدول الى لفظ الارداف لما يعطيه من هذه المعاني التي لا يعطيها لفظ الحقيقة.
3- التهذيب:
وقد جاء نظم هذه الآية مع ما تضمن من التكافؤ والطباق والارداف والائتلاف منعوتا بالتهذيب لما فيه من حسن الترتيب حيث تقدم فيه لفظ الاهتزاز على لفظ الربو ولفظ الربو على الإنبات لأن الماء إذ نزل على الأرض فرق أجزاءها ودخل في خلالها، وتفريق أجزاء الجواهر الجمادية هو حركتها حالة تفرق الاتصال لأن انقسام الجوهر يدل على انتقال قسميه أو أحدهما عن حيزه ولا معنى للحركة إلا هذا(6/396)
فالاهتزاز يجب أن يذكر عقيب السقي كما جاء الربو بعد الاهتزاز فإن التراب إذا دخله الماء ارتفع بالنسبة الى حاله قبل ذلك وهذا هو الربو بعينه وقد تقدم شرح كون الإنبات انما يكون بعد الربو وجفاف رطوبة الماء وعود التراب الى حاله وتشققه فحصل التهذيب في نظم هذه الآية بحصول حسن الترتيب واقترن بذلك حسن النسق لتقدم كل ما يجب أن يكون معطوفا عليه على كل ما يجب أن يكون معطوفا.
4- المذهب الكلامي:
وفي قوله تعالى من أول سورة الحج الى قوله «وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» فن المذهب الكلامي ففي هذه الآيات خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات وسياقها مفصلة على الترتيب:
آ- قوله تعالى «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» ذلك لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه سبحانه أخبر بزلزلة الساعة معظما لها وذلك مقطوع بصحته لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته منقول إلينا بالتواتر فهو حق ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق فالله هو الحق.
ب- أخبر سبحانه أنه يحيي الموتى لأنه تعالى أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر، وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال التي فعلها سبحانه من أجلهم وقد ثبت أنه قادر على كل شيء، ومن الأشياء إحياء الموتى فهو يحيي الموتى.
ج- وأخبر أنه على كل شيء قدير لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين ومن يجادل فيه بغير علم يذقه عذاب السعير ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شيء قدير، فهو على كل شيء قدير.(6/397)
د- وأخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها، لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب الى قوله «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» وضرب سبحانه لذلك مثلا بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج، ومن خلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت ثم يعيده بالبعث وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها بالمحل ثم أحياها بالخصب، وصدق خبره في ذلك كله بدلالة الواقع الشاهد على المتوقع الغائب حتى انقلب الخبر عيانا صدق خبره.
هـ- في الإتيان بالساعة ولا تأتي الساعة إلا ببعث من في القبور، إذ هي عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة فالساعة آتية لا ريب فيها وهو سبحانه يبعث من في القبور.
5- المجاز:
في قوله تعالى «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فقد أسند الإنبات للأرض وهو مجاز عقلي لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى وقد تقدم القول غير مرة في المجاز ونزيد هنا أن المجاز خلاف الحقيقة والحقيقة فعيلة بمعنى مفعولة من أحق الأمر يحقه إذا أثبته أو من حققته إذا كنت على يقين وانما سمي خلاف المجاز بذلك لأنه شيء مثبت معلوم بالدلالة والمجاز مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه فإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة وصف بأنه مجاز على أنهم جازوا به موضعه الأصلي أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا.
شرطا المجاز:
المجاز لا يكون إلا بشرطين:
آ- أن يكون اللفظ منقولا عن معنى وضع اللفظ بإزائه أولا(6/398)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
وبهذا يتميز عن اللفظ المشترك وعن الكذب الذي ادعي فيه أنه مجاز.
ب- والشرط الثاني أن يكون النقل لمناسبة بين الأصل والفرع وعلاقته، ولأجل ذلك لا توصف الأعلام المنقولة بأنها مجاز مثال ذلك تسميتك رجلا بالحجر ويقال ان ذلك مجاز وان كنت نقلت اسم الحجر الى الإنسان إلا أنه نقل لغير مناسبة إذ لا مناسبة بين حقيقة الحجر وحقيقة الإنسان ومتى تحقق هذان الشرطان في لفظ كان ذلك اللفظ مجازا.
قسما المجاز:
والمجاز مجازان: مجاز استعارة، ومجاز حذف. والأول قائم على التشبيه لأنها جعل الشيء للشيء للمبالغة في التشبيه كقولك لقيت أسدا، وأنت تعني أنك لقيت شجاعا ولكن ليس فيها نقل كما تقدم وسيأتي مزيد بسط لهذا البحث، فقوله تعالى «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» نقل الإنبات الى الأرض وجعل خضرتها ونضرتها وتعاشيبها وتعاجيب ألوانها لها والحقيقة أن كل ذلك لله.
[سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)(6/399)
اللغة:
(ثانِيَ عِطْفِهِ) : الثني: اللي وفي القاموس ثنى يثني الشيء عطفه وطواه ورد بعضه على بعض وكفه والعطف: الجانب يعطفه الإنسان ويلويه ويميله عند الاعراض عن الشيء وهو تعبير يراد به التكبر.
(حَرْفٍ) : طرف وسيأتي تفصيل معناه في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ومن الناس من يجادل في الله بغير علم: تقدم القول فيها مفصلا فجدد به عهدا، ولا هدى عطف على علم ولا كتاب منير عطف أيضا وسيأتي القول في تكرير هذه الآية في باب البلاغة. (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) ثاني حال من فاعل يجادل وانما نصبه على الحال والحال من شرطها أن تكون نكرة لأن إضافته بنية الانفصال والتنوين مراد كالمنطوق به وعطفه مضاف وثني العطف سيأتي بحثه في باب البلاغة،(6/400)
وليضل للام للتعليل أو للعاقبة والصيرورة ولعلها أولى لملاءمة السياق ويضل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والفاعل مستتر تقديره هو وعن سبيل الله متعلقان بيضل أي عن دينه. (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) له خبر مقدم وفي الدنيا حال لأنه كان صفة لخزي وتقدم على القاعدة المشهورة وخزي مبتدأ مؤخر ونذيقه الواو عاطفة ونذيقه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق وعذاب الحريق مفعول به ثان وجملة له في الدنيا حالية. (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ذلك مبتدأ وبما خبر وجملة قدمت صلة ويداك فاعل وان عطف على قدمت فهي في محل جر وان واسمها وجملة ليس خبرها واسم ليس مستتر تقديره هو والباء حرف جر زائد وظلام اسم مجرور لفظا منصوب محلا خبر ليس وللعبيد جار ومجرور متعلقان بظلام وجملة ذلك بما قدمت يداك مقول قول محذوف وجملة القول حالية. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ) الواو عاطفة أو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حال المرتابين في ايمانهم الشاكين في دينهم ومن الناس خبر مقدم ومن نكرة موصوفة وهي مبتدأ مؤخر أي موصوفة بالعبادة القلقة غير المستقرة ولا الثابتة، فهي عرضة للاهواء يعصف بها أقل ما يحدث لهم من بلاء أو ضر وجملة يعبد الله صفة لمن وعلى حرف حال من فاعل يعبد أي مضطربا مترجرجا وسيأتي مزيد بيان لهذا التعبير في باب البلاغة. (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) فإن الفاء عاطفة وإن شرطية وأصابه فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والهاء مفعول به وخير فاعل واطمأن فعل ماض في محل جزم جواب الشرط وبه متعلقان باطمأن وإن الواو عاطفة على إن الأولى وأصابته فتنة عطف على ما تقدم وانقلب جواب الشرط وعلى وجهه حال أيضا وجملة خسر(6/401)
الدنيا والآخرة حال أيضا من فاعل انقلب ولك أن تجعلها جملة مستأنفة أو تبدلها من جملة انقلب على وجهه، والدنيا مفعول خسر والآخرة عطف على الدنيا. (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والخسران خبر هو والجملة خبر ذلك والمبين نعت للخسران والجملة مستأنفة ولك أن تجعل هو ضمير فصل. (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)
يجوز أن تكون هذه الجملة حالا من فاعل يعبد ويجوز أن تكون مستأنفة ويدعو فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره هو ومن دون الله حال وما اسم موصول مفعول به ولا نافية وجملة لا يضره صلة وما لا ينفعه عطف على الجملة السابقة وذلك هو الضلال البعيد تقدم اعراب نظيرتها. (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) الجملة بدل من جملة يدعو السابقة فهي بمثابة التكرير لها ولا محل لها، ويدعو فعل مضارع واللام للابتداء أو هي موطئة للقسم ومن اسم موصول مبتدأ وضره مبتدأ ثان وأقرب من نفعه خبر ضره وجملة ضره أقرب من نفعه صلة من، وجملة لبئس المولى خبر من ويرد على هذا الإعراب دخول لام الابتداء على الخبر وهو ضعيف من حيث القواعد النحوية إلا أن يقال أن اللام كررت للمبالغة ولك أن تجعل يدعو من أفعال القلوب متضمنة معنى يزعم لأن يزعم قول مع اعتقاد فتكون جملة لمن ضره أقرب من نفعه في محل نصب على المفعول به لأن لام الابتداء معلقة لها عن العمل أو يكون يدعو بمعنى يقول
ومن مبتدأ وضره مبتدأ ثان وأقرب خبره والجملة صلة من وخبر من محذوف تقديره إله أو إلهي وموضع الجملة نصب بالقول. وجملة لبئس مستأنفة لأنها لا يصح دخولها في الحكاية لأن الكفار لا يقولون عن أصنامهم لبئس المولى ولبئس العشير، وهناك وجه آخر مقبول وهو أن تكون اللام زائدة في المفعول به ليدعو ويؤيد(6/402)
هذا الوجه قراءة عبد الله يدعو من ضره بغير لام الابتداء فمن مفعول يدعو وضره مبتدأ وأقرب خبر والجملة صلة من وقد اختار الجلال السيوطي هذا الوجه ودعمه شارحوه أما الزمخشري فهذا نص عبارته:
«استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالا فطالت وبعدت مسافة ضلالته فإن قلت: الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا تناقض؟ قلت: إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم وذلك ان الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ولا نفعا وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستشفع به حين يستشفع به ثم قال: يوم القيامة يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها له «لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» أو كرر يدعو كأنه قال يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ثم قال: «لمن ضره» بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى وفي حرف عبد الله من ضره بغير لام» فكأن الزمخشري رحمه الله أجمل الأعاريب التي أوردناها على أن هناك أوجها عديدة سلكها المفسرون تربو على سبعة أوجه ولكنها كلها بعيدة عن المنطق نورد لك منها على سبيل المثال رأي الفراء قال: «إن التقدير يدعو من لضره ثم قدم اللام على موضعها» ولا يخفى ما فيه من التعسف وتقديم ما في صلة الذي عليها.
وثمة رأي لا يقل عن هذا غرابة وشذوذا وهو أن يكون ذلك بمعنى الذي في موضع نصب بيدعو أي يدعو الذي هو الضلال ولكنه قدم المفعول وهذا يتمشى على قول من جعل ذا مع غير الاستفهام بمعنى الذي مع انه منحصر في قولك ماذا ومن ذا؟(6/403)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
وثمة رأي آخر أشد استحالة وهو أن يكون التقدير ذلك هو الضلال البعيد يدعوه. فذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان أو بدل أو ضمير فصل والضلال خبر المبتدأ ويدعوه حال والتقدير مدعوا وهو وجه يدعو على نفسه بالوهن كما ترى، وإنما أوردنا هذه الآراء لنخلص الى القول إن هذه الآية من المشكلات التي شغلت علماء النحو والتفسير ولم يأتوا فيها بما ينقع الغليل وكلام الله المعجز أسمى من أن تطاله القواعد التي وضعها الإنسان.
وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمولى فاعل والمخصوص بالذم محذوف تقديره هو، ولبئس العشير معطوف على قوله لبئس المولى.
[سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 17]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)(6/404)
اللغة:
(الْمَجُوسَ) : أطلق المجوس على فئة من الكهّان كان لهم الدور الخطير في الديانة الايرانية القديمة ولا سيما في العهد الساساني وقد أطلق الاسم على فئات من المنجمين والعلماء، وجاء ذكر المجوس في إنجيل متى، كانوا من رجال علم الفلك وقد استناروا بوحي خاص عن مجيء المسيح أتوا من منطقة لم تبعد عن فلسطين شرفا على ما يظن يهديهم نجم في السماء الى أن وصلوا الى بيت لحم وقدموا للمسيح الطفل هداياهم وقد ذكر التقليد الشعبي أنهم كانوا ثلاثة ومن سلالة ملوكية، وأطلق العرب المجوس على قرصان النورمان والسكندينافيين الذين حاولوا في القرون الوسطى اقتحام السواحل والحدود في بلاد الغرب الاسلامي، هذا وقد اختلف أهل العلم في المجوس فقيل هم قوم يعبدون النار وقيل الشمس وقيل هم القائلون بأن للعالم أصلين النور والظلمة، وقيل: هم قوم يستعملون النجاسات والأصل نجوس فأبدلت الميم نونا، هذا وقد تقدم تفسير ألفاظ هذه الآية إلا المجوس.
الإعراب:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ان واسمها وجملة يدخل خبر والذين مفعول به وجملة عملوا الصالحات عطف على آمنوا والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وجنات مفعول به ثان على السعة أو نصب بنزع الخافض وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات وجملة إن الله يفعل ما يريد مستأنفة لتعليل ما تقدم وان(6/405)
واسمها وجملة يفعل خبر وفاعل يفعل مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة يريد صلة. (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) من شرطية مبتدأ أو موصولة فتكون الفاء فيما بعد رابطة للتشبيه بالشرط والأول أرجح، وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على من وجملة يظن خبر وفاعل يظن مستتر يعود على من وأن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وجملة لن ينصره الله خبرها وان وما بعدها سدت مسد مفعولي يظن وفي الدنيا متعلقان بينصره والآخرة عطف على الدنيا.
(فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويمدد فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والفاعل مستتر تقديره هو وبسبب متعلقان بيمدد والى السماء صفة لسبب والمراد بالسماء سقف البيت، ثم ليقطع عطف على فليمدد وهل حرف استفهام ويذهبن فعل مضارع مبني على الفتح وكيده مفعول به وما يغيظ فاعل يذهبن وجملة يغيظ صلة وجملة هل يذهبن في موضع نصب بينظر وسيأتي تفصيل واف لهذه الآية في باب البلاغة.
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) الواو عاطفة وكذلك نعت لمصدر محذوف وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وآيات حال من الهاء وبينات صفة وأن الله عطف على هاء أنزلناه والمعنى وأنزلنا أن الله يهدي من يريد هدايته ولك أن تجعل الواو للحال وأن وما في حيزها في محل رفع لمبتدأ مضمر أي والأمر أن الله يهدي من يريد وأن واسمها وجملة يهدي خبرها ومن مفعول يهدي وجملة يريد صلة من.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وما بعده عطف على الذين والجملة ابتدائية. (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إن الثانية واسمها وخبرها في محل رفع خبر ان الاولى وسيأتي السر في تصدير الجملتين(6/406)
بإن أو تجعل الثانية تأكيدا للأولى، ويكون قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هو الخبر، وإن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بشهيد وشهيد خبر إن وقيل الخبر محذوف تقديره معترفون أو نحو ذلك وما ذكر تفسير له.
البلاغة:
1- الإيجاز والتمثيل:
في قوله تعالى «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ» الى قوله «ما يغيظ» الإيجاز والتمثيل فأما الإيجاز فلأن معناه من كان يظن من حاسدي محمد ومبغضيه أن الله لن ينصره وانه يفعل شيئا مغايرا للنصر ومن كان يغيظه أن محمدا يظفر بمطلوبه ويبلغ ما هدف اليه من المثل العليا التي رسمناها له فليستقص وسعه وليستفرع جهده، فلن يكون مثله إلا مثل من يأخذ حبلا يمده الى سماء بيته فيخنق نفسه به ثم بعد ذلك كله ليعد النظر والتأمل مجددا ليرى هل ذهب نصر الله الذي يغيظه ويقض مضجعه، وهل ذهب عنه ما كان يساوره من حرقة وارتماض؟
وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ومنه قيل للبهر القطع والبهر تتابع النفس، وقال الجوهري في الصحاح: «وقوله تعالى: ثم ليقطع قالوا ليختنق لأن المختنق يمد السبب الى السقف ثم يقطع نفسه من الأرض حتى يختنق تقول منه: قطع الرجل أي اختنق ولبن قاطع أي حامض» قلت والعامة تستعمل هذا التعبير فيما يذهب خيره ويبلى وهو عربي فصيح. وسمي هذا الفعل كيدا لأنه وضعه موضعه إما لأنه لا يستطيع سواه ولا يملك غيره وإما على سبيل(6/407)
الاستهزاء وقد توسع المفسرون في هذه الآية وذهبوا بها مذاهب شتى فقالوا: «ويجوز أن يراد فليمد حبلا الى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي» وقال آخرون «النصر هو الرزق وأن الأرزاق بيد الله لا تنال إلا بمشيئته ولا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله غير رازقه وليس به صبر ولا استسلام فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا» وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى وأوفى بالمراد وهو ما يخالج كل حاسد وما يقال لكل من يعترض على ما ليس في طوقه ولا داخل في نطاق إرادته تقول له اشرب البحر، أو اقتل نفسك فليس لك حيلة في تبديل ما هو واقع راهن وارادة الله أقوى.
2- تصدير الجملتين بان:
وفي تصدير الجملتين بإن زيادة في تأكيد الكلام وقد رمقه الشعراء في أشعارهم، قال جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
فقوله إن الله سربله خبر ان الاولى وكررها لتوكيد التوكيد وسربله كساه بالملك الشبيه بالسربال ويروى لباس ملك وقوله به أي بذلك اللباس أو الملك تزجى أي تساق الخواتيم جمع خاتم بالفتح والكسر والأصل خواتم فزيدت الباء والمراد بها عواقب الأمور الحميدة ومغابها وقال أبو حيان: «يحتمل أن خبر إن قوله به تزجى الخواتيم وجملة إن الله سربله اعتراضية» ويروى ترجى بالراء المهملة.(6/408)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
[سورة الحج (22) : الآيات 18 الى 22]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22)
اللغة:
(الدَّوَابُّ) : جمع دابة بتشديد الباء لأنه مشتق من الدبيب فأما من قرأ بتخفيف الباء فقد حذفها كراهية التضعيف والدابة مؤنث الدابّ ما دبّ من الحيوان أي مشى كالحية أو على اليدين والرجلين كالطفل وغلبت الدابة على ما يركب ويحمل عليه وتقع على المذكر والمؤنث والتاء فيه للوحدة وتصغير الدابة دويّبة والدباب الشديد الدبيب، والضعيف الذي يدب في المشي قال:(6/409)
زعمتني شيخا ولست بشيخ ... إنما الشيخ من يدبّ دبيبا
والدبابة مؤنث الدباب وسميت بها آلة كانت في الماضي تتخذ في الحصار وكانوا يدخلون في جوفها ثم تدفع في أصل الحصن فينقبونه وهم في أجوافها ثم أطلقت في العصر الحديث على سيارة مصفحة تهجم على صفوف الأعداء وترمى منها القذائف.
(الْحَمِيمُ) : الماء البالغ نهاية الحرارة واستحمّ الرجل: اغتسل واستحمّ دخل الحمام وبض حميمه أي عرقه ويقال للمستحم طابت حمّتك وحميمك وانما يطيب الغرق على المعافى ويخبث على المبتلى، فمعناه أصح الله جسمك وهو من باب الكناية وسخن الماء بالمحمّ وهو القمقم أو الرجل ومثل العالم كمثل الحمّة وهي العين الحارّة وذابوا ذوب الحمّ وهو ما اصطهرت إهالته من الألية وحمى الرجل حمّى شديدة وهو محموم، وهو حميمي وهي حميمتي أي وديدي ووديدتي وهم أحمّائي وتقول المرأة: هم أحمائي وليسوا بأحمّائي، وعرف ذلك العامة والحامّة أي الخاصة وهو مولاي الأحم أي الأخص والأحب قال:
وكفيت مولاي الأحم جريرتي ... وحبست سائمتي على ذي الخلّة
وحمّ الأمر قضي وحمّ حمامه ونزل به القدر المحموم والقضاء المحتوم.
(يُصْهَرُ) : يذاب يقال صهرت الشحم من باب قطع إذا أذبته والصهارة الألية المذابة وصهرته الشمس أذابته وفي الحديث «إن الحميم ليصب من فوق رؤوسهم فينفذ من جمجمة أحدهم حتى(6/410)
يخلص الى جوفه فيسلب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» .
(مَقامِعُ) : جمع مقمعة بكسر الميم لأنها آلة القمع يقال قمعه يقمعه من باب قطع إذا ضربه بشيء يزجره به ويذله والميقعة المطرقة وقيل: السوط وفي الأساس: «قمع خصمه قهره وأذله فاقمع وتقمع والناس على باب القاضي متقمّعون وانقمع في بيته وتقمع: جلس وحده وقمعته بالمقمع والمقمعة وبالمقامع وهي الجرزة، وتقمّعت الدواب ذبّبت عن رءوسها القمع وهي ذبّان كبار زرق من ذبان الكلأ التي تغنى الواحدة قمعة، وأنشد الجاحظ:
كأنّ مشافر النجدات منها ... إذا ما مسّها قمع الذباب
بأيدي مأتم متساعدات ... نعال السبت أو عذب الثياب
من النجد: العرق، وقال أوس:
ألم تر أن الله أرسل مزنة ... وعفر الظّباء في الكناس تقمّع
وهم يكللون الجفان بالقمع جمع قمعة وهي أعلى السنام، ومن المجاز «ويل لأقماع القول» وهم الذين يسمعون ولا يعون وفلان قمع الأخبار يتتبّعها ويتحدّث بها وتقول: ما لكم أسماع، إنما هي(6/411)
أقماع» وفي القاموس وشرحه «والقمع أيضا بتثليث القاف آلة توضع فوق الإناء فتصبّ فيه السوائل وجمعه أقماع» .
وللقاف مع الميم خاصة عجيبة وهي أنهما إذا اجتمعتا فاء وعينا للكلمة دلت على القهر والاذلال والغلبة تقول: قمؤ الرجل قماءة وقمأ قمأ إذا ذل وصغر في الأعين وهو صاغر قميء وأقمأ الرجل أذله، وقمحت السويق وغيره بكسر الميم واقتحمته إذا أخذته في راحتك الى فيك ومنه القمح وهو الحب الذي يطحن ويتخذ منه الخبز وشهر أقماح أشد أشهر الشتاء بردا، قال الهذلي:
فتى ما ابن الأغر إذا شتونا ... وحبّ الزاد في شهري قماح
ومن المجاز: أقمح المغلول فهو مقمح إذا لم يتركه عمود الغل الذي ينخس ذقنه أن يطأطىء رأسه «فهم مقمحون» وقمر الرجل غلبه وسلبه ماله وقمر الرجل بكسر الميم تحير بصره من الثلج وكأن القمر سمي بذلك لأنه متحير في سمائه، وقمز الشيء جمعه وأخذه بأطراف أصابعه، وقمسه في الماء غمسه وغرق في قاموس البحر: في قعره الأقصى وشبه القاموس بأعماق البحار لاشتماله على الكثير من مفردات اللغة وهو اسم لكتاب الفيروزبادي في اللغة ويطلق في زماننا على كل كتاب في اللغة فهو يرادف كلمة معجم وليس ذلك بعيدا، وقمص يقمص بكسر الميم وضمها في المضارع قماصا بالكسر كالنفار والشراد وتقامص الصبيان وبينهم مقامصة وقمص الفرس رفع يديه معا وطرحهما معا وعجن برجليه وتقمص مطاوع قمص لبس القميص ويقال على الاستعارة تقمص الولاية والإمارة وتقمصت الروح انتقلت من جسد الى جسد آخر على زعم بعضهم ومنه القميص وهو ما يلبس، وقمط الأسير جمع(6/412)
بين يديه ورجليه بالحبل وهو القماط وقمط الصبي بقماطة وهي الخرقة التي تلف عليه في المهد والعامة تستعمله كثيرا وهو عربي فصيح والقمّاط اللص وقمط الطائر انثاه والرجل امرأته فعل بها، وقمقم ما على المائدة تتبع ما عليها وجمعه، وقمل رأسه صار ذا قمل يفلّيه، وقمّ الشيء يقمه بضم القاف استأصله وقممه جففه، والقمن بفتحتين الجدير بالأمر كأنه يغلبه ويتحكم به ويكون بلفظ واحد مع المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع ويقال: هذا المنزل لك موطن قمن أي جدير بأن تسكنه، وقمه البعير يقمه قموها رفع رأسه فلم يشرب الماء كأن شيئا غلبه وهذا من الغريب بمكان.
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) : الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنت والرؤية هنا علمية وذلك لأن رؤية سجود هذه الأمور إنما تتأتى عن طريق العقل لا عن طريق البصر وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وأن واسمها وجملة يسجد خبرها وله متعلقان بيسجد ومن فاعل وفي السموات ومن في الأرض متعلقان بمحذوف صلة الموصول والشمس وما بعدها عطف خاص على قوله من في السموات ومن في الأرض ونص على هذه الأمور لما ورد من أن بعضهم كان يعبدها، والسجود يشمل الملائكة والآدميين والجبال والشجر والدواب وغيرها وأفرد الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب بالذكر لشهرتها واستبعاد السجود منها.(6/413)
(وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) شغلت هذه الآية المفسرين والمعربين كثيرا فمن منع استعمال المشترك في معنييه الحقيقي والمجازي لم ينظم كثيرا في المفردات المتناسقة الداخلة تحت حكم الفعل وجعله مرفوعا بفعل مضمر يدل عليه قوله يسجد أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة وذلك أن السجود المسند لغير العقلاء غير السجود المسند للعقلاء فلا يسوغ عطفه عندهم على ما قبله لاختلاف الفعل المسند إليهما في المعنى فسجود العقلاء هو الكيفية المخصوصة المعرفة وسجود غير العقلاء هو الإذعان والطاعة وأما الذين أجازوا استعمال المشترك في معنييه الحقيقي والمجازي فهم ينسقونه على ما تقدم ولهم في تبرير ذلك تأويلات ثلاثة وهي:
آ- ان المراد بالسجود هو المعنى العام المشترك بين العقلاء وغيرهم وهو الخضوع والإذعان فيكون الاشتراك معنويا.
ب- انه لا يمنع الاشتراك اللفظي وقد يشترك المجاز والحقيقة.
ج- انه يجوز الجمع بين المجاز والحقيقة وسيأتي مزيد بسط لهذا الموضوع في باب البلاغة.
ووقف فريق من المعربين موقفا ثالثا فلم يرفعوه بفعل مضمر لأن حذف فعل الفاعل غير وارد عندهم ولم ينسقوه على ما تقدم بل أعربوه مبتدأ وخبره محذوف تقديره مطيعون أو مجزيون أو مثابون أو نحو ذلك، ومن الناس صفة كثير وكثير حق عليه العذاب عطف على سابقه.
(وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) الواو استئنافية أو عاطفة ومن شرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليهن والله فاعل وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ومكرم مجرور بمن لفظا(6/414)
مبتدأ مرفوع محلا وإن واسمها وجملة يفعل خبرها والجملة تعليلية.
(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) الجملة مستأنفة مسوقة لسرد قصة المتبارزين يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وقيل هم المختصمون من أهل الكتاب والمسلمين في دين الله وهذان مبتدأ وخصمان خبره وجملة اختصموا صفة لخصمان ولك أن تجعل الجملة خبرا وخصمان بدل من هذان وفي ربهم متعلقان باختصموا وهو على حذف مضاف أي في دينه وقال خصمان ثم جمع الفعل لأن الخصم في الأصل مصدر ولذلك يوحّد ويذكر غالبا ويجوز أن يثنى ويجمع أو الجمع مراعاة للمعنى لأن المتخاصمين كانوا فرقا شتى وطوائف كثيرة. (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) الفاء عاطفة والذين مبتدأ وجملة كفروا صلة وجملة قطعت خبر ولهم متعلقان بقطعت وثياب نائب فاعل ومن نار صفة لثياب وسيأتي تفصيل معنى الثياب هنا في باب البلاغة وجملة يصب خبر ثان لاسم الموصول أو حالية من الضمير في لهم أو تجعلها مستأنفة ويصب فعل مضارع مبني للمجهول ومن فوق رءوسهم متعلقان بيصب والحميم نائب فاعل. (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) جملة يصهر حالية من الحميم وهو بالبناء للمجهول وبه متعلقان به وما نائب فاعل وفي بطونهم متعلقان بمحذوف صلة ما والجلود عطف على ما واختار بعضهم أن يكون الجلود مرفوعا بفعل مضمر أي وتحرق الجلود قالوا لأن الجلود لا تذاب وانما تنقبض إذا صليت بالنار فهو من باب: علفتها تبنا وماء باردا أي وسقيتها ماء لأن الماء لا يكون علفا. (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم ومقامع مبتدأ مؤخر ومن حديد صفة لمقامع واختلف في عودة الضمير في لهم فقيل يعود على الذين كفروا واللام للاستحقاق، وقيل(6/415)
يعود على أعوان جهنم أي الزبانية ولم يتقدم لهم ذكر ولكن سياق الكلام يدل عليه. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) كلما ظرف متضمن معنى الشرط وقد تقدم كثيرا وأرادوا فعل وفاعل وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول به لأرادوا ومنها متعلقان بيخرجوا ومن غم بدل من الجار والمجرور قبله بدل اشتمال لأنها تشمل عليه ويجوز أن تكون من للتعليل فتتعلق بيخرجوا أيضا أي يخرجوا من النار من أجل الغم الذي لحق بهم وجملة أعيدوا لا محل لها لأنها جواب كلما وفيها متعلقان بأعيدوا والواو حرف عطف والمعطوف محذوف تقديره وقيل لهم وجملة ذوقوا عذاب الحريق مقول القول المحذوف.
البلاغة:
1- الحقيقة والمجاز:
الحقيقة هي اللفظ الدال على موضعه الأصلي وأما المجاز فهو ما أريد به غير المعنى الموضوع في أصل اللغة كما تقدم وقد وعدناك أن نقول قولا شافيا في جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز فالواقع أن كل مجاز له حقيقة لأنه لم يصح أن يطلق عليه اسم المجاز إلا لنقله عن حقيقة موضوعة له، وبديه أن المخلوقات كلها تفتقر الى أسماء يستدل بها عليها ليعرف كل منها باسمه من أجل التفاهم الذي لا بد منه فالاسم الموضوع بإزاء المسمى هو حقيقة له فاذا نقل الى غيره صار مجازا والفرق الدقيق بينهما هو أن الحقيقة جارية على العموم في نظائر ألا ترى أنا إذا قلنا فلان «عالم» صدق على كل ذي علم بخلاف «واسأل القرية» لأنه لا يصح إلا في بعض الجمادات دون بعض إذ المراد أهل القرية(6/416)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
لأنهم ممن يصح السؤال لهم ولا يجوز أن يقال واسأل الحجر والتراب وقد يحسن أن يقال واسأل الربع والطلل قال الأعشى:
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل تخبرنك اليوم بيداء سماق
2- الاستعارة التمثيلية في قطعت لهم ثياب:
في قوله تعالى: «قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ» استعارة تمثيلية جعل تقطيع الثياب وتفصيلها على قدود الكفار بمثابة الإحاطة بهم مع التهكم الذي ينطوي عليه أي أنها تشتملهم وتحتويهم كما تشتمل الثياب لابسها وتحتويه أما الروعة فهي كامنة في قوله «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» وهو ما يسمى بالارداف فإن الثياب تشمل جميع الجسد غير الرأس، أفرد الرؤوس بالذكر بقوله: يصب.
[سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 25]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)(6/417)
الإعراب:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا. (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) يحلون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها متعلقان بيحلون ومن أساور اضطربت أقوال المعربين فيها كما استشهد بها جميع النحويين على مجيء من لبيان الجنس وهي قوله من ذهب وعلامتها أن يصح الإخبار بما بعدها عما قبلها فتقول الأساور هي من ذهب، ومن البيانية ومجرورها في موضع نصب على الحال مما قبلها إن كان معرفة كقوله تعالى «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» وفي موضع النعت كقوله من ذهب، ولم أر بينهم جميعا من تعرض لإعراب من أساور إلا بقول مبهم لا يبل أواما ولا يشفي غليلا ولعل أقرب ما أراه فيها أن تكون نعتا لمفعول محذوف أي حليا ناشئا من أساور كائنة من ذهب، واكتفى ابن هشام بقوله هي للابتداء وقال أبو البقاء مثل قولنا ولم يتعرض الزمخشري لها وقال شهاب الدين الحلي «وقوله من أساور من ذهب، في من الأولى ثلاثة أوجه أحدها أنها زائدة والثاني أنها للتبعيض أي بعض أساور والثالث أنها لبيان الجنس ومن في من ذهب لابتداء الغاية وهي نعت لأساور» وقوله متهافت متدافع كما ترى.
ولؤلؤا عطف على محل من أساور لأن محلها النصب، كذا قال المعربون ولكن الزمخشري لم يرتض هذا القول فجعلها منصوبة بفعل محذوف تقديره ويؤتون لؤلؤا، وجملة يحلون حالية أو خبر ثان لإن ولباسهم الواو عاطفة ولباسهم مبتدأ وفيها حال وحرير خبر.
وفي هذا العدول عن الفعلية الى الاسمية دلالة على الديمومة حيث لم يقل ويلبسون حريرا فقد دل على أن الحرير ثيابهم المعتادة والدائمة في(6/418)
الجنة كما أن فيه رعاية للمحافظة على الفواصل لأنه لو قال ويلبسون حريرا لكان في آخر الفاصلة الألف في الكتابة والوقف بخلاف البقية (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) الواو عاطفة وهدوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الطيب متعلقان بهدوا ومن القول متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستكن في الطيب وهدوا الى صراط الحميد عطف على الجملة السابقة أي الى طريق الله المحمود ودينه القويم. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) إن واسمها وجملة كفروا صلة والجملة مستأنفة ويصدون الواو حرف عطف ويصدون عطف على كفروا وفي عطفه على الماضي تأويلات أولها أن لا يقصد بالمضارع الدلالة على زمن معين من حال أو استقبال وإنما يراد به مجرد الاستمرار ومثله «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» أو انه مؤول بالماضي لعطفه على الماضي أو انه على بابه وان الماضي قبله مؤول بالمستقبل وقد أجاز أبو البقاء وغيره أن تكون الواو حالية والجملة في محل نصب على الحال من فاعل كفروا وهو قول متهافت لأنه مضارع مثبت وما كان كذلك لا تدخل عليه الواو وما ورد منه على قلته مؤول فلا يسوغ حمل القرآن عليه وعن سبيل الله متعلقان بيصدون والمسجد الحرام عطف على سبيل الله والذي صفة ثانية للمسجد وجملة جعلناه صلة ونا فاعل والهاء مفعول به أول وللناس حال لأنه كان صفة وتقدم، وسواء مفعول به ثان ان كانت جعل متعدية لاثنين وان كانت متعدية لواحد أعربت سواء حالا من هاء جعلناه والعاكف فاعل سواء لأنه مصدر وصف فهو في قوة اسم الفاعل المشتق أي بمعنى مستو أي جعلناه مستويا فيه العاكف أي المقيم، والباد بحذف الياء تبعا لرسم المصحف معطوف على العاكف ومعناه الطارئ، وقد انفرد حفص بقراءة النصب في سواء والجمهور على رفعها على انه(6/419)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
خبر مقدم والعاكف والباد مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب مفعول به ثان أو حال وخبر إن محذوف تقديره خسروا أو هلكوا أو نحو ذلك وقدره الزمخشري نذيقهم من عذاب أليم واعترض عليه بأنه يكون بعد المسجد الحرام وفيه فصل بين الصفة والموصوف. (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويرد فعل الشرط وفيه متعلقان بيرد ومفعول يرد محذوف ليتناول كل ما يمكن تناوله وبإلحاد حال وبظلم حال أيضا فهما حالان مترادفتان كأنه قال ومن يرد فيه مرادا عادلا عن القصد ظالما وهذا أولى من تقدير زيادة الباء في إلحاد وجعله هو المفعول، قال أبو عبيدة: «مفعول يرد هو بإلحاد والباء زائدة في المفعول قال الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا أي رزق» وقال أبو حيان: «والأحسن أن يضمن معنى يرد يلتبس فيتعدى بالباء» ونذقه جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ومن عذاب متعلقان بنذقه وأليم صفة وقدر أبو حيان الخبر مستنتجا من قوله نذقه، وهو إعراب تفسيري لا صناعي فالأولى أن يقدر تقديرا أي نذيقهم عذابا أليما.
[سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 29]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)(6/420)
اللغة:
(رِجالًا) : مشاة جمع راجل كقائم وقيام يقال رجل يرجل بفتح الجيم رجلا بفتحتين: سار على رجليه لا راكبا، ويقال هذا رجل أي كامل في الرجال بين الرّجولية والرّجولية وهذا أرجل الرجلين وهو راجل ورجل بين الرّجلة وحملك الله عن الرّجلة ومن الرّجلة وقوم رجّال ورجال ورجّالة ورجل ورجلى ورجالى وأراجيل وترجلوا في القتال نزلوا عن دوابهم للمنازلة ورآه فترجل له ورجل أرجل عظيم الرجل ورجل رجيل وذو رجلة مشّاء.
(ضامِرٍ) : في المختار ضمر الفرس من باب دخل وضمر أيضا بالضم ضمرا بوزن فقل فهو ضامر، وناقة ضامر وضامرة وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ثم ترده الى القوت وذلك في أربعين يوما. والبعير يطلق على الجمل والناقة.
(فَجٍّ) : الفج بفتح الفاء ويجمع على فجاج بكسر الفاء والفجاج بضم الفاء: الطريق الواسع الواضح بين الجبلين.
(تَفَثَهُمْ) : أوساخهم وقضاء التفث المراد به قص الأظافر ونتف الإبط وفي المصباح: تفث تفثا فهو تفث مثل تعب تعبا فهو تعب إذا ترك الأدهان والاستحداد فعلاه الوسخ وقوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» قيل هو استباحة ما حرم عليهم بالإحرام بعد التحلل» وقال غيره: «التفث قيل أصله من التف وهو وسخ الأظفار قلبت الفاء كمعثور في معفور وقيل هو الوسخ والعذر يقال: ما نفثك؟ وحكى قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه في سفره ومعنى ليقضوا ليصنعوا ما يصنعه المحرم من ازالة شعر وشعث ونحوهما عند حله» .(6/421)
الإعراب:
(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة بوأنا مضافة إليها الظرف وبوأنا فعل وفاعل ولابراهيم متعلقان ببوأنا ومكان البيت مفعول بوأنا واختار أبو البقاء وغيره أن تكون اللام زائدة أي أنزلناه مكان البيت والدليل عليه قوله تعالى «وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ» اما على الاول فيكون معنى بوأنا هيأنا وان هي المفسرة لأنها واقعة بعد قول مقدر أي قائلين له لا تشرك ولا ناهية وتشرك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وقيل هي مصدرية فعلنا ذلك لئلا تشرك وجعل النهي صلة لها وبي متعلقان بتشرك وشيئا مفعول تشرك، وعبارة أبي حيان: وأن مخففة من الثقيلة قاله ابن عطية والأصل أن يليها فعل تحقيق أو ترجيح كحالها إذا كانت مشددة أو حرف تفسير قاله الزمخشري وابن عطية وشرطها أن يتقدمها جملة في معنى القول وبوأنا ليس فيه معنى القول والأولى عندي أن تكون أن الناصبة للمضارع إذ يليها الفعل المتصرف من ماض ومضارع وأمر والنهي كالأمر. (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وطهر الواو عاطفة وطهر فعل أمر فاعله مستتر تقديره أنت وبيتي مفعول طهر وللطائفين متعلق بطهر والقائمين والركع عطف على ما تقدم والسجود صفة للركع والأولى أن تجعل الكلمتين بمثابة الكلمة الواحدة لأنهما عملان في عمل واحد وهو الصلاة. (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وأذن فعل أمر أي ناد بدعوة الحج والأمر به والخطاب لابراهيم كما يقتضيه السياق وعليه المفسرون جميعا وعن الحسن انه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع(6/422)
وهو أقوى من جهة التشريع، وفي الناس متعلقان بأذن وبالحج متعلقان بمحذوف حال أي معلنا ويأتوك مضارع مجزوم لأنه وقع جوابا للطلب والواو فاعل والكاف مفعول به ورجالا حال وعلى كل ضامر عطف على رجالا أي مشاة وركبانا ويأتين فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل وجملة يأتين صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع وقرىء يأتون صفة للرجال والركبان ومن كل فج متعلقان بيأتين وعميق صفة لفج. (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) اللام للتعليل ويشهدوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها وهي متعلقة مع مجرورها بيأتوك أو بأذّن ومنافع مفعول به ولهم صفة لمنافع ويذكروا عطف على يشهدوا والواو فاعل واسم الله مفعول به وفي أيام متعلقان بيذكروا ومعلومات صفة لأيام وسيأتي ذكر هذه الأيام في باب الفوائد. (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) على ما رزقهم متعلقان بيذكروا أيضا ومعنى على هنا التعليل ومثله قوله تعالى «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» وقول الشاعر:
علام تقول الرمح يثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
ومن بهيمة الأنعام متعلقان برزقهم، فكلوا الفاء الفصيحة وكلوا فعل أمر وفاعل ومنها متعلقان بكلوا وأطعموا عطف على كلوا والبائس مفعول به والفقير صفة. (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ثم حرف عطف واللام لام الأمر وسيأتي بحث مفيد عنها في باب الفوائد ويقضوا مضارع مجزوم بلام الأمر وتفثهم مفعول به وليوفوا نذورهم عطف على يقضوا تفثهم وليطوفوا بالبيت العتيق عطف أيضا وبالبيت متعلقان بيطوفوا والعتيق صفة للبيت وسيأتي السر في تسميته بالعتيق في باب الفوائد.(6/423)
الفوائد:
1- لام الأمر:
لام الأمر ويسميها النجاة اللام الطلبية سواء أكانت أمر أم دعاء فالأول نحو «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» والثاني نحو «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» وتكون للالتماس، فالأمر من الأعلى والدعاء من الأدنى والالتماس من المساوي، ولام الأمر مكسورة إلا إذا وقعت بعد الواو والفاء فالاكثر تسكينها نحو «فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي» وقد تسكن بعد ثم، وتدخل لام الأمر على فعل الغائب معلوما ومجهولا وعلى المخاطب والمتكلم المجهولين.
2-لماذا سمي البيت العتيق:
اختلف المفسرون في هذه التسمية فرجح الزمخشري انه القديم لأنه أول بيت وضع للناس، وقال ابن عباس: سمي عتيقا لأن الله أعتقه من تسلط الجبابرة عليه فكم من جبار سار اليه ليهدمه فمنعه الله، وقال الزمخشري في تأييد هذا الوجه «فإن قلت: قد تسلط عليه الحجاج فلم يمنع؟ قلت: ما قصد التسلّط على البيت وانما تحصن به ابن الزبير فاحتال لاخراجه ثم بناه ولما قصد التسلط عليه أبرهة فعل به ما فعل» كما سيأتي، وقيل بيت كريم من قولهم عتاق الخيل والطير.(6/424)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
[سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 33]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
اللغة:
(حُرُماتِ اللَّهِ) : الحرمات بضمتين ويقال في الجمع أيضا حرمات بضم ففتح وحرم بضم ففتح جمع حرمة بضم فسكون وحرمة بضمتين وحرمة بضم ففتح وهي الذمة والمهابة وما وجب القيام به من حقوق الله وحرم التفريط به ومالا يحل انتهاكه وتفاصيل الحرمات تؤخذ من كتب الفقه.
(الرِّجْسَ) : بتشديد الراء المكسورة وسكون الجيم والرّجس بتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم والرجس بتشديد الراء المفتوحة وكسر الجيم: القذر والأوساخ وسمى الأوثان رجسا على طريق التشبيه لأنها قذر معنوي.
(الزُّورِ) : الشرك بالله والباطل والكذب ومن معانيه أيضا العقل والقوة يقال ماله زور ولا صيّور أي لا قوة له ولا مرجع اليه والرأي والسيد والزعيم ولذة الطعام وطيبه ولين الثوب ونقاؤه ومجلس الغناء وهو من الزور أو هو الازورار وهو الانحراف وفي الأساس «وكلمة زوراء دنية معوجة ومنارة زوراء: مائلة عن السمت ورمى بالزوراء: بالقوس(6/425)
وفلاة زوراء وهو أزور عن مقام الذل وتقول: قوم عن مواقف الحق زور، فعلهم رياء وقولهم زور، وما لكم تعبدون الزور وهو كل ما عبد من دون الله وأنا أزيركم ثنائي وأزرتكم قصائدي» هذا وقد نظم بعضهم معاني هذه المادة بالأبيات التالية:
الصّدر والزائر فهو زور ... وكلّ زوار النساء زير
في جمع أزور يقال زور ... أعني به ذا ميل في الصدر
زيارة أي مرة فزوره ... وهيئة الزيارة ادع زيره
وقطعة الكتان أما الزّوره ... فموضع ذو شجر وطين
وسميت بغداد بالزوراء لانحراف قبلتها قال الطغرائي:
فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
(فَتَخْطَفُهُ) : في القاموس: خطف يخطف من باب تعب خطفا الشيء استلبه بسرعة وخطف البرق البصر ذهب به بسرعة.
(سَحِيقٍ) : بعيد أي فهو لا يرجى خلاصه.
(شَعائِرَ اللَّهِ) : جمع شعيرة أو شعارة بالكسر وفي المصباح:
«والشعائر أعلام الحج وأفعاله الواحدة شعيرة أو شعارة بالكسر والمشاعر مواضع المناسك» .
الإعراب:
(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ذلك قال الزمخشري: «خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم(6/426)
الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا» ومعنى هذا انه يذكر للفصل بين كلامين أو بين وجهي كلام واحد، وقيل مبتدأ محذوف الخبر أي ذلك الأمر الذي ذكرته وقيل في موضع نصب تقديره امتثلوا ذلك ونظير هذه الاشارة البليغة قول زهير في وصف هرم بن سنان:
هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط النديّ إذا ما ناطق نطقا
وكان وصفه قبل هذا بالكرم والشجاعة ثم وصفه في هذا البيت بالبلاغة فكأنه قال: هذا خلقه وليس كمن يعيا بخطبته.
والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويعظم فعل الشرط وفاعله مستتر يعود على من وحرمات الله مفعول به والفاء رابطة وهو مبتدأ وخير خبر وله متعلقان بخير والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وعند ربه الظرف متعلق بمحذوف حال. (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) الواو عاطفة وأحلت فعل ماض مبني للمجهول ولكم متعلقان بأحلت والأنعام نائب فاعل وإلا أداة استثناء وما يستثنى يجوز فيه الاتصال والانقطاع وقد تقدم اعراب هذه الآية وما استثناه الله في كتابه فالانقطاع على انه ذكر في آية المائدة ما ليس من جنس الأنعام كالدم ولحم الخنزير والاتصال على صرفه الى ما يحرم من الأنعام بسبب عارض كالموت ونحوه وجملة يتلى صلة ونائب الفاعل ضمير مستتر وعليكم متعلقان بيتلى. (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) الفاء تفريع على قوله ومن يعظم حرمات الله، واجتنبوا الرجس فعل أمر وفاعل ومفعول به ومن الأوثان بيان للرجس فهو في محل نصب على الحال واختار الزمخشري أن يكون(6/427)
تمييزا ومثل لذلك بقولك: عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس منهم يتناول غير شيء كأنه قيل فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وليس قوله ببعيد واجتنبوا قول الزور عطف على ما تقدم. (حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) حنفاء لله حال مؤسسة من ضمير اجتنبوا وغير مشركين حال مؤكدة منه أيضا وبه متعلقان بمشركين وسيأتي بحثهما في باب الفوائد. (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) هذه الجملة مستأنفة مسوقة لضرب المثل لمن يشرك بالله ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويشرك بالله فعل الشرط، فكأنما الفاء رابطة وكأنما كافة ومكفوفة وخر فعل ماض وفاعل مستتر ومن السماء متعلقان بخرّ، فتخطفه عطف على خرّ وإنما عدل الى المضارع لسر سيأتي في باب البلاغة، والطير فاعل أو تهوي به الريح عطف أيضا وفي مكان متعلقان بتهوي أيضا وسحيق نعت لمكان.
(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) ذلك خبر لمبتدأ محذوف كما تقدم ومن يعظم شعائر الله تقدم اعرابها والفاء رابطة وان واسمها ومن تقوى القلوب خبرها. (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) لكم خبر مقدم وفيها حال ومنافع مبتدأ مؤخر والى أجل صفة لمنافع ومسمى صفة لأجل ثم حرف عطف ومحلها مبتدأ وهو اسم مكان من حل يحل أي صار حلالا والى البيت خبر والعتيق صفة.
البلاغة:
1- التشبيه المركب والتمثيلي وقد تقدم انه ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد وبيان ذلك انه لما انقسمت حال الكافر الى قسمين لا مزيد عليهما الاول منهما المتذبذب الشاكّ المتمادي(6/428)
على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة فهذا القسم من المشركين شبه بمن اختطفته الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على مزعة منه إلا انتهبها منه آخر وذلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه ونزل عما كان عليه والثاني مشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يتراجع عن تصميمه لا سبيل الى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج لضلالته فهذا مشبه في إقراره على كفره باستقرار من هوت به الريح الى واد سحيق سافل فاستقر فيه ونظير تشبيهه بالاستقرار في الوادي السحيق الذي هو أبعد ما يكون عن السماء.
وأجاز الزمخشري أن يكون هذا التشبيه من المركب والمفرق قال «فإن كان تشبيها مركبا فكأنه قال من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق مزعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة وان كان مفرقا فقد شبه الايمان في علوه بالسماء والذي ترك الايمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء التي تتوزّع أفكاره بالطير المتخطفة والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصف به في بعض المهاوي المتلفة» .
وكلام الزمخشري فيه نظر لأن التشبيه التمثيلي ما في ذلك شك ولا مساغ لجعله مفرقا.
2- العدول الى لفظ المضارع:
سياق الكلام يقتضي أن يعطف فتخطفه على مضارع مع أنه في الآية معطوف على خر وهو ماض، وإنما عدل عن ذلك لتصوير الواقع والتقدير فهي تخطفه فيكون من عطف الجملة على(6/429)
الجملة ولكنه آثر المخالفة لاستحضار الصورة الغريبة التي تصوره مزعا في حواصل الطير.
الفوائد:
1- الحال إما مؤسسة وإما مؤكدة فالمؤسسة هي التي لا يستفاد معناها بدونها نحو جاء خالد راكبا، وأكثر ما تأتي الحال من هذا النوع، والمؤكدة هي التي يستفاد معناها بدونها وانما يؤتى بها للتوكيد، وهذه أنواع ثلاثة:
آ- ما يؤتى بها لتوكيد عاملها وهي التي توافقه معنى فقط أو معنى ولفظا فالأول نحو «تبسم ضاحكا» ومنه قوله تعالى «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» والثاني كقوله تعالى: «وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» وقول الشاعر:
أصخ مصيخا لمن أبدى نصيحته ... والزم توقي خلط الجد باللعب
ب- ما يؤتى بها لتوكيد صاحبها كقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» .
ج- ما يؤتى بها لتوكيد مضمون جملة معقودة من اسمين معرفتين جامدين نحو: هو الحق بينا أو صريحا، وقول الشاعر:
أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار
2-لماذا أنث الضمير في فإنها:
في قوله تعالى: «وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ»(6/430)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
سؤال مهم وهو لماذا أنث الضمير؟ وعلى أي شيء يعود؟ والجواب لا يستقيم إلا بتقدير مضافات محذوفة ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأن الضمير يعود على الشعائر أي فإن تعظيمها من أفعال تقوى القلوب والعائد على من محذوف أي منه ويجوز أن الضمير ضمير مصدر مؤنث تقديره فإن العظمة أو الحرمة أو الخصلة.
[سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 38]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)(6/431)
اللغة:
(مَنْسَكاً) : بفتح السين وكسرها فالفتح على أنها مصدر ميمي والكسر على أنها اسم مكان وفي المصباح نسك لله ينسك من باب قتل تطوع بقربة والنسك بضمتين اسم منه وفي التنزيل: «إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي» والمنسك بفتح السين وكسرها يكون زمانا ومصدرا ويكون اسم المكان الذي تذبح فيه النسيكة وهي الذبيحة وزنا ومعنى، ومناسك الحج عباداته وقيل مواضع العبادات ومن فعل كذا فعليه نسك أي دم يريقه، ونسك تزهد وتعبد فهو ناسك والجمع نساك مثل عابد وعباد» وفي القاموس: «المنسك بفتح السين المكان المألوف والمنسك بالفتح أيضا مصدر نسك والمنسك بالكسر شرعة النسك وموضع تذبح فيه النسيكة» .
(الْمُخْبِتِينَ) : المطيعين المتواضعين والإخبات نزول الخبت وهو المكان المنخفض وسيأتي في باب البلاغة بحث قيم حول هذا الوصف.
(الْبُدْنَ) : بضم الباء جمع بدنة سميت بذلك لعظم بدنها وهي خاصة بالإبل كما قال الأزهري أو هي تشمل الإبل والبقر كما قال صاحب الصحاح قال القسطلاني: «البدن عند الشافعي خاصة بالإبل وعند أبي حنيفة من الإبل والبقر فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري وكلام الحنفية موافق لكلام الصحاح» .
(صَوافَّ) : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء صوافن من صفون الفرس وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل احدى يديها.(6/432)
(وَجَبَتْ جُنُوبُها) : وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط ووجبت الشمس وجبة غربت قال أبو تمام:
فالشمس طالعة من ذا وقد غربت ... والشمس واجبة من ذا ولم تجب
(الْقانِعَ) : السائل المتذلل والخارج من مكان الى مكان وخادم القوم وأجيرهم والجمع قانعون وقنّع أو بمعنى القنع أي الراضي بما قسم له يقال قنع يقنع من باب تعب تعبا قنعا وقناعة وقنعانا:
رضي بما قسم له يقال قنع يقنع من باب تعب تعبا: قنعا وقناعة وقنعانا:
رضي بما قسم له وقنع يقنع من باب فتح قنوعا: سأل وتذلل وفي الأساس واللسان: «العز في القناعة والذل في القنوع وهو السؤال وفلان قنع بالمعيشة وقنيع وقنوع وقانع، أنشد الكسائي:
فإن ملكت كفاك قوطا فكن به ... قنيعا فإن المتقي الله قانع
وقنع بالشيء واقتنع وتقنّع، وأقنعك الله بما أعطاك، وفلان حريص ما يقنعه شيء وبيت شوقي المشهور:
شباب قنع لا خير فيهم ... وبورك بالشباب الطامحينا
يدل على ضلاعته باللغة وتمكنه منها.
(الْمُعْتَرَّ) : المعترض بسؤال وعرّه وعرّاه بمعنى واحد وقيل القانع السائل والمعتر المعترض من غير سؤال وقال قوم بالعكس وفي المصباح: «المعتر الضيف الزائر والمعتر: المعترض للسؤال من غير طلب يقال عره واعتره وعراه واعتراه إذا تعرض للمعروف من غير مسألة»(6/433)
وفي القاموس «والمعتر الفقير والمعترض للمعروف من غير أن يسأل عرّه، عرّا واعتره وبه» وفي الأساس واللسان: «وعن عائشة رضي الله عنها: مال اليتيم عرة لا أدخله في مالي ولا أخلطه به» . ولا تفعل هذا لا تصبك منه معرّة وفي الحديث «كلما تعاررت ذكرت الله» وكان سلمان رضي الله عنه إذا تعارّ في الليل قال: سبحان رب النبيين وإله المرسلين، وهو أن يهب من النوم مع كلام من عرار الظليم وهو صياحه و «أطعموا القانع والمعتر» أي المعترض بسؤاله» .
الإعراب:
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير التشريع الخاص بكل أمة ونوع التعبد الذي يتقربون به الى الله ولكل أمة متعلقان بمحذوف مفعول جعلنا الثاني المقدم وجعلنا فعل وفاعل ومنسكا مفعول جعلنا الأول وليذكروا اللام للتعليل ويذكروا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعلنا واسم الله مفعول به وعلى ما رزقهم متعلقان بيذكروا وجملة رزقهم صلة ومن بهيمة الأنعام متعلقان برزقهم. (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) الفاء الفصيحة وإلهكم مبتدأ وإله خبره وواحد صفة فله الفاء عاطفة وله متعلقان بأسلموا وأسلموا فعل أمر وفاعل وبشر الواو عاطفة وبشر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والمخبتين مفعول به.
(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) الذين نعت للمخبتين أو بدل منه وإذا(6/434)
ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة ذكر الله مضاف إليها وجملة وجلت قلوبهم لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وإذا وفعلها وجوابها لا محل لها لأنها صلة والصابرين عطف على الذين وعلى ما متعلقان بالصابرين وجملة أصابهم صلة للموصول والمقيمي الصلاة عطف أيضا وحذفت النون للاضافة ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة وجملة ينفقون صلة أيضا. (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ) الواو عاطفة والبدن مفعول لفعل محذوف فهي منصوبة على الاشتغال أي وجعلنا البدن، وجعلناها فعل وفاعل ومفعول به ولكم متعلقان بجعلناها ومن شعائر الله مفعول به ثان لجعلناها التي هي بمعنى التصيير. (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ) لكم خبر مقدم وفيها حال وخير مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها ويجوز جعلها حالا من الهاء في جعلناها، فاذكروا الفاء الفصيحة واذكروا فعل أمر وفاعل واسم الله مفعول به وعليها متعلقان باذكروا وصواف حال من الهاء أي بعضها الى جنب بعض.
(فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة وجبت جنوبها مضافة الى الظرف والفاء رابطة لجواب إذا وجملة كلوا منها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وأطعموا القانع والمعتر عطف على جملة كلوا منها. (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) كذلك الكاف نعت لمصدر محذوف أي سخرها تسخيرا مثل ذلك التسخير وسخرناها فعل وفاعل ومفعول به والجملة حال ولكم متعلقان بسخرناها ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها والجملة في محل نصب على الحال من الكاف في لكم.
(لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) لن حرف(6/435)
نفي ونصب واستقبال وينال فعل مضارع منصوب بلن ولفظ الجلالة مفعول به مقدم ولحومها فاعل ينال ولا دماؤها عطف على لحومها والمعنى لن تبلغ مرضاته ولن تقع منه موقع القبول والمراد أصحاب اللحوم والدماء قال أبو حيان في البحر: «أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم منصوبا حول الكعبة وتضميخ الكعبة بالدم تقربا الى الله تعالى فنزلت هذه الآية» ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنه مخفف ويناله فعل مضارع ومفعول به والتقوى فاعل ومنكم حال من التقوى أي يرفع إليه منكم العمل الصالح الخالص له مع الايمان. (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف وقد تقدمت نظائره وسخرها فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ولكم متعلقان بسخرها ولتكبروا اللام للتعليل وتكبروا منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واللام وما في حيزها متعلقة بسخرها وتكبروا فعل مضارع وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به، على ما هداكم: ما مصدرية أو موصولة أي على هدايته إياكم أو على ما هداكم اليه وعلى متعلقة بتكبروا لتضمينه معنى الشكر وبشر الواو استئنافية وبشر فعل أمر وفاعل مستتر والمؤمنين مفعول به. (إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)
جملة مستأنفة مسوقة لتأكيد البشرى للمؤمنين بالنصر المحتوم وإن الله ان واسمها وجملة يدافع خبر وعن الذين متعلقان بيدافع وجملة آمنوا صلة ومفعول يدافع محذوف تقديره: عوادي المشركين وغوائلهم، وجملة إن الذين تعليل للجملة السابقة وان واسمها وجملة لا يحب خبرها وكل خوان مفعول به وكفور صفة لخوان.(6/436)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
[سورة الحج (22) : الآيات 39 الى 41]
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
اللغة:
(صَوامِعُ) : الصوامع جمع صومعة وصومع وهو جبل أو مكان مرتفع يسكنه الراهب أو المتعبد قصد الانفراد ثم أطلقت الكلمة على الدير، والصومعة أيضا: العقاب والبرنس وأعلى كل جبل إذا كان مستدقّ الرأس.
(بِيَعٌ) : جمع بيعة بكسر الباء المعبد للنصارى واليهود والجمع بيع وبيعات بكسر الباء وفتح الياء وبيعات بكسر الباء وسكون الياء.
(وَصَلَواتٌ) : بفتح الصاد واللام جمع صلاة وسميت الكنيسة صلاة لأنه يصلّى فيها وقيل هي كلمة معربة أصلها بالعبرية صلوثا بفتح الصاد والثاء المثلثة كما في الخفاجي على البيضاوي قال: وبه قرىء في الشواذ ومعناه في لغتهم المصلى فلا يكون مجازا.(6/437)
الإعراب:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) الجملة مستأنفة مسوقة للإذن بقتال المشركين، كان المؤمنون يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يشكون فيقول لهم اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال حتى هاجر فنزلت هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية.
وأذن فعل ماضي مبني للمجهول والمأذون فيه محذوف للعلم به أي أذن للذين يقاتلون في القتال وللذين متعلقان بأذن وجملة يقاتلون صلة ويقاتلون مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وبأنهم متعلقان بأذن أيضا والباء للسببية أي بسبب ظلمهم وجملة ظلموا خبر أنهم وإن الله على نصرهم لقدير الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للوعد لهم بالنصر على طريق الرمز والكناية، وان واسمها وقدير خبرها واللام المزحلقة وعلى نصرهم متعلقان بقدير. (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) الذين نعت أو بدل من الموصول الأول، ولك أن ترفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف تنويها بقدرهم ورفعا لشأنهم، وجملة أخرجوا صلة والواو نائب فاعل ومن ديارهم متعلقان بأخرجوا وبغير حق حال وإلا أداة استثناء وأن يقولوا المصدر المؤول مستثنى منقطع في محل نصب واختار الزمخشري وغيره أن يكون الاستثناء مفرغا لوجود النفي بغير فإلا أداة حصر وان يقولوا في محل جر على الابدال من حق أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ومثله «هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ» وربنا مبتدأ والله خبر والجملة في محل نصب مقول القول. (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) الواو استئنافية ولولا(6/438)
حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط ودفع الله مبتدأ محذوف الخبر وجوبا والناس مفعول به لدفع لأنه مصدر مضاف الى فاعله وهو الله والمعنى ولولا أن دفع الله الناس بعضهم ببعض لغلب المفسدون وتعطلت المصالح ويقل عمله عكسه وهو أن يضاف المصدر الى مفعوله ثم يأتي فاعله مرفوعا كقول الاقيشر الاسدي:
أفنى تلادي وما جمعت من نشب ... قرع القواقيز أفواه الأباريق
فقرع بالقاف والعين المهملة مرفوع على الفاعلية بأفنى وهو مصدر مضاف الى مفعوله وهو القواقيز بقافين وزاي معجمة: أقداح يشرب بها الخمر واحدها قاقوزة بزاءين معجمتين فجمعها قوازيز، وأفواه فاعل المصدر وهو جمع فم وأصله فوه فلذلك ردت في الجمع على أنه روي البيت بنصب الأفواه فيكون من القسم الأول.
وبعضهم بدل بعض من الناس وببعض متعلق بدفع واللام واقعة في جواب لولا وهدمت فعل ماض مبني للمجهول وصوامع نائب فاعل وبيع وصلوات ومساجد عطف على صوامع وأخر ذكر المساجد لأن الصوامع والبيع والكنائس أقدم منها في الوجود وجملة يذكر صفة للمواضع المذكورة وفيها متعلقان بيذكر واسم الله نائب فاعل وكثيرا صفة لمصدر محذوف أي ذكرا كثيرا أو صفة لظرف محذوف أي وقتا كثيرا. (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الواو استئنافية واللام موطئة للقسم وينصرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة. والله فاعل ومن موصول مفعول به وجملة ينصره صلة وجملة ان وما بعدها تأكيد لتعليل النصر والله اسمها واللام المزحلقة وقوي خبرها الأول وعزيز خبرها الثاني. (الَّذِينَ إِنْ(6/439)
مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ)
الذين بدل من الذين السابقة أو نعت ثان للذين الأولى أو خبر لمبتدأ محذوف ولك وجه آخر وهو أن تعربها بدلا من «من ينصره» ذكر هذا الوجه الزجاج قال: أي لينصرن الله الذين إن مكناهم، وإن شرطية ومكناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وفي الأرض متعلقان بمكناهم وأقاموا فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم جواب الشرط والصلاة مفعول به وما بعده عطف عليه. (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)
الواو استئنافية أو عاطفة ولله خبر مقدم وعاقبة الأمور مبتدأ مؤخر.
الفوائد:
الجهاد ذروة سنام الإسلام:
والأحاديث في الجهاد كثيرة نورد منها ما يسمو الى ذروة البلاغة جريا على نهجنا في هذا الكتاب فعن أبي هريرة رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال:
حجّ مبرور» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس قبل غزوة تبوك فلما أن صبح صلى بالناس صلاة الصبح ثم إن الناس ركبوا فلما أن طلعت الشمس نعس الناس على إثر الدّلجة ولزم معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو إثره والناس تفرقت بهم ركابهم على جوادّ الطرق تأكل وتسير فبينا معاذ على إثر رسول الله صلى(6/440)
الله عليه وسلم وناقته تأكل مرة وتسير أخرى عثرت ناقة معاذ فحنكها بالزمام فهبت حتى نفرت منها ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف عنه قناعه فالتفت فإذا ليس في الجيش أدنى اليه من معاذ فناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا معاذ فقال لبيك يا رسول الله قال: ادن دونك فدنا منا حتى لصقت راحلتاهما إحداهما بالأخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ما كنت أحسب الناس منا بمكانهم من البعد فقال معاذ: يا نبيّ الله نعس الناس فتفرقت ركابهم ترتع وتسير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا كنت ناعسا فلما رأى معاذ بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوته له فقال: يا رسول الله: ائذن لي أن أسألك عن كلمة أمرضتني وأسقمتني وأحزنتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
سل عما شئت، قال: يا نبي الله حدثني بعمل يدخلني الجنة لا أسألك عن شيء غيره؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ بخ بخ لقد سألت لعظيم ثلاثا وإنه ليسير على من أراد الله به الخير، وانه ليسير على من أراد الله به الخير وإنه ليسير على من أراد الله به الخير فلم يحدثه بشيء إلا أعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات حرصا لكيما يتقنه عنه فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: تؤمن بالله واليوم الآخر وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئا حتى تموت وأنت على ذلك، قال يا رسول الله أعدلي فأعادها ثلاث مرات ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت يا معاذ حدثتك برأس هذا الأمر وقوام هذا الأمر وذروة السّنام؟ فقال معاذ: بلى يا رسول الله حدثني بأبي أنت وأمي فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم إن رأس هذا(6/441)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
الأمر: أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإن قوام هذا الأمر: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وان ذروة السّنام منه الجهاد في سبيل الله، انما أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فاذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا اغبرّت قدم في عمل تبتغى به درجات الآخرة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله ولا ثقّل ميزان عبد كدابّة تنفق في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله.
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 46]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)(6/442)
اللغة:
(بِئْرٍ) : في المختار: «بأر بئرا بهمزة بعد الباء حفرها ربابه قطع» والبئر فعل بمعنى مفعول كالذبح بمعنى المذبوح حفرة في الأرض عظيمة يستقى منها الماء والجمع آبار وأبآر وبئار وأبؤر وهي مؤنثة. وفي الأساس: «الفاسق من ابتأر، والفويسق من ابتهر يقال:
ابتأرت الجارية إذا قال فعلت بها وهو صادق وابتهرتها إذا قال ذلك وهو كاذب وأنشد الكميت:
قبيح بمثلي نعت الفتا ... ة إما ابتهارا وإما ابتئارا
(مُعَطَّلَةٍ) متروكة بموت أهلها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء.
(مَشِيدٍ) : مرتفع مجصص من شاد البناء أي رفعه ويقال شيّد وأتى به في النساء من شيّد لأنه هناك وقع بعد جمع أما هنا فقد وقع بعد مفرد فناسب التخفيف.
الإعراب:
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وانه ليس بأوحدي في التكذيب، وإن شرطية ويكذبوك فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به، فقد الفاء رابطة للجواب لاتصاله بقد وقد حرف تحقيق وكذبت فعل ماض والتاء تاء التأنيث الساكنة والجملة في محل جزم جواب الشرط وقبلهم ظرف زمان متعلق بكذبت وقوم(6/443)
نوح فاعل وعاد وثمود معطوفان على قوم وأنّث القوم باعتبار معنى الأمة أو القبيلة ولم يقل قوم عاد وثمود استغناء بشهرتهما بهذين الاسمين. (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ) عطف على ما تقدم.
(وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) وأصحاب مدين عطف وعدل عن قوم شعيب لأن أصحاب مدين أعرق من أصحاب الأيكة في التكذيب فلذلك خصهم بالذكر، وكذب فعل ماض مبني للمجهول وموسى نائب فاعل وخالف في الكلام فلم يقل قوم موسى لأنه لما صدر الكلام بحكاية تكذيبهم ثم عدد أصناف المكذبين وطوائفهم ولم ينته الى موسى إلا بعد طول الكلام حسن تكريره ليلي قوله فأمليت فيتصل المسبب بالسبب كما قال في آية «ق» بعد تعديدهم: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» فربط العقاب والوعيد ووصلهما بالتكذيب بعد أن جدد ذكره، فأمليت: الفاء عاطفة وأمليت فعل وفاعل وللكافرين متعلقان بأمليت. (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي وأخذتهم فعل وفاعل ومفعول به، فكيف الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم ونكير اسم كان أي إنكاري فحذفت الياء والنكير مصدر بمعنى الإنكار والتغيير حيث أبدلهم بالنعمة نقمة وبالحياة هلاكا وبالبناء خرابا وسيأتي معنى الاستفهام في باب البلاغة. (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما تقدم بضرب الأمثلة والشواهد وكأين خبرية ومحلها الرفع على الابتداء ومن قرية تمييز كأين وقد تقدم تحقيقه وجملة أهلكناها من الفعل والفاعل والمفعول به خبر كأين ويجوز نصب كأين على الاشتغال بفعل محذوف يفسره أهلكناها فتكون جملة أهلكناها مفسرة، وهي ظالمة الواو للحال وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة نصب على الحال. (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها(6/444)
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)
الفاء عاطفة وهي مبتدأ وخاوية خبر والجملة معطوفة على جملة أهلكناها وعلى عروشها إما متعلقان بخاوية فيكون المعنى انها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف واما أن يكون خبرا ثانيا لهي كأنه قيل هي خالية وهي على عروشها أي قائمة مطلة على عروشها بمعنى أن السقوف سقطت الى الأرض فصارت في سمت الحيطان وبقيت الحيطان مواثل باهتة مشرفة على السقوف الساقطة وكلا التقديرين جميل ووارد، وبئر عطف على قرية أي وكم من بئر، ومعطلة صفة لبئر وقصر مشيد عطف أيضا وهل هي بئر معينة وقصر معين أم هما واردان مورد المثل، سيأتي الكلام عن هذا كله في باب الفوائد. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) الهمزة للاستفهام الانكاري إن كانوا قد سافروا أو للحث على السفر ليروا مصارع من تقدمهم، والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه المقام أي أغفلوا وأهملوا وسافروا فلم ينتفعوا، ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعله وفي الأرض متعلقان بيسيروا فتكون الفاء للسببية وتكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية ولهم خبر تكون المقدم وقلوب اسمها المؤخر وجملة يعقلون صفة لقلوب وبها متعلقان بيعقلون وأو حرف عطف وآذان عطف على قلوب وجملة يسمعون بها صفة لآذان وواضح أن التفريع على المنفي يوجب النفي أيضا. (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الفاء للتعليل وان واسمها والضمير يعود على القصة أو الشأن وجملة لا تعمى الأبصار خبر ولكن الواو عاطفة ولكن حرف استدراك أهمل لأنه خفف وتعمى القلوب فعل مضارع وفاعل والتي صفة القلوب وفي الصدور متعلقان بمحذوف صلة الموصول وسيأتي سر قوله في الصدور في باب البلاغة.(6/445)
البلاغة:
1- الاستفهام في قوله تعالى «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» معناه التقرير وهو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه ويماري فيه، ويلجأ الى المكابرة والسفسطة في مخالفته، وقال أبو حيان: «ويصحب هذا الاستفهام معنى التعجب فكأنه قيل ما أشد ما كان انكاري عليهم» وهذا واضح أيضا فالاستفهام إذن للتقرير التعجبي.
2- الانفصال في قوله تعالى «وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» فإن لقائل أن يقول ان القلوب لا تكون إلا في الصدور فأية فائدة في ذكر ما هو متعارف وكائن لأنه معلوم والانفصال عن ذلك أن يقال ان المتعارف ان العمى الحقيقي مكانه البصر لأنه إصابة الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب مجاز فلما أريد نقله من الحقيقة الى المجاز كان الكلام بمثابة إثبات ما هو خلاف المتعارف وما هو الأصل فاحتاج الى زيادة تعيين ليتقرر أن العمى مكانه هو القلوب لا الأبصار كما تقول ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك فقوله بين فكيك تقرير لما ادعيته للسانه ونفي المضاء عن السيف وهو المتعارف وهذا من أوابد البيان فافهمه، وجملة الأمر ان الخلل ليس في مشاعرهم فهي سليمة لا عيب فيها وإنما الخلل في عقولهم المرتكسة وأحلامهم المعطلة.
الفوائد:
البئر المعطلة والقصر المشيد: قيل هما خاصان قال الخطيب الشربيني في تفسيره: «روي أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب وهي بحضرموت(6/446)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
وإنما سميت بذلك لأن صالحا حضرها حين مات وثم بلدة عبد البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمّروا عليهم جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه فأهلكهم الله تعالى وعطل بئرهم وخرب قصورهم والأولى أن تكون البئر عامة وأن يكون القصر عاما أي كم من قرية أهلكناها وكم من بئر عطلناها من سقاتها وكم من قصر مشيد تفرق عنه أهلوه وتحمل عنه ساكنوه.
