المصدر المصرح بلفظه وأجاز ابن جني أن تقع ظرفا كما يقع صريح المصدر فأجاز في قول تأبط شرا:
وقالوا لها لا تنكحيه فإنه ... لأول نصل أن يلاقي مجمعا
وقول أبي ذؤيب الهذلي:
وتالله ما إن شهلة أمّ واحد ... بأوجد مني أن يهان صغيرها
أن يكون أن يلاقى تقديره وقت لقائه الجمع وان يكون ان يهان تقديره وقت إهانة صغيرها فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية وتبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات ولا يقدر فيه معنى النفي.
(فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ: اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) الفاء عاطفة ولما تقدمت وآتوه فعل وفاعل ومفعول به أول وموثقهم مفعول به ثان والله مبتدأ وعلى ما نقول متعلقان بوكيل ووكيل خبر الله. (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) يا حرف نداء وبني منادى مضاف وعلامة نصبه الياء لأنه ملحق بجمع المذكر السالم ولا ناهية وتدخلوا فعل مضارع مجزوم بلا ومن باب جار ومجرور متعلقان بتدخلوا وواحد صفة خشي عليهم أن يلفتوا الأنظار بدخولهم جملة واحدة فيعانوا أو يصيبهم سوء.
(وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) وادخلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن أبواب متعلقان بادخلوا ومتفرقة صفة وما أغني: ما نافية وأغني فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وعنكم متعلقان بأغنى ومن الله حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إن نافية والحكم مبتدأ وإلا(5/20)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
أداة حصر ولله خبر وعليه جار ومجرور متعلقان بتوكلت وعليه عطف جملة على جملة وفليتوكل اللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والمتوكلون فاعل.
[سورة يوسف (12) : الآيات 68 الى 73]
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
اللغة:
(الحاجة) الأرب واللبانة وهي ترجع في اشتقاقها الى فكرة واحدة هي الاقامة على الشيء والتشبث به ذلك أن صاحب الحاجة كلف بها(5/21)
ملازم للفكر فيها مقيم على تنجزها والأصل في (الْحاجِّ) أنه شجر له شوك وما كانت هذه سبيله فهو متشبث بالأشياء كما يقول ابن جني في الخصائص، فأي شيء مر عليه اعتقله وتشبث به فسميت الحاجة به تشبيها بالشجرة ذات الشوك أي أنا مقيم عليها متمسّك بقضائها كهذه الشجرة في اجتذابها ما مرّ بها وقرب منها والحوجاء منها ومنها تصرف الفعل احتاج يحتاج احتياجا وأحوج يحوج وحاج يحوج فهو حائج.
والأرب من الأربة وهي العقدة وعقد مؤرّب: مشدد والحاجة معقودة بنفس الإنسان متردّدة على فكره، واللبانة من قولهم تلبّن بالمكان إذا أقام به ولزمه وهذا هو المعنى عينه.
وهذا بحث جليل يؤدي إذا تعورف الى معرفة معاني الكلمات وتصور مدلولاتها وقد ذكر الزجاج في أماليه عن ابن الاعرابي ان العشقة شجرة يقال لها اللبلابة تخضر ثم تدق ثم تصفر ومن ذلك اشتقاق العاشق. وفي اللغة: عشق به كفرح لصق به والعشق عشق المحب بمحبوبه أو هو افراط الحب وشدة التعلق به فأصل المعنى المادي ظاهر انقلب الى معنوي عريق الصلة بينه وبين المشتقات. وأورد الزجاج أيضا أن أصل المغازلة من الإدارة والفتل لأنه إدارة عن أمر ومنه سمي المغزل لاستدارته وسرعته في دورانه وسمي الغزال غزالا لسرعته وسميت الشمس غزالة لاستدارتها وسرعتها وأورد التعليل في الإدارة عن الأمر بقوله «ويقال غازل الكلب الظبي إذا عدا في أثره فلحقه وظفر به ثم عدل عنه، ومنه مغازلة النساء قال: كأنها يلاعبها الرجل فتطمعه في نفسها فإذا رام تقبيلها انصرفت» ثم ان الغزالة قد تكون مؤنث الغزال أيضا، وقد ورد في كلام العرب نظما ونثرا قديما وحديثا وأنكره الصفدي في شرح لامية العجم وقال: لم يسمع إلا بمعنى الشمس وقد(5/22)
ردّه الدماميني وأورد له شواهد كثيرة ولولا صحته لم تقع التورية في مثل قول الشاعر في العقاب:
ترى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله
والموغل في تتبع العلاقات القائمة بين المفردات يقع منها على مذهب طريف وسر عميق في نشأة اللغة وتشقق الكلام فيها، وفي هذا الكتاب يبدو لك العجب العجيب من هذه الأسرار.
(السِّقايَةَ) : مشربة يسقى بها وهي الصواع الآتي ذكره وكان يشرب فيه الملك فيسمى سقاية باعتبار أول حالة ثم صاعا باعتبار آخر أمره لأن الصاع آلة الكيل وقيل كانت إناء مستطيلا يشبه المكوك وقيل هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم وقيل كانت من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت من ذهب وقيل كانت مرصعة بالجواهر.
(رَحْلِ) الرحل بفتح الراء المشدّدة ما يجعل على ظهر البعير كالسرج والمراد به هنا مكان ركوبه.
(الْعِيرُ) بكسر العين: الإبل التي يحمل عليها لأنها تعير أي تذهب وتجيء، وقيل: قافلة الحمير ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير والمراد أصحاب العير كما سيأتي في باب البلاغة.
(صُواعَ) : الصواع بضم الصاد المشددة والصّاع لغتان معنا هما واحد وهو المكيال وقد تقدم انه هو السقاية وانما اتخذ هذا الإناء مكيالا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت.(5/23)
(السَّارِقُ) : هو من يسرق المتاع من الأحراز وللعرب في لغتهم تفصيل حول السارقين فإذا كان يقطع الطريق على القوافل فهو لص وفرضوب فإذا كان يسرق الإبل فهو خارب أو الغنم فهو أحمص والحميصة الشاة المسروقة فإذا كان يسرق الدراهم بين أصابعه فهو قفاف فإذا كان يشق عنها الجيوب فهو طرّار فاذا كان تخصص بالتلصص والخبث والفسق فهو طمل فإذا كان يسرق ويزني ويؤذي الناس فهو داعر فاذا كان خبيثا منكرا فهو عفر وعفرية نفرية فاذا كان أخبث اللصوص فهو عمروط فاذا كان يدل اللصوص ويندس لهم فهو شص فإذا كان يأكل ويشرب معهم ويحفظ متاعهم ولا يسرق معهم فهو لفيف.
هذا واللص بتثليت اللام وفرق بعض اللغويين بينها فقال:
إغلاق باب ستر فعل لصّ ... وسارق بالحركات لصّ
جمع الألصّ من رجال لصّ ... منضم أضراس فكن ذا خبر
الإعراب:
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ) لما ظرفية حينية أو رابطة ومن حرف جر وحيث ظرف مبني على الضم في محل جر بمن والجار والمجرور متعلقان بدخلوا والمعنى متفرقين وجملة أمرهم أبوهم مضافة للظرف. (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الجملة جواب لما وقيل الجواب هو آوى اليه أخاه قال أبو البقاء وهو جواب لما الأولى والثانية، وما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير التفرق المدلول عليه بالكلام السابق وعنهم متعلقان بيغني ومن الله حال ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به. (إِلَّا حاجَةً فِي(5/24)
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها)
استثناء منقطع على معنى ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها وهي حدبه عليهم وفي نفس صفة ويعقوب مضاف اليه وجملة قضاها صفة لحاجة. (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الواو للحال وان واسمها واللام المزحلقة وذو علم خبر إن وجملة علمناه صلة ولكن الواو حالية أيضا ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبر. (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) تقدم اعرابها وأخاه مفعول آوى والجملة جواب لما الاولى والثانية. (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن واسمها وأنا مبتدأ وأخوك خبر والجملة خبر ان والجملة مستأنفة وهكذا كل ما اقتضى جوابا وذكر جوابه ثم جاءت بعده قال فهي مستأنفة، وإلقاء الفصيحة ولا ناهية وتبتئس مضارع مجزوم بلا وبما متعلقان بتبتئس وجملة كانوا صلة وجملة يعملون خبر كانوا. (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) الفاء عاطفة للدلالة على رغبتهم الحثيثة بالسفر ولما ظرفية أو رابطة وجهزهم فعل وفاعل ومفعول به وبجهازهم جار ومجرور متعلقان بجهزهم وجملة جعل السقاية في رحل أخيه لا محل لها وفي رحل متعلقان بجعل. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) ثم حرف عطف وتراخ وأذن مؤذن فعل وفاعل أي نادى مناد، وعطف بثم للاشارة إلى إمهال يوسف إياهم حتى انطلقوا وأيتها منادى محذوف منه حرف النداء وهو نكرة مقصودة مبني على الضم والهاء للتنبيه والعير بدل من أيتها وان واسمها واللام المزحلقة وسارقون خبرها.
(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ) الواو للحال بتقدير قد وعليهم متعلقان بأقبلوا وماذا اسم استفهام مفعول مقدم لتفقدون أو ما اسم استفهام وذا اسم موصول خبر وجملة تفقدون صلة وقد تقدم القول في ماذا. (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) جملة نفقد صواع الملك مقول(5/25)
القول. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) الواو عاطفة ولمن خبر مقدم وجملة جاء به صلة وحمل بعير مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وأنا مبتدأ وبه متعلقان بزعيم وزعيم أي كفيل خبر. (قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ) التاء حرف جر وقسم ولله لفظ الجلالة مجرورة بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم واللام واقعة في جواب القسم أو هو تأكيد للقسم الاول وقد حرف تحقيق وعلمتم فعل وفاعل وما نافية وجئنا فعل وفاعل ولنفسد اللام للتعليل والفاعل مستتر تقديره نحن وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بنفسد، وما كنا: ما نافية وكان واسمها وسارقين حبرها. وأقسموا بالتاء من حروف القسم لما فيها من معنى التعجب غالبا كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر ولا تدخل التاء في القسم إلا على لفظ الله من بين أسمائه تعالى، لا تقول تالرحمن ولا تالرحيم ولكن حكي عن العرب دخولها على الرب وعلى الرحمن وعلى حياتك قالوا ترب الكعبة وتالرحمن وتحياتك.
البلاغة:
في قوله تعالى «أيتها العير انكم لسارقون» مجاز مرسل علاقته المجاورة والمراد أصحاب العير كما ورد في الحديث «يا خيل الله اركبي» وفي العير سؤال جرى في مجلس سيف الدولة بن حمدان وكان السائل ابن خالوية والمسئول المتنبي قال ابن خالوية: والبعير أيضا الحمار وهو صرف نادر ألقيته على المتنبي بين يدي سيف الدولة وكانت فيه خنزوانة وعنجهية فاضطرب فقلت المراد بالبعير في قوله تعالى «ولمن جاء به حمل بعير» الحمار وذلك أن يعقوب وأخوه يوسف عليهم السلام كانوا(5/26)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
بأرض كنعان وليس هناك إبل وانما كانوا يمتارون على الحمير وكذلك ذكره مقاتل بن سليمان في تفسيره.
[سورة يوسف (12) : الآيات 74 الى 80]
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)(5/27)
اللغة:
(كِدْنا) : الكيد في الأصل الحيلة والخديعة وذلك في حق الله تعالى محال وقد تقدم أن أمثال هذه الألفاظ الموهمة في حق الله تعالى تحمل على نهايات الأغراض لا على بداياتها فلكيد السعي في أمر الحيلة والخديعة ونهايته إيقاع الإنسان من حيث لا يشعر في أمر مكروه ولا سبيل له الى دفعه فالكيد بالنسبة لله تعالى محمول على هذا المعنى، وقال ابن الاعرابي: الكيد التدبير بالباطل وبالحق فعلى هذا يكون المعنى كذلك دبرنا ليوسف. وعبارة ابن الخشاب: «ولكاد: استعمال آخر تكون فيه بمعنى أراد وعلى ذلك أنشد أبو الحسن «الأخفش» وغيره:
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من عصر الشبيبة ما مضى
وحسلوا عليه قوله سبحانه: «كذلك كدنا ليوسف» أي أردنا.
(اسْتَيْأَسُوا) : يئسوا وزيادة السين والتاء للمبالغة نحو عجب واستعجب وسخر واستسخر.
(خَلَصُوا) : اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم أحد.
(نَجِيًّا) : النجي فعيل بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المعاشر والمخالط كقوله تعالى: «وقربناه نجيا» أي مناجيا وهذا الاستعمال يفرد مطلقا يقال: هم خليطك وعشيرك أي مخالطوك ومعاشروك، وإما لأنه على صفة فعيل بمنزلة صديق وبابه فوحد لأنه بزنة المصادر كالصهيل والوحيد والذميل وإما لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل النجوى بمعناه.(5/28)
الإعراب:
(قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ) الفاء الفصيحة وما اسم استفهام مبتدأ وجزاؤه خبر والضمير للصواع أي فما جزاء سرقته أو الضمير للسارق وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكاذبين خبر كان وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله أي فما جزاء سرقة الصواع أو السارق. (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) جزاؤه مبتدأ ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان ووجد صلة أو فعل الشرط وفي رحله متعلقان بوجد والفاء رابطة على الوجهين وهو مبتدأ وجزاؤه خبر وجملة فهو جزاؤه خبر من، ومن وما في حيزها خبر المبتدأ الأول والضمير على هذا الإعراب يعود على السارق ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ والهاء تعود على المسروق ومن وجد في رحله خبره ومن بمعنى الذي والتقدير وجزاء الصواع الذي وجد في رحله، ويجوز أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسئول عنه جزاؤه أي استرقاقه جزاؤه وكانت تلك شريعة آل يعقوب. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي نجزي الظالمين جزاء كذلك الجزاء والظالمين مفعول به أي فهو كذلك في شريعتنا المقررة بيننا. (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) الفاء عاطفة وبدأ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وبأوعيتهم جار ومجرور متعلقان ببدأ وقبل ظرف زمان متعلق بمحذوف حال ووعاء أخيه مضافان وثم حرف عطف واستخرجها فعل وفاعل مستتر ومفعول به والهاء تعود على الصواع لأن فيه التذكير والتأنيث أو على السقاية لأن الصواع يحمل معناها ومن وعاء أخيه متعلقان باستخرجها. (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي مثل ذلك الكيد كدنا ليوسف فالكاف نعت لمصدر محذوف كما تقدم وليوسف متعلقان(5/29)
بكدنا. (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها مستتر واللام للجحود ويأخذ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود واللام ومجرورها في موضع الخبر وأخاه مفعول به وفي دين الملك حال. (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الاستثناء منقطع إذ الأخذ بدين الملك لا يشمل المراد بقوله إلا أن يشاء الله لأنه أخذه بشريعة يعقوب أو الاستثناء متصل من أعم الأحوال أي إلا حال مشيئته واذنه بذلك وإرادته له وجملة ما كان ليأخذ أخاه إلخ تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف أو تفسير له وعلى كل لا محل لها. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) درجات منصوب على الظرفية ومن مفعول به وجملة نشاء صلة وفوق الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكل ذي علم مضافان وعليم مبتدأ مؤخر. (قالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) إن شرطية ويسرق فعل الشرط والفاء رابطة لاقتران الجواب بقد وسرق أخ فعل وفاعل والجملة في محل جزم جواب الشرط وله صفة ومن قبل حال، قالوا ذلك متنصلين من التهمة التي ثبتت عليهم مبرئين لساحتهم يعنون ان هذه الفعلة ليست ببعيدة من بنيامين فإن أخاه الذي هلك كان سارقا أيضا ونحن لسنا على طريقتهما لأنهما من أم أخرى ويروي المؤرخون أن يوسف كان قد سرق لأبي أمه صنما مما استفاض ذكره في المطولات والأولى ما حكاه الزجاج أنه قال: «كذبوا عليه فيما نسبوه اليه» ونقول ما هذه الكذبة بأول كذباتهم. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) الفاء عاطفة وأسرها فعل ومفعول به والهاء تعود للكلمة الآتية وهي أنتم شر مكانا فهو إضمار على شريطة التفسير ويوسف فاعل وفي نفسه متعلقان بأسرها ولم يبدها عطف على أسرها ولهم متعلقان بيبدها. (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أنتم مبتدأ وشر خبر ومكانا تمييز وجملة أنتم شر مكانا بدل من الهاء(5/30)
ويجوز أن يعود الضمير أي الهاء على الحجة فيكون المعنى فأسر يوسف في نفسه الحجة عليهم في ادعائهم عليه السرقة ولم يبدها لهم وقال أنتم شر مكانا، والله مبتدأ وأعلم خبره وبما متعلقان بأعلم وجملة تصفون صلة. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) يا حرف نداء وأيها منادى نكرة مقصودة والهاء للتنبيه والعزيز بدل وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم وشيخا اسمها المؤخر وكبيرا صفة. (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الفاء
الفصيحة وخذ فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وأحدنا مفعول به ومكانه ظرف مكان متعلق بخذ وان واسمها وجملة نراك خبرها ومن المحسنين متعلق بنراك على أنه مفعول ثان. (قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) معاذ الله نصب على المصدر بفعل محذوف أي نعوذ بالله معاذا وأن نأخذ أن وما في حيزه منصوب بنزع الخافض متعلق بنعوذ وإلا أداة حصر ومن مفعول نأخذ وجملة وجدنا صلة ومتاعنا مفعول وجدنا وعنده متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لوجدنا أي كائنا عنده. (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) ان واسمها واذن جواب وجزاء واللام المزحلقة وظالمون خبر إنا. (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واستيئسوا فعل وفاعل ومنه متعلقان باستيأسوا وخلصوا فعل وفاعل ونجيا حال من فاعل خلصوا أي اعتزلوا هذه الحالة متناجين وإنما أفردت الحال وصاحبها جمع لأن النجي يفرد مطلقا كما تقدم في باب اللغة. (قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتعلموا مضارع مجزوم بلم وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي تعلموا وان واسمها وجملة قد أخذ خبر وعليكم متعلقان بأخذ وموثقا مفعول به ومن الله صفة لموثقا.
(وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) في اعراب هذا الكلام وجوه أظهرها(5/31)
أن من قبل خبر مقدم وبني قبل على الضم لانقطاعه عن الاضافة لفظا لا معنى أي ومن قبل هذا، وما مصدرية وهي مع مدخولها مبتدأ مؤخر ومعناه ووقع من قبل هذا تفريطكم وفي يوسف متعلقان بفرطتم.
ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى ومن قبل هذا الذي فرطتموه في يوسف من الجناية العظيمة ومحل الموصول الرفع على الابتداء أيضا ويجوز أن تكون ما صلة أي زائدة لتحسين اللفظ فمن متعلقة بالفعل وهو فرطتم وقد رجح أبو حيان هذا الوجه. قال ابن هشام: «وقوله تعالى: ومن قبل ما فرطتم في يوسف ما إما زائدة فمن متعلقة بفرطتم وإما مصدرية فقيل هي وصلتها رفع بالابتداء وخبره من قبل وردّ بأن الغايات لا تقع أخبارا ولا صلات ولا صفات ولا أحوالا نصّ على ذلك سيبويه وجماعة من المحققين ويشكل عليهم: كيف كان عاقبة الذين من قبل وقيل نصب عطفا على ان وصلتها أي ألم تعلموا أخذ أبيكم الموثق وتفريطكم ويلزم على هذا الإعراب الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف وهو ممتع» .
هذا ما قاله ابن هشام وهو جميل غير أنّا لا نسلم به بأن الفصل ممنوع كما ذكر بل هو جائز كما ذكره ابن مالك وتمسك بعضهم لجوازه بقوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» وأجاب ابن هشام عن هذا الاعتراض في حواشي التسهيل بأن التقدير ويأمركم إذا حكمتم فهو عطف جمل.
والواو في قوله ومن قبل للحال على كل حال فالمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله والحال انكم فرطتم في يوسف من قبل.(5/32)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
(فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) الفاء عاطفة على مقدر أي سأبقى في مصر ولن أبرحها، ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأبرح فعل مضارع منصوب بلن ومعناه أفارق فهي تامة وفاعل أبرح مستتر تقديره أنا والأرض مفعول به وحتى يأذن حرف غاية وجر ويأذن فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولي متعلقان بيأذن وأبي فاعل.
(أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) أو حرف عطف ويحكم معطوف على يأذن ويجوز أن ينصب بأن مضمرة في جواب النفي والله فاعل ولي متعلقان بيحكم وهو مبتدأ وخير الحاكمين خبر.
[سورة يوسف (12) : الآيات 81 الى 86]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85)
قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86)(5/33)
اللغة:
(كَظِيمٌ) : أي مكظوم ممتلىء من الحزن ممسك عليه لا يبثّه قال قتادة: هو الذي يردد حزنه في جوفه ولم يقل إلا خيرا وفي المصباح:
«كظمت الغيظ كظما من باب ضرب وكظوما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ» وقال الزمخشري: «فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله: وهو مكظوم من كظم السقاء إذا شده على ملئه والكظم بفتح الظاء مخرج النفس يقال: أخذ بأكظامه» وأصل هذه المادة كما تقول معاجم اللغة من كظم البعير جرّته از دردها وكفّ عن الاجترار وباتت الإبل كظوما وكواظم وحفروا كظامة وكظيمة وكظائم وفي الحديث:
«أتى كظامة قوم فتوضأ» وهي الفقير يحفر من بئر الى بئر والسقاية والحوض قال طرفة:
يشربن من فضلة العقار كما استوجر ماء الكظيمة الشرب جمع شروب ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ وهو كاظم وكظمه الغيظ والغمّ: أخذ بنفسه فهو كظيم ومكظوم.
(حَرَضاً) : في المصباح: «حرض حرضا من باب تعب أشرف على الهلاك فهو حرض» ويستوي فيه الواحد وغيره أي المثنى والمجموع والمذكر والمؤنث.
الإعراب:
(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ارجعوا فعل أمر وفاعل والى أبيكم متعلقان بارجعوا، فقولوا عطف على ارجعوا(5/34)
ويا أبانا منادى مضاف وان واسمها وجملة سرق خبرها. (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) الواو حرف عطف وما نافية وشهدنا فعل وفاعل وإلا أداة حصر وبما متعلقان بشهدنا وجملة علمنا صلة وما عطف أيضا وما نافية وكان واسمها وللغيب متعلقان بحافظين وحافظين خبر كنا. (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) الواو عاطفة واسأل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والقرية مفعول به وسؤال القرية يعني سؤال أهلها كما يأتي في باب البلاغة والتي صفة وجملة كنا صلة وكان واسمها وفيها خبرها. (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) والعير عطف على القرية والتي صفة وجملة أقبلنا صلة وفيها متعلقان بأقبلنا وإنا عطف وان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبرها.
(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) قال مرتب على محذوف أي فرجعوا فقال، وبل حرف إضراب وسولت فعل ماض والتاء للتأنيث ولكم جار ومجرور متعلقان بسولت وأنفسكم فاعل وأمرا مفعول به. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الفاء عاطفة وصبر خبر لمبتدأ محذوف أي صبري وجميل نعت وعسى من أفعال الرجاء والله اسمها وان وما في حيزها خبرها وبهم متعلقان بيأتيني وجمع لأن المفقودين صاروا ثلاثة وهم يوسف وبنيامين وكبير الأخوة الذي آثر الاقامة بمصر وجميعا حال وان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعليم الحكيم خبر لأن أو للضمير والجملة خبر إن. (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) وتولى الواو عاطفة وتولى فعل ماض أي أعرض عنهم وعنهم متعلقان بتولي وقال عطف على تولى ويا حرف نداء وأسفا منادى مضاف لياء المتكلم المنقلبة ألفا والأصل يا أسفي وقد تقدم بحث المنادى المضاف لياء المتكلم وعلى يوسف متعلقان بالأسف وخص يوسف بالذكر للدلالة على تمادي الأسف عليه وان الرزء به كان(5/35)
ولا يزال غضا طريا وان رزأه بأخويه جدد حزنه عليه لأنه قاعدة أحزانه ومصائبه على حد قول ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط:
أرى أخويك الباقيين كليهما ... يكونان للأحزان أورى من الزند
ولعل ابن الرومي رمق هذه البلاغة العالية.
(وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) وابيضت عيناه فعل وفاعل وإذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته الى بياض ومن الحزن جار ومجرور متعلقان بابيضت، فهو الفاء عاطفة وهو مبتدأ وكظيم خبره. (قالُوا: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) قالوا فعل وفاعل والتاء تاء القسم ولفظ الجلالة مجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم وتفتأ أي لا تفتأ من أخوات كان واسمها مستتر تقديره أنت وجملة تذكر خبرها ويوسف مفعول به وحتى حرف غاية وجر وتكون منصوب بأن مضمرة بعد حتى وحرضا خبر تكون واسم تكون مستتر تقديره أنت وأو حرف عطف وتكون فعل مضارع ناقص واسمها أنت ومن الهالكين خبرها.
الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
إنما كافة ومكفوفة وأشكو بثي فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، وحزني عطف على بثي والى الله متعلقان بأشكو، والبث: ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على اخفائها كذا قال أهل اللغة وهو مأخوذ من بثثته أي فرقته فسميت المصيبة بثا مجازا قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكمني أحجاره وملاعبه(5/36)
َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ)
وأعلم عطف على أشكو، ومن الله متعلقان بأعلم، أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به، وما مفعول به وجملة لا تعلمون صلة.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «واسأل القرية» مجاز مرسل إذ المراد أهلها والعلاقة المحلية وقد تقدمت نظائر كثيرة لهذا المجاز وأراد بالقرية مصر أي أرسل الى أهلها فاسألهم عن تفاصيل هذه القصة وكذلك قوله «والعير التي أقبلنا فيها» أي أصحاب العير.
2- في قوله «تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا» فن أصيل في البلاغة وهو ما يسمّى «ائتلاف اللفظ مع المعنى» وهو نسمة الحياة في الفن، وعموده الذي يقوم عليه ويتلخص بأن تكون ألفاظ المعنى المراد متلائمة بعضها مع بعض ليس فيها لفظة نابية أو قلقة عن أخواتها بحيث يمكن استبدالها ولا بد من ملاحظة أشياء ثلاثة في هذا الصدد وهي:
آ- اختيار الألفاظ المفردة وحكم ذلك حكم اللآلئ المبدّدة فانها تتخير وتنتقى قبل النظم.
ب- نظم كل كلمة مع أختها المشكلة لها.
ج- الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه وهذا الموضع جم الشعاب دقيق المسلك يضل عنه الكثيرون إلا من أشرقت نفوسهم بضياء المعرفة واليقين وسنورد أمثلة منه قبل أن تتناول الآية(5/37)
فمن ذلك قوله تعالى: «وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه» وقوله تعالى «رب إني نذرت لك ما في بطني محررا» فاستعمل الجوف في الأولى واستعمل البطن في الثانية ولم يستعمل الجوف موضع البطن ولا البطن موضع الجوف واللفظتان سواء في الدلالة وهما ثلاثيتان في عدد واحد ووزنهما واحد أيضا ولو استعمل هذه موضع تلك لكان الكلام نافرا قلقا وعلى هذا ورد قول الأعرج من أبيات الحماسة:
نحن بنو الموت إذا الموت نزل ... لا عار بالموت إذا حم الأجل
الموت أحلى عندنا من العسل وقال أبو الطيب المتنبي:
إذا شئت حفت بي على كل سابح ... رجال كأن الموت في فمها شهد
فهاتان لفظتان هما العسل والشهد وكلاهما حسن مستعمل لا يشك في حسنه واستعماله وقد وردت لفظة العسل في القرآن دون لفظة الشهد لأنها أحسن منها ومع هذا فإن لفظة الشهد وردت في بيت أبي الطيب فجاءت أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج.
ويجمل بنا لإيضاح هذا الفن واظهار خصائصه الرفيعة اقتباس فصل ممتع لابن الأثير في كتابه «المثل السائر» قال: «وقد رأيت جماعة من الجهال إذا قيل لأحدهم إن هذه اللفظة حسنة وهذه قبيحة أنكر ذلك وقال: كل الألفاظ حسن والواضع لم يضع إلا حسنا ومن يبلغ جهله إلى أن لا يفرق بين لفظة الغصن ولفظة العسلوج وبين لفظة المدامة ولفظة الإسفنط وبين لفظة السيف ولفظة الخنشليل وبين لفظة الأسد ولفظة الفدوكس فلا ينبغي أن يخاطب ولا يجاب بجواب بل(5/38)
يترك وشأنه كما قيل: اتركوا الجاهل ولو ألقي الجعر في رحله وما مثاله في هذا المقام إلا كمن يسوي بن صورة زنجية سوداء مظلمة السواد، سوهاء الخلق، ذات عين محمرة، وشفة غليظة كأنها كلوة، وشعر قطط كأنه زبيبة وبين صورة رومية بيضاء مشربة بحمرة ذات خدّ أسيل، وطرف كحيل، ومبسم كأنما نظم من أقاح، وطرّة كأنها ليل على صباح، فإذا كان انسان من سقم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين هذه الألفاظ وهذه ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام» .
أقسام الألفاظ: والواقع أن الألفاظ تنقسم في الاستعمال الى جزلة ورقيقة ولكل منها مواضع يحسن استعمالها فيه فالجزل يستعمل في مواقف الشدة وقوارع التهديد والتخويف، والرقيق يستعمل في وصف نباريح الأشواق، ولوعة الفراق، والآية التي نحن بصددها من أروع الأمثلة على ذلك فإنه سبحانه لما أتى بأغرب ألفاظ القسم بالنسبة الى أخواتها وهي التاء لأن الواو والباء أكثر دورانا على الألسنة منها أتى سبحانه بأغرب صيغ الأفعال الناقصة التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار بالنسبة الى أخواتها وهي تفتأ وحذف منها حرف النفي زيادة في الاغراب ولأن المقام لا يلتبث بالاثبات على حد قول امرئ القيس:
فقلت: يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وكذلك لفظ «حرضا» أغرب من جميع أخواتها من ألفاظ الهلاك فاقتضى حسن النظم وحسن الوضع فيه أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة والاستعمال توخيا لحسن الجوار ورغبة في(5/39)
ائتلاف المعاني بالألفاظ ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم وسيأتي المزيد من هذه الملاءمة فيما يأتي.
3- الجناس: وهو اشتراك اللفظتين في الاشتقاق وقد وقع جميلا جدا في قوله: «يا أسفا على يوسف» .
الفوائد:
1- اشترط النحاة في اعمال زال ماضي يزال لا يزول، وفتئ، وبرح، وانفك،
أن يتقدمها نفي أو نهي أو دعاء ب «لا» خاصة في الماضي أو بلن في المضارع، وانما اشترطوا فيها ذلك لأنها بمعنى النفي فإذا دخل عليها النفي انقلبت اثباتا فمعنى ما زال زيد قائما هو قائم فيما مضى وقد يحذف حرف النفي كما تقدم في الاعراب وكالآية الكريمة «تالله تفتأ تذكر يوسف» على أن حذف النافي لا ينقاس إلا بثلاثة شروط وهي كونه مضارعا وكونه جواب قسم وكون النافي «لا» ومن أمثلة النفي بعد الاسم قوله:
غير منفك أسير هوى ... كل وان ليس يعتبر
ومن أمثلة النفي بالفعل الموضوع للنفي قوله:
ليس ينفك ذا غنى واعتزاز ... كل ذي عفة مقل قنوع
ومن أمثلة النفي بالفعل العارض للنفي قوله:
قلما يبرح اللبيب الى ما ... يورث الحمد داعيا أو مجيبا(5/40)
فإن قلما خلع منه معنى التقليل وصير بمعنى ما النافية.
ومن أمثلة النفي بالفعل المستلزم للنفي قولهم: أبيت أزال استغفر الله أي لا أزال ووجهه أن من أبى شيئا لم يفعله والإباء مستلزم للنفي.
ومثال النهي قوله:
صاح شمر ولا تزل ذاكر المو ... ت فنسيانه ضلال مبين
ومثال الدعاء قول ذي الرمة:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ... ولا زال منهلّا بجرعائك القطر
2- لمحة عن فعل الأمر:
الأمر ينقسم الى قسمين: لغوي وهو طلب إيجاد الفاعل من الفعل في الخارج على سبيل الاستعلاء وقيل اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء والمراد بالاقتضاء ما يقوم بالنفس من الطلب لأنه الأمر في الحقيقة وتسمية الصيغة به مجاز وقيل غير كف ليقع الاحتراز من النهي على جهة الاستعلاء ليقع الاحتراز من الدعاء وأورد على طرده كف لأنه اقتضاء فعل غير كف فلا يكون هذا أمرا لكنه أمر فلا يكون مطردا وعلى عكسه لا تكف لأنه اقتضاء فعل غير كف فيكون أمرا لكنه ليس بأمر فلا يكون منعكسا. وصناعي وهو ما حصل به ذلك أي طلب إيجاد الفعل والذي حصل به ذلك هو الصيغة التي يطلب بها الفعل من الفاعل وفعل الأمر بني على السكون لأنه. الأصل في البناء وصيغته(5/41)
مأخوذة من المضارع فإذا أردت أن تصوغ فعل أمر حذفت حرف المضارعة ونظرت الى ما يليه فإن كان متحركا صغت مثال الأمر على صيغته وحركته فتقول مثلا من يشمر شمر ومن يدحرج دحرج ومن يثب ثب ومن يصل صل وإن كان الذي يلي حرف المضارعة ساكنا اجتلبت له همزة وصل ليتوصل الى النطق بأول الفعل ساكنا فتقول مثلا من يضرب اضرب ومن مثل ينطلق انطلق ومن مثل يستخرج استخرج لأن الابتداء بالساكن في النطق مستحيل. وما أحسن قول السراج الوراق:
يا ساكنا قلبي ذكرتك قبله ... أرأيت قبلي من بدا بالساكن
وجعلته وقفا عليك وقد غدا ... متحركا بخلاف قلب الآمن
وبذا جرى الاعراب في نحو الهوى ... فإليك معذرتي فلست بلاحن
وسواء كان الفعل ثلاثيا أو خماسيا أو سداسيا، وشذ من هذه القاعدة فعلان فلا تدخل عليهما همزة وهما خذ وكل وجوز في فعلين إلحاق الهمزة وحذفها وهما مر وسل وقد نطق القرآن بهما فقال تعالى:
«سل بني إسرائيل» «واسأل القرية» وتقول: مره بكذا وأمره بكذا، فأما حركة الهمزة المجتلبة فإن كان الماضي رباعيا فانها مفتوحة في الأمر، تقول من أكرم: أكرم، وإذا كان ثالث المضارع مضموما فانها مضمومة في الأمر، تقول في الأمر من قتل: اقتل، وما عدا ذلك فهي مكسورة.(5/42)
3- الكلام على «بل» :
بل: حرف عطف للاضراب عن الأول واثبات الحكم للثاني سواء كان ذلك الحكم إيجابا أو سلبا واعلم أن للاضراب معنيين أحدهما ابطال الأول والرجوع عنه إما لغلط أو نسيان تقول في الإيجاب: قام زيد بل عمرو وتقول في النفي: ما قام زيد بل عمرو كأنك أردت الإخبار عن عمرو فغلطت وسبق لسانك الى ذكر زيد فأتيت ببل مضربا عن زيد ومثبتا ذلك الحكم لعمرو والآخر ابطاله لانتهاء مدة ذلك الحكم وعلى ذلك يأتي في الكتاب العزيز نحو قوله: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل» كأنه انتهت القصة الأولى فأخذ في قصة أخرى وكذلك قوله: «أتأتون الذكران من العالمين» ثم قال: «بل أنتم قوم عادون» ولم يرد أن الأول لم يكن، ومما ورد في ذلك شعرا قول رؤبة ابن العجاج:
قلت لزير لم تصله مريمه ... هل تعرف الربع المحيل ارسمه
عفت عوافيه وطال قدمه ... بل بلد ملء الفجاج قتمه
والزير بكسر الزاي الرجل الذي يخالط النساء ويمازحهن بغير شر أو به ومريم أي سميرته وفي القاموس: المريم التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر قال الشاعر:
وزائرة ليلا كما لاح بارق ... تضوّع منها للكباء عبير
فقلت لها: أهلا وسهلا أمريم؟ ... فقالت: نعم من أنت؟ قلت لها: زير(5/43)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
[سورة يوسف (12) : الآيات 87 الى 92]
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91)
قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
اللغة:
(فَتَحَسَّسُوا) : التحسّس: طلب الخير بالحاسة وهو قريب من التجسّس الذي بالجيم وقيل: ان التحسس بالحاء يكون في الخير وبالجيم يكون في الشر ومنه الجاسوس وهو الذي يطلب الكشف عن عورات الناس ولهذه المادة خواص عجيبة فهي تتناول جميع خوالج الناس وهواجس نفوسهم، وتشير إلى احداث التأثير في الأشياء يقال:(5/44)
حسه يحسه من باب نصر قتله واستأصله، وحسّ الدابة نفض التراب عنها بالمحسة، وحسّ البرد الزرع أحرقه، وحسّ اللحم جعله على الجمر، وحسن النار ردّها على خبز الملة والشواء من نواحيه لينضج، وحس يحس حسا من باب تعب الشيء وبالشيء علمه وشعر به وأدركه، وحس يحس من بابي تعب وجلس بالخير أيقن به، وحس لفلان رق له، وتحسّس تسمع وتبصّر، وتحسّس الخبر سعى في إدراكه، وتحسّس الشيء تعرّفه وتطلّبه بالحاسة، وتحسّس منه تخبر خبره، والحاسة مؤنث الحاس والقوة النفسانية المدركة، والحواس الخمس هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وحواسّ الأرض خمس وهي البرد والبرد والريح والجراد والمواشي أخذت من حسّ الزرع يقال مرت بالقوم حواسّ أي سنون شداد، والحسيس الصوت الخفي والحركة والقتيل، وحساس الحمى بالكسر مسها وأول ما يبدأ منها، والحسي ما يدرك بالحس الظاهر وضده العقلي، أما مادة جس فتشابهها مشابهة غريبة يقال جسّه يجسه من باب نصر، واجتسّه مسه بيده ليتعرفه، وجسّ الأرض وطئها، وجسه بعينه أحدّ النظر اليه ليتبينه، وجسّ وتجسّس واجتسّ الأخبار والأمور بحث عنها، والجاس وجمعه جواسيس، والجسّاس الذي يأتي بالأخبار، وجواسّ الإنسان هي حواسه الخمس والواحدة جاسة، والمجسّ والمجسّة موضع اللمس قال دوقلة:
ولها هن بض ملاذهن ... رابي المجسّة حشوه وقد
وفلان ضيق المجسّ والمجسّة أي غير رحب الصدر والمجسة أيضا هي الموضع الذي يجسه الطبيب.(5/45)
(مُزْجاةٍ) : أي بضاعة مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا لها من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجي السحاب. وفي المصباح: زجيته بالتثقيل دفعته برفق، والريح تزجي السحاب تسوقه سوقا رفيقا. يقال أزجاه بوزن أرضاه وزجاه بالتثقيل كزكاه، وفي القاموس: زجاه ساقه ودفعه.