[سورة الحج (22) : الآيات 47 الى 53]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53)(6/447)
الإعراب:
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ) الواو عاطفة ويستعجلونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بيستعجلونك أي يطلبون عجلتك على سبيل الاستهزاء والواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويخلف فعل مضارع منصوب بلن والله فاعل ووعده مفعول به. (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) الواو للحال وان واسمها وعند ربك الظرف متعلق بمحذوف حال والكاف خبر إن ومما صفة لسنة وجملة تعدون صلة واقتصر في التشبيه على الألف لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار وأيام الشدائد مستطالة على حد قول الشاعر:
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة قال الزمخشري في كشافه: «فإن قلت لم عطفت الأولى بالفاء وهذه بالواو؟ قلت الأولى وقعت بدلا من قوله «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» وأما هذه فحكمها حكم الجملتين المعطوفتين بالواو أعني قوله «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» و «إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» وكأين خبرية في محل رفع مبتدأ ومن قرية في محل نصب تمييز كأين وجملة أمليت لها صفة لقرية والواو حالية وهي مبتدأ وظالمة خبر والجملة في محل نصب على الحال ثم أخذتها عطف على أمليت وإليّ الواو عاطفة أو حالية وإليّ خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب على النداء والهاء للتنبيه والناس بدل من أي وإنما(6/448)
كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ونذير خبر ومبين صفة. (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الفاء تفريعية والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا والصالحات مفعول به ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر ورزق عطف على مغفرة وكريم صفة لرزق وجملة لهم مغفرة خبر الذين. (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الواو عاطفة والذين مبتدأ وجملة سعوا صلة وفي آياتنا متعلقان بسعوا ومعنى السعي في الآيات إفسادها وتزييفها وإبطالها يقال سعيت في أمر فلان إذا أصلحته أو أفسدته بهذا السعي ومعاجزين حال أي مسابقين في زعمهم وتقديرهم قد سولت لهم أنفسهم أنهم يستطيعون إبطالها وصرف الناس عن اتباعها فالمفاعلة لا تخلو من معنى الظن والاعتقاد بالنسبة إليهم، وأولئك مبتدأ وأصحاب الجحيم خبره والجملة خبر الذين. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في تسلية ثانية للنبي صلى الله عليه وسلم، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك متعلقان بأرسلنا ومن لابتداء الغاية ومن رسول من زائدة ورسول مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به لأرسلنا ولا نبي عطف على من رسول وإلا أداة حصر وإذا ظرف مستقبل وجملة تمنى في محل جر بإضافة الظرف وجملة ألقى الشيطان لا محل لها والجملة الشرطية بعد إلا تحتمل وجوها أرجحها أن تكون في محل جر صفة لرسول على اللفظ والنصب على المعنى ويجوز أن تكون حالا ولك أن تجعل الاستثناء منقطعا فتكون إلا أداة استثناء والجملة نصب على الاستثناء وفي أمنيته متعلقان بألقى وسيأتي معنى هذا الإلقاء وقصة سبب النزول في باب الفوائد، وقد استشكل أبو حيان مجيء جملة ظاهرها الشرط بعد إلا وهو إذا تمنى ألقى،(6/449)
وأجاب عن ذلك بأن إذا جردت للظرفية ولا شرط فيها وفصل بها بين إلا والفعل الذي هو ألقى وهو فصل جائز فيكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجه شرط وهو تقدم فعل قبل إلا وهو أرسلنا قال ابن هشام: والذي يظهر انما هو فيما إذا ولي إلا لفظ الفعل وهذا لم يقع في الآية فلا إشكال ولا حاجة لتأويل إذا بأنها خرجت عن الشرطية.
(فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الفاء استئنافية وينسخ الله فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يلقي الشيطان صلة ثم حرف عطف ويحكم الله فعل وفاعل وآياته مفعول به والله عليم حكيم جملة اعتراضية مؤلفة من مبتدأ وخبريه.
(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) اللام للتعليل والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة وهي متعلقة بيحكم أي ثم يحكم الله آياته ليجعل ويجوز أن تتعلق بينسخ وما موصولية أو مصدرية وهي على كل حال مفعول به أول وجملة يلقي الشيطان صلة وفتنة مفعول به ثان وللذين صفة لفتنة وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة للذين والقاسية عطف على الذين وقلوبهم فاعل القاسية ومن المفيد أن نذكر أن ال في القاسية موصولة والقاسية صفتها وأنثها لأن مرفوعها وهو قلوبهم مؤنث مجازي. (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) الواو حالية أو استئنافية وإن واسمها واللام المزحلقة وفي شقاق خبرها وبعيد صفة لشقاق.
الفوائد:
أسطورة الغرانيق:
نعرض الآن لمسألة شغلت علماء المسلمين في القديم والحديث، واستأثرت باهتمام الكثيرين منهم لخطورتها، وجسامة ما تنطوي عليه(6/450)
من أمور لا يجوز للباحث أن يمرّ بها مرور الراكب العجلان، فهي تمسّ جوهر العقيدة، وتتعلق بعصمة صاحب الرسالة، فإلقاء الكلام على عواهنه فيها من غير تمعن ولا تمحيص لا يجوز بحال وسنعمد الى سرد الأسطورة على علاتها وكما نقلها المفسرون من غير تفنيد لها أو اثارة للشكوك حولها، وكثر تناقلها حتى أصبحت حديث السمر تروّح به النفس ويزجى بها الفراغ والناس بطبعهم ميالون الى كل غريب وهذه هي الاسطورة:
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعراض قومه عنه، لعيبه أصنامهم وزرايته بآلهتهم، أخذه الضجر من هذا الإعراض، ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم لعله يتخذ ذلك طريقا الى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى» وهو في نادي قومه وذلك التمني في نفسه فأخذ يقرؤها فلما بلغ قوله: «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» «أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط الى أن قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، وروى الغرانقة ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه اليه وقيل نبهه جبريل عليه السلام أو تكلم الشيطان بذلك فأسمعه الناس فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم وكان تمكين الشيطان من ذلك محنة من الله وابتلاء زاد المنافقون به شكا وظلمة والمؤمنون نورا وإيقانا.
وفيما يلي طائفة من أقوال العلماء والمفسرين فقال الرازي ما خلاصته:(6/451)
هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم تكلم في أن رواة هذه القصة مطعونون وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قرأ سورة النجم وسجد معه المسلمون والمشركون والانس والجن وليس فيه حديث الغرانيق بل روي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان ولو جوّزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك أي مما ألقاه الشيطان على لسانه ويبطل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» فانه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه النقلية والعقلية عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة وقد قيل: إن هذه القصة من وضع الزنادقة لا أصل لها. اهـ كلام الرازي.
أما شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني شارح البخاري فقد نبه في فتح الباري على البخاري على ثبوت أصلها وقال سامحه الله: «أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والنجم فلما بلغ: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» ألقى الشيطان على لسانه: «تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى» فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فلما ختم السورة سجد وسجدوا فكبر ذلك على النبي فنزل تسلية له «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» أي في قراءته بين كلماته.(6/452)
وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق الحديث المذكور وقال البزار: لا يروى إلا متصلا بهذا الاسناد وتفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور.
وأوردها الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس. ومعناهم كلهم في ذلك واحد وكل من طرقها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع ولكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيح، أحدهما ما أخرجه الطبري عن طريق يونس بن زيد عن ابن شهاب، حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، والثاني ما أخرجه من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة كلاهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية.
وقال ابن حجر العسقلاني في معرض رده على القاضي أبي بكر ابن العربي: «وقد تجرأ ابن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة لا أصل لها وهو إطلاق مردود عليه وكذا قول القاضي عياض: هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة ولا رواة ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده وكذا قول عياض أيضا: ومن حكيت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها الى صحابي وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية فهذا مردود أيضا.
وتتمة كلام القاضي عياض تدل على مدى تحرره من غائلة التقليد ومحاولته تمحيص الحقائق قال: «وقد بين البزاز أن الحديث لا يعرف طريق يجوز ذكره إلا من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك(6/453)
الذي وقع في وصله وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم قال: ولم ينقل ذلك» .
قال الحافظ بن حجر: «وجميع ذلك لا يتمشى مع قواعد المحدثين فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أن لها أصلا وقد ذكرنا أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتجّ بالمرسل وكذا من لا يحتجّ به لاعتضاد بعضها ببعض وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله: ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وان شفاعتهن لترتجى، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس فيه وكذا سهوا إذ كان مغايرا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته» ومضى قائلا: «وقد سلك العلماء في ذلك التأويل مسالك نحو السبعة فقيل جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة من النوم وهو لا يشعر فلما أعلمه الله بذلك أحكم آياته وهذا أخرجه الطبري عن قتادة» .
ورد القاضي عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم.
وقيل: ان الشيطان ألجأه الى أن قال ذلك بغير اختيار. ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ... الآية» قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة على طاعة.
وقيل: ان المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوها بذلك فعلق(6/454)
ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم فجرى على لسانه سهوا. وقد رد القاضي عياض ذلك فأجاد.
وقيل: لعله قال ذلك توبيخا للكفار، قال القاضي عياض وهذا جائز إذا كان هناك قرينة تدل على المراد ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا والى هذا نحا الباقلاني.
وقيل: انه لما وصل الى قوله «وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به كعادته إذا ذكرها فبادروا الى ذلك الكلام فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم: «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ» أي أظهروا اللغو برفع الأصوات تخليطا وتشويشا عليه ونسب ذلك الى الشيطان لكونه الحامل لهم عليه أو المراد بالشيطان شيطان الانس.
وقيل: المراد بالغرانيق العلا الملائكة وكان الكفار يقولون:
الملائكة بنات الله ويعبدونها فنسق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى» فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا قد عظم آلهتنا ورضوا بذلك فنسخ تينك الكلمتين وهما قوله: تلك الغرانيق العلا، وان شفاعتهن لترتجى وأحكم آياته.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فترصّده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا صوت النبي صلى الله عليه وسلم بحيث سمعه من دنا اليه فظنها من قول النبي وأشاعها. قال القاضي عياض وهذا أحسن الوجوه وهو الذي يظهر ترجيحه ويؤيده ما روي عن ابن عباس في تفسير تمنى بتلا وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال: معنى قوله في أمنيته أي في(6/455)
تلاوته فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نصّ في أن الشيطان زاد في قول النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأنه معصوم.
قال في فتح الباري: «وقد سبق الى ذلك الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب هذا المعنى» اهـ.
ما ما ورد في صحيح البخاري بصدد هذه القصة فهو: «وقال ابن عباس في «إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال أمنيته قراءته «الأماني يقرءون ولا يكتبون» فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ يقال بعد ما فسرها في الحديث رواية عن ابن عباس، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين، فما يدعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة، ثم حكايته تفسير الامنية بمعنى القراءة بلفظ يقال يفيد انه غير معتبر عنده وسيأتي ان المراد بالحديث حديث النفس.
وقال القسطلاني في شرح البخاري: «وقد طعن في هذه القصة غير واحد من الأئمة حتى قال ابن اسحق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة» وكفى في انكار حديث أن يقول فيه ابن اسحق أنه من وضع الزنادقة مع حال ابن اسحق المعرفة عند المحدثين.
وهذا نص ما قاله القاضي عياض: «والذي ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم» وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس وقد يكون ذلك لبلاغة السورة وشدة قرعها وعظم وقعها» ثم قال القاضي: «قد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن هذه الرذيلة» .(6/456)
أما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو أن يتسوّد عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرآن ما ليس منه وحتى يفهمه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا وذلك كفرا وسهوا وهو معصوم من هذا كله وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته صلى الله عليه وسلم من جريان الكفر على لسانه أو قلبه لا عمدا ولا سهوا أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقي الشيطان أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله- لا عمدا ولا سهوا- ما لم ينزل عليه وقد قال الله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» وقال «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» .
ووجه ثان وهو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الالتئام متناقض الأقسام ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه.
ووجه ثالث انه علم من عادة المنافقين، ومعاندة المشركين، وضعفة القلوب والجهلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة، ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة(6/457)
الأصل، ولو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، ولأقامت اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء، ولا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، وما ورد عن معاند فيها كلمة ولا عن مسلم بسببها بنت شفة فدل على بطلها، واجتثاث أصلها، ولا شك في إدخال بعض شياطين الانس والجن هذا الحديث على بعض مغفلي المحدثين، ليلبس به على بعض ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القصة أن فيها نزلت: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» الآيتان، هاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتى يفتري ولولا أن ثبته لكاد يركن إليهم شيئا قليلا، فمضمون هذا ومفهومه أن الله عصمه من أن يفتري وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا فكيف كثيرا وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وانه صلى الله عليه وسلم قال: افتريت على الله وقلت ما لم يقل وهي تضعف الحديث لو صح فكيف ولا صحة له؟ وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ»
قال القشيري: ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها ووعدوه الإيمان به إن فعل فما فعل ولا كان ليفعل، قال ابن الانباري:
«ما قارب الرسول ولا ركن» .
أما ما ذكره ابن حجر من أن القصة رويت مرسلة من ثلاث طرق على شرط الصحيح وانه يحتج بها إلخ ما سبق فقد ذهب عليه أن العصمة من العقائد التي يطلب فيها اليقين فالحديث الذي يفيد خرمها ونقضها(6/458)
لا يقبل على أي وجه جاء وقد عد الأصوليون الخبر الذي يكون على تلك الصفة من الأخبار التي يجب القطع بكذبها، هذا لو فرض اتصال الحديث فما ظنك بالمراسيل؟ وانما الخلاف في الاحتجاج بالمرسل وعدم الاحتجاج به فيما هو من قبيل الأعمال وفروع الأحكام لا في أصول العقائد ومعاقد الإيمان بالرسل وما جاءوا به فهي هفوة من ابن حجر يغفرها الله له. وقد استغل بروكلمان المستشرق الألماني الشهير هذه الرواية فنقلها بأمانة واعتبرها من المسائل المفروغ من إثباتها وذلك في كتابه «تاريخ الشعوب الاسلامية» الذي أخرجه للناس عام 1939 للميلاد فقال في الحديث عن محمد: «ولكنه على ما يظهر اعترف في السنوات الأولى من بعثته بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله ولقد أشار إليهن في احدى الآيات الموحاة اليه بقوله:
تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتهن ترتجى، أما بعد ذلك حين قوي شعور النبي بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة شفعاء عند الله، وجاءت السورة الثالثة والخمسون وفيها إنكار لأن تكون الآلهة الثلاث بنات الله، ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسليم إلا تحولا أغراه به الشيطان ولذلك أرجئت حوادثه إلى أشد الأوقات ضيقا في مكة ثم ما لبث أن أنكره وتبرأ منه في اليوم التالي» هذا ما ذكره بروكلمان وهو ينضح بالتعصب وينادي على نفسه بالافتئات ولم يقتصر الأمر على بروكلمان وحده فكثير من المبشرين وبعض المستشرقين تشبثوا بهذه الرواية وزعموا أن الرسول فعل ذلك لما قاومه المشركون بمكة فأحب أن يتقرب منهم فمدح آلهتهم ثم عدوا عمله هذا تراخيا عن تشدده في التوحيد ومهاجمة الأصنام، هذا وقد تصدى لهم كثيرون من علماء المسلمين في العصر الحديث ففندوا افتراءاتهم وطوحوا(6/459)
بأراجيفهم، وحسبنا أن نلمع الى اثنين من كبار هؤلاء العلماء ملخصين ما قالاه ضاربين صفحا عن التطويل فيما لا يتفق مع منهاج الكتاب.
خلاصة ما كتبه العالم الهندي محمد علي:
«إن هذه الرواية وردت عند الواقدي وعند الطبري ومع ذلك فانها لا ظل لها من الحقيقة فإن كل عمل من أعمال رسول الله مناقض لمثل هذا الاتجاه، أضف الى ذلك أن الواقدي معروف بسرد الاسرائيليات وبسرد الخرافات وكذلك الطبري معروف بالجمع الكثير واستقصاء الروايات مهما كان حظها من الصحة، على أننا لو رجعنا الى رواية محمد ابن اسحق أو الى صحيح البخاري وهو الذي لم يغادر من حياة الرسول شيئا إلا ذكره لم نر لقصة الغرانيق أثرا وابن اسحق جاء قبل الواقدي بأربعين سنة وقبل الطبري بنحو مائة وخمسين سنة أو تزيد، أما البخاري فقد كان معاصرا للواقدي ومع ذلك لم يذكر هذه القصة ثم ان الواقدي معروف عند المحدثين بأنه يضع الأحاديث وانه غير ثقة فيما يروي وكذلك لم يذكرها أحد من رواة الحديث.
وإذا عدنا الى قراءة الآيات نفسها بالتسلسل وجدناها: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى، إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» فليس من المعقول أن تحشر بين هذه الآيات المتتالية آية مناقضة لها في أصل العقيدة الاسلامية وصلب دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وهنا لك تفاصيل كثيرة في نقض هذه الرواية لا جدوى من ذكرها» .(6/460)
هذا ما ذكره العالم الهندي مولانا محمد علي وهو كاف في الرد على هؤلاء المستشرقين الذين ينظرون الى نبوة محمد نظرة مادية مجردة من الإيحاء الإلهي وما ذلك إلا من قبيل التعصب الديني المبني على عداء سياسي انهم ينكرون أن يكون محمد ذا نبوة صحيحة بينما هم يقرون بهذه النبوة نفسها لجميع أنبياء بني إسرائيل.
خلاصة البحث الجليل الذي كتبه الامام محمد عبده:
والآن آن لنا أن نلخص البحث الممتع الذي كتبه الامام الشيخ محمد عبده وفيه قطعت جهيزة قول كل خطيب:
«لا يخفى على كل من يفهم العربية وقرأ شيئا من القرآن أن قوله تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ... الآيات» يحكي قدرا قدر للمرسلين كافة لا يعدونه ولا يقفون دونه ويصف شنشنة عرفت فيهم وفي أممهم فلو صح ما قال أولئك المفسرون لكان المعنى أن جميع الأنبياء والمرسلين قد سلط الشيطان عليهم فخلط في الوحي المنزل إليهم ولكنه بعد هذا الخلط ينسخ الله كلام الشيطان ويحكم الله آياته وهذا من أقبح ما يتصور متصور في اختصاص الله تعالى لأنبيائه واختيارهم من خاصة أوليائه فلندع هذا الهذيان ولنعد الى ما نحن بصدده» وبعد أن أفاض الأستاذ الامام في ذكر الله لنبيه أحوال الأنبياء والمرسلين قبله ليبين له سنته فيهم وانه لم يبعث واحد منهم في أمة إلا كان له خصوم يؤذونه بالتأويل والتحريف قال «فعلى هذا المعنى الذي يتفق مع ما لقيه الأنبياء جميعا يجب أن تفسر الآية وذلك يكون على وجهين:
الأول:
أن يكون تمنى بمعنى قرأ والأمنية بمعنى القراءة وهو معنى قد(6/461)
يصح وقد ورد استعمال اللفظ فيه قال حسان بن ثابت في عثمان رضي الله عنهما:
تمنى كتاب الله أول ليلة ... وآخره لاقى حمام المقادر
غير أن الإلقاء لا يكون على المعنى الذي ذكروه بل على المعنى المفهوم من قولك: ألقيت في حديث فلان إذا أدخلت فيه ما ربما يحتمله لفظه ولا يكون قد أراده أو نسبت اليه ما لم يقله تعللا بأن ذلك الحديث المذكور يؤدي اليه وذلك من عمل المعاجزين الذين ينصبون أنفسهم لمحاربة الحق، يتبعون الشبهة، ويسعون وراء الريبة، فالإلقاء بهذا المعنى دأبهم ونسبة الإلقاء الى الشيطان لأنه مثير الشبهات بوساوسه مفسد القلوب بدسائسه، وكل ما يصدر من أهل الضلال ينسب اليه ويكون المعنى: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا حدث قومه عن ربه أو تلا وحيا أنزل اليه فيه هدى لهم قام في وجهه مشاغبون يحولون ما يتلوه عليهم عن المراد منه ويتقولون عليه ما لم يقله، وينشرون ذلك بين الناس ليبعدوهم عنه ويعدلوا بهم عن سبيله ثم يحق الله الحق ويبطل الباطل، ولا زال الأنبياء يصبرون على ما كذبوا وأوذوا ويجاهدون في الحق ولا يعتدون بتعجيز المعجزين ولا بهزء المستهزئين الى أن يظهر الحق بالمجاهدة، وينتصر على الباطل بالمجالدة فينسخ الله تلك الشبهة ويجتثها من أصولها ويثبت آياته ويقررها وقد وضع الله هذه السنة في الناس ليتميز الخبيث من الطيب فيفتتن الذين في قلوبهم مرض وهم ضعفاء العقول بتلك الشبه والوساوس فينطلقون وراءها ويفتتن بها القاسية قلوبهم من أهل العناد والمجاحدة فيتخذونها سندا يعتمدون عليه في جدلهم ثم يتمحص الحق عند الذين أوتوا العلم، ويخلص لهم بعد ورود كل شبهة عليه فيعلموا انه الحق من ربك(6/462)
فيصدقوا به فتخبت وتطمئن قلوبهم والذين أوتوا العلم هم الذين رزقوا قوة التمييز بين البرهان القاطع الذي يستقر بالعقل في قرارة اليقين وبين المغالطات وضروب السفسطة التي تطيش بالفهم، وتطير به مع الوهم، وتأخذ بالعقل تارة ذات الشمال وأخرى ذات اليمين.
الثاني:
ان التمني على معناه المعروف وكذلك الأمنية وهي أفعولة بمعنى المنية وجمعها أماني كما هو مشهور وقال أبو العباس أحمد بن يحيى:
التمني حديث النفس بما يكون وبما لا يكون والتمني سؤال الرب وفي الحديث: «إذا تمنى أحدكم فليتكثر فإنما يسأل ربه» وفي رواية فليكثر، قال ابن الأثير: التمني تشهي حصول الأمر المرغوب فيه وحديث النفس بما يكون وما لا يكون. وقال أبو بكر: تمنيت الشيء إذا قدرته وأحببت أن يصير لي، وكل ما قيل في معنى التمني على هذا الوجه فهو يرجع الى ما ذكرنا ويتبعه معنى الأمنية. ما أرسل الله من رسول ولا نبي ليدعو قوما الى هدى جديد أو شرع سابق شرعه لهم ويحملهم على التصديق بكتاب جاء به نفسه إن كان رسولا أو جاء به عيره ان كان نبيا بعث ليحمل الناس على اتباع من سبقه إلا وله أمنية في قومه وهي أن يتبعوه وينحازوا الى ما يدعوهم اليه وما يستشفوا من دائهم بدوائه، ويعصوا أهواءهم بإجابة ندائه، وما من رسول أرسل إلا وقد كان أحرص على إيمان أمته وتصديقهم برسالته منه على طعامه الذي يطعم وشرابه الذي يشرب وسكنه الذي يسكن اليه ويغدو عنه ويروح عليه وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك في المقام الأعلى والمكان الأسمى قال الله تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال: «وما أكثر الناس ولو حرصت(6/463)
بمؤمنين» وقال: «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» وفي الآيات مما يطول سرده مما يدل على أمانيه صلى الله عليه وسلم المتعلقة بهداية قومه وإخراجهم من ظلمات ما كانوا فيه الى نور ما جاء به، وما من رسول ولا نبي إذا تمنى هذه الأمنية السامية إلا ألقى الشيطان في سبيله العثرات وأقام بينه وبين مقصده العقبات ووسوس في صدور الناس وسلبهم الانتفاع بما وهبوا من قوة العقل والإحساس فثاروا في وجهه وصدوه عن قصده وعاجزوه حتى لقد يعجزونه، وجادلوه بالقول والسلاح حتى لقد يقهرونه، فإذا ظهروا عليه والدعوة في بدايتها وسهل عليهم إيذاؤه وهو قليل الأتباع ضعيف الأنصار ظنوا الحق من جانبهم وكان فيما ألقوه من العوائق بينه وبين ما عمد اليه فتنة لهم، غلبت سنة الله في أن يكون الرسل من أواسط قومهم أو من المستضعفين فيهم ليكون العامل في الإذعان بالحق محض الدليل، وقوة البرهان، وليكون الاختيار المطلق هو الحامل لمن يدعى اليه على قبوله ولكيلا يشارك الحق الباطل في رسائله ويشاركه في نصب شراكه وحبائله أنصار الباطل في كل زمان، هم أهل القوة والأنفة والجاه والاعتزاز بالأموال والأولاد والعشيرة والأعوان والغرور بالزخارف، والزهو بكثرة المعارف، وتلك الخصال انما تجتمع كلها أو بعضها في الرؤساء وذوي المكانة من الناس فتذهلهم عن أنفسهم وتصرف نظرهم عن سبيل رشدهم، فإذا دعا الى الحق داع عرفته القلوب النقية من أوضار هذه الفواتن، وفزعت اليه النفوس الصافية والعقول المستعدة لقبوله بخلوصها من هذه الشواغل، وقلما توجد الا عند الضعفاء وأهل المسكنة فإذا التف هؤلاء حول الداعي، وظاهروه على دعوته قام أولئك المغرورون يقولون: «ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين»(6/464)
فإذا استدرجهم الله على سنته وجعل الجدال بينهم وبين المؤمنين سجالا افتتن الذين في قلوبهم مرض من أشياعهم، وافتتنوا بما أصابوا من الظفر في دفاعهم ولكن الله غالب على أمره فيمحق ما ألقاه الشيطان من هذه الشبهات ويرفع هذه الموانع وتلك العقبات ويهب السلطان لآياته فيحكمها ويثبت دعائمها وينشىء من ضعف أنصارها قوة، ويخلف لهم من ذلهم عزة وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» .
خاتمة هامة للأستاذ الامام:
«ولو صح ما قاله نقلة قصة الغرانيق لارتفعت الثقة بالوحي وانتقض الاعتماد عليه كما قاله البيضاوي وغيره ولكان الكلام في الناسخ كالكلام في المنسوخ يجوز أن يلقي الشيطان فيه ما يشاء ولا نهدم أعظم ركن للشرائع الإلهية وهو العصمة وما يقال من المخرج في ذلك ينفر منه الذوق ولا ينظر اليه العقل على أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق العلى لم يردلا في نظمهم ولا في خطبهم ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريا على ألسنتهم إلا ما جاء في معجم ياقوت غير مسند ولا معروف بطريق صحيح وهذا يدل على أن القصة من اختراع الزنادقة كما قال ابن اسحق وربما كانت منشأ ما أورده ياقوت ولا يخفى أن الغرنوق والغرنيق لم يعرف في اللغة إلا اسما لطائر مائي أسود أو أبيض أو هو اسم الكركي أو طائر يشبهه، والغرنيق بالضم كزنبور وقنديل وسموءل وفردوس وقرطاس وعلابط معناه الشاب الأبيض الجميل وتسمى الخصلة من الشعر المفتلة الغرنوق كما يسمى به ضرب من الشجر ويطلق الغرنوق والغرانق على ما يكون في أصل العوسج اللين النبات ولا يقال لمة غرانقة وغرانقية أي ناعمة تضيئها(6/465)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
الريح أو الغرنوق الناعم المستتر من النبات إلخ ولا شيء من هذه المعاني يلائم الإلهام والأصنام حتى يطلق عليها في فصيح القول الذي يعرض على ملوك البلاغة وأمراء الكلام فلا أظنك تعتقد إلا أنها من مفتريات الأعاجم ومختلقات الملبسين ممن لا يميز بين حر الكلام، وما استعبد منه لضعفاء الأحلام، فراج ذلك على من يذهله الولوع بالرواية، عما تقتضيه الدراية، «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب» .
[سورة الحج (22) : الآيات 54 الى 60]
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)(6/466)
الإعراب:
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) الواو عاطفة وليعلم عطف على ليجعل وقد تقدم تعليق ليجعل والذين فاعل وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول به ثان لأوتوا وأنه الحق سدت مسد مفعولي يعلم ومن ربهم حال فيؤمنوا عطف على يعلم وبه متعلقان بيؤمنوا. (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فتخبت عطف على فيؤمنوا به وله متعلقان بتخبت أي تطمئن له قلوبهم وقلوبهم فاعل والواو استئنافية وان واسمها ولهاد اللام المزحلقة وهاد خبر إن والذين مفعول هاد لأنه اسم فاعل وجملة آمنوا صلة والى صراط مستقيم متعلقان بهاد. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الواو عاطفة على ما تقدم ليستكمل شرح حال الكافرين ويستوفيها ولا يزال فعل مضارع ناقص والذين كفروا اسمها وفي مرية خبرها ومنه صفة لمرية وهي بكسر الميم وضمها والضمير يعود الى القرآن أو الى الرسول أو الى ما ألقاه الشيطان. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) حتى حرف غاية وجر وتأتيهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والهاء مفعول به والساعة فاعل وبغتة حال وأو حرف عطف ويأتيهم عطف على تأتيهم وعذاب يوم فاعل وعقيم صفة.
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) الملك مبتدأ ويومئذ ظرف مضاف الى مثله وهو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر وهو لله والتنوين عوض عن محذوف تقديره يوم يؤمنون أو يوم تزول حربتهم وجملة يحكم بينهم مستأنفة كأنها وقعت جوابا لسؤال مقدر تقديره ماذا يصنع بهم فقيل يحكم بينهم ولا يبعد أن تكون حالا من اسم الله والظرف متعلق بيحكم. (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) الفاء(6/467)
عاطفة للتفريع والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف على جملة آمنوا وفي جنات النعيم خبر. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) والذين مبتدأ أيضا وجملة كفروا صلة وجملة كذبوا بآياتنا عطف على جملة كفروا فأولئك الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعذاب مهين مبتدأ مؤخر والجملة خبر أولئك وجملة أولئك إلخ خبر الذين.
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً) (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً) قتلوا أو ماتوا عطف على قتلوا، ليرزقنهم اللام موطئة للقسم ويرزقنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والهاء مفعول به والله فاعل ورزقا مفعول مطلق وحسنا صفة والجملة القسمية وجوابها خبر الذين وهذا أولى من تقدير خبر. (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر هو والجملة خبر إن. (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) اللام موطئة للقسم وجملة يدخلنهم جواب القسم وجملة القسم وجوابه بدل من الجملة القسمية الأولى أو هي مستأنفة والهاء مفعول به ومدخلا مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي وجملة يرضونه صفة لمدخلا، وان الله لعليم حليم الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وعليم حليم خبر ان لإن. (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ذلك خبر مبتدأ محذوف وقد تقدم اعراب نظيره والواو استئنافية ومن اسم شرط جازم أو موصوله مبتدأ وعاقب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبمثل متعلقان بعاقب وما موصول مضاف اليه وجملة عوقب به صلة.(6/468)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
(ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) ثم بغي عليه عطف على عاقب واللام موطئة للقسم والجملة القسمية خبر من وجملة ان الله لعفو غفور تعليلية لا محل لها.
البلاغة:
(يَوْمٍ عَقِيمٍ) : استعارة مكنية فقد شبه ما لا خير فيه من الزمان بالنساء العقم أو لأن يوم الحرب يقتل فيه أولاد النساء فيصرن كأنهن عقم لم يلدن.
[سورة الحج (22) : الآيات 61 الى 65]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65)(6/469)
الإعراب:
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) الجملة مستأنفة لتقرير قدرته تعالى على النصر وان من قدر على إيلاج الليل والنهار وإيلاج النهار في الليل وغير ذلك من روائع قدرته قادر ولا شك على النصر، وذلك مبتدأ والاشارة الى النصر الموعود وبأن الله خبره والباء للسببية وجملة يولج الليل في النهار خبر ان وجملة ويولج النهار في الليل عطف على الجملة الاولى وان الله سميع بصير عطف أيضا على بأن الله إلخ ومعنى إيلاج الليل في النهار وبالعكس تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك وبالعكس. (ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) جملة مستأنفة ثانية لتقرير دليل آخر الى جانب الدليل الاول وهو القدرة على جميع الممكنات وهو كونه تعالى حقا ثابتا وما عداه معدوم وزائل وذلك مبتدأ وبأن خبر والله اسم ان وجملة هو الحق من المبتدأ والخبر خبر أن. (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) عطف على ما تقدم وقوله من دونه متعلقان بمحذوف حال. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره أنت وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر لأنها علمية كما سيأتي وجملة أنزل خبر أن ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به، فتصبح الفاء عاطفة لا سببية لأن الاستفهام تقريري كما قدمنا مؤول بالخبر أي قد رأيت والخبر لا جواب له وأيضا لا تصح السببية هنا فإن الرؤية لا يتسبب عنها اخضرار الأرض بل انما يوجبه إنزال الماء بعد أن تصبح وسيأتي مزيد تفصيل لهذه النكت البلاغية في باب البلاغة، فتصبح الفاء عاطفة وتصبح(6/470)
معطوف على أنزل وهو فعل مضارع ناقص وسيأتي سر المخالفة في عطف المضارع على الماضي والأرض اسم تصبح ومخضرة خبرها، واختار أبو البقاء أن تكون تصبح تامة والأرض فاعلا ومخضرة حالا.
(إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) الجملة تعليل لما تقدم وان واسمها وخبراها.
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الجملة حالية أو مستأنفة وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات متعلقان بمحذوف صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات وان الله الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وهو الغني مبتدأ وخبر والجملة خبر إن والحميد خبر ثان لهو. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر مضارع مجزوم بلم وأن الله مفعول تر وجملة سخر خبر أن ولكم متعلقان بسخر وما مفعول سخر وفي الأرض صلة ما والفلك عطف على ما أي سخر لكم ما في الأرض وسخر لكم الفلك وجملة تجري حال من الفلك وفي البحر متعلقان بتجري وبأمره حال (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) الواو عاطفة ويمسك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو والسماء مفعول به وأن تقع المصدر المؤول في محل نصب مفعول لأجله فالبصريون يقدرون كراهة أن يقع والكوفيون لئلا تقع واختار أبو البقاء وغيره أن تكون بدل اشتمال من السماء أي ويمسك وقوعها بمعنى يمنعه وعلى الأرض متعلقان بتقع وإلا أداة حصر لأن الكلام غير موجب أو في قوة النفي أي لا يتركها تقع في حالة من الأحوال فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال فقوله باذنه متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسة بمشيئته تعالى واذنه والباء للملابسة.
(إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) الجملة تعليلية وان واسمها وبالناس متعلقان برءوف واللام المزحلقة ورءوف خبر أول ورحيم خبر ثان.(6/471)
البلاغة:
في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» عطف المضارع المستقبل على الماضي ولم يقل فأصبحت عطفا على أنزل وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان فانزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض وهذا كما تقول أنعم على فلان فأروح وأغدو شاكرا له ولو قلت فرحت وغدوت شاكرا له لم يقع ذلك الموقع لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى وهذا موضع جدير بالتأمل.
والسؤال الوارد هنا لم لم ينصب فتصبح جوابا للاستفهام؟
والجواب لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض لأن معناه اثبات الاخضرار فينقلب بالنصب الى نفي الاخضرار مثاله أن تقول لصاحبك:
ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه وان رفعته فأنت مثبت للشكر. قال سيبويه: وسألته (يعني الخليل) عن «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت أتسمع أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا» قال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه:
«وقوله فقال هذا واجب وقوله فكان كذا يريد أنهما ماضيان وفسر الكلام بأن تسمع ليريك أنه لا يتصل بالاستفهام لضعف حكم الاستفهام فيه» وقال بعض شراح الكتاب: «فتصبح لا يمكن نصبه لأن الكلام واجب ألا ترى أن المعنى أن الله أنزل الماء فالأرض هذه حالها» وقال الفراء «وانما عبر بالمضارع لأن فيه تصويرا للهيئة التي الأرض عليها والحالة التي لابست الأرض والماضي يفيد انقطاع الشيء وهذا كقول جحدر(6/472)
ابن معونة العكلي يصف حاله مع أشد نازلة في قصة جرت له مع الحجاج بن يوسف:
يسمو بناظرتين تحسب فيهما ... لما أجالهما شعاع سراج
لما نزلت بحصن أزبر مهضر ... للقرن أرواح العدا مجاج
فأكر أحمل وهو يقعي باسته ... فاذا يعود فراجع أدراجي
وعلمت اني إن أبيت نزاله ... أني من الحجاج لست بناج
فقوله: فأكر تصوير للحالة التي لابسها.
وقال ابن هشام في المغني: «وقيل الفاء في هذه الآية للسببية وفاء السببية لا تستلزم التعقيب بدليل صحة قولك إن يسلم فهو يدخل الجنة ومعلوم ما بينهما من المهلة» .
بحث ممتع للرازي:
وللامام الرازي بحث جيد هنا يمكن تلخيصه بما يلي:
«ذكر هنا من آثار قدرته ستة أشياء:
1- إنزال الماء الناشئ عنه اخضرار الأرض وفسر الرؤية بالعلم دون الابصار لأن الماء وان كان مرئيا إلا أن كون الله منزلا له من السماء غير مرئي وقال فتصبح الأرض دون أصبحت لإفادته بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان.
2- قوله: «له ما في السموات وما في الأرض» ومن جملته خلق المطر والنبات نفعا للحيوان مع أن الله لا يحتاج لذلك ولا ينتفع به.(6/473)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
3- تسخير ما في الأرض أي ذلل لكم ما فيها كالحجر والحديد والنار لما يراد منها والحيوان للأكل والركوب والحمل عليه والنظر اليه.
4- تسخير الفلك بالماء والرياح فلولا أن الله سخرها لكانت تغوص أو تقف.
5- إمساك السماء لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به والسماء جرم ثقيل وما كان كذلك لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه وهو القدرة فأمسكها الله بقدرته لئلا تقع فتبطل النعم التي امتن بها علينا.
6- الإحياء ثم الإماتة ثم الإحياء. نبه بهذا على أن هذه النعم لمن أحياه الله فنبه بالاحياء الاول على انعامه في الدنيا بكل ما تقدم ونبه بالإماتة والإحياء ثانيا على إنعامه علينا في الآخرة.
[سورة الحج (22) : الآيات 66 الى 70]
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)(6/474)
اللغة:
(مَنْسَكاً) : بفتح السين وكسرها شريعة لأنه مأخوذ من النسيكة وهي العبادة. وقد تقدم الكلام مستوفيا عن هذه المادة.
الإعراب:
(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات الى قولهم وتمكينهم من منازعته تثبيتا له وحفزا لهمته على المضي في الأمر الذي عهد الله اليه به، وهو مبتدأ والذي خبر وجملة أحياكم صلة ثم حرف عطف للتراخي ويميتكم فعل وفاعل ومفعول به أي عند انتهاء الآجال، ثم حرف عطف وتراخ أيضا ويحييكم فعل مضارع مرفوع والكاف مفعوله أي عند البعث وجملة إن الإنسان لكفور مستأنفة تفيد التعليل لعدم الاعتبار والتبصر بعد هذه العبر والدلائل وان واسمها واللام المزحلقة وكفور خبرها. (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) لكل أمة مفعول ثان مقدم لجعلنا ومنسكا هو المفعول الاول والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها ولذلك لم يأت بالواو الاستئنافية وهي مسوقة لزجر منازعيه من أهل الأديان السماوية وهم مبتدأ وناسكوه خبر والجملة الاسمية صفة لمنسكا والفاء الفصيحة ولا ناهية وينازعنك فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين هي واو الجماعة في محل(6/475)
رفع فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ولم تؤثر في بناء المضارع لأنه لم تباشره وقد مرت لها نظائر والكاف مفعول به وفي الأمر متعلقان بينازعنك وادع فعل أمر وفاعله أنت والى ربك متعلقان بادع على حذف مضاف أي الى دينه وسبيله وجملة انك لعلى هدى مستقيم تعليلية لا محل لها وان واسمها واللام المزحلقة وعلى هدى خبرها ومستقيم صفة لهدى. (وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة وان شرطية وجادلوك فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والواو فاعل والكاف مفعول به، فقل الفاء رابطة وقل فعل أمر والله مبتدأ وأعلم خبر والجملة مقول القول وجملة فقل جواب الشرط وبما متعلقان بأعلم وتعملون صلة. (اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) جملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي مما كان يلقى والله مبتدأ وجملة يحكم خبر وبينكم ظرف متعلق بيحكم ويوم القيامة متعلق بيحكم أيضا وفيما متعلقان بمحذوف حال وجملة كنتم صلة وكان واسمها وفيه متعلقان بتختلفون وجملة تختلفون خبر كنتم. (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلم فعل مضارع مجزوم وفاعله مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وان واسمها وجملة يعلم خبرها وما مفعول به وفي السماء صلة ما والأرض عطف على السماء. (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) جملتان تعليليتان لما سبق وان واسمها وفي كتاب خبرها وإن واسمها ويسير خبرها وعلى الله متعلقان بيسير.(6/476)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
[سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 74]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
اللغة:
(يَسْطُونَ) : يبطشون والسطو الوثب والبطش ولذلك عدي بالباء وإلا فهو يتعدى بعلى يقال سطا عليه وأصله القهر والغلبة وفي الأساس «وسطا بقرنه وعلى قرنه وثب عليه وبطش به، والفحل يسطو على طروقته ومن المجاز: سطا الماء كثر وزخر، وما سطوت في طعام أحد: ما تناولته ولهم أيد سواط عواط قال المتنخّل يصف خمرا:
ركود في الإناء لها حميّا ... تلذّ بأخذها الأيدي السواطي(6/477)
وللسين مع الطاء فاء وعينا للكلمة صفة الامتداد، تقول رأيتهم قاعدين على المساطب وهي الدكاكين الممتدة حول رحبة المسجد وبات فلان على المسطبة وتقول: كم أبات هذا البيت رجالا على المساطب، وأوقعهم في المتالف والمعاطب تريد فسر في بلاد الله، وتقول: إما أن يبيتك على المسطبة، أو يرفعك الى المسطبة وهي المجرّة، وسطح الشيء:
بسطه وسواه ومنه سطح الخبز بالمسطح وهو المحور وسطح الثريدة في الصحفة ومنه سطح البيت وسطح مسطح: مستو وأنف مسطح منبسط جدا وبسط لنا المسطح والمساطح وهو الحصير من الخوص وضربه فسطحه إذا بطحه على قفاه ممتدا فانسطح وهو سطيح ومنسطح وبه سمي سطيح وضربه بالمسطح وهو عمود الخباء وشرب من السطيحة وهي المزادة، وسطر واستطر كتب وكتب سطرا من كتابه وسطرا وأسطرا وسطورا وأسطارا وهو مسيطر علينا ومتسيطر، ونار ساطعة ممتدة ونور ساطع وسطع الفجر وسطع الغبار سطوعا وسطع البعير والظليم مدّ عنقه الى السماء قال ذو الرمة يصف ظليما:
يظلّ مختضعا طورا فتنكره ... حينا ويسطع أحيانا فينتسب
وسطع بيديه رفعهما مصفقا بهما ومن المجاز سطعت رائحة المسك وأعجبني سطوع رائحته، واغتسلت بالسّطل والسّيطل وهما القدس الذي يتطهر به في الحمّام، وحرك النار بالاسطام وسيف مصقول السّطام وهو الحدّ وأنشد سيبويه لكعب بن جعيل:
وأبيض مصقول السطام مهنّدا ... وذا حلق من نسج داود مسردا(6/478)
ومن المجاز ليل طما أسطمّه وهو في أسطمّة قريش في وسطهم وعاد الملك في اسطمّه: في أصله، قال:
يا ليتها قد خرجت من فمّه ... حتى يعود الملك في اسطمّه
والعرب سطام الناس.
(الذُّبابُ) : اسم جنس واحده ذبابة يقع على المذكر والمؤنث ويجمع على ذبّان بالكسر كغربان وذبان بالضم كقضبان وعلى أذبّة كأغربة وهو أجهل الحيوانات لانه يرمي نفسه في المهلكات ومدة عيشه أربعون يوما وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود وعلى الأسود فيرى أبيض، والذباب مأخوذ من ذب إذا طرد وآب إذا رجع لأنك تذبه فيرجع عليك وقد ذكره امرؤ القيس في شعره قال:
أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبّان ودود ... وأجرأ من مجلّحة الذئاب
وسيأتي بحث مسهب عنه في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ويعبدون فعل مضارع والواو فاعل ومن دون الله حال وما موصول مفعول به وجملة لم ينزل صلة ما وبه حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطانا وسلطانا مفعول به. (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) وما عطف على ما الاولى وجملة ليس صلة ولهم(6/479)
خبر ليس المقدم وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس المؤخر وما الواو عاطفة وما نافية وللظالمين خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونصير مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ مؤخر. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة تتلى في محل جر بإضافة إذا إليها وتتلى فعل مضارع مبني للمجهول وعليهم متعلقان بتتلى وآياتنا نائب فاعل وبينات حال وجملة تعرف لا محل لها لأنها جواب إذا وفي وجوه متعلقان بتعرف والذين مضاف اليه وجملة كفروا صلة والمنكر مفعول به وفيه وضع الظاهر موضع المضمر وهو الذين كفروا تشنيعا عليهم وتسجيلا للشهادة عليهم بالكفر. (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) جملة يكادون حال من الموصول وان كان مضافا لأن المضاف جزؤه ويجوز أن يكون حالا من وجوه لأن المراد بها أصحابها ويكادون من أفعال المقاربة، والواو اسمها وجملة يسطون خبرها وبالذين متعلقان بيسطون وجملة يتلون صلة وعليهم متعلقان بيتلون وآياتنا مفعول به.
(قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) قل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والجملة مستأنفة، أفأنبئكم الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف أي أخاطبكم فأنبئكم وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبشر متعلقان بأنبئكم ومن ذلكم متعلقان بشر والنار خبر لمبتدأ محذوف، أو النار مبتدأ وخبره جملة وعدها والجملة لا محل لها لأنها مفسرة لشر. (وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جملة وعدها الله إما خبر ثان واما خبر النار ووعدها الله فعل ومفعول به أول وفاعل والذين كفروا مفعول به ثان لوعدها ويجوز أن يكون الضمير هو المفعول الثاني والذين كفروا هو المفعول الاول ولعل هذا أرجح لسر سيأتي في باب الفوائد وبئس المصير فعل وفاعل والمخصوص بالذم(6/480)
محذوف أي هي. (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) كلام مستأنف مسوق لضرب المثل وهو إن يكن أشبه بالقصة إلا انه في سيرورته واستغرابه سمي مثلا، يا أيها الناس تقدم اعرابها كثيرا وضرب مثل فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل، فاستمعوا الفاء الفصيحة واستمعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وله متعلقان باستمعوا. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) الجملة مفسرة للمثل وان واسمها وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال وجملة لن يخلقوا ذبابا خبر ان وذبابا مفعول به ولو الواو عاطفة على محذوف هو حال أي انتفى خلقهم الذباب على كل حال ولو في هذه الحال التي اجتمعوا لها ولو شرطية واجتمعوا فعل وفاعل وله متعلقان باجتمعوا. (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الواو عاطفة وان شرطية ويسلبهم فعل الشرط والهاء مفعول به والذباب فاعل وشيئا مفعول به ثان ولا نافية ويستنقذوه جواب الشرط والواو فاعل والهاء مفعول به ومنه متعلقان بيستنقذوه وجملة ضعف الطالب والمطلوب حال. و (ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) الواو استئنافية مسوقة للرد على أحبار اليهود ورؤسائهم الذين قالوا ان الله فقير ونحن أغنياء وما نافية وقدروا فعل وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به وحق قدره مفعول مطلق وجملة ان الله تعليل لما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وقوي خبر إن الاول وعزيز خبر إن الثاني.
البلاغة:
سلامة الاختراع:
وهو أن يخترع الشاعر أو الكاتب معنى لم يسبق اليه ولم يتبع(6/481)
فيه فقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» الآية من أبلغ ما أنزله الله في تجهيل الكافرين واستركاك عقولهم لغرابة التمثيل الذي تضمن الافراط في المبالغة مع كونها جارية على الحق خارجة مخرج الصدق وذلك حين اقتصر سبحانه على ذكر أضعف المخلوقات وأقلها سلبا لما تسلبه وتعجيز كل من دونه سبحانه كائنا من كان عن خلق مثله مع التضافر والاجتماع ثم نزل في التمثيل عن رتبة الخلق إذ هما مما يعجز عن مثلهما كل قادر غير الله عز وجل الى استنقاذ النزر التفه الذي يسلبه هذا الخلق الضعيف على ضعفه ويعجز كل قادر من المخلوقين عن استنقاذه منه فتنقل في النزول في التمثيل على ما تقتضيه البلاغة على الترتيب في هذا المكان، لما علم سبحانه انه لا مبالغة في تعجيزهم عن الخلق والاختراع الذي لا يدعيه جبار ولا يتعاطاه من المخلوقين أحد وإن أوتي قدرة وأعطي قوة وكان فيه من التغالي بالكفر والجهل ما يدعي معه الالهية وينتحل الربوبية، فنزل بهم الى استنقاذ ما يسلبه هذا المخلوق الضعيف على ضعفه وقوتهم ليريهم عجزهم فتستيقنه نفوسهم وإن لم تقرّ به ألسنتهم فجاء بما يقضي الظاهر أنه أيسر من الخلق وهو الحقيقة مثله في العمر فإن الظفر بنفس هذا المخلوق أيسر من الظفر بما يسلبه فاستنقاذ ما يسلبه في العجز عنه مثل خلقه ولم يسمع مثل هذا التمثيل في بابه لأحد قبل نزول الكتاب العزيز.
هذا وقد قسم علماء البيان سلامة الاختراع إلى ضربين:
أولهما: يبتدعه صاحبه من غير أن يقتدي فيه بمن سبقه وهذا الضرب يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، وينتبه له عند الأمور الطارئة فمن ذلك ما ورد في شعر لأبي تمام في قصيدة له يمدح بها المعتصم بالله ويذكر حرق الافشين ومطلعها:(6/482)
الحق أبلج والسيوف عوار ... فحذار من أسد العرين حذار
وفيها يخترع وصف المصلبين فيقول:
بكروا وأسروا في متون ضوامر ... قيدت لهم من مربط النّجّار
لا يبرحون ومن رآهم خالهم ... أبدا على سفر من الأسفار
وهذا المعنى مما يعثر عليه عند الحوادث المتجددة، والخاطر في مثل هذا المقام ينساق الى المعنى المخترع من غير كبير كلفة لشاهد الحال الحاضرة، ومما قاله فيها في صفة من أحرق بالنار:
ما زال سر الكفر بين ضلوعه ... حتى اصطلى سرّ الزناد الواري
نارا يساور جسمه من حرها ... لهب كما عصفرت شقّ إزار
طارت لها شعل يهدّم لفحها ... أركانه هدما بغير غبار
فصّلن منه كلّ مجمع مفصل ... وفعلن فاقرة بكل فقار
مشبوبة رفعت لأعظم مشرك ... ما كان يرفع ضوءها للساري
صلى لها حيا وكان وقودها ... ميتا ويدخلها مع الفجار(6/483)
وقد ذيل البحتري على ما ذكره أبو تمام في وصف المصلبين فقال:
كم عزيز أباده فغدا ير ... كب عودا مركّبا في عود
أسلمته الى الرقاد رجال ... لم يكونوا عن وترهم برقود
تحسد الطير فيه ضبع البوادي ... وهو في غير حالة المحسود
غاب عن صحبه فلا هو موجو ... د لديهم وليس بالمفقود
وكأن امتداد كفيه فوق الجذع في محفل الردى المشهود طائر مدّ مستريحا جناحيه استراحات متعب مكدود
أخطب الناس راكبا فإذا أر ... جل خاطبت منه عين البليد
ومن هذا الضرب ما جاء في شعر أبي الطيب المتنبي في وصفه الحمى:
وزائرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي
كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام
ومن بديع ما أتى به في هذا الموضع أن سيف الله بن حمدان كان مخيما بأرض ديار بكر على مدينة ميا فارقين، فعصفت الريح بخيمته فتطّير الناس لذلك وقالوا فيه أقوالا فمدحه أبو الطيب بقصيدة يعتذر فيها عن سقوط الخيمة أولها:
أينفع في الخيمة العذّل ... وتشمل من دهرها يشمل(6/484)
ومما أحسن فيه غاية الإحسان وعدّ من أوابده التي لا تبلى قوله:
تضيق بشخصك أرجاؤها ... ويركض في الواحد الجحفل
وتقصر ما كنت في جوفها ... وتركز فيها القنا الذّبّل
وكيف تقوم على راحة ... كأن البحار لها أنمل
فليت وقارك فرّقته ... وحملت أرضك ما تحمل
فصار الأنام به سادة ... وسدتهم بالذي يفضل
رأت لون نورك في لونها ... كلون الغزالة لا يغسل
وأنّ لها شرفا باذخا ... وأن الخيام بها تخجل
فلا تنكرنّ لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل
ولو بلّغ الناس ما بلّغت ... لخانتهم حولك الأرجل
ولما أمرت بتطنيبها ... أشيع بأنك لا ترحل
فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
وعرّف انك من همه ... وأنك في نصره ترفل
فما العاندون وما أمّلوا ... وما الحاسدون وما قوّلوا
هم يطلبون فمن أدركوا؟ ... وهم يكذبون فمن يقبل؟
وهم يتمنّون ما يشتهون ... ومن دونه جدّك المقبل
والمعاني المخترعة فيها واضحة للعيان وكفى المتنبي فضلا أن يأتي بمثلها.(6/485)
وفي كتاب الروضة لأبي العباس المبرد، وهو كتاب جمعه واختار فيه أشعار شعراء بدأ فيه بأبي نواس ثم بمن كان في زمانه فقال مما أورده من شعره: وله معنى لم يسبق اليه بإجماع وهو قوله:
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
فالمعنى مخترع ولكنه- كما يقول الجاحظ- من المعاني المشاهدة فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماء يسيرا وكانت تستغرق صور هذه الكأس الى مكان جيوبها وكان الماء فيها قليلا بقدر القلانس التي على رؤوسها وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر.
وثانيهما: المعاني التي تستخرج من غير شاهد حال متصورة فانها أصعب منالا مما يستخرج بشاهد الحال وقد قيل: إن أبا تمام أكثر الشعراء المتأخرين ابتداعا للمعاني وقد عدت معانيه المبتدعة فوجدت ما يزيد على عشرين معنى:
فمن ذلك قوله:
يا أيها الملك النائي برؤيته ... وجوده لمراعي جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا ... إن السماء ترجّى حين تحتجب(6/486)
وكذلك قوله في الهجاء:
وأنت تدير قطب رحى عليا ... ولم نر للرحى العلياء قطبا
ترى ظفرا بكل صراع قرن ... إذا ما كنت أسفل منه جنبا
وكذلك قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وكذلك له في الشيب:
شعلة في المفارق استودعتني ... في صميم الفؤاد ثكلا صميما
يستثير الهموم ما اكتنّ منها ... صعدا وهي تستثير الهموما
على أن ابن الرومي فاق شعراء العربية جميعا في خلق الأشكال للمعاني المجردة أو خلق الرموز لبعض الاشكال المحسوسة بل فاق بها شعراء الدنيا جميعا. استمع لوصفه لحركة الرقاق في يد الخباز:(6/487)
ما أنس لا أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر
ووصفه للحركة البطيئة في سير السحائب:
سحائب قيست في البلاد فألفيت ... غطاء على أغوارها ونجودها
حدتها النّعامى مثقلات فأقبلت ... تهادى، رويدا، سيرها كركودها
وله:
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى ... عند الورود لما أطال رشاءه(6/488)
وله قوله الممتع:
عدوك من صديقك مستفاد ... فلا تستكثرنّ من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام والشراب
وكذلك قوله:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وانها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما هو لاق من أذاها يهدد
قول جامع للجاحظ:
وللجاحظ فصل ممتع انتهى فيه الى وصف الذباب الذي نحن بصدد الحديث عنه قال: «ولا يعلم في الأرض شاعر تقدم في تشبيه مصيب تام وفي معنى غريب عجيب أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلا وكل من جاء من الشعراء من بعده أو معه إن هو لم يقدر على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى(6/489)
ويجعل نفسه شريكا فيه كالمعنى الذي تتنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض أشعارهم ولا يكون أحد منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، أو لعله يجحد أنه سمع بذلك المعنى قط وقال انه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأول هذا إذا قرعوه به إلا ما كان من عنترة في صفة الذباب فإنه وصفه فأجاد وصفه فتحامى معناه جميع الشعراء فلم يعرضوا له قال عنترة:
جادت عليها كلّ عين ثرّة ... فتركن كل حديقة كالدرهم
فترى الذباب بها يغني وحده ... هزجا كفعل الشارب المترنّم
غردا يحكّ ذراعه بذراعه ... فعل المكبّ على الزناد الأجذم
يريد فعل الأقطع المكب على الزناد، والأجذم المقطوع اليدين فوصف الذباب إذا كان واقعا ثم حك إحدى يديه بالأخرى فشبهه عند ذلك برجل مقطوع اليدين يقدح بعودين ومتى سقط الذباب فهو يفعل ذلك» .
قصة قاضي البصرة:
وبعد أن تحدث الجاحظ طويلا كعادته في الاستطراد عن الذباب روى قصة قاضي البصرة وهي طويلة تصور إلحاح الذباب وقدرته على العض وهي مثبتة في كتاب الحيوان للجاحظ فليرجع اليه من شاء.
الفوائد:
متى اجتمع بعد ما يتعدى الى اثنين شيئان ليس ثانيهما عبارة عن الأول فالفاعل المعنوي رتبته التقديم وهو المفعول الأول ويعني بالمفعول(6/490)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
الأول من يتأتى منه فعل فإذا قلت: وعدت زيدا دينارا فالدينار هو المفعول الثاني لأنه لا يتأتى من فعل وهو نظير أعطيت زيدا درهما فزيد هو الفاعل لأنه آخذ للدرهم.
[سورة الحج (22) : الآيات 75 الى 78]
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
الإعراب:
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير اصطفائه تعالى الرسل والله مبتدأ وجملة يصطفي خبر ومن الملائكة حال لأنه كان في الأصل صفة لرسلا وتقدم عليه ولك أن تعلقه بيصطفي ورسلا مفعول به ومن الناس عطف على من(6/491)
الملائكة وحذف من الثاني لدلالة الاول عليه أي ويصطفي من الناس رسلا وجملة إن الله سميع بصير تعليلية لما تقدم أي سميع لما يقولونه بصير بمن يتخذه رسولا وان واسمها وسميع خبرها الاول وبصير خبرها الثاني. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) جملة يعلم خبر ثالث أو مستأنفة ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وما موصول مفعول به وبين أيديهم الظرف متعلق بمحذوف صلة وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم والى الله الواو عاطفة والى الله متعلقان بترجع وترجع فعل مضارع مبني للمجهول والأمور نائب فاعل.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) يا أيها الذين آمنوا تقدم اعرابها وجملة آمنوا صلة واركعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل واسجدوا عطف على اركعوا واعبدوا ربكم عطف أيضا. (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وافعلوا الخير عطف على ما تقدم وجملة لعلكم تفلحون حال من الواو في اركعوا وما عطف عليه أي افعلوا هذه الأمور حال كونكم راجين الفلاح. (وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ) وجاهدوا عطف أيضا وفي الله متعلقان بجاهدوا ولا بد من حذف مضاف بعد حذف مفعول جاهدوا أي جاهدوا أعداءكم في ذات الله ومن أجله ففي للسببية وحق جهاده مفعول مطلق.
(هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) هو مبتدأ وجملة اجتباكم أي اختاركم خبر والجملة حال من الله وما الواو عاطفة وما نافية وجعل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعليكم متعلقان بمحذوف مفعول به ثان لجعل وفي الدين حال ومن حرف جر زائد وحرج مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول جعل الأول.
(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) ملة في(6/492)
نصبها أوجه أظهرها ما ذكره الزمخشري ونصه: «نصب الملة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه ويجوز نصبها على الاختصاص أي أخص بالدين ملة أبيكم» أو بتقدير فعل مضمر تقديره اتبعوا وهناك أوجه أخرى لا تخرج عن هذه الأوجه، وأبيكم مضاف اليه وابراهيم بدل من أبيكم وهو مبتدأ وجملة سماكم خبر والجملة حال من ابراهيم وسماكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول والمسلمين مفعول به ثان ومن قبل حال أي من قبل هذا الكتاب وفي هذا عطف على من قبل أي وفي هذا القرآن.
(لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) اللام للتعليل وقيل للعاقبة ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام واللام ومدخولها متعلقة بسماكم والرسول اسم يكون وشهيدا خبر يكون وعليكم متعلقان بشهيدا وتكونوا شهداء على الناس عطف على نظيرتها. (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ) الفاء الفصيحة وأقيموا الصلاة فعل أمر وفاعل ومفعول به وما بعده عطف عليه. (هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الجملة حالية من الله وهو مبتدأ ومولاكم خبر فنعم المولى الفاء استئنافية ونعم فعل ماض جامد لانشاء المدح والمولى فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي هو، ونعم النصير عطف على نعم المولى.(6/493)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
(23) سورة المؤمنون مكية وآياتها ثمانى عشرة ومائة
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)
اللغة:
(اللَّغْوِ) : اللغو: كل من كان حراما أو مكروها أو مباحا لم تدع اليه ضرورة ولا حاجة، واللغو كل مالا يعنيك من قول أو فعل كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطراحه وكل مالا يعتد به.
(لِفُرُوجِهِمْ) : الفروج جمع فرج وهو من الإنسان العورة.(6/494)
الإعراب:
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) قد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض والمؤمنون فاعل. (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الذين صفة للمؤمنون وهم مبتدأ وفي صلاتهم متعلقان بخاشعون، وخاشعون خبر «هم» والجملة صلة الذين، وقدم الجار والمجرور على متعلقه للاهتمام به وحسنه كون متعلقه فاصلة. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) والذين عطف على الذين وهم مبتدأ وعن اللغو متعلقان بمعرضون، ومعرضون خبر «هم» والجملة صلة الذين. (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) والذين عطف على الذين وهم مبتدأ وفاعلون خبر وللزكاة متعلقان بفاعلون وضمن فاعلون معنى مؤدون وقيل اللام زائدة في المفعول به لتقدمه على عامله.
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) والذين عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وحافظون خبر ولفروجهم متعلقان بحافظون. (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) إلا أداة استثناء وعلى أزواجهم في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن قال الزمخشري: «من قولك كان فلان على فلانة فمات عنها فخلف عليها فلان ونظيره كان زياد على البصرة أو واليا عليها ومنه قولهم: فلانة تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشا والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم أو تعلق «على» بمحذوف يدل عليه «غير ملومين» كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه أو تجعله صلة لحافظين من قولك احفظ علي عنان فرسي على تضمينه معنى النفي كما ضمن قولهم نشدتك بالله إلا فعلت معنى ما طلبت منك إلا فعلك» وذهب الفراء الى أن «على» بمعنى «من» أي إلا من أزواجهم كما جاءت «من»(6/495)
بمعنى «على» في قوله «ونصرناه من القوم» ، وأو حرف عطف وما عطف على أزواجهم وجملة ملكت أيمانهم صلة وعبر بما دون «من» وان كان المقام لها لنقصهن لأنهن السراري والسرية: الأمة التي بوأتها بيتا وهي فعلية منسوبة الى السر وهو الجماع أو الإخفاء لأن الإنسان كثيرا ما يسرها ويسترها عن حرّته، وضمت السين لأن الأبنية قد تغير في النسب كما قالوا في النسب الى الدهر دهري والى الأرض السهلة سهلي بضم أولهما والجمع سراري وقال الأخفش هي مشتقة من السرور لأن الإنسان يسرّ بها، وعبارة المصباح: «والسرية فعلية قيل مأخوذة من السر بالكسر وهو النكاح فالضم على غير قياس فرقا بينها وبين الحرّة إذا نكحت سرا فإنه يقال لها سرية بالكسر على القياس وقيل من السر بالضم بمعنى السرور لأن مالكها يسر بها فهو على القياس» .
(فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) الجملة تعليل للاستثناء وان واسمها وغير ملومين خبرها. (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وابتغى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره هو ووراء الظرف متعلق بمحذوف صفة وهذا المحذوف مفعول ابتغى أي ابتغى شيئا كائنا وراء ذلك ولك أن تجعل وراء بمعنى خلاف فتنصبه على أنه مفعول به وذلك مضاف اليه والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان والعادون خبر أولئك أو هم ضمير فصل والعادون خبر والجملة خبر أولئك. (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) والذين عطف على ما تقدم وهم مبتدأ وراعون خبره ولأماناتهم متعلقان براعون وعهدهم عطف على أماناتهم.
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) تقدم اعرابها وهي عطف على ما تقدم. (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) أولئك مبتدأ وهم ضمير فصل والوارثون خبر وقد تقدم انه يجوز اعراب هم مبتدأ ثانيا ولكن(6/496)
الأحسن أن يكون للفصل للدلالة على التخصيص. (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الذين خبر ثان أو صفة للوارثون وجملة يرثون صلة والفردوس مفعول به وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون، وخالدون خبر هم وأنث الفردوس باعتبار المعنى أن الجنة وجملة هم فيها خالدون حال.
البلاغة:
1- التفصيل:
تميزت السورة ببراعة استهلالها لأنها ذكرت أحوال المؤمنين على جهة التفصيل، والتفصيل على قسمين: متصل ومنفصل، فالمتصل كل كلام وقع فيه أما أو ما كقوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» الى آخر الكلام، وأما المنفصل فهو ما يأتي مجمله في مكان ومفصله في مكان آخر كقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» الى قوله تعالى «والذين هم لفروجهم حافظون» الى قوله تعالى «فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون» فإن قوله تعالى وراء ذلك إجمال المحرمات وقد تقدمت مفسّرة في سورة النساء بقوله تعالى:
«وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ» الى قوله تعالى «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» فإن هذه الآية اشتملت على خمسة عشر محرما من أصناف النساء، ذوات الأرحام ثلاثة عشر صنفا ومن الأجانب صنفان.
2- الطباق:
وفي قوله تعالى «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» طباق إيجاب، فقد جمع سبحانه للمؤمنين في هذا(6/497)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
الوصف بين الفعل والترك إذ وصفهم بالخشوع في الصلاة وترك اللغو وهذا كله من طباق الإيجاب المعنوي، وقد حمدوا الخشوع كثيرا، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: «لو خشع قلبه خشعت جوارحه» ونظر الحسن الى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوجني بالحور العين فقال:
بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 16]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
الإعراب:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الجملة لا محل نها من الاعراب لأنها جواب قسم محذوف واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل والإنسان مفعول به ومن سلالة متعلقان بخلقنا، فمن للابتداء ومن طين صفة لسلالة أو متعلقان بسلالة لأنها بمعنى مسلولة، فمن للبيان، ولا تلتفت الى قول بعض المعربين ان الواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام فالكلام مستأنف لا علاقة له بما قبله. (ثُمَّ جَعَلْناهُ(6/498)
نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ)
ثم حرف عطف وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به ونطفة مفعول به ثان وفي قرار مفعول به ثالث ومكين صفة. (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) ثم حرف عطف وخلقنا فعل وفاعل والنطفة مفعول به أول وعلقة مفعول به ثان لأن خلقنا متضمن معنى صيرنا. (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) الفاء حرف عطف وخلقنا فعل وفاعل والعلقة مفعول به أول ومضغة مفعول به ثان، فخلقنا فعل وفاعل والمضغة مفعول به أول وعظاما مفعول به ثان. (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) الفاء حرف عطف وكسونا فعل وفاعل والعظام مفعول به أول ولحما مفعول به ثان ثم حرف عطف وأنشأناه فعل وفاعل ومفعول به وخلقا حال وآخر صفة فتبارك الفاء استئنافية وتبارك فعل ماض والله فاعل وأحسن بدل من الله والخالقين مضاف اليه وليس بصفة لأنه نكرة وإن أضيف، لأن المضاف إليه عوض من «من» وهكذا جميع باب اسم التفضيل، ومميز أحسن محذوف للعلم به أي خلقا. (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وان واسمها وبعد ذلك الظرف متعلق بمحذوف حال أو بميتون، واللام المزحلقة وميتون خبر ان، ثم انكم عطف على ما تقدم وجملة تبعثون خبر ان.
البلاغة:
1- المخالفة في حروف العطف:
في حروف العطف المتتابعة في هذه الآيات أسرار لطيفة المأخذ دقيقة المعنى، فقد ذكر تعالى تفاصيل حال المخلوق في تنقله فبدأ بالخلق الاول وهو خلق آدم من طين، ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو(6/499)
خلق النسل عطفه بثم لما بيتهما من التراخي وحيث صار الى التقدير الذي يتبع بعضه بعضا من غير تراخ عطفه بالفاء، ولما انتهى الى جعله ذكرا أو أنثى وهو آخر الخلق عطفه بثم، ونحن نعلم أن الزمن الذي تصير فيه النطفة علقة طويل ولكن الحالتين متصلتان فأحيانا ينظر الى طول الزمان فيعطف بثم وأحيانا ينظر الى اتصال الحالين ثانيهما بأولهما من غير فاصل بينهما بغيرهما فيعطف بالفاء، ومثل هذا تزوج محمد فولد له.
وشيء آخر، وهو ان صيرورة التراب نطفة أمر مستبعد في ظاهر الحال ومثل ذلك صيرورة النطفة علقة لاختلاف إحداهما عن الاخرى اختلافا ظاهرا ولكن صيرورة العلقة مضغة لا غرابة فيه لتقاربهما فلهذا الوجه عطف في قوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ» بثم، وفي الآية التي نحن بصددها لوحظت أطوار الخلق وتباعد الأوقات بين كل طورين. وفي حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي ما خلاصته:
اختلاف العواطف بالفاء وثم لتفاوت الاستحالات يعني ان بعضها مستبعد حصوله مما قبله وهو المعطوف بثم فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء ماء أحمر بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة وكذا تصليبها حتى تصير عظما لأنه قد يحصل ذلك بالمكث فيما يشاهد وكذا مد لحم المضغة عليه ليستره وذلك يقتضي عطف الجميع بثم إن نظر لآخر المدة وأولها، ويقتضي العطف بالفاء ان نظر لآخرها فقط.
2- تشبيه الرحم بالقرار:
في قوله تعالى «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» استعارة تصريحية فقد حذف(6/500)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
المشبه وأبقى المشبه به، والمشبه هو الرحم وقد شبهه بالقرار أي موضع الاستقرار ثم وصفه بمكين بمعنى متمكن لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال أو لتمكن ما يحل فيه كقولهم طريق سائر أي يسار فيه. وبقي إيضاح قوله تعالى «خَلْقاً آخَرَ» وقد كثرت فيه الأقوال واضطربت، وخير ما يقال فيه انه عام والمراد مباينته للخلق الأول مباينة بعيدة جدا حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أعمى أكمه، وأودع باطنه وظاهره وكل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب لا توصف وغرائب لا تدرك.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 17 الى 21]
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21)
اللغة:
(طَرائِقَ) : جمع طريقة وهي السيرة والحالة والمذهب والخط(6/501)
في الشيء، وفي الأساس واللسان: «ووضع الأشياء طرقة طرقة وطريقة طريقة: بعضها فوق بعض وهي طرق وطرائق، وطرّق طريقا سهّله حتى طرقه الناس بسيرهم» وسميت السموات طرقا لأنه طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل وكل شيء فوقه مثله فهو طريقة.
(طُورِ سَيْناءَ) : وطور سنين قال الزمخشري: «لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور الى بقعة اسمها سيناء وسينون وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف اليه كامرىء القيس وكبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء فقد منع من الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن فتح فلم يصرف لأن الألف للتأنيث كصحراء» هذا وسيناء شبه جزيرة يحدها البحر الأبيض المتوسط شمالا وقناة السويس وخليج السويس غربا وفلسطين وخليج العقبة شرقا تنتهي جنوبا عند رأس محمد في البحر الأحمر، وسيناء جبل واقع في شبه جزيرة سيناء جنوبا والمراد بالشجرة شجرة الزيتون وخصت بطور سيناء مع أنها تخرج في غيره لأن أصلها منه ثم نقلت الى غيره.
الإعراب:
(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لذكر خلق السموات التي تعلو الإنسان بعد ذكر خلقه واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا فعل وفاعل وفوقكم ظرف متعلق بخلقنا وسبع طرائق مفعول خلقنا وطرائق مضاف لسبع، وما الواو حالية وما نافية وكان واسمها وعن الخلق متعلقان بغافلين وغافلين خبر كنا. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي(6/502)
الْأَرْضِ)
وأنزلنا عطف على خلقنا ومن السماء متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به وبقدر صفة لماء أو حال من الضمير أي بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون الى المنفعة، فأسكناه عطف على أنزلنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وفي الأرض متعلق بأسكناه. (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) الواو عاطفة وان واسمها وعلى ذهاب متعلقان بقادرون وبه متعلقان بذهاب وقادرون خبر إنا واللام المزحلقة. (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الفاء عاطفة وأنشأنا فعل وفاعل ولكم متعلق بأنشأنا وبه متعلقان بأنشأنا أيضا أو بمحذوف حال فتكون الباء للملابسة وجنات مفعول به ومن نخيل صفة لجنات وأعناب عطف على نخيل. (لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) لكم خبر مقدم وفيها حال وفواكه مبتدأ مؤخر وكثيرة صفة ومنها متعلقان بتأكلون، وتأكلون فعل مضارع وفاعل وجملة لكم فيها الآية حال من جنات أو صفة كما هي القاعدة. (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) الواو حرف عطف وشجرة عطف على جنات وجملة تخرج صفة لشجرة ومن طور سيناء جار ومجرور متعلقان بتخرج. (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) الجملة صفة ثانية لشجرة وبالدهن في موضع نصب على الحال أي ملتبسة بالدهن ومصحوبة به، والدهن عصارة كل شيء ذي دسم، وصبغ عطف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ به الخبز أي يغمس فيه للائتدام به، وللآكلين صفة لصبغ.
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) الواو حرف عطف وان حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم وفي الأنعام حال واللام المزحلقة وعبرة اسم ان وجملة نسقيكم تفسيرية لعبرة أو مستأنفة والكاف مفعول به ومما متعلقان بنسقيكم وفي بطونها متعلقان بمحذوف(6/503)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
صلة ما. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) تقدم اعرابها قريبا فجدد به عهدا.
البلاغة:
في قوله تعالى «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» استعارة تصريحية شبه الادام من المائعات بالصبغ ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به بجامع التلون بلونه إذا غمس به.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 22 الى 28]
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26)
فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)(6/504)
الإعراب:
َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)
الواو عاطفة وعليها متعلقان بتحملون والضمير يعود على الإبل التي هي من جملة الانعام ولأنها هي المحمول عليها في العادة وقرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفن البر.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لرد خمس قصص أولاها قصة نوح، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ونوحا مفعول به والى قومه متعلقان بأرسلنا. (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) الفاء حرف عطف وقال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ويا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة واعبدوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وما نافية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وإله مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا وغيره صفة لإله على المحل وقرىء بالجر على اللفظ وهو جائز وجملة مالكم من إله غيره مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة، والهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على مقدر أي أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم وخالقكم ورازقكم. (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) الفاء عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل والذين صفة للملأ وجملة كفروا صلة ومن قومه حال وجملة ما هذا مقول القول وما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة وهذه هي الشبهة الأولى من الشبه الخمس التي ذكروها. (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) جملة يريد صفة وأن وما في حيزها مفعول يريد وعليكم جار ومجرور متعلقان بيتفضل والواو حالية أو استئنافية وشاء الله فعل وفاعل، ومفعول المشيئة محذوف يفهم من مضمون جواب لو أي لو(6/505)
شاء إنزال رسول، واللام واقعة في جواب لو وجملة أنزل ملائكة لا محل لها لأنها جواب شرط جازم وهذه هي الشبهة الثانية.
(ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهتهم الثالثة وما نافية وسمعنا فعل وفاعل وبهذا متعلقان بسمعنا وفي آبائنا في محل نصب حال أي في قصص آبائنا والأولين صفة لآبائنا.