(تَثْرِيبَ) : عتب، وفي المصباح: ثرب عليه يثرب من باب ضرب عتب ولام، وبالمضارع بياء الغيبة سمي رجل من العمالقة وهو الذي بنى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فسميت المدينة باسمه، وقاله السهيلي وثرّب بالتشديد مبالغة وتكثير ومنه قوله تعالى «لا تثريب عليكم اليوم» والثرب وزان فلس شحم رقيق على الكرش والأمعاء.
وقال الرازي: التثريب التعيير والاستقصاء في اللوم. وقال الزمخشري:
«وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه» .
الإعراب:
(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) يا بني تقدم اعرابها واذهبوا فعل أمر وفاعل والفاء عاطفة وتحسسوا فعل أمر وفاعل ومن يوسف متعلقان بتحسسوا وأخيه عطف على يوسف. (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتيئسوا مجزوم بلا والواو فاعل ومن روح الله جار ومجرور متعلقان به وسيأتي بحث هذه الاستعارة في باب البلاغة. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(5/46)
ان واسمها وجملة لا ييئس خبرها ومن روح الله متعلقان بييئس وإلا أداة حصر والقوم فاعل والكافرون صفة. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ) فيه حذف واختصار تقديره فخرجوا من عند أبيهم قاصدين مصر فلما.. إلخ، والفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة ودخلوا فعل وفاعل وعليه متعلقان بدخلوا. (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) جملة قالوا لا محل لها ويا أيها العزيز نداء تقدم إعرابه والعزيز بدل من أي، ومسنا فعل ومفعول به وأهلنا عطف على نا أو مفعول معه والضر فاعل. (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) الواو عاطفة وجئنا فعل وفاعل وببضاعة متعلقان بجئنا ومزجاة صفة، فأوف الفاء عاطفة وأوف فعل أمر ولنا متعلقان بأوف والكيل مفعول به. (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) وتصدق عطف على فأوف وعلينا متعلقان بتصدق وان واسمها وجملة يجزي خبرها والمتصدقين مفعول به. (قالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) هل حرف استفهام وعلمتم فعل وفاعل وما اسم موصول مفعول به ويجوز أن تكون مصدرية أي فعلكم بيوسف والجار والمجرور متعلقان بفعلتم وأخيه عطف على يوسف وإذ ظرف متعلق بفعلتم أي فعلتم ذلك وقت جهلكم وأنتم مبتدأ وجاهلون خبر والجملة الاسمية مضاف إليها الظرف، والاستفهام يفيد التعظيم والتهويل أي ان الأمر الذي ارتكبتموه كان بمثابة لا يقدم عليه فيها أحد ولكنكم أقدمتم غير آبهين للعواقب ولا عارفين بما يئول اليه أمر يوسف من الخلاص من الجب ثم ولاية الملك وسيأتي نص كتاب يعقوب الذي قدموه إليه في باب الفوائد. (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) قالوا فعل وفاعل، أإنك الهمزة للاستفهام التقريري وان واسمها واللام المزحلقة وأنت مبتدأ ويوسف خبر والجملة خبر ان ويجوز أن يكون الضمير وهو أنت فصلا وقد تقدم. (قالَ: أَنَا(5/47)
يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا)
أنا مبتدأ ويوسف خبر وأظهر الاسم فقال أنا يوسف تعظيما لما وقع به من ظلم أخوته كأنه قال:
انا المظلوم المستحلّ منه المحرّم المراد قتله، وهذا مبتدأ وأخي خبر وقد حرف تحقيق ومنّ فعل ماض والله فاعل وعلينا متعلقان بمنّ والجملة حالية (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) ان واسمها وهو ضمير الشأن والحال ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ، ويتق فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة ويصبر عطف عليه، فإنه: الفاء رابطة للجواب وان واسمها وجملة لا يضيع خبرها وأجر المحسنين مفعول به وجملة الشرط وجوابه خبر ان.
(قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا) التاء تاء القسم ولفظ الجلالة مجرور بها والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره نقسم واللام جواب القسم وقد حرف تحقيق وآثرك الله فعل ومفعول به وفاعل وعلينا متعلقان بآثرك. (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) الواو عاطفة وان مخففة من لثقيلة مهملة وكان واسمها واللام الفارقة وخاطئين خبر كنا. (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) جملة لا تثريب مقول القول ولا نافية للجنس وتثريب اسمها وعليكم خبرها واليوم ظرف متعلق بمحذوف خبر ثان أو بمتعلق الخبر وهو عليكم وعلى كل فالوقف عليه ولا يجوز تعليق الظرف بالمصدر وهو التثريب لأنه يصير شبيها بالمضاف ومتى كان كذلك أعرب ونون نحو لا خيرا من زيد عندك، والعجب من الزمخشري إذ أجاز تعليق الظرف بالتثريب وهي زلة لا أدري كيف وقع فهيا؟ ومن جهة ثانية فصل بينه وبين معموله على حد قوله بقوله «عليكم» ويجوز تعليق الظرف بالفعل الذي بعده. (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) جملة دعائية بمثابة التعليل ويغفر الله فعل وفاعل ولكم متعلقان بيغفر وهو مبتدأ وأرحم الراحمين خبر.(5/48)
البلاغة:
استعارة الروح للرحمة وإيضاحه ان الروح مصدر بمعنى الرحمة وأصله استراحة القلب من غمه، والمعنى لا تقنطوا من راحة تأتيكم من الله.
الفوائد:
روى التاريخ أن اخوة يوسف لما قالوا ليوسف «مسنا وأهلنا الضر» وتضرعوا اليه ارفضت عيناه وقيل أدوا اليه كتاب يعقوب اليه وهذا نصه نثبته لما فيه من عاطفة مضطرمة واحساس فياض:
من يعقوب إسرائيل الله بن اسحق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله الى عزيز مصر، أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي الى النار ليحرق فجعلها الله عليه بردا وسلاما وأما أبي فوضعت المدية في قفاه ليذبح ففداه الله وأما أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إلي فذهب به اخوته الى البرية ثم أتوني بقميصه ملطّخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا فقالوا انه سرق وانك حبسته وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته إليّ وإلا دعوت عليك دعوة تبلغ السابع من ولدك والسلام.
فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتماسك وعيل صبره، وعلى افتراض عدم صحة هذا الكتاب فنفحة العاطفة تدعو لاثباته.(5/49)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
[سورة يوسف (12) : الآيات 93 الى 101]
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)(5/50)
اللغة:
(فَصَلَتِ الْعِيرُ) : خرجت من عريش مصر يقال فصل من البلد فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وفي المختار: وفصل من الناحية خرج وبابه جلس، وللفاء والصاد فاء وعينا للكلمة سر غريب: إنهما تدلان على الخروج والمزايلة يقال: فصّ من كذا فصّا وافتصّ كذا من كذا انتزعه وافترزه وبابه ضرب وفصّ الجرح يفص من باب ضرب أيضا سال بما فيه وفصّ العرق رشح وفصّ الولد بكى وفصصت الشيء من الشيء فانفصّ أي فصلته فانفصل وفصح يفصح من باب فتح الصبح فلانا بان له وغلبه ضوءه وفصح يفصح فصاحة من باب ظرف جادت لغته وحسن منطقه فهو فصيح والفصاحة مصدر والبيان وخلوص الكلام من التعقيد ويوصف بها المتكلم والكلام والكلمة وفضح يفضح من باب فتح فضحا عن الأمر تغابى عنه وهو يعلمه فكأنه خرج عن عهدته وألقى عنه تبعاته، وفصد يفصد من باب ضرب فصدا المريض شق عرقه وفصد له عطاء قطعه له وافتصد العرق شقه وفي المثل «لم يحرم من فصد له» أي لم يخب من نال بعض حاجته وفصع التمرة يفصعها من باب فتح عصرها بإصبعيه حتى تنقشر وفصع عمامته عن رأسه حسرها وفصع الشيء دلكه بإصبعيه ليلين فينفتح عما فيه وفصم يفصم فصما من باب ضرب الدملج ونحوه كسره من غير أن تنفرق كسره وفصم الشيء قطعه وفصم البيت بالبناء للمجهول انهدم وكانت عروة قد فصمت وفصى يفصي من باب ضرب الشيء فصيا نزعه وأزاله وفصّى اللحم من أو عن العظم تفصية خلصه منه وأبانه عنه وتفصى الرجل من الديون خرج منها. وهذا من الأسرار التي تميزت بها لغتنا الشريفة.(5/51)
(تُفَنِّدُونِ) : التفنيد النسبة الى الفند وهو الخرف وانكار العقل من هرم يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها، وفي المختار الفند بفتحتين الكذب وهو أيضا ضعف الرأي من الهرم والفعل منه أفند والتفنيد اللوم وتضعيف الرأي. وفي القاموس: الفند بالتحريك الخرق وانكار العقل لهرم أو مرض والخطأ في القول والرأي والكذب كالافناد ولا تقل عجوز مفندة لانها لم تكن ذات رأي أبدا وقال دعبل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم ... الله يعلم اني لم أقل فندا
إني لأغمض عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا
(الْبَدْوِ) : البادية والبدو هو البسيط من الأرض يبدو الشخص فيه من بعد يعني يظهر، والبدو خلاف الحضر والبادية خلاف الحاضرة وكان يعقوب وأولاده أصحاب ماشية فسكنوا البادية، وفي القاموس والتاج: البدو والبادية والبداوة الصحراء والجمع باديات وبواد والبدو أيضا سكان البادية من القبائل العربية الرحّل وهم ينقسمون الى عدة قبائل والنسبة الى البدو بدوي بسكون الدال وبدوي بفتحها والأنثى بدوية والجمع بداويّ وفي الأساس: «لقد بدوت يا فلان أي نزلت البادية وصرت بدويا، وما لك والبداوة؟ وتبدّى الحضري، ويقال:
أين الناس؟ فتقول قد بدوا أي خرجوا الى البدو، وكانت لهم غنيمات يبدون إليها. وقال الأصمعي: الحضارة والبداوة بالفتح وقال أبو زيد: بالكسر والحضارة الإقامة في الحضر والبداوة الإقامة في البدو وللمتنبي مقايسة بين الحضارة والبداوة جميلة نثبتها فيما يلي:(5/52)
كم زورة لك في الاعراب خافية ... أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب
أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها ... وخالقوها بتقويض وتطنيب
يقول في هذا البيت واصفا حياة البدو: انهم يسكنون البدو فهم يجرون مجرى الوحوش في حلولها المراتع إلا أنهم لهم خيام يحطونها وينصبونها في الرحيل وفي الاقامة والوحش لا خيام لها فقد خالفوها في هذا ثم استرسل في وصفه:
ما أوجه الحضر المستحسنات به ... كأوجه البدويات الرعابيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب
أين المعيز من الآرام ناظرة ... وغير ناظرة في الحسن والطيب
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب(5/53)
ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهنّ صقيلات العراقيب
يريد بظباء الفلاة نساء العرب وانهن فصيحات لا يمضغن الكلام ولا يصبغن حواجبهن كعادة نساء الحضر وهو يريد أن حسنهن بغير تطرية ولا تصنع ولا دخول حمام بل هو خلقة فيهن.
(نَزَغَ) : أفسد بيننا وأغرى وأصله من نخس الرائض الدابة وحملها على الجري يقال نزغه ونسغه إذا نخسه وفي المختار: نزغ الشيطان بينهم أفسد وبابه قطع.
الإعراب:
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) لا بد من تقدير محذوف يمهد لقوله وذلك انه سألهم عن أبيه فقالوا: ذهبت عيناه فقال اذهبوا بقميصي، واذهبوا فعل أمر وفاعل وبقميصي يجوز أن يتعلق باذهبوا فتكون الباء للتعدية ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف حال أي اذهبوا معكم قميصي وهذا نعت أو بدل أو عطف بيان، فألقوه الفاء عاطفة وألقوه فعل وفاعل ومفعول به وعلى وجه أبي متعلقان بألقوه ويأت فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الأمر والفاعل مستتر تقديره هو وبصيرا حال واختار الزمخشري أن يكون خبرا ليأت على تضمينه معنى يصر بصيرا ويشهد له: فارتد بصيرا. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) وائتوني عطف على اذهبوا وبأهلكم متعلقان بائتوني وأجمعين تأكيد للأهل أي بنسائكم وأولادكم. (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ) لما ظرفية أو رابطة وفصلت العير فعل وفاعل وان(5/54)
واسمها واللام المزحلقة وجملة أجد خبر إن وريح يوسف مفعول به ولولا حرف امتناع لوجود وأن وما في حيزها مبتدأ خبره محذوف وحذفت ياء المتكلم من تفندون للتخفيف ولمراعاة الفواصل أما تقدير الخبر لولا تفنيدكم موجود وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني. (قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) التاء تاء القسم والله ومجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم وإن واسمها واللام المزحلقة وفي ضلالك خبر ان والقديم صفة. (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً) لما ظرفية حينية أو رابطة وان زائدة وسيأتي بحث مفيد عنها في باب الفوائد وجاء البشير فعل وفاعل وجملة ألقاه لا محل لها والهاء مفعول به وعلى وجهه متعلقان بألقاه، فارتد الفاء عاطفة وارتد فعل ماض فاعله هو وبصيرا حال، أو ارتد فعل ماض ناقص يعمل عمل صار وبصيرا خبرها. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وأقل مضارع مجزوم بلم والفاعل مستتر تقديره أنا ولكم متعلقان بأقل وان واسمها وجملة أعلم خبرها ومن الله جار ومجرور متعلقان بأعلم وما موصول مفعول به وجملة لا تعلمون صلة. (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) يا أبانا منادى مضاف واستغفر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولنا متعلقان باستغفر وذنوبنا مفعول به وإن واسمها وجملة كنا خاطئين خبر إنا وكان واسمها وخاطئين خبرها. (قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) جملة سوف أستغفر مقول القول ولكم متعلقان بأستغفر وربي مفعول به وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والغفور الرحيم خبران لإن أو لهم والجملة الاسمية خبر ان. (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) عطف على محذوف تقديره ثم توجهوا إلى مصر وخرج يوسف وحاشيته لاستقبالهم، ودخلوا فعل وفاعل وعلى(5/55)
يوسف متعلقان بدخلوا وجملة آوى لا محل لها واليه متعلقان بآوى وأبويه مفعول به والظاهر أن دخولهم عليه كان في مضرب له في ضاحية البلد ولذلك عطف. (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) وادخلوا مصر فعل وفاعل ومفعول به وإن شرطية وشاء فعل الشرط والجواب محذوف لدلالة الكلام عليه وجملة الشرط اعتراضية بين الحال وصاحبها فآمنين حال من الواو. (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) ورفع أبويه فعل وفاعل مستتر ومفعول به وعلى العرش متعلقان برفع وخروا فعل وفاعل وله متعلقان بخروا وسجدا حال. (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) يا أبت تقدم اعرابها وهذا مبتدأ وتأويل خبر ورؤياي مضاف اليه ومن قبل حال. (قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) قد حرف تحقيق وجعلها ربي فعل وفاعل وحقا مفعول ثان والجملة حال مقدرة أو مقارنة. (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) الواو عاطفة وقد حرف تحقيق وأحسن فعل ماض وبي متعلقان بأحسن وأحسن أصله أن يتعدى بإلى وقد يتعدى بالباء كما يقال أساء اليه وبه قال
كثير:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
قال ابن هشام معناها الغاية أي إليّ وقيل ضمن أحسن معنى لطف فعداه بالباء كما تقول: لطف الله بك فالباء حينئذ للالصاق لأن اللطف ملتصق وقائم بالمتكلم والتضمين شائع وهو إشراب الكلمة معنى آخر، وإذ متعلق بأحسن أيضا وجملة أخرجني مضافة والفاعل مستتر والياء مفعول به ومن السجن جار ومجرور متعلقان بأخرجني.
(وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) بكم متعلقان بجاء ومن البدو متعلق به أيضا ومن بعد حال وان وما في حيزها مضافة للظرف والشيطان فاعل نزغ وبيني ظرف متعلق بنزغ وبين عطف(5/56)
على الظرف الأول واخوتي مضاف الى بين. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ان واسمها وخبرها ولما متعلقان بلطيف أي لطيف التدبير لأجله رفيق، وجملة يشاء صلة وانه ان واسمها وهو ضمير فصل أو مبتدأ والعليم الحكيم خبران لإن أو لهو وقد تقدمت له نظائر. (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف وقد حرف تحقيق وآتيتني فعل وفاعل ومفعول به ومن الملك: من تبعيضية وهي ومجرورها صفة لمفعول به محذوف أي آتيتني شيئا عظيما من الملك وقيل تبيينية فتتعلق بآتيتني، وعلمتني عطف على آتيتني ومن تأويل الأحاديث متعلقان بعلمتني. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يجوز أن يكون نعتا لرب أو بدلا منه ويجوز أن يكون منادى وحرف النداء محذوف ولعله أولى والسموات مضاف اليه. (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أنت مبتدأ ووليي خبر وفي الدنيا حال والآخرة عطف على الدنيا. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) فعل دعاء والنون للوقاية والياء مفعول به ومسلما حال وألحقني عطف على توفني وبالصالحين متعلقان بألحقني.
الفوائد:
(أَنْ) حرف مصدري ينصب المضارع ويؤول مع ما في حيزه بمصدر يعرب حسب موقعه، وتكون مخففة من أن فتقع بعد فعل اليقين والظن وما شابهه، ومفسرة وهي التي تقع بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه نحو «فأوحينا إليه أن اصنع الفلك» وزائدة للتوكيد كالآية «فلما أن جاء البشير» قال ابن هشام: «ولا معنى(5/57)
لأن الزائدة غير التوكيد كسائر الزوائد» وقال ابن الأثير في المثل السائر: «وأما قوله تعالى «فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه» فإنه إذا نظر في قصة يوسف عليه السلام مع اخوته منذ ألقوه في الجب والى أن جاء البشير الى أبيه عليه السلام وجد أنه كان ثم إبطاء بعيد وقد اختلف المفسرون في طول تلك المدة ولو لم يكن ثم مدة بعيدة وأمد متطاول لما جيء بأن بعد لما وقبل الفعل بل كانت تكون الآية: فلما جاء البشير ألقاه على وجهه، وهذه دقئق ورموز لا تؤخذ من النحاة لأنها ليست من شأنهم.
هذا وقد رد الصلاح الصفدي على ابن الأثير فقال: «قلت: هذا من جناية إعجاب المرء بعقله ألا تراه كيف يتصور الخطأ صوابا ثم أخذ يتبجح أنه ظفر بما لم يكن عند النحاة ولو أنه نظر الى هذه الفاء عقيب ماذا وردت؟ هل هي عقيب قوله تعالى: «فلما ذهبوا به وأجمعوا على أن يجعلوه في غيابة الجب» والآيات المتعلقة بواقعة إلقائه الجب، أو وردت عقيب قوله تعالى «اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وائتوني بأهلكم أجمعين ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، قالوا تالله انك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتدّ بصيرا» لعلم ابن الأثير أنه لا تراخي بين هذين البعدين ولا مدة مديدة لأن المدة إنما كانت بقدر المسافة التي توجه فيها البشير من مصر الى أن وصل الى أرض كنعان وهي مقام يعقوب عليه السلام وقدر مسافة ما بين ذلك اثنا عشر يوما وما حولها ولهذا قال النحاة: إنها هنا زائدة، ولابن الأثير من هذه الشناعات على النحاة وغيرهم أشياء أجبت عنها في كتابي» .(5/58)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 107]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)
اللغة:
(حَرَصْتَ) : في المصباح: حرص عليه حرصا من باب ضرب إذا اجتهد والاسم الحرص بالكسر وحرص على الدنيا من باب ضرب وحرص حرصا من باب تعب لغة إذا رغب رغبة مذمومة. وقال علماء اللغة: وحرص على الشيء وهو حريص من قوم حراص وما أحرصك على الدنيا والحرص شؤم ولا حرس الله من حرص، وحرص القصار الثوب شقه وبثوبك حرصة وأصابته حارصة وهي من الشجاج التي شقت الجلد، وحما محرّص: مكدّح، وانهلّت الحارصة والحريصة وهي السحابة الشديدة وقع المطر وتحرّص وجه الأرض،
قال الحويدرة:(5/59)
ظلم البطاح بها انهلال حريصة ... فصفا النّطاف بها بعيد المقلع
ورأيت العرب حريصة، على وقع الحريصة.
(غاشِيَةٌ) : نقمة تغشاهم وقيل ما يغمرهم من العذاب ويجللهم وفي القاموس والتاج الغاشية مؤنث الغاشي والغطاء والجمع غواش والداهية والقيامة وداء في الجوف وغاشية فلان خدمه وزواره.
الإعراب:
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) ذلك اسم اشارة في محل رفع مبتدأ ومن أنباء الغيب خبره وجملة نوحيه إليك حال ويجوز أن تكون في محل رفع خبرا ثانيا وفي هذه الآية الكريمة دليل لا يقبل الريب على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان أميا لم يقرأ الكتب ولم يلق العلماء ولم يسافر الى غير بلده الذي نشأ فيه ومع ذلك أتى بهذه القصة الطويلة مستجمعة شرائط القصة وخصائصها التي ابتدعت ذكرها العصور الحديثة. (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة وكنت كان واسمها ولديهم ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر كنت وإذ ظرف متعلق بما تعلق به الظرف أي بالاستقرار المحذوف وجملة أجمعوا مضافة للظرف والواو للحال وهم مبتدأ وجملة يمكرون خبر والجملة حالية. (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية بذلك زيادة الباء في خبرها وأكثر الناس اسمها والواو اعتراضية ولو شرطية وحرصت فعل وفاعل والجملة معترضة بين ما الحجازية وخبرها وسيأتي في باب الفوائد بحث مسهب عن الجملة الاعتراضية والباء حرف جر زائد ومؤمنين مجرور بالباء لفظا(5/60)
في محل نصب خبر لما وجواب لو محذوف أي لم يؤمنوا.
(وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) الواو عاطفة وما نافية وتسألهم فعل مضارع وفاعل مستتر والهاء مفعول به وعليه حال لأنه كان في الأصل صفة لأجر والضمير يعود على القرآن ومن حرف زائد وأجر مجرور بمن لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به وإن نافية وهو مبتدأ وإلا أداة حصر وذكر خبر هو وللعالمين صفة لذكر. (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم القول مسهبا في كأين وكم الخبريتين، وهي في محل رفع مبتدأ ومن آية تمييز مجرور بمن وفي السموات والأرض صفة لآية. (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) جملة يمرون خبرا لمبتدأ وهو كأين وعليها متعلقان بيمرون، وهم: الواو حالية وهم مبتدأ وعنها متعلقان بمعرضون ومعرضون خبرهم والجملة الاسمية حالية ويجوز أن يكون في السموات والأرض خبرا لكأين وجملة يمرون صفة لآية (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) الواو عاطفة وما نافية ويؤمن أكثرهم فعل مضارع وفاعل وبالله متعلقان بيؤمن وإلا أداة حصر والواو حالية وهم مبتدأ ومشركون خبر والجملة نصب على الحال (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ) الهمزة للاستفهام الانكاري وفيه معنى التوبيخ والتهديد والفاء عاطفة وأمنوا فعل وفاعل، وأن تأتيهم المصدر المؤول مفعول أمنوا والهاء مفعول تأتي وغاشية فاعل تأتي ومن عذاب الله صفة لغاشية (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أو تأتيهم عطف على تأتيهم السابقة والساعة فاعل تأتيهم وبغتة حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يشعرون خبر والجملة نصب على الحال.
البلاغة:
1- في قوله «وما كنت لديهم» الآية فن يسمى في علم البيان بالاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي وهو أن يلزم(5/61)
الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج وقد تقدم بحثه وفيه تهكم مرير بهم لأنه قد علم كل أحد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان معهم فإذا أخبر به وقصه هذا القصص البديع لم تقع شبهة في أنه ليس منه.
2- في قوله تعالى «وما أكثر الناس، ولو حرصت، بمؤمنين» فن الاعتراض وقد تقدم ذكره وتحديده ونزيد هنا ما يتعلق ببحث بلاغي طريف وهو أن الاعتراض ينقسم الى قسمين أحدهما لا يأتي في الكلام إلا لفائدة وهو جار مجرى التوكيد والآخر أن يأتي في الكلام لغير فائدة فإما أن يكون دخوله فيه كخروجه منه وإما أن يؤثر في تأليفه نقصا وفي معناه فسادا فالقسم الأول كهذه الآية، وفائدة الاعتراض من وجهين أولهما تصوير حرصه صلى الله عليه وسلم على ايمان قومه وهدايتهم وتهالكه على ردعهم عن غيهم وحرفهم عن مظان الخطأ ومواطن الضلال واستهدافه للأذى في سبيل هذا الحرص مع علمه بعدم جدوى ذلك واستحالة إقلاعهم عما هم فيه، وثاني الوجهين تصوير لجاجتهم، وجحود عقليتهم وإصرارهم على الغي الذي هم فيه شارعون وبه آخذون وعنادهم ومكابرتهم فيما لا تجدي معه الحجج والبراهين الثابتة المنيرة والقرآن الكريم حافل بهذا القسم وسيرد عليك في مواضعه إن شاء الله، وقد أوردنا طائفة من الشعر الجيد الذي زاده الاعتراض رقة وحلاوة وما أجمل قول ابن المعذب السعدي:
فلو سألت سراة الحي سلمى ... على أن قد تلوّن بي زماني
لخبرها ذو وأحساب قومي ... وأعدائي فكلّ قد بلاني
وهذا اعتراض بين لو وجوابها وهو من فائق الاعتراض ونادره وتقديره فلو سألت سراة الحي سلمى لخبرها ذو وأحساب قومي وأعدائي وفائدة قوله: «على أن قد تلوّن بي زماني» أي أنهم يخبرون عني على تلون الزمان بي يريد تنقل حالاته من خير وشر وليس(5/62)
من عجمه على الزمان وأبان عن جوهره كغيره ممن لم يعجمه ولم يبن عنه.
أما القسم الثاني وهو الذي يأتي في الكلام لغير فائدة فهو ضربان:
الأول: يكون دخوله في الكلام كخروجه منه لا يكتسب به حسنا ولا قبحا فمن ذلك قول النابغة الذبياني يرثي النعمان بن المنذر:
يقول رجال يجهلون خليقتي ... لعل زيادا- لا أبا لك- غافل
فقوله: لا أبا لك من الاعتراض الذي لا فائدة فيه إلا إقامة الوزن وليس مؤثرا فيه حسنا ولا قبحا، ومثله قول زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا، لا أبا لك، يسأم
والثاني: وهو الذي يؤثر في الكلام نقصا وفي المعنى فادا وسنورد أمثلة منه ليتفاداها العاقل فمن ذلك قول بعضهم:
فقد، والشك: بيّن لي، عناء ... بوشك فراقهم صرد يصيح
فإنه قدم «بوشك فراقهم» وهو معمول «يصيح» ويصيح صفة لصرد وذلك قبيح، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال هذا من موضع كذا رجل ورد اليوم وانما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها فكذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها وفيه بعد ذلك من رديء الاعتراض الفصل بين «قد» والفعل الذي هو بيّن وذلك قبيح جدا لقوة اتصال(5/63)
«قد» بما تدخل عليه من الأفعال حتى انهم يعدونها بمثابة الجزء من الفعل ولذلك أدخلت عليه لام القسم المراد بها توكيد الفعل كقوله تعالى:
«ولقد علموا لمن اشتراه» هذا وفي البيت عيب ثالث وهو الفصل بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي هو عناء بقوله «بين لي» وعيب رابع وهو الفصل بين الفعل الذي هو بيّن وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناء فجاء معنى البيت، كما تراه، كأنه صورة مشوهة قد نقلت أعضاؤها بعضها الى مكان بعض.
ومن هذا الضرب قول الآخر:
نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله ... إلى الغرب حتى ظله الشمس قد عقل
أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله الى الغروب حتى عقل الشمس أي حاذاها وعلى هذا التقدير فقد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ الذي هو شخصي وبين خبره الجملة وهو قوله «ظله الى الغرب» وأغلظ من ذلك وأسمج أنه فصل بين الفعل وفاعله بأجبني وهذا مما يبدو السكوت خيرا منه.
وحيث تكلمنا على الاعتراض من الناحية البلاغة الفنية فلا ندحة لنا عن أن نتناوله من ناحيته النحوية فقد قرر النحاة أنه يقع في مواضع:
1- بين الفاعل ومرفوعه كقول بعضهم:
شجاك أظن ربع الظاعنينا ... ولم تعبأ بعذل العاذلينا
فشجاك فعل ماض وفاعله ربع الظاعنينا وفصل بينهما بجملة أظن وقد أفادت هذه الجملة المعترضة التقوية لأنه حين يقال شجاك ربع(5/64)
الظاعنين يحتمل أن ذلك مظنون أو متوهم فأخبر أنه مظنون على أنه يحتمل في هذا البيت نصب ربع على أنه مفعول أول لأظن وجملة شجاك مفعوله الثاني وتقديره أظن ربع الظاعنينا شجاك.
2- بين الفعل ومفعوله المنصوب كقول الشاعر:
وبدلت، والدهر ذو تبدل، ... هيفا دبورا بالصبا والشمأل
فبدلت فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل يعود على الريح والدهر ذو تبدل معترضة وهيفا مفعول بدلت أي ريحا هيفا ومعناها حارة وبالصبا داخلة على المتروك كما هي القاعدة في الباء التي تقع بعد بدل والصبا الريح التي تهب من المشرق. عند استواء الليل والنهار والشمأل هي الريح التي تأتي من ناحية القطب.
3- بين المبتدأ وخبره كقوله:
وفيهن، والأيام يعثرن بالفتى ... نوادب لا يمللنه ونوائح
فقد فصل بين فيهن وهو خبر مقدم ونوادب وهو مبتدأ مؤخر بجملة والأيام يعثرن بالفتى.
4- وبين ما أصله المبتدأ والخبر كقول عوف بن محلم:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان
فقوله وبلغتها جملة دعائية اعترضت بين اسم ان وخبرها وأصلهما مبتدأ وخبر.(5/65)
5- بين الشرط وجوابه كقوله تعالى «فإن لم تفعلوا. ولن تفعلوا، فاتقوا النار» وقد تقدم اعرابها.
6- بين القسم وجوابه كقول النابغة:
لعمري وما عمري عليّ بهين ... لقد نطقت بطلا عليّ الأقارع
فقد اعترض بجملة وما عمري علي بهين بين القسم وجوابه.
7- بين الموصوف وصفته كقوله تعالى «وانه لقسم لو تعلمون عظيم» فقد اعترض بجملة لو تعلمون بين الموصوف وهو قسم وصفته وهو عظيم.
8- بين الموصول وصلته كقول الشاعر:
واني لرام نظرة قبل التي ... لعلي وإن شطت نواها أزورها
فاعترض بين التي وصلتها وهي أزورها بلعلي وخبر لعل محذوف أي لعلي أفعل ذلك.
9- بين حرف التنفيس والفعل كقول زهير:
وما أدري وسوف أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
وهذا الاعتراض في أثناء اعتراض آخر فإن سوف وما بعدها اعتراض بين أدري وجملة الاستفهام.
10- بين حرف النفي ومنفيه كقوله:(5/66)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما دام للزند قادح
وهناك مواضع أخرى ضربنا عنها صفحا لندرة وقوعها ويمكن الرجوع إليها في المطولات.
[سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 111]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
اللغة:
(سَبِيلِي) : السبيل الطريق أو ما وضح منها يذكر ويؤنث والجمع سبل وسبل وأسبل وأسبلة وسبول، وابن السبيل: المسافر،(5/67)
وسبيل الله الجهاد وطلب العلم والحج وكل ما أمر الله به من الخير ويقال: ليس لك عليّ سبيل أي حجة تعتلّ بها وليس عليّ في كذا سبيل أي حرج ويقول المولّدون: ما على المحسن سبيل أي معارضة وسبيلنا أن نفعل كذا أي نحن جديرون بفعله.