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) جملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهتهم الرابعة وإن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ورجل خبر هو وبه خبر مقدم وجنة أي جنون مبتدأ مؤخر والجملة صفة رجل فتربصوا الفاء الفصيحة أي إن أردتم أن تتبينوا حقيقته فتربصوا، ويجوز أن تكون استئنافية وهذه هي شبهتهم الخامسة، وتربصوا فعل أمر أي انتظروا والواو فاعل وبه متعلقان بتربصوا وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بتربصوا أيضا أي اصبروا عليه واحتملوه الى زمان حتى ينجلي لكم أمره عن مغبته فإن أفاق من جنته وإلا قتلتموه. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) كلام مستأنف مسوق لطلب الانتصاف منهم والانتصار عليهم من ربه بعد أن يئس من إيمانهم، ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وانصرني فعل أمر والفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول به والباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بالباء أي بسبب تكذيبهم إياي فالباء للسببية ويجوز أن تكون للبدل أي انصرني بدل تكذيبهم إياي، كما تقول هذا بذاك أي بدل ذاك ومكانه، والجار والمجرور متعلقان بانصرني. (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) الفاء استئنافية وأوحينا فعل وفاعل واليه متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لوقوعها بعد أوحينا وهو فعل فيه معنى القول دون حروفه واصنع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والفلك مفعول به وبأعيننا(6/506)
حال من الضمير المستكن في اصنع أي بحفظنا وكلاءتنا، ووحينا عطف على أعيننا أي وأمرنا. (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الفاء عاطفة لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صنع الفلك والمراد بالأمر العذاب، وجملة جاء مضاف إليها الظرف وأمرنا فاعل وفار التنور عطف على جاء أمرنا وقد تقدم بحث هذا في سورة هود. فاسلك الفاء رابطة لجواب إذا واسلك فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفيها متعلقان باسلك ومن كل جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لاثنين واثنين مفعول اسلك وقد تقدم اعراب هذا في هود أيضا. (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) وأهلك عطف على اثنين وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل من موجب فهو واجب النصب وجملة سبق صلة وعليه متعلقان بسبق، والقول فاعل ومنهم حال أي بالإهلاك. (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتخاطبني فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به وفي الذين متعلقان بتخاطبني أي بترك إهلاكهم وذلك بعد أن لزمتهم الحجة البالغة، وبعد أن أملى لهم الدهر المتطاول، لم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين، وجملة ظلموا صلة وجملة إنهم مغرقون تعليل للنهي عن المخاطبة بشأنهم وان واسمها وخبرها. (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل وجملة استويت في محل جر بالاضافة إليها وأنت تأكيد للتاء ومن عطف على التاء ومعك ظرف متعلق بمحذوف صلة لمن وعلى الفلك متعلقان باستويت أي اعتدلت عليه.
(فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء رابطة لجواب إذا وقل فعل أمر وأفرده بالأمر إظهارا لفضله واشعارا بأن في دعائه مندوحة عن دعائهم، والحمد مبتدأ ولله خبره والجملة مقول القول وجملة القول(6/507)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والذي صفة لله وجملة نجانا صلة ومن القوم متعلقان بنجانا والظالمين صفة للقوم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 29 الى 36]
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36)
الإعراب:
(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) الواو عاطفة وقل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وأنزلني فعل أمر للدعاء والفاعل مستتر تقديره أنت والنون للوقاية والياء مفعول به ومنزلا اسم مكان(6/508)
أو مصدر مفعول به ثان أو مفعول مطلق ومباركا صفة وأنت الواو حالية وأنت مبتدأ وخير المنزلين خبر. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما ذكر وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إنّ، وإن مخففة من الثقيلة والغالب إهمالها وكنا كان واسمها واللام الفارقة ومبتلين خبر كنا ويجوز أن يكون اسمها ضمير الشأن والجملة خبرها ويجوز أن تكون إن نافية واللام بمعنى إلا. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) ثم حرف عطف للتراخي وأنشأنا فعل وفاعل ومن بعدهم حال وقرنا مفعول به أي قوما وآخرين صفة وهم قوم عاد. (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) الفاء حرف عطف وأرسلنا فعل وفاعل وفيهم متعلق بأرسل ورسولا مفعول به ومنهم صفة. (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) أن مفسرة لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله ثم إن إرسال الرسل هو للتبليغ، ويجوز أن تكون مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر في موضع نصب بنزع الخافض أي بأن اعبدوا والجار والمجرور متعلقان بأرسلنا وما بقي تقدم إعرابه قريبا بنصه فجدد به عهدا. (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) الواو عاطفة وقال الملأ فعل وفاعل، والجملة من كلامهم الباطل معطوفة على كلامه الحق فالعطف هنا لبيان المفارقة، وقد سبق مثل هذا التعبير في سورة الأعراف مجردا من الواو كأنه جواب سؤال مقدر فلم يحتج إليها، ومن قومه حال والذين صفة لقومه وجملة كفروا صلة وما بعدها عطف عليه داخل في حيزها، وأسهب في وصفهم لبيان فداحة ما ارتكبوه من كفران للنعم وجحود للنعم المترادفة عليهم ليورد بعد ذلك على لسانهم شبهتين من شبهات الملاحدة وبنوا عليها انكارهم البعث(6/509)
والطعن في رسالته عليه السلام. (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ما نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة وجملة يأكل صفة ثانية ومما متعلقان بيأكل وجملة تأكلون صلة ولك أن تجعلها مصدرية أي من مأكولكم وكذلك قوله ويشرب مما يشربون، وحذف العائد من الثاني اكتفاء بالعائد الأول وهو منه والجملة كلها مقول القول وهي تتضمن الشبهة الاولى.
(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وإن شرطية وأطعتم فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وبشرا مفعول به ومثلكم صفة وإن واسمها واللام المزحلقة وخاسرون خبرها، وإذن: هذه ليست هي الناصبة للفعل المضارع وانما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف وعوض عنها التنوين كما في يومئذ ولهذا لا يختص دخولها على المضارع بل تدخل على الماضي وعلى الاسم وقد وردت في القرآن كثيرا مثل «إنكم إذن من المقربين» فقد دخلت هنا على الاسم ومن دخولها على الماضي قوله «وإذن لآتيناهم» وهذا تقرير عن شبهتهم الثانية. والجملة جواب القسم لأنه المتقدم حسب القاعدة. (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري الاستبعادي وجملة يعدكم مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه بانكار وقوع ما يدعوهم الى الايمان به واستبعاده. ويعدكم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان وأن واسمها ومخرجون خبرها وإذا ظرف متعلق بمخرجون وجملة متم في محل جر باضافة الظرف إليها وكنتم ترابا وعظاما عطف على إذا متم وأنكم الثانية تأكيد للأولى لما طال الفصل بين اسم ان وهو الكاف وخبرها وهو مخرجون ولما كانت لمجرد التأكيد(6/510)
اللفظي لم تحتج الى الخبر، وهذا أحد أوجه ذكرها النحاة وسنأتي على ذكرها في باب الفوائد لأنها كلها صحيحة وما ذكرناه أسهلها.
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) هيهات اسم فعل ماض بمعنى بعد وسيأتي الكلام عليها مطولا في باب الفوائد والثانية تأكيد لفظي لها واللام زائدة وما اسم موصول فاعل لاسم الفعل وهو هيهات ومحله القريب الجر باللام الزائدة ومحله البعيد الرفع على أنه فاعل هيهات، ويجوز أن تكون ما مصدرية، والمصدر المؤول فاعل هيهات، وسيأتي مزيد من الأوجه في اعراب هذا التركيب في باب الفوائد.
الفوائد:
1- في قوله تعالى «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ» الآية: اختلفت آراء الأئمة النحاة والمفسرين في اعراب هذه الآية وقد ذكرنا في الاعراب ما رأيناه أقرب الى التناول وأدنى الى المنطق وسنورد لك هنا ما قالوه لوجاهته، ولترى ما تختار فقال سيبويه: إن خبر «أن» الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه تقديره «أنكم مخرجون» وهو العامل في الظرف و «أن» الثانية وما في حيزها بدل من الأولى.
وذهب الجرمي والمبرد والفراء: الى أن خبر «أن» الأولى هو مخرجون وهو العامل في «إذا» وكررت الثانية توكيدا لما طال الفصل وهذا هو الوجه الذي اخترناه.
واختار أبو البقاء أن اسم الأولى محذوف أقيم مقام المضاف اليه تقديره: أن إخراجكم، و «إذا» هو الخبر و «أنكم مخرجون» تكرير لأن «أن» وما عملت فيه للتوكيد أو للدلالة على المحذوف.(6/511)
وقيل «أنكم مخرجون» مبتدأ وخبره الظرف مقدما عليه والجملة خبر عن «أنكم» الأولى والتقدير: أيعدكم انكم إخراجكم كائن أو مستقر وقت موتكم، ولا يجوز أن يكون العامل في «إذا» مخرجون لأن ما في حيز «أن» لا يعمل فيما قبلها ولا يعمل فيها «متم» لأنه مضاف اليه، وانكم وما في حيزه في محل نصب أو جر بعد حذف حرف الجر إذ الأصل أيعدكم بأنكم، ويجوز أن لا يقدر حرف جر فيكون في محل نصب فقط نحو وعدت زيدا خيرا.
2- هيهات:
في هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين ونذكر فيما يلي أشهرها وما قرىء به، فالمشهور هيهات بفتح التاء من غير تنوين بني لوقوعه موقع المبني أو لشبه الحرف وبها قرأ العامة وهي لغة الحجازيين، وهيهاتا بالفتح والتنوين، وهيهات بالضم والتنوين، وبالضم من غير تنوين، وهيهات بالكسر والتنوين، وبالكسر من غير تنوين، وهيهات بإسكان التاء، وهيهه بالهاء آخرا ووصلا ووقفا، وأيهات بابدال الهاء همزة مع فتح التاء. فهذه تسع لغات وقد قرىء بهن ولم يتواتر منهن غير الأولى، ويجوز ابدال الهمزة من الهاء الاولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة، وايهان بالنون آخرا وايها بالألف آخرا، ويقع الاسم بعدها مرفوعا بها ارتفاع الفعل بفعله لأنها جارية مجرى الفعل فاقتضت فاعلا كاقتضائه الفعل. قال جرير:
فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات خلّ بالعقيق نواصله
والعقيق واد بالمدينة يقول فيه جرير ويبدع:(6/512)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
ولم أنس يوما بالعقيق تخايلت ... ضحاه وطابت بالعشي أصائله
رزقنا به الصيد العزيز ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله
وقال الزمخشري: «فان قلت ما توعدون هو المستبعد ومن حقه أن يرتفع بهيهات كما ارتفع في قوله: «فهيهات هيهات العقيق وأهله» فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاج في تفسيره: البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نوّن فنزله منزلة المصدر وفيه وجه آخر وهو أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به» وما اخترناه في الاعراب أسهل وأقرب.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 37 الى 43]
إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43)(6/513)
اللغة:
(غُثاءً) : الغثاء: ما يحمله السيل ومثله الجفاء وهو ما تكسر وتهشّم أيضا من المرعى إذا يبس، ويجمع على أغثية كغراب وأغربة وعلى غثيان كغراب وغربان، وقال الزجاج هو البالي من ورق الشجر إذا جرى السيل فخالط زبده، وقيل ما يلقيه السيل والقذر مما لا ينتفع به، ولامه واو لأنه من غثا الوادي يغثو غثوا وكذلك القدر، وأما غثيث نفسه تغثى غثيانا أي خبثت فهو قريب من معناه ولكنه من مادة الياء وقال الزمخشري: «شبههم في دمارهم بالغثاء وهو حميل السيل مما بلي وأسود من بلي العيدان والورق» .
الإعراب:
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير معتقدهم بأن العالم قديم بالطبع ولم يزل كذلك ولم يحدث باحداث محدث والناس كالنبات ينبتون ويعودون بالموت هشيما وهذا كفر صريح وضلال بعيد وسيأتي في باب الفوائد مزيد من معتقد الدهريين. وان نافيه وهي مبتدأ وإلا أداة حصر وحياتنا خبر والدنيا صفة وجملة نموت ونحيا حالية أو مفسرة لما ادعوه من أن حياتهم هي الحياة الدنيا أي يموت بعضنا وينقرض بعضنا الى انقراض العصر، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وبمبعوثين الباء حرف جر زائد ومبعوثين مجرور بالباء لفظا خبر ما محلا. (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) ان نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر ورجل خبر وجملة افترى صفة وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا(6/514)
مفعول به، والواو حرف عطف وما نافية حجازية ونحن اسمها وله متعلقان بمؤمنين ومؤمنين محله القريب مجرور بالباء الزائدة ومحله البعيد خبر ما. (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ورب منادى محذوف منه حرف النداء مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وانصرني فعل أمر معناه الدعاء والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت وبما الباء حرف جر وما موصولة أو مصدرية وكذبوني فعل وفاعل ومفعول به والجملة صلة ما والجار والمجرور متعلقان بانصرني. (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) عما قليل: عن حرف جر وما زائدة وقليل مجرور بعن والجار والمجرور متعلقان بيصبحن أو بنادمين أو بمحذوف تقديره عما قليل ننصر فحذف لدلالة ما قبله وهو رب انصرني، واللام موطئة للقسم ويصبحن فعل مضارع ناقص والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين اسمها وهو مرفوع بثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة ونادمين خبر يصبحن. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وأخذتهم الصيحة فعل ومفعول به وفاعل وبالحق حال من الصيحة، فجعلناهم عطف على فأخذتهم والهاء مفعول به أول وغثاء مفعول به ثان والفاء حرف عطف وبعدا مصدر يذكر بدلا من اللفظ بفعله فهو مفعول مطلق لفعل محذوف واجب الإضمار لأنه بمعنى الدعاء عليهم والأصل بعدوا بعدا وللقوم صفة لبعدا ولا تتعلق به لأنه لا يحفظ حذف هذه اللام ووصول المصدر الى مجرورها البتة ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل. (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) ثم حرف عطف وتراخ وأنشأنا فعل وفاعل ومن بعدهم متعلقان بمحذوف حال وقرونا مفعول به وآخرين صفة. (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ما نافية وتسبق فعل مضارع ومن حرف جر(6/515)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
زائد وأمة مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل تسبق وأجلها مفعول به وما يستأخرون عطف على ما سبق وذكر الضمير بعد تأنيثه لمراعات المعنى لأن أمة بمعنى قوم.
الفوائد:
في شرح النهج لابن أبي حديد: «قال قاضي القضاة: ان أحدا من العقلاء لم يذهب الى نفي الصانع للعالم ولكن قوما من الورّاقين اجتمعوا ووضعوا بينهم مقالة لم يذهب أحد إليها وهي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه ولا إله للعالم ولا صانع له أصلا وإنما هو هكذا ما زال ولا يزال من غير صانع ولا مؤثر، ومن أشهر الذين أخذوا هذه المقالة من العرب ابن الراوندي وقد أخذ هذه المقالة ونصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج» قلت: قد ذكر أبو العلاء المعري ابن الراوندي وتاجه هذا في رسالة الغفران ومما قاله: «وأما ابن الراوندي فلم يكن الى المصلحة بمهدي، وأما تاجه فلا يصلح أن يكون فعلا وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة أف وتف وجورب وخف» . وفي هؤلاء يقول أبو العلاء في لزومياته:
ضل الذي قال البلاد قديمة ... بالطبع كانت والأنام كنبتها
وأمامنا يوم تقوم هجوده ... من بعد إبلاء العظام ورفتها
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 44 الى 50]
ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)(6/516)
اللغة:
(تَتْرا) سترد في باب الإعراب.
(رَبْوَةٍ) : الربوة والرباوة: الأرض المرتفعة وفي رائهما الحركات الثلاث وقد اختلف المفسرون في المراد بها فقيل بيت المقدس وقيل دمشق وغوطتها، وعن الحسن فلسطين والرملة.
(مَعِينٍ) : اسم مفعول من عان يعين كباع يبيع فهو معين كسبيع فالميم زائدة وأصله معيون كمبيوع وقد دخله الاعلال، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته، فوجه من جعله مفعولا أنه مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه نحو ركبه إذا ضربه بركبته، ووجه من جعله فعيلا أنه نفاع بظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة، وقال الراغب: هو من معن الماء جرى وسمي مجرى الماء معيان، وأمعن الفرس تباعد في عدوه، وأمعن بحقي ذهب به، وفلان معن في حاجته أي سريع.(6/517)
الإعراب:
(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) ثم حرف عطف وتراخ وأرسلنا فعل وفاعل ورسلنا مفعول به وتترى: التاء مبدلة من الواو وأصله وترى وهو مصدر كشبعى ودعوى فألفه للتأنيث وهو منصوب على الحالية أي متتابعين فهو مصدر واقع موقع الحال ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره إرسالا تترى اي متتابعا وفي ألفها ثلاثة أقوال:
1- هي للإلحاق بجعفر كالألف في أرطى ولذلك تؤنث في قول من صرفها.
2- هي بدل من التنوين.
3- هي للتأنيث مثل سكرى ولذلك لا تنون على قول من منع الصرف.
(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) كلما ظرف متضمن معنى الشرط وجملة جاء أمة إما مضاف إليها وإما لا محل لها وقد تقدم تفصيل البحث عن كلما، وأمة مفعول مقدم ورسولها فاعل مؤخر وجملة كذبوه لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) الفاء عاطفة وأتبعنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به أول وبعضا به ثان وجعلناهم عطف على أتبعنا والهاء مفعول به أول وأحاديث مفعول به ثان، والأحاديث تكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون جمعا للأحدوثة التي هي مثل الأضحوكة والألعوبة والأعجوبة وهي مما يتحدث به الناس تزجية للفراغ واجتلابا للسلوى ودفعا للملالة وتعجبا وتلهيا،(6/518)
وفي القاموس «يقال صاروا أحاديث أي انقرضوا» . (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) الفاء استئنافية وبعدا مصدر لفعل محذوف أي بعدوا بعدا وهذا دعاء عليهم ولقوم تقدم القول في هذه اللام قريبا فجدد به عهدا وجملة لا يؤمنون صفة لقوم. (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) ثم حرف عطف وتراخ وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وأخاه عطف عليه وهارون بدل أو عطف بيان وبآياتنا حال أي حال كونهما ملتبسين بآياتنا فالباء للملابسة وسلطان مبين عطف على آياتنا وهي الآيات التي جاء بها وإنما عطف سلطان على آياتنا لما تميزت به تلك الآيات المرهصة من الفضل حتى كأنها ليست منها والا فإن الشيء لا يعطف على نفسه ومن تلك الحجج القاطعة البينة اليد والعصا.
(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) الى فرعون متعلقان بأرسلنا وملئه عطف على فرعون فاستكبروا عطف على أرسلنا وكانوا قوما عالين كان واسمها وخبرها ومعنى عالين متكبرين أو متطاولين على الناس قاهرين لهم بالبغي والظلم، وقد أشار سبحانه الى ذلك في آية أخرى فقال: «وإن فرعون علا في الأرض» . (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) الفاء عاطفة وقالوا فعل وفاعل والضمير يعود على فرعون وملئه والهمزة للاستفهام الانكاري ونؤمن فعل مضارع ولبشرين متعلقان بنؤمن، والبشر يقع على الواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ومثلنا صفة وهي كغير في انه يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: «إنكم إذن مثلهم» وقال:
«ومن الأرض مثلهن» ويقال أيضا هما مثلاه وهم أمثاله. وقومهما الواو للحال وقومهما مبتدأ ولنا متعلقان بعابدون وعابدون خبر قومهما.
(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) الفاء عاطفة وكذبوهما فعل وفاعل ومفعول به فكانوا عطف على كذبوهما وكان واسمها ومن المهلكين(6/519)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
خبرها. (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان ولعل واسمها والضمير يعود الى قوم موسى لأن فرعون وقومه كانوا قد بادوا غرقا. (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) الواو عاطفة وجعلنا فعل وفاعل وابن مريم مفعول به أول وأمه عطف على ابن مريم وآية مفعول به ثان ولم يقل آيتين لأن الآية فيهما واحدة وهي الولادة من غير أب ولو قال آيتين لساغ لأن مريم ولدت من غير مسيس وعيسى روح الله ألقي إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيي الموتى مع معجزات أخرى فكان آية من غير وجه. (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) وآويناهما عطف على جعلنا أي أسكناهما، والى ربوة متعلقان بآويناهما وقد تقدم القول فيها وذات صفة لربوة وقرار مضاف اليه ومعنى القرار الاستقرار أي جعلناها صالحة للاستقرار فيها بما فيها من مغلّات وطاقات وثمار وماء، ومعين عطف على قرار.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)(6/520)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) يا أيها الرسل تقدم اعرابها والنداء لجميع الأنبياء بحسب تفاوت الأزمنة المترامية بينهم، وكلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن الطيبات متعلقان بكلوا والمراد بالطيبات ما حل وطاب. (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) واعملوا عطف على كلوا وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وجملة إني تعليل للأمر وان واسمها وبما متعلقان بعليم وجملة تعملون صلة وعليم خبر إن. (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للتنبيه على انتظام أمر هذه الأمة وكمال سدادها. وان واسمها وأمتكم خبرها وأمة حال لازمة وواحدة صفة وأنا الواو عاطفة وأنا مبتدأ وربكم خبر، فاتقون الفاء الفصيحة واتقوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لرسم المصحف مفعول به. (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الفاء استئنافية وتقطعوا فعل ماض والواو فاعل، وأمرهم تقدم اعرابها في الأنبياء وأنها إما نصب على إسقاط الخافض أي تفرقوا في أمرهم أو أنها مفعول به، وعدّى تقطعوا اليه لأنه بمعنى قطعوا، وبينهم ظرف متعلق بتقطعوا وزبرا حال من فاعل تقطعوا أي أحزابا متخالفين، والزبر جمع زبرة بمعنى القطعة أو جمع زبور بمعنى فريق ولها جمع آخر تقدم في الكهف وهو زبر بفتح الباء، وكل مبتدأ وحزب مضاف اليه وبما متعلقان بفرحون ولديهم ظرف متعلق بمحذوف صلة وفرحون خبر كل حزب. (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) الفاء الفصيحة وذرهم فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والضمير(6/521)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
لكفار مكة وفي غمرتهم حال أي متخبطين في غمرتهم أو مفعول ثان لذر أي اتركهم متخبطين في غمرتهم، وحتى حرف غاية وجر وحين مجرور بحتى والجار والمجرور متعلقان بذرهم. (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التقريعي ويحسبون فعل مضارع وفاعل وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي يحسبون وأن وما اسمها وكان من حقها أن تكتب مفصولة ولكنها كتبت موصولة اتباعا لرسم المصحف وجملة نمدهم صلة وبه متعلقان بنمدهم ومن مال وبنين حال من الموصول. (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) الجملة خبر أن، نسارع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنسارع وفي الخيرات حال، بل حرف إضراب انتقالي عن الحسبان ولا نافية ويشعرون فعل وفاعل معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلا كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور يتيح لهم التأمل فيعرفون أن ذلك الإمداد ما هو إلا استدراج لهم واستجرار الى زيادة الإثم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 63]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63)(6/522)
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) الجملة ابتدائية مستأنفة مسوقة لذكر الأبرار الذين يشفقون من خشية ربهم، وان واسمها وهم مبتدأ ومن خشية ربهم متعلقان بمشفقون ومشفقون خبر هم والمصدر وهو خشية مضاف لمفعوله أي خائفون من عذابه وجملة هم من خشية ربهم مشفقون صلة الذين. وفي الإشفاق معنى يتضمن زيادة على معنى الخشية، هو معنى الرقة والضعف.
(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) عطف على الجملة السابقة وإعرابها مماثل لها وجملة يؤمنون خبرهم. (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) عطف أيضا على إن الذين وجملة يؤتون صلة الذين وما مفعول يؤتون وجملة آتوا صلة وقلوبهم الواو حالية وقلوبهم مبتدأ ووجلة خبره وأنهم أن وما بعدها نصب بنزع الخافض ويكون تعليلا لقوله وجلة والتقدير وجلة من أنهم أي خائفة من رجوعهم الى ربهم وأن واسمها والى ربهم متعلقان براجعون وراجعون خبر أنهم. (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) الجملة خبر إن الذين هم من خشية ربهم وما عطف عليه، فاسم إن أربعة موصولات وخبرها جملة أولئك، وأولئك مبتدأ وجملة يسارعون خبر المبتدأ وفي الخيرات متعلقان بيسارعون والواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها بمثابة تأكيد لها وهم مبتدأ ولها متعلقان بسابقون وسابقون خبرهم والضمير في لها يعود على الخيرات لتقدمها عليه في اللفظ وهو الظاهر من سياق الكلام وقيل على الجنة وليس ببعيد، ومفعول سابقون محذوف أي سابقون الناس لها ويقال سبق له واليه ويجوز أن تكون اللام للتعليل أي سابقون لأجلها. (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا(6/523)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
وُسْعَها)
الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على أن التكليف غير خارج عن حدود الطاقات والامكانيات، ولا نافية ونكلف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ونفسا مفعول نكلف الأول وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان. (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) الواو عاطفة ولدينا ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر وجملة ينطق صفة وبالحق حال أي ملتبسا بالحق وهم الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يظلمون خبر. (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) بل حرف إضراب للانتقال الى أحوال الكفار المحكية وقلوبهم مبتدأ وفي غمرة خبر ومن هذا صفة لغمرة أي كائنة من هذا الذي وصف به المؤمنون. (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) الواو عاطفة ولهم خبر مقدم وأعمال مبتدأ مؤخر ومن دون ذلك صفة لأعمال وجملة هم صفة ثانية لأعمال وهم مبتدأ ولها جار ومجرور متعلقان بعاملون، وعاملون خبر هم أي مستمرون عليها ومعنى من دون ذلك أي متجاوزة متخطية لما وصف به المؤمنون.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 64 الى 70]
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)(6/524)
اللغة:
(مُتْرَفِيهِمْ) : أغنياءهم ورؤساءهم.
(يَجْأَرُونَ) : يضجون وفي القاموس: جأر كمنع جأرا وجؤارا رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، والبقرة والثور صاحا، والنبات طال، والأرض طال نبتها، والجؤار من النبت الغض والكثير والرجل الضخم» وقال في اللسان والأساس: الجؤار الصراخ باستغاثة.
(تَنْكِصُونَ) : في المختار ما يدل على انه من بابي جلس ودخل والمصدر نكوص.
(سامِراً) : السامر مأخوذ من السمر وهو سهر الليل وقال الراغب: السامر الليل المظلم وهو اسم جمع كحاج وحاضر وراكب وغائب كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا، وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(تَهْجُرُونَ) : هو بفتح التاء من الهجران وهو الترك أو من هجر هجرا هذى وتكلم بغير معقول لمرض أو نحوه، وقرىء بضمها من أهجر إهجارا: أفحش في كلامه.
الإعراب:
(حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) حتى هنا ابتدائية يبتدأ بها الكلام وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه(6/525)
منصوب بجوابه وهو يجأرون وجملة أخذنا في محل جر بإضافة الظرف إليها ونا فاعل ومترفيهم مفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذنا وإذا الثانية حرف مفاجأة قائمة مقام فاء الجزاء في الربط والجملة بعدها جواب إذا الأولى لا محل لها كأنه قيل فهم يجأرون وقيل حتى حرف غاية وجر.
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لا ناهية وتجأروا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل واليوم متعلق بتجأروا وإنكم تعليل للنهي وإن واسمها ومنا متعلقان بتنصرون ولا نافية وجملة تنصرون خبر إنكم والواو نائب فاعل. (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) قد حرف تحقيق وكانت آياتي كان واسمها وجملة تتلى خبرها وعليكم متعلقان بتتلى، فكنتم الفاء عاطفة وكان واسمها وعلى أعقابكم حال من فاعل تنكصون وجملة تنكصون خبر كنتم.
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) مستكبرين حال ثانية من فاعل تنكصون وبه متعلقان بمستكبرين أي بسببه والضمير في به للبيت العتيق والحرم وقيل عائد الى القرآن، وسامرا حال ثالثة وجملة تهجرون حال رابعة فهي أحوال متداخلة أي كل واحدة مما قبلها. (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان أسباب ركوبهم متن الضلالة، وسيأتي أنها خمسة سنشير إليها في مواطنها، والهمزة للاستفهام الانكاري التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويدبروا فعل مضارع مجزوم بلم والقول مفعول به والفاء عاطفة على محذوف دخلت عليه الهمزة أي فعلوا ما فعلوا مما سبق ذكره فلم يدبروا القول، وأم عاطفة بمعنى بل الانتقالية أي بل أجاءهم بل ألم يعرفوا بل أيقولون، وقوله أفلم يدبروا القول هو السبب الأول لإقدامهم على الضلالة واجترائهم على ارتكابها أي أنهم صدفوا عن التأمل في دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتها القرآن المعجز،(6/526)
وجاءهم فعل ومفعول به ثان وما موصول فاعل وجملة لم يأت آباءهم الأولين صلة وهذا هو السبب الثاني وهو اعتقادهم أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أمر غريب لأنها لم تسمع عن الأمم السالفة.
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) عطف على ما تقدم كما ذكرنا وهذا هو السبب الثالث في إقدامهم على ركوب الغي وهو عدم علمهم بأمانة مدعي الرسالة وصدقه قبل أن يدعيها وليس الأمر بهذه المثابة بل أنهم سبروا غوره وعلموا حقيقته واكتنهوا صدقه ولقبوه بالأمين فكيف كذبوه بعد أن أجمعوا على جدارته باللقب الذي أطلقوه عليه. والفاء عاطفة وهم مبتدأ وله متعلقان بمنكرون ومنكرون خبرهم.
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) عطف على ما تقدم أيضا وهذا هو السبب الرابع وهو اعتقادهم فيه الجنون وهذا الاعتقاد مناقض لما كانوا يعتقدون فيه من كمال الرجاحة وتمام الحصافة. وبه خبر مقدم وجنة أي جنون مبتدأ مؤخر بل حرف عطف وإضراب انتقالي، وجاءهم فعل ومفعول به وفاعل مستتر وبالحق متعلقان بجاءهم أو بمحذوف حال أي ملتبسا بالحق والواو حالية وأكثرهم مبتدأ وللحق متعلقان بكارهون وكارهون خبر أكثرهم.
الفوائد:
معنى وأكثرهم:
اعترض الزمخشري على نفسه فوجه إليها سؤالا وأجاب عليه وفيما يلي نص السؤال والجواب قال: «فإن قلت: قوله «وأكثرهم» فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق، قلت: كان فيهم من يترك الايمان(6/527)
به أنفة واستنكافا من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه لا كراهة للحق كما يحكى عن أبي طالب.
فإن قلت يزعم بعض الناس أن أبا طالب صح إسلامه قلت:
يا سبحان الله كأن أبا طالب كان أخمل أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يشتهر اسلام حمزة والعباس ويخفى إسلامه» .
وهذا جميل من الزمخشري ولكن أولى من ذلك أن يكون الضمير في قوله «وأكثرهم» عائدا على الجنس للناس كافة ولما ذكر هذه الطائفة من الجنس بنى الكلام في قوله وأكثرهم على الجنس بجملته كقوله:
«إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» وكقوله: «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين» ويدل على ذلك قوله تعالى «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ» والنبي صلى الله عليه وسلم جاء الى الناس كلهم وبعث الى الكافة ويحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي، وأما قول الزمخشري إن من تمادى على الكفر وآثر البقاء عليه تقليدا لآبائه ليس كارها للحق فمردود فإن من أحب شيئا كره ضده فإذا أحبوا البقاء على الكفر فقد كرهوا الانتقال عنه الى الايمان ضرورة، ثم انجر الكلام الى استبعاد ايمان أبي طالب وتحقيق القول فيه أنه مات على الكفر ووجه ذلك بأنه أشهر عمومة النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان قد أسلم لاشتهر إسلامه كما اشتهر اسلام العباس وحمزة لأنه أشهر، وللقائل بإسلامه أن يعتذر عن عدم شهرته بأنه إنما أسلم قبيل الاحتضار فلم يظهر له مواقف في الإسلام يشتهر بها كما اشتهر لغيره من عمومته.(6/528)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 71 الى 76]
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76)
اللغة:
(خَرْجاً) : أجرا وخراجا ويغلب في الخرج أن يكون مال العنق وفي الخراج مال العقار ونقيض الدخل وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه، والوجه أن الخرج أخص من الخراج، ومعنى الآية: أم تسألهم عن هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير.
(ناكبون) عادلون وزائفون ومائلون وكل من لا يؤمن بالآخرة فهو عن القصد ناكب.
(لجوا) : اللجاج وهو التمادي في العناد، وفي المصباح: لجّ في الأمر لججا من باب تعب ولجاجا ولجاجة فهو لجوج ولجوجة مبالغة إذا لازم الشيء وواظبه ومن باب ضرب لغة.(6/529)
(يَعْمَهُونَ) : في المصباح: «عمه في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردّد متحيرا، وتعامه مأخوذ من قولهم أرض عمهاء إذا لم يكن فيها أمارات تدل على النجاة فهو عمه وأعمه.
(اسْتَكانُوا) : يقال: استكان أي انتقل من كون الى كون كاستحال إذا انتقل من حال الى حال وأصله استكون نقلت حركة الواو الى ما قبلها ثم قلبت ألفا، هذا ما قاله علماء اللغة ولكن اعترض بعضهم على هذا التنظير وحجته أن استكان على تأويله أحد أقسام استفعل الذي معناه التحول كقولهم استحجر الطين واستنوق الجمل، وأما استحال فثلاثيه حال إذا انتقل من حال الى حال وإذا كان الثلاثي يفيد التحول لم يبق لصيغة استفعل فيها أثر فليس استحال من استفعل للتحول ولكنه من استفعل بمعنى فعل وهو أحد أقسامه إذا لم يزد السداسي فيه على الثلاثي معنى.
ثم نعود الى تأويله فنقول: المعنى عليه فما انتقلوا من كون التكبر والتجبر والاعتياض الى كون الخضوع والضراعة الى الله تعالى، ولقائل أن يقول: استكان يفيد على التأويل المذكور الانتقال من كون الى كون فليس حمله على أنه انتقال عن التكبر الى الخضوع بأولى، وترى هذه الصيغة لا تفهم إلا أحد الانتقالين، فلو كانت مشتقة من مطلق الكون لكانت مجملة محتملة للانتقالين جميعا والجواب أن أصلها كذلك على الإطلاق ولكن غلب العرف على استعمالها في الانتقال الخاص كما غلب في غيرها.
ولما دخل أحمد بن فارس اللغوي الوزير بغداد في زمن الامام الناصر جمع له جميع علماء بغداد وعقد بهم محفلا للمناظرة فانجر(6/530)
الكلام الى هذه الآية فقال: الأصل اللغوي هو مشتق من قول العرب:
كنت لك إذا خضعت، وهي لغة هذلية فاستحسن ابن فارس ذلك منه، وعلى هذا يكون من استفعل بمعنى فعل كقولهم استقر واستعلى وحال واستحال على ما مر وانما لم يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استحسر واستعصم من حسر وعصم لأن المعنى يأباه وذلك أنها جاءت في النفي والمقصود منها ذم هؤلاء بالجفوة والقسوة وعدم الخضوع مع ما يوجب نهاية الضراعة من أخذهم بالعذاب، فلو جعلت للمبالغة أفادت نقص المبالغة لأن نفي الأبلغ أدنى من نفي الأدنى وكأنهم على ذلك ذموا بنفي الخضوع الكثير وأنهم ما بلغوا في الضراعة نهايتها وليس الواقع فانهم ما اتسموا بالضراعة ولا بلحظة منها فكيف تنفى عنهم النهاية الموهمة لحصول البداية؟
ووزن استفعل على ضربين متعد وغير متعد فالمتعدي قولهم استحقه واستقبحه وغير المتعدي استقدم واستأخر ويكون فعل منه متعديا وغير متعد فالمتعدي نحو علم واستعلم وفهم واستفهم وغير المتعدي نحو قبح واستقبح وحسن واستحسن، وله معان أحدها الطلب والاستدعاء كقولك استعطيت أي طلبت العطية واستعتبته أي طلبت اليه العتبى ومنه استفهمت واستخبرت، والثاني أن يكون للاصابة كقولك استجدته واستكرمته أي وجدته جيدا وكريما، وقد يكون بمعنى الانتقال والتحول من حال الى حال نحو قولهم استنوق الجمل إذا صار على خلق الناقة واستتيست الشاة إذا أشبهت التيس ومنه استحجر الطين إذا تحول الى طبع الحجر في الصلابة، وقد يكون بمعنى تفعل لتكلف الشيء وتعاطيه نحو استعظم بمعنى تعظم واستكبر بمعنى تكبر كقولهم تشجّع وتجلّد وربا عاقب فعل قالوا: قرّ في المكان واستقرّ وعلا(6/531)
قرنه واستعلاه، قال الله تعالى: «وإذا رأوا آية يستسخرون» والغالب على هذا البناء الطلب والإصابة وما عدا ذينك فانه يحفظ حفظا ولا يقاس عليه.
الإعراب:
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) الواو استئنافية ولو شرطية واتبع الحق فعل وفاعل وأهواءهم مفعول به واللام واقعة في جواب الشرط وفسدت السموات والأرض فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ومن عطف على السموات والأرض وفيهن متعلقان بمحذوف صلة من. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)
بل حرف إضراب انتقالي وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به وبذكرهم متعلقان بآتيناهم، والمعنى كيف يكرهون الحق مع أن القرآن أتاهم بتشريفهم والتنويه بذكرهم. والفاء عاطفة وهم مبتدأ وعن ذكرهم متعلقان بمعرضون ومعرضون خبر هم.
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) عطف انتقالي على «أم به جنة» وهو السبب الخامس من أسباب ركوبهم متن الضلالة العمياء وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به أول وخرجا مفعول به ثان والفاء تعليلية أو فصيحة وردت مورد التعليل للسؤال المستفاد من الإنكار، وخراج مبتدأ وربك مضاف اليه وخير خبر، وهو الواو حرف عطف وهو مبتدأ وخير الرازقين خبر.
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الواو حرف عطف وان واسمها واللام المزحلقة وتدعوهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والى صراط متعلقان بتدعوهم ومستقيم صفة. (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(6/532)
بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ)
الواو عاطفة وان واسمها وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وعن الصراط متعلقان بناكبون واللام المزحلقة وناكبون خبر إن. (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الواو استئنافية مسوقة لبيان أصابتهم بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة بالقحط حتى روي أنهم أكلوا العلهز وهو كما في الصحاح طعام كانوا يتخذونه من الدم ووبر البعير في سني المجاعة وسيأتي تفصيل هذه الحادثة في باب الفوائد. ولو شرطية ورحمناهم فعل وفاعل ومفعول به وكشفنا عطف على رحمناهم وما مفعول به وبهم متعلقان بمحذوف صلة ما ومن ضر حال، للجّوا اللام رابطة لجواب لو وجملة لجوا لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وفي طغيانهم متعلقان بيعمهون وجملة يعمهون حالية. (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأخذناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالعذاب متعلقان بأخذناهم، فما استكانوا عطف على أخذناهم وما نافية واستكانوا فعل وفاعل ولربهم متعلقان باستكانوا، والواو حرف عطف وما نافية ويتضرعون فعل مضارع وفاعل وسيأتي سر عطف المضارع على الماضي في باب البلاغة.
البلاغة:
عطف المضارع على الماضي لإفادة الماضي وجود الفعل وتحققه، وهو بالاستكانة أحق بخلاف التضرع فإنه أخبر عنهم بنفي ذلك في الاستقبال.(6/533)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
الفوائد:
قوله تعالى: «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ» الآية والآية التي تليها، هاتان الآيتان مدنيتان فإن أصابتهم بالقحط إنما كانت بعد خروجه صلى الله عليه وسلم من بينهم، روى التاريخ أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز- وقد قدمنا تفسيره- جاء أبو سفيان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال بلى، فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت الآية.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 77 الى 83]
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)(6/534)
اللغة:
(مُبْلِسُونَ) : في المصباح: «البلاس مثل سلام هو المسح، وهو فارسي معرب والجمع بلس بضمتين مثل عناق عنق، وأبلس الرجل ابلاسا سكت، وأبلس أيس، وفي التنزيل فإذا هم مبلسون» .
(ذَرَأَكُمْ) : خلقكم وبثكم بالتناسل.
الإعراب:
(حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) حتى حرف تبتدأ به الجمل وقد تقدم نظيره قريبا وقيل هي غاية وجر، إذا شرطية ظرفية متعلقة بمبلسون وجملة فتحنا في محل جر باضافة الظرف إليها وعليهم متعلقان بفتحنا وبابا مفعول به وذا عذاب صفة لبابا وإذا الثانية حرف مفاجأة قائمة مقام فاء الجزاء في الربط والجملة بعدها جواب إذا الأولى كأنه قيل فهم فيه مبلسون، وهم مبتدأ وفيه متعلقان بمبلسون، ومبلسون خبر هم. (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقريع الكافرين وتذكير المؤمنين فهو خطاب عام، وهو مبتدأ والذي خبر وجملة أنشأ صلة ولكم متعلقان بأنشأ والسمع مفعول به والأبصار والأفئدة عطف عليه وقليلا منصوب على أنه مفعول مطلق صفة لمحذوف هو المفعول المطلق في الحقيقة تقديره شكرا قليلا وما زائدة للتوكيد بمعنى حقا وإنما خص هذه الأعضاء لأنه يناط بها من المنافع مالا يناط بغيرها، هذا من جهة ومن جهة ثانية من لم يعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها، وسيأتي مزيد بسط في هذا الصدد في باب البلاغة. (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(6/535)
عطف على ما تقدم وإعرابه ظاهر. (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) وهو الذي عطف على ما تقدم وله خبر مقدم واختلاف الليل والنهار مبتدأ مؤخر والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف مقدر ولا نافية وتعقلون فعل مضارع وفاعل. (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) بل حرف إضراب انتقالي وقالوا فعل وفاعل ومثل صفة لمصدر محذوف أي قولا مثل قول الأولين وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف لمثل والأولون فاعل. (قالُوا: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) الجملة بدل من الجملة قبلها أي مستأنفة، والهمزة للاستفهام الاستبعادي وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة متنا في محل جر باضافة إذا إليها وكنا عطف على متنا وكان واسمها وترابا خبرها وعظاما عطف على ترابا والهمزة للاستفهام الاستبعادي أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبرها. (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) اللام جواب للقسم المحذوف ووعد فعل ماض مبني للمجهول ونا نائب فاعل ونحن تأكيد للضمير وآباؤنا معطوف على الضمير المتصل وسوغ العطف الفصل بالمنفصل ومن قبل متعلقان بوعدنا أو بمحذوف صفة لقوله آباؤنا أي الكائنون من قبل والمعنى على الجميع لقد وعدنا وآباؤنا بالبعث فلم نر هذا الوعد صدقا وانما رأيناه أساطير الأولين.
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وأساطير الأولين خبر هذا.
البلاغة:
1- وحد السمع في قوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» لوحدة المسموع دون الابصار والأفئدة أو لأنه(6/536)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
مصدر في الأصل والمصادر لا تجمع فلمح الى الأصل وقد تقدمت الاشارة الى ذلك في البقرة فجدد به عهدا.
2- في قوله «بل قالوا مثل ما قال الأولون» الفصل أي قطع احدى الجملتين عن الأخرى للاتحاد فقد فصل: قالوا أئذا متنا وكنا ترابا إلخ غما قبله لقصد البدل لكونه أوفى بالمقصود من لأول لأن ما قال الأولون أقوال كثيرة ولا يدرى أي قول يراد من تلك الأقوال والأحسن أن يقال إن أريد بقوله مثل ما قال الأولون ما نقل عنهم من قولهم أئذا متنا إلخ وهو الظاهر كان بدل كل من كل.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 84 الى 96]
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93)
رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96)(6/537)
الإعراب:
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والجملة استئنافية، ولمن خبر مقدم ومن استفهامية والأرض مبتدأ مؤخر ومن عطف على الأرض ومن موصولية وعبر عنهم بمن تغليبا للعقلاء كما تقرر وفيها متعلقان بمحذوف صلة من وان شرطية وكنتم تعلمون كان واسمها وجملة تعلمون خبرها وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف أي فأخبروني بخالقهما، وفي هذا تلويح بغباوتهم.
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الجملة مستأنفة مسوقة للاخبار من الله تعالى عما يقع منهم في الجواب قبل وقوعه ولله متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف تقديره هي، والجملة مقول القول، قل فعل أمر والمراد بالأمر التوبيخ والتأنيب والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف ولا نافية وتذكرون فعل مضارع بحذف إحدى التاءين والأصل تتذكرون. (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) من اسم استفهام مبتدأ ورب السموات السبع خبره(6/538)
ورب العرش العظيم عطف عليه. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) لله خبر لمبتدأ محذوف أي لا بد لهم أن يقولوا ذلك وأتى باللام نظرا الى معنى السؤال، فإن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد كقولك من رب هذه الدار فيقال زيد ويقال لزيد. (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) من اسم استفهام مبتدأ ويده خبر مقدم وملكوت كل شيء مبتدأ مؤخر والجملة خبر من والتاء والواو في ملكوت زائدتان للمبالغة كزيادتهما في الرحموت والرهبوت من الرحمة والرهبة، والملكوت الملك العظيم والعز والسلطان، والملكوت السماوي هو محل القديسين في السماء، والواو عاطفة أو حالية وهو مبتدأ وجملة يجير خبر والواو عاطفة وجملة لا يجار عطف على يجير والمعنى يغيث من يشاء ويحرسه ولا يغاث أحد منه وعدي بعلى لتضمنه معنى النصر.
(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن شرطية وكنتم فعل الشرط والجواب محذوف كما تقدم أي فأخبروني. (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) لله جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وفيه نظر الى أن المعنى من له ما ذكر والتقدير في الأولى قل من له السموات السبع وفي الثاني قل من له ملكوت كل شيء فلام الجر مقدرة في السؤال فظهرت في الجواب نظرا للمعنى وقد قرىء بإسقاطها مع رفع الجلالة جوابا على اللفظ لقوله من لأن المسئول به مرفوع المحل وهو من فجاء جوابه مرفوعا مطابقا له في اللفظ. فأنى الفاء الفصيحة وأنى اسم استفهام بمعنى كيف وهي في محل نصب على الحال وتسحرون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)
بل حرف إضراب وعطف وأتيناهم فعل وفاعل ومفعول به وبالحق حال والواو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وكاذبون خبر إن.(6/539)
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) ما نافية واتخذ الله فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وولد مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به والواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم ومن حرف جر زائد وإله مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه اسم كان. (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) إذن حرف جواب وجزاء مهمل والى هذا ذهب الفراء وقد تقدم القول فيه في الاسراء واليه جنح الزمخشري قال: «فإن قلت إذن لا تدخل إلا على كلام هو جواب وجزاء فكيف وقع قوله: إذن لذهب جوابا وجزاء ولم يتقدم شرط ولا سؤال سائل؟ قلت: الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة فحذف لدلالة: وما كان معه من إله» واختار غير الفراء والزمخشري أن تكون إذن بمعنى لو الامتناعية وعليه جرى البيضاوي قال: «أي لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ووقع بينهم التحارب والتغالب كما هو حال ملوك الدنيا فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء واللازم باطل بالإجماع والاستقراء وقيام البرهان على استناد جميع الكائنات الى واجب واحد» واللام واقعة في جواب الشرط على كلا القولين، وذهب كل إله فعل وفاعل والجملة لا محل لها وبما خلق متعلقان بذهب وجملة خلق صلة ولعلا بعضهم على بعض عطف على ما تقدم. (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) سبحان الله نصب على المصدر وعما متعلقان بسبحان وجملة يصفون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي عن وصفهم. (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عالم الغيب بالجر على البدلية من الجلالة أو صفة له وقرىء بالرفع على القطع فهو خبر لمبتدأ محذوف، فتعالى الفاء عاطفة كأنه قال علم الغيب فتعالى،(6/540)
وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة. (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإما أدغمت إن الشرطية بما الزائدة وتريني فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به وما مفعول به ثان فهي بصرية تعدت لمفعولين بواسطة الهمزة لأنه من أرى الرباعي وجملة يوعدون صلة ما والعائد محذوف أي يوعدون به من العذاب (رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) هذا جواب الشرط والفاء رابطة وأعيد لفظ رب منادى مبالغة في التضرع والابتهال ولا ناهية وتجعلني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء مفعول به أول وفي القوم مفعول به ثان والظالمين صفة.
(وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) الواو عاطفة على ما تقدم وان واسمها وعلى أن نريك متعلقان بقادرون وأن حرف مصدري ونصب ونرى مضارع منصوب بأن والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به أول وما مفعول به ثان وقد تقدم القول في أرى البصرية، واللام المزحلقة وهي لام الابتداء زحلقت الى الخبر وقادرون خبر إنا.
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) كلام مستأنف مسوق لحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصفح عن مساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان. وادفع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبالتي جار ومجرور متعلقان بادفع والتي نعت لمحذوف أي الخصلة، وهي أحسن مبتدأ وخبر والجملة الاسمية صلة التي، والسيئة مفعول به وجملة نحن أعلم حالية ونحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يصفون صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بوصفهم لك وسوء ذكرهم.(6/541)
البلاغة:
في قوله تعالى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ» عدول عن مقتضى السياق لسرّ بليغ فالظاهر أن يقول ادفع بالحسنة السيئة ولكنه عدل عن مقتضى الكلام لما فيه من التفصيل، والمعنى: ادفع السيئة بما أمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، ولمعترض أن يقول كيف تسوغ هذه المفاضلة التي هي اشتراك في أمر والتميز بغيره وليس ثمة أي اشتراك بين الحسنة والسيئة فانهما ضدان متقابلان فما وجه هذه المفاضلة اذن؟
والجواب: ان الحسنة من باب الحسنات أزيد من السيئة من باب السيئات فتجيء المفاضلة مما هو أعم من كون هذه حسنة وهذه سبئة وذلك شأن كل مفاضلة بين ضدين كقولك العسل أحلى من الخل يعني أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة وليس لأن بينهما اشتراكا خاصا، ومن هذا الوادي ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا بمعنى أنهما استويا في بلوغ كل منهما الغاية: أشعب بلغ الغاية على السفلة والأعمش بلغ الغاية على العلية.
هذا ويجوز أن يراد وجه آخر وهو أن تكون المفاضلة بين الحسنات التي تدفع بها السيئة فانها قد تدفع بالصفح والإغضاء ويقنع في دفعها بذلك وقد يزاد على الصفح الإكرام وقد تبلغ غايته ببذل الاستطاعة فهذه الأنواع من الدفع كلها دفع بحسنة ولكن أحسن هذه الحسنات في الدفع هي الأخيرة لاشتمالها على عدد من الحسنات، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأحسن الحسنات في دفع السيئة وعندئذ تجري المفاضلة على حقيقتها من غير تأويل.(6/542)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 97 الى 104]
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104)
اللغة:
(هَمَزاتِ) : جمع همزة وهي النخسة والدفعة بيد وغيرها وفي الأساس واللسان: «همز رأسه عصره وهمز الجوزة بكفه، ومن المجاز: همز الرجل في قفاه: غمز بعينه ورجل همزة وهمّاز والشيطان يهمز الإنسان: يهمس في قلبه وسواسا ويقال: أعوذ بالله من همسه وهمزه ولمزه و «أعوذ بك من همزات الشياطين» وفي المختار: «وهمزات الشيطان: خطراته التي يخطرها بقلب الإنسان» قلت: وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض، شبّه حثهم الناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على المشي والجمع للمرّات أو لتنوع الوساوس.(6/543)
(بَرْزَخٌ) : حاجز يصدهم عن الرجوع الى الدنيا، والبرزخ هو الحاجز بين المتنافيين، وقيل الحجاب بين الشيئين أن يصل أحدهما الى الآخر، وقال الراغب: أصله برزه فعرّب وهو في القيامة الحائل بين الإنسان وبين المنازل الرفيعة، والبرزخ قيل هو الحائل بين الإنسان وبين الرجعة التي يتمناها.
(تَلْفَحُ) اللفح أشد النفح لأنه الإصابة بشدة والنفح الاصابة مطلقا كما في قوله تعالى: «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ» وفي القاموس لفح يلفح من باب فتح فلانا بالسيف ضربه به، ولفحت النار لفحا ولفحانا أو السموم بحرها فلانا أصابت وجهه وأحرقته.
(كالِحُونَ) : الكلوح أن تتقلص الشفتان وتتشمرا عن الأسنان كما ترى الرؤوس المشوية، وعن مالك بن دينار: كان سبب نوبة عتبة الغلام أنه مرّ في السوق برأس قد أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته» وفي المختار: «الكلوح تكشّر في عبوس وبابه خضع» قلت: ومنه كلوح الأسد أي تكشيره عن أنيابه ودهر كالح وبرد كالح أي شديد.
الإعراب:
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ولك أن تعطفها على ما تقدم ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وأعوذ فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا، وبك(6/544)
متعلقان بأعوذ وكذلك قوله من همزات الشياطين. (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) عطف على ما تقدم وأعيد كل من العامل والنداء مبالغة وزيادة اعتناء بهذه الاستعاذة، وأن حرف مصدري ونصب ويحضرون منصوب بأن وعلامة نصبه حذف النون والنون للوقاية والواو فاعل وياء المتكلم المحذوفة في محل نصب مفعول به. (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) يجوز أن تكون غاية ليصفون متعلقة بها أي لا يزالون على سوء الذكر الى هذا الوقت، ويجوز أن تكون ابتدائية، وإذا ظرف مستقبل متعلق بقال وجملة جاء مضاف إليها الظرف وأحدهم مفعول به مقدم والموت فاعل مؤخر وجملة قال لا محل لها ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وارجعون فعل أمر مبني على حذف النون وواو الجماعة فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لرسم المصحف مفعول به وإنما جمع والمخاطب واحد وهو الله تعالى للتعظيم وقال أبو البقاء: «فيه ثلاثة أوجه أحدها انه جمع على التعظيم كما قال تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر» وكقوله تعالى:
«ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا» والثاني أنه أراد يا ملائكة ربي ارجعون والثالث أنه دل بلفظ الجمع على تكرير القول فكأنه قال ارجعني ارجعني» وما ذكرناه أولى ولعل واسمها وجمل اعمل خبرها وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وفيما صفة لصالحا أو متعلقان باعمل وجملة تركت صلة أي ضيعت من عمري من دون جدوى أو فائدة. (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) كلا حرف ردع وزجر وسيأتي القول فيها مفصلا أي لن تكون له رجعة وإن واسمها وكلمة خبرها وسيأتي بحث مفيد عن الكلمة في باب الفوائد وهو مبتدأ وقائلها خبر والجملة الاسمية صفة لكلمة والواو إما عاطفة وإما حالية ومن ورائهم خبر مقدم وبرزخ مبتدأ والى يوم صفة(6/545)
لبرزخ وجملة يبعثون مضاف إليها الظرف، وليس المراد انهم يرجعون يوم البعث ولكنه اقناط كلي عن الرجوع الى الدنيا فليست الغاية داخلة في المغيا وانما المراد أنه غيا رجوعهم بالمحال فهو يشبه قوله تعالى:
«حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ» .
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل متعلق بما في الجواب من معنى النفي أي انتفى ذلك، وجملة نفخ مضاف إليها الظرف وفي الصور متعلقان بنفخ والفاء رابطة لجواب إذ ولا نافية للجنس وأنساب اسمها مبني على الفتح وبينهم ظرف متعلق بمحذوف خبرها ويومئذ ظرف متعلق بمحذوف صفة لأنساب أو بالمحذوف الذي تعلق به الخبر والتنوين في يومئذ عوض عن جملة تقديرها يوم نفخ الصور، وسيأتي معنى نفي الأنساب في باب البلاغة، ولا يتساءلون عطف على ما سبق ويتساءلون فعل مضارع وفاعل أي لا يسأل بعضهم بعضا عنها كما سيأتي.
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفاء للتفريع والجملة معطوفة أو مستأنفة ومن شرطية مبتدأ وثقلت فعل الشرط وموازينه فاعل فأولئك الفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والمفلحون خبر أولئك أو خبر هم والجملة خبر أولئك. (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) الجملة معطوفة على سابقتها ومثيلتها وفي جهنم متعلقان بخالدون وخالدون خبر لمبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر لأولئك وارتأى الزمخشري أن يكون بدلا من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن صلة الموصول لا محل لها. (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) الجملة مستأنفة أو خبر ثان أو حال ووجوههم مفعول به(6/546)
مقدم والنار فاعل مؤخر والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وفيها متعلقان بكالحون أو بمحذوف حال من هم وكالحون خبر.
البلاغة:
في قوله تعالى «فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ» فن التنكيت وقد تقدم بحثه فقد قصد بنفي الأنساب وهي موجودة أمرا آخر لنكتة فيه، فإن الأنساب ثابتة لا يصح نفيها وقد كان العرب يتفاخرون بها في الدنيا ولكنه جنح الى نفيها إما لأنها تلغو في الآخرة إذ يقع التقاطع بينهم فيتفرقون معاقبين أو مثابين، أو أنه قصد بالنفي صفة للأنساب محذوفة أي يعتد بها حيث تزول بالمرة وتبطل لزوال التراحم والتعاطف من فرط البهر والكلال واستيلاء الدهشة عليهم.
الفوائد:
تطلق الكلمة في اللغة على الكلام، وهذا الإطلاق اختلف فيه العلماء فذهب السنهوري في شرح الأجرومية وابن هشام في شذور الذهب الى أن الإطلاق حقيقي كائن في أصل اللغة، قال صاحب القاموس «الكلمة وجمعها كلم وكلمات: اللفظة وما ينطق به الإنسان مفردا كان أو مركبا» وقيل إن الإطلاق المذكور من قبيل الاستعارة وان أجزاء الكلام لمّا ارتبط بعضها ببعض حصلت له بذلك وحدة فشابه بذلك الكلمة فأطلق لفظها عليه، والآية صريحة في تأكيد هذا الإطلاق، ونحوها قوله صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكلّ نعيم لا محالة زائل
وقولهم كلمة الشهادة يريدون: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(6/547)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 105 الى 110]
أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
اللغة:
(شِقْوَتُنا) : أحد مصادر شقي، وفي المختار: «الشقاء والشقاوة بالفتح ضد السعادة وقرأ قتادة شقاوتنا بالكسر وهي لغة وقد شقي بالكسر شقاء وشقاوة أيضا وأشقاه الله فهو شقي بيّن الشقوة» وفي القاموس وشرحه «شقي يشقى من باب تعب شقا وشقاوة وشقاوة وشقوة وشقوة ضد سعد فهو شقي والجمع أشقياء» .
(اخْسَؤُا) : ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت وفي الصحاح: «خسأت الكلب وخسأ بنفسه يتعدى ولا يتعدى» وفي المختار: «خسأ الكلب طرده من باب قطع وخسأ هو بنفسه خضع» وللخاء مع السين فاء وعينا خاصة واحدة وهي أن الكلمة تدل على المهانة والمذلة وقد تقدم القول في خسأ، وخسر التاجر في بيعه خسرانا وخسرا وتاجر خاسر وأخسر الميزان وخسّره نقصه وميزان مخسور وأخسر فلان وأكسد وقع في الخسران والكساد وأخسرت الرجل نقيض(6/548)
أربحته وقيل لسلم الخاسر لأنه باع مصحفا ورثه واشترى بثمنه عودا يضرب به، والخسة معروفة وهي النذالة، تقول: خسست يا رجل تخس مثل مسست تمس خسة وخساسة ورجل خسيس وقوم أخسة وما رأيت أخسّ منه والخس ترياق ويقال: أين نبت الخس، من فصاحة قسّ وكلاهما من إياد، ولكن أين الأخامص من الأجياد، وخسف القمر وخسفت الأرض وانخسفت ساخت بما عليها وخسف الله بهم الأرض ومن المجاز سامه خسفا أي ذلا وهوانا ورضي بالخسف وبات على الخسف: على الجوع وشربوا على الخسف على غير ثقل وعين خاسفة فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس وخسفت عينه وانخسفت وخسف بدنه: هزل، وفلان بدنه خاسف ولونه كاسف قال يصف صائدا:
أخو قترات قد تبين أنه ... إذا لم يصب لحما من الوحش خاسف
وخسفت إبلك وغنمك وأصابتها الخسفة وهي تولية الطرق وإن للمال خسفتين: خسفة في الحر وخسفة في البرد، وهو مخسول ومخسّل: وقد خسله وخسّله. وقال:
ونحن الثريا وجوزاؤها ... ونحن الذراعان والمرزم
وأنتم كواكب مخسولة ... ترى في السماء ولا تعلم
وقولهم أخسا أم زكا أي أوتر أم شفع، وتخاسى الصبيان تلاعبوا بذلك، وقال الممزق:
تخاس يداها بالحصى وترضّه ... بأسمر صرّاف إذا جمّ مطرق
وفي هذا القدر ما يكفي.(6/549)
(سِخْرِيًّا) : بالكسر والضم مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة في قوة الفعل كما قيل الخصوصية في الخصوص وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرة والعبودية والأول مذهب الخليل وسيبويه والمراد بهم الصحابة وقيل أهل الصفّة خاصة وفي المصباح: «سخرت منه سخرا من باب تعب هزئت به والسخري بالكسر لغة فيه والسخرة وزان غرفة ما سخرت من خادم أو دابة بلا أجر والسخري بالضم بمعناه وسخرته في العمل بالتثقيل استعملته مجانا وسخر الله الإبل ذللها وسهلها» .
الإعراب:
(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري والتوبيخي ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وآياتي اسمها وجملة تتلى خبرها وعليكم متعلقان بتتلى، فكنتم الفاء عاطفة وكان واسمها وبها متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم. (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) قالوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بالواو والواو فاعل وربنا منادى مضاف وغلبت فعل ماض والتاء للتأنيث وعلينا متعلقان بغلبت وشقوتنا فاعل غلبت، وكنا الواو عاطفة وكان واسمها وقوما خبرها وضالين صفة. (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) ربنا منادى مضاف وكرره للعناية به وأخرجنا فعل أمر معناه الدعاء ومنها متعلقان بأخرج والفاء عاطفة وإن شرطية وعدنا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والضمير فاعل والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وان واسمها وظالمون خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط.(6/550)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
(قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) جملة اخسئوا مقول القول وهو فعل آمر والواو فاعل وفيها متعلقان باخسئوا ولا الواو عاطفة ولا ناهية وتكلمون فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء المحذوفة مفعول به. (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) جملة تعليلية لما قبلها من الزجر، وإن واسمها وجملة كان خبرها وفريق اسم كان ومن عبادي صفة لفريق وجملة يقولون خبر كان وربنا منادى مضاف وجملة آمنا مقول القول، فاغفر لنا الفاء عاطفة واغفر فعل أمر معناه الدعاء وارحمنا عطف عليه، وأنت الواو استئنافية وأنت مبتدأ وخير الراحمين خبر. (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) الفاء عاطفة واتخذتموهم فعل وفاعل ومفعول به والميم علامة جمع الذكور والواو لاشباع ضمة الميم وسخريا مفعول به ثان ومن هؤلاء المهاجرين بلال وصهيب وعمار وخباب وحتى حرف غاية وجر وأنسوكم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وذكرى مفعول به ثان وكنتم كان واسمها ومعهم متعلقان بتضحكون وجملة تضحكون خبر كنتم والمعنى لم يعد لكم شغل إلا الهزء بهم والضحك منهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 111 الى 118]
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)(6/551)
اللغة:
(الْعادِّينَ) : بتشديد الدال جمع عاد من عدّ الشيء يعدّه بضم العين في المضارع إذا أحصاه وحسبه.
(عَبَثاً) العبث بفتحتين: اللعب ومالا فائدة فيه وكل ما ليس فيه غرض صحيح يقال عبث يعبث عبثا إذا خلط عمله بلعب وأصله من قولهم عبثت الأقط أي خلطته والعبث طعام مخلوط ومنه العوبثاني لتمر وسويق وسمن مختلط.
الإعراب:
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان حسن حالهم أنهم انتفعوا بإذايتهم إياهم. وان واسمها وجملة جزيتهم خبر إن وجزيتهم فعل ماض وفاعل ومفعول به أول واليوم ظرف لجزيتهم وبما متعلقان بجزيتهم والباء للسببية أي بسبب صبرهم وما مصدرية وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول ثان(6/552)
لجزيتهم أي جزيتهم فوزهم وأن واسمها وهم ضمير فصل والفائزون خبر ان. (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) كم استفهامية في محل نصب على الظرفية الزمانية وهو متعلق بلبثتم، وفي الأرض متعلقان بلبثتم أو بمحذوف حال وعدد سنين تمييز كم وسنين مضاف اليه والمعنى كم لبثتم عددا من السنين. (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ) جملة لبثنا مقول القول ويوما ظرف متعلق بلبثنا وأو حرف عطف وبعض يوم معطوف على يوما، فاسأل الفاء الفصيحة واسأل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت والعادين مفعول به وقد قالوا هذا لأنهم- وقد غشيهم العذاب وأحاطت بهم أهواله- لم يعد بوسعهم أن يحصوا ذلك أو يذكروا فقالوا إن أردت معرفة الحقيقة فاسأل العادين أما نحن ففي معزل عن ذلك. (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) قال فعل وفاعله مستتر يعود على الله سبحانه وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وقليلا صفة لظرف محذوف أي زمنا قليلا ولو حرف امتناع لامتناع وان واسمها وجملة كنتم خبرها وجملة تعلمون خبر كنتم ومفعول تعلمون محذوف أي مقدار لبثكم ويجوز اعراب قليلا صفة لمصدر محذوف أي لبثا قليلا. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وحسبتم فعل وفاعل والجملة مستأنفة مسوقة لتوبيخهم على تماديهم في الغفلة وصدوفهم عن النظر الصحيح، وأنما كافة ومكفوفة وهي وما بعدها في تأويل مصدر سدت مسد مفعولي حسبتم وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به وعبثا يجوز إعرابه نصبا على أنه مصدر واقع موقع الحال أي عابثين ويجوز إعرابه نصبا أيضا على المصدرية أو انه مفعول لأجله أي لأجل العبث وأنكم يجوز أن يكون معطوفا على أنما(6/553)
خلقناكم فيكون الحسبان منسحبا عليه وأن يكون معطوفا على عبثا أي للعبث وأن واسمها ولا نافية وجملة ترجعون خبر ان وهو فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل. (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لاستعظام الله تعالى، وتعالى فعل ماض والله فاعله والملك الحق صفتان له وجملة لا إله إلا هو حال وقد تقدم اعرابها كثيرا ورب العرش صفة ثالثة والكريم نعت للعرش. (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ ويدع فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة ومع الله ظرف متعلق بيدع وإلها مفعول به ليدع وآخر صفة ولا نافية للجنس وبرهان اسمها مبني على الفتح وله خبر لا والجملة صفة ثانية لإلها وهي صفة لازمة نحو قوله يطير بجناحيه وجيء بها للتوكيد، ويجوز أن تكون جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه فإن كانت صفة فالمقصود بها التهكم بمدعي إله مع الله كقوله «بل أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا» فنفى إنزال السلطان به وإن لم يكن في نفس الأمر سلطان لا منزّل ولا غير منزّل، ومن جنس مجيء الجملة بعد النكرة وصرفها عن أن تكون صفة لها ما تقدم عند قوله تعالى «فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت» فارجع اليه إن شئت.
فانما الفاء رابطة لجزاء الشرط لأن الجملة اسمية وإنما كافة ومكفوفة وحسابه مبتدأ وعند ربه الظرف متعلق بمحذوف خبر حسابه والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من.
(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) الجملة تعليلية لا محل لها وان واسمها وجملة(6/554)
لا يفلح خبر انه والكافرون فاعل. (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) الواو استئنافية ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة واغفر فعل أمر والمقصود منه الدعاء وارحم عطف عليه وأنت الواو استئنافية وأنت مبتدأ وخير الراحمين خبر.
البلاغة:
في خاتمة سورة «المؤمنون» قوله: «إنه لا يفلح الكافرون» وفي فاتحتها «قد أفلح المؤمنون» فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.(6/555)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
(24) سورة النّور مدنيّة وآياتها اربع وستّون
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)(6/556)
اللغة:
(الزَّانِيَةُ) : بنية الزّنا والزناء بالمد والقصر، قال الفرزدق:
أبا خالد من يزن يعلم زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا
قال الفراء: المقصور من زنى والممدود من زانى، يقال زاناها مزاناة وزناء، وخرجت فلانة تزاني وتباغي وقد زنى بها، وجمع بين الزّناة والزواني وزنّاه تزنية: نسبه الى الزنا وهو ولد زنية بفتح الزاي وكسرها.
(رَأْفَةٌ) : في المختار: «والرأفة أشد الرحمة وقد رؤف بالضم رافة ورأف به يرأف مثل قطع يقطع ورئف به من باب طرب كله من كلام العرب فهو رءوف على فعول» .
الإعراب:
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة خبر لمبتدأ محذوف أي هذه سورة أو مبتدأ والخبر محذوف أي فيما أوحينا إليك سورة، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بجملة أنزلناها، وفرضناها عطف على أنزلناها وأنزلنا عطف أيضا وفيها متعلقان بأنزلنا وآيات مفعول به وبينات صفة لآيات، ولعل واسمها وجملة تذكرون خبرها وجملة لعلكم تذكرون حال.
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات. والزانية والزاني(6/557)
في رفعهما وجهان: أحدهما مذهب سيبويه أنه مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الزانية، وثانيهما مذهب الأخفش وغيره بأنه مبتدأ والخبر جملة الأمر ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مستوفى عند قوله «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما» فجدد به عهدا وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا البحث.
وانما قدم الزانية على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية إليها أوفر ولولا تمكينها منه لم يقع وقد عكس الأمر في آية حد السرقة فقدم السارق على السارقة لأن الزنا يتولد بشهوة الوقاع وهي في المرأة أقوى وأكثر، والسرقة انما تتولد من الجسارة والقوة والجرأة وهي في الرجل أقوى وأكثر.
فاجلدوا الفاء رابطة لأن الألف واللام بمعنى الذي والموصول فيه رائحة من الشرط أي التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنى فاجلدوه، واجلدوا فعل أمر وفاعل وكل واحد مفعول به ومنهما صفة لواحد ومائة جلدة نائب مفعول مطلق لأن المفعول المطلق ينوب عنه عدده أي ضربة، يقال جلده: ضرب جلده. (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتأخذكم فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وبهما متعلقان بتأخذكم ورأفة فاعل وفي دين الله متعلقان بتأخذكم أيضا. (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص والتاء اسمها وهو في محل جزم فعل الشرط وجملة تؤمنون بالله واليوم الآخر خبر كنتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تأخذكم بهما رأفة في دين الله وحكمه، والمراد بالشرط التهيج وإثارة الحفائظ على الزناة والغضب لله ولدينه.
وسيأتي في باب البلاغة المزيد من القول في هذه الآية. (وَلْيَشْهَدْ(6/558)
عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
الواو عاطفة واللام لام الأمر ويشهد فعل مضارع مجزوم باللام وعذابهما مفعول به مقدم وطائفة فاعل مؤخر ومن المؤمنين صفة لطائفة. وسيأتي القول عن المراد فيها.
(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) جملة مستأنفة مسوقه لبيان أن الفاسق الخبيث الذي جعل الزنا ديدنه وهجيراه لا يرغب في نكاح الصوالح ذوات الصون والعفاف وكذلك شأن الفاسقة الخبيثة تأبى إلا الارتطام في مستوبل الأقذار. والزاني مبتدأ وجملة لا ينكح خبر وإلا أداة حصر، وسيأتي سر القصر في باب البلاغة. وزانية مفعول به وأو حرف عطف ومشركة عطف على زانية. (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) جملة معطوفة على سابقتها ومثيلتها في الاعراب وزان فاعل حذفت ياؤه لأنه اسم منقوص تحذف ياؤه في حالة التنوين رفعا وجرا وتثبت نصبا. (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم المتشبهين بالفساق والمستهدفين لسوء القالة والطعن وسيأتي القول في سر التحريم في باب الفوائد.
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) الواو استئنافية مسوقة لبيان نوع آخر من حدود الزنا، والذين مبتدأ سيأتي له ثلاثة أخبار وجملة يرمون صلة الموصول والمحصنات مفعول به ثم لم يأتوا عطف على يرمون وبأربعة متعلقان بيأتوا وشهداء مضاف اليه جر بالفتحة لمنعه من الصرف لمكان ألف التأنيث منه. (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الفاء رابطة لجواب الموصول المتضمن معنى الشرط واجلدوهم فعل أمر وفاعل ومفعول به وجملة فاجلدوهم خبر أول للذين وثمانين مفعول مطلق وجلدة تمييز، ولا تقبلوا عطف على فاجلدوهم وهي بمثابة الخبر الثاني للذين ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لشهادة(6/559)
وأبدا ظرف متعلق بتقبلوا وأولئك الواو عاطفة وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو خبر ثان والفاسقون خبر أولئك أو خبر هم والجملة بمثابة الخبر الثالث للذين. (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الفاسقين واختلف في هذا الاستثناء فقيل هو متصل لأن المستثنى منه في الحقيقة الذين يرمون والتائبون من جملتهم لكنهم مخرجون من الحكم وهذا شأن المتصل، وقيل هو منقطع لأنه لم يقصد إخراجه من الحكم السابق بل قصد إثبات أمر آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقا ولأنه غير داخل في صدر الكلام لأنه غير فاسق وجملة تابوا صلة الموصول، ومن بعد ذلك متعلقان بتابوا، وأصلحوا عطف على تابوا، فإن الفاء تعليلية لما سبق وإن واسمها وغفور خبرها الاول ورحيم خبرها الثاني.
البلاغة:
1- الإيجاز بالحذف:
في قوله تعالى «سُورَةٌ أَنْزَلْناها» إيجاز بالحذف وهو كما يراه عبد القاهر الجرجاني باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الافادة أزيد للافادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن، ولكن عبد القاهر لم يصب كبد الحقيقة عند ما أردف يقول: «ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره» ووجه عدم إصابته أن الذي ذكره لا يأتي في كل مبتدأ وإنما يحسن في مبتدأ خبره وصف يقتضي المدح أو القدح وتقبل المبالغة فيه وتكون تلك المبالغة تفيد الموصوف معنى، وفي(6/560)
المبتدءات ما هو بخلاف ذلك فان قولنا «زيد قائم» لا نجد في وصف زيد بالقيام خصوصية يمتاز بها زيد عن غيره فان القيام يوصف به كل أحد إذا أريد به ضد القعود ولا يقبل المبالغة، وليس هو من صفات المدح ولا من صفات الذم ولا هو مما يبلغ به الموصوف الى انه استحق الوصف به دون غيره، فإن كان القاضي، رحمه الله، أراد مبتدأ مخصوصا فيحتمل، وإن كان أطلق فالأمر مشكل والسبب فيما ذكر من حذفه غير معلوم.
ثم يعرض عبد القاهر أمثلة من الشعر الجيد لأبيات حذف المبتدأ فيها كقول الشاعر:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
والأصل: هو فتى.
2- النهي والشرط للتهييج:
المقصود من النهي في قوله «ولا تأخذكم» والشرط في قوله «إن كنتم تؤمنون إلخ» التهييج وإثارة الغضب وإلهاب الحفاظ على دين الله، وإن على المؤمنين الحراص على الاتسام بهذه السمة المشرقة أن يتصلبوا في دينهم وأن لا تأخذهم هوادة أو لين في تنفيذ ما أمرهم الله(6/561)
به لاستيفاء حدوده، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل بنفسه وابنته فقال: «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» .
3- الحصر بإلا:
ظاهر النظم يوحي بأن الزاني لا ينكح المؤمنة العفيفة وأن الزانية لا ينكحها المؤمن التقي، ولما كان ذلك غير ظاهر الصحة كان لا بد من حمل الاخبار على الأعم الأغلب كما لا يفعل الخير إلا الرجل التقي وقد يفعل الخير من ليس بتقي.
4- استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة:
وجرح اللسان كجرح اليد ويسمى الشتم بهذه الفاحشة قذفا، والمراد بالمحصنات النساء، وخصصهن بالذكر لأن قذفهن أشنع والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة.
الفوائد:
1- قوله تعالى «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا» الآية: إنما عدل الخليل وسيبويه الى هذا الذي نقلناه من الاعراب لوجهين: لفظي ومعنوي أما اللفظي فلأن الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب ومع ذلك فالرفع قراءة العامة فلو جعل الأمر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء فالتجأ الى تقدير الخبر حتى لا يكون المبتدأ مبنيا على الأمر فخلص من مخالفة الاختيار، وقد مثلهما سيبويه في(6/562)
كتابه بقوله تعالى «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ» الآية ووجه التمثيل أنه صدر الكلام بقوله «مثل الجنة» ولا يستقيم أن يكون قوله «فيها أنهار» خبره فتعين تقدير خبره محذوفا وأصله فيما نقص عليكم مثل الجنة، ثم لما كان هذا إجمالا لذكر المثل فصل المجمل بقوله «فيها أنهار» الى آخرها فكذلك هاهنا كأنه قال:
وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني، ثم فصل هذا المجمل بما ذكره من أحكام الجلد، هذا بيان المقتضى عند سيبويه لاختيار الحذف من حيث الصناعة اللفظية وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف الخبر لأنه يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال: الزانية والزاني، وأراد: وفيما فرض عليكم حكم الزانية والزاني، فلما تشوّف السامع الى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة.
2- قوله تعالى «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفه غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وعن ابن عباس في تفسيرها هي أربعة الى أربعين رجلا من المصدقين بالله وعن الحسن عشرة وعن قتادة ثلاثة فصاعدا وعن عكرمة رجلان فصاعدا وعن مجاهد أقلها رجل فصاعدا، وقيل رجلان وفضل قول ابن عباس لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها الحد والتفصيل في كتب الفقه.
3- أقسام الزناة الأربعة:
أ- الزاني لا يرغب إلا في زانية.
ب- الزانية لا ترغب إلا في زان.(6/563)
ج- العفيف لا يرغب إلا في عفيفة.
د- العفيفة لا ترغب إلا في عفيف.
وهذه الأقسام الأربعة مختلفة المعاني وحاصرة للقسمة، فنقول اختصرت الآية من هذه الأربعة قسمين واقتصرت على قسمين أحرى من المسكوت عنهما فجاءت مختصرة جامعة، فالقسم الأول صريح في القسم الاول ويفهم الثالث والقسم الثاني صريح في القسم الثاني ويفهم الرابع والقسم الثالث والرابع متلازمان من حيث أن المقتضي لانحصار رغبة العفيف في العفيفة هو اجتماعهما في الصفة وذلك بعينه مقتض لانحصار رغبتها فيه، ثم يقصر التعبير عن وصف الزناة والإعفاء بما لا يقل عن ذكر الزناة وجودا وسلبا فان معنى الأول: الزانية لا ينكحها عفيف ومعنى الثانية: العفيفة لا ينكحها زان، والسر في ذلك أن الكلام في أحكامهم، فذكر الإعفاء لسلب نقائصهم حتى لا يخرج الكلام عما هو المقصود منه ثم بينه في اسناد النكاح في هذين القسمين للذكور دون الإناث بخلاف قوله الزانية والزاني فانه جعل لكل واحد منهما ثم استقلالا وقدم الزانية على الزاني- كما تقدم- والسبب فيه أن الكلام الاول في حكم الزنا والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الإيماض والإطماع والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة والأصل في النكاح الذكور وهم المبتدءون بالخطبة فلم يسند إلا لهم لهذا وان كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث مناكحة الزناة ذكورا وإناثا زجرا لهم عن الفاحشة ولذلك قرن الزنا والشرك.(6/564)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
[سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
الإعراب:
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام اللعان وهو مبسوط في كتب الفقه.
والذين مبتدأ وجملة يرمون أزواجهم صلة وحذف التاء أفصح ولذلك جمع الزوج على أزواج ويتعين في الفرائض إثبات التاء، ومتعلق يرمون محذوف أي بالزنا، ولم الواو حالية أو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم خبر مقدم وشهداء اسمها المؤخر وإلا أداة حصر وأنفسهم بدل من شهداء ويجوز أن تكون إلا بمعنى غير فتكون أنفسهم نعتا لشهداء وقد ظهر عليها إعراب إلا على حد قوله تعالى «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا» . (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء واقعة في جواب اسم الموصول لتضمنه معنى الشرط وشهادة مبتدأ وأحدهم مضاف اليه وأربع شهادات(6/565)
خبر المبتدأ، وقرأ العامة بنصب أربع، فيكون خبر شهادة مقدر التقديم أي فعليهم شهادة أو مؤخر أي فشهادة أحدهم كائنة أو واجبة أو هو خبر لمبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أحدهم، وأما نصب أربع فهو نصب على المصدر والعامل فيه مصدر مثله وقد ناب عن المصدر عدده، وبالله جار ومجرور متعلقان بشهادات أو بشهادة، فالمسألة من باب التنازع، وإن واسمها وكسرت همزة إن لوجود اللام، واللام المزحلقة ومن الصادقين خبر إن وان وما بعدها مفعول شهادات أو شهادة أي يشهد أنه صادق وجملة فشهادة أحدهم خبر الذين.
(وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) الواو اعتراضية والخامسة مبتدأ أي الشهادة الخامسة وأن وما بعدها في تأويل مصدر خبر ولعنة الله اسم أن وعليه خبر أن وإن شرطية وكان فعل الشرط واسم كان مستتر ومن الكاذبين خبر كان وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، ويجوز أن تكون الواو عاطفة والخامسة عطف على شهادة وأن لعنة الله بدل من الخامسة أو نصب بنزع الخافض أي بأن لعنة الله والأول أسهل. (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) جملة ويدرأ عطف على ما سبق ويدرأ فعل مضارع معناه يدفع، عنها متعلقان به والعذاب مفعول به وأن تشهد في تأويل مصدر فاعل يدرأ وأربع شهادات نصب على المصدر فهو نائب مفعول مطلق وبالله متعلقان بشهادات أو بأن تشهد كما تقدم في الأولى وانه لمن الكاذبين تقدم اعرابها. (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) تقدم اعراب مثيلتها فجدد به عهدا. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) لولا حرف امتناع لوجود وفضل الله مبتدأ وخبره محذوف وجوبا كما تقدم وعليكم متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل وان الله تواب ان واسمها وخبرها وهي معطوفة على(6/566)
فضل وجواب لولا محذوف للدليل على أمر محذوف لا يكتنه لعظمه وفداحته، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات بالاضافة الى ما انطوت عليه من الأحكام والتشريع الصالح على العديد من فنون البلاغة وقد تقدم البحث فيها فنجتزىء بالالماع إليها:
1- الالتفات: في قوله «ولولا فضل الله عليكم» فقد التفت من الغيبة الى الخطاب لتسجيل المنة، على المخاطبين بحيث لا تبقى لديهم أعذار واهية يتشبثون بها إذا هم تجاوزوا حدود ما بيّنه لهم.
2- التغليب: فقد غلب صيغة الذكور على صيغة الإناث حيث لم يقل عليكم وعليكن لأنه بصدد مخاطبة الفريقين أي القاذفين والمقذوفات.
3- الحذف: وقد تكرر حذف المبتدأ والخبر كما رأيت في الاعراب وحذف جواب لولا أي كأن يقول الله في بيانه: فلان صادق بالزنا لكون المقذوفة قد زنت في نفس الواقع، أو يقول فلان كاذب في قذفه لكون المقذوفة لم تزن في نفس الواقع، وسدل الستار على ذلك كله لأن الغرض الأسمى هو الصون، والصون يتطلب التحوّط، والتحوط يستدعي السكوت عما لا يحسن التصريح به.(6/567)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
[سورة النور (24) : آية 11]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11)
اللغة:
(الإفك) : أبلغ ما يكون من الكذب وقيل هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك وأصله الإفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه.
(كِبْرَهُ) : كبر الشيء بكسر الكاف وسكون الباء معظمه، قال فيس بن الخطيم يذكر امرأة:
تنام عن كبر شأنها فاذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) الجملة مستأنفة للشروع في سرد قصة الإفك وتقع في ثماني عشرة آية ستأتي باطراد وهي تتعلق بعائشة رضي الله عنها، وهي صالحة تستحق المديح والثناء فمن رماها بالسوء فكأنه قلب الحقائق وطمسها. وان واسمها وجملة جاءوا صلة الموصول وبالإفك متعلقان بجاءوا وعصبة خبر إن ومنكم صفة لعصبة أي من المؤمنين ولو ظاهرا، فقد كان عبد الله بن أبيّ وهو أحد الذين خاضوا في حديث الافك من كبار المنافقين، وجملة لا تحسبوه مستأنفة(6/568)
والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان تسلية لهم، وستأتي قصة الافك في باب الفوائد. (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لا جازمة وتحسبوه مضارع مجزوم والواو فاعل والهاء مفعول به أول وشرا مفعول به ثان ولكم متعلقان بشر وبل حرف عطف وإضراب وهو مبتدأ وخير خبر ولكم متعقان بخير ووجه الخير فيه ما يناله صاحب الابتلاء من مثوبة ثم ظهور الكرامة ونصوع الحق بانزال ثماني عشرة آية في براءتكم والتهويل بالوعيد ان خاض فيه عن سوء نية وقصد.
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) لكل امرئ خبر مقدم ومنهم صفة لامرىء وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة اكتسب صلة ومن الإثم متعلقان باكتسب. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) الواو استئنافية والذي مبتدأ وجملة تولى كبره صلة أي بالغ فيه وضخّم الأمور وزوّقها لسوء دخيلته وشر طويته، ومنهم متعلقان بمحذوف حال وهو عبد الله بن أبيّ المنافق، وله خبر مقدم وعذاب عظيم مبتدأ مؤخر والجملة خبر الذي.
الفوائد:
حديث الافك:
جاء في صحيحي البخاري ومسلم على لسان عائشة قالت: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بعد ما أنزل الحجاب ففرغ منها ورجع ودنا من المدينة وأذن بالرحيل ليلة فمشيت وقضيت شأني وأقبلت الى الرحل فاذا عقدي انقطع فرجعت ألتمسه وحملوا هودجي(6/569)
يحسبونني فيه وكانت النساء خفافا إنما يأكلن العلقة من الطعام ووجدت عقدي وجئت بعد ما ساروا فجلست في المنزل الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليّ فغلبتني عيناي فنمت وكان صفوان قد عرس من وراء الجيش فأدلج للاستراحة فسار منه فأصبح في منزله فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته ووطئ على يدها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك فيّ وكان الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول» .
تفسير غريب الحديث:
1- قوله في غزوة: قيل هي غزوة المريسيع وتسمى غزوة بني المصطلق وكانت في السنة الرابعة وقيل في السادسة وسببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث ابن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد الى الساحل فاقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم فأفاءها وردها عليهم.
2- يأكلن العلقة: بضم العين وسكون اللام القليل من الطعام.
3- صفوان: هو الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي.
4- عرس: بتشديد الراء المفتوحة أي نزل ليلا للاستراحة وهو خاص بآخر الليل.(6/570)
5- أدلج: بتشديد الدال المفتوحة سار من أول الليل.
6- باسترجاعه: أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.
7- خمرت وجهي بجلبابي: أي غطيته بالملاءة.
8- ووطئ على يدها: أي وضع رجله على ركبتها.
9- موغرين: في القاموس: الوغرة شدة الحر ووغرت الهاجرة كوعد وأوغروا دخلوا فيها، والوغر ويحرك: الحقد والضغن والعداوة والتوقد من الغيظ وقد وغر صدره كوعد ووجل وغرا ووغرا بالتحريك وفي المصباح: «ووقع في أرض فلاة صار فيها» .
رواية المستشرقين: هذا وقد شغل حديث الافك المستشرقين فصاغوه في روايات شتى نورد منها هنا للاطلاع رواية برو كلمن المستشرق الألماني صاحب كتاب «تاريخ الشعوب الاسلامية» وفيما يلي نص تعريبه:
«وقام النبي خلال سنة 627 أيضا بحملات عدة على بعض القبائل البدوية ولقد أبعد في إحداها حتى لقارب مكة وكانت هذه الغزوات آمنة الى حد ساعده على أن يصطحب فيها اثنتين من أزواجه، فاتفق مرة أن أضاعت زوجه المفضلة عائشة بنت أبي بكر- وكانت آنذاك في الرابعة عشرة من عمرها- قلادتها فخرجت تبحث عنها مساء ففاتتها فوافل الغزاة ولم تعد الى المعسكر إلا في اليوم التالي وبرفقتها شاب كانت قد عرفته من قبل وتطرق الشك في إخلاص عائشة إلى نفس النبي فردها الى بيت أبويها ولكن الله لم يلبث أن برأها بعد شهر واحد في إحدى الآيات الموحاة الى النبي مضيفا في الوقت نفسه أن أي اتهام(6/571)
لامرأة بالخيانة الزوجية لا يؤيده أربعة شهود عيان يعتبر فرية أو قذفا يستحق عليه صاحبه مائة جلدة، وكان علي صهر النبي أحد خصوم عائشة الذين ألحوا عليه في طلاقها وليس من شك في أن جذور العداء الذي تكشفت عنه عائشة لعلي بعد أن استخلف على المسلمين ترجع الى هذه الحقبة، ومهما يكن من شيء، فلم يكن لحادثة العقد هذه أدنى تأثير على وضع المرأة الاجتماعي في الإسلام كما يظن: فالحجاب الذي تصطنعه النساء المتزوجات كان عادة عربية قديمة وكان النبي قد فرضه، قبل هذه الحادثة، لأسباب أخرى والواقع أن الحجاب لم يحل بين النساء في الجاهلية وفي الإسلام أيضا حتى عهد الأمويين وبين الظهور في الناس في كثير من الحرية والتأثير في المجتمع العربي تأثيرا مذكورا في بعض الأحيان، إن مؤسسة الحريم التي وضع قواعدها العباسيون على غرار النموذج المسيحي- البيزنطي هي وحدها المسئولة عن انحطاط المرأة في الشرق» ولا تخلو رواية برو كلمن، على دقتها من خلل وخطأ وتحامل خفي يحاول صاحبه إخفاءه ويأبى إلا أن يظهر ومن ذلك قوله «فردها الى بيت أبويها» .
العودة الى المدينة واللغط في الحديث:
ولنعد الى رواية عائشة نفسها في تتمة الحديث الآنف الذكر قالت:
«واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الافك ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، انما يدخل رسول الله فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ثم عدنا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح.(6/572)
قلت: بئس ما قلت!! أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟
قالت: أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟
قلت: وماذا قال؟
فأخبرتني بقول أهل الافك فازددت مرضا الى مرضي فلما رجعت الى بيتي استأذنت أن آتي أبوي: أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي.
قالت أمي: هوّني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثّرن عليها.
قلت: سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم.
ودعا رسول الله عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أهله فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود وقال لرسول الله: هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا.
وأما عليّ بن أبي طالب فقال: لم يضيّق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.
فدعا رسول الله بريرة يسألها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قد أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فنأكله.(6/573)
.. وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.
فبينما نحن على ذلك دخل رسول الله فسلم ثم جلس وتشهّد ثم قال: أما بعد يا عائشة فإني قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألمحت بذنب فاستغفري الله وتوبي اليه فان العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة فقلت لأبي: أجب عني رسول الله فقال: والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله، فقلت لأمي: أجيبي عني، فقالت: كذلك والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله، قلت:- وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن-:
إني والله لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فان قلت لكم: إني بريئة لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقوني واني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي، فو الله ما رام رسول الله مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله عز وجل على نبيه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى انه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي.(6/574)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
فلما سرّي عن رسول الله وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك.
قالت لي أمي: قومي اليه.
قلت: والله لا أقوم اليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي.
وكان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره فأقسم لا ينفق عليه شيئا أبدا فأنزل الله عز وجل: «ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ... الى قوله: ألا تحبون أن يغفر الله لكم» ؟
فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، ورجع الى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه.
هذا وسيأتي في بقية الآيات ما يتعلق بهذا الحديث.
[سورة النور (24) : الآيات 12 الى 15]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)(6/575)
الإعراب:
(لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) كلام مستأنفة للشروع في زجر الخائضين في الإفك وتوبيخهم على ما أرجفوا به وستأتي تسعه زواجر مترادفة وهذا هو الزاجر الأول. ولولا حرف تحضيض متضمن معنى الزجر والتوبيخ وذلك كثير في اللغة إذا دخلت على الفعل كقوله تعالى «لولا أخرتني» وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بظن وجملة سمعتموه في محل جر باضافة الظرف إليها وظن المؤمنون فعل وفاعل والمؤمنات عطف وبأنفسهم متعلقان بخيرا وخيرا مفعول به ثان. (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) وقالوا عطف على ظن وهذا مبتدأ وإفك خبر ومبين صفة والجملة الاسمية مقول القول وسيأتي القول في الالتفات الرائع بهذه الآية. (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ) لولا حرف تخصيص ثان وهذا هو الزاجر الثاني وجاءوا فعل وفاعل وعليه متعلقان بشهداء وبأربعة متعلقان بجاءوا وشهداء مضاف اليه، فاذا الفاء عاطفة وإذا ظرف لما مضى من الزمن متعلق بالكاذبون ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأتوا فعل مضارع مجزوم بلم والجملة في محل جر باضافة الظرف إليها وبالشهداء متعلقان بيأتوا. (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) الفاء رابطة وأولئك مبتدأ وعند الله متعلقان بمحذوف حال أي في حكمه وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والكاذبون خبر أولئك أو خبر هم والجملة خبر أولئك.
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الواو عاطفة ولولا حرف امتناع لوجود وفضل الله مبتدأ حذف خبره وجوبا وهذا هو الزاجر الثالث، وعليكم متعلقان بفضل ورحمته عطف على فضل وفي الدنيا متعلقان بمحذوف حال والآخرة عطف على الدنيا. (لَمَسَّكُمْ فِيما(6/576)
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ)
اللام واقعة في جواب لولا ومسكم فعل ومفعول به والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفيما متعلقان بمسكم وجملة أفضتم فيه صلة و «ما» عبارة عن حديث الافك والافاضة الاندفاع والخوض ويصح أن تكون ما مصدرية أي لمسكم بسبب إفاضتكم وخوضكم في الإفك، وفيه متعلقان بأفضتم وعذاب فاعل وعظيم صفة. (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهذا هو الزاجر الرابع، وإذ ظرف متعلق بمسكم أو بأفضتم وتلقونه فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه وهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل والهاء مفعول به، والتلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة، والجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها والمراد يرويه بعضكم عن بعض وبألسنتكم متعلقان بتلقونه، وتقولون عطف على تلقونه وبأفواهكم متعلقان بتقولون وما مفعول تقولون وجملة ليس صلة الموصول وليس فعل ماض ناقص ولكم خبر وبه متعلقان بعلم وعلم اسم ليس. (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) وتحسبونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به أول وهينا مفعول به ثان والواو للحال وهو مبتدأ وعند الله حال وعظيم خبر هو والجملة حالية.
البلاغة:
1- التعبير بالأنفس عن الآخرين:
التعبير بالأنفس عن الآخرين ينطوي على أبعد النكت مرمى وأكثرها حفولا بالمعاني السامية، فهو أولا يهيب بالمؤمنين الى التعاطف واجراء التوبيخ على النفس بدلا من أن يذكره بسوء وذلك أدعى الى اصطناعه وجعله محمولا على الموالاة والاصطفاء وذلك بتصويره بصورة من(6/577)
أخذ يقذف نفسه ويرميها بما ليس فيها من الفاحشة. وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته ألا ترين مقالة الناس؟ قالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تخون في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءا؟ قال: لا، قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنته وصفوان خير منك وعائشة خير مني.
وهذا صحيح كل الصحة وبراءة عائشة واضحة ومفهومة بالبداهة لدى كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش وفي وضح النهار ولغير ضرورة مع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي وغضب المسلمين وغضب الله، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتا ومنزلة وخلقا وأنفة فكيف بها في مكانها المعلوم، وهذا هو المفهوم للتعبير عن الآخرين من المؤمنين بالنفس، حدا بامرأة أبي أيوب الانصاري إلى أن تنزل زوجها منزلة صفوان ونفسها منزلة عائشة ثم تثبت لنفسها ولزوجها البراءة والامانة حتى تثبت لصفوان وعائشة بطريق الأولى.
وهو ثانيا يحتمل أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة والمقصود إلزام سيىء الظن بنفسه لأنه لم يعتد بنوازع الايمان ووزائعه في حق غيره وألفاه واعتبره في حق نفسه وادعى لها البراءة قبل معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى.
2- الالتفات:
وفي الكلام عدول عن الخطاب الى الغيبة وعن الضمير الى الظاهر وسياق الحديث أن يقول «لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم» وانما اقتضت البلاغة هذا الالتفات والعدول عن الضمير الى(6/578)
الظاهر للمبالغة في التوبيخ وليصرح بلفظ الايمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتضى أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكان جديرا بالآخرين الاحتذاء به: سمع حديثا يلاك بين المنافقين ويسري الى المسلمين بل الى خاصة ذويه الأقربين، حديثا يسمعه رجل كعلي بن أبي طالب في بره نحيزته فلا يرى بعده حرجا من الطلاق والنساء كثيرات، سمع النبي ذلك الحديث المريب فلم يقبله بغير بينة ولم يرفضه بغير بينة وكان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها الى حين فعادها وبه من الرفق والانصاف ما يأبى عليه أن يفاتحها في مرضها بما يخامر نفسه الكريمة، وبه من الموجدة والترقب ما أبى عليه أن يقابلها بما كان يقابلها به والنفس صافية كل الصفاء وظل يسأل عنها سؤال متعتب ينتظر أن تشفى وأن تأتيه البينة فيشتد كل الشدة أو يرحم كل الرحمة، ولا يعجله لغط الناس أن يأخذ في هذا الموقف الأليم بما توجبه الحمية وما توجبه المروءة في آن.
عبد الله بن أبيّ ومسطح:
وإذا قيل إن عبد الله بن أبيّ كان من أصحاب العصبية التي بحسب حسابها وتتقى بوادرها فماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي الكريم وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن؟
3- المبالغة:
تقدم البحث في مثل هذا التعبير «تقولون بأفواهكم» والقول(6/579)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
لا يكون إلا بالفم فما معنى ذكر الأفواه، ونعيد القول انه هنا للمبالغة والتعريض بأنه ربما يتمشدق ويقضي تمشدق جازم عالم وهذا أشد وأقطع ومعناه أن الشيء المعلوم يكون وعلمه في القلب فيترجم عنه اللسان وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب.
[سورة النور (24) : الآيات 16 الى 20]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
الإعراب:
(وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) وهذا هو الزاجر الخامس، ولولا حرف تحضيض وتوبيخ وإذ ظرف متعلق بقلتم أي كان ينبغي لكم بمجرد السماع الأول أن تقولوا: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا وأن تقولوا سبحانك، وقال الزمخشري: «فإن قلت:
كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم بالظرف؟ قلت للظروف شأن وهو(6/580)
تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وانها لا تنفك عنها فبذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها» ورد عليه أبو حيان فقال «وهذا يوهم اختصاص ذلك بالظرف وهو جار في المفعول به تقول لولا زيدا ضربت ولولا عمرا قتلت، وسيأتي سر تقديم الظرف في باب البلاغة.
وجملة سمعتموه مضاف إليها الظرف وجملة قلتم لا محل لها لأنها ابتدائية وما نافية ويكون فعل مضارع ناقص ولنا خبرها المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبهذا متعلقان بنتكلم وسبحانك مفعول مطلق وجملة سبحانك في محل نصب حال لأن معناه التعجب والمعنى هلا قلتم ما ينبغي لنا أن تتكلم بهذا حال كونكم متعجبين من هذا الأمر العجيب الغريب. (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) وهذا مبتدأ وبهتان خبر وعظيم صفة. (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وهذا هو الزاجر السادس ويعظكم وقد ضمن معنى فعل يتعدى بعن ثم حذف الجار أي ينهاكم عن العودة وهي فعل مضارع ومفعول به والله فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض ولمثله متعلقان بتعودوا وأبدا ظرف زمان متعلق بتعودوا أيضا، وقيل لا تضمين في معنى يعظكم، وأن وما بعدها مفعول لأجله على حذف مضاف أي كراهة أن تعودوا، وإن شرطية وكنتم كان واسمها ومؤمنين خبرها وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم مؤمنين فلا تعودوا لمثله.
(وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الواو عاطفة ويبين الله فعل وفاعل ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به والله مبتدأ وعليم حكيم خبر ان لله. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) جملة مستأنفة مسوقة لا يراد الزاجر السابع وإن واسمها وجملة يحبون صلة وأن وما في حيزها مفعول يحبون والفاحشة فاعل وفي الذين آمنوا متعلقان بتشيع. (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ(6/581)
لا تَعْلَمُونَ)
لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن وأليم صفة وفي الدنيا والآخرة صفة ثانية، ففي الدنيا ثبت بالحد للقذف، وسيأتي في باب الفوائد تفصيل ذلك. والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وأنتم مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر. (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وهذا هو الزاجر الثامن ولولا امتناعية وفضل الله عليكم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا ورحمته عطف على فضل وإن الله رءوف رحيم عطف على فضل الله وجواب لولا محذوف أي لعاجلكم بالعقوبة.
الفوائد:
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حد القاذفين الأربعة وهم عبد الله بن أبيّ وحسان بن ثابت ومسطح وحمنة بنت جحش، وقعد صفوان لحسان بن ثابت وضربه بالسيف فكف بصره وفي ذلك يقول:
توّق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وأتقى ... من الباهت الرامي البريء الظواهر
وأنشد حسان بن ثابت أبياتا يثني فيها على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها- ويبرئها مما نسب إليها ومنها:
حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل(6/582)
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير
زائل مهذّبة قد طيب الله جنيها ... وطهرها من كل شين
وباطل فإن كان ما بلغت عني قلته ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... بآل رسول الله زين الم
حافل له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول
البلاغة:
1- التقديم والتأخير:
في قوله تعالى «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ إلخ» قدم الظرف لفائدة هامة وهي بيان انه كان من الواجب أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم، وجب التقديم. ولعبد القاهر في دلائل الاعجاز بحث عن التقديم والتأخير يقول فيه: باب التقديم والتأخير من الأبواب التي تظهر بها مزية الكلام ويعلو بها أسلوب على أسلوب ويبدو بها إعجاز القرآن.
2- سر التعجب:
في كلمة التعجب «سبحانك» سر عجيب وهو أن الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه.(6/583)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
[سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
اللغة:
(خُطُواتِ) : جمع خطوة بفتح الخاء وضمها وسكون الطاء، وكل ما كان على وزن فعل بكسر الفاء أو فعل بفتح الفاء مع سكون(6/584)
العين جاز لنا إذا أردنا أن نجمعه جمعا مؤنثا سالما الاتباع والفتح والتسكين فنقول في خطوة خطوات وخطوات وخطوات.
(زَكى) : طهر من دنس.
(يَأْتَلِ) : في المختار «وآلى يؤلي إيلاء حلف وتألى وائتلى مثله قلت: ومنه قوله تعالى «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ» والألية اليمين وجمعها ألايا» وقيل هو من قولهم ما ألوت جهدا إذا لم تدخر شيئا.
(الْغافِلاتِ) : السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطن لما تفطن له المجربات العرافات. قال:
ولقد لهوت بطفلة ميالة ... بلهاء تطلعني على أسرارها
لهوت: تلاهيت ولعبت بطفلة بالفتح أي امرأة ناعمة لينة، يقال امرأة طفلة الأنامل أي رخصتها لينتها، وميالة: مختالة، وبلهاء: غافلة لا مكر عندها ولا دهاء فلذلك تطلعني على ضمائرها.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وهذا هو الزاجر التاسع والأخير، ولا ناهية وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا وخطوات الشيطان مفعول به. (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويتبع فعل الشرط وخطوات الشيطان مفعول به والفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وان واسمها وجملة يأمر بالفحشاء والمنكر خبرها(6/585)
والضمير في انه يعود على الشيطان أو على المتبع والأول أظهر.
(وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) لولا امتناعية وقد تقدم اعرابها وما نافية وزكى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على الله ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحد ومن حرف جر زائد وأحد مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وأبدا ظرف متعلق بزكى. (وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة ولكن واسمها وجملة يزكي خبرها ومن يشاء مفعول يزكي والله مبتدأ وسميع خبر أول وعليم خبر ثان أي أنه سبحانه سميع لمقالهم عليم بنياتهم. (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تقدم القول مسهبا في سبب نزول هذه الآية وأنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة بضم الهمزة وفتحها.
ولا ناهية ويأتل فعل مضارع مجزوم بلا وأولو فاعل ملحق بجمع المذكر السالم والفضل مضاف اليه ومنكم حال والسعة عطف على الفضل، وأن يؤتوا: أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض مع حذف لا النافية والتقدير على أن لا يؤتوا وأولي القربى مفعول وما بعدها عطف عليه.
(وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويعفوا مضارع مجزوم بلام الأمر وليصفحوا عطف والهمزة للاستفهام ولا نافية وتحبون فعل مضارع مرفوع وأن وما في حيزها مفعول تحبون والله فاعل ولكم متعلقان بيغفر والله مبتدأ وغفور خبر أول ورحيم خبر ثان. (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) كلام مستأنف مسوق لتقريع الخائضين في الإفك ووعيدهم الشديد وعتابهم البليغ. وإن واسمها وجملة يرمون المحصنات صلة والمحصنات مفعول به والغافلات المؤمنات عطف على المحصنات وجملة لعنوا خبر إن وفي الدنيا(6/586)
والآخرة متعلقان بلعنوا ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة. (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الظرف متعلق بالاستقرار الذي تعلق به «ولهم» ويجوز تعليقه بالمصدر وهو عذاب لأن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها، وجملة تشهد في محل جر باضافة الظرف إليها وعليهم متعلقان بتشهد وألسنتهم فاعل وأيديهم وأرجلهم عطف على ألسنتهم وبما جار ومجرور متعلقان بتشهد وجملة كانوا لا محل لها لأنها صلة ولك أن تجعل ما مصدر وكان واسمها وجملة يعملون خبرها وقد مرت لها نظائر. (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) الظرف متعلق بيعملون أو بيوفيهم وقد تقدم البحث في إضافة إذ للظرف والتنوين اللاحق لإذ، ويوفيهم الله فعل مضارع ومفعول به وفاعل ودينهم مفعول به ثان والحق نعت لدينهم والمراد بدينهم الحق جزاؤهم الواجب عليه وفي الحديث «كما تدين تدان» .
(وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) ويعلمون عطف على يوفيهم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلمون وهو ضمير فصل أو مبتدأ والحق خبر أن أو خبر هو والجملة الاسمية خبر أن والمبين صفة.
(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) كلام مستأنف مسوق لبيان سنة الله في خلقه في أن يسوق كل صنف إلى صنفه وأن يقع كل طير على شكله. والخبيثات مبتدأ وللخبيثين خبره وما بعده عطف عليه وسيرد معنى ذلك في باب البلاغة.
(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أولئك مبتدأ والاشارة الى الطيبين وسيأتي المزيد من هذا المعنى في باب البلاغة، ومبرءون خبر أولئك ومما متعلقان بمبرءون لأنه اسم مفعول وجملة يقولون صلة ولهم خبر مقدم ومغفرة مبتدأ مؤخر والجملة خبر ثان لأولئك ورزق كريم عطف عليه.(6/587)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
البلاغة:
1- المجاز العقلي في شهادة الأيدي والأرجل وقد تقدم بحثه مستوفى.
2- أراد بالمحصنات العموم وان كان الحديث مسوقا عن عائشة والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات فما الظن بوعيد من وقع في قذف سيدتهن! على أن تعميم الوعد أبلغ وأقطع من تخصيصه، ولهذا عممت زليخا حين قالت «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» فعممت وأرادت يوسف تهويلا عليه وارجافا.
3- يحتمل أن يراد بالخبيثات النساء وبالخبيثين الرجال فيكون الكلام جاريا على حقيقته ويجوز أن يراد الكلمات التي صيغ منها الإفك فيكون الكلام مجازا بالاستعارة التصريحية.
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)(6/588)
الإعراب:
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) كلام مستأنف مسوق لبيان ما يترتب على مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات خلواتهن. ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا وبيوتا مفعول به على السعة وقد تقدم بحث ذلك وغير بيوتكم صفة لبيوتا وحتى حرف غاية وجر وتستأنسوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ومعنى الاستئناس الاستئذان على طريق الكناية، وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة، وتسلموا عطف على تستأنسوا وعلى أهلها متعلقان بتسلموا. (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ذلكم مبتدأ وخير خبر ولكم متعلقان بخير ولعل واسمها وجملة تذكرون خبر لعل وجملة ذلكم مستأنفة وجملة لعلكم تذكرون حال معللة لفعل محذوف أي أنزل عليكم هذا آملين أن تتذكروا. (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) الفاء استئنافية وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا مضارع مجزوم بلم وفيها متعلقان بتجدوا وأحدا مفعول به، فلا تدخلوها الفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتدخلوها مضارع مجزوم بلا الناهية وحتى حرف غاية وجر ويؤذن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ويؤذن مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر ولكم متعلقان بيؤذن.
(وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وإن شرطية وقيل لكم فعل الشرط وجملة ارجعوا مقول القول، فارجعوا الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه طلبي وهو مبتدأ وأزكى لكم خبر والجملة مستأنفة، والله الواو استئنافية والله مبتدأ وبما تعملون متعلقان بعليم وعليم خبر الله.(6/589)
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) ليس فعل ماض ناقص وعليكم خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وأن وما في حيزها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض أي في أن تدخلوا والجار والمجرور صفة لجناح وبيوتا مفعول به على السعة وغير مسكونة نعت لبيوتا وفيها خبر مقدم ومتاع لكم مبتدأ مؤخر والجملة صفة ثانية لبيوتا. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) والله الواو ستئنافية والله مبتدأ وجملة يعلم خبر وما مفعول به وجملة تبدون صلة وما تكتمون عطف على ما تبدون.
البلاغة:
1- الكناية في قوله تستأنسوا: فإن أصل معناها الاستئناس وهو ضد الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو متردد مستطار القلب مستوحش، أو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له بالدخول استأنس وزايله تردّده واستطارة قلبه، وقد أريد المعنى البعيد منه وهو الاستئذان.
2- الإرداف وقد تقدم أنه هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الموضوع له ولا بلفظ الاشارة الدال على المعاني الكثيرة بل لفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه قرب من لفظ المعنى الخاص قرب الرديف من الردف، وواضح أن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن، ويجوز أن يكون من الاستئناس الذي هو الاستعلام والاستكشاف من أنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا وعليه يكون المعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول اليه عن(6/590)
الحقيقة ترغيب المخاطبين في الإتيان بالاستئذان بواسطة، وسيأتي في باب الفوائد مزيد بحث عن الاستئذان.
الفوائد:
في القرطبي سبب نزول هذه الآية كما روى الطبراني وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل علي، وانه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فنزلت هذه الآية، فقال أبو بكر: يا رسول الله أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن فأنزل الله ليس عليكم جناح ... الآية.
وعن أبي موسى الأشعري انه أتى باب عمر رضي الله عنهما فقال السلام عليكم أأدخل قالها ثلاثا ثم رجع وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاثا. واستأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أألج؟ فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة قومي الى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن قولي له:
يقول السلام عليكم أأدخل فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل.
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عن ذلك وعلم الأحسن والأجمل.
أما البيوت التي استثناها الله فهي غير المسكونة نحو الفنادق والربط المسبلة وحوانيت البياعين والمنازل المبنية للنزول وإيواء المتاع(6/591)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
فيها واتقاء الحر والبرد وقيل بيوت التجار وحوانيتهم في الأسواق بدخلها للبيع والشراء.
[سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
اللغة:
(يَغْضُضْنَ) : الغض: أطباق الجفن بحيث تمتنع الرؤية وفي المصباح: «غض الرجل صوته وطرفه ومن صوته ومن طرفه غضا من باب(6/592)
قتل خفض ومنه يقال غض من فلان غضا وغضاضة إذا انتقصه» وقد أدغم في الأول أحد المثلين في الثاني بخلاف الثاني لأن الثاني في يغضضن متحرك فادغم فيه الاول وفيما سيأتي ساكن فلم يتأت إدغام الاول فيه، قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا
(زِينَتَهُنَّ) : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة بالتحريك وهي حلقة من فضة لا فص فيها فإذا كان فيها فص فهو الخاتم، والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للاجانب وما خفي منها كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل وهو- كما في الصحاح- يشبه عصابة تزين بالجوهر ويسمى التاج إكليلا والوشاح والقرط فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين.
(بِخُمُرِهِنَّ) الخمر بضم الخاء والميم جمع خمار بكسر الخاء وهو ما تغطي به المرأة رأسها والستر عموما ويجمع على أخمرة وخمر بضم الخاء وسكون الميم وخمر بضمتين.
(جُيُوبِهِنَّ) : جمع جيب والجيب من القميص طوقه والقلب والصدر وعند العامة الجيب هو كيس يخاط في جانب الثوب من الداخل ويجعل فمه من الخارج.
(أُولِي الْإِرْبَةِ) : أصحاب الإربة، والإربة الحاجة وفي المصباح:
«الأرب: بفتحتين والإربة بالكسر والمأربة بفتح الراء وضمها الحاجة والجمع المآرب والأرب في الأصل مصدر من باب تعب يقال أرب الرجل الى الشيء إذا احتاج اليه فهو آرب على فاعل والإرب بالكسر يستعمل في الحاجة وفي العضو والجمع آراب مثل حمل وأحمال» .(6/593)
الإعراب:
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا كليا. وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ومفعوله محذوف وهو أمر آخر مثله وقد حذف لدلالة جوابه عليه وهو يغضوا من أبصارهم ويغضوا فعل مضارع جزم لأنه جواب الأمر المحذوف وهو غضوا أو مقول القول، ومن أبصارهم: قال الزمخشري: «من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه» ويجوز أن تكون للبيان أو لابتداء الغاية وعلى كل حال فهي متعلقة بيغضوا وسيأتي السبب في دخول من على الأبصار دون الفروج في باب البلاغة، ويحفظوا عطف على يغضوا وفروجهم مفعول به. (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) ذلك مبتدأ وأزكى خبره ولهم متعلقان بأزكى وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بخبير وجملة يصنعون لا محل لها. (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) تقدم اعراب نظيرتها، أي فلا يحل للرجل أن ينظر الى المرأة ولا للمرأة أن تنظر الى الرجل فإن علاقتها به كعلاقته بها وقصدها منه كقصده منها ومن طريف ما يلفت النظر أن هذه الآية اشتملت على عدد كبير من ضمائر الإناث وقد بلغت عدتها خمسة وعشرين ضميرا ما بين مرفوع ومجرور ولم يوجد لها نظير في القرآن في هذا الصدد. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) الواو حرف عطف ويبدين عطف على يغضضن فهو مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة في محل جزم والنون فاعل وزينتهن مفعول به وإلا أداة(6/594)
حصر وما بدل من زينتهن وجملة ظهر منها صلة والمراد بالظاهر الوجه والكفان فيجوز أن ينظرها الأجنبي إن لم يخف فتنة كما هو مقرر في علم الفقه. (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويضربن فعل مضارع مبني على السكون في محل جزم باللام والنون فاعل وبخمرهن الباء زائدة أو تبعيضية أي يلقين خمرهن على جيوبهن أي يسترن الرءوس والأعناق والصدور بالمقانع جمع مقنعة أو مقنع بكسر الميم فيهما وهي ما يغطى به الرأس. (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الواو عاطفة ولا ناهية ويبدين مضارع مبني في محل جزم والنون فاعل وزينتهن مفعول به وإلا أداة حصر ولبعولتهن متعلقان بيبدين وهذه المستثنيات اثنا عشر نوعا آخرها الطفل. (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) كلهن معطوفات.
(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) غير صفة للتابعين والمراد بالتابعين غير أولي الإربة موضع خلاف، قال ابن عباس: التابع هو العنين الأحمق، وقيل هو الذي لا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن وقيل هو المجبوب وقيل هو الشيخ الهرم الذي ذهبت شهوته وقيل هو المخنث. أقول: والعنين والمخنث هو المشبه بالنساء والشيخ الهرم وأما المجبوب فهو الذي بقي أنثياه والخصي هو الذي بقي ذكره. ومن الرجال حال وأو حرف عطف والطفل معطوف على ما تقدم وهو بمعنى الأطفال فأل جنسية والطفل يطلق على الواحد والمجموع فلذلك وصف بالجمع وقيل لما قصد الجنس روعي فيه الجمع، والذين صفة وجملة لم يظهروا صلة وعلى عورات النساء متعلقان بيظهروا. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) الواو عطف على ما تقدم ولا ناهية ويضربن فعل(6/595)
مضارع مبني في محل جزم بلا والنون فاعل وبأرجلهن متعلقان بيضربن، كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال وقيل كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين فإن ذلك يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا الى الرجال، وقال الزجاج «وسماع صوت هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من ابدائها» . (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الواو عاطفة وتوبوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والى الله متعلقان بتوبوا وجميعا حال وأيها المؤمنون منادى نكرة مفصودة وقد تقدم إعرابه ولعل واسمها وجملة تفلحون خبرها وقد رسمت في المصحف دون ألف والرسم سنة متبعة.
البلاغة:
- من الاسرار التي تدق على الافهام دخول من الجارة على غض الابصار دون الفروج في قوله تعالى «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ» والسر في ذلك أن أمر النظر واسع لا يني يسرح في مراتع الجمال ومواطن الفتنة، قال الزمخشري بهذا الصدد: «ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر الى شعورهن وصدورهن وثديهنّ وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع وأما أمر الفروج فمضيق» .
- ومن هذه الأسرار تقديم غض الابصار على حفظ الفروج في الاية نفسها وفي الآية التي تليها، والسر فيه أن النظر بريد الزنا ورائده الذي لا يخطىء. وقد أفاض الشعراء في القديم والحديث فيما تحدثه(6/596)
النظرة من إلهاب نار الحب، وتأريث الحرقة التي تدفع الى ارتكاب المحرم ومن أجمل ما قيل فيه قول ابن زيدون:
حسن أفانين لم تستوف أعيننا ... غاياته بأفانين من النظر
وقال ابن الرومي:
عيني لعينك حين تنظر مقتل ... لكن لحظك سهم حتف مرسل
ومن العجائب أن معنى واحدا ... هو منك لحظ وهو مني مقتل
وسيرد في كتابنا العجيب منه.
وفيما يلي طائفة من الأحاديث الواردة بهذا الصدد:
«عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن ربه: النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من نركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه» أي جعلت بدله إيمانا يشعر بلذاته في قلبه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة: العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدّق ذلك الفرج أو يكذبه» . والمعنى أن الله تعالى يعذب العين بالنار يوم القيامة لتطلعها الى محرم بقصد بلا فجاءة، والخطا بفتح الخاء المشي الى المعصية.(6/597)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار:
أفرأيت الحم؟ قال: الحم الموت» رواه البخاري ومسلم ثم قال:
ومعنى كراهية الدخول على النساء على نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» .
والحم بفتح الحاء وتخفيف الميم وبإثبات الواو أيضا وبالهمز أيضا هو أبو الزوج ومن أدلى به كالأخ والعم وابن العم ونحوهم وهو المراد هنا كذا فسره الليث بن سعد وغيره وأبو المرأة أيضا ومن أدلى به وقيل بل هو قريب الزوج فقط وقيل قريب الزوجة فقط. قال أبو عبيد في معناه يعني فليمت ولا يفعلنّ ذلك فاذا كان هذا رواية في أب الزوج وهو محرم فكيف بالغريب؟ ومعنى الحمو الموت: أي الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول الى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه.
[سورة النور (24) : الآيات 32 الى 33]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)(6/598)
اللغة:
(الْأَيامى) : جمع أيم وهي من ليس لها زوج بكرا كانت أو ثيبا ومن ليس له زوج وهذا في الأحرار والحرائر بقرينة قوله وإمائكم، وتجمع الأيم أيضا على أيائم وأيّمون وأيمات يقال آم يئيم الرجل من زوجه أو المرأة من زوجها فقدها أو فقدته، وأصل الأيامى أيائم كما قال الزمخشري ومثله يتامى في يتائم وأجاز سيبويه أن يكون غير مقلوب وانه جمع على فعالى، وقال الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم
يقول لمحبوبته: إن تتزوجي أتزوج وإن لم تتزوجي لم أتزوج، وجملة وان كنت أفتى منكم اعتراضية، والأفتى الأكثر فتية وشبابا، ورفع المضارع في جواب الشرط كما هنا قليل، وقد ورد في الشعر إذا كان الشرط فعلا ماضيا كما هنا، وفي الحديث: «اللهم إني أعوذ بك من العيمة والغيمة والأئمة والكزم والقرم» أما العيمة فهي شدة شهوة اللبن والغيمة شدة شهوة العطش والأئمة طول العزبة والكزم شدة شهوة الأكل، قال في الصحاح: كزم الشيء بمقدّم فيه أي كسره واستخرج ما فيه، والقرم شد شهوة اللحم.(6/599)
(الْكِتابَ) : والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة: هو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على ألف درهم فإن أداها عتق ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت لك الوفاء بالمال وكتبت علي العتق، وله أحكام مبسوطة في كتب الفقه. وفي الأساس واللسان: «كتب عليه كذا: قضي عليه، وكتب الله الأجل والرزق وكتب على عباده الطاعة وعلى نفسه الرحمة وهذا كتاب الله: قدره، قال الجعدي:
يا بنت عمي كتاب الله أخرني ... عنكم وهل أمنعن الله ما فعلا
(الْبِغاءِ) : الزناء وبغت فلانة بغاء وهي بغي: طلوب للرجال وهن بغايا ومنه قيل للإماء البغايا لأنهن كن يباغين في الجاهلية يقال قامت البغايا على رؤوسهم، قال الأعشى:
والبغايا يركضن أكسية الاضريج والشّرعبيّ ذا الأذيال وفي المصباح: «وبغت المرأة تبغي بغاء بالكسر والمد من باب رمى فجرت وهي بغي والجمع البغايا وهو وصف مختص بالمرأة فلا يقال للرجل بغي قاله الأزهري والبغي القينة وإن كانت عفيفة لثبوت الفجور لها في الأصل قاله الجوهري ولا يراد به الشتم لأنه اسم جعل كاللقب والأمة تباغي أي تزاني.
الإعراب:
(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حكم النكاح، والأمر(6/600)
للوجوب إن كانت المرأة محتاجة للنكاح خوف الزنا أو كان الرجل محتاجا للنكاح خوف الزنا فإن لم تكن ثمة حاجة كان الأمر للاباحة كما رأى الشافعي، أو للندب كما رأى أبو حنيفة ومالك، والتفصيل في كتب الفقه والأيامى مفعول به ومنكم حال والصالحين عطف على الأيامى ومن عبادكم حال وإمائكم عطف على عبادكم. (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) إن شرطية ويكونوا فعل الشرط والواو اسمها وفقراء خبرها ويغنهم الله جواب الشرط ومن فضله متعلقان بيغنهم والله مبتدأ وواسع خبر أول وعليم خبر ثان. (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الواو عاطفة واللام لام الأمر ويستعفف مضارع مجزوم بلام الأمر والذين فاعل وجملة لا يجدون صلة ونكاحا مفعول به وحتى حرف غاية وجر ويغنيهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والله فاعل ومن فضله متعلقان بيغنيهم. (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) والذين نصب على الاشتغال أي منصوب بفعل مقدر يفسره المذكور ويجوز إعرابه مبتدأ وخبره جملة فكاتبوهم والأول أرجح لمكان الأمر وجملة يبتغون الكتاب صلة ومما حال وجملة ملكت أيمانكم صلة والفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وكاتبوهم فعل أمر والواو فاعل والجملة مفسرة على الوجه الاول وخبر على الوجه الثاني وإن شرطية وعلمتم فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وفيهم متعلقان بعلمتم وخيرا مفعول به والجواب محذوف دل عليه قوله فكاتبوهم (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ) وآتوهم عطف على فكاتبوهم ومن مال الله متعلقان بآتوهم والذي صفة لله وجملة آتاكم صلة للموصول. (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الواو عاطفة ولا ناهية وتكرهوا فعل(6/601)
مضارع مجزوم بلا الناهية وعلى البغاء متعلقان بتكرهوا وإن شرطية وأردن فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وتحصنا مفعول له والجواب محذوف كما تقدم ولتبتغوا اللام للتعليل وتبتغوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل وعرض الحياة الدنيا مفعول به. (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكرههن فعل الشرط والفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان واسمها ومن بعد إكراههن حال وغفور خبر إن الاول ورحيم خبرها الثاني.
البلاغة:
الاحتراس: في قوله تعالى «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» فقد أقحم هذا الاعتراض ليبشع ذلك عند المخاطب ويحذره من الوقوع فيه ولكي يتيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجر شرعي، ووجه التبشيع عليه أن مضمون الآية النداء عليه بأن أمته خير منه لأنها آثرت التحصّن عن الفاحشة وهو يأبي إلا إكراهها، ولأبي السعود قول جميل في هذا الصدد: «وقوله تعالى إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها من حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهنّ الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصحّحة للاكراه في الجملة بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهوههنّ على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية الى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح» .(6/602)
هذا ومن المفيد أن نذكر سبب نزول هذه الآية فقد ذكروا أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ، كان يكره جواريه على الكسب بالزنا وكنّ ستا فشكا منهن اثنتان الى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، وأسماء هذه الجواري هي: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة.
الفوائد:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» رواه البخاري ومسلم.
وانما خص الشباب لأن الغالب وجود قوة الداعي فيهم الى النكاح بخلاف الشيوخ، والباءة الجماع واستعمل لعقد النكاح، قال الجوهري: الباءة مثل الباعة ومنه سمي النكاح باءة، والوجاء أصله رض الخصيتين. قال النووي في شرح مسلم: «معناه من استطاع منكم الجماع لقدرته على مئونته وهي مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليقطع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء» وهناك قول آخر وهو أن المراد بالباءة مؤن النكاح، سميت باسم ما يلازمها وتقديره من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم، قالوا: والعاجز لا يحتاج الى الصوم لدفع الشهوة فوجب تأويل الباءة بالمؤن(6/603)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
[سورة النور (24) : الآيات 34 الى 38]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)
اللغة:
(كَمِشْكاةٍ) : المشكاة: الكوة غير النافذة، وقيل هي الحديدة أو الرصاصة التي يوضع فيها الزيت، وقيل هي العمود الذي يوضع على رأسه المصباح، وقيل ما يعلق فيه القنديل من الحديدة، وفي القاموس وشرحه: المشكاة كل كوة غير نافذة وكل ما يوضع فيه أو(6/604)
عليه المصباح، وقيل المشكاة حبشية معربة، وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة.
(زُجاجَةٍ) : الزجاج بفتح الزاي وضمها وكسرها: جسم شفاف يصنع من الرمل والقلى والإناء والقطعة منه زجاجة بتثليت الزاي أيضا وأراد قنديلا من زجاج شامي أزهر.
(دُرِّيٌّ) : مضيء، بضم الدال من غير همز وبالتشديد منسوب الى الدر شبّه به لصفائه وإضاءته، ويجوز أن يكون أصله الهمز ولكن خففت الهمزة وهو فعيل من الدر وهو دفع الظلمة بضوئه ويقرأ بالكسر على معنى الوجه الثاني ويكون على فعيل كسكيت وصديق وفي المختار: «الدرء الدفع وبابه قطع ودرأ طلع مفاجأة وبابه خضع ومنه كوكب دريء كسكيت لشدة توقده وتلألؤه، ودريّ بالضم منسوب الى الدر، وقرىء دريء بالضم والهمزة ودريء بالفتح والهمز، وتدارأتم وتدافعتم واختلفتم» وفي الأساس: «وكوكب درّي وطلعت الدراري نسبت الى الدار وهو كبار اللؤلؤ» وفيه أيضا: «ومن المجاز: درأ الكوكب: طلع كأنه يدرأ الظلام ودرأت النار أضاءت» .
(الْآصالِ) : جمع أصيل وهو الوقت بين العصر والمغرب وبجمع أيضا على أصائل وأصل وأصلان.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حقيقة الآيات المنزلة. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق(6/605)
وأنزلنا فعل وفاعل وإليكم متعلقان بأنزلنا وآيات مفعول به ومبينات صفة وهي بكسر الياء وفتحها ومثلا عطف على آيات ومن الذين صفة لمثلا وجملة خلوا صلة ومن قبلكم حال وموعظة عطف على مثلا وللمتقين صفة لموعظة. (اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) الله مبتدأ ونور السموات والأرض خبره ومثل مبتدأ ونوره مضاف اليه والكاف اسم بمعنى مثل خبر ومشكاة مضاف اليه، ويجوز اعراب الكاف حرف جر والجار والمجرور خبر مثل، وفيها خبر مقدم ومصباح مبتدأ مؤخر والجملة صفة لمشكاة وسيأتي تحقيق هذا الكلام في باب البلاغة وجملة مثل نوره تفسير لما قبلها فلا محل لها.
(الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) مبتدأ وخبر والجملة تفسير لما قبلها فلا محل لها.
(الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) الزجاجة مبتدأ وكأن واسمها وكوكب خبرها ودري صفة لكوكب والجملة خبر الزجاجة وجملة الزجاجة إلخ تفسير لما قبلها فلا محل لها وجملة يوقد صفة ثانية لكوكب ونائب الفاعل مستتر ومن شجرة جار ومجرور متعلقان بيوقد وهي لابتداء الغاية على حذف مضاف أي من زيت شجرة ومباركة صفة لشجرة وزيتونة بدل من شجرة ولا شرقية صفة ثانية لشجرة ودخلت لا لتفيد النفي فلا تحول بين الصفة والموصوف، ولا غربية عطف وسيأتي المزيد من بيان هذا المعنى في باب البلاغة. (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) هذه الجملة صفة ثالثة لشجرة ويكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة وزيتها اسمها وجملة يضيىء خبرها، ولو الواو حالية ولو شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتمسسه فعل مضارع مجزوم بلم وجواب لو محذوف أي لأضاء بدلالة ما تقدم عليه والجملة حال فلو هنا تفيد استقصاء الأحوال أي حتى في هذه الحال ونار فاعل تمسسه ونور خبر(6/606)
لمبتدأ محذوف أي هذا الذي شبهت به الحق نور متضاعف وعلى نور متعلقان بمحذوف صفة لنور مؤكدة له وسيأتي سر تنكسير النور في باب البلاغة. (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تنفيذ مشيئته سبحانه، ولنوره متعلقان بيهدي ومن يشاء مفعول يهدي وجملة يشاء صلة ويضرب الله فعل مضارع وفاعل والأمثال مفعول به وللناس متعلقان بيضرب، والله الواو استئنافية أو عاطفة والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر الله. (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) في بيوت صفة لمشكاة أي كمشكاة في بيوت أو لمصباح أو لزجاجة أو متعلقان بيوقد، وعلى هذا لا يوقف على عليم، ولك أن تقف على عليم فتعلقه بمحذوف تقديره سبحوه في بيوت أو بيسبح وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو حال للمصباح والزجاجة والكوكب كأنه قيل: وهو في بيوت، وقيل متعلقان بتوقد أي توقد في بيوت، وجملة أذن الله صفة لبيوت وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن ترفع، ويذكر عطف على ترفع بالبناء للمجهول وفيها متعلقان بيذكر واسمه نائب فاعل. (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) الجملة صفة ثانية لبيوت وله متعلقان بيسبح وبالغدو والآصال حال ورجال فاعل يسبح وجملة لا تلهيهم صفة لرجال وتجارة فاعل تلهيهم ولا بيع عطف على تجارة وعن ذكر الله متعلقان بتلهيهم وما بعده عطف على ذكر الله. (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) الجملة صفة ثانية لرجال أو حال من مفعول تلهيهم ويخافون فعل وفاعل ويوما مفعول به لا ظرف وجملة تتقلب صفة ليوما وفيه متعلقان بتتقلب والقلوب فاعل تتقلب والابصار عطف على القلوب. (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ(6/607)
ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)
اللام للتعليل ويجزيهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والهاء مفعول به أول والله فاعل وأحسن مفعول به ثان وما مضاف اليه وجملة عملوا صلة ويزيدهم عطف على ليجزيهم ومن فضله متعلقان بيزيدهم. (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وجملة يرزق خبر ومن مفعول به وجملة يشاء صلة وبغير حساب حلل.
البلاغة:
حفلت هذه الآيات بأفانين شتى من البلاغة والبيان وسنسهب فيها بعض الشيء جريا على ما درجنا عليه في هذا الكتاب وسنوزع هذه المباحث نجوما متتالية.
1- التشبيه البليغ في قوله تعالى «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» والمراد به المضمر الأداة وقد سبق ذكره مع أقسام التشبيه وانما سمي بليغا لحذف واسطة الأداة ولو جازته بسبب هذا الحذف، وقد تكلم علماء البيان مطولا في هذا التشبيه وحاولوا تجسيد الكيفية التي ساغ فيها هذا التشبيه لأن النور كما هو معلوم كيفية أو عرض يدرك بالبصر فلا يصح حمله على الذات المقدسة، وأحسن ما يقال فيه أن التشبيه جار على التقريب للذهن، أي: به تعالى وبقدرته أنارت أضواء السماء والأرض واستقامت أمورها لأن ظهور الموجودات حصل به كما حصل بالضوء جميع المبصرات، أو انه على التجوز أي منور السماء والأرض، أو بتقدير مضاف كقولك زيد عدل أي ذو عدول.
2- التشبيه المرسل في قوله «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ... الآية» فقد جاء التشبيه هنا بواسطة الأداة وهي الكاف،(6/608)
والمراد أن النور الذي شبه به الحق نور متضاعف قد تناحر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم تبق بقية مما يقوي النور، واختلفوا في هذا التشبيه هل هو تشبيه تمثيلي أي مركب قصد فيه تشبيه جملة بجملة من غير نظر الى مقابلة جزء بجزء بل قصد تشبيه هداه وإتقانه صنعته في كل مخلوق على الجملة بهذه الجملة من النور الذي تتخذونه وهو أبلغ صفات النور عندكم، أو تشبيه غير تمثيلي أي غير مركب قصد فيه مقابلة جزء بجزء، وأجاز القرطبي الوجهين وهذا نص عبارته:
«قوله مثل نوره أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن والدلائل تسمى نورا وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال: «وأنزلنا إليكم نورا مبينا» وسمى نبيه نورا فقال: «قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين» وهذا لأن الكتاب يهدي ويبين وكذلك الرسول، ووجه الاضافة الى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها، وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من المثل به بل وقع التشبيه فيه لجملة بجملة وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر» .
وأبدع الكرخي في تحديده هذا التشبيه التمثيلي فقال:
« ... ومثل الله نوره أي معرفته في قلب المؤمن بنور المصباح دون نور الشمس مع أن نورها أتم لأن المقصود تمثيل النور في القلب والقلب في الصدر والصدر في البدن بالمصباح والمصباح في الزجاجة والزجاجة في القنديل وهذا التمثيل لا يستقيم إلا فيما ذكر أو لأن نور المعرفة له آلات يتوقف هو على اجتماعها كالذهن والفهم والعقل واليقظة وغيرها(6/609)
ولأن نور الشمس يشرق متوجها الى العالم السفلي ونور المعرفة يشرق متوجها الى العالم العلوي كنور المصباح، ولكثرة نفع الزيت وخلوصه عما يخالطه غالبا وقع التشبيه في نوره دون نور الشمع مع أنه أتم من نور المصباح» .
3- الطباق: في قوله تعالى «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» وقد تكلم علماء البيان كثيرا عن هذا الطباق والمقصود منه، قال الزمخشري:
«وقيل لا في مضحى ولا في مقنأة (وهو المكان الذي لا تطلع عليه الشمس) ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير فيهما في مضحى وقيل ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا فهي شرقية وغربية» .
ولابن الأثير كلام لطيف في هذا الصدد قال: «أما تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح فإن هذا مثال ضربه للنبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه انه قال: «توقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية» وإذا نظرت الى هذا الموضع وجدته تشبيها لطيفا عجيبا وذاك أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم وما ألقي فيه من النور وما هو عليه من الصفة الشفافة كالزجاجة التي كأنها كوكب لصفائها وإضاءتها، وأما الشجرة المباركة المباركة التي لا شرقية ولا غربية فانها عبارة عن ذات النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من أرض الحجاز التي لا تميل الى الشرق ولا الى الغرب وأما زيت هذه الزجاجة فإنه مضيء من غير أن تمسه نار والمراد بذلك أن فطرته فطرة صافية من الأكدار منيرة من قبل مصافحة الأنوار» .(6/610)
4- التنكير: في تنكير قوله «نور على نور» ضرب من الفخامة والمبالغة لا أرشق ولا أجمل منه فليس هو نورا واحدا معينا أو غير معين فوق نور آخر مثله، وليس هو مجموع نورين اثنين فقط بل هو عبارة عن نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين. وقد استهوى هذا التعبير شعراءنا العرب فرمقوا سماءه، قال أبو تمام يصف غربته في مصر:
أخمسة أعوام مضت لمغيبه ... وشهران بل يومان ثكل على ثكل
وقال أبو الطيب المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق ... وجوى يزيد وعبرة تترقرق
وقال شوقي في العصر الحديث يرثي المرحوم فوزي الغزي أحد أعلام دمشق:
جرح على جرح حنانك جلق ... حملت ما يوهي الجبال ويرهق
5- تشابه الأطراف: وهو أن ينظر المتكلم الى لفظة وقعت في آخر جملة من الفقرة في النثر أو آخر لفظة وقعت في آخر المصراع الأول في النظم فيبتدىء بها ... تأمل في تشابه أطراف هذه الجمل المتلاحقة «الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنه كوكب دري» ومن أمثلة الشعر في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها(6/611)
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة س
قاها سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال يحلبون حراها
وجميل قول أبي تمام:
هوى كان خلسا إن من أبرد الهوى ... هوى جلت في افنائه وهو خامل
أبا جعفر إنّ الجهالة أمها ... ولود وأم العلم حذاء حائل
فكن هضبة نأوى إليها وحرة ... يعدد عنها الاعوجي المناقل
فإن الفتى في كل ضرب مناسب ... مناسب روحانية من يشاكل
وينسب لأبي نواس قوله:
خزيمة خير بني حازم ... وحازم خير بني دارم
ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم
إلا البهاليل بني هاشم ... وهم سيوف لبني هاشم(6/612)
وقد يكون تشابه الأطراف معنويا وهو أن يختم المتكلم كلامه بما يناسب ابتداءه في المعنى لا في اللفظ كقول محمد بن عبيد الله السلامي:
بدائع الحسن فيه مفترقه ... وأعين الناس فيه متفقة
سهام ألحاظه مفوقه ... فكل من رام لحظه رشقه
قد كتب الحسن فوق عارضه ... هذا مليح وحق من خلقه
فالرشق في قافية البيت الثاني يناسب السهام في أوله.
وجميل قول السري الرفاء:
ابريقنا عاكف على قدح ... كأنه الأم ترفع الولدا
أو عابد من بني المجوس إذا ... توهم الكأس شعلة سجدا
فالسجود مناسب للعابد في أول البيت.
وبلغ ابن الرومي الغاية في وصف مغنية:
جاءت بوجه كأنه قمر ... على قوام كأنه غصن
غنت فلم تبق فيّ جارحة ... إلا تمنيت أنها أذن
فالأذن تناسب ذكر الغناء في أول البيت.
استدراك على بعض النقاد:
هذا وقد خفيت على بعض علماء البيان أسرار التشابه في الأطراف(6/613)
فجزم بأنه إذا ذكرت اللفظة في أول كلام يحتاج الى تمام فينبغي أن تعاد بعينها في آخره ومتى عدل عن ذلك كان معيبا ثم مثل ذلك بقول أبي تمام وقول أبي الطيب المتنبي فقال: إن أبا تمام أخطأ في قوله:
بسط الرجاء لنا برغم نوائب ... كثرت بهن مصارع الآمال
فحيث ذكر الرجاء في صدر البيت كان ينبغي أن يعيد ذكره أيضا في عجزه أو كان ذكر الآمال في صدر البيت وعجزه وكذلك أخطأ أبو الطيب في قوله:
اني لأعلم واللبيب خبير ... أن الحياة وان حرصت غرور
فإنه قال «إني لأعلم واللبيب خبير» وكان ينبغي أن يقول:
الي لأعلم واللبيب عليم ليكون ذلك تقابلا صحيحا.
هذا ما ذكره الناقد وليس بشيء لأن المعتمد عليه في هذا الصدد أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز.
6- المجاز العقلي: في قوله «يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار» فقد أسند الى القلوب والأبصار التقلب والاضطراب من الهول والفزع.
وفي قوله «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» فن الغلو وهو الافراط في وصف الشيء المستحيل عقلا وعادة وهو ينقسم الى قسمين مقبول وغير مقبول فالمقبول لا بد أن يقربه الناظم الى القبول بأداة التقريب، إلا أن يكون الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فلا غلو حينئذ ويجب على الناظم أن يسبكه في قالب التخيلات التي تدعو العقل الى قبولها في أول وهلة كالآية الكريمة فإن إضاءة الزيت من غير مس النار مستحيلة عقلا ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولا.(6/614)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
والقسم الثاني وهو الغلو غير المقبول، كقول ابي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق
[سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
اللغة:
(كَسَرابٍ) : السراب: ما يشاهد نصف النهار من اشتداد الحر كأنه ماء تنعكس فيه البيوت والأشجار وغيرها ويضرب به المثل في الكذب والخداع يقال: هو أخدع من السراب، وسمي سرابا لأنه يتسرب أي يجري كالماء، يقال سرب الفحل أي مضى وسار ويسمى الآل أيضا ولا يكون إلا في البرية والحر فيغتر به الظمآن.
(بِقِيعَةٍ) : القيعة بمعنى القاع أو جمع قاع وهو المنبسط المستوي من الأرض وفي الصحاح: «والقاع المستوي من الأرض والجمع أقواع وقيعان فصارت الواو ياء لكسر ما قبلها والقيعة مثل القاع وهو أيضا من الواوي وبعضهم يقول هو جمع» وقال الهروي:
«والقيعة جمع القاع مثل جيرة وجار» وفي الأساس: «هو كسراب(6/615)
بقيعة وبقاع ونزلوا بسراب قيعان ولهم قاعة واسعة وهي عرضة الدار وأهل مكة يسمون سفل الدار القاعة ويقولون: فلان قعد في العسية ووضع قماشه في القاعة، وقال:
سائل مجاور جرم هل جنيت لهم ... حربا تفرّق بين الجيرة الخلط
وهل تركت نساء الحي ضاحية ... في قاعة الدار يستوقدن بالغبط
وفي القاموس والتاج ما يفهم منه أن القاع أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام ويجمع على أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعة.
(لُجِّيٍّ) : اللجي: العميق الكثير الماء منسوب الى اللج وهو معظم البحر هكذا قال الزمخشري، وقال غيره منسوب الى اللجة بالتاء وهي أيضا معظمه.
الإعراب:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) كلام مستأنف مسوق لبيان حال عمل من لا يعتقد الايمان ولا يتبع الحق بعد أن بين حال المؤمنين بضرب مثل لهم وهو «مثل نوره كمشكاة» . والذين مبتدأ أول وجملة كفروا صلة الموصول وأعمالهم مبتدأ ثان وكسراب خبر الثاني والمبتدأ الثاني وخبره خبر الاول وجملة يحسبه الظمآن صفة لسراب وماء مفعول به(6/616)
ثان ليحسبه وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاءه في محل جر باضافة الظرف إليها وجملة لم يجده لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وشيئا في موضع المصدر أي لم يجده وجدانا وقيل شيئا هنا بمعنى ما قدّره وظنّه فهي مفعول به ثان ليجده وسيأتي مزيد بحث عنها في باب البلاغة. (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) الواو حرف عطف ووجد فعل ماض وفاعل مستتر ولفظ الجلالة مفعول به وعنده متعلقان بمحذوف مفعول به ثان لوجد أي كائنا عند السراب أو العمل، فوفاه الفاء عاطفة ووفاه فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وحسابه مفعول به ثان أي جازاه عليه في الدنيا والله مبتدأ وسريع الحساب خبر. (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) أو حرف عطف قيل هي للتقسيم أو للتخيير أي أن عمل الكافر قسمان: قسم كالسراب وهو العمل الصالح وقسم كالظلمات وهو العمل السيّء أو أن عمل الكافر لاغ لا منفعة له كالسراب ولكونه خاليا من نور الحق كالظلمات المتراكبة والحنادس المدلهمة. قال الزجاج: «أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار كما أنها تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات فهي أيضا تشبه الظلمات، وانها ان مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب، وان مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصف» وقال أيضا «إن شئت مثل بالسراب وان شئت مثل بهذه الظلمات، فأو للإباحة» والجار والمجرور نسق على كسراب على حذف مضاف تقديره أو كذي ظلمات ويدل على هذا المضاف قوله «إذا أخرج يده لم يكد يراها» أو على حذف مضافين تقديرهما كأعمال ذي ظلمات، وفي بحر صفة لظلمات ولجي صفة لبحر وجملة يغشاه موج صفة ثانية لبحر وموج فاعل ومن فوقه خبر مقدم وموج مبتدأ مؤخر والجملة صفة لموج الأولى وجملة من فوقه سحاب(6/617)
صفة لموج الثانية. (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) ظلمات خبر لمبتدأ محذوف أي هذه ظلمات والجملة تفسير لما قبلها فلا محل لها وبعضها مبتدأ وفوق بعض الظرف متعلق بمحذوف خبر والجملة صفة لظلمات وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب وجملة أخرج في محل جر باضافة الظرف إليها وفاعل أخرج ضمير الواقع في البحر المرتطم فيه ويده مفعول به ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكد فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها ضمير مستتر تقديره هو وجملة يراها خبر يكد وجملة لم يكد يراها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويجعل فعل الشرط والله فاعل وله مفعول به ثان ونورا مفعول به أول ليجعل والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وما نافية وله خبر مقدم ومن حرف جر زائد ونور مجرور لفظا مرفوع بالابتداء محلا والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر المبتدأ.
البلاغة:
وقد انطوت هذه الآية على أفانين من البلاغة ندرجها فيما يلي:
1- التشبيه المرسل: فقد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه الحاسة، ولو قيل يحسبه الرائي ماء لكان بليغا، وأبلغ منه لفظ القرآن لأن الظمآن أشد حرصا عليه وأكثر تعلق قلب به وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من أحسن التشبيه وأبلغه فكيف وقد تضمن مع ذلك حسن النظم وعذوبة الألفاظ وصحة الدلالة وصدق التمثيل.(6/618)
2- التشبيه التمثيلي: وقوله «ووجد الله عنده» تشبيه تمثيلي أي وجد عقابه وزبانية عذابه، ووجه التشبيه أن الذي يأتي به الكافر من أعمال البر ويعتقد أن له ثوابا عند الله تعالى وليس كذلك فاذا وافى عرصات القيامة لم يجد الثواب الذي كان يظنه بل وجد العقاب العظيم والعذاب الأليم فعظمت حسرته وتناهى غمه فشبه حاله بحال الظمآن الذي اشتدت حاجته الى الماء فإذا شاهد السراب في البر تعلق قلبه فإذا جاءه لم يجده شيئا فكذلك حال الكافر يحسب أن عمله نافعه فإذا احتاج الى عمله لم يجده أغنى عنه شيئا.
3- العطف على محذوف: في قوله تعالى «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ» عطف على مقدر وليست الجملة معطوفة على «لم يجده شيئا» بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا، كأنه قيل حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئا ووجدوا حكم الله وقضاءه لهم بالمرصاد.
4- المبالغة في التشبيه: وهذا في قوله: «إذا أخرج يده لم يكد يراها» وقد اختلف الناس في تأويل هذا الكلام ويكاد الإجماع ينعقد على أن المعنى أنه لا يرى يده فعلى هذا في التقدير ثلاثة أوجه:
أحدها أن التقدير لم يرها ولم يكد وهذا غير واضح لأنه نفي للرؤية ثم اتبات لها، ووجه ثان وهو أن كاد زائدة ولا مساغ له في القرآن فالوجه إذن انه لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها، ومثله قول ذي الرمة:
إذا غيّر النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح(6/619)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
أي لم يقرب من البراح، والنأي: البعد، ويقال رس وأرس إذا لزم والرسيس بقية المرض، ويبرح يذهب، وروي أن ذا الرمة لما قدم الكوفة اعترض عليه ابن شبرمة في ذلك بأنه يدل على زوال رسيس الهوى فغيره بقوله لم أجد وقال ابن عتبة حدثت أبي بذلك فقال: أخطأ ابن شبرمة وأخطأ ذو الرمة في تغييره وانما هو كقوله تعالى: «لم يكد يراها» وبعد البيت:
فلا القرب يدنو من هواها ملالة ... ولا حبها إن تنزح الدار ينزح
[سورة النور (24) : الآيات 41 الى 44]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)(6/620)
اللغة:
(الطَّيْرُ) : قال أبو عبيدة وقطرب: الطير يقع على الواحد والجمع وقال ابن الانباري: الطير: جماعة وتأنيثها أكثر من التذكير وفي المصباح: «الطائر على صيغة اسم الفاعل من طار يطير طيرانا وهو له في الجو كمشي الحيوان في الأرض ويعدى بالهمزة والتضعيف فيقال:
طيرته وأطرته وجمع الطائر طير مثل صاحب وصحب وراكب وركب وجمع الطير طيور وأطيار» .
(صَافَّاتٍ) : باسطات أجنحتهن في الهواء.
(يُزْجِي) : يسوق وفي المختار: «زجى الشيء تزجية دفعه برفق وتزجّى بكذا اكتفى به وأزجى الإبل ساقها والمزجى الشيء القليل وبضاعة مزجاة قليلة والريح تزجي السحاب والبقرة تزجي ولدها تسوقه» وفي القاموس وشرحه: «زجا يزجو زجوا وزجّى تزجية وأزجى إزجاء وازدجاه ساقه ودفعه برفق يقال: كيف تزجي أيامك أي كيف تدفعها وزجّى فلان حاجتي أي سهّل تحصيلها وأزجى الأمر أخره وأزجى الدرهم روجه» ومنه قول النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني ... أزجي حشاشة نفس ما بها رمق
(رُكاماً) : الركام بضم الراء المتراكم بعضه فوق بعض وفي المختار: «ركم الشيء إذا جمعه وألقى بعضه على بعض وبابه نصر وارتكم الشيء وتراكم: اجتمع والركام الرمل المتراكم والسحاب ونحوه» .(6/621)
(الْوَدْقَ) : المطر قيل هو خاص بالضعيف وقيل هو المطر ضعيفا كان أو شديدا وهو في الأصل مصدر يقال ودق السحاب يدق من باب وعد.