الإعراب:
(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) هذه مبتدأ وسبيلي خبر وجملة أدعو الله تفسير للسبيل والى الله متعلقان بأدعو ويجوز أن تكون الجملة حالية من الياء والأول أولى وعلى بصيرة متعلقان بأدعو أو بمحذوف حال من فاعل أدعو وأنا تأكيد لفاعل أدعو المستتر ومن اتبعني عطف على فاعل أدعو المستتر ويجوز أن يكون من مبتدأ وخبره محذوف أي ومن اتبعني يدعو أيضا ويجوز أن يكون أنا مبتدأ مؤخرا وعلى بصيرة خبرا مقدما ومن اتبعني عطفا على أنا. (وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
وسبحان مفعول مطلق لفعل محذوف أي وأسبح سبحان الله وما الواو حرف عطف وما نافية حجازية وأنا اسمها ومن المشركين خبرها. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ما نافية أرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال وإلا أداة حصر ورجالا مفعول به وجملة نوحي إليهم صفة ومن أهل القرى صفة ثانية لرجالا. (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الهمزة للاستفهام والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم تقريره ولم حرف نفي وقلب وجزم ويسيروا فعل مضارع مجزوم بلم وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بيسيروا. (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الفاء عاطفة أو سببية وينظروا فعل مضارع إما مجزوم نسقا على يسيروا أو منصوب(5/68)
بأن مضمرة في جواب النفي وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان مقدما وعاقبة اسم كان والذين مضاف لعاقبة ومن قبلهم متعلقان بمحذوف صلة الموصول. (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ) الواو حالية واللام لام الابتداء ودار مبتدأ والآخرة مضاف إليه من إضافة الشيء الى نفسه لأن المراد بالدار الجنة وهي نفس الآخرة واختار الزمخشري والبيضاوي ان يكون التقدير ولدار الساعة الآخرة أو الحال الآخرة فليس في الكلام على ذلك اضافة الشيء الى نفسه.
وخير خبر دار وللذين متعلقان بخير وجملة اتقوا صلة، أفلا تعقلون تقدم إعرابه.
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) حتى حرف غاية وهي متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام كأنه قيل وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيئسوا من النصر ولا يلزم أن يكون الله وعدهم بالنصر في الدنيا بل كانوا يظنون ذلك ويرجونه لا عن اخبار ووحي وهذا خير ما قيل في هذه الآية التي اضطربت فيها أقوال العلماء والمفسرين والمعربين فيها اضطرابا شديدا وسياق الآية يرشد اليه وظنوا عطف على استيئسوا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ظنوا وكذبوا بالبناء للمجهول أي ظنت الأمم أن الرسل أخلفوا ما وعدوا به من النصر وجملة كذبوا خبر أنهم. (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) جملة جاءهم لا محل لها لأنهم جواب إذا وجاءهم نصرنا فعل ومفعول به وفاعل والفاء عاطفة ونجي بالبناء للمجهول عطف على جاءهم ومن نائب فاعل ونشاء صلة. (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الواو عاطفة ولا نافية ويرد بالبناء للمجهول وبأسنا نائب فاعل وعن القوم متعلقان بيرد والمجرمين صفة. (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) اللام جواب قسم محذوف وقد حرف تحقيق وفي قصصهم خبر مقدم وعبرة مبتدأ مؤخر ولأولي صفة لعبرة والألباب مضاف اليه(5/69)
وسيرد في باب البلاغة مغزى هذه العبرة. (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ما نافية وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر يعود على القرآن وحديثا خبرها وجملة يفترى صفة لحديثا. (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) الواو حرف عطف ولكن مخففة مهملة وتصديق عطف على حديثا وهو أولى من تقدير كان، وقد تقدم مثل هذا في سورة يونس، والذي مضاف اليه والظرف صلة وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة معطوفان على تصديق ولقوم صفة وجملة يؤمنون صفة لقوم.
البلاغة:
في سورة يوسف نفحة من القصص الرائع الذي استوفي شرائط القصة كما انتهت اليه أبحاث النقاد في العصر الحديث مما يؤخذ من مظانه الكثيرة وقد امتازت هذه القصة على تسلسل حوادثها وكثرة فنونها، وتنوع فصولها بالايجاز وقد ألمعنا اليه فيما تقدم ونزيده بسطا هنا فنقول:
1- تقسيم الإيجاز:
يأتي الإيجاز على قسمين:
1- قسم طويل، 2- وقسم قصير.
والطويل: طوله بالنسبة للقصير منه لا لغيره من الكلام كما جاءت قصص القرآن كلها وأحسن ما جاء منها في هذا الباب قصة يوسف فإنها جاءت على الطريقتين في سورة واحدة من قوله: «نحن نقض(5/70)
عليك أحسن القصص» إلى قوله: «وخروا له سجدا» وجاءت على الطريقة المختصرة في قوله على لسان يوسف: «يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي» فذكر تعالى القصة أولا على طريق البسط مفصلة لمن لم يشارك في طريق علمها وذكرها تعالى أخيرا مختصرة ليعلمها مفصلة من لم يكن يعلمها حتى إذا جاءت مجملة علم الإشارات فيها وابتدأها بقوله «نحن نقص عليك أحسن القصص» ثم أنهاها بقوله «لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب» ووجه الاعتبار بقصصهم هو أن هذه القصص انما سجلت لحصول العبرة منها ومعرفة الحكمة والمغزى.
2- اختلاف صيغة اللفظة:
وفي قوله تعالى «لأولي الألباب» فن يطلق عليه القدامى الاسم الآنف الذكر وهو من البيان بمثابة القلب من الإنسان وهو يدق إلا على من صفت قرائحهم واستغزرت ملكة الفصاحة فيهم ونعني باختلاف صيغة اللفظة نقلها من هيئة الى هيئة كنقلها من وزن الى وزن آخر أو نقلها من صيغة الاسم الى صيغة الفعل أو بالعكس أو كنقلها من الماضي الى المستقبل أو بالعكس أو من الواحد الى التثنية أو الجمع أو إلى النسب إلى غير ذلك انتقل قبحها فصار حسنا وحسنها فصار قبحا وسنورد أمثلة مترتبة على نسق الترتيب الذي أوردناه فمن نقل اللفظة من صيغة الى أخرى لفظة «خود» عبارة عن المرأة الناعمة وإذا نقلت الى صيغة الفعل قيل خوّد على وزن فعّل ومعناها أسرع يقال: خوّد البعير إذا أسرع فهي على صيغة الاسم حسنة رائعة وإذا جاءت على صيغة الفعل(5/71)
لم تكن مستحسنة كقول أبي تمام من قصيدة له يمدح فيها أحمد ابن عبد الكريم:
وإلى بني عبد الكريم تواهقت ... رتك النعام رأى الظلام فخودا
فهي ثقيلة سمجة كما ترى على أن ثقلها وسماجتها يخفان عند ما تنقل من الحقيقة الى المجاز كقول رجل من بني أسد:
أقول لنفسي حين خود رألها ... رويدك لما تشفقي حين مشفق
رويدك حتى تنظري عمّ ينجلي ... غيابة هذا البارق المتألق
والرأل النعام والمراد به هاهنا أن نفسه فرت وفزعت وشبه ذلك باسراع النعام في فراره وفزعه ولما أورده على حكم المجاز خف عنه بعض القبح الذي على لفظة خوّد وهذا يدرك بالذوق السليم ولا ضابط له ولا يخفى ما بين هذه اللفظة في إيرادها هاهنا وإيرادها في بيت أبي تمام فانها وردت في بيت أبي تمام قبيحة سجة ووردت هنا متوسطة أما نقل الفعل من صيغة الى صيغة فمثاله لفظة «ودع» وهي فعل ماض ثلاثي لا ثقل بها وليست حروفها متنافرة ومع ذلك أحجم العرب عن استعمالها بصيغة الماضي لسماجتها فاذا نقلت الى المستقبل أو الأمر كانت حسنة فصيحة، أما الأمر فكقوله تعالى «فذرهم يخوضوا ويلعبوا» ولم تأت في القرآن إلا كذلك وأما نقلها الى صيغة المستقبل فكقول أبي الطيب المتنبي:
تشقّكم بقناها كل سلهبة ... والضرب يأخذ منكم فوق ما يدع
فهي هنا غاية في الفصاحة ولهذا أمات العرب ماضي يدع ويذر وقد استسمجوا قول أبي العتاهية مع حسن معناه:(5/72)
أثروا فلم يدخلوا قبورهم ... شيئا من الثروة التي جمعوا
وكان ما قدموا لأنفسهم ... أعظم نفعا من الذي ودعوا
أما النقل من الإفراد الى التثنية والجمع فمثاله الآية التي نحن بصددها وذلك ان لفظة «اللب» الذي هو العقل لا لفظة اللب الذي تحت القشر فانها لا تحسن في الاستعمال الا مجموعة وكذلك وردت هنا وفي أكثر من موضع من القرآن الكريم وقد تستعمل مفردة ولكن شريطة أن تكون مضافة أو مضافا إليها فأما كونها مضافة فكقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر النساء: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الحازم من إحداكن يا معشر النساء» واما كونها مضافا إليها فكقول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصر عن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا
وهذا أمر يكاد يذهل المبين، اسمع الى كلمة الصوف وهي مفردة تجدها سمجة في الاستعمال وقد استعملها أبو تمام فجاءت غثة وزاد في غثاثتها انها جاءت مجازية في نسبتها الى الزمان حيث يقول:
كانوا برود زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا
ولكنها وردت في القرآن. الكريم مجموعة فاذا هي مرقصة مطربة قال تعالى «وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم(5/73)
ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا الى حين» .
ولم يمنع العرب جمع المصادر إلا لهذا السبب والمدار في ذلك على الذوق السليم والجرس الموسيقي الذي لا يكتنه حسنه ولا يوصف وقد استعمل عنترة المصدر مجموعا فجاء سمجا مرذولا قال:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه ... وإن يفقد فحق له الفقود
فقوله الفقود جمع مصدر من قولك فقد يفقد فقدا، واستعمال مثل هذه اللفظة غير سائغ وهذا كله مرده الذوق السليم ويرحم الله فولتير القائل «ذوقك أستاذك» .
وما دمنا قد وصلنا الى هذه المرحلة من التحليل الأدبي فلا بد لنا من أن نشير الى كتاب رائع هو «معاني القرآن للفراء» ومنهج الكتاب يقوم على الأمور التالية:
ينهج الكتاب نهجا مبتكرا فهو يتعرض لآيات كل سورة بالترتيب فلا يقتصر على الغريب بل يتجاوزه الى إيضاح الجانب النحوي والاعراب في الآية وينتهي الى النظرية العامة فيبين قواعدها وأصولها وأدلتها وأسبابها ومسبباتها ثم يتكلم عن التشبيه والمثل والكناية والمجاز بصورة عامة ثم يتناول الاستعارة أحد قسمي المجاز والالتفات، على أن الجديد كل الجدة في كتاب الفراء انه لا حظ النسق الصوتي، والترابط بين الكلمات وانسجام النغم وتوافق الفواصل في آخر الآيات فيجيز حذف أواخر الكلمات موافقة لرؤوس الآيات مع موافقة ذلك لكلام العرب مثل قوله عز وجل: «والليل إذا يسر» وقد قرأ القراء يسري بإثبات(5/74)
الياء ويسر بحذفها وحذفها أحب إليّ لمشاكلتها لرؤوس الآيات والعرب قد تحذف الياء وتكتفي بكسر ما قبلها أنشدني:
كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما
وأنشدني الآخر:
ليس يخفي يسارتي قدر يوم ... ولقد يخف شيمتي إعساري
وقوله «بطغواها» أراد بطغيانها إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك، ألا ترى أنه قال: «وآخر دعواهم أن الحمد لله» ومعناه آخر دعائهم وكذلك «دعواهم فيها سبحانك اللهم» دعواهم فيها هذا، «وما قلى» يريد ما قلاك فألقيت الكاف كما تقول: قد أعطيتك وأحسنت، معناه وأحسنت إليك فيكتفى بالياء الاولى من إعادة الأخرى ولأن رؤوس الآيات بالياء فاجتمع ذلك فيه» الى أن يقول الفراء: لله وقوله عز وجل فأغنى فآوى يريد به فأغناك وآواك جرى على طرح الياء لمشاكلة رؤوس الآيات» .
ويجيز الفراء في كتابه الممتع «معاني القرآن» إضافة المصدر الى صاحبه مثل ما في قوله تعالى «إذا زلزلت الأرض زلزالها» قال:
«فأضيف المصدر الى صاحبه وأنت قائل في الكلام: لأعطينك عطيتك وأنت تريد عطية وكان قربه من الجواز موافقة رءوس الآيات التي جاء بعدها» .(5/75)
وعلى هذا النحو وضع الفراء أمامنا قواعد عامة للتغييرات التي يمكن أن تطرا على الكلمات والتي قد يعمد إليها القرآن أحيانا للتوافق الموسيقي في نظمه، وصلة تلك التغييرات بما يطرأ على القافية في الشعر لإقامة الوزن ولا يفتأ الفراء يشير الى أن القرآن في عدوله عن لفظ الى آخر أو تعديله الألفاظ لا يخرج عن أساليب العرب وفنون القول عندهم، وخاصة في الشعر وهو الكلام الموزون الذي يشابه ما في نظمه من توافق وانسجام ما يراعيه أسلوب القرآن، هذا وسيرد من كتاب الفراء في مواضع متفرقة من هذا الكتاب ما تميز به هذا السفر الجليل في مواضع متعددة من البيان.
ويرى الجاحظ في كتابه «نظم القرآن» الذي ألفه للفتح بن خاقان وزير المتوكل على الله الذي لم يطبع- مع الأسف- بل فقد مع ما فقد من الكتب في محنة بغداد التي أوقعها بها هولاكو ولم تقع إلا نبذ منه مبثوثة في كتب الجاحظ المطبوعة الأخرى، يرى أن التنزيل قد أولى اللفظ عناية خاصة فاختاره بدقة ليدل على المعاني بدقة وقد يشترك لفظان في المعنى لكن أحدهما أدق من الآخر في الدلالة عليه، ولنظم القرآن براعته في تنزيل اللفظ منزلته في الموضع الذي أريد له ويمتاز بروعته أيضا في الاختيار ومراعاة الفروق بين الألفاظ فلا يأتي بالألفاظ المترادفة دالا على معنى واحد إنما للدلالة على معان مختلفة وبقدر الدقة في إصابة المعنى يكون الفرق بين ألفاظ الناس في كلامهم وألفاظ القرآن ويقول في هذا الصدد: «وقد يستخف الناس ألفاظا ويستعملونها وغيرها أحق بذلك منها ألا ترى أن الله تعالى لم يذكر في القرآن الجوع إلا في موضع العقاب أو في موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر والناس لا يذكرون السغب ويذكرون الجوع في حال القدرة والسلامة وكذلك(5/76)
ذكر المطر لأنك لا تجد القرآن يلفظ به إلا في مواضع الانتقام والأمة وأكثر الخاصة لا يفصلون بين ذكر المطر وبين ذكر الغيث ولفظ القرآن الذي عليه نزل انه إذا ذكر الابصار لم يقل الاسماع وإذا ذكر سبع سموات لم يقل أرضين ألا ترى أنه لا تجمع الأرض على أرضين ولا السمع اسماعا، والجاري على أفواه العامة غير ذلك لا يتفقدون من الألفاظ إلا ما هو أحق بالذكر وأولى بالاستعمال وقد زعم بعض القراء انه لم يرد ذكر النكاح في القرآن إلا في موضع التزويج» .
وتعرض الجاحظ لما جرى عليه نظم القرآن من نغم وموسيقى ووزن خاص رتيب مكون من وحدات مترابطة منسجمة، وكم كنا نتمنى لو بقي هذا الكتاب لنستمتع بما فيه من أبحاث ولكننا سنحاول جمع ما تفرق منه في هذا الكتاب فقد تصدى لوزن القرآن وتكلم كثيرا لينفي عنه وزن الشعر يقول في هذا الصدد «ويدخل على من طعن في قوله تعالى «تبت يدا أبي لهب وتب» وزعم انه شعر لأنه في تقدير مستفعلن مفاعلن فيقال له: اعلم انك لو اعترضت أحاديث الناس وخطبهم ورسائلهم لوجدت فيها مثل مستفعلن مستفعلن كثيرا ومستفعلن فاعلن وليس أحد في الأرض يجعل ذلك المقدار شعرا ولو أن رجلا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان؟ لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولات وكيف يكون هذا شعرا وصاحبه لم يقصد الى الشعر؟ ومثل هذا المقدار من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام وإذا جاء المقدار الذي يعلم انه من نتاج الشعر والمعرفة بالاوزان والقصد إليها كان ذلك شعرا وهذا قريب والجواب فيه سهل والحمد لله» .
ويرى ابن قتيبة في كتابه «مشكل القرآن» ان النغم الموسيقي والنظم والتوقيع الداخلي في الآيات هي احدى الخصائص التي يقوم(5/77)
عليها إعجاز القرآن فهو حلو النغم، رتيب الوقع، حبيب الجرس الى النفوس لا تمله الآذان لما ينساب في عباراته وخلال لفظه من الموسيقى الخافتة ولا تتعثر فيه الألسنة لسلاستها وفي هذا الصدد يقول ابن قتيبة:
«وجعله متلوا على طول التلاوة ومسموعا لا تمجه الآذان، وغضا لا يخلق على كثرة الرد» .
ونختم هذا المبحث، على أن نعود اليه في مكان آخر بكلمة وردت في القرآن جميلة جدا ووردت في الشعر فكانت باردة وهي كلمة يؤذي فقد قال أبو الطيب:
تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام
وهذا البيت جميل شريف المعنى إلا أن لفظة يؤذي قد جاءت فيه غثة باردة بينما وردت في القرآن بالغة الروعة بادية الكمال وذلك في قوله تعالى: «فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق» ويبدو لنا أنها وردت في بيت أبي الطيب منقطعة، ألا ترى أنه قال: «تلذ له المروءة وهي تؤذي» ثم قال: «ومن يعشق يلذ له الغرام» فجاء بكلام مستأنف وهذا باب طويل المدار في سبر غوره واكتناه حسنه على الذوق السليم والطبع الرهيف.