(سَنا) : في المختار: «السنا مقصور ضوء البرق والسنا أيضا هو نبت يتداوى به والسناء من الرفعة ممدود والشيء الرفيع وأسناه رفعه وسناه تسنية فتحه وسهله» .
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير هذه الحقيقة، فالهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنت وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر لأن الرؤية هنا قلبية لأن تسبيح المسبحين لا تتعلق به رؤية البصر أي قد علمت علما يشبه المشاهدة في اليقين، وجملة يسبح خبر وله متعلقان بيسبح ومن فاعل يسبح وفي السموات والأرض صلة من. (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) الواو للعطف والطير عطف على من وصافات حال ومفعول صافات محذوف أي باسطات أجنحتها، وكل مبتدأ وساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم وجملة قد علم خبر كل وفاعل علم يعود على كل أو على الله، ويقول أبو البقاء إن عودته على «كل» أرجح لأن القراءة برفع كل على الابتداء، فيرجع ضمير الفاعل اليه ولو كان فيه ضمير اسم الله لكان الأولى نصب كل لأن الفعل الذي بعدها قد نصب ما هو من سببها فيصير كقولك زيدا ضرب(6/622)
عمر وغلامه فتنصب زيدا بفعل دل عليه ما بعده وهو أقوى من الرفع والآخر جائز» وصلاته مفعول به وتسبيحه عطف على صلاته والله مبتدأ وعليم خبر وبما متعلقان بعليم وجملة يفعلون صلة ما.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والى الله خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) الهمزة للاستفهام التقريري وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر وقد تقدم اعراب نظيره، ثم حرف عطف ويؤلف عطف على يزجي وبينه ظرف متعلق بيؤلف ودخلت بين على مفرد وهي إنما تدخل على المثنى فما فوقه لأنه إما أن يراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه وإما أن يراد أنه على حذف مضاف أي بين قطعه فإن كل قطعة سحابة، ثم حرف عطف ويجعله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وركاما مفعول به ثان. (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) الفاء عاطفة وترى الودق فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به وجملة يخرج حال لأن الرؤية هنا بصرية ومن خلاله متعلقان بيخرج أي من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبل وجبال، وينزل من السماء من جبال فيها من برد تقدم اعرابها ونعيده هنا للتقوية فمن الأولى ابتدائية متعلقة بينزل وكذلك الثانية فهي بدل بإعادة العامل وفيها صفة لجبال ومن برد للتبعيض وهي ومجرورها في موضع مفعول الانزال وقيل هي للبيان أي فتكون حالا وتكون من جبال هي في موضع مفعول الانزال، وأجمل بعضهم اعراب الآية فقال: والحاصل أن من في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف ومن في من جبال فيها ثلاثة أوجه:(6/623)
الاول: لابتداء الغاية فتكون هي ومجرورها بدلا من الاولى بإعادة الخافض بدل اشتمال.
الثاني: انها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الانزال كأنه قال وينزل بعض جبال.
الثالث: انها زائدة أي ينزل من السماء جبالا.
وأما من في من برد ففيها أربعة أوجه:
الثلاثة المتقدمة والرابع انها لبيان الجنس فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد.
وقال الزجاج: «ومعنى الآية وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد أي خاتم حديد في يدي لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحدا» وعلى هذا يكون من برد في موضع جر صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزل بردا.
وذكر أبو البقاء أن التقدير شيئا من جبال فحذف الموصوف واكتفى بالصفة.
(فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) الفاء عاطفة ويصيب فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر يعود على الله وبه متعلقان بيصيب ومن مفعول به وجملة يشاء صلة الموصول ويصرفه عمن يشاء عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها. (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (يُقَلِّبُ(6/624)
اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ)
الجملة صفة لبرد ويكاد فعل مضارع من أفعال المقاربة وسنا برقه اسمها وجملة يذهب بالأبصار خبرها وجملة يقلب تفسير لما قبلها فلا محل لها والله فاعل يقلب والليل مفعول به والنهار عطف على الليل وان حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وعبرة اسمها المؤخر ولأولي الابصار صفة لعبرة والأبصار بمعنى البصائر.
البلاغة:
1- فن العنوان:
في قوله «ألم تر أن الله يزجي سحابا» الآية فن انفرد به القليل من علماء البيان وهو فن العنوان، وعرفوه بأنه أن يأخذ المتكلم في غرض له من وصف أو فخر أو مدح أو عتاب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون ثم يأتي لقصد تكميله وتوكيده بأمثلة من ألفاظ تكون عنوانات لأخبار متقدمة وقصص سالفة، ومنه نوع عظيم جدا وهو ما يكون عنوانا للعلوم وذلك أن تذكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها والآية التي نحن بصددها فيها عنوان العلم المعروف بالآثار العلوية والجغرافيا الرياضية وعلم الفلك، ومن أمثلته في الشعر قصيدة أبي فراس الحمداني:
خليلي ما أعددتما لمتيم ... أسير لدى الأعداء جافي المراقد
فريد عن الأحباب لكن دموعه ... مثان على الخدين غير فرائد
جمعت سيوف الهند من كل وجهة ... وأعددت للأعداء كل مجالد
إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد(6/625)
فقد جرت الحنفاء حتف جذيمة ... وكان يراها عدة للشدائد
وجرت منايا مالك بن نويرة ... حليلته الحسناء يا أم خالد
وأردى ذؤابا في بيوت عتيبة ... بنوه وأهلوه بشدو القصائد
فهذه القصص التي استطرد إليها أبو فراس تكميلا لقصده وتدعيما لرأيه مشهورة ومعروفه، ويمكن الرجوع إليها في مظانها بكل سهولة.
وقال الفرزدق لجرير:
فهل أنت إن ماتت أتانك راكب ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
وإني لأخشى إن خطيت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب
ومن حديث يسار أنه كان عبدا أسود يرعى لأهله إبلا وكان معه عبد يراعيه وكان لمولى يسار بنت فمرت يوما بإبله وهي ترعى في روض معشب فجاء يسار بعلبة لبن وسقاها وكان أفحج الرجلين فنظرت الى فحجه فتبسمت ثم شربت وأخذت مضجعها فانطلق فرحا حتى أتى العبد الراعي وقصّ عليه القصة وذكر فرحه بتبسمها فقال صاحبه يا يسار، كل من لحم الحوار، واشرب لبن العشار، وإياك وبنات الأحرار فقال له: دحكت لي دحكة لا أخيبها، يريد ضحكت لي ضحكة، ثم قام الى علبة فملأها وأتى الى ابنة مولاه فنبهها فشربت ثم اضطجعت فجلس العبد حذاءها فقالت: ما جاء بك؟ فقال: ما خفي عنك ما جاء بي فقالت: فأي شيء هو؟ قال: دحكك الذي دحكت إلي فقالت حياك الله ثم قامت(6/626)
الى سفط لها فأخرجت منه بخورا ودهنا وعمدت الى موسى ودعت بمجمرة وقالت له: إن ريحك ريح الإبل وهذا دهن طيب فوضعت البخور تحته وطأطأت كأنها تصلح البخور وأخذت مذاكيره وقطعتها بالموسى ثم أشمته الدهن فسلتت أنفه وأذنيه وتركته فصار مثلا لكل جان على نفسه ومتعد طوره.
وزعيم هذا الباب أبو تمام فقد كان من أهم مميزات شعره استخدامه الحوادث القديمة والحديثة في أماديحه خاصة كقوله يمدح أبا دلف:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها ... وزادت على ما وطّدت من مناقب
فأنتم بذي قار أمالت سيوفكم ... عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
فقد ارتقى بمديحه الى ذكر قصة قوس حاجب، وخلاصتها أن حاجب بن زرارة سيد بني تميم أتى الى كسرى في سنة جدب يستميره فقال له كسرى: وما ترهنني؟ قال قوسي، فاستعظمه وقدم له ما طلب، فضرب بقوس حاجب المثل عند العرب ثم كانت وقعة ذي قار وانتصر العرب على العجم لأول مرة وحرروا أرضهم من استعمارهم وكان الفضل يعود الى بني شيبان الذين يمت إليهم الممدوح بالنسبة، فقال أبو تمام منوها بذكر هذه الحادثة.(6/627)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
ويطول بنا الحديث إن تقصينا ما ورد في هذا الباب فحسبنا من القلادة ما أحاط بالجيد.
2- المبالغة أو الافراط في الصنعة:
وفي قوله «يكاد سنابرقه يذهب بالأبصار» فن سماه ابن المعتز الافراط في الصنعة، وسماه قدامة المبالغة، وسماه من بعدهما التبليغ، والناس على تسمية قدامة، وعرفه بقوله: «هو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده» وقد قدمنا في مكان آخر من هذا الكتاب ضروب المبالغات في الكتاب العزيز فلا حاجة الى الإعادة، ونقف عند الضرب الخامس الذي منه هذه الآية وهو ما جرى مجرى الحقيقة وهو قسمان: قسم كان مجازا فصار بالقرينة حقيقة كهذه الآية فإن اقتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الإمكان، وقسم أتى بصيغة اسم التفضيل وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» وقد تقدم القول فيه.
[سورة النور (24) : الآيات 45 الى 49]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)(6/628)
الإعراب:
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) كلام مستأنف مسوق لبيان أصناف الخلق، والله مبتدأ وجملة خلق خبر وكل دابة مفعول به ومن ماء جار ومجرور متعلقان بخلق أي نطفة بحسب الأغلب. (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) الفاء تفريعية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة يمشي صلة الموصول وعلى بطنه متعلقان بيمشي ومنهم من يمشي على رجلين عطف على ما سبقه. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) عطف، وسيأتي سر ذكر من لغير العاقل في باب البلاغة.
(يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يخلق الله ما يشاء فعل مضارع وفاعل ومفعول به وجملة يشاء صلة وإن الله ان واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير وقدير خبر إن. (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) كلام مستأنف مسوق لذكر آياته سبحانه على طريق الالتفات كما سيأتي في باب البلاغة، واللام جواب(6/629)
للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأنزلنا فعل وفاعل وآيات مفعول به ومبينات صفة والله مبتدأ وجملة يهدي خبره ومن مفعول به وجملة يشاء صلة والى صراط متعلقان بيهدي ومستقيم صفة. (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان حال المنافقين، ويقولون فعل مضارع مرفوع وفاعل وجملة آمنا مقول القول وآمنا فعل وفاعل وبالله متعلقان بآمنا وبالرسول عطف على بالله وأطعنا عطف على آمنا. (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ثم حرف عطف ويتولى فعل مضارع مرفوع وفريق فاعل ومنهم صفة ومن بعد ذلك حال، والاشارة الى القول المذكور، والواو حالية وما نافية حجازية وأولئك اسم اشارة في محل رفع اسم ما والباء حرف جر زائد والمؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا خبر ما والجملة حالية. (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط ودعوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل والى الله متعلقان بدعوا ورسوله عطف على الله والمراد رسول الله كقولك أعجبني زيد وكرمه تريد كرم زيد، واللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بدعوا وبينهم ظرف متعلق بيحكم. (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) إذا فجائية وقامت مقام الفاء في ربط الجواب بشرطه وهو إذا الأولى، وفريق مبتدأ ومنهم صفة وهي التي سوغت الابتداء به ومعرضون خبر فريق. (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) الواو عاطفة وإن شرطية ويكن فعل الشرط ولهم خبر يكن المقدم والحق اسمها المؤخر ويأتوا جواب الشرط واليه متعلقان بيأتوا ويجوز أن يتعلق(6/630)
بمذعنين، قال الزمخشري: «وهذا أحسن لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص والمعنى انهم لمعرفتهم انه ليس معك إلا الحق المر والعدل البحت يزورّون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمة الخصم» ومذعنين حال، قال الزجاج: الإذعان الاسراع مع الطاعة وفي القاموس:
«أذعن له خضع وذل وأقر وأسرع في الطاعة» .
البلاغة:
1- صحة التفسير:
في قوله تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ» الآية: فيها فن بديع من فنون البلاغة سماه علماؤها «صحة التفسير» وسماه ابن الأثير في المثل السائر «التناسب بين المعاني» وحدّه أن يأتي المتكلم في أول كلامه بمعنى لا يستقل الفهم بمعرفة فحواه، إما أن يكون مجملا يحتاج الى تفصيل أو موجها يفتقر الى توجيه أو محتملا يحتاج المراد منه الى ترجيح لا يحصل إلا بتفسيره وتبيينه ووقوع التفسير على أنحاء تارة يأتي بعد الشرط أو بعد ما فيه معنى الشرط وطورا بعد الجار والمجرور وآونة بعد المبتدأ الذي التفسير خبره. والآية التي نحن بصددها مما وقع بعد الجار والمجرور فقد ذكر سبحانه الجنس الأعلى مقدما له حيث قال: «كل دابة» فاستغرق أجناس كل ما دبّ ودرج ثم فسر هذا الجنس الأعلى بالأجناس المتوسطة والأنواع حيث قال «فمنهم» و «ومنهم» مراعيا الترتيب إذ قدم ما يمشي بغير آلة لكونه الآية سيقت(6/631)
لبيان القدرة والتمدح بها وتعجب السامعين منها، وما يمشي بغير آلة أعجب مما يمشي بآلة فلذلك اقتضت البلاغة تقديمه، ثم ثنى بالأفضل فالأفضل فأتى بما يمشي على رجلين وهو الإنسان والطائر لتمام خلق الإنسان وكمال حسن صورته وهيئته وجمال تقويمه المقتضي تخصيصه بالعقل ولما في الطائر من عجب الطيران في الهواء الدال على غاية الخفة ونهاية اللطف مع ما فيه من كثافة، وثلث بما يمشي على أربع لأنه أحسن الحيوان البهيم وأقواه تغليبا على ما يمشي على أكثر من أربع من الحشرات فاستوعبت جميع الاقسام، وأحسن الترتيب بالاضافة الى الترتيب والاشارة والارداف وحسن النسق.
وعرفه صاحب العمدة بأنه أن يستوفي الشاعر شرح ما بدأ به مجملا، وقلما يجيء هذا إلا في أكثر من بيت واحد ومثل له ببيتين للفرزدق وهما:
لقد جئت قوما لو لجأت إليهم ... طريد دم أو حاملا ثقل مغرم
لألفيت منهم معطيا ومطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيح المقوم
واشترط صاحب العمدة سلامته من سوء التضمين قال: ومن جيد التفسير قول حاتم الطائي ويروى لعتيبة بن مرداس:(6/632)
متى ما يجىء يوما الى المال وارثي ... يجد جمع كف غير ملأى ولا صفر
يجد فرسا مثل العنان وصارما ... حساما إذا ما هزّ لم يرض لهبر
وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر
فهذا هو التفسير الصحيح السالم من التضمين لأنه لم يعلق كلامه ب «لو» كما فعل الفرزدق ومثله قول عروة بن الورد:
وإن امرأ يرجو تراثي وإن ما ... يصير له منه غدا لقليل
ومالي مال غير درع ومغفر ... وأبيض من ماء الحديد صقيل
وأسمر خطيّ القناة مثقّف ... وأجرد عريان السراة طويل
هكذا أنشدوه بالاقواء ويجوز أن يرفع على القطع والإضمار كأنه قال: هو صقيل، أو قال: ولي أبيض من ماء الحديد يعني سيفه.
وقال ذو الرمة في التفسير:
وليل كجلباب العروس ادّرعته ... بأربعة والشخص في العين واحد(6/633)
أحمّ علا فيّ وأبيض صارم ... وأعيس مهري وأروع ماجد
ففسر الأربعة ما هي؟ ورفع على شرط ما قدمت من الإضمار كأنه قيل له: ما الأربعة التي شخصها في العين واحد؟ فقال كذا وكذا وكذا.
ومضى صاحب العمدة يورد نماذج من التفسير إلى أن قال:
«ومن التفسير ما يفسر فيه الأكثر بالأقل وذلك ما أتت فيه الجملة بعد الشرح نحو قول أبي الطيب:
من مبلغ الأعراب أني بعدها ... جالست رسطاليس والاسكندرا
ومللت نحر عشارها فأضافني ... من ينحر البدر النضار لمن قرى
وسمعت بطيلموس دارس كتبه ... متملكا مبتديا متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما ... رد الإله نفوسهم والأعصرا(6/634)
نسقوا لنا نسق الحساب مقدما ... وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا
فقوله: «نسقوا لنا نسق الحساب مقدما» البيت تفسير مليح قليل النظير في أشعار الناس» هذا وقال الواحدي في شرح البيت الأخير: «جمع لنا الفضلاء في الزمان ومضوا متتابعين متقدمين عليك في الوجود فلما أتيت بعدهم كان فيك من الفضل ما كان فيهم مثل الحساب يذكر تفاصيله ثم تجمع تلك التفاصيل فيكتب في آخر الحساب فذلك كذا وكذا فيجمع في الجملة ما ذكر في التفاصيل، كذلك أنت جمع فيك ما تفرق فيهم من الفضائل والعلم والحكمة» .
وقال أبو الطيب أيضا في التفسير المستحسن:
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا ... في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا
ففسر وقابل كل نوع بما يليق به من غير تقديم ولا تأخير، ومن التفسير الحلو قول كشاجم واسمه محمود بن الحسين:
في فمها مسك ومشمولة ... صرف ومنظوم من الدّر
فالمسك للنكهة والخمر للر ... يقة واللؤلؤ للثغر
وجميل قول ابن هانىء الاندلسي:
المدنفات من البرية كلها ... جسمي وطرف بابليّ أحور
والمشرقات النيرات ثلاثة ... الشمس والقمر المنير وجعفر(6/635)
2- التنكير:
ونكر الماء في قوله «من ماء» وعرفه في قوله «وجعلنا من الماء كل شيء حي» لأن المقصد في الآية هنا اظهار أن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة ذكر تفاصيلها في آية النور والرعد، والمقصد في آية «اقترب» أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء المختلف الأنواع فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة.
3- الاستعارة:
الاستعارة في قوله «فمنهم من يمشي على بطنه» فقد سمى الزحف على البطن مشيا على سبيل الاستعارة المكنية كما قالوا في الأمر المستمر: قد مشى هذا الأمر، ويقال فلان لا يتمشى له أمر.
4- التغليب:
وفي قوله «من يمشي على بطنه ومن يمشي على أربع» تغلبب للعاقل على غيره وقد مرت له نظائر كثيرة لأنه لما اختلط غير العاقل بالعاقل في الفصل بمن وكل دابة كان التعبير بمن أولى لتوافق اللفظ.
وقيل أوقع «من» على غير العاقل لما اختلط بالعاقل ويحتمل أن تكون من نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير فمنهم نوع يمشي على بطنه ونوع يمشي على رجلين ونوع يمشي على أربع على حد: ومن الناس من يعبد الله على حرف، قال ابن هشام: ويجوز في من أن تكون نكرة موصوفة بالجملة بعدها والتقدير ومن الناس ناس يعبدون الله.(6/636)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
[سورة النور (24) : الآيات 50 الى 53]
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53)
الإعراب:
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا) كلام مستأنف مسوق لتقسيم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله. والهمزة للاستفهام التقريري ويبالغ به تارة في الذم وتارة في المدح وهو هنا من النوع الأول، وفي قلوبهم خبر مقدم ومرض مبتدأ مؤخر وأم حرف عطف بمعنى بل فهي منقطعة وارتابوا فعل وفاعل. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أم يخافون عطف على ما تقدم وأن يحيف في تأويل مصدر مفعول به يخافون والحيف الميل والجور في القضاء وبل حرف إضراب وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والظالمون خبر هم والجملة خبر المبتدأ الأول أو خبر أولئك. (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا(6/637)
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ)
إنما كافة ومكفوفة وكان فعل ماض ناقص وقول خبر كان المقدم والمؤمنين مضاف إليه وانما ترجح نصبه لأنه متى اجتمع معرفتان فالأولى جعل أوغلهما في التعريف ولكن سيبويه لم يفرق بينهما وسيأتي مزيد بحث في باب الفوائد، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دعوا في محل جر باضافة الظرف إليها والواو نائب فاعل والى الله متعلقان بدعوا ورسوله عطف على الله واللام للتعليل ويحكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وبينهم ظرف متعلق بيحكم وجعل الزمخشري فاعل يحكم عائدا الى المصدر لأن معناه ليفعل الحكم بينهم. (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أن وما حيزها اسم كان وجملة سمعنا مقول القول وأطعنا عطف على سمعنا والواو حرف عطف وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والمفلحون خبر هم أو خبر أولئك وقد تقدم قريبا.
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويطع فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو ورسوله عطف على الله ويتقه عطف على يطع بسكون الهاء وكسرها ومع إشباع وبدونه، والفاء رابطة لجواب الشرط وأولئك هم الفائزون تقدم فيه القول كثيرا. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ)
كلام مستأنف لحكاية قول المنافقين لرسول الله أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا ولئن أقمت أقمنا ولئن أمرتنا بالجهاد جاهدنا. وأقسموا فعل ماض والواو فاعل وبالله متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم مفعول مطلق، وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة، أو حال تقديره مجتهدين، وقد خلط الزمخشري الوجهين فجعلهما واحدا، ولئن اللام موطئة للقسم وان شرطية أمرتهم فعل وفاعل ومفعول به. (لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ(6/638)
بِما تَعْمَلُونَ)
اللام واقعة في جواب القسم ويخرجن فعل مضارع مرفوع وحذفت النون لتوالي الأمثال والواو فاعل والنون للتوكيد ولم يبن الفعل لأن النون لم تباشره، وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولا ناهية وتقسموا فعل مضارع مجزوم بلا وطاعة خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمركم أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها، ويجوز أن يعرب مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معروفة أولى بكم وأمثل من هذه الأيمان الكاذبة، ومعروفة صفة وجملة إن الله تعليلية لما تقدم وان واسمها وخبير خبر وبما متعلقان بخبير وجملة تعملون صلة.
البلاغة:
1- الاستعارة:
جهد أيمانكم: لفظ مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وقد استعاره للايمان وأصله أقسم بالله جهد اليمين جهدا فحذف الفعل وقدم المصدر موضوعا موضعه مضافا الى المفعول كضرب الرقاب وإذا جعلته حالا جعلته مؤولا باسم الفاعل أي جاهدين.
2- صحة التقسيم:
وفي قوله تعالى: «أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» الآية فن يقال له صحة التقسيم وقد تقدمت الاشارة اليه فإنها لم تبق قسما يقع في القلوب من الصوارف عن القبول إلا جاءت به، ألا ترى أنه تعالى بعد قوله «أفي قلوبهم مرض» ذكر الريبة لأنه لا بد أن يكون الصارف عن الإجابة(6/639)
فحكم الله ورسوله إما إبطان الكفر وإظهار الإسلام وهو المرض، أو التشكك والتردد والتذبذب في حكم الله هل هو جار على العدل أو على غيره وذلك هو الريبة، أو يكون الصارف خوف الحيف الذي لا يشعر به رجاء الانصاف فلم يبق قسم من الصوارف حتى ذكر فيها ثم ختمها سبحانه بقوله «بل أولئك هم الظالمون» فيكون مرشحا للايغال الذي جاء في فاصلة الآية فحقق الظلم وصفا لهم في الرد عليهم ليبقي ثبوته فيهم وجوده في حكمه سبحانه فحصل من ذلك الافتتان وهو جمع الكلام بين فنيّ الفخر والهجاء فإن في وصفهم بالظلم وصف ذاته بالعدل ووصف نبيه بالعدل أيضا فاذا أضفت الى ذلك أن الكلام قد أفرغ في قالب من النزاهة والاحتشام واشتمل الهجاء المرير على مالا يوهم الهجاء وهو من أمضى الهجاء وأقذعه فقد أضفت الى ما تقدم فن النزاهة وهو فن مشهور من فنون البلاغة عبر عنه أبو عمرو بن العلاء بقوله:
«خير الهجاء ما تنشده العذراء في خدرها فلا يقبح بمثلها» وابن بسام في قوله في الذخيرة: «الهجاء ينقسم الى قسمين: قسم يسمونه هجاء الاشراف وهو ما لم يبلغ أن يكون سبابا أو هجوا مستبشعا والثاني السباب الذي أحدثه جرير وطبقته» فقد اجتمع في الآية حسن التقسيم والإيغال والافتنان والنزاهة.
ومما ورد من الهجاء الموجع وليس فيه لفظ فاحش قول أبي تمام:
بني لهيعة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب
لجاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب
الفوائد:
توسط الخبر بين الافعال الناقصة وبين أسمائهن جائز، قال ابن(6/640)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
مالك: «وفي جميعها توسط الخبر أجز» قال الله تعالى «وكان حقا علينا نصر المؤمنين» فحقا خبر كان مقدم ونصر المؤمنين اسمها المؤخر، ويؤخذ من كلام المغني أن رفع الخبر ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما دونه في التعريف إلا ان يمنع مانع من تقدم الخبر كحصر الخبر نحو «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية» أو كخفاء اعرابهما نحو كان موسى فتاك، وقد يكون التوسط واجبا نحو كان في الدار ساكنها فتحصل ثلاثة أقسام: قسم يجوز وقسم يمتنع وقسم يجب، وسكتوا عن تقديم أسمائهن لعدم تصوره، إذ متى تقدم الاسم صار مبتدأ وتحمل الناسخ ضميره فلا يقال ان الاسم تقدم.
[سورة النور (24) : الآيات 54 الى 55]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
الإعراب:
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) كلام مستأنف مسوق لخطاب(6/641)
المأمورين بالطاعة من جهته تعالى. وجملة أطيعوا مقول القول ولفظ الجلالة مفعول به وأطيعوا الرسول عطف على أطيعوا الله. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) الفاء عاطفة وإن شرطية وتولوا فعل الشرط وهو مضارع حذفت إحدى تاءيه، فإنما الفاء رابطة للجواب والجواب محذوف أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها فاعلموا أنما عليه السلام ما حمل أي ما أمر به من التبليغ، وإنما كافة ومكفوفة وعليه خبر مقدم وما حمل مبتدأ مؤخر وجملة حمل صلة وعليكم ما حملتم عطف على ما تقدم. (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الواو عاطفة وان شرطية وتطيعوه فعل الشرط وهو فعل وفاعل ومفعول به وتهتدوا جواب الشرط والواو حالية أو استئنافية وما نافية وعلى الرسول خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفة. (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف مسوق لتقرير المصير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات والتمكين لهم في الأرض. ووعد الله الذين فعل وفاعل ومفعول به وجملة آمنوا صلة ومنكم حال وعملوا الصالحات عطف على آمنوا ومفعول وعد الثاني محذوف تقديره الاستخلاف لدلالة قوله ليستخلفنهم عليه، واللام جواب قسم مضمر أي أقسم ليستخلفنهم وفي الأرض متعلقان بيستخلفنهم ولك أن تنزل وعد منزلة أقسم فتلقى بما يتلقى به القسم. (كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم، والذين مفعول استخلف ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الذين. (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وليمكنن عطف على ليستخلفنهم فهو مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة ولهم متعلقان بيمكنن ودينهم مفعول به والذي صفة وجملة ارتضى صلة(6/642)
والعائد محذوف أي ارتضاه ولهم متعلقان بارتضى. (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) وليبدلنهم عطف على ما تقدم والهاء مفعول به أول ومن بعد خوفهم حال وأمنا مفعول به ثان. (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) جملة يعبدونني استئنافية على الأرجح فلا محل لها وكأنها جواب لسؤال مقدر أي ما بالهم فقيل يعبدونني واختار بعض المعربين أن تكون حالا من مفعول وعد أي وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم فمحلها النصب أو حال من مفعول ليستخلفنهم. وجملة لا يشركون بي شيئا بدل منها ولك أن تجعلها حالا من فاعل يعبدونني أي يعبدونني موحدين وهو جيد ولك أن تجعلها استئنافية كسابقتها، وشيئا مفعول مطلق أو مفعول به وقد تقدم مثله كثيرا، ومن كفر الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وكفر فعل ماض فعل الشرط وبعد ذلك متعلق بكفر، فأولئك هم الفاسقون الجملة جواب الشرط وقد تقدم اعراب نظيرتها.
الفوائد:
ذكر التاريخ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين ولما هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا، ثم خرج الذين على خلاف سيرتهم فكفروا بتلك الأنعم وفسقوا وذلك قوله صلى الله عليه(6/643)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
وسلم «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يملك الله من يشاء فتصير ملكا ثم تصير بزّيزى قطع سبيل وسفك دماء وأخذ أموال بغير حقها» ومعنى بزيزى قال في الصحاح بزه يبزه بزّا: سلبه والاسم البزيزى مثل الخصّيصى.
[سورة النور (24) : الآيات 56 الى 58]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
الإعراب:
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) كلام معطوف على وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول قال الزمخشري:
«وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه» ولك أن تعطفه على(6/644)
محذوف يقتضيه السياق وتقديره فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا الصلاة واعراب الجملة واضح كل الوضوح. (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لا ناهية وتحسبن فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والذين مفعول تحسبن الأول وجملة كفروا صلة ومعجزين مفعول تحسبن الثاني وفي الأرض متعلقان بمحذوف حال ومتعلق معجزين محذوف أي لنا، ومأواهم عطف على لا تحسبن الذين كفروا عطف خبر إنشاء على رأي بعضهم أو معطوف على مقدر تقديره بل هم مفهورون مدركون ومأواهم ولعله أولى لأنه يكون عطف خبر على خبر، ومأواهم مبتدأ والنار خبره أو بالعكس، ولبئس اللام موطئة للقسم وبئس فعل ماض جامد للذم والمصير فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي مصيرهم، يعني النار. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) جملة مستأنفة مسوقة لبيان حكم الاستئذان وسيأتي في باب الفوائد المزيد منها، واللام لام الأمر ويستأذنكم فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والكاف مفعول به والذين فاعل وجملة ملكت أيمانكم صلة. (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) والذين عطف على الذين وجملة لم يبلغوا الحلم صلة ومنكم حال وثلاث مرات نصب على الظرفية أو المفعولية المطلقة فان قدرت بمعنى ثلاثة أوقات فهي ظرف وان قدرت بمعنى ثلاثة استئذانات فهي مفعول مطلق ومن قبل صلاة الفجر بدل من ثلاث مرات ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هل من قبل، وانما وجب الاستئذان في ذلك الوقت لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح الغلائل وما ينام فيه من الثياب.
(وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وحين عطف على محل من قبل صلاة الفجر وجملة تضعون مجرورة باضافة الظرف إليها وثيابكم مفعول(6/645)
به ومن الظهيرة حال أي حين ذلك الوقت الذي هو الظهيرة أو بتضعون فتكون من بمعنى في. (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) ومن بعد صلاة العشاء عطف على ما قبله وثلاث عورات خبر لمبتدأ محذوف مقدر بعده مضاف وقام المضاف اليه مقامه أي هي أوقات ثلاث عورات وسمي كل واحد من هذه الأحوال عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها. والعورة: الخلل، وفي الصحاح: أعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب، والأعور: المختل العين.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) جملة ليس عليكم إلخ صفة لثلاث عورات والمعنى هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان وعليكم خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وبعدهن ظرف متعلق بمحذوف صفة لجناح وطوافون خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم وعليكم متعلقان بطوافون لأنه صيغة مبالغة لاسم الفاعل وبعضكم مبتدأ وعلى بعض خبره أي طائف على بعض بدلالة طوافون ويجوز أن يعرب بدلا من قوله طوافون، ولأبي حيان كلام مطول فيه لا جدوى منه. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الكاف نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا، ويبين الله لكم الآيات فعل مضارع وفاعل ومفعول به والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان.
الفوائد:
روي أن مدلج بن عمرو وكان غلاما أنصاريا أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة الى عمر ليدعوه فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا(6/646)
وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه الى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر، وقيل نزلت في أسماء بنت أبي مرثد قالت: إنا ندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد، وقيل: دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقام اليه النبي صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص فكأني أنظر اليه يختل الرجل ليطعنه، رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ولفظه: «ان أعرابيا أتى باب النبي صلى الله عليه وسلم فألقم عينه خصاصة الباب فبصر به النبي صلى الله عليه وسلم فتوخاه بحديدة أو عودة ليفقأ عينه فلما أن أبصره انقمع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما انك لو ثبت عليك لفقأت عينك» .
والمشقص: بكسر الميم بعد شين ساكنة وقاف مفتوحة هو سهم له نصل عريض وقيل طويل، وقيل هو النصل العريض نفسه وقيل الطويل.
ويختله: بكسر التاء أي يخدعه ويراوغه.
وخصاصة الباب: بفتح الخاء المعجمة وصادين مهملتين هي الثقب فيه والشقوق ومعناه أنه جعل الشق الذي في الباب محاذيا عينه.
توخاه: أي قصده بتشديد الخاء المعجمة.(6/647)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
[سورة النور (24) : الآيات 59 الى 61]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
اللغة:
(وَالْقَواعِدُ) : جمع قاعد بغير تاء وفي المصباح: «وقعدت المرأة عن الحيض أسنت وانقطع حيضها فهي قاعد بغير تاء والجمع قواعد(6/648)
وقعدت عن الزوج فهي لا تشتهيه» ولولا تخصيصهن بذلك لوجبت التاء نحو ضاربة وقاعدة من القعود المعروف.
(مُتَبَرِّجاتٍ) : مظهرات للزينة، وحقيقة التبرج تكلف اظهار ما يجب اخفاؤه من قولهم سفينة بارج لا غطاء عليها والبرج محركة سعه العين يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء إلا انه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بابداء زينتها وإظهار محاسنها للرجال وفي المختار: «والتبرج اظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال» فالبرج يعطي معنى الاتساع يقال برج يبرج برجا من باب تعب اتسع أمره في الأكل والشرب ونحوهما، وبرجت عينه اتسعت بحيث يرى بياضها محدقا بالسواد كله، والبرج الركن والحصن والقصر وكل بناء مرتفع على شكل مستدير أو مربع ويكون منفردا أو قسما من بناية عظيمة وجمعه برج بضمتين وأبراج وأبرجة، والبرج أيضا أحد بروج السماء وهي اثنا عشر: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، والبارجة سفينة كبيرة للقتال وتجمع على بوارج، ومن أقوالهم: ما فلان إلا بارجة قد جمع فيه كل الشر أي انه شرير.
(صَدِيقِكُمْ) الصديق يكون واحدا أو جمعا وكذلك الخليط والقطين والعدو وهو الصادق في المودة والمخالّة، قال الشاعر:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأعين أعداء وهن صديق
ومن هنا اختلس أبو نواس معناه في قوله:
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق(6/649)
(أَشْتاتاً) : جمع شت بمعنى التفرق وفي المختار: «أمرشت بالفتح أي متفرق، تقول: شت الأمر يشت بالكسر من باب ضرب شتا وشتاتا بفتح الشين فيهما أي تفرق» .
الإعراب:
(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كلام مستأنف مسوق لتقرير حكم الأطفال الذين خرجوا عن حد الطفولة بأن يحتلموا أو يبلغوا السن التي يحكم فيها بالبلوغ في وجوب الاستئذان وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بلغ الأطفال مجرورة باضافة إذا إليها ومنكم حال والحلم مفعول به والفاء رابطة لجواب إذا واللام لام الأمر ويستأذنوا مضارع مجزوم باللام وكما نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي استئذانا كاستئذان الذين من قبلهم والذين فاعل ومن قبلهم متعلقان بالصلة. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويبين الله فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين وآياته مفعول به والله مبتدأ وعليم خبر أول وحكيم خبر ثان. (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) الواو استئنافية والقواعد مبتدأ ومن النساء حال واللاتي صفة للقواعد لا للنساء، إذ لا يبقى مسوغ لدخول الفاء في خبر المبتدأ وجملة لا يرجون صلة ويرجون فعل مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة والنون فاعل ونكاحا مفعول به.
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) الفاء واقعة في جواب الموصول لأن الألف واللام في القواعد بمعنى اللاتي(6/650)
قعدن وجملة ليس خبر القواعد وعليهن خبر ليس المقدم وجناح اسمها المؤخر وأن وما في حيزها في موضع نصب بنزع الخافض أي في أن يضعن ثيابهن بمعنى ينزعن ثيابهن فيجوز النظر الى أيديهن ووجوههن وسيأتي مزيد بسط لهذه الآية في باب البلاغة، وغير متبرجات حال وبزينة متعلقان بمتبرجات واعتبرها بعضهم بمعنى اللام أي غير مظهرات لزينة واعتبر آخرون الباء للتعدية أي غير مظهرات زينة.
وفي حاشية الشهاب على البيضاوي «قوله غير مظهرات زينة أشار به الى أن الباء للتعدية ولذا فسر بمتعد مع أن تفسير اللازم بالمتعدي كثير ويؤيده أن أهل اللغة لم يذكروه متعديا بنفسه ولم نر من قال تبرجت المرأة حليها، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال: انه تجريد كما توهم فمن قال انه اشارة الى زيادة الباء في المفعول به فقد أخطأ» .
(وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الواو عاطفة وأن وما في حيزها مبتدأ وخير خبر ولهن متعلقان بخير أي والاستعفاف من الوضع خير لهن، لما ذكر الجائز أعقبه بالمستحب بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها كقوله «وأن تعفوا أقرب للتقوى» «وأن تصدقوا خير لكم» والله مبتدأ وسميع خبر أول وعليم خبر ثان. (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) كلام مستأنف مسوق لأمر اختلف العلماء في تأويله، وأقرب ما ذكروه من تلك التأويلات: ان هؤلاء الطوائف الثلاث كانوا يتحرجون عن مؤاكلة الأصحاء فإن الأعمى ربما سبقت يده الى أطيب الطعام فسبقت البصير اليه، والأعرج يتفسح في مجالسه فيأخذ مكانا واسعا فيضيق على السليم، والمريض لا يخلو من حالة مؤذية لقرينه وجليسه، فنزلت هذه الآية وسيأتي في باب الفوائد بقية الأقوال.(6/651)
وليس فعل ماض ناقص وعلى الأعمى خبرها المقدم وحرج اسمها المؤخر ولا على الأعرج حرج عطف على ما سبقه وكذلك ما بعده.
(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الواو استئنافية وما بعدها كلام مستأنف لتقرير إباحة ما حرموه على أنفسهم ففي القرطبي «انه لما أنزل الله «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل» قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وان الطعام من أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فنزلت» ولا نافية وعلى أنفسكم خبر مقدم وأن وما في حيزها مبتدأ مؤخر ومن بيوتكم متعلقان بتأكلوا. (أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ) عطف على ما تقدم وإخوانكم بمعنى إخوتكم. (أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ) عطف أيضا على ما سبق.
(أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) عطف ايضا على ما سبق.
(أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) ما عطف على ما سبق وجملة ملكتم صلة ومفاتحه مفعول به والمراد بها أموال الرجل إذا كان له عليها قيم أو وكيل يحفظها له، والمفاتح جمع مفتاح وتجمع على مفاتيح والمراد الخزائن، وأو حرف عطف وصديقكم معطوف على ما سبق. (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) الجملة بدل من الجملة السابقة وأن تأكلوا أن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن تأكلوا وجميعا حال وأشتاتا عطف على جميعا والمعنى أنهم لما تحرجوا في الاجتماع على الطعام والمشاركة فيه لاختلاف الآكلين بيّن أنه لا حرج عليهم أن يأكلوا مجتمعين ومتفرقين وسيأتي مزيد بسط لهذا كله في بابي البلاغة والفوائد. (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة دخلتم في محل جر باضافة الظرف إليها وبيوتا نصب على المفعولية(6/652)
على السعة، وقد اختلف في المراد بهذه البيوت والصحيح أنها عامة لأنه لا دليل على التخصيص، فسلموا الفاء رابطة وسلموا فعل أمر وفاعل وعلى أنفسكم متعلقان بسلموا وتحية منصوب على المصدر من معنى فسلموا فهو مرادفه كقعدت جلوسا وفرحت جزلا ومن عند الله صفة لتحية أو بنفس التحية ومباركة صفة وطيبة صفة أيضا أي يرجى بها زيادة الخير وتطيب بها نفس المستمع. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويبين الله فعل مضارع وفاعل ولكم متعلقان بيبين والآيات مفعول به ولعل واسمها وجملة تعقلون خبر لعل.
البلاغة:
1- عكس الظاهر:
في قوله تعالى: «غير متبرجات بزينة» فن يطلق عليه بعض علماء البيان اسم عكس الظاهر وبعضهم يسميه نفي الشيء بايجابه وقد سبقت الاشارة اليه في كتابنا وهو من محاسن الكلام فإذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا، أو أن تذكر كلاما يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف وهو نفي للموصوف أصلا ومن أهم أبياته قول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
فاللاحب هو الطريق الواضح والمنار هو العلامة توضع على الطريق للهداية وفي الحديث «إن للدين صوى ومنارا كمنار الطريق»(6/653)
وسافه شمه والعود المسن من الإبل والنباطي: الضخم وجرجر رغا وضج وأخرج جرته فقوله «لا يهتدى بمناره» لم يرد أن له منارا لا يهتدى به ولكن أراد أنه لا منار له فيهتدى بذلك المنار.
وكذلك المراد هنا والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد فكيف بالكواعب؟!.
2- الإيضاح:
وفي قوله «ولا على أنفسكم الآية» فن الإيضاح وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والإشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي اعرابها ومعاني النفس دون الفنون، وقد سبق ذكره في هذا الكتاب، وهنا في هذه الآية ترد على ظاهرها أسئلة أولها: ما الفائدة في الاخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته؟ وكيف يظن أن على من أكل من بيته جناحا؟
وثانيها: لم يذكر بيوت الأولاد كما ذكر بيوت غيرهم من الأقارب القريبة؟
وثالثها: ما فائدة قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» وظاهر الحال أن هذا داخل في قوله «من بيوتكم» ؟(6/654)
ورابعها: كيف وقعت التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب؟
والأجوبة التي تتضح بها هذه الإشكالات الأربعة هي:
الجواب الأول:
أما فائدة الإخبار برفع الجناح عمن أكل من بيته فإنما ذكر ذلك توطئة ليبني عليه ما يعطفه على جملته من البيوت التي قصد إباحة الأكل منها، فإنه إذا علم أن الإنسان لا جناح عليه أن يأكل من بيته فكذلك لا جناح عليه أن يأكل من هذه البيوت ليشير الى أن أموال هذه القرابة كمال الإنسان، وإذا تساوت هذه الأموال سرى ذلك التساوي الى الأزواج، فيكون سبحانه قد أدمج في ذلك الحض على صلة الأرحام ومعاملتهم معاملة الإنسان نفسه.
الجواب الثاني:
وأما عدم ذكر بيوت الأولاد فإنما ذكر من الأموال ما يظن بأن الأكل منه محظور فاحتاج الى بيان الإباحة، وأما أموال الأولاد فتصرف الوالدين فيها كتصرفهم في أموالهم أنفسهم، لأن ولد الرجل بعضه وحكمه حكم نفسه، ألا ترى أن الشرع يوجب على الولد نفقة الوالدين إذا كانا محتاجين؟ وفي الحديث: «إن طيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» .
الجواب الثالث:
وأما زعم القائل بأن الكلام فيه تداخل لأن قوله «أو ما ملكتم مفاتحه» هو ما في بيوتهم فإنه يحتمل أن يراد بما في البيوت المال التليد(6/655)
العتيد وما ملك الإنسان مفاتحه: المال الطريف المكتسب الذي يتسبّب الإنسان في تحصيله ويتعب في اكتسابه.
الجواب الرابع:
وأما سر التسوية بين الصديق وبين هؤلاء الأقارب فهو تعريف حق الصديق الذي ساوى باطنه ظاهره في اخلاص المودة، ولا يسمى صديقا حتى يكون كذلك، فإن اشتقاق اسمه من صدق المحبة وصفاء المودة وهو الذي أشار اليه سبحانه بقوله «ولا صديق حميم» فإذا كان الصديق بهذه المثابة وعلى هذه الصفة ساوى هذه القرابة القريبة فليس على الإنسان جناح إذا تصرف في ماله تصرفه في مال نفسه.
فنون أخرى في الآية الكريمة:
هذا وقد اشتملت هذه الآية الكريمة بعض إيضاح هذه الإشكالات على تسعة أضرب من فنون البديع ندرجها فيما يلي مع التلخيص والاختصار:
آ- صحة التقسيم: وذلك لاستيعاب الكلام جميع أقسام الأقارب القريبة بحيث لم يغادر منها شيئا.
ب- التهذيب: وذلك في انتقال الكلام على مقتضى البلاغة في هذا المكان، فإن مقتضى البلاغة تقديم الأقرب فالأقرب كما جاء فيها.
ج- حسن النسق: وذلك في اختياره «أو» لعطف الجمل وهي تدل على الإباحة.
د- الكناية: فقد كنى سبحانه عن الأموال بالبيوت التي هي حرز الأموال ومقرها من باب تسمية الشيء بما جاوره، كقولهم: سال الميزاب وجرى النهر.(6/656)
هـ- المناسبة: وذلك بمناسبة الألفاظ بعضها ببعض في الزنة وهي واضحة في لفظة آبائكم وإخوانكم وأعمامكم وأخوالكم.
والمثل: وذلك في قوله: «ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا وأشتاتا» خرج مخرج المثل السائر الذي يصح أن يتمثل به في كل واقعة تشبه واقعته.
ز- التذييل: فإن الكلام الذي خرج مخرج المثل جاء تذييلا لمعنى الكلام المتقدم لقصد توكيده وتقريره.
ح- المطابقة: وذلك في قوله «جميعا أو أشتاتا» فإن هاتين اللفظتين تضادتا تضادا أوجب لهما وصفها بالمطابقة لأن المعنى جميعا أو متفرقا.
ط- المقارنة: وذلك في موضعين: أحدهما اقتران التمثيل بالتذييل كما تقدم بيانه، والثاني اقتران المطابقة بالتمكين فإن فاصلة هذا الكلام في غاية التمكين.
الفوائد:
ذكرنا في باب الإعراب أقرب الوجوه في تأويل قوله تعالى «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ» الآية ووعدناك بأن نورد بقية الوجوه التي ذكرها المفسرون: فقد كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات الى بيوت أزواجهم وأولادهم والى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك وخافوا أن يلحقهم(6/657)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
فيه حرج وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق لقوله تعالى «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» فقيل لهم ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك.
وقيل كانوا يخرجون الى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون، حكي عن الحارث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك فقيل لي ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا منه ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت.
وقيل نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد فعلى هذا تم الكلام قوله «ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج» .
[سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)(6/658)
اللغة:
(يَتَسَلَّلُونَ) : ينسلون واحدا بعد واحد أو قليلا قليلا.
(لِواذاً) : في القاموس: «اللوذ بالشيء الاستتار والاحتصان به كاللواذ مثلثة واللياذ والملاوذة والإحاطة كالإلاذة وجانب الجبل وما يطيف به ومنعطف الوادي والجمع ألواذ» وكان المنافقون يخرجون متسترين بالناس من غير استئذان حتى لا يروا، والمفاعلة لأن كلا منهما يلوذ بصاحبه فالمشاركة موجودة وانما صحت الواو في لواذا مع انكسار ما قبلها لأنها تصح في الفعل الذي هو لاوذ ولو كان مصدر لاذ لكان لياذ مثل صام صياما وقام قياما.
(يُخالِفُونَ) : يقال خالفه الى الأمر إذا ذهب إليه دونه وخالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه.
الإعراب:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال المنافقين الذين كان يعرض بهم النبي في مجالسه وخطبه.
وانما كافة ومكفوفة والمؤمنون مبتدأ والذين خبره وجملة آمنوا بالله ورسوله صلة الموصول أي هؤلاء هم المؤمنون الكاملو الايمان، أما(6/659)
المنافقون فكانوا إذا جلسوا في مجلسه يرامقون أصحابه فإن بدرت لهم منهم غفلة عنهم تسللوا لواذا وذهبوا خفية من غير استئذان.
(وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة كانوا في محل جر باضافة الظرف إليها والواو اسم كان ومعه ظرف متعلق بمحذوف خبر وعلى أمر متعلقان بمحذوف حال ولك أن تعكس الأمر وجامع صفة لأمر كالحروب وصلاة الجمعة والعيدين وسيأتي معنى اسناد الجمع للأمر في باب البلاغة، وجملة لم يذهبوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وحتى حرف غاية وجر ويستأذنوه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ويستأذنوه فعل وفاعل ومفعول به. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ان واسمها وجملة يستأذنونك صلة، وأولئك مبتدأ والذين خبره وجملة يؤمنون بالله ورسوله صلة الموصول، والجملة الاسمية خبر إن. (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة استأذنوك مجرورة باضافة الظرف إليها ولبعض شأنهم متعلقان باستأذنوك بمثابة التعليل للاستئذان، فائذن الفاء رابطة لجواب إذا وائذن فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولمن متعلقان به وجملة شئت صلة ومنهم حال وفيه تفويض الأمر لرأي رسول الله. (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) واستغفر عطف على فائذن ولهم جار ومجرور متعلقان باستغفر وجملة ان الله غفور رحيم تعليل للاستغفار فلا محل لها. (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) اضطربت عبارات المفسرين في تفسير هذا التعبير وأقرب ما قيل فيه: لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم لبعض فتتلكئون وتحجمون كما يتلكأ ويحجم بعضكم عن بعض إذا دعاه لأمر فالمصدر(6/660)
وهو دعاء مضاف الى الفاعل ويجوز أن يكون مضافا الى المفعول أي دعاءكم الرسول ونداءكم له كدعاء ونداء بعضكم لبعض. ولا ناهية وتجعلوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل ودعاء الرسول مفعول به وبينكم ظرف متعلق بمحذوف حال والكاف بمعنى مثل مفعول به ثان وبعضكم مضاف لدعاء وبعضا مفعول به لدعاء ونصبه بعضهم بنزع الخافض أي لبعض وذلك متحتم عند ما يقدر دعاء مضافا لمفعوله.
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) قد هنا بمعنى ربما وذلك مطرد في دخولها على المضارع وسيأتي مزيد تفصيل عنها في باب الفوائد، ويعلم الله فعل مضارع وفاعل وجملة يتسللون صلة ومنكم متعلقان بيتسللون ولواذا يجوز أن ينصب على المصدر من معنى الفعل إذا كان التقدير يتسللون منكم تسللا أو يلاوذون لواذا، ويجوز أن يكون مصدر في موضع نصب على الحال أي ملاوذين. (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء الفصيحة أو عاطفة على «قد يعلم» لأنها مترتبة عليه واللام لام الأمر ويحذر فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والذين فاعل وجملة يخالفون صلة ومفعول يخالفون محذوف وهو الله تعالى لأنه الآمر وجيء ب «عن» لتضمنه معنى الصد والاعراض وأن يصيبهم مفعول يحذر وفتنة فاعل أو يصيبهم عذاب أليم عطف على أن تصيبهم فتنة. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) قد للتكثير كما تقدم وكما سيأتي ويعلم فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله تعالى وما مفعول به وأنتم مبتدأ وعليه خبر والجملة صلة. (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ويوم عطف على مفعول يعلم أي ويعلم ما يرجعون وجملة يرجعون صلة ويرجعون بالبناء للمجهول، فينبئهم عطف على(6/661)
يعلم والهاء مفعول وبما عملوا في موضع المفعول الثاني والله مبتدأ وبكل شيء متعلقان بعليم وعليم خبر.
الفوائد:
تقدم القول في «قد» ونضيف هنا أنها إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير وكانت بمعنى «ربما» ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
ف «قد» هنا للتكثير وإلا لم يكن مدحا، والثقة من وثق كالعدة من وعد، وإسناد الإهلاك الى الخمر مجاز عقلي وكذلك إسناده الى النائل أي العطاء، والمراد وصفه بالكرم، ومن أمثلة «ربما» قول ابن عطاء السندي يرثي ابن هبيرة:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجاري دمعها لجمود
عشية قام النائحات وشققت ... جيوب بأيدي مأتم وخدود
فإن تمس مهجور الفناء فربما ... أقام به بعد الوفود وفود
وواسط موضع الواقعة التي قتل المنصور فيها ابن هبيرة، والمأتم مكان الإقامة استعمل في جماعة النساء الحزينات مجازا وجمعه مآتم، يقول: إن كل عين لم تبك عليك ذلك اليوم شديدة الجمود. وعشية بدل من يوم، وجيب القميص مخرج الرأس منه أي مزقت الجيوب والخدود بأيدي النساء ثم التفت الى الخطاب، وقوله فإن تمس مهجور الفناء كناية عن الموت، فربما أي كثيرا أقام بفناء بيتك جموع من الناس بعد جموع يستمنحونك، فإن يهجر فناؤك الآن فلا حزن لأنه كثيرا ما اجتمع فيه الناس ومنحوا خيرا..(6/662)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
(25) سورة الفرقان مكيّة وآياتها سبع وسبعون
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)
اللغة:
(تَبارَكَ) : البركة زيادة الخير وكثرته، والزيادة تكون حسية ومعنوية أي تزايد خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في(6/663)
صفاته وأفعاله، ثم ان تبارك فعل ماض جامد لا يتصرف فلا يأتي منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل وليس له مصدر ولا يستعمل في غير الله تعالى وسيأتي بحث الجامد في باب الفوائد.
(الْفُرْقانَ) : القرآن لأنه فرق بين الحق والباطل وقيل لأنه نزل مفرقا في أوقات كثيرة وفي المصباح: «فرقت بين الشيئين فرقا من باب قتل فصلت أبعاضه وفرقت بين الحق والباطل، فصلت أيضا، هذه هي اللغة العالية وبها قرأ السبعة في قوله تعالى: «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» وفي لغة من باب ضرب وقرأ بها بعض التابعين، وقال ابن الأعرابي: فرقت بين الكلامين فافترقا مخفف، وفرقت بين العبدين فتفرقا مثقل فجعل المخفف في المعاني والمثقل في الأعيان. والذي حكاه غيره أنهما بمعنى والتثقيل مبالغة» ولهذه المادة في اللغة شعاب كثيرة، وسنورد لك منها ما يروق الخاطر: فالفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بين الشيئين وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل أو لأنه لم ينزل جملة واحدة ولكن مفروقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال، ألا ترى إلى قوله: «وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا» والأظهر هو المعنى الثاني لأن في السورة بعد آيات: «وقال الذين كفروا لولا نزلوا عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك» .
قال الله تعالى كذلك أي أنزلناه مفرقا كذلك لنثبت به فؤادك، فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد، وقد رأت دائرة المعارف الاسلامية كلمة فرقان مجهولة الأصل، وهذا خطأ بيّن، ووهم ظاهر كما رأيت من اشتقاق الكلمة، يقال فرق لي الطريق فروقا وانفرق انفراقا إذا اتجه لك طريقان فاستبان ما يجب سلوكه منهما، وطريق أفرق: بيّن، وضم تفاريق متاعه أي ما تفرق منه، وضرب(6/664)
الله بالحق على لسان الفاروق، وسطع الفرقان أي الصبح، وهذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح، وتقول سبيل أفرق كأنه الفرق، وهو أسرع من فريق الخيل، وهو سابقها فعيل بمعنى مفاعل لأنه إذا سبقها فارقها، وبانت في قذاله فروق من الشيب أي أوضاح منه، وماله إلا فرق من الغنم وفريقة أي يسير، ورأى أعرابي صبيانا قال: هؤلاء فرق سوء، وما أنت إلا فروقة، وفرق خير من حبّ أي أن تهاب خير من أن تحب، وأفرق المحموم والمجنون، وهو في أفراق من حمّاه، ومن المجاز: وقفته على مفارق الحديث أي على وجوهه الواضحة، وفي اللسان والأساس: «بدا المشيب في مفرقه وفرقه، ورأيت وبيص الطيب في مفارقهم، وفرقت الماشطة رأسها كذا فرقا، ورأس مفروق، وديك أفرق: انفرقت رعثته، وجمل أفرق: ذو ستامين، ورجل أفرق الأسنان: أفلجها، وناقة فارق: ما خض فارقت الإبل نادّة من وجع المخاض، ونوق فرق وفوارق ومفاريق، وقد فرقت فروقة وتشبّه بها السحاب. قال ذو الرمة:
أو مزنة فارق يجلو غواربها ... تبوّج البرق والظلماء علجوم
الإعراب:
(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) تبارك فعل ماض جامد كما تقدم في باب اللغة، والذي فاعله وجملة نزل الفرقان صلة وعلى عبده متعلقان بنزل واللام للتعليل ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل واسم يكون مستتر تقديره هو ونذيرا خبر يكون. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) هذا الموصول يجوز أن يكون بدلا من الموصول الأول أو خبر لمبتدأ(6/665)
محذوف فيكون محله الرفع ويجوز نصبه على المدح وما بعده تمام الصلة للموصول الأول، وله خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول ولم يتخذ ولدا عطف على ما تقدم.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) عطف على ما سبق وله خبر يكن المقدم وشريك اسمها المؤخر وفي الملك متعلقان بشريك وخلق عطف على ما سبق أيضا فهو من تمام العلة لما قبله وكل شيء مفعول خلق، فقدره الفاء عاطفة وقدره فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وتقديرا مفعول مطلق. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) واتخذوا الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حال وعبادة الكفار، ومن دونه في محل المفعول الثاني لا تخذوا وآلهة مفعول اتخذوا الاول وجملة لا يخلقون شيئا صفة لآلهة من سبع صفات ستأتي مسرودة متعاقبة، وهم يخلقون الواو عاطفة وهم مبتدأ ويخلقون بالبناء للمجهول خبر وهذه هي الصفة الثانية، ومعنى كونهم مخلوقين أن العابدين ينحتونهم ويصورونهم. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) الواو عاطفة ولا يملكون جملة معطوفة على ما تقدم وضرا مفعول به وهذه هي الصفة الثالثة، ولا نفعا هي الصفة الرابعة، ولا يملكون موتا هي الصفة الخامسة ولا حياة هي الصفة السادسة ولا نشورا هي الصفة السابعة، والنشور هو بعث الأموات. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) كلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية أباطيلهم وإبطالها ودحضها. والذين فاعل قال وجملة كفروا صلة وإن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وإفك خبر هذا وجملة افتراه صفة لإفك. (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) وأعانه عطف على افتراه وعليه متعلقان بأعانه، والضمير للإفك المفترى، وقوم فاعل وآخرون صفة(6/666)
قوم، ويريدون بهم أهل الكتاب الذين أمدوه، على زعمهم، بأخبار الأمم الماضية والقرون البائدة، والفاء الفصيحة وقد حرف تحقيق وجاءوا فعل وفاعل وقد تضمن معنى فعل فعدي تعديته، وظلما مفعوله ويجوز أن يكون على بابه فيعرب ظلما منصوبا بنزع الخافض أو نصبا على الحال المؤولة أي ظالمين وزورا عطف على ظلما. (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف وجملة اكتتبها حالية ويجوز اعراب أساطير الأولين مبتدأ وجملة اكتتبها خبر، فهي الفاء عاطفة وهي مبتدأ وجملة تملى خبر ونائب الفاعل مستتر وعليه متعلقان بتملى وبكرة ظرف متعلق بتملى وأصيلا عطف على بكرة، ومعنى تملى عليه تقرأ عليه لينتسخها بواسطة من يكتب له، لأنه عليه السلام، كان أميا.
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة أنزله مقول القول والذي مفعول به وجملة يعلم السر صلة الموصول وفي السموات والأرض حال وجملة إنه كان الآية تعليل لما تقدم فلا محل لها وقد تقدم إعرابها كثيرا.
البلاغة:
في قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» لف ونشر مرتب وقد تقدم في هذا الكتاب أن اللف والنشر فن يتضمن ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال ثم ذكر ما لكل واحد من المتعدد من غير تعيين ثقة بأن السامع يميز ما لكل واحد منها ويرده الى ما هو له، وقد مثلنا لكل من قسميه بما هو كاف، أما في هذه الآية فإن قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» فيه جعل الكلام المعجز إفكا مختلقا متلقفا من اليهود أو غيرهم من أهل الكتاب، وزورا بنسبة ما هو بريء منه اليه.(6/667)
الفوائد:
الفعل الجامد:
الفعل الجامد هو ما أشبه الحرف من حيث أداؤه معنى مجردا عن الزمان والحدث المعتبرين في الأفعال، فلزم مثله طريقة واحدة في التعبير فهو لا يقبل التحول من صورة الى صورة بل يلزم صورة واحدة لا يزايلها، وذلك مثل: عسى وليس وهب بمعنى احسب وافرض، ولم يرد من مادته بهذا المعنى إلا الأمر فهو فعل أمر جامد، وأما «هب» المشتق من الهبة فماضيه وهب ومضارعه يهب وكذلك هب المشتق من الهيبة فإنه فعل أمر متصرف فماضيه هاب ومضارعه يهاب، ونعم وبئس وهو إما أن يلازم صيغة الماضي مثل عسى وليس ونعم وبئس وتبارك الله، أو صيغة المضارع مثل يهيط ومعناه يصيح ويفح، يقال ما زال منذ اليوم يهيط هيطا وهو مضارع لا ماضي له كما في لسان العرب وتاج العروس ويقال: ما زال في هيط وميط بفتح أولهما وفي هياط ومياط بكسر أولهما أي ضجاج وشر وجلبة، وقيل في هياط ومياط:
في دنو وتباعد، والهياط الإقبال والمياط الإدبار، والهائط: الجائى، والمائط: الذاهب، والمهايطة والهياط: الصياح والجلبة، ويقال بينهما مهايطة وممايطة ومسايطة ومشايطة أي كلام مختلف، ومثل هب وهات وتعال وهلم في لغة تميم لأنه عندهم فعل يقبل علامته فتلحقه الضمائر، أما في لغة الحجاز فهي اسم فعل أمر لأنها ستكون عندهم بلفظ واحد للجميع وسيأتي بحثها في حينه. ومن الأفعال الجامدة «قلّ» بصيغة الماضي للنفي المحض وإذا لحقته ما الزائدة كفته عن العمل فلا يليه حينئذ إلا فعل ولا فاعل له لجريانه مجرى حرف النفي نحو: قلما فعلت هذا وقلما أفعله أي ما فعلت ولا أفعل ومنه قول الشاعر:(6/668)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
قلما يبرح اللبيب إلى ما ... يورث المجد داعيا أو مجيبا
أي لا يزال اللبيب داعيا. وقد يليه الاسم في ضرورة الشعر كقوله:
صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم
وقد يراد بقولك قلما أفعل اثبات الفعل القليل كما في الكليات لأبي البقاء، غير أن الكثير استعمالها للنفي الصرف، ومثل قلما في عدم التصرف طالما وكثرما وقصرما وشدما فإن ما فيهن زائدة للتوكيد كافة لهن عن العمل فلا فاعل لهن ولا يليهن إلا فعل، فهن كقلما. ومن الأفعال الجامدة قولهم «سقط في يده» بمعنى ندم وتحير وزل وأخطأ وهو ملازم صورة الماضي المجهول قال تعالى «وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ» وقد تقدم بحثه.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 12]
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11)
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12)(6/669)
الإعراب:
(وَقالُوا: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) كلام مستأنف مسوق للشروع في بيان قبائحهم التي أرجفوا بها في شأن الرسول وهي ستة كما سيأتي. وقالوا فعل وفاعل وما اسم استفهام مبتدأ ولهذا خبره والرسول بدل من اسم الاشارة وجملة يأكل الطعام حالية وهي الفرية الاولى، ويأكل الطعام فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة يمشي في الأسواق عطف عليها وهي الفرية الثانية وسيأتي معنى أكل الطعام والمشي في الأسواق في باب البلاغة.
(لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) لولا حرف تحضيض وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وملك نائب فاعل والفاء فاء السببية ويكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية لأنها جواب التحضيض واسمها مستتر تقديره هو أي الملك ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف حال ونذيرا خبر يكون أي فهما يتساندان في الإنذار والتخويف وهذه هي الفرية الثالثة. (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أو حرف عطف ويلقى فعل مضارع مبني للمجهول وكنز نائب فاعل واليه متعلقان بيلقى، أو تكون له جنة عطف على ما تقدم وجملة يأكل منها صفة لجنة وهذان الفعلان معطوفان على أنزل لأنه بمعنى ينزل ولا يجوز أن يعطفا على «فيكون» المنصوب في الجواب لأنهما مندرجان في التحضيض فيعطفان على جوابه، وهاتان هما الفريتان الرابعة والخامسة. (وَقالَ الظَّالِمُونَ: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) الواو عاطفة وقال الظالمون فعل وفاعل وإن نافية وتتبعون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر ورجلا مفعول به ومسحورا صفة وهذه هي الفرية السادسة والأخيرة.(6/670)
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) انظر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ولك متعلقان بضربوا والأمثال مفعول به، فضلوا الفاء عاطفة وضلوا فعل ماض وفاعل، فلا الفاء عاطفة ويستطيعون سبيلا فعل مضارع وفاعل ومفعول به. (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) كلام مستأنف مسوق لتقرير تساميه سبحانه وتعاليه عما يقولون. وتبارك الذي فعل وفاعل وقدر الزمخشري والجلال وغيرهما مضافا محذوفا أي خير الذي، وان شرطية وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وجعل جواب الشرط والجملة الشرطية صلة الموصول ولك مفعول جعل الثاني وخيرا مفعول جعل الأول ومن ذلك متعلقان بخيرا والاشارة الى الذي اقترحوه من الكنز والبستان. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) جنات بدل من خيرا وجملة تجري صفة لجنات ومن تحتها متعلقان بتجري والأنهار فاعل تجري ويجعل فعل مضارع معطوف على محل جعل الواقع جوابا للشرط وسيأتي بحث هام عن فعل الشرط وجوابه في باب الفوائد ولك مفعول ثان وقصورا مفعول أول. (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) بل حرف للاضراب فقد أضرب عن توبيخهم بحكاية أراجيفهم السابقة الى حكاية تكذيبهم بالساعة، وكذبوا فعل وفاعل وبالساعة متعلقان بكذبوا وأعتدنا فعل وفاعل ولمن متعلقان بأعتدنا وجملة كذب بالساعة صلة من وسعيرا مفعول به، والمعنى:
هيأنا لهؤلاء المكذبين نارا عظيمة، ووضع الموصول موضع الضمير ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التوبيخ وقد مرت نظائره في أبواب البلاغة ونون سعيرا للتكثير أي نارا عظيمة كما ذكرنا. (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار. وإذا ظرف مستقبل(6/671)
متضمن معنى الشرط وجملة رأتهم في محل جر باضافة إذا إليها ومن مكان متعلقان بمحذوف حال وجملة سمعوا جواب الشرط ولها حال لأنه كان في الأصل صفة وتغيظا مفعول به وزفيرا عطف عليه وسيأتي في باب البلاغة فصل مسهب عن هذا التعبير.
البلاغة:
1- كنايتان بديعتان:
في قوله تعالى «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» كناية عن الحدث لأنه ملازم أكل الطعام، وقد مر تقريره مفصلا في سورة المائدة فجدد به عهدا، وفي يمشي في الأسواق كناية عن طلب المعاش، وانظر بعد هاتين الكنايتين البديعتين إلى حكاية خطراتهم الملتاثة وهواجسهم المحمومة كيف اقترحوا أولا بأن يكون ملكا الى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك حتى يتساندا في الإنذار والتخويف، ثم نزلوا أيضا فقالوا: وان لم يكن مرفودا بملك فليكن مرفودا بكنز يلقى اليه من السماء يستظهر به ولا يحتاج الى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون رجلا له بستان يأكل منه ويرتزق كما يرتزق المياسير، فانظر كيف صور خطرات النفس الملتاثة وحالات ترددها.
2- وضع الظاهر موضع المضمر:
في قوله «وقال الظالمون» وضع الظاهر موضع الضمير وقد تقدمت الاشارة اليه مع أمثلته، فقد أراد بالظالمين إياهم بأعيانهم فهم القائلون الأولون، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بوصف الظلم وتجاوز الحد.(6/672)
3- الاستعارة: اثبات الرؤية لجهنم والتغيظ المسموع والزفير المتصاعد، أمر شغل العلماء كثيرا، فأما أهل السنة فيجعلون ذلك كله حقيقة ولا يحملونه على المجاز، فإن رؤية جهنم جائزة وقدرة الله تعالى صالحة، وقد تظاهرت الظواهر على وقوع هذا الجائز وعلى أن الله تعالى يخلق لها إدراكا حسيا وعقليا، ألا ترى الى قوله تعالى «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً» والى محاجتها مع الجنة والى قولها «هل من مزيد» والى اشتكائها الى ربها فأذن لها في نفسين، الى غير ذلك من الظواهر التي لا سبيل الى تأويلها إذ لا محوج اليه، قالوا: «ولو فتح باب التأويل والمجاز في أحوال المعاد لتطوح الذي يسلك ذلك الى وادي الضلالة» أما بصدد سمع التغيظ وهو لا يسمع فقد أجاب عنه أهل السنة بثلاثة أجوبة ندرجها فيما يلي:
آ- انه على حذف مضاف أي صوت تغيظها.
ب- انه على حذف فعل تقديره سمعوا ورأوا تغيظا وزفيرا فيرجع كل واحد الى ما يليق به أي رأوا تغيظا وسمعوا زفيرا.
ج- أن يضمن سمعوا معنى يشمل الشيئين أي أدركوا لها تغيظا وزفيرا.
أما بصدد قوله رأتهم فقال بعضهم انه من باب القلب أي رأوها، أو على حذف تقديره رأتهم زبانيتها.
أما المعتزلة فهم يحملون ذلك كله على المجاز ويجعلون رؤية جهنم من باب قولهم دور بني فلان تتراءى وتتناظر فتدخل عندئذ في باب الاستعارة المكنية وقد تقدم القول فيها كثيرا.(6/673)
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله «إذا رأتهم من مكان بعيد» من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر «سمعوا لها تغيظا وزفيرا» تزفر زفرة لا تبقى قطرة من دمع إلا ندرت ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها، تقطع اللهوات والحناجر.
4- حسن الاتباع:
هذا وقد رمق الشعراء سماء هذه التعابير البليغة مما يدخل في باب حسن الاتباع، وهو أن يأتي المتكلم الى معنى اخترعه غيره فيحسن اتباعه فيه بحيث يستحقه ويحكم له به دون الاول، وهذا الباب مما يخص كلام المخلوقين ومما أخذ بعضهم من بعض ولا مدخل لشيء من القرآن العزيز فيه فإن القرآن متبع لا مبتع إلا أن الشعراء حين يرمقون سماءه ويحسنون اتباعه صار كأنه داخل في سلك هذا الفن فقال الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
فأسند أفعال من يعقل الى مالا يعقل وجرى على منواله أبو تمام فقال:
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه ... لخرّ يلثم منه موطىء القدم
وحذا البحتري حذو أبي تمام فقال:
فلو أن مشتاقا تكلف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر(6/674)
واتبع المتنبي البحتري في ذلك فقال:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدّت محيية إليك الأغصنا
وهذا باب واسع سيأتي الكثير من أمثاله.
الفوائد:
فعل الشرط والجواب:
لا يشترط في الشرط والجواب أن يكونا من نوع واحد بل تارة:
1- يكونان مضارعين نحو «وإن تعودوا نعد» 2- يكونان ماضيين نحو «وإن عدتم عدنا» .
3- يكونان مختلفين ماضيا فمضارعا نحو «من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه» وانما حسن ذلك لأن الاعتماد في المعنى على خبر كان وهو مضارع فكأنه قال: من يرد نزد له.
4- يكونان عكسه مضارعا فماضيا وهو قليل، وخصه بعضهم بالشعر وورد منه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم «من يقم ليلة القدر احتسابا غفر له» رواه البخاري.
هذا وإذا وقع فعل الشرط ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع كقول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم(6/675)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
برفع يقول، قال ابن مالك «وبعد ماض رفعك الخبر أحسن» والذي حسن ذلك أن الأداة لما لم تعمل في لفظ الشرط لكونه ماضيا مع قربه فلا تعمل في الجزاء مع بعده ولذلك قرىء «ويجعل لك قصورا» برفع يجعل عطفا على جعل وقد أراد بعضهم تخطئة شوقي في قوله:
إن رأتني تميل عني كأن لم ... يك بيني وبينها أشياء
وفاتتهم القاعدة المتقدمة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 13 الى 16]
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)
اللغة:
(مُقَرَّنِينَ) : من قرنه بتشديد الراء جمّعه وشدده يقال قرّنت الأسارى في الحبال وفعله الثلاثي قرن يقرن من باب ضرب يضرب قرنا الشيء بالشيء شده به ووصل اليه، وقرن الثورين جعلهما في نير واحد، وقرن البعيرين جمعهما في حبل، وهي في قوله تعالى: «مقرنين» تفيد شيئين: التصفيد أي تقييد الأرجل وجمع الأيدي والأعناق بالسلاسل.(6/676)
(ثُبُوراً) : هلاكا يقال: ثبره الله: أهلكه هلاكا دائما لا ينتعش بعده ومن ثم يدعو أهل النار: وا ثبوراه، وما ثبرك عن حاجتك:
ما ثبطك؟ وهذا مشبر فلانة: لمكان ولادتها حيث يثبرها النفاس.
الإعراب:
(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ألقوا مجرورة باضافة الظرف إليها وهو متعلق بالجواب وهو دعوا، وألقوا فعل ماض مبني للمجهول والواو نائب فاعل ومنها حال من مكانا لأنه في الأصل صفة له ومكانا ظرف متعلق بألقوا وضيقا صفة لمكانا ومقرنين حال من الواو في ألقوا وجملة دعوا لا محل لها لأنها جواب شرط غبر جازم والواو فاعل دعوا وهنالك اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بدعوا في ذلك المكان ومعنى دعوا نادوا، وثبورا مفعول به لدعوا ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا أي مصدرا من معنى دعوا، وقال الزجاج: وانتصاب ثبورا على المصدرية أي ثبرنا ثبورا، وقيل منتصب على أنه مفعول له، وقيل منادى أي يقولون يا ثبوراه احضر فهذا أوانك فإن الهلاك أخف عليهم مما هم فيه.
(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) الجملة مقول قول محذوف تقديره فيقال لهم وهذا المحذوف معطوف على ما قبله.
ولا ناهية وتدعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل تدعوا وثبورا تقدم أنها مفعول به أو مفعول مطلق وادعوا فعل أمر وثبورا تقدم إعرابها وكثيرا صفة لثبورا، وعبر عنه بالكثرة ونفى عنه الوحدة لأنه ألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت(6/677)
جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية ولا نهاية لهلاكهم. (قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) قل فعل أمر وفاعله مستتر وجوبا تقديره أنت والهمزة للاستفهام للتقريع والتهكم وسيأتي مزيد من بحث بلاغة هذه الآية، وذلك مبتدأ وخير خبر وأم حرف عطف وجنة الخلد عطف على ذلك واسم الموصول صفة لجنة الخلد وجملة وعد المتقون جملة فعلية من فعل ونائب فاعل صله وجملة كانت لهم حالية من جنة الخلد ولهم حال لأنه كان في الأصل صفة واسم كانت مستتر تقديره هي وجزاءا خبر كانت ومصيرا عطف على جزاء. (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا) الجملة حال ثانية من جنة الخلد ولهم خبر مقدم وفيها حال وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وخالدين حال لازمة من الهاء في لهم أو الواو في يشاءون وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر يعود على الوعد المفهوم من قوله وعد المتقون أو على ما يشاءون وعلى ربك حال لأنه كان صفة لوعدا ومسئولا صفة لوعدا.