هذا ولا مندوحة عن الاشارة الى أن أكثر القصص التي وردت في القرآن الكريم من قصص الأنبياء في جهادهم لتبليغ رسالتهم ونشر دعوتهم ومقاومة خصومهم من ذوي السلطان الذين أنكروهم وحالوا بينهم وبين هداية أقوامهم.(5/78)
وإذا روجعت قصص القرآن الكريم مراجعة دقيقة تبيّن للناظر في مضامينها ان عبرتها الأولى دروس ينتفع بها الهداة ودعاة الإصلاح إذ كان من فرائض الإسلام الاجتماعية أن يندب من الأمة طائفة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
من تلك الدروس أن الجهلاء ينقادون للأمر والسطوة ولا ينقادون للحجة والدليل ويريدون من صاحب الدعوة كما جاء في قصة نوح أن يكون ملكا أو تكون عنده خزائن الله ويقولون له: «قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» .
ومن تلك الدروس أن أصحاب السادة في الأمة يكرهون التغيير ويتشبثون بالقديم، ويأخذون على النبي أن يتبعه أناس من غير ذوي السيادة والجاه «وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادىء الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كذبين» .
ومن تلك الدروس أن الجمود على التقاليد الموروثة أكبر آفات العقل البشري لأنها تعطل تفكيره وتتركه في حكم الآلة التي تسير على نهج واحد في آثار الآباء والأجداد مع اختلاف الزمن وتبدل الأحوال.
على أن في القرآن الكريم قصصا شتى من غير قصص الدعوة أو قصص الجهاد في تبليغ الرسالة ولكنها تراد كذلك لعبرتها ولا تراد لأخبارها التاريخية، ومنها قصة يوسف التي نحن بصددها فهي قصة إنسان قد تمرس من طفولته بآفات الطبائع البشرية من حسد الأخوة إلى غواية المرأة الى ظلم السجن الى تكاليف الولاية وتدبير المصالح في إبان الشدة والمجاعة.(5/79)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
(13) سورة الرّعد مدنيّة وآياتها ثلاث وأربعون
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)(5/80)
اللغة:
(عَمَدٍ) بفتحتين وقد اضطربت أقوال علماء اللغة فقال بعضهم هو جمع عماد على غير قياس والقياس أن يجمع على عمد بضم العين والميم وقيل إن عمدا جمع عماد في المعنى أي انه اسم جمع لا جمع صناعي والذي في القاموس والتاج: «العمود ما يقوم عليه البيت وغيره وقضيب الحديد وجمعه أعمدة وعمد وعمد» وقال بعضهم:
والعمد جمع عمود ولم يأت في كلام العرب على هذا الوزن إلا أحرف أربعة: أديم وأدم وعمود وعمد وأفيق وأفق وإهاب وأهب، وزاد الفراء خامسا: قضيم وقضم يعني الصكاك والجلود.
(صِنْوانٌ) : الصنو بكسر الصاد وفتحها وضمها نخلة لها رأسان وأصلهما واحد والاثنان صنوان والجمع صنوان بكسر الصاد فيهما وفي المختار «إذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد فكل واحدة منهن صنو والاثنتان صنوان والجمع صنوان» أي فهو معرب وفي الأساس: «شجر صنوان: من أصل واحد وكل واحد صنو ومن المجاز: هو شقيقه وصنوه قال:
أتتركني وأنت أخي وصنوي ... فيا للناس للأمر العجيب
وركيتان صنوان متقاربتان وتصغيره: صنيّ قالت ليلى الاخيلية:
أنابغ لم تنبغ ولم تك أولا ... وكنت صنيّا بين صدّين مجهلا
أي ركيا مجهولا بين جبلين، وقال بعض اللغويين: «والصنو الفرع يجمعه وفرعا آخر أصل واحد والمثل» وفي الحديث «عم الرجل(5/81)
صنو أبيه» أي مثله أو لأنهما يجمعهما أصل واحد والنخيل والنخل بمعنى واحد والواحدة نخلة قال:
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
وعبارة أبي حيان:
«الصنو الفرع يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ومنه قيل للعم صنو وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان وبضمها في لغة تميم وقيس كذئب وذؤبان ويقال صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته» وقال: «ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان ولا يوجد لهما ثالث» .
(الْأُكُلِ) : بضم الكاف وسكونها وفي المصباح: الأكل بضمتين واسكان الثاني للتخفيف: المأكول.
الإعراب:
(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) المر: تقدم اعرابها والقول فيها وفي أوائل السور عموما واسم الاشارة مبتدأ وآيات الكتاب خبر.
(وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة من عطف الجمل على الجمل والذي مبتدأ وجملة أنزل إليك صلة ومن ربك جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا والحق خبر الذي ولكن الواو حالية ولكن حرف استدراك ونصب وأكثر الناس اسمها وجملة لا يؤمنون خبرها. (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الله مبتدأ والذي خبره ويجوز أن يكون صفة والخبر سيأتي وجملة(5/82)
رفع السموات صلة وبغير عمد هذا الجار والمجرور في محل نصب على الحال من السموات أي رفعها خالية من عمد وجملة ترونها فيها وجهان أولهما أن تكون مستأنفة ويكون الضمير عائدا على النون أو نصبا على الحال من السموات أي مرئية لكم ويجوز أن تكون صفة لعمد إذا كان الضمير عائدا إليها والجملة كلها مستأنفة مسوقة للشروع في ذكر دلائل العالم العلوي تمهيدا لذكر دلائل العالم السفلي. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ثم حرف عطف للترتيب مع التراخي واستوى فعل ماض وفاعل مستتر وعلى العرش متعلقان باستوى وسخر الشمس والقمر عطف على استوى وكل مبتدأ وتقدم الكلام في تسويغ الابتداء به وجملة يجري خبر ولأجل متعلقان بيجري ومسمى صفة. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) الجملة مستأنفة أو خبر لله على ما تقدم ويدبر الأمر فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ويفصل الآيات عطف ولعل واسمها وبلقاء ربكم متعلقان بتوقنون وجملة توقنون خبر لعلكم. (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) هو مبتدأ والذي خبره وجملة مدّ الأرض صلة وجعل عطف على مدّ وفيها متعلقان بجعل ورواسي مفعول به وأنهارا عطف عليه. (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يجوز في هذا الجار والمجرور أن يتعلق بجعل بعده والتقدير وجعل فيها زوجين اثنين من كل الثمرات ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من اثنين لأنه في الأصل صفة له ويجوز أن يتم الكلام عند قوله من كل الثمرات فيتعلق بجعل الأولى والتقدير أنه جعل في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات ويكون جعل الثاني مستأنفا وفيها متعلقان بجعل على كل حال وزوجين مفعول جعل واثنين صفة لزوجين. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) الجملة مستأنفة أو حال من فاعل(5/83)
الأفعال قبلها والفاعل ليغشي مستتر والليل مفعول أول والنهار مفعول ثان والمعنى يلبسه مكانه فيصير أسود مدلهما بعد ما كان أبيض منيرا والأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي ولذلك جعلناه المفعول الأول وان كان الكلام يحتمل الثاني. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن وخبرها المقدم ولآيات اللام المزحلقة للتأكيد وآيات اسم ان المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) الواو عاطفة وفي الأرض خبر مقدم وقطع مبتدأ مؤخر ومتجاورات صفة لقطع أي بقاع مختلفة متباينة مع كونها متجاورة.
(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) وجنات عطف على قطع ومن أعناب صفة وزرع ونخيل معطوفان أيضا وصنوان صفة لنخيل وغير عطف وصنوان مضاف إليه. (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) جملة يسقى صفة لجنات وما بعدها وبماء متعلقان بيسقى وواحد صفة لماء ونفضل بعضها فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى بعض متعلقان بنفضل وفي الأكل حال من بعضها أي نفضل بعضها مأكولا أو وفيه الأكل ويجوز أن يتعلق بنفضل لأنه ظرف له. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم اعراب مثيلتها قريبا.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «ثم استوى على العرش» استعارة مكنية أو تخييلية حسب تعريف الأقدمين لها فالمستعار الاستواء والمستعار منه كل جسم مستو والمستعار له الحق سبحانه ليتخيل السامع عند سماع لفظ هذه الاستعارة ملكا فرغ من ترتيب ممالكه وتشييد ملكه(5/84)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
وجميع ما تحتاج اليه رعاياه وجنده من عمارة بلاده، وتدبير أحوال عباده استوى على سرير ملكه استواء عظمة فيقيس السامع ما غاب عن حسه من أمر الإلهية على ما هي متخيلة ولهذا لا يقع ذكر الاستواء على العرش إلا بعد الفراغ من خلق السموات والأرض وما بينهما وإن لم يكن ثمة سرير منصوب ولا جلوس محسوس ولا استواء على ما يدل عليه الظاهر من تعريف هيئة مخصوصة.
2- وفي قوله تعالى «بغير عمد ترونها» فن رفيع تقدم ذكره وهو نفي الشيء بايجابه أي رفع السموات خالية من العمد فالوجه انتفاء العمد والرؤية جميعا فلا رؤية ولا عمد.
وقد أثارت هذه الآية في النفس موضوع غزو القمر وكيف ارتاد الإنسان الفضاء ورأى عجائب صنع الله وشهد الأرض معلقة والقمر معلقا وكذلك الكواكب والنجوم الأخرى معلقات بغير سناد يسندها ولا عمد تقوم عليها مصداقا لقول الله «بغير عمد ترونها» .
[سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 6]
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6)(5/85)
اللغة:
(الْمَثُلاتُ) : جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء وفي القاموس: المثلة العقوبة وما أصاب القرون الماضية من العذاب وهي عبر يعتبر بها، وشرحها الزمخشري شرحا لطيفا فقال: المثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة. وقال غيره: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع غيره به. وقال ابن الأنباري: المثلة كسمرة العقوبة التي تبقي في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه.
الإعراب:
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) الواو استئنافية وإن شرطية وتعجب فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت يا محمد والفاء رابطة وعجب خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر وجملة فعجب قولهم في محل جزم جواب الشرط الجازم. (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) هذه الجملة مقول للقول ولك أن تعربها بدلا منه والهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه ومتعلق بجوابه وهو مدلول قوله أإنا لفي خلق جديد والتقدير نبعث أو نحشر واختار أبو حيان أن تكون إذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى للشرط فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره أنبعث أو أنحشر، وكنا كان واسمها وترابا خبرها، أإنا الهمزة للاستفهام الانكاري وان واسمها واللام المزحلقة وفي خلق خبر إن وجديد صفة لخلق. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة(5/86)
كفروا صلة وبربهم متعلقان بكفروا. (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) الواو عاطفة وأولئك مبتدأ والأغلال مبتدأ ثان وفي أعناقهم خبر الأغلال والمبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الاول والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يجعل في العنق. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الواو عاطفة أيضا وأولئك مبتدأ وأصحاب النار خبره وهم مبتدأ وفيها متعلقان بخالدون وخالدون خبرهم وجملة هم فيها خالدون خبر ثان لأولئك أو حال. (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) الواو عاطفة ويستعجلونك فعل وفاعل ومفعول به وبالسيئة متعلقان بيستعجلونك لأنه ظرف للاستعجال. (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) الواو للحال وقد حرف تحقيق وخلت فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف المحذوفة للالتقاء الساكنين ومن قبلهم متعلقان بخلت والمثلات فاعل خلت. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) الواو للحال أيضا وان واسمها واللام المزحلقة وذو مغفرة خبر إن وللناس جار ومجرور متعلقان بمغفرة وعلى ظلمهم حال من الناس والعامل فيها مغفرة لأنه العامل في صاحبها والمعنى ظالمين لأنفسهم ومعنى على هنا المصاحبة أي كمع. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وشديد العقاب خبرها.
الفوائد:
في هذه الآية فن من فنون العرب في كلامهم وهو القلب وذلك في قوله تعالى: «وأولئك الأغلال في أعناقهم» لأن الأعناق هي التي تكون في الأغلال ولا عكس ومنه قول رؤبة:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه(5/87)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
أي كأن لون سمائه لون أرضه فعكس التشبيه مبالغة وحذف المضاف.
[سورة الرعد (13) : الآيات 7 الى 11]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
اللغة:
(الْأَرْحامُ) : جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وبكسر الراء وسكون الحاء مستودع الجنين في أحشاء الحبلى وهي مؤنثة والرحم أيضا القرابة والمراد هنا الأول.
(سارِبٌ) : ذاهب في سربه بالفتح أي في طريقه ووجهه يقال سرب في الأرض سروبا وفي المصباح: سرب في الأرض سروبا من باب(5/88)
قعد ذهب، وسرب الماء سروبا جرى وسرب المال سربا رعي نهارا بغير راع فهو سارب وسرب تسمة بالمصدر والسرب أيضا الطريق ومنه يقال خل سربه أي طريقه والسرب بالكسر النفس وهو واسع السرب أي رخيّ البال ويقال واسع الصدر بطيء الغضب والسرب بفتحتين بيت في الأرض لا منفذ له وهو الوكر.
«معقبات» : فيها احتمالان: أحدهما أن يكون جمع معقبة بمعنى معقب والتاء للمبالغة كعلامة ونسابة، أي ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات ونسابات. والثاني أن يكون جمع معقبة صفة لجماعة ثم جمع هذا الوصف كجمل وجمال وجمالات وقال الزمخشري: «وقيل المعقبات الحرس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه، وتقديره من أمر الله أي من قضاياه ونوازله أو على التهكم به» .
الإعراب:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو استئنافية ويقول الذين فعل وفاعل وعدل عن الإضمار الى الموصول ذما لهم بكفرهم بآيات الله وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل وآية نائب فاعل ومن ربه صفة لآية. (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) إنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومنذر خبر ولكل خبر مقدم وقوم مضاف اليه وهاد مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة. (اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) الله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وما تحتمل ثلاثة أوجه متساوية أحدها أن تكون موصولة في محل نصب مفعول يعلم وجملة تحمل كل أنثى صلة والعائد محذوف أي تحمله والثاني أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها مفعول يعلم فالجملة بعدها لا محل(5/89)
لها ولا حاجة الى العائد والثالث أن تكون استفهامية إما مبتدأ وجملة تحمل خبر والجملة معلقة للعلم واما مفعول مقدم لتحمل. (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) عطف على الجملة السابقة وتسري على «ما» الأوجه المتقدمة وغاض وزاد يستعملان متعديين ولازمين ومعنى غيض الأرحام وازديادها أفاض فيه المفسرون وخلاصته أن المراد به غذاء الولد في الرحم فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد وإذا لم تحض يزداد الولد وينمو وقيل ما يتعلق بمدة الحمل والرجوع لمعرفة التفاصيل الى المطولات أولى. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) كل مبتدأ وشيء مضاف اليه وعنده ظرف متعلق بمحذوف صفة لشيء أو لكل وبمقدار خبر والمراد بالعندية العلم بكمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين أو العلم بوقت كل شيء وحالته المعينة. (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) عالم الغيب خبر لمبتدأ محذوف أي هو والغيب مضاف اليه والشهادة عطف والكبير خبر ثان للمبتدأ المحذوف والمتعال خبر ثالث ورسمت بغير ياء لأنها رأس آية ولولا ذلك لكان الجيد إثباتها.
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) يجوز في سواء أن تكون خبرا مقدما ومنكم حال من ضميره ومن موصول مبتدأ مؤخر وهو في الأصل مصدر بمعنى مستو وقد تقدم القول فيه في البقرة ويجوز أن تكون مبتدأ ومنكم صفة ومن خبر وجملة أسر القول صلة أي أخفاه في نفسه ومن جهر به عطف على من أسر القول. (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) ومن عطف على من السابقة وهو مبتدأ ومستخف خبر والجملة الاسمية صلة وبالليل جار ومجرور متعلقان بمستخف وسارب عطف على مستخف وبالنهار متعلقان بسارب وقياس الكلام: ومن هو سارب، والسر فيه أن الموصول حذف وصلته باقية والمعنى ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع خصوصا وقد تكرر(5/90)
الموصول في الآية ثلاثا ومنه قوله تعالى: «وما أدري ما يفعل بي ولا بكم» والأصل ولا ما يفعل بكم وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف لم يكن للنهي موقع وانما صحب في الأول الموصول لا الصلة ومنه قول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أي ومن يمدحه وينصره سواء.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) له خبر مقدم والضمير مردود على «من» كأنه قيل لمن أسر ومن جهر ومن استخفى ومن سرب معقبات، ومعقبات مبتدأ مؤخر ومن بين يديه صفة لمعقبات أو متعلقان بمعقبات نفسها ومن خلفه عطف على من بين يديه وجملة يحفظونه صفة لمعقبات أيضا ومن أمر الله متعلقان بيحفظونه وتقدّم القول في المراد بالمعقبات في باب اللغة ومعنى يحفظونه من أمر الله أي مما أمر هو به لأنهم يقدرون أن يدفعوا أمر الله قال ابن الأنباري: وفي هذا قول آخر وهو ان من بمعنى الباء أي يحفظونه بأمر الله وقيل ان من بمعنى عن أي يحفظونه عن أمر الله بمعنى من عند الله لا من عند أنفسهم كقوله: أطعمهم من جوع أي عن جوع وقيل يحفظونه من ملائكة العذاب وقيل يحفظونه من الجن واختار ابن جرير ان المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء.