الفوائد:
معنى التفضيل:
المفهوم من اسم التفضيل أنه تفاوت بين صفتين مشتركتين، فكيف قال: أذلك خير أم جنة الخلد، ومعلوم أن النار لا خير فيها البتة، وقد سبق مثل هذا السؤال والجواب ما حكاه سيبويه عن العرب:
الشقاء أحب إليك أم السعادة، وقد علم أن السعادة أحب اليه، وقبل ليس هو من باب اسم التفضيل وإنما هو كقولك عنده خير.
ومما لا مندوحة عن التنبيه اليه هو أن قوله تعالى «لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ»(6/678)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
ظاهره يقتضي عموم الموصول أنه إذا شاء أحد رتبة من فوقه كالأنبياء نالها فلم يبق بين الناقص والكامل تفاوت، ويقتضي أيضا أنه إذا شاء أحدهم الشفاعة لأحد من أهل النار كابنه أو أبيه فإن شفاعته سوف تقبل وذلك يتنافى مع العلم بأن عذاب الكافر مخلد، وقد أجاب القاضي البيضاوي على هذا الإيهام بقوله «ولعله يقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبتها وأنه تعالى لا يلقي في خواطرهم أن ينالوا أكثر ما نالوه أو يطلبوا المزيد على ما يسبحون فيه من أمواه النعيم المترقرقة عليهم. والأحاديث مستفيضة في درجات الجنة وتفاوتها، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ان في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 19]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
اللغة:
(بُوراً) : البور بضم الباء: الفاسد الذي لا خير فيه، يقال امرأة بور وقوم بور يوصف به الواحد والجمع، والبور من الأرض ما لم(6/679)
يزرع ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ، وفي الأساس واللسان والتاج: «فلان له نوره، وعليك بوره أي هلاكه، وقوم بور، وأحلوا دار البوار، ونزلت بوار على الكفار. قال أبو مكعت الأسدي:
قتلت فكان تظالما وتباغيا ... إن التظالم في الصديق بوار
لو كان أول ما أتيت تهارشت ... أولاد عرج عليك عند وجار
جعلها علما للضباع فاجتمع التعريف والتأنيث، ومن المجاز:
بارت البياعات أي كسدت، وسوق بائرة، وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها» .
الإعراب:
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) كلام مستأنف مسوق لوصل ما ذكره في أول السورة وهو قوله «واتخذوا من دونه آلهة» .
والظرف متعلق باذكر مقدرا معطوفا على قل وجملة يحشرهم بالياء والنون في محل جر بإضافة الظرف إليها والهاء مفعول به وما موصول معطوف على الهاء أو منصوب على المعية وغلب غير العاقل على العاقل فأتى بما دون «من» لأن بين المعبودين عقلاء، وقيل إن كلمة ما موضوعة للكل أو يريد الأصنام لأنها تتكلم بلسان الحال كما قيل في شهادة الأيدي والأرجل.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يصح استعمال ما في العقلاء؟
قلت: هو موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم بدليل قولك إذا رأيت شبحا من بعيد: ما هو فإذا قيل لك: إنسان قلت حينئذ: من هو» .
وجملة يعبدون صلة ما ومن دون الله حال. (فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ(6/680)
أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ)
فيقول عطف على يحشرهم وأنتم الهمزة للاستفهام التقريعي وأنتم مبتدأ وجملة أضللتم خبر وعبادي مفعول به وهؤلاء اسم اشارة صفة لعبادي أي المشار إليهم أو بدل من عبادي وأم حرف عطف وهم مبتدأ وجملة ضلوا خبره والسبيل نصب بنزع الخافض لأن ضل مطاوع أضله وكان القياس ضل عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل الى الطريق وللطريق. (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) سبحانك مفعول مطلق لفعل محذوف أي تنزيها لك عما لا يليق بك وما نافية وكان فعل ماض ناقص وجملة ينبغي خبر كان ولنا متعلقان بينبغي وأن وما في حيزها فاعل ينبغي فيكون اسم كان مستترا وفاعل ينبغي مستتر ومن دونك مفعول نتخذ الثاني ومن حرف جر زائد وأولياء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول نتخذ الاول أو بالعكس، والصحيح أن قوله من أولياء هو المفعول الأول لأنه الذي يجوز أن تكون من فيه زائدة بخلاف الثاني، تقول: ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز في الأفصح ما اتخذت أحدا من ولي.
(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) الواو عاطفة ولكن مخففة مهملة للاستدراك ومتعتهم فعل وفاعل ومفعول به وآباءهم الواو عاطفة أو للمعية وآباءهم عطف على الهاء أو مفعول معه وحتى حرف غاية وجر ونسوا الذكر فعل وفاعل ومفعول به وكانوا كان واسمها وقوما خبرها وبورا صفة. (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) الفاء الفصيحة لأنها مرتبة على محذوف ولأنها مفاجأة بالاحتجاج والإلزام وخاصة إذا انضم إليها الالتفات وحذف القول وهذا التعبير بليغ جدا وله نظائر في الكتاب الكريم كقوله تعالى «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من(6/681)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير» .
وقول الشاعر:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
أي أن هذه البلدة أبعد ما يراد بنا، وغاية سفرنا، ثم يكون القفول والرجوع، وقوله فقد جئنا مرتب على محذوف أي إن صدقوا فقد جئنا خراسان فلم لم نتخلص من السفر، ويجوز أنه عدل الى الخطاب أي فقولوا لهم اقطعوا السفر بنا وارجعوا فقد جئنا الموعد.
وقد حرف تحقيق وكذبوكم فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بكذبوكم وجملة تقولون صلة والواو واقعة على المعبودين والكاف على العابدين، فما الفاء عاطفة وما نافية وتستطيعون فعل مضارع وفاعل وصرفا أي دفعا للعذاب عنكم مفعول به ولا نصرا عطف على صرفا.
(وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويظلم فعل الشرط ومنكم حال أي كائنا منكم أيها المكلفون ونذقه جواب الشرط والفعل وجوابه خبر من والهاء مفعول نذقه الأول وعذابا مفعول نذقه الثاني وكبيرا صفة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 20 الى 23]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)(6/682)
اللغة:
(حِجْراً مَحْجُوراً) : ذكرهما سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك الله وعمرك الله وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة، قال سيبويه: «ويقول الرجل للرجل:
أتفعل كذا فيقول حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ بالله طالب منه أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكأن المعنى اسأل الله أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا» .
وقد ساءل الزمخشري فقال: «فإذا قد ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بمحجور؟ قلت: جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ذيل زائل، والذيل الهوان وموت مائت والحجر العقل لأنه يمنع صاحبه وفي الأساس: «وفي ذلك عبرة لذي حجر وهو اللّب، وهذا حجر عليك: حرام، وحجر عليه القاضي حجرا، واستقينا من الحاجر وهو منهبط يمسك الماء وفلان من أهل الحاجر وهو مكان بطريق مكة، وقعد حجرة أي ناحية، وأحاطوا بحجرتي العسكر وهما جاباه، وحجّر حول العين بكيّة، وعوذ بالله وحجر، وامرأة بيضاء المحاجر، وبدا محجرها من النقاب، واستحجر الطين وتحجّر: صلب(6/683)
كالحجر، وتحجر ما وسعه الله: ضيقه على نفسه، وقراءة العامة على كسر الحاء وقرىء بالضم وهو لغة فيه وحكى أبو البقاء فيه لغة ثالثة وهي الفتح، قال وقد قرىء بها.
(هَباءً) : الهباء قال في القاموس والتاج: الغبار ودقائق التراب ساطعة ومنثورة على وجه الأرض والقليلو العقول من الناس وفعله هبا يهبو هبوّا» وقال الزمخشري: «والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه الغبار وفي أمثالهم أقل من الهباء» قال: «ولام الهباء واو بدليل الهبوة» قلت وقال المتنبي:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة ... فما المجد الا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى ... لك الهبوات السود والعسكر المجر
وقال الخليل والزجاج: «هو مثل الغبار الداخل في الكوة يتراءى مع ضوء الشمس.
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) جملة مستأنفة مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل وقبلك ظرف متعلق بمحذوف حال ومن المرسلين متعلقان بأرسلنا أو بمحذوف صفة لمفعول أرسلنا، والمعنى:(6/684)
وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين، ونحوه قوله تعالى «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» على معنى وما منا أحد، ولعل هذا أولى، وإلا أداة حصر وجملة انهم حالية ولذلك كسرت همزة إن كما انها كسرت لأجل اللام في الخبر والمعنى إلا وهم يأكلون، فالاستثناء من أعم الأحوال، وان واسمها واللام المزحلقة وهي لام الابتداء زحلقت الى الخبر وجملة يأكلون الطعام خبر انهم وجملة يمشون في الأسواق عطف على ليأكلون الطعام. (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) وجعلنا عطف على ما تقدم أو تجعلها مستأنفة مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم أيضا، وجعلنا فعل وفاعل وبعضكم مفعول به أول ولبعض حال لأنه كان في الأصل صفة لفتنة وفتنة مفعول به ثان لجعلنا، ومعنى جعل بعضهم فتنة لبعض: أن الغني فتنة للفقير والصحيح فتنة للمريض والشريف فتنة للوضيع والمراد أن الدنيا دار امتحان وبلاء فلا يفلل ذلك في عزمك ولا يضيقن به صدرك ولا تأبه الأراجيفهم. والهمزة للاستفهام ومعنى الاستفهام الأمر أي اصبروا ومثله «أأسلمتم» معناه أسلموا، وكان الواو عاطفة أو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وربك اسمها وبصيرا خبرها. (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) الواو عاطفة وقال الذين فعل وفاعل وجملة لا يرجون صلة ولقاءنا مفعول به ولولا أداة تحضيض وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعلينا متعلقان به والملائكة نائب فاعل والجملة مقول قولهم وهم الذين ينكرون البعث وأو حرف عطف وجملة نرى ربنا عطف على جملة أنزل علينا الملائكة فهي من مقول قولهم اقترحوا أن ينزل الله عليهم الملائكة فتخبرهم بصدق محمد حتى يصدقوه أو يروا الله جهرة فيأمرهم بتصديقه واتباعه. (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) الجملة مقول قوله تعالى في درء الشبهتين اللتين أوردوهما(6/685)
تعنتا ومكابرة بعد قيام الحجة وسطوع الدليل. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق واستكبروا فعل وفاعل، وفي أنفسهم فيه وجهان: أحدهما انه متعلق باستكبروا يعني أنهم لتكبرهم استكبروا أنفسهم أي عدوها كبيرة الشأن وأصله من استكبره إذا عداه كبيرا ونزّله منزلة اللازم، والثاني أنه متعلق بمحذوف حال أي أنهم أضمروا الاستكبار عن الحق في قلوبهم أي كائنا في قلوبهم، وعتوا فعل ماض وفاعل وعتوا مفعول مطلق وكبيرا صفة له. (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) يوم متعلق باذكر مقدرة أو بيعذبون أو بلا يبشرون المفهومة ضمنا من لا بشرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى أو يعدمونها ولا تعمل فيه البشرى لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، ولأن المنفي لا يعمل فيما قبل لا. وجملة يرون مجرورة باضافة الظرف إليها والملائكة مفعول به ولا بشرى لا نافية للجنس وبشرى اسمها وللمجرمين خبرها والجملة مقول قول محذوف أي يقولون لا بشرى وجملة القول حال من الملائكة ويقولون فعل وفاعل وحجرا محجورا تقدم القول في اعرابها مفصلا في باب اللغة (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) الواو استئنافية وقدمنا فعل وفاعل والى ما متعلقان بقدمنا وجملة عملوا صلة ومن عمل حال أي عمل خير كصدقة وصلة رحم أو إغاثة ملهوف، والفاء عاطفة وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به أول وهباء مفعول به ثان ومنثورا صفة.
البلاغة:
شبه أعمال الكفار الحسنة بالهباء، ووجه الشبه قلّته وحقارته وعنده وانه لا ينتفع به، ثم أي هباء؟ انه قد يكون منتظما مع ضوء(6/686)
الشمس فإذا حركته الريح تطاير وذهب كل مذهب، ولذلك قال منثورا أي جامعا لحقارة الهباء والتناثر ومثله «كونوا قردة خاسئين» أي جامعين للمسخ والخسء، وأتى بالعامل منكرا ليتناول هذا الوعيد كل من سولت له نفسه البقاء على الكفر وعمل مثل عملهم.
وللرماني في كتابه «النكت في إعجاز القرآن» بحث طريف في هذا التشبيه بعد أن يلحقه بباب الاستعارة يقول فيه: «حقيقة قدمنا هنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه من إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم ثم قدم فرآهم على خلاف من أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بالافهام والمعنى الذي يجمعهما العدل لأن العمد لإبطال الفاسد عدل والقدوم الى ابطال الفاسد عدل والقدوم أبلغ لما بينّا، وأما هباء منثورا فبيان ما قد أخرج مالا تقع عليه الحاسة الى ما تقع عليه» .
فانظر اليه كيف استجمع الصور القرآنية في ذهنه وكيف أوحى اليه لفظ قدمنا المستعار من معان ثم كيف كشف عن خبايا التعبير القرآني في استعارة القدوم للعمد وفضل الاول في بعث الخيال وإثارته ليربط بين المعنى الأول في الآية والمعنى المستعار، وصورة أخرى ربطية تثور في الخيال وهي صورة المسافر الغائب الذي يأتي فيرى القوم على خلاف فيضرب ليعدل ويصلح الفاسد.
وقال الواحدي: «معنى قدمنا عمدنا وقصدنا يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده ومنه قول الشاعر:
وقدم الخوارج الضلال ... إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال(6/687)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
[المجلد السابع]
[تتمة سورة الفرقان]
[سورة الفرقان (25) : الآيات 24 الى 29]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
الإعراب:
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) أصحاب مبتدأ والجنة مضاف ويومئذ ظرف أضيف الى مثله وهو متعلق بخير وخير خبر أصحاب وهو اسم تفضيل، أو لمجرد الوصف ومستقرا تمييز وأحسن مقيلا عطف على خير مستقرا، والمستقر المكان الذين يقضون فيه معظم أوقاتهم والمقيل المكان الذي يأوون اليه للاسترواح الى أزواجهم والتمتع بمغازلتهن وسيأتي في باب البلاغة مزيد من بحث هذه الآية. (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا) الظرف منصوب بتقدير اذكر وجملة تشقق في محل جر باضافة الظرف إليها وأصل تشقق تتشقق فحذف بعض القراء التاء وأدغمها بعضهم، والسماء فاعل، وبالغمام: في هذه الباء وجوه أولها أنها للسببية بمعنى(7/5)
أنها تتشقق بسبب طلوعه منها فيتعلق الجار والمجرور بتشقق، وثانيها أنها للملابسة فيكون الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والثالث أنها بمعنى عن أي عن الغمام كقوله: «يوم تشقق الأرض عنهم» فتتعلق بتتشقق أيضا ونزل الملائكة فعل ماض مبني للمجهول والملائكة نائب فاعل وتنزيلا مفعول مطلق.
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) الملك مبتدأ والظرف متعلق به والحق صفة للملك وللرحمن خبر الملك وأجاز بعض المعربين أن يكون الظرف هو الخبر وآخرون أجازوا أن يكون الحق، وما ذكرناه أولى. وكان الواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره وكان اليوم، ويوما خبرها وعلى الكافرين متعلق بعسيرا وعسيرا صفة ليوما. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الظرف منصوب باذكر مقدرا وهو معطوف على قوله يوم يرون الملائكة وكذا قوله السابق يوم تشقق السماء، وجملة يعض مجرورة باضافة الظرف إليها والظالم فاعل يعض وعلى يديه متعلقان ببعض وسيأتي معنى هذا الكلام في باب البلاغة. (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) الجملة نصب على الحال من فاعل يعض أي قائلا، ويا ليتني: يا حرف نداء والمنادى محذوف أو هي لمجرد التنبيه، وليتني ليت واسمها وجملة اتخذت خبرها ومع الرسول ظرف مكان في موضع المفعول الثاني لاتخذت وسبيلا مفعول اتخذت الأول تمنى أن لو صاحب الرسول وسلك سبيل الحق. (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا) يا حرف نداء وويلتا منادى مضاف الى ياء المتكلم المنقلبة الفاء وأصله يا وليتي، وقد تقدم بحث المنادى المضاف الى ياء المتكلم، ينادي ويلته أي هلكته. وليتني ليت واسمها وجملة لم أتخذ خبرها(7/6)
وفلانا مفعول به أول وخليلا مفعول به ثان. (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأضلني فعل وفاعل مستتر وعن الذكر متعلقان بأضلني والجملة تعليلية لتمنيه المذكور وندائه هلكته وبعد ظرف أضيف إلى مثله وهو متعلق بمحذوف حال وجملة جاءني مجرورة باضافة الظرف إليها والواو حالية وكان الشيطان كان واسمها وللإنسان متعلقان بخذولا وخذولا خبر كان.
البلاغة:
الكناية في قوله «مستقر» و «مقيل» فأما المستقر فهو اسم مكان من الاستقرار وهو المجلس الدائم لأهل الجنة يستقرون فيه ويقضون معظم أوقاتهم متقابلين يتحادثون ويتسامرون، وكنى به عن أحاديث العشايا والبكر التي يتبادلونها، وهي أحاديث كانت في الدنيا تدور بين المترفين وأصحاب النعيم واليسار، وكنى بالمقيل وهو وقت استراحة نصف النهار عن قضائهم وقت الاستجمام والاستراحة مع أزواجهم، وفي هذا المعنى سيأتي قوله «إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، هم أزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون» قيل في تفسير الشغل انه افتضاض الأبكار.
ومن روائع الحديث في وصف غناء الحور العين قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقرة أعيان وإن مما يغنين به: نحن(7/7)
الخالدات فلا نمتنه، نحن الآمنات فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه» .
وفي قوله: «يوم يعض الظالم على يديه» كناية عن الندم والغيظ والحسرة، ومثل هذا التعبير عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأرم، ففي الصحاح حرقت الشيء حرقا: بروته وحككت بعضه ببعض، ومنه قولهم حرق نابه أي سحقه حتى يسمع له صريف، وفلان يحرق عليك الأرم غيظا من أرم على الشيء أي عض عليه وأرمه أيضا والأرم الأضراس كأنه جمع آرم يقال فلان يحرق عليك الأرم إذا تغيظ فحك أضراسه بعضها ببعض، وقيل هو مجاز عبر به عن التحير والغم والندم والتفجع، ونقل أئمة اللغة أن المتأسف المتحزن المتندم يعضّ على إبهامه ندما، وقال الشاعر:
لطمت خدها بحمر لطاف ... نلن منها عذاب بيض عذاب
فشكى العناب نور أقاح ... واشتكى الورد ناضر العناب
وفلان كناية عن علم من يعقل وفل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور وفلانة كناية عن علم من يعقل من الإناث وفلة كناية عن نكرة من يعقل من الإناث والفلان والفلانة بالألف واللام كناية عن غير العاقل ولامه واوية أو يائية.
قال أبو حيان: وفلان كناية عن العلم وهو متصرف وفل كناية عن نكرة الإنسان نحو يا رجل وهو مختص بالنداء وفلة يعني يا امرأة كذلك ولام فل ياء أو واو وليس مرخما من فلان، خلافا للفراء، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط في قولهم فل كناية عن العلم كفلان، وفي كتاب سيبويه ما قلناه بالنقل عن العرب.(7/8)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
اللغة:
(مَهْجُوراً) : متروكا، أي تركوه وصدوا عن الايمان به، وقيل هو من هجر إذا هذى أي جعلوه مهجورا فيه فحذف الجار، وهو يحتمل بهذا المعنى وجهين، أحدهما: أنهم زعموا أنه هذيان وباطل وأساطير الأولين، وثانيهما: أنهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، فهو إما من الهجر بالفتح أي ضد الوصل وإما من الهجر بالضم وهو الهذيان وفحش القول. ثم المهجور اما اسم مفعول وإما مصدر بمعنى الهجر أطلق على القرآن على طريق التسمية بالمصدر كالمجلود والمعقول والميسور والمعسر.
(وَرَتَّلْناهُ) : فرقناه أو أتينا به شيئا بعد شيء بتمهل وتؤدة لنيسر فهمه وحفظه، وأصله الترتيل في الأسنان وهو تفليجها، يقال: ثغر مرتل ورتل بفتحتين.(7/9)
الإعراب:
(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) عطف على قوله وقال الذين لا يرجون لقاءنا، وقال الرسول فعل وفاعل ويا حرف نداء ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم وان واسمها وجملة اتخذوا خبرها وهذا مفعول أول لا تخذوا والقرآن بدل من اسم الاشارة ومهجورا مفعول به ثان. (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم بعد الارتماض الذي يعانيه والذي تدل عليه شكواه المريرة. وكذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الجعل جعلنا ولكل نبي مفعول به ثان لجعلنا وعدوا مفعول به أول ومن المجرمين نعت لعدوا.
(وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) الواو عاطفة وكفى فعل ماض وبربك الباء حرف جر زائد في الفاعل وربك مجرور لفظا فاعل كفى محلا وهاديا حال ونصيرا عطف عليه. (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لحكاية شبهته منهم تتعلق بالقرآن، والحاكون هم قريش أو اليهود وهو اعتراض متهافت ساقط من أساسه لأن إعجاز القرآن ليس منوطا بنزوله جملة أو تفصيلا. وقال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض ونزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بنزل والقرآن نائب فاعل وجملة حال وواحدة صفة. (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا) الكاف نعت لمصدر محذوف أي نزلناه تنزيلا مثل ذلك التنزيل، ولنثبت تعليل لنزلناه المحذوفة وبه متعلقان بنثبت والفاعل مستتر تقديره نحن وفؤادك مفعول به ورتلناه عطف على نزلناه المحذوفة وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وترتيلا مفعول مطلق،(7/10)
ومعنى ترتيله أن قدره آية بعد آية بترسل وتثبت وقيل هو أنزله مع كونه متفرقا على تمكث وتمهل في مدة متباعدة وهي عشرون سنة.
(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) الواو عاطفة ولا نافية ويأتونك فعل وفاعل ومفعول به وبمثل متعلقان بيأتونك أي بسؤال عجيب يشبه في استغرابه وبطلانه المثل السائر، وإلا أداة حصر وجئناك فعل وفاعل ومفعول به وبالحق جار ومجرور متعلقان بجئناك والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فمحل الجملة النصب على الحال أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال إلا في حال إتياننا إليك بالحق وبما هو أحسن بيانا. وأحسن عطف على الحق وجر بالفتحة لأنه ممنوع من الصرف وتفسيرا تمييز. (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ) الذين رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم أو نصب على الذم أي أذم الذين، وجملة يحشرون صلة وعلى وجوههم متعلقان بمحذوف حال أي مقلوبين على وجوههم وإلى جهنم متعلقان بيحشرون.
(أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أولئك مبتدأ وشر خبر ومكانا تمييز وأضل سبيلا عطف على شر مكانا والجملة تفسيرية فلا محل لها ولك أن تعرب الذين مبتدأ والجملة خبره.
البلاغة:
1- وصف المكان بالشر، والسبيل بالضلال، من الإسناد المجازي. وقد مرت له نظائر.
2- قوة اللفظ لقوة المعنى:
وذلك في قوله تعالى: «ورتلناه ترتيلا» فإن لفظة رتل على وزن لفظة قتّل الرباعية ومع هذا ليست دالة على كثرة القراءة وإنما المراد(7/11)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر، وسبب ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي وإنما هي رباعية موضوعة لهذه الهيئة الحسنة المخصوصة من القراءة، فاللفظة إن كانت منقولة أدت الى الكثرة. خذلك مثالا «كلّم» من قوله تعالى «وكلّم الله موسى تكليما» فإن كلّم على وزن قتّل أيضا ولم يرد بها التكثير بل أريد بها: خاطبه، سواء أكان خطابه إياه طويلا أم قصيرا، قليلا أم كثيرا، وهذه اللفظة رباعية وليس لها ثلاثي نقلت عنه الى الرباعي.
لكن قد وردت بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر وأقوى فيما دل عليه من المعنى وذاك أن تكون كلّم من الجرح أي جرّح ولها ثلاثي وهو كلم مخففا أي جرح فإذا وردت مخففة دلت على الجراحة مرة واحدة وإذا وردت مثقلة دلت على التكثير. فتدبر هذا فإنه حسن جدا وقل من يتفطن له.
3- وفي قوله: «ولا يأتونك بمثل» استعارة تصريحية. شبه السؤال بالمثل بجامع البطلان لأن أكثر الأمثال أمور متخيلة.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)(7/12)
اللغة:
(الرَّسِّ) : اسم بئر معينة، قال أبو عبيدة: هي البئر المطوية والجمع الرساس، ومنه قول الشاعر:
وهم سائرون إلى أرضهم ... تنابلة يحفرون الرساسا
وقيل: الرس قرية، وكان أصحاب الرس قوما من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش فبعث الله إليهم شعيبا فدعاهم الى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه، وقيل هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وسيأتي بحثها، فكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم انهم قتلوا حنظلة فأهلكوا، وقيل هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وقيل الرس بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار.
والعنقاء هي أعظم ما يكون من الطير سميت لطول عنقها، ويقال لها عنقاء مغرب على الاضافة أو العنقاء المغرب والمغربة على الوصف وهي طائر مجهول الجسم لم يوجد، والداهية، ويقال في الإخبار عن هلاك الشيء وبطلانه: حلقت به عنقاء مغرب، وسميت بالمغرب إما(7/13)
لإتيانها بأمر غريب وهو اختطاف الصبيان وقيل: انها اختطفت عروسا أو لغروبها أي غيبتها، ومغرب بضم الميم وفتحها وقيل غير ذلك مما يطول تعداده:
وقيل الرس: ماء ونخل لبني أسد وقيل الثلج المتراكم في الجبال والرس اسم واد، قال زهير:
بكرن بكورا واستحرنا بسحرة ... فهن ووادي الرس كاليد في الفم
(تَبَّرْنا) : فتتنا، ومنه التبر لفتات الذهب والفضة.
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما مرّ من تسلية محمد صلى الله عليه وسلم بحكاية ما جرى للأنبياء وما كابدوه من أقوامهم.
واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا موسى فعل وفاعل ومفعول به والكتاب مفعول ثان لآتينا وجعلنا عطف على آتينا ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لجعلنا وأخاه هو المفعول الأول لجعلنا وهارون بدل من أخاه أو عطف بيان ووزيرا حال، أو تجعل وزيرا هو المفعول الثاني وتعلق الظرف بمحذوف نصب على الحال. (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) فقلنا عطف على ما تقدم وقلنا فعل وفاعل وجملة اذهبا مقول القول والى القوم جار ومجرور متعلقان باذهبا والذين نعت للقوم وجملة كذبوا صلة وبآياتنا متعلقان بكذبوا والفاء عاطفة على محذوف أي فذهبا إليهم(7/14)
فكذبوهما فدمرناهم، ودمرناهم فعل وفاعل ومفعول به وتدميرا مفعول مطلق. (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) وقوم نوح مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده أي وأغرقنا قوم ولك أن تعطفه على الهاء في دمرناهم أي ودمرنا قوم نوح ولما ظرف بمعنى حين أو رابطة متضمنة معنى الشرط على كل حال وقد تقدم الإلماع إليها، وكذبوا الرسل فعل وفاعل ومفعول به وجملة أغرقناهم جواب شرط غير جازم فلا محل لها. (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) وجعلناهم عطف على ما تقدم وللناس مفعول جعلناهم الثاني وآية مفعول جعلناهم الأول وأعتدنا عطف على جعلناهم وللظالمين متعلقان بأعتدنا وهي تحتمل التعيين والتخصيص فتكون من وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بوصف الظلم. (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) وعادا مفعول به لفعل محذوف تقديره أهلكنا أو دمرنا، وثمود وأصحاب الرس وقرونا عطف عليه والمراد بقوله قرونا أقواما وكثيرا صفة لقرونا. (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) كلّا مفعول به لفعل محذوف يلاقي ضربنا في المعنى أي خوفنا وأنذرنا كلّا فهو نصب على الاشتغال وجملة ضربنا مفسرة وهو فعل ماض وفاعل وله متعلقان بضربنا والأمثال مفعول به وكلا مفعول به مقدم لتبرنا لأنه فارغ له لم يشتغل بضميره وتبرنا فعل وفاعل وتتبيرا مفعول مطلق.
(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وأتوا فعل وفاعل وعلى القرية متعلقان بأتوا والتي صفة للقرية وجملة أمطرت صلة ومطر السوء مفعول مطلق لأمطرت فهي بمعنى أمطار السوء والمراد بمطر السوء الحجارة والمعنى أن قريشا عرجوا مرارا كثيرة بمنازل تلك القرية التي أهلكت(7/15)
بالحجارة من السماء أثناء انتجاعهم للتجارة وفي القاموس: «ساء سوءا بالفتح فعل به ما يكره والسوء بالضم اسم منه» ، والقرية هنا اسم جنس لأنها تشمل خمسة قرى كان قوم لوط يسكنونها ما نجت منها إلا واحدة وقيل هي قرية واحدة اسمها سذوم بالذال المعجمة أو سدوم بالدال المهملة وقد تقدم هذا كله. (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) الهمزة للاستفهام التقريري المتضمن معنى الإنكار والتقرير هو حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه، والفاء عاطفة لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها مرات أثناء تعريجهم عليها ليعتبروا بمصائر من قبلهم وما جرّ عليهم إمعانهم في الغواية وركوب متن الشطط من عقوبة لا تقدر وجملة يرونها خبر يكونوا، بل حرف إضراب وكان واسمها وجملة لا يرجون خبرها ونشورا مفعول به.
البلاغة:
1- في قوله «لا يرجون نشورا» مجاز عن التوقع، وتوقع الشيء يكون في الخير والشر لأنه لما كانت حقيقة الرجاء انتظار الخير وما فيه من سرور وما هو محبب الى النفس احتيج الى توجيه الرجاء بما ذكرناه ولأنه لا يتصور رجاء النشور إلى الكفار.
هذا وقد أجرى بعضهم الكلام على الحقيقة فقال: ان الرجاء بمعنى الخوف هنا وهو محض تكلف وفي المجاز عنه مندوحة.
2- وفي قوله «فقلنا اذهبا» الى قوله «فدمرناهم تدميرا»(7/16)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
الحذف ألا ترى كيف حذف جواب الأمر في هذه الآية فإن تقديره فقلنا اذهبا الى القوم الذين كذبوا بآياتنا فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)
الإعراب:
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة رأوك مجرورة بإضافة الظرف إليها وإن نافية ويتخذونك فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولم يقترن الجواب بالفاء لأن «إذا» اختصت من بين أدوات الشرط بأن جوابها المنفي لا يقترن بالفاء بخلاف غيرها من الأدوات. وإلا أداة حصر وهزوا مفعول به ثان ليتخذونك.
(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) الجملة في محل نصب على الحال من الواو في يتخذونك على تقدير القول أي قائلين والهمزة للاستفهام الانكاري وهذا مبتدأ والذي خبره وجملة بعث صلة والعائد محذوف(7/17)
أي بعثه والله فاعل لبعث ورسولا حال ويجوز أن يكون بمعنى مرسل وأن يكون مصدرا حذف منه المضاف، أي ذا رسول وهو الرسالة، وفي الاشارة معنى الاحتقار لأنها للقريب. (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) إن مخففة من الثقيلة والجملة من تتمة مقولهم واسمها محذوف أي انه وجملة كاد خبرها ويجوز إهمالها واسم كاد مستتر تقديره هو واللام الفارقة بين إن النافية وإن المخففة من الثقيلة، وجملة يضلنا خبر كاد وهو فعل مضارع وفاعل مستتر ونا مفعول به وعن آلهتنا متعلقان بيضلنا ولولا حرف امتناع لوجود متضمن معنى الشرط وأن وما في حيزها مبتدأ وعليها متعلقان بصبرنا والخبر محذوف أي موجود والجواب محذوف أي لصرفنا عنها. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق للرد عليهم من الله تعالى وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل وحين ظرف زمان متعلق بيعلمون وجملة يرون في محل جر بإضافة الظرف إليها ومن استفهام مبتدأ وأضل خبره وسبيلا تمييز والجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي يعلمون التي علقت عن العمل بالاستفهام أي أهم أم المؤمنون؟. (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) الهمزة للاستفهام ورأيت فعل وفاعل أي أخبرني، ومن اسم موصول مفعول رأيت الأول وجملة اتخذ صلة وإلهه مفعول به ثان لاتخذ وهواه مفعول به أول وقدم المفعول الثاني لأنه أهم وللاعتناء به لأنه هو المحور الذي يدور عليه التعجب وستأتي في باب البلاغة مناقشة طريقة حول هذا التقديم. (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) الجملة في محل نصب مفعول به ثان لرأيت والهمزة للاستفهام الانكاري للتيئيس من إيمانهم، والفاء عاطفة على مقدر أي أنت تحرص على إيمانه وأنت مبتدأ وجملة تكون خبره واسم تكون ضمير مستتر تقديره أنت وعليه(7/18)
متعلقان بوكيلا ووكيلا خبر تكون. (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) أم حرف عطف مقدرة ببل والهمزة فهي منقطعة والهمزة المقدرة للاستفهام الإنكاري وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تحسب وجملة يسمعون خبر أن وأو حرف عطف ويعقلون عطف على يسمعون. (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) إن نافية وهم مبتدأ وإلا أداة حصر والكاف خبر هم، بل حرف عطف وإضراب وهم مبتدأ وأضل خبره وسبيلا تمييز.
البلاغة:
1- التقديم:
في قوله تعالى «اتخذ إلهه هواه» التقديم فقد قدم المفعول الثاني، والأصل اتخذ الهوى إلها للعناية به كقولك ظننت منطلقا زيدا إذا كانت عنايتك بالمنطلق، وفيه إلى جانب هذه النكتة نكتة ثانية وهي إفادة الحصر، فإن الكلام قبل دخول أرأيت مبتدأ وخبر، المبتدأ هواه والخبر إلهه، وتقديم الخبر كما علمت يفيد الحصر فكأنه قال أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه، فهو أبلغ في ذمه وتوبيخه. هذا وقد زعم بعض المعربين أنه لا تقديم ولا تأخير في الكلام وإنهما مفعولا الاتخاذ من غير تقديم ولا تأخير لاستوائهما في التعريف ولكن هذا مجرد وهم فإنهما وإن تساويا في التعريف فقد غاب عن أصحاب هذا الزعم أن المفعول الثاني هو المتلبس بالحالة الحادثة أي أرأيت من جعل هواه إلها لنفسه من غير أن يلاحظه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة والبرهان النير بالكلية.(7/19)
2-
التمثيل:
في قوله «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» فن التمثيل وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الفن الذي يتلخص في أنه هو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظة الخاص ولا بلفظي الإشارة ولا الإرداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الإرداف قليلا يصلح أن يكون مثلا للفظ الخاص لأن المثل لا يشبه المثل من كل الوجوه، ولو تماثل المثلان من كل الوجوه لاتحدا. ومن التمثيل أيضا نوع آخر ذهب إليه من جاء بعد قدامة وهو أن يذكر الشيء ليكون مثالا للمعنى المراد وإن كان معناه ولفظه غير المعنى المراد ولفظه، كأنهم لثبوتهم على الضلالة بمنزلة الانعام والبهائم بل أضل سبيلا لأن البهائم تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها أما هؤلاء فقد أسفوا إلى أبعد من هذا الدرك.
هذا وقد استخرج ابن أبي الإصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أمثال أبي تمام من شعره فوجدها تسعين نصفا وثلاثمائة بيت، واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي فوجدها مائة نصف وأربعمائة بيت وقد ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب عددا من أمثال المتنبي ونذكر هنا طائفة أخرى منها:
لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل
وقوله:
ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتنى(7/20)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
وقوله:
لا يعجبن مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفينا جودة الكفن
وقوله:
وانا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
وقوله:
وما كمد الحساد شيئا قصدته ... ولكنه من يرحم البحر يغرق
[سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 49]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49)
اللغة:
(سُباتاً) : راحة للأبدان بقطع الأعمال وهو من السبت أي القطع سمي بذلك لقطع الأشغال فيه، وفي المصباح: «والسبات وزان غراب النوم الثقيل وأصله الراحة يقال منه سبت يسبت من باب قتل» وفي(7/21)
القاموس: إنه من بابي قتل وضرب ثم قال: والسبات النوم أو خفيفه أو ابتداؤه في الرأس حتى يبلغ القلب، وقال الزمخشري: «والسبات:
الموت والمسبوت: الميت لأنه مقطوع الحياة وهذا كقوله «وهو الذي يتوفاكم بالليل» فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد وهو مرنق» والعيوف من الإبل كما في الصحاح: الذي يشم الماء فيدعه وهو عطشان وفيه أيضا: رنقته ترنيقا كدرته» وفي اللسان والأساس: «وجعل الله النوم سباتا: موتا وأصبح فلان مسبوتا: ميتا» وفي القاموس والتاج: «السبات: النوم أو أوله، والدهر، والرجل الداهية، وابنا سبات: الليل والنهار مأخوذ من معنى الدهر، وسبت يسبت من بابي قتل وضرب سبتا دخل في السبت وقام بأمر السبت: استراح، وسبت الشيء قطعه، وسبت الرأس: حلقه والسبت مصدر ويوم من أيام الأسبوع بين الجمعة والأحد وجمعه أسبت وسبوت، والسبت أيضا: النوام والفرس الجواد والرجل الداهية.
(الرِّياحَ) : في المصباح: «والريح أربع الشمال وتأتي من ناحية الشام والجنوب تقابلها وهي الريح اليمانية والثالثة الصبا وتأتي من مطلع الشمس وهي القبول أيضا والرابعة الدبور وتأتي من ناحية المغرب، والريح مؤنثة على الأكثر فيقال هي الريح وقد تذكر على معنى الهواء فيقال هو الريح وهب الريح، نقله أبو زيد وقال ابن الأنباري: الريح مؤنثة لا علامة فيها وكذلك سائر أسمائها إلا الإعصار فإنه مذكر.
(طَهُوراً) : الطهور على وجهين في العربية: صفة واسم غير صفة فالصفة قولك ماء طهور كقولك طاهر والاسم قولك لما يتطهر به(7/22)
طهور كالوضوء والوقود لما يتوضأ به وتوقد به النار كقولك وضوءا حسنا ذكره سيبويه.
(أَناسِيَّ) : الأناسي جمع إنسي أو إنسان ونحوه ظرابي في ظربان على قلب النون ياء والأصل أناسين وظرابين ولعل الثاني هو الأرجح، قال سيبويه: «إن الياء في إنسي للنسب وما هي فيه لا يجمع على فعالي» وقال ابن مالك «واجعل فعالي لغير ذي نسب» وجزم ابن هشام وابن مالك بأنه جمع إنسان لا جمع إنسي، قالا: وشذ قباطي جمع قبطي وبخاتي جمع بختي، وفي الصحاح: القبط أهل مصر ورجل قبطي والقبطية ثياب بيض رقاق من كتان والبخت من الإبل معرب وقيل هو عربي وينشد لابن قيس الرقيات:
يهب الخيل والألوف ويسقي ... لبن البخت في قصاع الخلنج
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) كلام مستأنف مسوق للشروع في إيراد أدلة محسوسة على توحيده وستأتي خمسة أدلة أولها امتداد الظل وثانيها جعل الليل لباسا وثالثها إرسال الرياح ورابعها مرج البحرين وخامسها خلق البشر من الماء. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر أي تنظر فعل مضارع مجزوم بلم وهي هنا بصرية وإلى ربك متعلقان بتنظر على حذف مضاف أي إلى صنيع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله، وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال أي ألم تر إلى صنيع ربك كيف مد الظل، أي على أية حالة، ومعنى مد الظل أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس، واختار الزجاج أن تكون الرؤية قلبية والمعنى ألم(7/23)
تعلم، قال: وهذا أولى لأن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث أن كل مبصر فله مؤثر فحمل اللفظ على رؤية القلب أولى وقد علقت كيف تر عن العمل فجملة مد الظل في محل نصب مفعول به على الثاني وعلى الأول مستأنفة.
ولو الواو حالية ولو شرطية وشاء فعل ماض وفاعل مستتر واللام واقعة في جواب لو وجملة جعله لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والهاء مفعول جعل الأول وساكنا مفعوله الثاني أي ثابتا بأن يجعل الشمس على وضع واحد أو دائما غير زائل. (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) ثم هنا للتفاضل بين أوقات الظهور وليست للتراخي الزماني لأنه لا يصح هنا فهي محمولة على المجاز كما سيأتي في باب البلاغة وجعلنا فعل وفاعل والشمس مفعول به وعليه حال ودليلا مفعول به ثان أي لولا الشمس لما عرف الظل. (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) وثم هنا للتفاضل أيضا بين الأمور الثلاثة وهي مد الظل وسكونه وقبضه كأن الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما، وقبضناه فعل وفاعل ومفعول به وإلينا متعلقان بقبضناه وقبضا مفعول مطلق ويسيرا صفة ومعنى قبضه قبضا يسيرا أي حسبما ترتفع الشمس لتنتظم بذلك مصالح الكون. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل صلة ولكم حال لأنه كان في الأصل صفة للباسا والليل مفعول جعل الأول ولباسا مفعوله الثاني والنوم سباتا عطف على ما تقدم وجعل النهار نشورا عطف أيضا أي انتشارا ينشر فيه الناس لتحصيل معاشهم. (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) بشرا حال وبين ظرف متعلق(7/24)
بمحذوف صفة لبشرا ويدي رحمته مضاف إليه وسيأتي تحقيق ذلك في باب البلاغة. (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) عطف على ما تقدم وفيه إشعار بأن تطهير الظواهر يستلزم تطهير البواطن وفي ذلك منتهى المنة والنعمة. (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) لام التعليل متعلق بأنزلنا لبيان العلة في إنزاله وبه متعلقان بنحيي وبلدة مفعول به وميتا صفة لبلدة يستوي فيه المذكر والمؤنث أو لأنه ذكر على معنى البلد في قوله «فسقناه إلى بلد ميت» ونسقيه عطف على نحيي تبعه في النصب ويقال سقاه وأسقاه وكلاهما يتعدى إلى مفعولين ومما متعلقان بمحذوف خال وأنعاما مفعول به ثان لنسقيه وأناسي كثيرا عطف على أنعاما. وسيأتي سر تقديم الأنعام على الأناسي في باب البلاغة.
البلاغة:
1- التقديم والتأخير:
في قوله «وأنزلنا من السماء ماء» الى قوله «وأناسي كثيرا» فن التقديم والتأخير وهو فن عجيب دقيق المسلك خفي الدلالة، وهو قسمان: قسم يختص بدلالة الألفاظ على المعاني وقسم يختص بدرجة التقدم في الذكر ومنه الآية التي نحن بصددها، فقد قدم حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس وإن كانوا أشرف محلا لأن حياة الأرض هي سبب لحياة الأنعام والناس، فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر ولما كانت الأنعام من أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم وأنعامهم فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم.(7/25)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
2- في قوله «ثم جعلنا» و «ثم قبضناه» استعارة تصريحية تبعية استعير فيها لفظة المشبه به وهو البعد والتراخي للمشبه وهو تفاضل الأمور.
2- وفي قوله «بين يدي رحمته» استعارة أيضا أي قدام المطر، وسيأتي المزيد من ذلك.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 50 الى 57]
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57)
اللغة:
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : جعلهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان وفي المصباح: «المرج: أرض ذات نبات ومرعى والجمع مروج مثل(7/26)
فلس وفلوس، ومرجت الدابة مرجا من باب قتل: رعت في المرج، ومرجتها مرجا: أرسلتها ترعى في المرج» . وفي المختار: وقوله تعالى:
«مرج البحرين» أي خلاهما لا يلتبس أحدهما بالآخر. وفي الأساس:
«أمرج الدواب ومرجها: أرسلها في المرج والمروج، ومرج السلطان الناس، ورجل مارج: مرسل غير ممنوع، ولا يزال فلان يمرج علينا مروجا: يأتينا مفاجئا، ومرج الخاتم في الإصبع قلق. ومن المجاز:
«مرج الله البحرين، ومرج فلان لسانه في أعراض الناس وأمرجه، وفلان سرّاج مرّاج: كذاب، ومرجت عهودهم وقد مرج أمرهم مرجا ومروجا، وأمر مارج ومريج، وفي الحديث: «كيف أنتم إذا مرج الدين وظهرت الرغبة» قال زهير:
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الثبج
يرهب السوط سريعا فإذا ... ونت الخيل من الشد معج
وأمرجوا عهودهم ودينهم، وطلع مارج من نار: لهب ساطع» .
هذا وقد سمي الماء الكثير بحرا ولم يقصد بحرين معنيين.
(فُراتٌ) : الفرات: البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة والتاء فيه أصلية لام الكلمة ووزنه فعال وبعض العرب يقف عليها هاء ويقال سمي الماء العذب فراتا لأنه يفرت العطش أي يشقه ويقطعه وفي المصباح:
«الفرات الماء العذب يقال فرت الماء فروتة وزان سهل سهولة إذا عذب ولا يجمع إلا نادرا على فرتان كغربان» والفرات أيضا نهر عظيم معروف والفرات أيضا البحر.
(أُجاجٌ) : الأجاج: البالغ في الملوحة وقيل في الحرارة وقيل في المرارة. وفي الأساس «وماء أجاج: يحرق بملوحته» وفي القاموس:(7/27)
«أجّ يؤج الماء: صار أجاجا أي ملحا مرا، وهذه نبذة لغوية في تفصيل كمية الماء وكيفيته: إذا كان الماء دائما لا ينقطع ولا ينزح في عين أو بئر فهو عدّ، فإذا كان إذا حرك منه جانب لم يضطرب جانبه الآخر فهو كر، فإذا كان كثيرا عذبا فهو غدق وقد نطق به القرآن، فإذا كان مغرقا فهو غمر، فإذا كان تحت الأرض فهو غور، فإذا كان جاريا فهو غيل، فإذا كان على ظهر الأرض يستقى بغير آلة فهو سيح، فإذا كان ظاهرا جاريا على وجه الأرض فهو معين وسنم، وفي الحديث: «خير الماء السنم» فإذا كان جاريا بين الشجر فهو غلل، فإذا كان مستنقعا في حفرة أو نقرة فهو ثغب، فإذا أنبط من البئر فهو نبط، فإذا غادر السيل منه قطعة فهو غدير، فإذا كان الى الكعبين أو أنصاف السوق فهو ضحضاح، فإذا كان قريب القعر فهو ضحل، فإذا خاضته الدواب فغيرته فهو طرق، فإذا كان منتنا غير أنه شروب فهو آجن، وإلا فهو آسن، فإذا كان باردا منتنا فهو غساق، أو كان حارا فسخن، فإذا اشتدت حرارته فحميم، فإذا كان ملحا فهو زعاق، أو مرا فهو قعاع، فإذا اجتمعت فيه الملوحة والمرارة فهو أجاج، فإذا كان فيه شيء من العذوبة وقد يشربه الناس على ما فيه فهو شريب، فإذا كان دونه في العذوبة وليس يشربه الناس إلا عند الضرورة وقد تشربه البهائم فهو شروب، فإذا كان عذبا فهو فرات، فإذا زادت عذوبته فهو نقاخ، فإذا كان زاكيا في الماشية فهو نمير، فإذا كان سهلا سائغا متسلسلا في الحلق فهو سلسل وسلسال، فإذا جمع الصفاء والعذوبة والبرد فهو زلال، فإذا كثر عليه الناس حتى نزحوه بشفاههم فهو مشفوه ثم مثمود ثم مضفوف ثم ممكول ثم مجموم ثم منقوص» فما أعجب أمر لغتنا الشريفة.(7/28)
(بَرْزَخاً) : حاجزا يحول دون اختلاط أحدهما بالآخر دون أن يرى.
(وَحِجْراً مَحْجُوراً) : تقدم تفسيرهما، وسيأتي البحث عن موقعهما هنا في باب البلاغة.
(وَصِهْراً) : الصهر بالكسر القرابة كما في القاموس والختن وجعمه أصهار وفي المصباح: «الصهر جمعه أصهار، قال الخليل:
الصهر أهل بيت المرأة وقال ومن العرب من يجعل الأحماء والأختان جميعا أصهارا، وقال الأزهري: الصهر يشتمل على قرابات النساء ذوي المحارم وذوات المحارم كالأبوين والأخوة وأولادهم والأعمام والأخوال والخالات فهؤلاء أصهار زوج المرأة ومن كان من قبل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أصهار المرأة أيضا وقال ابن السكيت: كل من كان من قبل الزوج من أبيه أو أخيه أو عمه فهم الأحماء ومن كان من قبل المرأة فهم الأختان ويجمع الصنفين الاصهار وصاهرت إليهم ولهم وفيهم إذا تزوجت منهم» .
(ظَهِيراً) : الظهير: المعين فهو فعيل بمعنى مفاعل ويجوز أن يراد بالظهير الجماعة كقوله «والملائكة بعد ذلك ظهير» كما جاء الصديق والخليط.
الإعراب:
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) عطف على ما تقدم واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وصرفناه فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على الماء أو على القول الذي مرّ(7/29)
فيه ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر بين الناس ليعتبروا فأبوا إلا الكفور، وبينهم متعلقان بصرفناه وليذكروا اللام للتعليل ويذكروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام فأبى أكثر الناس الفاء عاطفة والجملة عطف على ما تقدم وإلا أداة حصر وكفورا مفعول به أو مفعول مطلق. (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) الواو عاطفة ولو شرطية وشئنا فعل وفاعل ومفعول المشيئة محذوف وقد تقدم انه يكثر بعد فعل المشيئة واللام واقعة في جواب لو وجملة بعثنا لا محل لها وفي كل قرية متعلقان ببعثنا ونذيرا مفعول به أي ولكننا قصرنا الأمر عليك وأنطناه بك وحدك ليكون لك فضل إظهاره والتمرس بأعبائه.
(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) الفاء الفصيحة ولا ناهية وتطع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت والكافرين مفعول به أي فلا تسايرهم فيما يريدونك عليه ولا تأخذك هوادة أولين، وجاهدهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبه متعلقان بجاهدهم والضمير للقرآن واتل عليهم دائما زواجره وأوامره ونواذره، وجهادا مفعول مطلق وكبيرا صفة. (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) الواو عاطفة والكلام معطوف على ما تقدم ليتساوق ذكر الدلائل الخمسة على توحيده وهذا هو الدليل الرابع. وهو مبتدأ والذي خبره وجملة مرج البحرين صلة وجملة هذا عذب استئنافية أو مقولا لقول محذوف في موضع الحال أي مقولا فيهما وهذا مبتدأ وعذب خبره وفرات خبر ثان وهذا ملح أجاج عطف على ما تقدم.
(وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) عطف على مرج داخل في حيز الصلة وجعل فعل ماض وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وبينهما ظرف متعلق بمحذوف في موضع المفعول الثاني لجعل وبرزخا مفعول به(7/30)
أول وحجرا محجورا عطف على برزخا وقيل منصوبين بقول مقدر وسيأتي تقرير ذلك في باب البلاغة. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) عطف على ما تقدم وقد ذكر فيه الدليل الخامس ومن الماء جار ومجرور متعلقان بخلق وبشرا مفعول به، فجعله الفاء عاطفة وجعله فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول ونسبا مفعول ثان وصهرا عطف على نسبا والواو استئنافية وكان فعل ماض ناقص وربك اسمها وقديرا خبرها. (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) الواو استئنافية وجملة يعبدون استئنافية مسوقة للشروع في تقبيح جنوح المشركين الى عبادة الأوثان بعد أن أورد الدلائل الخمسة على التوحيد، ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا ينفعهم صلة وجملة ولا يضرهم عطف على جملة لا ينفعهم. (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الواو عاطفة وكان الكافر كان واسمها وعلى ربه متعلقان بظهيرا وظهيرا خبر كان أي معينا للشيطان. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) كلام مستأنف مسوق لتقرير حال رسوله صلى الله عليه وسلم وما نافية وأرسلناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرا حال فالاستثناء من أعم الأحوال ونذيرا عطف على مبشرا. (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) قل فعل أمر وجملة ما أسألكم مقول القول وعليه حال لأنه كان في الأصل صفة لأجر وتقدم عليه ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا في محل نصب مفعول به لأسألكم. (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) إلا أداة استثناء ومن شاء مستثنى منقطع لأنه من غير الجنس أي لا أطلب منكم أجرا لنفسي لكن من شاء أن ينفق أمواله في سبيل الله ولوجهه خالصا فليفعل، وأن وما في حيزها مفعول المشيئة والى ربه في موضع المفعول الثاني ليتخذ وسبيلا مفعول به أول ليتخذ.(7/31)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
البلاغة:
الاستعارة التصريحية في قوله «مرج البحرين» فقد شبه بهما الماءين الكثيرين الواسعين، وحجرا محجورا هي كلمة تقال عند التعوذ كما أسلفنا في هذه السورة، ولكنهما هنا تقالان على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من الآخر ويقول له حجرا محجورا، فإعراب حجرا محجورا مفعولين للقول المحذوف جيد للغاية من الناحية البيانية. وسيأتي قوله «بينهما برزخ لا يبغيان» في سورة الرحمن فقد شبههما كما قلنا بطائفتين متعاديتين تريد كل منهما الإيقاع بالأخرى وتتربص بها الدوائر وتنتهن السوانح والفرص، ولكنها عند ما تحصل على ما تريد تمتنع من البغي، فجعل المعنى المستعار كاللفظ المقول، وهذا من أبلغ القول وأبينه وأكثره تجسيدا وملاءمة للمعنى المراد.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 58 الى 60]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
الإعراب:
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الواو عاطفة على ما تقدم والآية متصلة بقوله «وكان الكافر على ربه ظهيرا» فإنه(7/32)
لما بيّن أن الكفار متظاهرون على إيذائه أمره أن يتوكل عليه. وتوكل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى الحي متعلقان بتوكل والذي صفة وجملة ولا يموت صلة وسبح عطف على توكل وبحمده متعلقان بمحذوف حال أي متلبسا بحمده. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) الواو حرف عطف وكفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والهاء مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه فاعل وبذنوب متعلقان بخبيرا وخبيرا تمييز أو حال. (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) الذي نعت أو بدل من قوله «به» أو مبتدأ وجملة خلق السموات والأرض صلة وما بينهما عطف على السموات والظرف متعلق بمحذوف صلة وفي ستة أيام متعلقان بخلق. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ثم حرف عطف واستوى عطف على خلق وعلى العرش متعلقان به والرحمن خبر الذي أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الرحمن، فاسأل الفاء الفصيحة واسأل فعل أمر وبه متعلقان بخبيرا وخبيرا مفعول به ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن والجار والمجرور متعلقان بقوله فاسأل. ومنه قول الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
وقول عنترة:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك ... إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة قيل مجرورة بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقيل وجملة اسجدوا للرحمن مقول القول وجملة قالوا جواب شرط غير جازم لا محل لها والواو زائدة(7/33)
وما الرحمن ما اسم استفهام خبر مقدم والرحمن مبتدأ مؤخر أو بالعكس ويجوز أن يكون سؤالا عن المسمى به أو عن معناه.
(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) الهمزة للاستفهام الانكاري ونسجد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولما متعلقان بنسجد أي كيف سجد لما لا نعرفه، وجملة تأمرنا صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي للسجد من أجل أمرك وزادهم فعل وفاعل يعود على القول والهاء مفعول به ونفورا مفعول به ثان أو تمييز.
البلاغة:
في قوله «ثم استوى على العرش» استعارة مكنية ويسميها القدامى تخييلية، فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له الحق عز وجلّ ليتخيل السامع عند سماع هذه اللفظة ملكا فرغ من ترتيب ممالكه وتشييد ملكه وجميع ما تحتاج إليه رعاياه وجنده من عمارة بلاده وتدبير أحوال عباده، استوى على سرير ملكه استيلاء عظمة، فيقيس السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هو متخيله من أمر المملكة الدنيوية عند سماع هذا الكلام، ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الإخبار بالفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما وإن لم يكن ثم سرير منصوب ولا جلوس محسوس ولا استواء على ما يدل عليه الظاهر من تعريف هيئة مخصوصة.
فائدة:
في الاستواء مذهبان أحدهما مذهب السلف وهو لا يفسر(7/34)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
الاستواء بل يقول انه استواء يليق به وثانيهما مذهب الخلف وهو يفسره بالاستيلاء عليه بالتصرف فيه وفي سائر المخلوقات.
الفوائد:
قوله في ستة أيام: يعني في مقدارها هذه المدة والظاهر أنها من أيام الدنيا وأولها الأحد وآخرها يوم الجمعة وقد كان لها أسماء عندهم وهي: الأحد: أوهل، والأثنين: أوهن، والثلاثاء: جبار، والأربعاء، دبار، والخميس: مؤنس، والجمعة: عروبة، والسبت: شيار.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 61 الى 66]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65)
إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66)
اللغة:
(بُرُوجاً) : أي منازل للكواكب السيارة وهي اثنا عشر، وأصل البروج القصور العالية، سميت هذه المنازل بروجا لأنها للكواكب(7/35)
السيارة بمثابة المنازل الرفيعة التي هي القصور لسكانها، هذا ومنطقة البروج هي منطقة سماوية تحتوي على المدارات التي تجتازها الكواكب السيارة حول الشمس، وانحراف هذه المدارات بالنسبة الى بعضها يختلف قلة وكثرة ولا سيما مدارات الكواكب التي لا تشاهد إلا بالآلة العظيمة الفلكية وهذه المنطقة تقسمها الدائرة الكسوفية المسماة بمدار الأرض الى قسمين متساويين عرض كل منهما تقريبا ثماني درجات وينتهيان بدائرتين موازيتين لتلك الدائرة وهي منحرفة عن دائرة الاستواء التي تقسمها الى قسمين يقربان للتساوي، وقد قسمت في سالف الأزمان الى اثني عشر قسما تسمى صورا وكل قسم منها ثلاثون درجة، ومن سير الشمس بحسب الظاهر في هذه الأقسام تحصل الفصول ومددها، وذلك أن هذا الكوكب بتركه النصف الجنوبي من الكرة ودخوله في نصفها الشمالي تفتتح السنة الشمسية، أعني بمجرد دخوله في برج الحمل، وفي ذلك الوقت يبتدىء الربيع الذي يحيا به الكون ويستمر هذا الفصل مدة اجتياز الشمس البرج المذكور وبرج الثور والجوزاء ثم تدخل على التعاقب في السرطان والأسد والسنبلة وهذه تسمى بفصل الصيف فينبعث إلينا مدة إقامتها في تلك البروج أشعة شديدة الحرارة تنضج الحبوب التي تحصد زمن الصيف، ثم بعد بلوغها هذا الارتفاع تنزل من جهة النصف الجنوبي فتجتاز على التوالي الميزان والعقرب والقوس ويقال لهذه البروج الثلاثة فصل الخريف، ثم يدخل الشتاء بثلجه وبرده وتكون الشمس حينئذ أبعد نقطة عنا ولا ينبعث منها إلينا إلا أشعة مائلة فتقطع بروجه الثلاثة أعني الجدي والدلو والحوت ثم ترجع الى محلها الأول لتعيد الحياة والحركة الى كثير من الكائنات التي كانت كأنها خلية عنها بسبب بعدها عنها.(7/36)
فقد عرفت من ذلك أن الصور الاثني عشرة لمنطقة البروج تنقسم على الفصول الأربعة، فللربيع الحمل والثور والجوزاء، وللصيف السرطان والأسد والسنبلة، وللخريف الميزان والعقرب والقوس، وللشتاء الجدي والساكب والحوت.
(سِراجاً) : السراج الشمس كقوله تعالى «وجعل الشمس سراجا» .
(خِلْفَةً) : أي يخلف كل واحد منهما الآخر فالخلفة مصدر هيئة.
وعبارة القرطبي: قال أبو عبيدة: الخلفة كل شيء بعد شيء فكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه، ويقال للمبطون: أصابه خلفة أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك، ومنه خلفة النبات وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصعيد. وقال مجاهد: خلفة من الخلاف هذا أبيض وهذا أسود والأول أقوى، وقيل يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان، وقيل هو من باب حذف المضاف أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة أي اختلاف لمن أراد أن يذكر أي يتذكر فيعلم أن الله لم يجعلهما كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله تعالى ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم، وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار ومن فاته بالنهار أدركه بالليل.
(هَوْناً) : الهون: الرفق والسكينة، وهو مصدر وضع موضع الصفة للمبالغة وقد مرت له نظائر، ومنه الحديث: «أحبب حبيبك هونا ما» وقوله «المؤمنون هينون لينون» ومن أمثالهم «إذا عز أخوك فهن» .(7/37)
(غَراماً) : هلاكا وخسرانا وعذابا لازما، وفي المختار: «الغرام:
الشر الدائم والعذاب» قال بشر بن أبي خازم:
ويوم النسار ويوم الفجا.... ركانا عذابا وكان غراما والنسار ماء لبني عامر والفجار ماء لبني تميم، وقد جرت فيهما هاتان الواقعتان وكانتا عذابا على أهلهما وهلاكا دائما.
الإعراب:
(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) تبارك فعل ماض جامد والذي فاعله وجملة جعل صلة وفي السماء متعلقان بجعل وبروجا مفعول به وما بعده عطف عليه ويجوز أن تجعل جعل متعدية لاثنين بمعنى الجعل أي التصيير. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) كلام معطوف على ما قبله وهو مبتدأ والذي خبره وجملة جعل الليل والنهار صلة وخلفة مفعول به ثان لجعل إن كانت بمعنى صير أو حال إن كانت بمعنى خلق وأفرد لأن المعنى يخلف أحدهما الآخر فلا يتحقق هذا إلا منهما، قيل ولا بد من تقدير مضاف أي ذوي خلفة كما تقدم في باب اللغة، ولمن صفة لخلفة وجملة أراد صلة من، وأن يذكر مصدر مؤول في محل نصب على المفعولية لأراد ومفعول يذكر محذوف أي ما فاته في أحدهما وأو حرف عطف وأراد شكورا عطف على أراد الأولى. (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) كلام مستأنف مسوق لبيان الأوصاف التي تميز بها عباد الرحمن المخلصون بعد بيان حال المنافقين وقد وصفهم بثمانية موصولات. وعباد مبتدأ والرحمن مضاف إليه وما بعده صفات ويجوز أن تكون الموصولات الثمانية أوصافا، وخبر عباد في آخر(7/38)
السورة وهو قوله تعالى «أولئك يجزون الغرفة» كأنه قال وعباد الرحمن الموصوفون بهذه الصفات أولئك يجزون ولعل الأول أولى لبعده عن التعسف، والذين خبر عباد أو صفة وجملة يمشون صلة وعلى الأرض متعلقان بيمشون وهونا مصدر وضع في موضع الحال أو نصب على المفعولية المطلقة كأنه وصف للمصدر أو ملاقيه في المعنى أي مشيا هونا. (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) الواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها فهي من حيز الصلة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة خاطبهم الجاهلون في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وسلاما مفعول مطلق أي قولا يسلمون فيه من الإثم، وستأتي مناقشة طريفة بين سيبويه والمبرد حول هذا المصدر في باب الفوائد. (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) والذين عطف على الموصول الأول وجملة يبيتون صلة والواو اسم يبيتون ويضعف جعلها تامة أي يدخلون في البيات كما سيأتي في باب الفوائد، ولربهم متعلقان بسجدا وسجدا خبر يبيتون أو حال على جعلها تامة، وقياما عطف على سجدا، وقدم السجود على الفيام وان كان القيام قبله في الفعل لمراعاة الفواصل، وسجدا جمع ساجد وهو اسم فاعل ولذلك تعلق الجار والمجرور به وكذلك قياما جمع قائم. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) والذين عطف أيضا وجملة يقولون صلة وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء واصرف فعل أمر معناه الدعاء وعذاب جهنم مفعول اصرف والجملة مقول القول. (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الجملة تعليلية لا محل لها فهي تعليل لقولهم ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وغراما خبر كان.(7/39)
(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) الجملة تعليلية أيضا وحذف العاطف بينهما فالجملتان من جملة مقولهم، وان واسمها وجملة ساءت خبرها وفاعل ساءت ضمير مستتر مبهم مفسر بنكرة ومستقرا تمييز ومقاما عطف على مستقرا والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي، وقد أجاز المعربون كالزمخشري والسمين أن تكون ساءت بمعنى أحزنت فلا نكون من أفعال الذم بل تكون فعلا متصرفا ناصبا للمفعول به وهو هنا محذوف أي وأحزنت أصحابها وداخليها، عندئذ يجوز في مستقرا أن يكون تمييزا وأن يكون حالا.
الفوائد:
1- مناقشة حول «سلاما» :
قال القرطبي في تفسيره: «قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على الكفار لكنه على معنى قوله سلمنا منكم ولا خير بيننا وبينكم ولا شر، وقال المبرد كان ينبغي أن يقول:
لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم، وقال أي محمد بن يزيد المبرد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة، وقال ابن العربي:
لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم» .
قلت: ولا حاجة الى ادعاء النسخ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة وأصون للعرض وأوفر له.(7/40)
2- فعل بات:
قال في القاموس: «وبات يفعل كذا يبيت ويبات بيتا وبياتا ومبيتا وبيتوتة أي يفعله ليلا وليس من النوم» ومعنى قوله: «وليس من النوم» أي وليس الفعل من النوم فإذا نام ليلا لا يصح أن يقال بات ينام، ومنه قول الشريف الرضي:
أتبيت ريان الجفون من الكرى ... وأبيت منك بليلة الملسوع
ذكر ابن هشام في مغني اللبيب عن رجل كبير من الفقهاء أنه استشكل قول الشريف الرضي الآنف الذكر وقال كيف ضم التاء من تبيت وهي للمخاطب لا للمتكلم وفتحها من أبيت وهو للمتكلم؟ فبينت للحاكي أن الفعلين مضارعان وأن التاء فيهما لام الكلمة وان الخطاب في الأول مستفاد من الهمزة والأول مرفوع لحلوله محل الاسم والثاني منصوب بأن مضمرة بعد واو المصاحبة على حد قول الحطيئة:
ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء
هذا ونعود إلى بيت الشريف فنقول: هو من أرق الشعر وأجمله وفيه استعارة تبعية حيث شبه امتلاء جفون المحبوب من النوم بالري وهو امتلاء الجوف بالماء المذهب للأوار بجامع حصول الراحة في كل منهما، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الري ريان بمعنى ممتلىء الجفون، وفيه أيضا كناية وذلك أنه كنى بليلة الملسوع عن ليلة السهر لأن السهر والأرق من لوازم ذلك، وفيه أيضا طباق بين النوم المستفاد من الصدر صريحا والسهر المستفاد من العجز كناية، فقد استكمل البيت ثلاثة فنون من البيان فإذا أضفت إلى ذلك خروج(7/41)
الاستفهام عن معناه الأصلي إلى البث والشكوى فقد استكمل أربعة فنون يضاف إليها خامس وهو فن حسن النسق وسلاسة الأسلوب.
وهو من أبيات نذكر منها الباقة التالية:
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى ... ألم الجوى من قلبي المصدوع
هيهات لا تتكلفنّ لي الهوى ... فضح التطبع شيمة المطبوع
كم قد نصبت لك الحبائل طامعا ... فنجوت بعد تعرض لوقوع
وتركتني ظمآن أشرب غلتي ... أسفا على ذاك اللمي الممنوع
كم ليلة جرّ عته في طولها ... غصص الملام ومؤلم التقريع
أبكي ويبسم والدجى ما بيننا ... حتى أضاء بثغره ودموعي
قمر إذا استعجلته بعتابه ... لبس الغروب ولم يعد لطلوع(7/42)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
لو حيث يستمع السرار وفقتما ... لعجبتما من عزه وخ
ضوعي أهون علي إذا امتلأت من الكرى ... أني أبيت بليلة الملسوع
وتكون بات تامة مكتفية بمرفوعها عن منصوبها إذا كانت بمعنى عرس وهو النزول آخر الليل نحو قول ابن عمر رضي الله عنه:
«أما رسول الله فقد بات بمنى» أي عرس بها، وقال امرؤ القيس بن عانس بالنون وهو غير امرؤ القيس بن حجر الكندي:
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
أي وعرس، والعائر بالعين المهملة اسم فاعل من العور وهو القذى في العين تدمع له، وقيل الرمد والأرمد صفة له، وقالوا بات بالقوم أي نزل بهم ليلا.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 67 الى 71]
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)(7/43)
اللغة:
(يَقْتُرُوا) : في المختار «وقتر على عياله أي ضيق عليهم في النفقة وبابه ضرب ودخل وقتر تقتيرا وأقتر أيضا ثلاث لغات» وقد قرئ بفتح أوله وضمه.
(قَواماً) : بفتح القاف وكسرها وقد قرئ بهما والقوام بالفتح العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين، ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء، والقوام بالكسر: ما يقام به الشيء يقال أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يزيد عنها ولا ينقص.
(أَثاماً) : الأثام كالوبال والنكال وزنا ومعنى: جزاء الإثم الذي هو الذنب نفسه، قال:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام
وفي المختار: «أثمه الله في كذا بالقصر يأثمه بضم الثاء وكسرها أثاما عده عليه إثما فهو مأثوم، وقال الفراء: أثمه الله يأثمه اثما وأثاما جازاه جزاء الإثم فهو مأثوم أي مجزي جزاء إثمه» .
الإعراب:
(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) والذين عطف على ما تقدم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أنفقوا في محل جر بإضافة الظرف إليها وجملة لم يسرفوا ولم يقتروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم والواو عاطفة أو حالية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر أي وكان الانفاق، وبين(7/44)
ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان صفة لقواما وذلك مضاف إليه وقواما خبر كان. قال الزمخشري: «والمنصوبان أعني بين ذلك قواما جائز أن يكونا خبرين معا، وأن يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا، وان يكون الظرف خبرا وقواما حالا مؤكدة» . (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) والذين عطف على ما تقدم أيضا وجملة لا يدعون صلة ومع الله متعلق بيدعون وإله مفعول به وآخر صفة. (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) ولا يقتلون عطف على ولا يدعون والنفس مفعول به والتي صفة وجملة حرم الله صلة وإلا أداة حصر وبالحق متعلقان بيقتلون أو بمحذوف حال فالاستثناء من أعم الأحوال أي إلا مستحقين، ولا يزنون معطوفة. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) الواو عاطفة ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويفعل فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على من وذلك مفعول به ويلق جواب الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وأثاما مفعول به ويضاعف بدل من يلق لأنهما في معنى واحد وسيأتي في باب الفوائد بحث إبدال الفعل من الفعل لأن مضاعفة العذاب لقي الآثام، وله متعلقان بيضاعف والعذاب نائب فاعل ويوم القيامة ظرف متعلق بيضاعف أيضا ويخلد عطف على يضاعف وفيه متعلقان بيخلد ومهانا حال من فاعل يخلد.
(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً) إلا أداة استثناء ومن استثناء من الجنس في موضع نصب وجملة تاب صلة وآمن عطف على تاب وكذلك عمل وعملا مفعول مطلق أو مفعول به وصالحا صفة. (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفاء رابطة لما في الموصول من رائحة الشرط وأولئك مبتدأ والإشارة الى الموصول وهو من، والجمع باعتبار معناها، وجملة يبدل خبر أولئك والله فاعل وسيئاتهم(7/45)
مفعول، وحسنات مفعول ثان ليبدل أو نصب على نزع الخافض وكان الواو استئنافية وكان واسمها وغفورا خبرها الأول ورحيما خبرها الثاني. (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً) الواو عاطفة أو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتاب فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وعمل عطف على تاب وصالحا صفة لمفعول مطلق أو لمفعول به محذوف أي عملا صالحا، فإنه الفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وان واسمها وجملة يتوب خبر والى الله جار ومجرور متعلقان بيتوب ومتابا مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي.
الفوائد:
إبدال الفعل من الفعل:
يبدل كل من الاسم والفعل والجملة من مثله وينطبق عليه أحكام البدل فيكون بدل كل من كل أو بدلا مطابقا كقوله تعالى «ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف» فيضاعف بدل من يلق بدل كل من كل أو بدلا مطابقا، قال الخليل لأن مضاعفة العذاب هي لقي الآثام، وبدل البعض نحو: إن تصل تسجد لله يرحمك، فتسجد بدل من تصل بدل بعض من كل، وبدل الاشتمال كقوله:
إن عليّ الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا
لأن الأخذ كرها والمجيء طائعا من صفات المبايعة والله منصوب على نزع الخافض أي والله، وأن تبايعا اسم إن والألف في تبايعا للإطلاق وهو من بايع أي عاهد وعلي متعلق بالخبر وتؤخذ وما عطف(7/46)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
عليه بدل اشتمال من حيث المعنى، أما ابدال الجملة فيطرد في البدل المطابق نحو قعدت جلست في دار زيد.
وفي بدل البعض من الكل كقوله تعالى: «أمدكم بما تعلمون:
أمدكم بأنعام وبنين» فجملة أمدكم الثانية أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى لأن «ما تعلمون» تشمل الأنعام وغيرها، وبدل الاشتمال كقوله:
أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما
ف «لا تقيمن عندنا» بدل اشتمال من «ارحل» لما بينهما من المناسبة اللزومية وليس توكيدا له لاختلاف لفظيهما ولا بدل بعض لعدم دخوله في الأول ولا بدل كل من كل لعدم الاعتداد به كما تقدم.
وقد تبدل الجملة من المفرد بدل كل كقول الفرزدق:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان
فقد أبدل جملة كيف يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان، أما ابدال المفرد من الجملة فقد صرح أبو حيان في البحر بأن المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فقيما بدل من جملة لم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 72 الى 77]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76)
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(7/47)
الإعراب:
(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) والذين عطف على الموصولات السابقة وجملة لا يشهدون صلة، والزور: إن كانت يشهدون بمعنى الشهادة المعلومة فيكون الزور منصوبا بنزع الخافض أي بالزور وإن كانت يشهدون بمعنى يحضرون فيكون الزور مفعولا به، وإذا الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مروا مجرورة بإضافة الظرف إليها ومروا فعل وفاعل وباللغو متعلقان بمروا وجملة مروا الثانية لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وكراما حال أي ربئوا بأنفسهم عن الوقوف عليه والاسهام فيه. (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) جملة لم يخروا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليها متعلقان بيخروا وسيأتي معنى هذا النفي في باب البلاغة وصما حال وعميانا حال ثانية. (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) عطف على ما تقدم وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وهب فعل أمر فيه معنى الدعاء ولنا متعلقان(7/48)
بهب ومن أزواجنا حال وسيأتي بحث هذا التجريد في باب البلاغة وقرة أعين مفعول هب وتقدم أن قرة العين سرورها والمراد به ما يحصل به السرور وسيأتي سر تقليل الأعين في باب البلاغة، واجعلنا فعل أمر متضمن معنى الدعاء وفاعله مستتر ومفعول أول وللمتقين حال لأنه كان في الأصل صفة لإماما وإماما مفعول به ثان وفيه أربعة أوجه:
1- انه مصدر مثل قيام وصيام فلم يجمع لذلك والتقدير ذوي امام.
2- انه جمع إمامة مثل قلادة وقلاد.
3- هو جمع آم من أم يؤمّ.
4- انه واحد اكتفى به عن أئمة كما قال تعالى «نخرجكم طفلا» .
(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) الجملة حالية من المتقين أو خبر عباد الرحمن على أحد القولين وأولئك مبتدأ وجملة يجزون الغرفة خبره والغرفة مفعول به ثان ليجزون والواو نائب فاعل وهو المفعول الأول، وبما متعلقان بيجزون وما مصدرية والباء للسببية أي بسبب صبرهم على المشاق في الطاعات والابتعاد عن الشهوات ومكابدة المجاهدات ويلقون عطف على يجزون وفيها حال وتحية مفعول به ثان ليلقون لأنه مبني للمجهول والواو نائب فاعل وسلاما عطف على تحية. (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) خالدين حال وفيها متعلقان بخالدين وحسنت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على الغرفة ومستقرا تمييز ومقاما عطف على مستقرا وجملة حسنت(7/49)
حال ثانية من الغرفة. (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ) ما اسم استفهام في محل نصب مفعول مطلق ويعبأ فعل مضارع وبكم متعلقان بيعبأ وربي فاعل أي انه يكترث بكم ويعبأ بكم ويعلي ذكركم لأجل عبادتكم ولولا عبادتكم لم تكونوا شيئا يؤبه له، ويجوز أن تكون ما نافية ولولا حرف امتناع لوجود ودعاؤكم مبتدأ محذوف الخبر وجوبا وجواب لولا محذوف كما قدرناه سابقا ودعاؤكم مصدر أضيف لفاعله والمفعول محذوف أي إياه. (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) الفاء الفصيحة أي إني إذا أعلمتكم أني لا أعتد بكم ولا أقيم لكم وزنا إلا لأجل عبادتكم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف تتحملون مسؤولية تكذيبكم. ويكون فعل مضارع ناقص واسمها هو أي التكذيب ولزاما خبرها وهو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي ملازما لكم.
البلاغة:
1- النفي والإثبات:
في قوله تعالى «لم يخرّوا عليها صما وعميانا» نفي واثبات، فقد أثبت الخرور لأنهم طالما خروا ساجدين خاشعين في هدوء الليل ووسط الدجى ولكنهم إن خروا ساجدين سلمت لهم أبصارهم وآذانهم فلم يبصروا إلا مرائي الهيبة وتعاجيب الألوهية وأنوار السنا الساطعة، ولم يسمعوا إلا الآيات تتردد في آذانهم وتهجس في مخيلاتهم فإذا الورى آي وعبر، وإذا الحوبة لا عين ولا أثر، تقول ما يلقاني زيد ماشيا إنما هو نفي للمشي لا للقاء وعبارة ابن قتيبة: «المعنى لم يتغافلوا عنها كأنهم صم لم يسمعوها وعمي لم يبصروها» .(7/50)
2- التقريع للكافرين:
وفيها أيضا تنديد وتقريع للكافرين لأنهم صم بكم عمي لا ينتفعون بما يقرءون، ولا يعتبرون بما يشاهدون، ولا يتجاوز آذانهم ما يسمعون 3- التنكير والتقليل:
وفي قوله تعالى «قرة أعين» نكتتان الأولى التنكير، وإنما جنح إليه لأجل تنكير القرة، والمضاف لا يمكن تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه ليكون السرور غير متناه ولا محدود، وإنما قلل الأعين أي جمع جمع القلة لأن أعين المتقين قلة بالإضافة الى غيرهم، يدل على ذلك قوله «وقليل من عبادي الشكور» وهناك وجه آخر لعله أبلغ مما تقدم وهو أن المحكي كلام كل أحد من المتقين فكأنه قال: يقول كل واحد من المتقين اجعل لنا من ذرياتنا قرة أعين، فإن المتقين وإن كانوا بالإضافة إلى غيرهم قليلا إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد، والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالنسبة والإضافة.(7/51)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
(26) سورة الشّعراء مكيّة وآياتها سبع وعشرون ومائتان
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
اللغة:
(باخِعٌ) : تقدم تفسير هذه الكلمة، والبخع أن يبلغ بالذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد للذابح، وفي المصباح: «وبخع نفسه بخعا من باب نفع قتلها من وجد أو غيظ وبخع لي بالحق بخوعا انقاد وبذله» .(7/52)
الإعراب:
(طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) طسم تقدم إعرابها والحديث عن فواتح السور، وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر والمبين صفة لكتاب.
(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) لعل للاشفاق أي فالترجي هنا بمعنى الأمر أي ارحم نفسك وارفق بها، والكاف اسمها وباخع خبرها ونفسك مفعول به لباخع وأن وما في حيزها مفعول لأجله أي خيفة أن لا يؤمنوا أو لامتناع إيمانهم، ومؤمنين خبر يكونوا.
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) كلام مستأنف مسوق لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه من الاسترسال في التحسّر والغم على عدم إيمانهم، وان شرطية ونشأ فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره نحن ومفعول المشيئة محذوف لأنه مضمون الجواب أي إيمانهم وننزل جواب الشرط وعليهم متعلقان بننزل ومن السماء حال لأنه كان في الأصل صفة لآية والفاء حرف عطف وظلت فعل ماض ناقص معطوف على ننزل فهو مجزوم محلا ويجوز أن تكون الفاء استئنافية وظلت بمعنى المضارع أي تظل تدوم، وإليه جنح الجلال فيكون قد فسره بالمرفوع، وأعناقهم اسم ظلت ولها متعلقين بخاضعين وخاضعين خبر ظلت، وسيأتي سر المخالفة في العطف وسر مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق في باب البلاغة. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به ومن حرف جر زائد وذكر مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه فاعل يأتيهم ومن الرحمن صفة لذكر ومحدث صفة ثانية أي تجدد انزاله وفق مقتضيات الأحوال وإلا أداة حصر وجملة كانوا(7/53)
استثناء من أعم الأحوال فهي حالية وكان واسمها وعنه متعلقان بمعرضين ومعرضين خبر كانوا. (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إذا شئت أن تعرف ماذا كان موقفهم من الذكر حين أعرضوا عنه وصدفوا عن التأمل فيه فقد كذبوا.
وقد حرف تحقيق وكذبوا فعل ماض وفاعل فسيأتيهم عطف على ما تقدم للوعيد والتهديد ويأتيهم فعل مضارع ومفعول به وأنباء فاعل وما مضاف إليه وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا. (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر وقد تقدم مثل هذا التعبير كثيرا ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والرؤية هنا بصرية ولذلك تعدت بإلى والى الأرض متعلقان بيروا وكم خبرية في محل نصب مفعول أنبتنا وأنبتنا فعل ماض وفاعل ومن كل زوج تمييز كم الخبرية ويجوز أن يكون حالا كما ذكر أبو البقاء وكريم صفة لزوج، وأراد بالزوج الصنف من النبات والنوع وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن وما الواو حالية وما نافية وكان أكثرهم مؤمنين كان واسمها وخبرها أي سبق ذلك في علم الله، وقال سيبويه كان زائدة وسيأتي مزيد من هذا البحث في باب الفوائد. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر هو والجملة خبر إن والرحيم خبر ثان.(7/54)
البلاغة:
انطوت هذه الآيات على الكثير من فنون البلاغة ندرجها فيما يلي:
1- المخالفة في العطف:
فقد خالف في العطف، فعطف «فظلت» على «ننزل» ولو قيل أنزلنا لكان صحيحا ولعله كان مما يقتضيه السياق ولكنه خولف لأن في عطف الماضي على المستقبل إشعارا بتحقيقه وأنه كائن لا محالة، لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا، وله في القرآن نظائر سترد في مواضعها.
2- المجاز العقلي:
المجاز العقلي في إسناد الخضوع للأعناق، فقد يقال كيف صح مجيء خاضعين خبرا عن الأعناق والخضوع من خصائص العقلاء، وقد كان أصل الكلام «فظلوا لها خاضعين» والسر في ذلك انه لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضعين كما تقدم في قوله «لي ساجدين» وهناك أقوال أخرى أوصلها علماء البيان إلى سبعة نلخصها فيما يلي:
آ- المراد الرؤساء كما قيل لهم وجوه وصدور.
ب- انه على حذف مضاف أي فظل أصحاب الأعناق، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف مراعاة للمحذوف.
ج- انه لما أضيف الى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالاضافة.(7/55)
د- ان الأعناق جمع عنق من الناس وهم الجماعة يقال جاءنا عنق من الناس أي فوج وليس المراد الجارحة المعلومة.
هـ- إقحام الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله.
وما ذكره من أنها عوملت معاملة العقلاء لما أسند إليها ما يكون عادة من أفعال العقلاء على طريق المجاز العقلي.
ز- انه لما أضاف الأعناق إلى المذكر وكانت الأعناق متصلة بهم في الخلقة والتكوين أجري عليها حكمهم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية، قال: ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هو ان بعد عزة.
3- التتميم:
بقوله «أولم يروا الى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم» فقد كان يكفي أن يقال كم أنبتنا فيها من زوج كريم وما معنى الجمع بين كم وكل والجواب أن كلّا إنما دخلت للإحاطة بأزواج النبات وكم دلت على أن هذا المحاط مفرط بالكثرة، وبذلك تنبيه على تمام القدرة وكمالها، وهذا هو مقتضى التتميم الذي تقدمت الاشارة إليه، وتعريفه:
أن تأتي في الكلام كلمة إذا طرحت من الكلام نقص معناه في ذاته أو في صفاته ولفظه تام كما أن المقصود هنا في الآية آحاد الأزواج ويدل عليه أنه لو أسقطت «كل» فقلت: انظروا الى الأرض كم أنبت الله فيها(7/56)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
من الصنف الفلاني لكنت مكنيا عن آحاد ذلك الصنف المشار اليه، فإذا أدخلت كلّا فقد أديت بتكريره آحاد كل صنف لا آحاد صنف معين.
4- التتميم أيضا:
وتمم كذلك بوصفه الزوج بالكريم وذلك لأمرين:
آ- ان النبات- كما هو معلوم- نوعان نافع وضار فدل بكلمة كريم أنه يقصد النوع النافع فذكر كثرة من أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وخلى ذكر الضار.
ب- أنه يقصد كلا النوعين النافع والضار ويصفهما جميعا بالكرم تنبيها على أنه ما خلق شيئا إلا لفائدة وربما خفيت عليكم أسرارها وصعب عليكم اكتناهها ولكنه تعالى عالم بما تجهلون.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 17]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17)(7/57)
الإعراب:
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في سرد سبع قصص هي على التوالي: قصة موسى وقصة ابراهيم وقصة نوح وقصة هود وقصة صالح وقصة لوط وقصة شعيب. والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر يا محمد لقومك عساهم يتعظون بها ويعتبرون بما آل اليه مصير أولئك الأقوام الذين جنحوا الى المكابرة والتعنت ولجئوا الى اللجاج والسفسطة التي لا طائل تحتها، وجملة نادى في محل جر بإضافة الظرف إليها وربك فاعل نادى وموسى مفعول به وأن ائت يجوز في «أن» أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية وهي مع مدخولها في موضع نصب بنزع الخافض وائت فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت والقوم مفعول به والظالمين صفة. (قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) قوم فرعون بدل من القوم الظالمين أو عطف بيان ولعله أولى لأنهما عبارتان تعتقبان على مدلول واحد، ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك أتى عطف البيان بإزالته، والهمزة للاستفهام الانكاري ولا نافية ويتقون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل والجملة استئنافية والمقصود منها التعجب أي تعجب من عدم تقواهم، ولا بد من تقدير معنى التعجب لأن الاستفهام الإنكاري معناه النفي ولا نافية ودخول النفي على النفي اثبات فيئول المعنى الى أنهم اتقوا الله وذلك فاسد، ويحتمل أن تكون الجملة حالية من الضمير الذي تحمله اسم الفاعل وهو الظالمون أي يظلمون غير متقين، واختار بعض المعربين أن تكون ألا للعرض وآخرون اختاروا أنها للتنبيه. (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) رب منادى مضاف حذف منه حرف النداء وإني إن واسمها وجملة أخاف خبرها وأن وما في(7/58)
حيزها مفعول أخاف وحذفت ياء المتكلم من يكذبوني لمراعاة الفواصل (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) الواو عاطفة ويضيق معطوف على خبر إن أي على أخاف فهو مرفوع مثله ويجوز عطفه على يكذبون فهو منصوب مثله وقد قرئ به والفرق بين المعنيين أن الرفع يفيد فيه ثلاث علل أو معاذير وهي: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان، وأما الرفع فيفيد أن خوفه متعلق بهذه الثلاثة، وصدري فاعل ولا ينطلق لساني عطف على ما قبله لحبسة في لسانه، فأرسل الفاء الفصيحة وأرسل فعل أمر معناه الالتماس والى هارون متعلقان بأرسل وليس مراد موسى الامتناع من أداء الرسالة أو التلكؤ فيها بل أراد أن يظهر عجزه عن الاضطلاع بهذا العبء الخطير وطلب المعونة من ربه بأن يعضده بأخيه حتى يتساندا ويتضافرا على تنفيذ الأمر وتبليغ الرسالة. (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) عطف على ما تقدم ولهم خبر مقدم وعلي حال وذنب مبتدأ مؤخر وهو قتله القبطي الذي قيل إنه كان خباز فرعون، والمعنى لهم علي تبعة ذنب وهي قود ذلك القتيل فأخاف أن يقتلوني به فحذف المضاف أو سمى تبعة الذنب ذنبا كما سمى جزاء السيئة سيئة. (قالَ: كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) كلا حرف ردع نابت عن الفعل وهو ارتدع يا موسى ولذلك عطف عليها بالفاء من قوله فاذهبا، واذهبا فعل أمر وألف الاثنين فاعل وبآياتنا متعلقان باذهبا وجملة إنا معكم مستمعون تعليلية للأمر وإن واسمها ومستمعون خبرها والظرف متعلق بمحذوف حال أو خبر ثان أو بمستمعون نفسها ومفعول مستمعون محذوف أي ما يدور بينكما وبين فرعون وقومه، وفي هذا الكلام مجاز سيأتي ذكره في باب البلاغة. َأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ)
الفاء عاطفة وأتيا فرعون فعل أمر وفاعل ومفعول به فقولا عطف، وإنا(7/59)
ان واسمها أي إن كلا منا، ليطابق اسم ان خبرها ورسول خبرها ورب العالمين مضاف إليه وسيأتي في باب الفوائد مزيد من هذا التطابق.
(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) الأرجح أن تكون أن هنا مصدرية لأنها مسبوقة بجملة فيها معنى القول وحروفه والمصدر المؤول في محل نصب بنزع الخافض، وأصر الزمخشري على أنها تفسيرية بمعنى أي وجعلها غير مسبوقة بقوله فقولا بل بما تضمنه لفظ الرسول من معنى الإرسال، تقول أرسلت إليك أن أفعل كذا لما في الإرسال من معنى القول كما في المناداة والكتابة ونحوهما، والظرف متعلق بأرسل وبني إسرائيل مفعول به.
البلاغة:
في قوله تعالى «إنا معكم مستمعون» مجاز معناه: إنا معكم نستمع ما يجري بينكم وبينه وأنا الناصر لكما عليه، فالاستماع قرينة للكلام المجازي لأن من سمع محاورة خصمين كان مستطيعا الحكم بينهما ومشايعة أيهما رآه أقرب الى الحق وأدنى من الصواب، فإذا اعترض معترض بأن الله تعالى مستمع حقيقة وسامع ولا يجوز اجراء المجاز عليه تعالى قلنا إن الاستماع يقتضي الإصغاء بالأذن كما الإبصار يتطلب تقليب الحدقتين من العين، وكل ذلك من خواص المحدثين.
الفوائد:
يجوز أن يكون الرسول بمعنى الرسالة فجازت التسوية فيه إذ وصف به بين الواحد والتثنية والجمع، كما يفعل بالصفة بالمصادر نحو صوم وزور قال أبو ذؤيب:(7/60)
ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر
فجعله للجماعة لأن الرسول في الأصل مصدر فجاز افراده مع تعدد معناه ولذلك عاد إليه ضمير الجمع في أعلمهم، وشبه الخبر بمكان ذي جهات على طريق الاستعارة المكنية، والنواحي تخييل، أو شبه توابع الخبر التي يسأل عنها تبعا له بالنواحي على طريق الاستعارة التصريحية، يعني أنه أعلم من غيره بذلك، وألكني: أرسلني مصحوبا بالرسالة. ومن مجيء الرسول بمعنى الرسالة قول كثير عزة:
حلفت برب الراقصات الى منى ... خلال الملا يمددن كلّ جديل
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول
فلا تعجلي يا عزّ أن تتفهمي ... بنصح أتى الواشون أم بحبول
والراقصات: المطايا السائرات إلى منى في الحج، وخلال الملا أي في أثناء الناس فيكون مخففا من الملأ أو في الصحراء لأن الملا الصحراء والمتسع من الأرض، والجديل الرسن في عنقها، والواشي الذي يحسن الكلام ويموهه ويخلط الصدق بالكذب ويحرف الكلم عن مواضعه، وما نافية أي ما تفوهت عندهم بسر، ولا أرسلتهم الى أحد برسول أي برسالة فهو في الأصل مصدر وقد يطلق على المرسل، والأصل يا عزة فرخم بحذف التاء، وأن تتفهمي أي في أن تتفهمي أو لأجل أن تتفهمي، وبنصح(7/61)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
أي أبنصح أتى الواشون إليك أم بحبول؟ وهي جمع حبل بالكسر وهي الداهية العظيمة ولا أدهى من الكذب.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 18 الى 22]
قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
الإعراب:
(قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) لا بد من تقدير مقدر محذوف أي فانطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال:
ائذن له لعلنا نضحك منه، فأديا إليه الرسالة فعرف موسى لأنه نشأ في بيته فقال له: ألم نربك. والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ونربك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاعل ضمير مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وفينا متعلقان بنربك ووليدا حال ولبثت فعل وفاعل وفينا متعلقان بلبثت ومن عمرك حال لأنه كان صفة لسنين وسنين ظرف متعلق بلبثت أيضا.
(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) الواو عاطفة وفعلت فعل وفاعل وفعلتك مفعول به أو مفعول مطلق والتي نعت وجملة فعلت صلة والواو حالية وأنت مبتدأ ومن الكافرين خبر أي الجاحدين لنعمتي(7/62)
والفعلة التي فعلها موسى هي قتل خبازه القبطي. (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) قال فعل ماض أي موسى وفعلتها فعل وفاعل ومفعول به أو مفعول مطلق أي فعلت الفعلة وإذن حرف جزاء بمثابة الجواب والواو واو الحال وأنا مبتدأ ومن الضالين خبر أي عما آتاني الله بعدها من العلم والرسالة وربأ بمحل النبوة عن تلك الصفة التي أطلقها عليه فروعون وهي قوله له وأنت من الكافرين فقال من الضالين أي المخطئين كمن يقتل خطأ من غير تعمد للقتل. (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) الفاء عاطفة وفررت فعل وفاعل ومنكم متعلقان بفررت ولما حينية كما يقول الفارسي ورابطة كما يقول سيبويه، وجملة خفتكم مضاف إليها الظرف، فوهب عطف على ففررت ولي متعلقان بوهب وربي فاعل وحكما مفعول به وجعلني من المرسلين عطف على ما تقدم، دفع قدحه في نبوته بهذا القول أي ان موهبة الحكم والنبوة كانت بعد تلك الحادثة، ثم كرّ على امتنانه عليه بالتربية فدحضه وأبطله من أصله واجتثه من أساسه بقوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام مستأنف مسوق لنسف الاتهام الذي وجهه إليه فرعون، وتلك مبتدأ ونعمة خبر وجملة تمنها صفة لنعمة وعلي متعلقان بتمنها وأن وما في حيزها عطف بيان لتلك لأن الإشارة إلى خطة شنعاء وخصلة شوهاء لا تكتنه حقيقتها إلا بتفسيرها فجاء عطف البيان مفسرا ما أبهم فاتحا ما أغلق، ويجوز أن يعرب المصدر المؤول بدلا من نعمة أو يكون في محل نصب على أنه مفعول لأجله، ونمنها فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والهاء منصوب بنزع الخافض لأن منّ فعل لازم يتعدى بالباء أي تمن بها.
وأشار الجلال في تفسيره المختصر الى أن بعضهم قدر أول الكلام همزة أي قبل وتلك وأصل الكلام أو تلك؟ أي ليست هذه نعمة حتى(7/63)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
تمن بها علي، والمقدر هو الأخفش، وهذه الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى النفي كما شرحنا.
البلاغة:
الإبهام:
في قوله «وفعلت فعلتك التي فعلت» إبهام من غير تفسير وهو قسمان: إبهام مفسر وإبهام من غير تفسير فإن قوله «التي فعلت» يذهب فيها الوهم كل مذهب وتحمل الكثير من المعاني وهو كثير شائع في القرآن الكريم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 31]
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
الإعراب:
(قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) قال فرعون فعل وفاعل والواو عاطفة لتعطف القول على قول موسى «إنا رسول رب العالمين» وما اسم(7/64)
استفهام مبتدأ ورب العالمين خبره وانما أجاب بما لأنه سأل عن صفاته وأفعاله ولو أراد عينه لقال من؟ (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) قال موسى هو رب فرب خبر لمبتدأ محذوف وما عطف على الجنسين فلا يرد اعتراض على التثنية وهي راجعة على الجمع وبينهما ظرف متعلق بمحذوف صلة وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط وكان واسمها وخبرها وجواب إن محذوف أي إن كنتم ممن يرجى منهم النظر الصحيح والاعتبار السليم نفعكم هذا الجواب، أو تقدره إن كنتم توقنون بشيء فهذا أولى ما توقنون به لسطوعه وإنارة دليله. (قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) قال فرعون، ولمن متعلقان بقال وحوله ظرف متعلق بمحذوف هو الصلة وهم أشراف قومه والهمزة للاستفهام ولا نافية وتستمعون فعل مضارع وفاعله ومفعوله محذوف أي جوابه الذي لم يطابق السؤال. (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قال موسى، وربكم خبر لمبتدأ محذوف أي هو كان داخلا ومنتظما في قوله رب السموات والأرض وما بينهما لإغاظته وتحديه، وسيأتي سر ذكر الخاص بعد العام في باب البلاغة.
(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) قال فرعون، وجملة إن رسولكم مقول القول وان واسمها والذي صفة وجملة أرسل إليكم صلة للموصول واللام المزحلقة ومجنون خبر إن. وهذا شأن المبطلين المتحكمين عند ما يسقط في أيديهم يلجئون إلى نعت صاحب الحق بالجنون أو غيره لأنهم لا يملكون الدليل على معارضته. (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) قال موسى زيادة في إغاظته والتدليل على إسفافه: هو رب المشرق والمغرب وما بينهما، وسيأتي سر هذا الطباق في باب البلاغة، وإن كنتم تعقلون شرط وجوابه محذوفه(7/65)
أي إن كان لكم مسكة من عقل علمتم أن لا جواب لكم غير المكابرة والسفه والشطط في القول، قال أولا إن كنتم موقنين لأن المقام مقام تدليل واقناع ثم لما يئس واشتد اللجاج غالظهم وقابل لجاجتهم ونسبتهم إياه الى الجنون بمثلها فنفى عنهم العقل الذي يمكنهم من التمييز بين الأمور. (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) قال فرعون، لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية واتخذت فعل ماض وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وإلها مفعول به وغيري صفة واللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم بناء على القاعدة المشهورة وأجعلنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا ومن المسجونين في موضع نصب على أنه المفعول الثاني. (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) قال موسى، والهمزة للاستفهام والواو للحال وكل ما كان على هذا التركيب يكون قد سبقه فعل محذوف أي أتفعل ذلك ولو ... ،
ولو شرطية وجئتك فعل ماض وفاعل ومفعول به وبشيء متعلقان بجئتك ومبين صفة لشيء أي ببرهان ساطع على نبوتي. (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) قال فرعون، فأت الفاء الفصيحة أي إن كنت صادقا في دعواك فأت، وبه متعلقان بقوله فأت وإن شرطية وكنت فعل الشرط وكان واسمها ومن الصادقين خبر كنت وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله.
البلاغة:
العموم والخصوص:
بعد أن ذكر العموم بقوله «رب السموات والأرض وما بينهما» إذ استوعب به الخلائق كلها عاد الى التخصيص بذكرهم وذكر آبائهم(7/66)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
والمطابقة بين المشرق والمغرب ليتأملوا في أنفسهم لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع والناقل من هيئة الى هيئة ومن حال الى حال من وقت ميلاده الى وقت وفاته، وطابق بين المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها في الآخر على تقدير مستقيم ونظام ثابت لا خلل فيه في فصول السنة وحساب مستقيم أيضا، من أظهر ما يمكن الاستدلال به.
وعمم ثانيا بجعله من المسجونين ولم يقل لأسجننك للاشارة الى أن ذلك ديدنه فقد كان يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في وهذة عميقة الغور وحيدا لا يرى الضوء فيها ولا يسمع الصوت من داخلها فكان ذلك أنكى من القتل، وهو ديدن المعاند المكابر المحجوج حين تواتيه الأيام ويبتسم له الزمان يعتقد حين يملك قطرا في غفلة من الدهر أن على أهله أن يعبدوه، فاللام في قوله من المسجونين للعهد أي ممن عرفت شأنهم وعهدت حالهم في سجوني، فالتعميم هنا أبلغ كما أن التخصيص فيما سبق أبلغ، ولله أسلوب القرآن إنه يتعالى على الأذهان السطحية البدائية ويدق على البداءة الأولى.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 32 الى 37]
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)(7/67)
اللغة:
(ثُعْبانٌ) : الثعبان الحية يطلق على الذكر والأنثى ويجمع على ثعابين، واشتقاق الثعبان من ثعب الماء فجره فانثعب، وقد ظهرت هذه الثعبانية على العصا حين ألقاها. وللثاء مع العين خاصة التلون والتحيل والارهان، يقال ثعّ يثع من باب ضرب ثعا قاء ما أكله، وانثعّ الأكل من فمه والدم من أنفه أو جرحه أي انصب، ومن أقوالهم: سالت الثّعبان كما انساب الثعبان جمع ثعب وهو المسيل، قال:
وما ثعب باتت تطرّده الصبا ... بسرّاء واد منجد غير اتهما
ومن المجاز: صاح به فانثعب اليه إذا وثب يجري إليه، وشدّ أثعوب قال:
لها إذا حرّ الحرار واللوب ... قوائم «عوج» وشدّ أثعوب
وقال أبو دؤاد:
وكل قائمة تهوي لوجهتها ... لها أتي كفرغ الدلو أثعوب
وكلاهما من باب الاستعارة إلا أن الطريق مختلف، وثعب عليهم الغارة: شنّها، وثعب البعير شقشقته: أخرجها. وثعلت أسنانه تثعل من باب فتح ثعلا تراكبت احداها على الأخرى فهو أثعل وفيه معنى التلوّن والتحيل، وأثعل الأمر عظم وتفاقم، والثّعل بضم الثاء المشددة دويبة تظهر في السقاء إذا خبثت ريحه، وثعالة علم على أنثى الثعلب لا ينصرف، وثعلب وتثعلب: راغ أو تشبه بالثعلب في روغانه، والثعلب حيوان مشهور بالتحيل والرّوغان يتساقط شعره كل سنة،(7/68)
ومنه داء الثعلب وهو عملية تساقط الشعر ويقال للأنثى ثعلبة وللذكر ثعلبان وكلمة ثعلب تقع على المذكر والمؤنث ويجمع على ثعالب وثعال، والثعلب أيضا طرف الرمح الداخل في جبة السنان، قال بشار:
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصى ... وبالشوك والخطي حصر ثعالبه
والثعلبة أيضا العصعص والاست. وبالجملة فهذه المادة ظاهرة الثعلبة والثعبانية.
(أَرْجِهْ) : وأرجئه كما قرئ أيضا بالهمز وبالتخفيف وهما لغتان يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخرته ومنه المرجئة.
الإعراب:
(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) الفاء عاطفة وألقى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعصاه مفعول به فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وهي ظرف أو حرف وقد تقدم بحثها مفصلا وهي مبتدأ وثعبان خبر ومبين صفة. وقد تقدم بحث المسألة الزنبورية وخلاف سيبويه مع الكسائي في حضرة يحيى البرمكي حولها. (وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الجملة معطوفة على سابقتها وهي مماثلة لها في اعرابها.
(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) قال فرعون، وللملأ متعلقان بقال وحوله ظرف متعلق بمحذوف حال وللزمخشري تفنن في اعرابها نورده لروعته:
«فإن قلت: ما العامل في حوله؟ قلت: هو منصوب نصبين نصب(7/69)
في اللفظ ونصب في المحل فالعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال» .
وإن حرف مشبه بالفعل وهذا اسمها واللام المزحلقة وساحر خبر وعليم خبر ثان. (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) الجملة صفة لساحر، وهي بيت كامل من مجزوء الرجز وليس شعرا لانتفاء القصد وقد تقدم بحث ذلك مفصلا. وأن وما في حيزها مفعول يريد ومن أرضكم متعلقان بيخرجكم وبسحره متعلقان بيخرجكم أيضا.
(فَماذا تَأْمُرُونَ) الفاء عاطفة وماذا اسم استفهام مفعول به لقوله تأمرون أو مفعول مطلق لكونه في معنى المصدر أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر وجملة تأمرون صلة، قال ذلك بعد أن بهره ما شاهد واستولى عليه الدهش والبهر. (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) قالوا فعل وفاعل وأرجه فعل أمر والهاء مفعول به وأخاه مفعول معه أو عطف على الهاء وابعث عطف على أرجه وفي المدائن متعلق بابعث وحاشرين صفة لمفعول به محذوف أي شرطا يحشرون السحرة ويجمعونهم. (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) يأتوك فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر وبكل سحار متعلقان بيأتوك وعليم صفة لسحار.
الفوائد:
الشّرط: واحده شرطي وهم الطائفة من خيار أعوان الولاة، وفي أيامنا هم رؤساء الضابطة ورجالها سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها، وفي الصحاح: «الشرط محركة الحرس سموا بذلك لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها» والشرط أيضا أول كتيبة تشهد الحرب وتتهيأ للموت.(7/70)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 44]
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
الإعراب:
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) الفاء عاطفة على مقدر وجمع فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل ولميقات جار ومجرور متعلقان بجمع ويوم مضاف اليه ومعلوم صفة واليوم المعلوم هو يوم الزينة وميقاته هو وقت الضحى، وقد مر ذكره في طه فجدد به عهدا. (وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ؟) وقيل معطوف على ما تقدم وللناس متعلقان به وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومجتمعون خبر والجملة مقول القول وفي الاستفهام معنى الأمر كأنهم يستبطئهم ويستحثهم على الاجتماع ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عوف بن مخراق
فهل استفهام استبطائي فيه حث على الفعل ودينار اسم رجل ورب كذلك ونصب لأنه معطوف على محل دينار لأنه مفعول معنى وأخا عوف نعت له وقيل منادى وعوف ومخراق اسمان لرجلين ويروى(7/71)
عون بالنون. (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) الجملة في محل نصب حال لأن الترجي باعتبار حالة الغلبة المقتضية للاتباع وان كان مقصودهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى، والمعنى: راجين أن تكون الغلبة لهم فلا تتبع موسى. ولعل واسمها وجملة تتبع خبرها والسحرة مفعول به وإن شرطية وكانوا فعل الشرط وهو كان واسمها وهم ضمير فصل والغالبين خبر كانوا. (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) الفاء عاطفة ولما حينية ظرفية أو رابطة وجاء السحرة فعل وفاعل وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ولفرعون متعلقان بقالوا والهمزة للاستفهام وإن حرف مشبه بالفعل ولنا خبرها المقدم وأجرا اسمها المؤخر وإن شرطية وكنا كان واسمها وهو فعل الشرط ونحن ضمير فصل والغالبين خبر كنا وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله لأن قوله أئن لنا لأجرا في معنى جواب الشرط لدلالته عليه. (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) قال فرعون، ونعم حرف جواب أي لكم الأجر وزادهم بقوله وإنكم فهو عطف وان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء واللام المزحلقة ومن المقربين خبر إن، وعدهم بالأجر وبالقربى والزلفى لديه. (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) قال لهم موسى فعل وفاعل ولهم متعلقان بقال وجملة ألقوا مفول القول وما مفعول به وجملة أنتم ملقون صلة وأنتم مبتدأ وملقون خبر. (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ) الفاء عاطفة وألقوا فعل وفاعل وحبالهم مفعول به وعصيهم عطف على حبالهم وقالوا عطف على فألقوا، وبعزة: الباء حرف قسم وجر وعزة مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم ونحلف بعزة فرعون وإنا إن واسمها وكسرت همزتها وجوبا لوقوعها(7/72)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
بعد القسم كما تقدم واللام المزحلقة ونحن ضمير فصل أو مبتدأ والغالبون خبر إنا أو خبر نحن والجملة خبر إنا.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 45 الى 51]
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
الإعراب:
(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) الفاء عاطفة وألقى موسى عصاه فعل وفاعل ومفعول به فإذا الفاء عاطفة وإذا فجائية وهي مبتدأ وجملة تلقف خبر وما مفعول به وجملة يأفكون صلة ما أي تبتلع ما يقلبونه بتمويههم عن وجهه ويزورونه. (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وألقي فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل، والفاعل الذي ناب عنه المفعول به لو صرح به هو الله عز وجل بما ألهمهم من التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوه من المعجزة الباهرة التي ضؤل أمر السحر عندها، وسيأتي مزيد بحث عن الإلقاء في باب البلاغة، وماجدين حال. (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) جملة آمنا من الفعل والفاعل(7/73)
مقول القول وبرب العالمين متعلقان بآمنا وجملة القول بدل اشتمال من أنقي أو حالية بتقدير قد. (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) رب بدل من رب العالمين أو عطف بيان وموسى وهارون مضاف اليه. (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة آمنتم مقول القول وله متعلقان بآمنتم والظرف كذلك وأن وما في حيزها في محل جر بالاضافة ولكم متعلقان بآذن.
(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) تعليل لانصياعهم لموسى وهارون وللتلبيس على قومه لئلا يعتقدوا أن السحرة آمنوا على بصيرة وظهور حق. وان واسمها واللام المزحلقة وكبيركم خبر إن والذي صفة وجملة علمكم صلة والكاف مفعول به أول والسحر مفعول به ثان، فلسوف: الفاء الفصيحة أي إن استمررتم في فعلكم فلسوف تعلمون وبال ما فعلتموه واللام موطئة للقسم وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع وفاعل والمفعول محذوف كما قدرناه.
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) اللام موطئة للقسم وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل ضمير مستتر تقديره أنا والجملة لا محل لها لأنها مفسرة بمثابة بيان لما أبهمه بقوله فلسوف تعلمون وأيديكم مفعول به وأرجلكم عطف على أيديكم ومن خلاف حال أي مضمومة يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى وقد تقدم القول فيها، ولأصلبنكم عطف على لأقطعن وأجمعين تأكيد للكاف. (قالُوا: لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) لا نافية للجنس وضمير اسمها المبني على الفتح وخبرها محذوف أي لا ضمير علينا ولا بأس وجملة إنا تعليل لعدم الضمير وإن واسمها والى ربنا متعلقان بمنقلبون ومنقلبون خبر إنا. (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) إن واسمها وجملة نطمع خبر والفاعل مستتر تقديره نحن وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي(7/74)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
في غفران خطايانا أو على تضمين نطمع معنى نرجو فتكون إن وما في حيزها في محل نصب على المفعولية وربنا فاعل يغفر وخطايانا مفعول به وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي لأن كنا أو الباء فالتقدير بسبب أن كنا، وكان واسمها وأول المؤمنين خبرها أي أول من آمن من رعية فرعون.
البلاغة:
في قوله «فألقي السحرة ساجدين» استعارة مكنية كأنهم أخذوا فطرحوا على وجوههم وقد زاد هذه الاستعارة جمالا المشاكلة لأنه عبر بألقي عن الخرور فلم يقل فخروا ساجدين لمشاكلة الالقاءات المتقدمة.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)(7/75)
اللغة:
(لَشِرْذِمَةٌ) : الشرذمة: الجماعة القليلة من الناس وتجمع على شراذم وشراذيم، وثياب شراذم ممزقة، وشرذ الجمع بالتشديد فرّقه.
(حاذِرُونَ) : متيقظون وهي مبالغة اسم الفاعل وقد قرئ حاذرون قال أبو عبيدة: هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحاذر بمعنى وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف وقيل الحذر المخلوق مجبولا على الحذر والحاذر من عرض فيه ذلك، وفي المصباح:
«حذر حذرا من باب تعب واحتذر واحترز كلها بمعنى واستعد وتأهب فهو حاذر وحذر والاسم منه الحذر مثل حمل، وحذر الشيء إذا خافه فالشيء محذور أي مخوف، وحذرته الشيء فحذره» وفي قراءة حادرون بالدال المهملة، والحادر السمين القوي قال:
أحب الصبي السوء من أجل أمه ... وأبغضه من بغضها وهو حادر(7/76)
أي أن مدار حب الولد على حب أمه لا على حسن أوصافه، وضمير أبغضه عائد على الصبي بدون وصفه ولكن هذه شيمة المنهمك في حب النساء.
(مُشْرِقِينَ) : داخلين في وقت الشروق من شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.
(فِرْقٍ) : بكسر الفاء أي قطعة.
(الطود) : الجبل أو عظيمه كما في القاموس والجمع أطواد وطاد يطود إذا ثبت.
(وَأَزْلَفْنا) : قربنا.
الإعراب:
(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة للشروع في الأمر الموجه الى موسى بأن يسير بقومه الى جهة البحر ليلا وذلك بعد ثلاثين سنة من الحوادث الآنفة الذكر. وأوحينا فعل وفاعل والى موسى جار ومجرور متعلقان بأوحينا وأن مفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه وأسر فعل أمر من أسرى أي سار ليلا، وفي قراءة بكسر النون ووصل همزة أسر من سرى لغة أسرى، وبعبادي متعلقان بأسر أو حال أي مصحوبا بعبادي وجملة إنكم متبعون تعليل للأمر بالإسراء. (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) الفاء عاطفة وإن كان في الوقت انقطاع لأنهم كما يروى شغلوا بدفن موتاهم من الوباء الذي اجتاح مصر، وأرسل فرعون(7/77)
فعل وفاعل وفي المدائن حال وحاشرين مفعول به. (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) الجملة مقول قول محذوف منصوب على الحال أي قائلا وإن واسمها واللام المزحلقة وشرذمة خبرها وقليلون صفة لأنهم كانوا أقلية فسئيلة؟؟؟ بالنسبة لقوم فرعون وسيأتي في باب البلاغة سر الجمع بالمذكر السالم لقليل. (وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) الواو عاطفة أو حالية وإن واسمها ولنا متعلقان بغائظون واللام المزحلقة وغائظون خبر إن أي فاعلون ما يغيظنا. (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) الواو عاطفة أو حالية وان واسمها واللام المزحلقة وجميع خبر أول وحذرون خبر ثان أي ونحن قوم عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، أراد فرعون أن يغطي الصدع الذي أصاب هيبته فوصف نفسه ورهطه بأبلغ الأوصاف الدالة على أصالة المنزلة وقوة الشكيمة. (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) الفاء استئنافية وأخرجناهم فعل وفاعل ومفعول به ومن جنات وعيون متعلقان بأخرجناهم، وأراد البساتين التي كانت على جانبي النيل والأنهار الصغيرة المتفرعة من النيل والموزعة على الدور، وسيأتي وصف مسهب لمصر في باب الفوائد. (وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) عطف على جنات وعيون، وأراد بالكنوز الأموال التي تحت الأرض وخصها لأن ما فوقها انطمست معالمه أو لأنهم لم ينفقوها فيما يجب إنفاقه من خير.
(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج ويجوز أن تعرب الكاف صفة لمقام كريم أي مقام مثل ذلك المقام الذي كان لهم ويجوز أن تعرب الكاف رفعا على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وأورثناها الواو عاطفة أو اعتراضية ولعله أرجح وأورثناها فعل وفاعل ومفعول به أول وبني إسرائيل مفعول به ثان أي بعد إغراق فرعون وقومه. (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) الفاء عاطفة وأتبعوهم فعل ماض وفاعل ومفعول به ثان أي(7/78)
لحقوهم ومشرقين حال. (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة وتراءى الجمعان فعل ماض وفاعل أي تقابلا ورأى كل واحد منهما الآخر وجملة قال لا محل لها لأنها جواب لما وأصحاب فاعل قال، وجملة إنا لمدركون مقول القول. (قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) قال موسى، وكلا حرف ردع وزجر وأراد موسى أن ينحي عليهم باللائمة لخور أعصابهم وفتور عزائمهم أي لن يدركونا وإن معي تعليل لهذا الردع وان حرف مشبه بالفعل والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وربي اسمها المؤخر وجملة سيهدين استئنافية وغلط من أعربها حالا وسيأتي التفصيل في باب الفوائد. (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) الفاء عاطفة وأوحينا فعل وفاعل والى موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة واضرب بعصاك البحر فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبعصاك متعلقان باضرب فانفلق الفاء الفصيحة وقد تقدمت كثيرا أي فضرب فانفلق. (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الفاء عاطفة وكان واسمها والكاف اسم بمعنى مثل خبرها أو هو جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر والعظيم صفة للطود. (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) الواو عاطفة وأزلفنا فعل وفاعل وثم ظرف بمعنى هناك والآخرين مفعول به وأراد بهم قوم فرعون أي قربناهم من قوم موسى.
(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ) وأنجينا عطف على ما تقدم وهو فعل وفاعل وموسى مفعول به ومن عطف على موسى ومعه ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة من وأجمعين تأكيد لمن. (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) عطف على ما تقدم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) تعليل لما تقدم أي إنما جعلنا ذلك وقدرناه ليكون آية وموعظة للناس(7/79)
ولكن ما تنبه إليها أكثرهم، وفي ذلك خبر إن المقدم واللام المزحلقة والواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر كان وستأتي زيادة الباء في خبر كان في باب الفوائد. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز الرحيم خبران لإن أو لهو والجملة خبر إن.
البلاغة:
في قوله تعالى: «إن هؤلاء لشرذمة قليلون» الشرذمة هي الطائفة أو الجماعة القليلة كما ذكرنا في باب اللغة وكان يمكن الاكتفاء بها تعبيرا عن القلة ولكنه وصفها بالقلة القليلة زيادة في احتقارهم واستصغار شأنهم ثم جمع وصفهم ليعلم أن كل ضرب منهم قليل واختار جمع المذكر السالم الذي هو للقلة فهذه أربعة أوجه تتساند لتقليلهم وهناك وجه خامس وهو أن جمع الصفة والموصوف منفرد قد يكون مبالغة في لصوق ذلك الوصف بالموصوف وتناهيه فيه بالنسبة الى غيره من الموصوفين. فتأمل هذا فإنه من روائع النكت.
الفوائد:
1- شروط وقوع الحال جملة:
تقع الحال جملة بشروط ثلاثة:
1- أن تكون الجملة خبرية وهي المحتملة للصدق والكذب، وهذا الشرط مجمع عليه لأن الحال بمثابة النعت وهو لا يكون بجملة(7/80)
إنشائية، وأما ما ورد في الحديث: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء هاء» فهو على إضمار القول أي إلا قائلين هاء وهاء من جهة البائع والمشتري.
وفي شرح التسهيل للمرادي أن الخبرية تتناول الشرطية وأنه يجوز وقوعها حالا، ولكن كلام المغني يخالفه، والتحقيق أن الكلام في الجملة الشرطية إن كان هو الجزاء والشرط قيد له فالجزاء إن كان خبرا فالجملة الشرطية خبرية وإن كان إنشاء فإنشائية وان كان الكلام مجموع الشرط والجزاء فليست خبرية لأن الأداة أخرجتها عن ذلك.
هذا وقد غلط من قال في قول أحد المولدين:
أطلب ولا تضجر من مطلب ... فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بتكراره ... في الصخرة الصمّاء قد أثرا
أن لا ناهية وان الواو للحال، قال في المغني: وهذا خطأ والصواب في الواو أنها عاطفة، إما مصدرا يسبك من أن والفعل على مصدر متوهم من الأمر السابق أي ليكن منك طلب وعدم ضجر، أو جملة على جملة، وعلى الأول ففتحة تضجر اعراب ولا نافية، وعلى الثاني فالفتحة بناء للتركيب والأصل ولا تضجرن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت للضرورة ولا ناهية، والعطف مثل: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا» ثم استأنف ابن هشام في المغني كلامه في النوع الثامن من الجهة السادسة فقال «ثم الأصح أن الفتحة يعني فتحة تضجر اعراب مثلها في لا تأكل السمك وتشرب اللبن لا بناء لأجل نون توكيد محذوفة» .(7/81)
2- أن تكون الجملة غير مصدرة بدليل استقبال لأن الغرض من الحال تخصيص وقوع مضمون عاملها بوقت حصول مضمون الحال وذلك ينافي الاستقبال، وغلط من أعرب «سيهدين» من قوله تعالى:
«إني ذاهب الى ربي سيهدين» حالا، وبيان غلطه من جهة الصناعة ظاهر، وأما من جهة المعنى فلأنه صير معنى الآية سأذهب مهديا، فصرف التنفيس الى الذهاب وهو في الآية للهداية، وأجيب بأن مهديا وقع بعد الذهاب الذي فيه تنفيس، فيلزم أيضا أن يكون فيه تنفيس كالمقيد.
واما قولهم لأضربنه إن ذهب وإن مكث فإنما جاز وقوع الشرطية فيه حالا وإن كانت مصدرة بدليل استقبال وهو إن لأن المعنى لأضربنه على كل حال إذا لا يصح اشتراط وجود الشيء وعدمه لشيء واحد.
3- أن تكون مرتبطة إما بالواو والضمير معا لتقوية الربط نحو «ألم تر الى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت» فجملة هم ألوف حال من الواو في خرجوا وهي مرتبطة بالواو والضمير وهو هم، أو بالضمير فقط دون الواو نحو «اهبطوا بعضكم لبعض عدو» فبعضكم مبتدأ وعدو خبره ولبعض متعلقان بعدو أو حال منه والجملة حال من الواو في اهبطوا أي متعادين يضل بعضكم بعضا وهي مرتبطة بالضمير فقط وهو الكاف والميم، أو مرتبطة بالواو فقط دون الضمير نحو «لئن أكله الذئب ونحن عصبة» فجملة ونحن عصبة حال من الذئب مرتبطة بالواو فقط ولا دخل لنحن في الربط لأنها لم ترجع لصاحب الحال.
2- وصف مصر لعمرو بن العاص:
ولما استقر عمرو بن العاص على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ان صف لي مصر فكتب اليه:(7/82)
«ورد كتاب أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أغفر، يخطر وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان يدرّ حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخمّ عجّاجه، وتعظّمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها الى بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الاصائل، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدا في جريته، وطما في درّته فعند ذلك تخرج أهل ملّة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون الأرض، ويبذرون بها الحبّ، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدّهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء فتبارك الله الخالق لما يشاء» الى آخر تلك الرسالة الممتعة.
وجاء في خطط المقريزي ما يجلو غوامض هذه الرسالة:
«ووصف بعضهم مصر فقال: ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء، وثلاثة أشهر مسكة سوداء، وثلاثة أشهر زمردة خضراء، وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء، فأما اللؤلؤة البيضاء فإن مصر في أشهر أبيب ومسرى وتوت يركبها الماء فترى الدنيا بيضاء وضياعها على روابي وتلال مثل الكواكب قد أحيطت بالمياه من كل وجه فلا سبيل الى قرية من قراها إلا بالزوارق، وأما المسكة السوداء فإن في أشهر بابه وهاتور وكيهك(7/83)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
ينكشف الماء عن الأرض فتصير أرضا سوداء وفي هذه الأشهر تقع الزراعات، وأما الزمردة الخضراء فإن في أشهر طوبة وأمشير وبرمهات يكثر نبات الأرض وربيعها فتصير خضراء كأنها الزمردة، وأما السبيكة الحمراء فإن في أشهر برمودة وبشنس وبئوئة يتورّد العشب ويبلغ الزرع الحصاد فيكون كالسبيكة التي من الذهب منظرا ومنفعة» .
3- زيادة الباء في خبر كان:
تختص ليس وكان بجواز زيادة الباء في خبريهما وتكثر زيادتها في خبر ليس وما الحجازية، أما كان فلا تزاد إلا إذا سبقها نفي أو نهي كما في الآية، وكقول الشنفري:
وإن مدّت الأيدي الى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجل
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)(7/84)
الإعراب:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) الواو عاطفة واتل معطوف على اذكر المقدرة عاملا في قوله: «وإذ نادى ربك موسى» للشروع في القصة الثانية وعليهم متعلقان باتل ونبأ ابراهيم مفعول به. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو بدل من نبأ بدل اشتمال فيكون العامل فيه اتل، وقيل منصوب بنبإ ابراهيم أي وقت فوله لأبيه وقومه: ما تعبدون، وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولأبيه متعلقان بقال ولقومه معطوفة، وما اسم استفهام في محل نصب مفعول به مقدم لتعبدون وجملة ما تعبدون مقول القول.
(قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) جملة نعبد أصناما في محل نصب مقول القول، فنظل الفاء عاطفة ونظل فعل مضارع ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره نحن ولها متعلقان بعاكفين وعاكفين خبر نظل، وفي الكلام اطناب سيأتي في باب البلاغة. (قالَ: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ) هل حرف استفهام ويسمعونكم فعل مضارع وفاعل والكاف(7/85)
مفعول به ولا بد من تقدير محذوف أي يسمعون دعاءكم فتكون متعدية لواحد أو يسمعونكم تدعون فتكون متعدية لاثنين وقد قامت الجملة المقدرة مقام المفعول الثاني، وإذ ظرف متعلق بيسمعونكم وهو كما يقول الزمخشري، لحكاية الحال الماضية ومعناه استحضروا الأحوال التي كنتم تدعونها فيها هل سمعوكم إذ دعوتم، وهو أبلغ في التبكيت، وجملة تدعون مجرورة بإضافة الظرف إليها.
(أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) عطف على يسمعونكم. (قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) بل إضراب انتقالي تفادوا به الاجابة عن استفهامه وكأنهم وجدوا أنفسهم حقيقة في معزل عن التفكير والمساءلة وانهم لم يرجعوا الى عقولهم فيناقشوا ما يعبدون، هل يسمع؟ هل ينفع؟ هل يضر؟ وإنما هو مجرد تقليد درجوا عليه دون التأمل في مغابّه أو النظر الى عواقبه ونتائجه. ووجدنا فعل وفاعل وآباءنا مفعول أول لوجدنا وجملة يفعلون هي المفعول الثاني، وكذلك نعت لمصدر محذوف أي يفعلون فعلا مثل ذلك أو تجعل الكاف مفعولا به مقدما ليفعلون ولعله أولى. (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري المتضمن معنى الاستهزاء والسخرية، وقد تقدم أن «رأيتم» في مثل هذا التعبير إما أن تكون بمعنى أخبروني فتكون متعدية لمفعولين أولهما اسم الموصول وثانيهما محذوف وهو جملة تقديرها هل هو جدير بالعبادة، وإما أن تكون رأى بمعنى عرف وهي تنصب مفعولا واحدا والمعنى هل تأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون، والفاء عاطفة على محذوف كما قدرناه، وقد تقدمت نظائر كثيرة له في مثل هذا التركيب، وجملة كنتم صلة ما وجملة تعبدون خبر كنتم. (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) أنتم تأكيد للضمير في تعبدون وآباؤكم عطف على أنتم والأقدمون صفة لآباؤكم. (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) الفاء تعليلية وإن(7/86)
واسمها وعدو خبرها ولي صفة لعدو والعدو والصديق يجيئان في معنى الوحدة والجماعة، قال:
وقوم عليّ ذوي مئرة ... أراهم عدوّا وكانوا صديقا
ويروى مرة بالكسر وهي القوه وشدة الجدال والمئرة العداوة.
يقول: رب قوم أصحاب قوة عليّ أراهم اليوم أعداء وكانوا أصدقاء.
وإلا أداة استثناء ورب نصب على الاستثناء والاستثناء منقطع ولذلك تقدر إلا بمعنى لكن، وفي الآية فن التعريض وسيأتي في باب البلاغة.
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) الذي يجوز فيه النصب على النعت لرب العالمين أو البدل أو عطف البيان، أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي خلقني، وغلط أبو البقاء فأعرب الذي مبتدأ وخبره جملة هو يهدين ولم يتكلم عن الفاء وهذا مردود لأن الموصول معين ليس عاما ولأن الصلة لا يمكن فيها التجدد فلم يشبه الشرط، والصحيح أنها استئنافية وهو مبتدأ وجملة يهديني خبره وحذفت الياء لمراعاة الفواصل. (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) عطف على ما سبق وهو مبتدأ وجملة يطعمني خبر. (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الواو عاطفة ومرضت فعل وفاعل أضاف المرض إلى نفسه وإن كان المرض والشفاء من الله تعالى تأدبا، كما قال الخضر «فأردت أن أعيبها» وقال «فأراد ربك أن يبلغا أشدهما» وسيأتي مزيد بحث في هذا الصدد في باب البلاغة. (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) عطف على ما تقدم وعطف يحيين على يميتني بثم خلاف ما تقدم لتراخي المدة واتساع الأمر بين(7/87)
الإماتة والإحياء في الآخرة. (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) والذي عطف على ما قبله وجملة أطمع صلة وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي في أن يغفر ولي متعلقان بيغفر وخطيئتي مفعول يغفر ويوم الدين ظرف متعلق بيغفر أيضا. (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) رب منادى مضاف لياء المتكلم حذف منه حرف النداء وهب فعل أمر أراد به الدعاء ولي متعلقان بهب وحكما مفعول به وألحقني عطف على هب وبالصالحين متعلقان بألحقني. (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) واجعل عطف على ما تقدم ولي مفعول اجعل الثاني ولسان صدق مفعول اجعل الأول والاضافة من اضافة الموصوف إلى صفته وفي الآخرين حال أي الذين يأتون بعدي الى يوم القيامة.
(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) من ورثة مفعول اجعلني الثاني وجنة النعيم مضاف الى ورثة. (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) لأبي متعلقان باغفر وجملة إنه تعليل لطلب الغفران له وان واسمها وجملة كان خبرها ومن الضالين خبر كان. (وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) الظرف متعلق بتخزني وجملة يبعثون في محل جر بإضافة الظرف إليها.
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) يوم ظرف في محل نصب بدل من يوم الأول وهذا يؤكد أنه من كلام ابراهيم، ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى في هذا اليوم ولا مانع من إعرابه بدلا أيضا أي متعلق بما تعلق به الظرف الأول وجملة لا ينفع مال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولا بنون عطف على مال. (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) يجوز في هذا الاستثناء أن يكون منقطعا أي من غير الجنس ومعناه لكن من أتى الله، ويجوز أن يكون متصلا وفيه وجهان أحدهما أن يكون بدلا من المحذوف أو استثناء منه فهو في محل نصب على الوجهين والتقدير لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا من أتى، ويجوز أيضا أن يكون بدلا(7/88)
من فاعل فهو في محل رفع وغلب من يعقل ويكون التقدير إلا مال من وبنو من فإنه ينفع نفسه أو غيره، وجعل الزمخشري من مفعول ينفع أي لا ينفع ذلك إلا رجلا أتى الله. وبقلب متعلقان بأتى أو بمحذوف حال أي مصحوبا وسليم صفة لقلب.
البلاغة:
في هذه الآيات سمو منقطع النظير من حيث البلاغة البيانية تتقطع دونه الأعناق وتخرس الألسن، وسنجنح الى اختصار الكلام لأن فيه متسعا من القول يضيق به صدر هذا الكتاب.
1- الاطناب:
- في قوله: «قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين» وكان مقتضى جواب السؤال وهو: «ما تعبدون» أن يقولوا: أصناما، لأنه سؤال عن المعبود وحسب كقوله تعالى: «ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو» و «ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق» ولكنهم أضافوا الى الجواب زيادة شرحوا بها قصتهم كاملة لأنهم قصدوا إظهار ابتهاجهم، وإعلان افتخارهم، وذلك شائع في الكلام تقول لبعضهم ماذا تلبس؟ فيقول:
ألبس البرد الأتحمي فأجر أذياله بين جواري الحي الحسان. وقالوا نظل لأنهم كانوا يعكفون على عبادتها في النهار دون الليل، وهذه هي مزية الاطناب تزيد في اللفظ عن المعنى لفائدة مقصودة أو غاية متوخاة فإذا لم تكن ثمة فائدة في زيادة اللفظ فإنه يكون تطويلا مملا بادي الغثاثة ظاهر الركاكة.(7/89)
2- التعريض:
وذلك في قوله «فإنهم عدو لي إلا رب العالمين» فإنه صور المسألة في نفسه، والعداوة مستهدفة شخصه، كأنه يعرض بهم قائلا:
لقد فكرت في المسألة مليا وأمعنت النظر فيها طويلا فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو الذي يتربص به الدوائر للايقاع، فاذا بلغ المرء من الاسفاف مدى يحب فيه عدوا ويؤثره بالعبادة فذلك هو الارتطام في مزالق الغيّ ومهاوي الضلال، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح لأنه يلفت انتباهه ويسترعي أنظاره فيتأمل فيه فربما قاده التأمل إلى التقبل، ومنه ما يحكى عن الشافعي: أن رجلا واجهه بشيء فقال له: لو كنت بحيث أنت لاحتجت الى أدب.
3- أسرار حروف العطف:
وهنا موضع دقيق المسلك لطيف المرمى قلما ينتبه إليه أحد أو بتفطن إليه كاتب، فإن أكثر الناس يضعون حروف العطف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أن يجر ب «على» ب «في» في حروف الجر، كما أنهم يعطفون دون أن يتفطنوا الى سر الحرف الذي عطف به الكلام فقد قال تعالى «والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين» فالأول عطفه بالواو التي هي لمطلق الجمع وتقديم الإطعام على الإسقاء، والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم، ثم عطف الثاني بالفاء لأن الشفاء يعقب المرض بلا زمان خال من أحدهما، ثم عطف الثالث بثم لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخي. وهذا من الأسرار التي يجدر بالكاتب الإلمام بها حتى يقيس عليها ويعطف على كل بما يناسبه ويقع موقع السداد منه.(7/90)
4- التفويف:
ولم يسبق أن تحدثنا فيما غبر من كتابنا عن هذا الفن وهو إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح والوصف والنسيب وغير ذلك من الفنون، كل فن في جملة منفصلة من أختها بالسجع غالبا مع تساوى الجمل في الرنّة، ويكون بالجمل الطويلة والجمل المتوسطة والجمل القصيرة، فمثال المركب من الجمل الطويلة: «الذي خلقني فهو يهدين» إلى قوله «وألحقني بالصالحين» ففي هذه الآيات فنون شتى منها:
آ- المناسبة:
في قوله: «خلقني» و «يطعمني» .
ب- التنكيت:
في قوله: «وإذا مرضت فهو يشفين» فإن النكتة التي أوجبت على الخليل إسناد فعل المرض الى نفسه دون بقية الأفعال حسن الأدب مع ربه عز وجل إذ أسند إليه أفعال الخير كلها وأسند فعل الشر الى نفسه وللاشارة الى أن كثيرا من الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مأكله ومشربه وغير ذلك.
ج- حسن النسق:
فإنه قدم الخلق الذي يجب تقديم الاعتداد به من الخالق على المخلوق واعتراف المخلوق بنعمته، فإنه أول نعمة، وفي إقرار المخلوق بنعمة الإيجاد من العدم إقراره بقدرة الخالق على الإيجاد والاختراع وحكمته، ثم ثنى بنعمة الهداية التي هي أولى بالتقديم بعد نعمة الإيجاد(7/91)
من سائر النعم، ثم تلّث بالاطعام والاسقاء اللذين هما مادة الحياة وبهما من الله استمرار البقاء إلى الأجل المحتوم، وذكر المرض وأسنده إلى نفسه أدبا، كما قلنا، مع ربه، ثم أعقب ذكر المرض بذكر الشفاء مسندا ذلك الى ربه، ثم ذكر الإماتة مسندا فعلها الى ربه لتكميل المدح بالقدرة المطلقة على كل شيء من الإيجاد والإعدام، ثم أردف ذكر الموت بذكر الإحياء بعد الموت وفيه مع الإقرار بهذه النعمة والاعتراف بالقدرة والايمان بالبعث، وكل هذه المعاني جمل ألفاظها معطوف بعضها على بعض بحروف ملائمة لمعاني الجمل المعطوفة كما تقدم.
د- صحة التقسيم:
فقد استوعبت هذه الآيات أقسام النعم الدنيوية والأخروية من الخلق والهداية والإطعام والاسقاء والمرض والشفاء والموت والحياة والايمان بالبعث وغفران الذنب.
5- التخلص:
وهو فن عجيب يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى غيره آخر وجعل الأول سببا اليه فيكون بعضه آخذا برقاب بعض من غير أن يقطع كلامه بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا، فمما جاء من التخليص هذه الآية التي تسكر العقول وتسحر الألباب، ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم كلامه مع المشركين حين سألهم أولا عما يعبدون، سؤال مقرر لا سؤال مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم باللائمة فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تعي ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك الى ذكر(7/92)
الإله الذي لا تجب العبادة إلا له ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه، فصور المسألة في نفسه دونهم «فإنهم عدو لي» على معنى: إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان فاجتنبتها، وآثرت عبادة من بيده الخير كله، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه لينظروا فيقولوا: ما نصحنا ابراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى الى القبول لقوله وأبعث على الاستماع منه، ولو قال انهم عدو لكم لم يكن بهذه المثابة فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه الى ذكر الله تعالى فأجرى عليه تلك الصفات العظام، فعظم شأنه وعدد نعمته من لدن خلقه وأنشأه إلى حين يتوفاه مع ما يرجى في الآخرة من رحمته ليعلم من ذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة واجب على الخلق الخضوع له والاستكانة لعظمته، ثم تخلص من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه فدعا الله بدعوات المخلصين وابتهل اليه ابتهال الأوابين لأن الطالب من مولاه إذا قدم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للاجابة وأنجح لحصول الطلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة ومجازاة الله من آمن به واتقاه بالجنة ومن ضل عن عبادته بالنار.. فتدبر هذه التخلصات البديعة المودعة في أثناء هذا الكلام.
6- التقديم:
وفي قوله: «رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين» التقديم فقد استوهب الحكم أولا ثم طلب الإلحاق بالصالحين، والسر فيه دقيق جدا، ذلك أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية لأنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعمل به وعكسه غير ممكن لأن العلم صفة الروح(7/93)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
والعمل صفة البدن وكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أفضل من الإصلاح.
7- المجاز المرسل:
وفي قوله «واجعل لي لسان صدق» مجاز مرسل إذا المراد باللسان هنا الثناء وذكر اللسان مجاز لأنه سببه فالعلاقة هي السببية وقد تقدم ذلك مرارا، وقيل هو مجاز من اطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)
فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)(7/94)
الإعراب:
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على لا ينفع وإنما أورده بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع عند ما تدنو الجنة من موقف السعداء ينظرون إليها ويغتبطون بما ينتظرهم فيها من نعيم وعند ما تدنو النار من موقف الأشقياء ينظرون إليها ويتحسرون على أنهم مسوقون إليها. وأزلفت فعل ماض مبني للمجهول أي قربت والجنة نائب فاعل وللمتقين متعلقان بأزلفت. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) عطف على الجملة المتقدمة. (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟) الواو عاطفة وقيل فعل ماض مبني للمجهول ولهم متعلقان بقيل أي على سبيل التوبيخ، وأين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كنتم صلة وجملة تعبدون خبر كنتم. (مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) من دون الله حال وهل حرف استفهام وينصرونكم فعل مضارع وفاعل ومفعول به وأو حرف عطف وينتصرون فعل مضارع وفاعل. (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) الفاء حرف عطف وكبكبوا فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وهم ضمير فصل والغاوون عطف على الواو في كبكبوا وسوغه الفصل بالجار والمجرور ضمير الفصل. (وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) وجنود عطف على الواو أيضا وإبليس مضاف اليه وأجمعون تأكيد للواو وما عطف عليها. (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ) قالوا فعل وفاعل والواو حالية وهم مبتدأ وفيها متعلقان بيختصمون وجملة يختصمون خبرهم، والتخاصم بين الشياطين ومتبعيهم فالضمير يعود على الغاوون.
(تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف(7/95)
تقديره نقسم وهو متعلق بقالوا وإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن المحذوف أي إنه وجملة كنا خبر إن وكان واسمها واللام الفارقة وفي ضلال خبر كنا ومبين صفة. (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو متعلق بمبين أو بفعل محذوف دل عليه ضلال ولا يجوز أن يتعلق بضلال لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد الوصف وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية والمعنى تالله لقد كنا في غاية الضلال المبين وقت تسويتنا إياكم يا هذه الأصنام برب العالمين في استحقاق العبادة وأنتم أذل المخلوقات وأعجزهم. (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية وأضلنا فعل ومفعول به مقدم وإلا أداة حصر والمجرمون فاعل أضلنا وهم رؤساؤهم وكبراؤهم كما قال تعالى «ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا» .
(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) الفاء الفصيحة وما نافية ولنا خبر مقدم ومن حرف جر زائد وشافعين مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه خبر مقدم.
(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) عطف على شافعين وحميم صفة لصديق.
(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء استئنافية ولو حرف للتمني في مثل هذا الموضع كأنه قيل فليت لنا كرة لما بين معنى «لو» و «ليت» من التلاقي في التقدير، ويجوز أن تكون على أصلها للشرط، والجواب محذوف تقديره لفعلنا كيت وكيت، وأن حرف مشبه بالفعل وهي وما في حيزها مفعول لفعل محذوف تقديره نتمنى وقد نابت عنه لو، أو فاعل لفعل محذوف إن كانت لو للشرط، ولنا خبر أن المقدم وكرة اسم أن المؤخر، فنكون الفاء للسبية ونكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء واسم نكون ضمير مستتر تقديره نحن ومن المؤمنين خبر نكون. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر وما نافية وكان واسمها وخبرها.(7/96)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو خبر هو والرحيم خبر ثان.
البلاغة:
1- في قوله «فكبكبوا فيها هم والغاوون» قوة اللفظ لقوة المعنى، وهذا مما انفرد في التنبيه إليه ابن جني في كتاب «الخصائص» فإن الكبكبة تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها وليست الزيادة في اللفظ دالة على قوة المعنى بصورة مطردة بل ان المدار في ذلك على الذوق، خذ لك مثالا زيادة التصغير فهي زيادة نفص فرجيل أنقص من رجل في المعنى ولكنه أكثر حروفا منه.
2- الإيضاح:
وقد تقدم ذكره كثيرا وهو أن يذكر المتكلم كلاما في ظاهره لبس ثم يوضحه في بقية كلامه، والاشكال الذي يحله الإيضاح يكون في معاني البديع من الألفاظ وفي إعرابها ومعاني النفس دون الفنون وهو هنا في قوله: «ولا صديق حميم» فإن الصديق الموصوف بصفة حميم هو الذي يفوق القرابة ويربو عليه وهو أن يكون حميما، فالحميم من الاحتمام وهو الاهتمام أي يهمه أمرنا ويهمنا أمره وقيل من الحامة وهي الخاصة من قولهم حامة فلان أي خاصته.(7/97)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
الإعراب:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق للشروع في حكاية القصة الثالثة وكذبت قوم نوح المرسلين فعل وفاعل ومفعول، وأنث الفعل باعتبار معنى القوم وهو الأمة والجماعة وفي المصباح:(7/98)
«القوم يذكر ويؤنث فيقال قام القوم وقامت القوم وكذا كل اسم جمع لا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر» وفي الزمخشري والبيضاوي:
«القوم مؤنث ولذلك يصغر على قويمة» وهذا محمول على الأغلب فإن قلت: كيف قال كذبت قوم نوح المرسلين وهم لم يكذبوا إلا نوحا وحده قلت هو كقولهم فلان يركب الدواب ويلبس البرود وما له إلا دابة وبرد. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت وجملة قال في محل جر بإضافة الظرف إليها ولهم متعلقان بقال وأخوهم فاعل قال ونوح بدل وانما جعله أخاهم جريا على أسلوبهم في قولهم:
يا أخا العرب ويا أخا تميم يريدون يا واحدا منهم ومنه بيت الحماسة:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا
وألا أداة عرض وتتقون فعل مضارع وفاعل. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل لعرضه عليهم الجنوح الى التقوى وان واسمها ولكم متعلقان بمحذوف حال أو برسول ورسول خبر وأمين صفة. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون الفاء عاطفة وأطيعون فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعول به.
(وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأسألكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعليه متعلقان بمحذوف حال ومن حرف جر زائد وأجر مجرور لفظا منصوب محلا لأنه مفعول به وإن نافية وأجري مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى رب العالمين خبر. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها قريبا وقد صدرت القصص الخمس بالأمر بالتقوى للدلالة على اتفاق الأديان السماوية على وجوب معرفة الحق واتباعه وكررت الجملة نفسها تأكيدا لهذه(7/99)
الغاية السامية. (قالُوا: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري ونؤمن فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بنؤمن والواو للحال واتبعك الأرذلون فعل ومفعول به وفاعل، وحق واو الحال هنا أن يضمر بعدها قد وهذا ضرب من السخافة يقيسون كفاءة الاتباع بمقدار ما يتمتعون به من مال وحطام أو بما يتميزون به من حسب وجاه ولكن الإسلام سوى بين المسلمين كافة. (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) الواو استئنافية وما يحتمل أن تكون استفهامية وأن تكون نافية فعلى الأول تكون في محل رفع بالابتداء وعلمي خبرها وبما متعلقان بعلمي على كل حال وعلى جعلها نافية يكون الخبر محذوفا ليصير الكلام به جملة، وجملة كانوا صلة ما وجملة يعملون خبر كانوا. (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ) إن نافية وحسابهم مبتدأ وإلا أداة حصر وعلى ربي خبر حسابهم ولو امتناعية وتشعرون فعل مضارع مرفوع وجواب لو محذوف كما أن مفعول تشعرون محذوف تقديره ذلك وتقدير الجواب ما عبتموهم وما نسبتم إليهم أي نقص. (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما حجازية وأنا اسمها والباء حرف جر زائد وطارد مجرور لفظا خبر ما محلا والمؤمنين مضاف إليه. (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) إن نافية وأنا مبتدأ وإلا أداة حصر ونذير خبر ومبين صفة. (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ولتكونن اللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف على حسب القاعدة المشهورة:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم(7/100)
وتكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة واسم تكونن ضمير مستتر تقديره أنت ومن المرجومين خبر.
(قالَ: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وان واسمها وجملة كذبون خبرها وكذبون فعل ماض وفاعل ومفعول به وقد حذفت ياء المتكلم لمراعاة الفواصل. (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة وافتح فعل أمر معناه الدعاء وفاعله مستتر تقديره أنت وبيني ظرف متعلق بافتح وبينهم عطف على بيني وفتحا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا ويجوز أن يكون مفعولا به والفتح هنا من الفتاحة بمعنى الحكومة، والفتاح الحاكم سمي بذلك لفتحه مغالق الأمور وفي القاموس: «الفتاحة بالضم والكسر ويقال بينهما فتاحات أي خصومات» والمعنى احكم بيننا بما يستحقه كل منا والمراد أنزل العقوبة بهم ولذلك قال ونجني. ونجني الواو عاطفة ونجني عطف على احكم ومن الواو عاطفة أو للمعية ومن عطف على الياء أو مفعول معه ومعي ظرف متعلق بمحذوف صلة من ومن المؤمنين حال. (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) الفاء استئنافية وهو من كلامه تعالى وأنجيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن مفعول معه أو عطف على الهاء ومعه ظرف متعلق بمحذوف صلة وفي الفلك متعلقان بالاستقرار الذي تعلق به الظرف والمشحون صفة للفلك والمشحون المملوء.
(ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) ثم حرف عطف للتراخي وأغرقنا فعل وفاعل وبعد ظرف زمان مبني على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى والمراد بعد انجائهم، والباقين مفعول أغرقنا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) كلام مستأنف لبيان العبرة من هذه القصة وان حرف(7/101)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
مشبه بالفعل وفي ذلك خبر مقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر والواو عاطفة أو حالية وما نافية وكان واسمها ومؤمنين خبرها يعني أن أكثريتهم الساحقة لم تؤمن ولذلك أخذوا ولو كان نصفهم مؤمنين على الأقل لنجوا. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعزيز خبر إن أو هو والرحيم خبر ثان وقد تقدم إعراب نظائرها مرارا.
البلاغة:
التكرير في قوله: «فاتقوا الله وأطيعون» للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه علق على كل واحد منهما بسبب وهو الأمانة في الأول، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا؟.
وفيه أيضا التقديم، قدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)(7/102)
اللغة:
(رِيعٍ) : الريع بكسر الراء وفتحها قال في الأساس واللسان:
«ونزلوا بريع وريع رفيع وريعة وريعة رفيعة وهي المرتفع من الأرض وتقول: يبنون بكل ريعة وملكهم كسراب بقيعة» وقال في القاموس: «والريع بالكسر والفتح المرتفع من الأرض أو كل فج أو كل طريق أو الطريق المنفرج في الجبل والجبل المرتفع الواحدة بهاء ...
وبالكسر الصومعة وبرج الحمام والتلّ العالي ... وبالفتح فضل كل شيء كريع العجين والدقيق والبذر» قلت واستعمال بمعنى استغلال الريع صحيح يقال طعام كثير الريع، وأراعت الحنطة وراعت زكت، وأراعها الله تعالى وأراع الناس هذا العام: زكت زروعهم ويقولون كم ريع أرضك وهو ارتفاعها قال المسيب بن علس:
في الآل يرفعها ويخفضها ... ريع يلوح كأنه سحل(7/103)
والضمير في البيت للظعائن أي هي في الآل وهو السراب يرفعها تارة ويخفضها أخرى ريع أي طريق مرتفع تارة ومنخفض أخرى أو مكان عال ترتفع بصعوده وتنخفض بالهبوط منه. ويقال ليس له ريع أي مرجوع وغلة.
(آيَةً) : الآية: العلم يهتدي به المارة وكان بناؤها للعبث واللهو لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها وقيل المراد بها القصور المشيدة ترفعون بناءها وتجتمعون فيها فتعبثون بمن يمربكم.
(تَعْبَثُونَ) : في المصباح: «عبث عبثا من باب تعب لعب وعمل مالا فائدة فيه فهو عابث» .
(مَصانِعَ) : جمع مصنعة بفتح الميم مع فتح النون أو ضمها وهي الحوض أو البركة فقوله مصانع أي حيضانا وبركا تجمعون فيها الماء فهي من قبيل الصهاريج، وفي المختار: «المصنعة بفتح الميم وضم النون أو فتحها كالحوض يجمع فيه ماء المطر والمصانع الحصون» وفي القاموس وشرحه التاج: «المصنعة والمصنعة بفتح الميم وفتح النون وضمها ما يجمع فيه ماء المطر كالحوض والجمع مصانع والمصانع أيضا:
الفري والحصون والقصور والمصنعة أيضا الدعوة للأكل يقال كنا في مصنعة فلان وموضع يعزل للنحل بعيدا عن البيوت» وجميع هذه المعاني صالحة للتفسير.