وعبارة الفراء: «في هذا قولان أحدهما أنه على التقديم والتأخير تقديره: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه والثاني ان كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به» .(5/91)
(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) إن واسمها وجملة لا يغير خبرها وفاعل يغير عائد على الله وما موصول مفعول يغير وبقوم صلة وحتى حرف غاية وجر ويغيروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وما مفعول به وبأنفسهم صلة. (وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن خافض لشرطه منصوب بجوابه وجملة أراد الله مضاف إليها وبقوم متعلقان بأراد والفاء رابطة ولا نافية للجنس ومرد اسمها وله خبرها. (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) الواو عاطفة وما نافية ولهم خبر مقدم ومن دونه حال ومن زائدة ووال مجرور لفظا مرفوع محلا لأنه مبتدأ مؤخر.
البلاغة:
1- الطباق في قوله «الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد» أي ما تنقص وتزيد.
2- المبالغة أو الافراط في الصفة على اختلاف في التسمية والأولى لقدامة والثانية لابن المعتز والناس على تسمية قدامة وعرفها قدامة فقال: هي أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده وهي أقسام عديدة نوردها مختصرة فيما يلي:
آ- المبالغة في الصفة المعدولة عن الجارية بمعنى المبالغة وقد جاءت على ستة أمثلة: فعلان كرحمن عدل عن راحم للمبالغة، كما تقدم في البسملة، ولا يوصف به إلا الله تعالى ولم تنعت العرب به أحدا في جاهلية ولا إسلام إلا مسيلمة الكذاب نعتوه به فقال شاعرهم:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... فأنت غيث الورى لا زلت رحمانا(5/92)
فأما الرحمن فلم يوصف به إلا الله.
وفعال كقوله تعالى: «وإني لغفار لمن تاب» .
وفعول كغفور وشكور وودود.
وفعيل كعليم وحكيم وسميع.
ومفعل كمدعس كمنبر الرمح يدعس به أي يطعن كما في تاج العروس.
ومفعال كمطعام ومقدام.
ب- ما جاء بالصيغة العامة موضع الخاصة كقولك أتاني الناس كلهم ولم يكن أتاك إلا واحد منهم أردت تعظيمه ومنه قوله تعالى:
«إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» فوعدهم سبحانه بجزاء غير مقدر لاخراج العبارة مخرجا عاما لتردد الأذهان في مقدار الثواب.
ج- إخراج الكلام مخرج الاخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة كقوله تعالى: «وجاء ربك والملك صفا صفا» فجعل مجيء آياته مجيئا له سبحانه.
د- إخراج الممكن من الشرط الى الممتنع ليمتنع وقوع المشروط كقوله تعالى في سورة الأعراف وقد تقدم: «ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» .
هـ- ما جرى مجرى الحقيقة وقد كان مجازا كقوله تعالى:
«يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار» فإن اقتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الإمكان.(5/93)
وهذه مبالغة ظاهرة في جميع هذه الاقسام على أن هناك مبالغة مدمجة وهي قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها وهي «سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار» فإن مبالغة هذه الآية جاءت مدمجة في المقابلة.
وسيأتي مزيد من المبالغة وأقسامها في مواضع متفرقة من هذا الكتاب.
الفوائد:
يكاد المفسرون يجمعون على أن هذه الآية تدل على أنه إذا عاش قوم في نعمة فإن الله لا يغيرها عنهم إلا إذا عصوا ربهم وظلم بعضهم بعضا ولازم هذا التفسير أن النعمة تدوم وتزداد بالشكر والطاعة وانها تزول بالجحود والطغيان وكان وما زال في النفس شيء من هذا التفسير لأمور:
أولها: اننا نرى المحتكرين والمستثمرين كلما نشطوا في الطغيان والسلب والنهب كثرت أموالهم وربت.
وثانيها: ان هذا التفسير يتنافى مع قول الله تعالى في الآية الثالثة والثلاثين من سورة الزخرف «ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون، وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين» إذن فالسعة في الرزق لا تدل على رضا الله كما أن الضيق لا يشعر بغضبه لأنه لا يجزي الشاكرين(5/94)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
بالذهب والفضة ولا يعاقب العاصين بالحرمان منهما بل الأمر بالعكس فقد جاء في القرآن الكريم أن الله يعاقب الجاحدين بكثرة الأموال «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون» .
وثالثها: انه متناف مع ما هو مأثور ومتعالم من أن المؤمن مبتلى وممتحن.
ولعل خير تفسير تتحمله الآية هو أن يقال: ان المرء الذي يثور أولا على نفسه فيصلحها إنما هو المصلح الحقيقي وعلى ما ورث من تقاليد ونظم ربما كانت فاسدة أو على ما أفسده الزمان فيصلحه هو الذي يصح أن يكون معنيا بهذه الآية التي تكمن فيها روح الشجاعة والثورة على فساد العادات والتقاليد وفساد العقائد والمبادئ وعلى الفقر والجهل وعلى الاستعمار والاقطاع، كما تكمن فيها روح الثورة على الذين يبنون قصورا من عرق الكادحين ويعدون سيارات من دموع المنكوبين.
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 14]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14)(5/95)
اللغة:
(السَّحابَ) : الغيم المنسحب في الهواء والسحاب اسم جنس واحده سحابة فلذلك وصف بالجمع وهو الثقال جمع ثقيلة، ويفهم من كلام صاحب القاموس انه جمع سحابة قال: والسحابة: الغيم والجمع سحاب وسحائب وسحب.
(الْمِحالِ) : المماحلة وهي شدة المماكرة والمكايدة ومنه تحمل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه ومحل بفلان إذا كاده وسعى به الى السلطان ومنه الحديث «ولا تجعله علينا ماحلا مصدقا» وقال الأعشى:
فرع نبع يهشّ في غصن المجد غزير الندى شديد المحال ولعل أصله المحل بمعنى القحط وقيل: فعال من المحل بمعنى القوة فالميم أصلية وقيل أصله مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس وفي القاموس: «والمحال ككتاب الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة كالمماحلة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، ومحل به مثلث الحاء محلا ومحالا كاده بسعاية الى السلطان وماحله مماحلة ومحالا قاواه حتى يتبين أيهما أشد» وفي الأساس: وماحله كايده، وهو شديد المحال ورجل متماحل فاحش الطول وبلد متماحل: بعيد، قال يصف فرسا:
من المسبطرّات الجياد طمرّة ... لجوج هواها السبسب المتماحل(5/96)
وقال آخر يصف بعيرا:
بعيد من الحادي إذا ما ترقّصت ... بنات الصّوى في السبسب المتماحل
قال الزجاج يقال: ما حلته محالا: إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد، وقال ابن قتيبة: أي شديد الكيد وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان وأصله من الكون قال الأزهري: غلط ابن قتيبة ان الميم فيه زائدة بل هي أصلية وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسور فهي أصلية مثل مهاد وملاك ومراس.
الإعراب:
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) هو مبتدأ والذي خبره ويريكم البرق فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعولاه والجملة صلة وخوفا وطمعا اختلف في نصبهما فقيل على المصدرية أي لتخافوا خوفا ولتطمعوا طمعا وقيل هما حالان من الكاف في يريكم أي حال كونكم خائفين وطامعين ويجوز أن يكونا مفعولا لهما واختاره أبو البقاء ومنعه الزمخشري ونص عبارته: «لا يصح أن يكونا مفعولا لهما لأنهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي إرادة خوف وطمع أو على معنى إخافة وإطماعا ويجوز أن يكونا منتصبين على الحال من البرق كأنه في نفسه خوف وطمع أو على ذا خوف وذا طمع أو من المخاطبين أي خائفين وطامعين ومعنى الخوف والطمع أن(5/97)
وقوع الصواعق يخاف عند لمع البرق ويطمع في الغيث قال أبو الطيب:
فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى ... يرجّى الحيا منها وتخشى الصواعق
على أن منع الزمخشري فيه تعسف ويمكن أن يكونا مفعولا لهما على أن المفعول له في مثل هذا الفعل فاعل في المعنى لأنه إذا أراهم فقد رأوا والأصل: وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا أي ترقبونه وتتراءونه تارة لأجل الخوف وتارة لأجل الطمع. وينشىء السحاب عطف والسحاب مفعول به والثقال صفة للسحاب. (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) عطف على ما تقدم ويسبح الرعد فعل مضارع وفاعل وبحمده في موضع نصب على الحال وفي هذه الباء خلاف ترى بحثا عنه في باب الفوائد، والملائكة عطف على الرعد أي ويسبح الملائكة من هيبته وإجلاله فهو متعلق بيسبح ولك أن تنصبه على الحال أي هائبين وخائفين. (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) ويرسل الصواعق عطف على ما تقدم فيصيب عطف أيضا وبها متعلقان بيصيب ومن مفعول به ليصيب وجملة يشاء صلة. (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) الواو استئنافية أو حالية وهم مبتدأ وجملة يجادلون خبر وفي الله متعلقان بيجادلون والواو حالية وهو مبتدأ وشديد المحال خبره والجملة حالية. (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) له خبر مقدم ودعوة الحق مبتدأ مؤخر وهي من اضافة الموصوف الى صفته أي لدعوة الحق المطابقة للواقع. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة والضمير في يدعون عائد على الكفار والعائد على الذين محذوف أي يدعونهم ويؤيده قراءة من قرأ تدعون(5/98)
بالتاء في تدعون وقيل الذين أي الكفار الذين يدعون ومفعول يدعون محذوف أي يدعون الأصنام والعائد على الذين الواو في يدعون والواو في ولا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف وعلى القول الأول على الذين، ومن دونه حال وجملة لا يستجيبون خبر ولهم متعلقان بيستجيبون وكذلك بشيء. (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) إلا أداة حصر وكباسط متعلق بمحذوف نعت لمصدر محذوف أي إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه وكفيه مضاف لباسط والى الماء جار ومجرور متعلقان بباسط وليبلغ اللام للتعليل ويبلغ مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بباسط وفاه مفعول به وعلامة نصبه الألف لأنه من الأسماء الخمسة وفاعل يبلغ ضمير الماء والواو حالية وما نافية حجازية وهو اسمها واختلف في هذا الضمير فقيل انه ضمير الماء والهاء في ببالغه للفم وقيل انه ضمير الفم والهاء في ببالغه للماء وقيل انه ضمير لباسط والهاء في ببالغه للماء، وببالغه الباء حرف جر زائد وبالغه مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) الواو حالية أو استئنافية وما نافية ودعاء الكافرين مبتدأ وإلا أداة حصر وفي ضلال خبر.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا» فن رائع من فنون البلاغة وهو «صحة الاقسام» ويمكن تحديده بأنه عبارة عن استيفاء المعنى من جميع اقسامه ووجوهه بحيث لا يغادر(5/99)
المتكلم منها شيئا، ففي الآية المذكورة استوفي قسمي رؤية البرق إذ لبس فيها إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار كما ألمعنا في الاعراب ولا ثالث لهذين القسمين ولكن مجرد استيفاء الأقسام لا يعتبر بيانا بل هناك أمر أبعد من ذلك وأدق وأبعد منالا وهذا الأمر هو تقديم ما هو أولى بالذكر وأجدر بالتقديم وفي الآية قدم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق يجوز وقوعها من أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر الا براق لأن تواتره لا يكاد يخلف ولهذا كانت العرب تعد سبعين برقة وتنتجع فلا تخطىء الغيث والكلأ وقد رمق أبو الطيب سماء هذه البلاغة العالية فقال:
وقد أرد المياه بغير هاد ... سوى عدي لها برق الغمام
يقول: لا أحتاج في ورود الماء الى دليل يدلني سوى أن أعد برق الغمام فأتبعه كعادة العرب في عدها بروق الغمام، قال ابن السكيت:
«العرب إذا عدت مائة برقة لم تشك في أنها ماطرة قد سقت فتتبعها على الثقة بالمطر» وقال ابن الاعرابي في النوادر: «العرب كانوا إذا لاح البرق عدوا سبعين برقة فإذا كملت وثقوا بأنه برق ماطر فرحلوا يطلبون موضع الغيث، وأنشد عمر بن الأعور:
سقى الله جيرانا حمدت جوارهم ... كراما إذا عدّوا وفوق كرام
يعدون برق المزن في كل مهمه ... فما رزقهم إلا بروق غمام(5/100)
ولما كان الأمر المخوف من البرق يجوز وقوعه من أول برقة واحدة أتى ذكر الخوف في الآية مقدما أولا لكون الواحد أول العدد ولما كان الأمر المطمع من البروق إنما يقع بعد عدد من الابراق أتى ذكر الطمع تاليا لكونه لا يقع إلا في أثناء العدد وليكون الطمع ناسخا للخوف كمجيء الرخاء بعد الشدة، والفرج بعد الكربة، والمسرة بعد الحزن، فيكون ذلك أحلى موقعا في القلوب ويشهد لهذا التفسير قوله:
«وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحتمه» فجاء معنى الآية على ما جاء رحمة من الله سبحانه بخلقه وبشرى لعباده.
المؤاخاة بين المعاني والمؤاخاة بين المباني
وحيث وصلنا الى هذا المدى من ترتيب الاقسام يجدر بنا أن نتحدث عن المؤاخاة بين المعاني والمؤاخاة بين المباني وانها سر البيان ونسمة الروح فيه وقد أخذوا على أبي الطيب قوله على أنه آية في الحسن والروعة:
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو مساءة مجرم
فإن المقابلة الصحيحة بن المحب والمبغض لا بين المحب والمجرم وليس كل من أجرم إليك كان مبغضا لك.
وروى أبو الفرج في الأغاني انه اجتمع نصيب والكميت وذو الرمة فأنشد الكميت:
أم هل ظعائن بالعلياء رافعة ... وإن تكامل فيها الدّلّ والشنب(5/101)
فعقد نصيب واحدة فقال له الكميت: ماذا تحصي؟ قال: خطأك فإنك تباعدت في القول، أين الدل من الشنب؟ ألّا قلت كما قال دو الرمة:
لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب
وهذا موضع دقيق- كما قلنا- يتورط فيه أرباب النظم والنثر كثيرا وهو مظنة الغلط لأنه يحتاج الى شفوف طبع وثقوب نظر وقد وقع الخطأ لأبي نواس في قوله في وصف الديك وهي أرجوزة سنوردها في باب الفوائد لملاحتها وندرتها ولأن الدواوين الموجودة بين أيدينا أوردتها خطأ قال:
له اعتدال وانتصاب قدّ ... وجلده يشبه وشي البرد
كأنها الهداب في الفرند ... محدودب الظهر كريم الجد
فإن ذكر الظهر من جملة الخلق والجد من النسب وكان ينبغي أن يذكر مع الظهر ما يقرب منه ويؤاخيه أيضا وسيرد من أمثلة هذا الفن في كتابنا الشيء الكثير.
2- وفي قوله تعالى: «والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه» تشبيه تمثيلي رائع فقد شبه دعوة الكفار للآلهة ليستجيبوا لهم ثم صمم الآلهة وجمودها وعدم استجابتها وهذا هو المشبه المركب بمن يبسط كفيه الى الماء ليبلغ فاه وهو بعيد عنه ثم يبالغ في الدعوة ويحمله الهوس على الرجاء من الماء أن يستجيب وهو جماد لا يشعر فهذا هو المشبه به(5/102)
وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه لبشربه فبسطها ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا ولم يبلغ طلبته وشربته.
وقال أبو عبيدة «أي كالقابض على الماء ليس على شيء» قال والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء وأنشد سيبويه:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد
وقال آخر:
وإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تطعه أنامله
وقال آخر:
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
الفوائد:
1- خلاف حول الباء:
اختلف النحاة والمعربون في الباء من قوله تعالى «ويسبح الرعد بحمده» فقيل: هي للمصاحبة أو الملابسة أو باء الحال أي يسبحه حامدا له أي ينزهه عما لا يليق به ويثبت له ما يليق به، وضابط هذه الباء أن يغني عنها وعن مصحوبها الحال كما رأيت أو يحسن في موضعها «مع» وقيل هي للاستعانة أي يسبحه بما حمد به نفسه فيكون الحمد مضافا الى الفاعل أما في الأولى فهو مضاف الى المفعول(5/103)
ومن العجيب أن ابن خالويه النحوي أعربها في كتابه اعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم عند إعرابه «فسبح بحمد ربك» أعربها زائدة ولا أدري كيف استساغ ذلك ومواضع زيادة الباء معروفة وهي هنا ليست واحدة منها.
سبحانك اللهم وبحمدك:
قال ابن هشام في مغني اللبيب: واختلف في «سبحانك اللهم وبحمدك» فقيل جملة واحدة، وليس مراد المغني الخلاف في الباء بل في الواو «على أن الواو زائدة وقيل جملتان على أنها عاطفة ومتعلق الباء محذوف أي بحمدك سبحتك وقال الخطابي: المعنى وبمعونتك التي هي نعمة توجب علي حمدك سبحتك لا بحولي وقوتي يريد انه مما أقيم فيه المسبّب مقام السبب.
2- قصيدة أبي نواس في وصف الديك:
وعدناك بإثبات أرجوزة أبي نواسس في وصف الديك وبرا بالوعد نتبتها كما رأينا وخلافا لما وردت عليه في الدواوين:
أنعت ديكا من ديوك الهند ... أحسن من طاووس قطر المهدي
أسجع من عادي عرين الأسد ... ترى الدجاج حوله كالجند
يقعين منه خيفة للسّفد ... له سقاع كدويّ الرّعد
منقاره كالمعول المحدّ ... يقهر ما ناقره بالنقد
عيناه منه في القفا والخد ... ذو هامة وعنق كالورد
وجلدة تشبه وشي البرد ... ظاهرها زفّ شديد الوقد(5/104)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
كأنه الهدّاب في الفرند ... مضمّر الخلق عميم ا
لقدّ له اعتدال وأنصاب قد ... محدودب الظهر كريم الجدّ
[سورة الرعد (13) : الآيات 15 الى 18]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18)(5/105)
اللغة:
(الغدو) جمع غدوة بضم الغين وتجمع أيضا على غدى والغداة بفتح الغين وتجمع على غدوات والغديّة وتجمع على غدايا وغديات:
البكرة أو ما بين الفجر وطلوع الشمس.