(بَطَشْتُمْ) : البطش: السطوة والأخذ بعنف وللباء مع الطاء فاء وعينا للكلمة خاصة غريبة فهي تدل على السطوة والقوة وعدم المبالاة بالآخرين يقال: أبطأ علي فلان وبطؤ في مشيته وتباطأ في أمره وتباطأ(7/104)
عني وفيه بطء وما كنت بطيئا ولقد بطؤت وفرس بطيء من خيل بطاء وما أبطأ بك عنا؟ وما بطأ بك؟ وما بطّأك؟ قال عمر بن ربيعة:
فقمت أمشي فقامت وهي فاترة ... كشارب الرّاح بطّا مشيه السكر
ولا يخفى ما في ذلك كله من الإدلال بالنفس والزهو بها وعدم المبالاة بالآخرين، ويقال بطحه على وجهه فانبطح وفيه كل الاذلال والصّغار والمهانة ونظر حويص الى قبر عامر بن الطفيل فقال: هو في طول بطحتي أراد في طول قدي منبطحا على الأرض وبطاح بطح واسعة عريضة وتبطّح السيل اتسع مجراه، قال ذو الرمة:
ولا زال من نوء السماك عليكما ... ونوء الثريا وابل متبطّح
وتبطّح فلان تبوّأ الأبطح قال:
هلّا سألت عن الذين تبطحوا ... كرم البطاح وخير سرّة وادي
وأبطخ القوم وأقثئوا كثر عندهم البطيخ والقثاء ونظر الليث الى قوم يأكلون بطيخا فقال:
لما رأيت المبطخين أبطخوا ... فأكلوا منه ومنه لطخوا
ورأيته يدور بين المطابخ والمباطخ ولا يفعل ذلك إلا تياه مفتخر(7/105)
بعناه وثرائه، وبطر فلان تجاوز الحد في الزهو والمرح ورجل أشر بطر وأبطره الغنى ومن أقوالهم: «وما أمطرت حتى أبطرت» يعني السماء وان الخصب يبطر الناس كما قال:
قوم إذا اخضرّت نعالهم ... يتناهقون تناهق الحمر
وامرأة بطيرة شديدة البطر وبيطر الدابة بيطره و «أشهر من راية البيطار» والدنيا قحبة يوما عند عطار ويوما عند بيطار ومن أقولهم أيضا: «وعهدي به وهو لدوابنا مبيطر فهو اليوم علينا مسيطر» ومن حكمهم المأثورة: «لا تبطرنّ صاحبك ذرعه» أي لا تقلق إمكانه ولا تستفزه بأن تكلفه غير المطاق وذرعه من بدل الاشتمال وبطر فلان نعمة الله استخفها فكفرها ولم يسترجحها فيشكرها ومنه «بطرت معيشتها» وذهب دمه بطرا أي مبطورا مستخفا حيث لم يقتصّ به وهو بهذا الأمر عالم بيطار، قال عمر بن أبي ربيعة:
ودعاني ما قال فيها عتيق ... وهو بالحسن عالم بيطار
والبطش معروف وقد تقدم ومن مجازه: فلان يبطش في العلم بباع بسيط، وبطشت بهم أهوال الدنيا، ومن أقوالهم: «وسلكوا أرضا بعيدة المسالك قريبة المهالك، وقذوا بمباطشها، وما أنقذوا من معاطشها» وجاءت الركاب تبطش بالأحمال أي ترجف بها، وبطّ القرحة بالمبط وهو المضع وعنده بطة من السليط والبط والواحدة بطة للمذكر والمؤنث وهو طير مائي قصير العنق والرجلين وهو غير الإوز وجمعه بطوط وبطاط والبطة أيضا إناء كالقارورة أبطح، وهو باطل بين البطلان وبطّال بيّن البطالة بكسر الباء وقد بطل بفتح الطاء وبطل بيّن(7/106)
البطالة بفتح الباء وقد بطل بضم الطاء وقد بطل بضم الطاء أيضا يبطل بالضم بطالة وبطولة صار شجاعا فهو بطل وجمعه أبطال ومؤنثه بطلة وجمعها بطلات، والبطن معروف وألقت الدجاجة ذات بطنها ونثرت المرأة للزوج بطنها إذا أكثرت الولد وبطنه وظهره أي ضربهما منه وقد بطن فلان بالبناء للمجهول إذا اعتل بطنه وهو مبطون وبطين ومبطان ومبطن أي عليل البطن وعظيمه وأبطن البعير شدّ بطانة وباطنت صاحبي شددته معه وبطّن ثوبه بطانة حسنة واستبطن أمره عرف باطنه وتبطّن الكلأ: جوّل فيه وتوسطه، قالت الخنساء:
فجاء يبشّر أصحابه: تبطّنت يا قوم غيثا خصيبا وتبطّن الجارية جعلها بطانة له، قال امرؤ القيس:
كأني لم أركب جوادا للذّة ... ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ويقال أنت أبطن بهذا الأمر خبره وأطول له عشره، وهو بطانتي وهم بطانتي وفلان عريض البطان أي غني، وشأو بطين أي بعيد، قال زهير:
فبصبص بين أداني الغضى ... وبين عنيزة شأوا بطينا
الإعراب:
(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) فعل وفاعل ومفعول به والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة الرابعة. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت وقال لهم أخوهم فعل وفاعل وهود بدل من أخوهم وألا أداة عرض وتتقون فعل مضارع وفاعل والجملة مقول(7/107)
القول. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) الجملة تعليل لعرضه عليهم الجنوح إلى التقوى وإن واسمها ولكم متعلقان بمحذوف حال أو برسول ورسول خبر إن وأمين صفة لرسول. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها كثيرا. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذه تقدم إعرابها بحروفها قريبا. (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ) الاستفهام للتقريع والتوبيخ وتبنون فعل مضارع وفاعل وبكل ريع متعلقان بتبنون وآية مفعول به وجملة تعبثون في محل نصب على الحال. (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) وتتخذون عطف على تبنون وتتخذون فعل مضارع وفاعل ومصانع مفعول به ولعلكم تخلدون لعل واسمها والجملة خبرها وجملة الرجاء في محل نصب على الحال أي راجين ومؤملين أن تخلدوا في الدنيا. (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الواو عاطفة وإذا ظرف متعلق بالجواب وهو بطشتم الثانية، وجملة بطشتم الأولى في محل جر بإضافة إذا إليها وجبارين حال أي غير مبالين بالنتائج والعواقب وإنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم وأما في الحق فالبطش بالسيف والسوط جائز (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) الفاء الفصيحة واتقوا الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وأطيعون عطف على اتقوا.
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) واتقوا فعل أمر وفاعل والذي مفعول به وجملة أمدكم صلة وبما متعلقان بأمدكم وجملة تعلمون صلة.
(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) جملة أمدكم الثانية بدل من جملة أمدكم الأولى بدل بعض من كل لأنها أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى لأن ما تعلمون يشمل الانعام وغيرها وقيل هي مفسرة للجملة الأولى فتكون لا محل لها وسيأتي بحث بدل الجملة من الجملة في باب الفوائد. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ان واسمها وجملة أخاف خبرها وعليكم متعلقان بأخاف وعذاب مفعول به(7/108)
ويوم مضاف إليه وعظيم صفة. (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) سواء خبر مقدم وعلينا متعلقان بسواء والهمزة للاستفهام ووعظت فعل ماض وفاعل وأم لم تكن من الواعظين معادل لقوله أوعظت وهمزة التسوية وما في حيزها في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر أي سواء علينا وعظك، وأتى بالمعادل هكذا دون قوله أم لم تعظ لتواخي القوافي وقال الزمخشري: «وبينهما فرق لأن المعنى سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ» . (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وخلق خبر هذا والأولين مضاف إليه والمعنى ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا يدينونه ونحن بهم مقتدون. (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ونحن اسمها والباء حرف جر زائد ومعذبين مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ما.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء الفصيحة وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به، فأهلكناهم عطف على فكذبوه وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن واللام المزحلقة وآية اسم ان والواو حرف عطف وما نافية وكان فعل ماض ناقص وأكثرهم اسمها ومؤمنين خبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تكرر إعرابها كثيرا.
الفوائد:
تبدل الجملة من الجملة بشرط أن تكون الجملة الثانية أوفى من الأولى بتأدية المراد ولذلك لا يقع البدل المطابق في الجمل وإنما يقع بدل البعض من الكل كما تقدم في الآية أو بدل الاشتمال كقوله:(7/109)
أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا ... وإلّا فكن في السرّ والجهر مسلما
فلا تقيمنّ عندنا بدل اشتمال من ارحل لما بينهما من المناسبة اللزومية وليس توكيدا له لاختلاف لفظيهما، لا بدل بعض من كل لعدم دخوله في الأول، ولا بدل بدلا مطابقا لعدم الاعتداد به، ولم يشترط النحاة الضمير في بدل البعض والاشتمال في الأفعال والجمل لتعذر عود الضمير عليها، وقد تبدل الجملة من المفرد بدلا مطابقا كقول الفرزدق:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان
أبدل جملة كيف يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان وانما صح ذلك لرجوع الجملة الى التقدير بمفرد أي الى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما، فتعذر مصدر مضاف الى فاعله وهو بدل من هاتين، ولم يسلم بعض النحاة بذلك لاحتمال أن تكون جملة كيف يلتقيان مستأنفة نبه بها على سبب الشكوى وهو استبعاد اجتماع هاتين الحاجتين.
قال بعضهم: وهل يجوز عكسه؟ أعني ابدال المفرد من الجملة أو لا، وصرح أبو حيان في البحر بأن المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فقيما عنده بدل من جملة لم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما، وقال ابن هشام في مغني اللبيب: «ان جملة «كيف خلقت» بدل من الإبل بدل اشتمال والمعنى الى الإبل كيفية خلقها ومثله «ألم تر الى ربك كيف مد الظل» وكل جملة فيها كيف من اسم مفرد» .(7/110)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
فائدة هامة:
إذا أبدل اسم من اسم استفهام أو اسم شرط وجب ذكر همزة الاستفهام أو «إن» الشرطية مع البدل ليوافق المبدل منه في المعنى نحو: كم مالك؟ أعشرون أم ثلاثون فكم اسم استفهام في محل رفع خبر مقدم ومالك مبتدأ مؤخر وعشرون بدل من كم ويسميه النحاة بدل تفصيل وهو ينحصر في المطابق، ومن جاءك أعلي أم خالد؟ فمن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة جاءك خبره وعليّ بدل من «من» الاستفهامية بدل تفصيل، ونحو: من يجتهد إن علي أو خالد فأكرمه: فمن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ والجملة بعده خبره وإن حرف شرط لا عمل له هنا لأنه جيء به لبيان المعنى لا للعمل وعليّ بدل من الضمير المستتر في يجتهد وخالد معطوف على عليّ وجملة فأكرمه في محل جزم جواب الشرط، ونحو: حيثما تنتظرني في المدرسة وإن في الدار أوافك، فحيثما اسم شرط جازم في محل نصب مفعول فيه متعلق بتنتظرني وفي المدرسة جار ومجرور في موضع النصب على البدلية من محل حيثما.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)
أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)(7/111)
اللغة:
(نَخْلٍ) : النخل والنخيل شجر التمر المعروف له ساق مستقيم طويل ذو عقد واحدته نخلة ونخيلة وفي المصباح ما ملخصه: النخل اسم جمع الواحدة نخلة وكل اسم جمع كذلك يؤنث ويذكر وأما النخيل بالياء فمؤنثة اتفاقا.
(طَلْعُها هَضِيمٌ) ما يطلع منها كنصل السيف في جوفها شماريخ القنو، وتشبيهه بنصل السيف من حيث الهيئة والشكل وفي المختار:
«ويقال للطلع هضيم ما لم يخرج لدخول بعضه في بعض» من قولهم كشح هضيم، وفي القاموس والتاج: «الطلع: المقدار، تقول:
الجيش طلع ألف ومن النخل شيء يخرج كأنه نعلان مطبقان والحمل بينهما منضود والطرف محدد أو ما يبدو من ثمرته في أول ظهورها» والهضيم النضيج الرخص اللين اللطيف.(7/112)
(فارِهِينَ) : وقرئ فرهين: بطرين حاذقين في العمل من الفره وهو شدة الفرح، وقال في الكشاف: «والفراهة الكيس والنشاط ومنه خيل فرهة» .
(شِرْبٌ) : بكسر الشين أي نصيب.
(فَعَقَرُوها) : أي ضربها بعضهم بالسيف في ساقيها وكان اسمه قدار وسنورد القصة التي نسجت حول هذه القصة لتكون حافزا للأقلام على صوغ قصة فنية منها.
الإعراب:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة الخامسة وهي فعل وفاعل ومفعول وثمود اسم قبيلة صالح سميت باسم أبيها وهو ثمود جد صالح وفي التعبير عن صالح بالجمع ما تقدم.
(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) الظرف متعلق بكذبت والجملة تقدم إعرابها. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تقدم إعرابها أيضا.
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها أيضا. (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) تقدم إعرابها أيضا. (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتتركون فعل مضارع مبني للمجهول وفيما متعلقان بتتركون وها حرف تنبيه وهنا اسم إشارة في محل نصب ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة للموصول وآمنين حال من الواو في تتركون أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله: (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) في جنات بدل من قوله فيما هاهنا بإعادة الجار، وما بعده(7/113)
عطف على جنات وطلعها مبتدأ وهضيم خبر والجملة صفة لنخل.
(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) الواو حرف عطف وتنحتون عطف على تتركون فهو في حيز الاستفهام الانكاري التوبيخي ومحل جملة الاستفهام التوبيخية نصب على الحال ومن الجبال جار ومجرور متعلقان بتنحتون وبيوتا مفعول به وفارهين حال وقد مرت جملة مماثلة فيها النحت الذي هو النحر والبري. (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) تقدم إعرابها.
(وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) الواو للحال ولا ناهية وتطيعوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وأمر المسرفين مفعول وسيأتي معنى إطاعة الأمر في باب البلاغة. (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) الذين صفة للمسرفين وجملة يفسدون صلة وفي الأرض متعلقان بيفسدون ولا يصلحون عطف على قوله يفسدون وسيأتي سر العطف في باب البلاغة. (قالُوا: إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومن المسحرين خبر أي الذين سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم والجملة مقول القول. وقيل المسحر هو المعلّل بالطعام والشراب فيكون المسحر الذي له سحر وهو الرئة فكأنهم قالوا: إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب.
(ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ما نافية وأنت مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلنا صفة، فأت الفاء الفصيحة أي إن كنت صادقا كما تزعم فأت، وبآية متعلقان بقوله فأت وإن شرطية وكنت كان واسمها وهو في محل جزم فعل الشرط ومن الصادقين خبر كنت وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله أي فأت بآية.
(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) هذه مبتدأ وناقة خبر والجملة مقول القول ولها خبر مقدم وشرب مبتدأ مؤخر والجملة صفة(7/114)
لناقة ولكم خبر مقدم وشرب يوم مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة ليوم.
(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمسوها فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والهاء مفعول به وبسوء متعلقان بتمسوها فيأخذكم الفاء هي السببية ويأخذكم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء والكاف مفعول به وعذاب فاعل ويوم مضاف اليه وعظيم صفة يوم. (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) الفاء عاطفة وعقروها فعل وفاعل ومفعول به، فأصبحوا الفاء عاطفة وأصبحوا نادمين فعل ماض ناقص والواو اسمها ونادمين خبرها، ولك أن تجعل أصبحوا تامة والواو فاعل ونادمين حال وسيأتي في قصة صالح ما يرجح أنها تامة. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة وأخذهم فعل ماض ومفعول به مقدم والعذاب فاعل مؤخر وجملة إن في ذلك لآية تعليل للأخذ والواو حالية أو عاطفة وما نافية وكان واسمها وخبرها. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم إعرابها كثيرا.
البلاغة:
1- في قوله «ولا تطيعوا أمر المسرفين» مجاز عقلي لأن الأمر لا يطاع وإنما هو صاحبه أي ولا تطيعوا المسرفين في أمرهم.
2- الارداف:
فقد كان يكفي أن يقول «الذين يفسدون في الأرض» ولكنه لما كان قوله يفسدون لا ينفي صلاحهم أحيانا أردفه بقوله «ولا يصلحون» لبيان كمال افسادهم وإسرافهم فيه.(7/115)
الفوائد:
قصة صالح:
في القرطبي: «أوحى الله إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال لهم صالح: انه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه، فقالوا:
لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه، فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ثم للعاشر فأبى أن يذبح أبنه وكان لم يولد له قبل ذلك، فكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا: لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا مثل هذا، وغضب التسعة على صالح لأنه كان سببا لقتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله فقالوا: نخرج الى سفر فيرى الناس سفرنا فنكون في غار حتى إذا كان الليل وخرج صالح الى مسجده أتيناه فقتلناه ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون فيصدقونا ويعلمون أنا قد خرجنا الى سفر، وكان صالح لاينام معهم في القرية بل كان ينام في المسجد فإذا أصبح أتاهم فوعظهم فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم فرأى ذلك الناس ممن كان قد اطلع على ذلك فصاحوا في القرية: يا عباد الله أما رضي صالح أن أمر بقتلهم أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على عقر الناقة.
رواية عقر الناقة:
وروي أن مسطعا ألجأ الناقة الى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار وقيل انه قال لا أعقرها حتى(7/116)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون:
أترضين؟ فتقول: نعم وكذلك صبيانهم.
هذا وقد ضرب بقدار المثل في الشؤم فقال زهير مشيرا إليه وقد غلط فجعله أحمر عاد مع أنه أحمر ثمود وذلك في أبيات له يصف الحرب ويحذر قومه من مغابها ونوردها هنا جملة لأهميتها:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... وتضر إذا ضرّيتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها ... وتلقح كشافا ثم تنتج فتئثم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
أي أنها تلد لكم أبناء كل واحد منهم يضاهي في الشؤم عاقر الناقة وهو قدار بن سالف.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)(7/117)
اللغة:
(الذُّكْرانَ) : أحد جموع الذكر والذكر خلاف الأنثى وفي المختار:
الذكر ضد الأنثى وجمعه ذكور وذكران وذكارة كحجارة» وأورد له في القاموس جموعا عديدة فقال «وجمعه ذكور وذكورة وذكران وذكار وذكارة وذكرة» .
(الْقالِينَ) : المبغضين والقلى البغض الشديد كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد وفي المصباح: «وقليت الرجل أقليه من باب رمى قلى بالكسر والقصر وقد يمد إذا أبغضته ومن باب تعب لغة» وعبارة القاموس: «قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاء ومقلية أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض» .(7/118)
(الْغابِرِينَ) : قال في الكشاف «ومعنى الغابرين في العذاب والهلاك: غير الناجين» وفي المصباح: «غبر غبورا من باب قعد بقي وقد يستعمل فيما مضى أيضا فيكون من الأضداد، وقال الزبيدي:
غبر غبورا مكث وفي لغة بالمهملة للماضي وبالمعجمة للباقي وغبّر الشيء وزان سكر بقيته» وفي القاموس: «غبر غبورا مكث وذهب ضد، وهو غابر من غبّر كركّع وغبر الشيء بالضم بقيته» .
الإعراب:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في القصة السادسة. (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) لم يكن لوط أخاهم في النسب وانما جعله أخاهم جريا على أساليبهم كما تقدم أو باعتبار انه كان ساكنا ومجاورا لهم في قريتهم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) صدّر كل قصة بهذه الآيات وقد تقدم إعرابها فجدد به عهدا. (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي وتأتون الذكران فعل مضارع وفاعل ومفعول به ومحل جملة الاستفهام التوبيخية النصب على الحال ومن العالمين حال. (وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) وتذرون عطف على تأتون داخل في حيز الاستفهام التوبيخي وهو فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة خلق لكم ربكم صلة ومن أزواجكم حال على أن «من» للتبيين ويجوز أن تكون للتبعيض وسيأتي تفصيل هذا كله في باب البلاغة، وبل حرف إضراب انتقالي وأنتم مبتدأ وقوم خبر وعادون صفة أي متجاوزون الحلال الى الحرام لأن معنى العادي(7/119)
المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد. (قالُوا: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) قالوا فعل ماض وفاعل ولئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم ولتكونن اللام واقعة في جواب القسم وتكونن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والواو اسم تكونن ومن المخرجين خبر أي من جملة من أخرجناهم وسيأتي تفصيل مسهب عن هذا التعبير في باب البلاغة. (قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) إن واسمها ولعملكم متعلقان بالقالين ومن القالين خبر إن والجملة مقول القول وتشدد بعضهم فقال في حواشي البيضاوي ما يلي: «من القالين» متعلقان بمحذوف أي لقال من القالين وذلك المحذوف خبر إن ومن القالين صفة ولعملكم متعلقان بالخبر المحذوف ولو جعل من القالين خبر إن لعمل القالين في لعملكم فيفضي الى تقديم معمول الصلة على الموصول وهو أل مع أنه لا يجوز. قلت: وهذا على دقته وملاءمته للقواعد فيه تكلف شديد يخرجه الى الإحالة ولا داعي لهذا التشدد مع أن استعمال أل موصولا يكاد يكون نادرا.
(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وقد حذف منه حرف النداء ونجني فعل أمر للدعاء والياء مفعول به وأهلي مفعول معه أو معطوف على الياء ومما متعلقان بنجني وجملة يعملون صلة ما. (فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) الفاء عاطفة على محذوف مقدر لتتساوق القصة ونجيناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وأهله مفعول معه أو معطوف على الهاء وأجمعين تأكيد. (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) إلا أداة استثناء وعجوزا مستثنى بإلا وهي امرأته وفي الغابرين صفة لعجوزا كأنه قيل إلا عجوزا غابرة. (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) عطف على ما تقدم. (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)(7/120)
وأمطرنا عطف على دمرنا وعليهم متعلقان بأمطرنا ومطرا مفعول به، فساء الفاء حرف عطف وساء فعل للذم ومطر المنذرين فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم والمراد بالمطر الحجارة التي انثالت عليهم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) إن وخبرها المقدم واسمها المؤخر والواو حالية وما نافية وكان واسمها وخبرها.
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم إعرابها كثيرا.
البلاغة:
1- قوله تعالى «وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم» في هذه الآية الإبهام بقوله «ما خلق لكم» وقد أراد به إقبالهنّ، وفي ذلك مراعاة للحشمة والتصون و «من» تحتمل البيان وتحتمل التبعيض.
2- العدول الى الصفة:
في قوله «لتكونن من المخرجين» وقوله «من القالين» عدول عن الجملة الفعلية الى الصفة، وكثيرا ما ورد في القرآن خصوصا في هذه الصورة العدول عن التعبير بالفعل الى التعبير بالصفة المشتقة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع كقول فرعون «لأجعلنك من المسجونين» وأمثاله كثيرة، والسر في ذلك أن التعبير بالفعل إنما يفهم وقوعه خاصة، وأما التعبير بالصفة ثم جعل الموصوف بها واحدا من جمع فانه يفهم أمرا زائدا على وقوعه وهو أن الصفة المذكورة كالسمة للموصوف ثابتة العلوق به كأنها لقب وكأنه من طائفة صارت من هذا النوع المخصوص المشهور ببعض السمات الرديئة، استمع الى قوله(7/121)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
تعالى «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف» كيف ألحقهم لقبا رديئا وصيّرهم من نوع رذل مشهور بسمة التخلف حتى صارت له لقبا لاصقا به، وهذا عام في كل ما يرد عليك وورد فيما مضى من أمثال ذلك فتدبره واقدره قدره.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)(7/122)
اللغة:
(الْأَيْكَةِ) : في اللغة الشجرة الكثيفة وجمعها أيك، قال في القاموس «أيك يأيك من باب تعب أيكا واستأيك الشجر: التف وصار أيكة والأيك الشجر الكثيف الملتف الواحدة أيكة» فتطان الأيكة على الواحدة من الأيك وعلى غيضة شجر ملتفة قرب مدين، قالوا: وكان شجرهم الدوم وهي قرية شعيب سميت باسم بانيها مدين بن ابراهيم بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيام، وقد اختلف المفسرون واللغويون فيها وسننقل لك بعض ما قالوه.
قال الزمخشري:
«قرئ أصحاب الأيكة بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الاضافة وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة (ص) بغير ألف، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف قياس الخط المصطلح عليه وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب النحو لان ولولا على هذه الصورة لبيان لفظ المخفّف وقد كتبت في سائر القران على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف وروي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم» .
وقال الجلال السيوطي:
«وفي قراءة بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وفتح الهاء وهي غيضة شجر قرب مدين» وهذا الصنيع يقتضي أن اللام الموجودة(7/123)
لام التعريف وحينئذ لا يصح قوله وفتح الهاء إذ الاسم المقرون بأل سواء كانت معرفة أو غيرها يجر بالكسرة سواء وقع فيه نقل أم لا، ووجه بعضهم فتح الهاء بأن الاسم بوزن ليلة فاللام من بنية الكلمة ولا نقل بل حركة اللام أصلية فجره بالفتحة حينئذ ظاهر.
وقال الشهاب الخفاجي:
«وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي وغيره بأنه لا وجه للفتح لأن نقل حركة الهمزة لا يقتضي تغيير الاعراب من الكسر الى الفتح وأجيب بأن ليكة على هذه القراءة اسم البلدة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث واللام فيها جزء من الكلمة لا المعرفة لأنها توجب الصرف فقول القائل انها على النقل غير صحيح وبهذا اندفع ما قاله النحاة فانهم نسبوا هذه القراءة الى التحريف» .
وقد أطال السمين الحلبي في توجيه هذه القراءة جدا ونصه:
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر ليكة بلام واحدة وفتح التاء جعلوه اسما غير معرف بأل مضافا إليه أصحاب هنا وفي «ص» خاصة، والباقون الأيكة معرفا بأل موافقة لما أجمع عليه في «الحجر» وفي «ق» وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى وتجرأ بعضهم على قارئها وسأذكر لك من ذلك طرفا: فوجهها على ما قال أبو عبيدة أن ليكة اسم للقرية التي كانوا فيها والأيكة اسم للبلاد كلها فصار الفرق بينهما شبيها بما بين مكة وبكة» .
وقال صاحب القاموس:
«ومن قرأ الأيكة فهي الغيضة ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية وموضعه اللام ووقع في البخاري اللائكة جمع أيكة وكأنه وهم» .(7/124)
وقال شارحه في التاج:
«قوله وكأنه وهم لأنه ليس له وجه ولم يتكلم به أحد من الأئمة ولكنه رضي الله عنه ثقة فيما ينقل فينبغي أن يحسن الظن به وقد أجاب عنه شراحة وصححوه» .
وقال أبو البقاء:
«أصحاب الأيكة يقرأ بكسر التاء مع تحقيق الهمزة وتخفيفها بالإلقاء وهو مثل الأنثى والأنثى قرئ ليكة بياء بعد اللام وفتح التاء وهذا لا يستقيم إذ ليس في الكلام ليكة حتى يجعل علما فإن أدعي قلب الهمزة لا ما فهو في غاية البعد» .
الأيك والحمام في الشعر:
هذا وقد استهوى الأيك وحمامه الشعراء فكثرت أشعارهم فيه، أنشد أبو حاتم لرجل من بني نهشل:
ألام على فيض الدموع وإنني ... بفيض الدموع الجاريات جدير
أيبكي حمام الأيك من فقد إلفه ... وأصبر عنها إنني لصبور
وأنشد الرياشي عن الأصمعي، قال: أنشدني منتجع بن نبهان لرجل من بني الصيّداء:(7/125)
دعت فوق أفنان من الأيك موهنا ... مطوقة ورقاء في إثر آلف
فهاجت عقابيل الهوى إذ ترنمت ... وشبت ضرام الشوق تحت الشراسف
بكت بجفون دمعها غير ذارف ... وأغرت جفوني بالدموع الذّوارف
والطريف في هذا الباب قول عوف بن محلّم:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا فشطّت غربه دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد جريح
(القسطاس) : بكسر القاف وضمها وقد قرئ بهما: الميزان السوي فإن كان من القسط وهو العدل وجعلت العين مكررة فوزنه فعلاس وإلا فهو رباعي وقيل هو بالرومية العدل.
(وَلا تَعْثَوْا) : ولا تفسدوا يقال عثا في الأرض وعثي وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزروع وفي المختار: «عثا في الأرض(7/126)
أفسد وبابه سما وعثي بالكسر عثوا أيضا وعثى بفتحتين بوزن فتى قال الله تعالى: «ولا تعثوا في الأرض مفسدين» قلت قال الأزهري:
القراء كلهم متفقون على فتح الثاء دل على أن القرآن نزل باللغة الثانية» .
(وَالْجِبِلَّةَ) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام المفتوحة: الخلق المتحد الغليظ وفي القاموس «الجبلة والجبلة والجبلة والجبلّة وهي التي قرئ بها: الوجه وما استقبلك منه والخلقة والطبيعة والأصل والقوة وصلابة الأرض» والجبل بفتح الجيم مع سكون الباء مصدر جبله الله على كذا أي طبعه وخلقه واسم الطبيعة جبلة، ولهذه الكلمة بهذا المعنى ألفاظ كثيرة وهي الجبلة والخيم والطبع والنحيزة والطبيعة والنبيتة والضريبة والسجية والشنشنة والخليقة والسليقة والسليقة والشيمة والغريزة والنجار وقد نظم بعضهم معاني الجبل فقال:
قد جبل الله الطباع جبلا ... وسمي المال الكثير جبلا
وعدد الناس الكثير جبلا ... بالضم إن أردت أو بالكسر
وجه وقوة وغيث جبلة ... وامرأة غليظة والجبلة
جماعة أو كثرة كالجبله ... لقدح من خشب ذي كبر
(كِسَفاً) : بكسر الكاف وفتح السين وقرئ كسفا بسكون السين وكلاهما جمع كسفة نحو قطع وسدر وقال أبو عبيدة:
«الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة وقرأ السلمي وحفص كسفا جمع كسفة أيضا وهي القطعة والجانب مثل كسرة وكسر» وفي الصحاح:
«الكسفة من الشيء يقال أعطني كسفة من ثوبك أي قطعة ويقال الكسف والكسفة واحد» وقال الأخفش «من قرأ كسفا من السماء جعله واحد ومن قرأ كسفا جعله جمعا» .(7/127)
(الظُّلَّةِ) : المظلة الضيقة وما يستظل به من الحر أو البرد وما أظلك كالشجر والجمع ظلل وظلال ويوم الظلة اشتهر بعذابهم فقد رنقت فوقهم سحابة أظلتهم بعد جر شديد أصابهم فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.
الإعراب:
(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) كلام مستأنف مسوق لذكر القصة السابعة والأخيرة في هذه السورة. (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ) تقدمت هذه الآية وما بعدها في جميع القصص السبع وسيأتي سر ذلك في باب البلاغة. ولم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال أخاهم شعيبا لأنه كان منهم. (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) آيات تقدمت في القصص السبع. (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أوفوا فعل أمر وفاعل والكيل مفعول به والواو حرف عطف ولا ناهية وتكونوا فعل مضارع ناقص مجزوم بلا والواو اسمها ومن المخسرين خبر تكونوا، قال الزمخشري: «الكيل على ثلاثة أضرب: واف وطفيف وزائد، فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف ولم يذكر الزائد وكأن تركه عن الأمر والنهي دليل على أنه إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا عليه» . (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) اعرابها واضح. (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتبخسوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والناس مفعول به أول وأشياعهم مفعول به ثان.(7/128)
وفي أقوالهم «لا تبخس أخاك حقه» . ولا تعثوا عطف على ولا تبخسوا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بتعثوا ومفسدين حال مؤكدة لمعنى عاملها وأما لفظهما فمختلف. (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة واتقوا فعل أمر وفاعل والذي مفعول به وجملة خلقكم صلة والجبلة عطف على الذي والأولين صفة للجبلة. (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومن المسحرين خبر والجملة مقول القول. (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) الواو عاطفة وما نافية وأنت مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلنا نعت لبشر والواو حرف عطف وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ونظنك فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به واللام الفارقة ومن الكاذبين خبر قال الزمخشري:
«فإن قلت إن المخففة من الثقيلة ولامها كيف تفرقتا على فعل الظن وثاني مفعوليه؟ قلت: أصلهما أن تتفرقا على المبتدأ والخبر كقولك إن زيد لمنطلق فلما كان البابان أعني باب كان وباب ظننت من جنس باب المبتدأ والخبر فعل ذلك في البابين فقيل إن كان زيد لمنطلقا وإن ظننته لمنطلقا» . (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) الفاء الفصيحة وأسقط فعل أمر وعلينا متعلقان بأسقط وكسفا مفعول به ومن السماء صفة لكسفا وإن شرطية وكنت فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها ومن الصادقين خبر كنت وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فأسقط علينا. (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) ربي مبتدأ وأعلم خبر والجملة مقول القول وبما متعلقان بأعلم وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول. (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الفاء عاطفة وكذبوه فعل وفاعل ومفعول به فأخذهم فعل ومفعول به وعذاب يوم الظلة فاعل وان واسمها(7/129)
وجملة كان خبرها، واسم كان ضمير مستتر تقديره هو وعذاب خبر كان ويوم مضاف اليه وعظيم صفة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) تقدم اعرابها.
البلاغة:
فن التكرير:
في هذه القصص السبع كرر في أول كل قصة وفي آخرها ما كرر مما أشرنا اليه لأن في التكرير تقريرا للمعاني في الأنفس وترسيخا لها في الصدور مع تعليق كل واحدة بعلة، وفن التكرير فن دقيق المأخذ وربما اشتبه على أكثر الناس بالاطناب مرة وبالتطويل مرة أخرى، وهو ينقسم الى قسمين:
القسم الاول من التكرير:
يوجد في اللفظ والمعنى كقولك لمن تستدعيه: أسرع أسرع ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام
القسم الثاني من التكرير:
يوجد في المعنى دون اللفظ كقولك: أطعني ولا تعص أوامري، فإن الأمر بالطاعة نهي عن المعصية.
وعلى كل حال ليس في القرآن مكرر لا فائدة في تكريره.(7/130)
وزعم قوم أن أبا الطيب المتنبي أتى بتكرير لا حاجة به إليه في قوله:
العارض الهتن بن العارض الهتن بن العا ... رض الهتن بن العارض الهتن
وليس في هذا البيت من تكرير فإنه كقولك الموصوف بكذا وكذا ابن الموصوف بكذا وكذا أي انه عريق النسب في هذا الوصف، وقد ورد في الحديث النبوي مثله كقوله صلى الله عليه وسلم في وصف يوسف النبي: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم» فالبيت كالحديث النبوي من جهة المعنى لكنه انحط عن الحديث من جهة ألفاظه، وهي ألفاظ إذا استعملت مفردة كانت حسنة ولكن إيرادها على هذا الوجه المتداخل هو الذي شوه جمالها وأحالها الى ضرب من المغالطة اللفظية غضت منها وهذا أمر مرده الى الذوق وحده فهو الفيصل الذي يحكم في هذه الأمور وما أحسن ما قال الفيلسوف الفرنسي فولتير «ذوقك أستاذك» .
التكرير غير المفيد:
أما إذا كان التكرير غير مفيد فهو العي الفاحش، ومن العجيب أن يتورط شاعر كأبي الطيب المتنبي فيورد البيت الذي أوردناه في مستهل هذا البحث وهو:
ولم أر مثل جيراني ومثلي ... لمثلي عند مثلهم مقام
ألا ترى أنه يقول لم أر مثل جيراني في سوء الجوار ولا مثلي في(7/131)
مسايرتهم ومقامي عندهم إلا أنه قد كرر هذا المعنى في البيت مرتين، ومثله قوله:
وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا ... قلاقل دهر كلهن قلاقل
وكذلك قوله:
عظمت فلما لم تكلم مهابة ... تواضعت وهو العظم عظما على عظم
قال أحد النقاد القدامى فيه: «ولو سمي هذا البيت جبانة لكان لائقا به» والظاهر أن هذا الناقد يكره التكرير وقد صور له كرهه إياه قصيدة ابن الرومي في المرأة التي أولها:
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان ... فيهنّ نوعان تفّاح ورمان
غير جميلة أو من هذا الضرب فقال: «هذه دار البطيخ فاقرءوا نسيبها تعلموا ذلك» .
ولسنا ننكر أن ابن الرومي قد بالغ في غزلها وأكثر من ذكر العناب والبان والنرجس ولكنه واقع موقعه ولا سبيل الى النيل منه.
ونعود الى أبي الطيب فقد أكثر من التكرير حتى أسف في كثير من أبياته مع أنه شاعر العربية الأول فقال:(7/132)
أسد فرائسها الأسود يقودها ... أسد تصير له الأسود ثعالبا
قال ابن رشيق: «ما أدري كيف تخلص من هذه الغابة المملوءة أسودا» وقال الاصمعي لمن أنشده قوله:
فما للنوى جذ النوى قطع النوى ... كذاك النوى قطّاعة لوصال
«لو سلط الله على هذا النوى شاة لأكلته كله» .
وأما قول أبي نواس:
أقمنا بها يوما ويوما وثالثا ... ويوما له يوم الترحل خامس
فقال ابن الأثير في المثل السائر: «مراده أنهم أقاموا أربعة أيام ويا عجبا له يأتي بمثل هذا البيت السخيف الدال على العي الفاحش في ضمن تلك الأبيات العجيبة الحسن وهي:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جنيّ ويابس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس(7/133)
تدار علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير
فارس قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسيّ الف
وارس فللرّاح ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
وقد أخطأ ابن الأثير وفهم البيت خطأ ولم يمعن النظر فيه فنقده ولو أنه أمعن النظر لما قال فيه هذا القول، والمعنى الصحيح: ان المقام سبة أيام لأنه قال وثالثا ويوما آخر له اليوم الذي رحلنا فيه خامس.
وأبو نواس أجل قدرا من أن يسف ويأتي بهذه العبارة لغير معنى طائل وله في الخمر أبيات منقطعة النظير وقد تدق على الافهام، حكي عنه أنه ذكر عند الرشيد قوله:
فاسقني البكر التي اعتجرت ... بخمار الشيب في الرحم
فقال الرشيد لمن حضر: ما معناه؟ فقال أحدهم: إن الخمر إذا كانت في دنّها كان عليها شيء مثل الزبد فهو الشيب الذي أراده، وكان الاصمعي حاضرا فقال: يا أمير المؤمنين إن أبا علي أجل خطرا وان معانيه لخفية فاسألوه عن ذلك فأحضر وسئل فقال: إن الكرم أول ما يخرج العنقود في الزرجون يكون عليه شيء يشبه القطن فقال الأصمعي: ألم أقل لكم إن أبا نواس أدق نظرا مما قلتم.(7/134)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
عود الى الآيات:
ونعود فنقول إنما كرر القرآن هذه الآيات في أول كل قصة وآخرها لأن هذه القصص قرعت بها آذان أصابها وقر وقلوب غلف، فلم يكن بد من مراجعتها بالترديد والتكرير لعل ذلك يفتح مغالقها ويجلو ما تحيفها من صدأ. وسيأتي من التكرير في القرآن ما يسكر النفوس ويخلب الألباب.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 203]
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
اللغة:
(الْأَعْجَمِينَ) : قال الزمخشري: الأعجم الذي لا يفصح وفي نسانه عجمة واستعجام والاعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة تأكيد، وقرأ الحسن: الأعجميين، ولما كان من يتكلم بلسان غير(7/135)
لسانهم لا يفقهون كلامه قالوا له أعجم وأعجمي شبهوه بمن لا يفصح ولا يبين، وقالوا لكل ذي صوت من البهائم والطيور وغيرها أعجم قال حميد:
ولا عربيا شاقه صوت أعجما قلت: وهذا عجز بيت وصدره:
«ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها» والبيت من أبيات لحميد بن ثور وقد رحلت صاحبته ومنها:
وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر ترحة وتندما
عجبت لها أنّى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تفغر بسنطقها فما
ولم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت أعجما
وساق حر مركب إضافي وهو ذكر الحمام مطلقا يقول: وما حرك هذا الشوق وبعثه فتوقد في قلبي إلا حمامة دعت ذكرها، والترحة:
الحزن ضد الفرحة، والتندم: التأسف على ما فات، ويروى وترنما وهو تحسين الصوت وهما نصب على الحالية أي حزينة ومتأسفة أو ذات ترحة وذات تندم، وأنى اسم استفهام بمعنى كيف والاستفهام معناه هنا التعجب وفغر فاه يفغره من باب نفع فتحه أي والحال أنها لم تفتح فمها بنطقها وانما يخرج صوتها من صدرها، وشاقه تسبب له في الشوق، والعربي المفصح والأعجم الذي لا يفصح من الحيوان نقلته العرب لمن لا يفهمون كلامه ولا يفقهون مراده وربما ألحقوه ياء النسب للمبالغة في شدة العجمة، وبينه وبين عربي طباق التضاد.(7/136)
واستشكل كيف يجمع الأعجم جمع المذكر السالم وهو وصف على وزن أفعل في المذكر وعلى وزن فعلاء في المؤنث وشرط الجمع بالياء والنون أو بالواو والنون أن لا يكون الوصف كذلك، وأجيب بأنه جمع أعجمي بياء النسب وحذفت للتخفيف كأشعرين في أشعري، والكوفيون يجيزون جمع أفعل فعلاء جمع المذكر السالم وقال صاحب التحرير: «قوله على بعض الأعجمين جمع أعجمي ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة» . وعبارة القاموس: «العجم بالضم وبالتحريك خلاف العرب رجل وقوم أعجم والأعجم من لا يفصح كالأعجمي والأخرس وزياد الشاعر والموج لا يتنفس فلا ينضح ماء ولا يسمع له صوت والعجمي من جنسه العجم وان أفصح وجمعه عجم» .
الإعراب:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير حقيقة تلك القصص وتأكيد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن إخباره عن الأمم المتقدمة وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب لا يكون إلا عن طريق الوحي والضمير يعود على القرآن لأن هذه القصص جزء منه. وان واسمها واللام المزحلقة وتنزيل رب العالمين خبرها. (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) الجملة صفة لتنزيل وبه في موضع الحال أي ملتبسا به فالباء للملابسة والروح فاعل والأمين صفة وعلى قلبك متعلقان بنزل واللام للتعليل وتكون فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد اللام ومن المؤمنين خبر تكون.
(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) بلسان جار ومجرور متعلقان بالمنذرين لأنه اسم مفعول أي من الذين أنذروا بهذا اللسان العربي وهم هود وصالح(7/137)
وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام، أو انه بدل من قوله به بإعادة العامل أي نزل بلسان عربي أي باللغة العربية. (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) عطف على ما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة وفي زبر الأولين خبر إن يعني أن ذكره مثبت في الكتب السماوية.
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي التقريعي والواو عاطفة على مقدر ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم ولهم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لآية وتقدم عليها وآية خبر يكن المقدم وأن يعلمه في تأويل مصدر اسم يكن وعلماء بني إسرائيل فاعل بعلمه. وهؤلاء العلماء هم خمسة قد أخبروا بالقرآن وهم عبد الله بن سلام وأسد وأسيد وثعلبة وابن يامين وقد أسلموا وحسن إسلامهم.
(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الواو عاطفة ولو شرطية امتناعية ونزلناه فعل ماض وفاعل ومفعول به وعلى بعض الأعجمين متعلقان بنزلناه. (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) الفاء عاطفة وقرأه فعل ماض وفاعل مستتر يعود على بعض الأعجمين ومفعول به وعليهم متعلقان بقرأه وجملة ما كانوا مؤمنين لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وبه متعلقان بمؤمنين ومؤمنين خبر كانوا. (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف مقدم أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وقررناه فيها وسلكناه فعل وفاعل ومفعول به وفي قلوب المجرمين متعلقان بسلكناه. (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) الجملة مستأنفة أو حالية من الهاء في سلكناه أو من المجرمين فعلى الأول تكون الجملة بمثابة الإيضاح والتلخيص لما تقدم وعلى الثاني يكون التقدير سلكناه حالة كونه غير مؤمن به، ولا نافية ويؤمنون فعل مضارع مرفوع وفاعل وبه متعلقان بيؤمنون وحتى حرف غايه(7/138)
وجر ويروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والواو فاعل والعذاب مفعول به والأليم صفة. (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الفاء حرف للتعقيب قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التعقيب في قوله فيأتيهم بغتة فيقولوا ... ؟ قلت: ليس المعنى ترادف رؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه في الوجود، وانما المعنى ترتبها في الشدة كأنه قيل لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم للعذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة مع القطع بامتناعها ومثال ذلك أن تقول لمن تعظه، إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله عقيب مقت الصالحين، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء» وهكذا سبر الزمخشري أغوار القرآن الكريم وألمّ بخفاياه إلمام الخبير بمواقع الأسرار. ويأتيهم معطوف على يروا والفاعل مستتر تقديره هو والهاء مفعول به وبغتة حال والواو واو الحال وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر. (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) الفاء عاطفة كما تقدم والكلام كله مقدم من تأخير ويقولوا عطف على يأتيهم وهل حرف استفهام ونحن مبتدأ ومنظرون خبر والجملة مقول القول ومعنى الاستفهام هنا التحسر والاستبعاد لما هو محال وهو إمهالهم بعد حلول العذاب بهم.
الفوائد:
شروط جمع المذكر السالم:
يشترط في كل ما يجمع جمع المذكر السالم من اسم أو صفة ثلاثة شروط:(7/139)
آ- الخلو من تاء التأنيث فلا يجمع هذا الجمع من الأسماء نحو طلحة، ولا من الصفات نحو علّامة بتشديد اللام لئلا يجتمع فيهما علامتا التأنيث والتذكير.
ب- أن يكون لمذكر فلا يجمع هذا الجمع علم المؤنث نحو زينب ولا صفة المؤنث نحو حائض.
ج- أن يكون لعاقل لأن هذا الجمع مخصوص بالعقلاء فلا يجمع نحو وأشق علما لكلب وسابق صفة لفرس، ثم يشترط أن يكون إما علما غير مركب تركيبا مزجيا ولا استناديا فلا يجمع المركب المزجي نحو معدي كرب وسيبويه، وقيل إن المختوم بويه يجمع هذا الجمع فيقال سيبويهون ومنهم من يحذف وبه فيقول سيبون، أما المركب الاضافي فيجمع أول المتضايفين ويضاف للثاني فيقال غلامو زيد وغلامي زيد، والكوفيون يجمعونهما معا، وأما صفة تقبل التاء المقصود بها معنى التأنيث فلا يجمع هذا الجمع نحو علامة ونسابة لأن التاء فيهما لتأكيد المبالغة لا لقصد معنى التأنيث، أو صفة لا تقبل التاء ولكنها تدل على التفضيل فالصفة التي لا تقبل التاء نحو قائم ومذنب تقول قائمة ومذنبة والصفة التي تدل على التفضيل نحو أفضل فهذه الصفات الثلاث تجمع هذا الجمع كما تجمع بالألف والتاء فيقال قائمون ومذنبون وأفضلون كما يقال قائمات ومذنبات وفضليات، فلا يجمع هذا الجمع نحو جريح بمعنى مجروح وصبور بمعنى صابر وسكران وأحمر وأعجم فإنها لا تقبل التاء ولا تدل على تفضيل لأن جريحا وصبورا مما يستوي فيه المذكر والمؤنث وسكران مؤنثه سكرى وأحمر مؤنثه حمراء وأعجم مؤنثة عجماء فلا يقال جريحون وصبورون وسكرانون وأحمرون كما(7/140)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
لا يقال جريحات وصبورات وسكرانات وحمراوات وعجماوات فلو جعلت أعلاما جاز الجمعان.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 204 الى 220]
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208)
ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
الإعراب:
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) الهمزة للاستفهام التوبيخي والتهكمي والإنكاري والفاء عاطفة على مقدر يقتضيه المقام وقد سبق تقريره والتقدير: أيكون حالهم كما ذكر من طلب الإنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون، هكذا قدره بعض المعربين ولكنه لا يخلو من إيهام،(7/141)
فالأولى أن يقدر: أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون، وقدم الجار والمجرور لأمرين: لفظي وهو مراعاة الفواصل ومعنوي وهو الإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به العذاب، والجار والمجرور متعلقان بيستعجلون. (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ورأيت معطوف على فيقولوا وما بينهما اعتراض والتاء فاعل رأيت ورأيت بمعنى أخبرني فتتعدى الى مفعولين أحدهما مفرد والآخر جملة استفهامية غالبا وإن شرطية ومتعناهم فعل ماض وفاعل ومفعول به وسنين ظرف متعلق بمتعناهم.
(ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) ثم حرف عطف وجاءهم فعل ومفعول به وما فاعل جاءهم وجملة كانوا صلة والواو اسم كان وجملة يوعدون خبرها.
ثم: تنازع أفرأيت وجاءهم في قوله «ما كانوا يوعدون» فإن أعملت الثاني وهو جاءهم كما تقدم في الاعراب رفعت به «ما كانوا» فاعلا به، ومفعول أرأيت الأول ضميره ولكنه حذف والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية في قوله «ما أغنى عنهم» ولا بد من رابط بين هذه الجملة وبين المفعول الاول المحذوف وهو مقدر تقديره: أفرأيت ما كانوا يوعدونه، وإن أعملت الاول نصبت به «ما كانوا» مفعولا به وأضمرت في جاءهم فاعلا به والجملة الاستفهامية مفعول ثان أيضا والعائد مقدر على ما تقرر في للوجه قبله والشرط معترض وجوابه محذوف. وقد تقدم البحث مستوفى في هذا التعبير في سورة الأنعام وهذا كله إنما يتأتى على قولنا إن «ما» استفهامية ولا يضيرنا تفسيرهم لها بالنفي فإن الاستفهام قد يرد للنفي، وأما إذا جعلتها نافية، فتكون حرفا، ولا يتأتى ذلك لأن مفعول أرأيت الثاني(7/142)
لا يكون إلا جملة استفهامية وقد ذكر هذا مفصلا كما ذكرت أقوال المعربين في سورة الانعام فجدد به عهدا. (ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) ما استفهامية كما تقدم مفعول مقدم لأغنى وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما مصدرية أو موصولة وعلى كل حال هي ومدخولها أو هي وحدها فاعل أغنى والتقدير ما أغنى عنهم تمتعهم أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي وقيل ما نافية ولا فرق بينهما كما تقدم. (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية وأهلكنا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وقرية مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول أهلكنا وإلا أداة حصر ولها خبر مقدم ومنذرون مبتدأ مؤخر والجملة صفة لقرية أو حال منه وسوغ ذلك سبق النفي وقد تقدم الزمخشري رأي جميل في مثل هذا التعبير ونعيده هنا قال: «فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله:
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم؟ قلت: الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله: سبعة وثامنهم كلبهم» .
(ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ) مفعول لأجله على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة، وجوز أبو البقاء أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هذه ذكرى والجملة اعتراضية، وأعربها الكسائي حالا أي مذكرين، وأعربها الزجاج مصدر والعامل منذرون لأنه في معنى مذكرون ذكرى أي هذه ذكرى والجملة اعتراضية، وأعرابها الكسائي حالا أي مذكرين، (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) الواو عاطفة وما نافية وتنزلت فعل ماض وبه جار ومجرور متعلقان بتنزلت والضمير للقرآن والشياطين فاعل تنزلت (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) الواو عاطفة وما نافية وينبغي فعل مضارع وفاعله مستتر يعود على(7/143)
القرآن ولهم متعلقان بينبغي وما يستطيعون عطف على ما ينبغي ومفعول يستطيعون محذوف تقديره ذلك. (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الجملة تعليل لعدم استطاعتهم أن يتنزلوا به وان واسمها وعن السمع متعلقان بمعزولون واللام المزحلقة ومعزولون خبر إن. (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) الفاء الفصيحة والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود غيره، ولا ناهية وتدع فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ومع ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لإلها وتقدم عليه وإلها مفعول به وآخر صفة لإلها، فتكون الفاء فاء السببية وتكون فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء واسم تكون مستتر تقديره أنت ومن المعذبين خبر تكون. (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) الواو عاطفة وأنذر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعشيرتك مفعول به والأقربين صفة، وسيأتي بحث واف عن هذا الانذار في باب الفوائد.
(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف أيضا واخفض جناحك فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به ولمن متعلقان بأخفض وجملة اتبعك صلة من ومن المؤمنين حال. (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة وإن شرطية وعصوك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط، فقل الفاء رابطة للجواب وان واسمها وبريء خبرها ومما متعلقان ببريء وجملة تعملون صلة وجملة اني بريء مقول القول ولذلك كسرت همزة إن. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) عطف على ما تقدم وعلى العزيز متعلقان بتوكل. (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ)
الذي صفة للعزيز الرحيم وجملة يراك صلة وحين ظرف متعلق بيراك وجملة تقوم مجرورة بإضافة الظرف إليها ومتعلق تقوم(7/144)
محذوف أي الى الصلاة (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) عطف على الكاف في يراك وفي الساجدين حال وفي بمعنى مع أي مصليا مع الجماعة، وعن مقاتل أنه سأل أبا حنيفة رضي الله عنه: هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن؟ فتلا هذه الآية، وقال بعضهم المراد بالساجدين المؤمنون أي يراك متقلبا في أصلاب وأرحام المؤمنين منذ زمن آدم وحواء الى عبد الله وآمنة (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والسميع العليم خبران لإن أو للضمير والجملة الاسمية خبر إن.
الفوائد:
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الأقرب فالأقرب، فلما أنزل الله تعالى «وأنذر عشيرتك الأقربين» دعاهم الى دار عمه أبي طالب وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه وفيهم أعمامه، فأنذرهم فقال يا بني عبد المطلب: لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. وروي انه قال: يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم شيئا، ثم قال: يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا فاطمة بنت محمد، ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا.
وهناك روايات أخرى لا تخرج عن هذا المعنى نجتزىء بما تقدم منها.(7/145)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
الإعراب:
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) كلام مستأنف مسوق لإبطال كونه كاهنا يتلقى من الشياطين، وهل حرف استفهام وأنبئكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وعلى من جار ومجرور متعلقان بتنزل وقدم للاهتمام به ولأن للاستفهام صدر الكلام، وهو معلق لفعل التنبئة عن العمل والجملة سدت مسد المفعولين الثاني والثالث وتنزل فعل مضارع حذفت إحدى تاءيه والأصل تتنزل، والشياطين فاعل تنزل.
(تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الجار والمجرور متعلقان بتنزل، وهو بدل من الجار والمجرور قبله وأفاك مضاف الى كل وأثيم صفة وهم الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح ومسيلمة وطلحة. (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) يلقون فعل مضارع والواو فاعل وهو يعود على الشياطين فتكون الجملة حالية أو يعود على كل أفاك أثيم من حيث أنه جمع في المعنى فتكون الجملة مستأنفة أو صفة لكل أفاك أثيم، ومعنى إلقائهم(7/146)
السمع إنصاتهم الى الملأ الأعلى ليسترقو شيئا أو إلقاء الشيء المسموع الى الكهنة، والسمع مفعول به والواو حالية وأكثرهم مبتدأ وكاذبون خبر والجملة حالية. (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)
كلام مستأنف أيضا مسوق لإبطال كونه شاعرا كما زعموا وسيأتي بحث ضاف عن الشعر ومن هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون في باب الفوائد والشعراء مبتدأ وجملة يتبعهم خبر ويتبعهم فعل مضارع ومفعول به مقدم والغاوون فاعل مؤخر. (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) الجملة مفسرة والهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وأن وما بعدها سدت مسد مفعولي تر وفي كل واد متعلقان بيهيمون ويهيمون فعل مضارع وفاعل والجملة خبر أنهم، ويجوز أن تعلق الجار والمجرور بمحذوف هو الخبر وجملة يهيمون حالية، وتمثيل ذهابهم في كل شعب من القول بالوادي سيأتي بحثه في باب البلاغة.
(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) جملة معطوفة. (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً) إلا أداة استثناء والذين مستثنى من الشعراء المذمومين وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا داخل في حيز الصلة وذكروا الله عطف أيضا وكثيرا صفة لمفعول مطلق محذوف أي ذكروا الله ذكرا كثيرا أو صفة لظرف زمان محذوف أي وقتا كثيرا.
(وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) عطف على ما تقدم وما مصدرية أي من بعد ظلمهم من إضافة المصدر لمفعوله. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) الواو استئنافية والسين حرف استقبال ويعلم فعل مضارع والذين فاعله وجملة ظلموا صلة وأي منقلب منصوب على المفعولية المطلقة لأن أيا تعرب بحسب ما تضاف إليه وقد علقت يعلم(7/147)
عن العمل، هذا والعامل في أي هو ينقلبون لا يعلم لأن أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها، قال النحاس: «وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه لدخل بعض المعاني في بعض» .
البلاغة:
في قوله تعالى: «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون» استعارة تمثيلية لطيفة وليس ثمة واد ولا شعاب ولا هيام وانما هو تغلغل الى مناحي القول، واعتساف في الأوصاف والتغزل والتشبيب والنسيب وقلة مبالاة بما يهتكونه من أعراض، ويرجفون به من أقوال، وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام على الشعر في باب الفوائد، وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض إغلاق الختام
فقال قد وجب عليك الحد، فقال يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله «وأنهم يقولون ما لا يفعلون» .
الفوائد:
1- فضل الشعر:
واستثناء الشعراء الصالحين الذين ينافحون دون الأوطان، ويدعون الى الفضائل والإصلاح، ويصورون عيوب المجتمع وسيئاته لرأب صدوعه، يدل على ما للشعر من مكانة سامية ومنزلة عالية، وقد(7/148)
روى البخاري عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشعر حكمة، وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يتكلم بكلام فقال: إن من البيان سحرا وان من الشعر حكمة. أخرجه أبو داود، وقالت عائشة رضي الله عنها:
الشعر كلام منه حسن ومنه قبيح فخذ الحسن ودع القبيح، وقال الشعبي: كان أبو بكر يقول الشعر وكان عمر يقول الشعر وكان عثمان يقول الشعر وكان علي أشعر من الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين.
بين النظم والنثر:
وقال صاحب العمدة: «وكلام العرب نوعان: منظوم ومنثور، ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة ومتوسطة ورديئة، فإذا اتفق الطبقتان في القدر وتساوتا في القيمة ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرا في التسمية لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر، وهو أخو اللفظ ونسيبه، إليه يقاس وبه يشبه، إذا كان منثورا لم يؤمن عليه ولم ينتفع به في الباب الذي له كسب ومن أجله انتخب، وإن كان أعلى قدرا وأغلى ثمنا، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع وتدحرج عن الطباع.
الكذب مذموم إلا من الشعراء:
ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسّن الكذب واغتفر له قبحه، فقد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن زهير لما أرسل الى أخيه بجير ينهاه عن الإسلام(7/149)
وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بما أحفظه فأرسل اليه أخوه: ويحك ان النبي أوعدك لما بلغه عنك وقد كان أوعد رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه فقتلهم يعني ابن خطل وابن حبابة وان من بقي من شعراء قريش كابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول الله فإنه لا يقتل من جاء تائبا وإلا فانج الى نجائك فإنه والله قاتلك، فضاقت به الأرض فجاء الى رسول الله متنكرا فما صلى البني صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله ثم قال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد أتى مسنأمنا تائبا أفتؤمنه فآتيك به؟ قال: هو آمن فحسر كعب عن وجهه وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك أنا كعب بن زهير فأمنه رسول الله وأنشد كعب قصيدته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيّم إثرها لم يفد مكبول
يقول فيها بعد تغزله وذكر شدة خوفه ووجله:
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الق ... سر آن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة فلم ... أذنب وقد كثرت فيّ الأقاويل(7/150)
فلم ينكر عليه النبي قوله، وما كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه ووهب له بردته فاشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم وقال العتبي بعشرين ألفا وهي التي توارثها الخلفاء يلبسونها في الجمع والأعياد.
ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أرغاء كرغاء البعير، فقال حسان: دعني عنك يا عمر فو الله انك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد لمن هو خير منك فما يغير عليّ ذلك فقال عمر: صدقت.
وقال صاحب العمدة: «فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله تعالى «والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون» فهو غلط وسوء تأول لأن المقصود بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء ومسّوه بالأذى فأما من سواهم من المؤمنين فغير داخل في شيء من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله عز وجل ونبه عليهم فقال: «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا» يريد شعراء النبي الذين ينتصرون له ويجيبون المشركين عنه كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وقد قال فيهم النبي صلى الله عليهم وسلم «هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نصح النبل» وقال لحسان بن ثابت: «اهجهم- يعني قريشا- وروح القدس معك فو الله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام والق أبا بكر يعلمك تلك الهنات» فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي شعراء يثيبهم على الشعر ويأمرهم بعمله ويسمعه منهم.(7/151)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا» فإنما هو من غلب الشعراء على قلبه وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فرضه ومنعه من ذكر الله تعالى.
وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين والجلّة من الصحابة والتابعين والفقهاء المشهورين:
فمن ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قالوا:
واسمه عبد الله بن عثمان ويقال: عتيق لقب له قال في غزوة عبيدة ابن الحارث:
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقت أوامر في العشيرة حادث
ترى من لؤي فرقة لا يصدّها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذّبوا ... عليه وقالوا: لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم الى الحق أدبروا ... وهرّوا هرير المجمرات اللواهث
فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث(7/152)
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحلّ مثل الخ
بائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم
بلابث فأولى برب الراقصات عشية ... حراجيح تخدي في السريح الر
ثائث كأدم ظباء حول مكة عكف ... يردن حياض البئر ذات الن
بائث لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولا ب
حانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الط
وامث تغادر قتلى تعصب الطير حولهم ... ولا يرأف الكفار رأف ابن
حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يبتغي الشر باحث(7/153)
فإن شتموا عرضي على سوء رأيهم ... فإني من أعراضهم غير شاعث
هذا ولا بد من الإلماع الى أن ابن هشام قال في سيرته: «وأكثر أهل العلم ينكر هذه القصيدة لأبي بكر» .
ومن شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة:
هوّن عليك فإن الأمو ... ر بكف الإله مقاديرها
فليس يأتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها
ومن شعره أيضا وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس إليه:
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والجنّ والإنس فيما بينها ترد
حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا(7/154)
ومن شعر عثمان بن عفان رضي الله عنه:
غنى النفس يغني النفس حتى يكفّها ... وإن عضّها حتى يضر بها الفقر
وما عمرة- فاصبر لها إن لقيتها- بكائنة إلا سيتبعها يسر ومن شعر علي بن أبي طالب ما قاله يوم صفين يذكر همدان ونصرهم إياه:
ولما رأيت الخيل ترجم بالقنا ... نواصيّها حمر النحور دوامي
وأعرض نقع في السماء كأنه ... عجاجة دجن ملبس بقتام
ونادى ابن هند في الكلاع وحمير ... وكندة في لخم وحيّ جذام
تيمّمت همدان الذين هم هم ... - إذا ناب دهر- جنتي وسهامي
فجاوبني من خيل همدان عصبة ... فوارس من همدان غير لئام(7/155)
فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها ... وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام
فلو كنت بوّابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
ومن شعر الحسن بن علي وقد خرج على أصحابه مختضبا، رواه المبرد:
تسوّد أعلاها وتأبى أصولها ... فليت الذي يسودّ منها هو الأصل
ومن شعر الحسين بن علي وقد عاتبه أخوه الحسن في امرأته:
لعمرك انني لأحب دارا ... تحل بها سكينته والرباب
أحبهما وأبذل جلّ مالي ... وليس للائمي عندي عتاب
ومن الخلفاء كثيرون قالوا الشعر فمن شعر عمر بن عبد العزيز:
أيقظان أنت اليوم أم أنت حالم ... وكيف يطيق النوم حيران هائم(7/156)
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت ... جفونا لعينيك الدموع الس
واجم نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك
لازم وتشغل فيما سوف تكره غبّه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
واشتهر من الفقهاء محمد بن إدريس الشافعي بالشعر فكان من أحسن الناس افتنانا بالشعر، وهو القائل:
ومتعب العيس مرتاحا إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق مفرقه ... لو كان يعلم غيبا مات من كمد
من كان لم يؤت علما في بقاء غد ... ماذا تفكره في رزق بعد غد
ومن روائعه المشهورة قوله في الحظ:
الجدّ يدني كلّ شيء شاسع ... والجدّ يفتح كل باب مغلق(7/157)
فإذا سمعت بأن مجدورا حوى ... عودا فأورق في يديه
فصدق وإذا سمعت بأن محروما أتى ... ماء ليشربه فجفّ
فحقق وأحقّ خلق الله بالهم امرؤ ... ذو همة يبلى برزق
ضيق ولربّما عرضت لنفسي فكرة ... فأودّ منها أنني لم أخلق
وحسبنا ما تقدم من الاستشهاد فذلك قد يخرج بنا عن الغرض.
نصائح بوالو للشاعر:
هذا ونختم المبحث بالنصائح القيمة التي أوردها الكاتب الفرنسي بوالو للشاعر وخلاصتها: انه على الشاعر أن يتنزه عن الإباحية، صحيح ان تصوير الحب مباح ولكن بحيث لا يكون في هذا التصوير أي نوع من أنواع التبذّل، وينبغي أن يتجرد من الغيرة، إنها آفة من آفات رجال الأدب وهي رذيلة إن وجدت في أحدهم دلت على ضعف مواهبه.
ثم ينبغي عليه أن يكون طيب الصحبة ممتع الحديث، ثم إن مما يشين شاعرا من الشعراء أن يوجه همه الى كسب المال، كما يجدر به- على(7/158)
العكس- أن يسعى لبلوغ المجد، وعليه أن لا يحطّ من قدر الشعر ذلك الفن الإلهي الذي هذب فيما مضى النفوس وألهب فيها الوطنية وعلم الحكمة والفضيلة.
2- من هو سطيح الكاهن:
روى التاريخ أن سطحيا الغساني كان أكهن الناس وقد أنذر بسيل العرم وكان جسده يدرج كما يدرج الثوب خلا جمجمة رأسه وإذا مست باليد أثرت فيه للين عظمها وكان أبدا منسطحا على الأرض عاش 150 سنة على ما قيل، ومات في الليلة التي ولد فيها محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كهانته انه لما كان ليلة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتج إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة فأعظم ذلك أهل المملكة وكتب الى كسرى صاحب الشام أن وادي السماوة قد انقطع في تلك الليلة وكتب إليه صاحب اليمن أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية وكتب إليه صاحب فارس أن النار خمدت تلك الليلة فلما تواترت عليه الكتب أظهر سريره وبرز الى أهل مملكته فأخبرهم الخبر فقال الموبذان: أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني، رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا قال فما عندك في تأويلها؟ قال:
ما عندي شيء ولكن أرسل الى عاملك في الحيرة يوجه إليك رجلا من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان فوجه اليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني فأخبره كسرى بالخبر فقال: أيها الملك ما عندي فيها من شيء ولكن جهزني الى خالي سطيح فجهزه فلما قدم عليه وجده قد احتضر فناداه فلم يجبه فقال:(7/159)
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... أتاك شيخ الحيّ من آل سنن
أبيض فضفاض الرداء والرسن فرفع اليه سطيح رأسه وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، أقبل الى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت الواد وانتشرت في البلاد، يا عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة، وفاض وادي السماوة، وظهر صاحب الهراوة، فليست الشام لسطيح بشام يملك منهم ملوك وملكات، بعدد ما سقط من الشرفات، وكل ما هو آت آت ثم قال:
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
منهم بنو الصرح بهرام وأخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
فربما أصبحوا منهم بمنزلة ... يهاب صولهم الأسد المهاصير
حثوا المطي وجدوا في رحيلهم ... فما يقوم لهم سرج ولا كور(7/160)
والناس أبناء علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور وم
هجور والخير والشر مقرونان في قرن ... والخير متبع والشر محذور
فأتى كسرى فأخبره فغمّه ذلك فقال: الى أن يملك منا أربعة عشر ملكا يدور الزمان فملكوا كلهم في أربعين سنة.(7/161)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
(27) سورة النمل مكيّة وآياتها ثلاث وتسعون
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
الإعراب:
(طس. تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) طس تقدم الكلام على اعرابها ومعناها في بحث فواتح السور. وتلك مبتدأ وآيات القرآن خبر وكتاب مبين عطف على القرآن ومبين صفة، وسيأتي سر التنكير والعطف في باب البلاغة. (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) يجوز في هدى النصب على الحال والعامل فيها ما في تلك من معنى الاشارة أي هاديه ومبشرة ويجوز فيها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هي هدى وبشرى، ومعنى هداها للمؤمنين وهم مهديون زيادتها في هداهم.(7/162)
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الذين نعت للمؤمنين ولك أن تقطعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين وجملة يقيمون الصلاة صلة الذين وجملة يؤتون الزكاة عطف على يقيمون الصلاة وهم الواو للحال وهم مبتدأ أو للعطف وجملة يوقنون خبره وبالآخرة متعلقان بيوقنون وهم مبتدأ جيء للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة وسيأتي سر التغيير في النظم في باب البلاغة. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) كلام مستأنف مسوق لبيان السبب في عدم إيمانهم وتحيرهم وتردّدهم في أعمالهم، وان واسمها وجملة لا يؤمنون صلة الذين وبالآخرة جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وجملة زينا خبر إن وزينا فعل وفاعل ولهم متعلقان بزينا وأعمالهم مفعول به والفاء عاطفة وهم مبتدأ وجملة يعمهون خبره أي يتحيرون ويترددون بين تركها لأنها واضحة البطلان ظاهرة السوء وبين الاستمرار عليها، وقيل معنى يعمهون يستمرون من غير تردد إذ لم يدر في خلدهم لحظة الإقلاع عنها وهو جميل وقوي ولكن العمه هو كما يقول الزمخشري وغيره من أئمة اللغة التردد والتحير كما يكون حال الضالّ عن الطريق، وعن بعض الأعراب أنه دخل السوق وما أبصرها قط فقال: رأيت الناس عمهين أراد مترددين في أعمالهم وأشغالهم، وتكاد تجمع معاجم اللغة على أن العمه مصدر عمه يعمه ويعمه من باب ضرب وفتح عمها وعموها وعموهية وعمهانا أي تحير في طريقه أو أمره وتردد في الضلال فهو عمه وجمعه عمهون وعامه وجمعه عامهون وعمّه.
(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبره ولهم خبر مقدم وسوء العذاب مبتدأ مؤخر(7/163)
والجملة صلة وهم مبتدأ وفي الآخرة متعلقان بالأخسرون والأخسرون خبره وهم مبتدأ جيء به للفصل بين المبتدأ وخبره ليتصل بالخبر في الصورة وقد تقدم بحثه، هذا ولا بد من الاشارة الى أن قوله «الأخسرون» يحتمل أنها على بابها من التفضيل وذلك بالنسبة للكفار ويحتمل أنها للمبالغة لا للتشريك لأن المؤمن لا خسران له في الآخرة البتة. (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) الواو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وجملة تلقى خبرها ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت والقرآن مفعول به ثان ومن لدن الجار والمجرور متعلقان بتلقى وحكيم مضاف اليه وعليم صفة.
البلاغة:
1- التنكير:
التنكير فقد نكر الكتاب المبين ليبهم بالتنكير فيكون أفخم له، ومثله في «مقعد صدق عند مليك مقتدر» أما عطفه على القرآن مع أنه هو القرآن نفسه فهو من قبيل عطف إحدى الصفتين على الأخرى كقولك: هذا فعل السخي والجواد الكريم ولأن المعطوف فيه صفة زائدة على مفهوم المعطوف عليه.
2- تكرير الضمير:
وفي قوله «وهم بالآخرة هم يوقنون» كرر الضمير حتى صار معنى الكلام ولا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الايمان والعمل الصالح لأن خوف الآخرة يحملهم على تحمل المشاق، وقد سبق لنا أن ذكرنا أن إيقاع الضمير مبتدأ يفيد الحصر كما مر في قوله(7/164)
تعالى: «هم ينشرون» ان معناه لا ينشر إلا هم، وأما وجه تكراره هنا فهو انه كان أصل الكلام هم يوقنون بالآخرة ثم قدم المجرور على عامله عناية به فوقع فاصلا بين المبتدأ والخبر فأريد أن يلي المبتدأ خبره وقد حال المجرور بينهما فطري ذكره ليلية الخبر ولم يفت مقصود العناية بالجار والمجرور حيث بقي على حاله مقدما ولا يستنكر أن تعاد الكلمة مفصولة له وحدها بعد ما يوجب التطرية.
3- التعبير بالاسمية والفعلية:
قلنا في مواطن من هذا الكتاب إن التعبير يكون أحيانا بالجملة الاسمية وأحيانا بالجملة الفعلية على أن ذلك ليس متروكا الى الاعتباط وإنما يعدل عن أحد التعبيرين لضرب من التأكيد والمبالغة والاستمرار والانقطاع، فإن الايمان والإيقان بالآخرة أمر ثابت مطلوب دوامه ولذلك أتى به جملة اسمية وجعل خبرها فعلا مضارعا فقال «وهم بالآخرة هم يوقنون» للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد أما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مما يتكرر ويتجدد في أوقاتهما المعينة ولذلك أتى بهما فعلين فقال «الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» .
الفوائد:
أورد الامام الزمخشري سؤالا في هذا الصدد بناء على قاعدته الاعتزالية وهو «فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم الى ذاته وقد أسنده الى الشيطان في قوله وزين لهم الشيطان أعمالهم. وقد أجاب بقوله: «قلت: بين الاسنادين فرق وذلك أن إسناده الى الشيطان حقيقة وإسناده الى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة، والثاني أن(7/165)
يكون من المجاز الحكمي، فالطريق الاول انه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا إنعام الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الروح والترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، واليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم في قوله «ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر» والطريق الثاني أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند اليه لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها زينها الله لهم فعمهوا عنها وضلوا، ويعزى الى الحسن.
وقد أجاب أهل السنة بأن هذا الجواب مبني على القاعدة الفاسدة في إيجاب رعاية الصلاح والأصلح وامتناع أن يخلق الله تعالى للعبد إلا ما هو مصلحة، فمن ثم جعل التزيين الى الله تعالى مجازا والى الشيطان حقيقة ولو عكس الجواب لفاز بالصواب، وتأمل ميله الى التأويل الآخر من أن المراد أعمال البر على بعده لأنه لا يعرض لقاعدته بالنقض، على أن التزيين قد ورد في الخير في قوله تعالى: «ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم» على أن غالب وروده في غير البر كقوله:
«زين للناس حب الشهوات» ، «زين للذين كفروا الحياة الدنيا» و «كذلك زين للمسرفين» ومما يبعد حمله على أعمال البر إضافة الأعمال إليهم في قوله: أعمالهم، وأعمال البر ليست مضافة إليهم لأنهم لم يعملوها قط فظاهر الاضافة يعطي ذلك، ألا ترى الى قوله تعالى: «ولما يدخل الايمان في قلوبكم» وقوله: «قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان» فأطلق الايمان في المكانين عن إضافته إليهم لأنه لم يصدر منهم، وأضاف الإسلام الظاهر إليهم لأنه صدر منهم.(7/166)