(الْآصالِ) جمع الأصيل وهو الوقت بين العصر والمغرب ويجمع أيضا على آصال وأصائل وأصل وأصلان.
(احتمل) : أي حمل فافتعل بمعنى المجرد أو هو بمعنى المطاوع كما يفهم من عبارة الأساس: «وحملت الشيء وحملنيه غيري فاحتملته وتحملته ومن المجاز حملت إدلاله عليّ واحتملته قال:
أدلّت فلم أحمل وقالت فلم أجب ... لعمر أبيها انني لظلوم
(زَبَداً) : الزبد وضر الغليان والوضر بفتحتين وبالضاد المعجمة وسخ الدسم ونحوه وعبارة الخازن: الزبد ما يعلو على وجه الماء عند الزيادة كالحبب وكذلك ما يعلو على القدر عند غليانها والمعنى فاحتمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا رابيا أي عاليا مرتفعا فوق الماء طافيا عليها، وفي القاموس: الزبد ما يعلو على وجه الماء ونحوه من الرغوة ومن معانيه الخبث ومنه المثل: «صرّح المخض عن الزبد» يعنون بالزبد رغوة اللبن يضرب للصدق يحصل بعد الخبر المظنون (جُفاءً) قال ابن الأنباي: الجفاء المتفرق يقال جفأت الريح السحاب أي قطعته ومزقته وقيل الجفاء ما يرمي به السيل يقال جفأت(5/106)
القدر بزبدها تجفأ من باب قطع وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل باللام وفي همزة جفاء وجهان أظهرهما أنها أصل لوجودها في تصاريف هذه المادة والثاني أنها بدل من واو وقال في الأساس: «ذهب الزبد جفاء أي مدفوعا مرميا به قد جفأه الوادي الى جنباته ويقال: جفأت القدر بزبدها، ومرّ جفاء من العسكر الى البيات أي جماعة معتزلة من معظمه وتقول سامه جفاء ونبذه جفاء إذا عزله عن صحبته» .
وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ جفالا قال أبو عبيدة يقال:
أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته» قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة لأنه كان يأكل الفأر.
الإعراب:
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ومسوقة لبيان انقياد الخلائق جميعها والكائنات بأسرها للقوة الخالقة المدبرة والتصرف على مشيئته في الحركة والسكون والامتداد والزوال أو الفيء والتقلص ولله متعلقان بيسجد ومن فاعل يسجد وفي السموات والأرض صلة من وطوعا وكرها نصب على الحال أي طائعين وكارهين أو على المصدرية أي انقياد طوع وانقياد كره. (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) الواو عاطفة وظلالهم عطف على من وبالغدو والآصال متعلقان بيسجد. (قُلْ: مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ) قل فعل أمر وفاعله أنت والجملة بعده مقول القول ومن اسم استفهام مبتدأ ورب السموات والأرض خبر وقل فعل أمر والله خبر لمبتدأ محذوف أي هو الله أو مبتدأ والخبر محذوف أي لله رب السموات والأرض. (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)(5/107)
الهمزة للاستفهام الانكاري التهكمي والفاء عاطفة على محذوف كأن في الكلام تقديرا بين الهمزة والفاء تقديره قل أأقررتم بالجواب المذكور فاتخذتم، وقد تقرر هذا كثيرا، واتخذتم فعل وفاعل ومن دونه حال لأنه كان في الأصل صفة لأولياء وأولياء مفعول به وجملة لا يملكون صفة ولأنفسهم حال أو بالنفع والضر على أنهما مصدر ان ونفعا مفعول به ولا ضرا عطف عليه. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) هل حرف استفهام بمعنى النفي أي لا يستويان ويستوي الأعمى فعل مضارع وفاعل وأم حرف عطف وهل تستوي الظلمات والنور عطف على الجملة السابقة ولك أن تجعل أم منقطعة بمعنى بل. (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أم المنقطعة وجعلوا فعل وفاعل ولله حال لأنه كان صفة لشركاء وشركاء مفعول به أو لله مفعول به ثان لجعلوا وجملة خلقوا صفة والكاف مع مدخولها نعت لمفعول محذوف أي خلقوا خلقا مثل خلقه والفاء حرف عطف وتشابه الخلق فعل ماض وفاعل وعليهم متعلقان بتشابه. (قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) الله مبتدأ وخالق كل شيء خبر وهو مبتدأ والواحد خبر والقهار خبر ثان. (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) الجملة مستأنفة مسوقة لضرب مثل لتقدير ما تقدم وأنزل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي الله تعالى ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزل وماء مفعول به والفاء حرف عطف وسالت أودية فعل وفاعل وبقدرها متعلقان بسالت أو بمحذوف صفة لأودية أي بمقدار ما يملؤها وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) الفاء عاطفة واحتمل السيل فعل ماض وفاعل وزبدا مفعول احتمل لأنه بمعنى حمل ورابيا صفة(5/108)
لزبدا أي طافيا على وجهه وعاليا عليه، ومما الواو عاطفة لتعطف مثلا آخر على المثل الأول ومما خبر مقدم وجملة يوقدون صلة وعليه متعلقان بيوقدون وفي النار حال وابتغاء حلية مفعول لأجله على الأصح وقيل مصدر بمعنى الحال أي مبتغين حلية وليس ثمة مانع من ذلك وأو حرف عطف ومتاع معطوف على حلية وزبد مبتدأ مؤخر ومثله صفة أي مثل زبد السيل وهو وضره الذي ينفيه كير الحداد. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) كذلك نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك المذكور من الأمور الأربعة مثلين للحق ومثلين للباطل فالأولان الماء والجوهر والآخران الزبد والوضر. ويضرب الله الحق فعل مضارع ومفعول به والباطل عطف على الحق. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) الفاء عاطفة للتفريع وأما حرف شرط وتفصيل والزبد مبتدأ والفاء رابطة وجملة يذهب خبر وجفاء حال. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل وما موصول مبتدأ وجملة ينفع الناس صلة والفاء رابطة وجملة يمكث في الأرض خبر. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ) تقدم إعرابه. (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) اختلفت آراء المعربين في إعراب هذه الآية ونرى أن هنالك وجهين هما أولى نوردهما فالأول:
للذين خبر مقدم وجملة استجابوا صلة ولربهم متعلقان باستجابوا والحسنى مبتدأ مؤخر والثاني: للذين متعلقان بيضرب في الآية السابقة والحسنى صفة لمصدر محذوف أي الاستجابة الحسنى. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) ويتمشى على هذه الآية الاعرابان المتقدمان فلك أن تجعل الذين مبتدأ فيكون الكلام مستأنفا وخبره لو وما في حيزها، ولك أن تعطفها نسقا على الذين السابقة وجملة لم يستجيبوا صلة وله متعلقان بيستجيبوا ولو شرطية وأن وما في حيزها فاعل لفعل محذوف وقد تقدم، ولهم خبر(5/109)
ان وما اسمها وفي الأرض صلة وجميعا حال ومثله عطف ومعه ظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنا معه، لافتدوا اللام واقعة في جواب لو وافتدوا فعل ماض والواو فاعل وبه متعلقان بافتدوا. (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وسوء الحساب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك ومأواهم مبتدأ وجهنم خبر مأواهم وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم والمهاد فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو هي.
البلاغة:
1- استعارة السجود للانقياد والخضوع وهما من خصائص العقلاء للكائنات العاقلة وغير العاقلة والطوع الناشئ عن اختيار وهو الصادر عن الإنسان والكره الناشئ عن غير اختيار وهو الصادر عن الجماد ومعنى انقياد الظلال مطاوعتها لما يراد منها كطولها وقصرها وامتدادها وتقلصها.
ولأبي حيان كلام لطيف نثبته فيما يلي دفعا للأوهام قال:
«وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه قول ابن الأنباري: انه تعالى جعل للظلال عقولا تسجد بها وتخشع بها كما جعل للجبال أفهاما حتى خاطبت وخوطبت لأن الجبل لا يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به» .
2- التهكم والفرق بينه وبين الهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل لمجيئه على سبيل الاستهزاء والسخرية هذا على(5/110)
ما تعارفناه بيننا والهزل الذي يراد به الجد ظاهره هزل وباطنه جد وفي قوله تعالى «خلقوا كخلقه» في سياق الإنكار تهكم بهم لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة لا بطريق المشابهة والمساواة ولا بطريق الانحطاط والقصور فقد كان يكفي في الإنكار عليهم أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا ولكن جاء قوله تعالى كخلقه تهكما يزيد الإنكار تأكيدا وقد أسلفنا القول في التهكم وأوردنا أبياتا لابن الرومي وغيره فيه ونرى من المفيد أن نتحدث قليلا عن نقيضه وهو الهزل المراد به الجد وهو من يقصد المتكلم مدح شيء أو ذمه فيخرج ذلك المقصود مخرج الهزل المعجب والمجون المطرب وخير مثال عليه قول أبي نصر بن أبي الفتح كشاجم:
صديق لنا من أبدع الناس في البخل ... وأفضلهم فيه وليس بذي فضل
دعاني كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي
فلما جلسنا للطعام رأيته ... يرى أنه من بعض أعضائه كلّيّ
ويغتاظ أحيانا ويشتم عبده ... وأعلم أن الشتم والغيظ من أجلي
فأقبلت أستل الغذاء مخافة ... وألحاظ عينيه رقيب على فعلي(5/111)
أمدّ يدي سرا لأسرق لقمة ... فيلحظني شزرا فأعبث با
لبقل إلى أن جنت كفي لحتفي جناية ... وذلك أن الجوع أعدمني
عقلي فجرت يدي للحين رجل دجاجة ... فجرت كما جرت يدي رجلها
رجلي وقدم من بعد الطعام حلاوة ... فلم أستطع منها أمر ولا
أحلي وقمت لو اني كنت بيّتّ نية ... ربحت ثواب الصوم من عدم الأكل
3- المثل: تقدم القول في المثل السائر ونقول هنا إن كتاب الله الكريم طافح بالأمثال وفي قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع فيمكث في الأرض» مثلان ضربهما الله للحق وأهله والباطل وحزبه فمثّل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس فتخصوصب وتخضر وتنبت وتزدهر وينتفعون بأنواع المنافع وبالجواهر التي يصوغون منها الحلي والآلات التي تضفي عليهم القوة والهيبة والجمال والبأس الشديد وإن ذلك كله ماكث(5/112)
في الأرض لا تخلق له جدة ولا تذبل منه نضارة وشبّه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنافع بزبد السيل الطافي الذي تقحمه العين وينبو عنه البصر لعدم جدواه وبالوضر الذي يطفو فوق الجوهر إذا أذيب وقد انطوت تحت هذا المثل الرائع أنواع من البلاغة نوردها باختصار:
آ- تنكير الأودية لأن المطر لا يأتي إلا على طريق التناوب بين البقاع.
ب- الاحتراس بقوله «بقدرها» أي بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار وإلا فلو طما واستحال سيلا لا جتاح الأخضر واليابس ولأهلك الحرث والنسل.
ج- تعريف السيل لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو قوله تعالى:
«فسالت» وهو لو ذكر لكان نكرة فلما أعيد أعيد معرفة نحو رأيت رجلا فأكرمت الرجل وهكذا تطرد القاعدة في النكرة إذا أعيدت.
د- مراعاة النظير في ألفاظ الماء والسيل والزبد والربو وفي ألفاظ النار والجوهر والفلزات المعدنية والإيقاد والحلية والمتاع.
هـ- اللف والنشر الموشى في قوله تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء» الى آخر الآية.
واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبدا رابيا فوقه وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى(5/113)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
يذوب من الأجسام المنطرقة فان أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب فإذا أذيبت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثا مرتفعا فوقها.
[سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24]
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
الإعراب:
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) أفمن تقدم القول في هذا التركيب كثيرا ونعيده للفائدة فالهمزة للاستفهام الانكاري والفاء مؤخرة من تقديم أو عاطفة على محذوف هو(5/114)
مدخول الهمزة والتقدير: أيستوي المؤمن والكافر أفمن يعلم. ومن مبتدأ وجملة يعلم صلة ولك في أنما وجهان أن تجعلها كافة ومكفوفة فأنزل فعل ماض مبني للمجهول وإليك حال ومن ربك متعلقان بأنزل والحق نائب فاعل، ولك أن تفصل ما فتعرب أن حرفا مشبها للفعل وما اسمها والحق خبرها وأن وما في حيزها على الوجهين سدت مسد مفعولي يعلم والكاف اسم بمعنى مثل خبر من وهو مبتدأ وأعمى خبر والجملة الاسمية صلة من. (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) إنما كافة ومكفوفة ويتذكر فعل مضارع وأولو فاعله وهو مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والألباب مضاف اليه. (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) الذين مبتدأ وخبره سيأتي فيما بعد وهو قوله أولئك لهم عقبى الدار ولك أن تعربه بدلا من أولي الألباب تفاديا لطول الفصل بين الابتداء والخبر وجملة يوفون صلة وبعهد الله متعلقان بيوفون، ولا ينقضون الميثاق عطف على الجملة السابقة وستأتي سبع صفات أخرى لهم فتكون صفاتهم ثمانيا. (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) والذين عطف على الذين وجملة يصلون صلة وما مفعول به وجملة أمر الله صلة ومفعول أمر محذوف والتقدير ما أمرهم وبه متعلقان بأمر وأن وما في حيزها بدل من الضمير المجرور وهو الهاء أي بوصله. (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) ويخشون عطف على يصلون ويخشون فعل مضارع وفاعل وربهم مفعول به ويخافون عطف على يخشون وسوء الحساب مفعول به. (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) والذين عطف على الذين السابقة وصبروا صلة وابتغاء وجه ربهم مفعول لأجله، وقال بعضهم:
«والذين صبروا» قيل هو كلام مستأنف وقيل معطوف على ما قبله والتعبير عنه بلفظ المضي للتنبيه على أنه ينبغي تحققه. (وَأَقامُوا(5/115)
الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)
وأقاموا الصلاة عطف وهي فعل وفاعل ومفعول به وأنفقوا عطف على أقاموا ومما متعلقان بأنفقوا وجملة رزقناهم صلة وهي فعل وفاعل ومفعول به وسرا وعلانية منصوبان بنزع الخافض أو هما مصدران في موضع الحال واختار هذا أبو البقاء أي في السر والعلانية ويجوز نصبهما على الحال أي مسرين ومعلنين. (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) عطف على ما تقدم وبها تكتمل أوصافهم الثمانية وبالحسنة متعلقان بيدرءون والسيئة مفعول به ليدرءون. (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وعقبى الدار مبتدأ مؤخر وجملة لهم عقبى الدار خبر أولئك والجملة كلها خبر الذين الأولى (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) جنات عدن بدل من عقبى الدار أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي جنات أو مبتدأ وجملة يدخلونها خبر وعلى الأولين تكون الجملة حالية.
ومن عطف على الواو في يدخلونها ولا حاجة لتقدير ضمير كما فعل بعض المعربين لوجود الفصل بالضمير المنصوب ولك أن تعربها مفعولا معه والواو واو المعية وجملة صلح صلة ومن آبائهم حال وما بعده عطف عليه. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) الواو حالية والملائكة مبتدأ وجملة يدخلون خبر وعليهم متعلقان بيدخلون ومن كل باب متعلقان بيدخلون أيضا. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) سلام مبتدأ وعليكم خبر وساغ الابتداء لما فيه من معنى الدعاء والجملة مقول قول محذوف في موضع نصب على الحال أي قائلين وبما صبرتم الباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم أي هذا بسبب صبركم فهما خبر لمبتدأ محذوف أو متعلق بسلام أي نسلم(5/116)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
عليكم ونكرمكم بصبركم وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. والفاء الفصيحة ونعم فعل ماض جامد لإنشاء المدح وعقبى الدار فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف أي هي.
البلاغة:
في قوله تعالى «صبروا ابتغاء وجه ربهم» فن الاحتراس وقد تقدم فقد انتفى بقوله ابتغاء وجه ربهم أن يكون صبرهم ناشئا عن حب الجاه والشهرة أو ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل وأوقره عند الزلازل لئلا يشمت به الأعداء كقول أبي ذؤيب:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتزعزع
ولا اعتقادا منهم بأن الأمر مقدور ولا مفر منه ولا طائل من الهلع ولا مرد للفائت ولا دافع لقضاء الله كقوله:
ما إن جزعت ولا هلع.... ت ولا يرد بكاي زندا
[سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 29]
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)(5/117)
اللغة:
(طُوبى) : مصدر من الطيب كبشرى ورجعى وزلفى فالمصدر قد يجيء على وزن فعلى وأصله يائي فهي طيبى قلبت الياء واوا لوقوعها ساكنة إثر ضمة كما قلبت في موقن وموسر من اليقين واليسر ومعنى طوبى لك أصبت خير طيبا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك وطيب لك وسلاما لك وسلام لك وفي القاموس: الطوبى مؤنث الأطيب والغبطة والسعادة والخير والخيرة وجمع طيبة وهذا من نوادر الجموع.
الإعراب:
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) الذين مبتدأ وجملة ينقضون صلة والواو فاعل وعهد الله مفعول به ومن بعد ميثاقه حال.
(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) تقدم إعراب نظيرتها.
(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) عطف على الجمل السابقة. (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أولئك مبتدأ وخبره لهم اللعنة وقد تقدم اعراب نظيرتها وجملة أولئك لهم اللعنة خبر الذين ولهم سوء الدار عطف على لهم اللعنة. (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) الله مبتدأ وجملة(5/118)
يبسط الرزق خبر ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يشاء. (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) الواو استئنافية وجملة فرحوا مستأنفة مسوقة لبيان قبح أفعالهم مع ما أفاضه عليهم من رزق ونعم سوابغ وبالحياة جار ومجرور متعلقان بفرحوا والدنيا صفة للحياة.
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) الواو حالية وما نافية والحياة مبتدأ والدنيا صفة وفي الآخرة حال على حذف مضاف أي في جنب الآخرة و «في» هذه للمقايسة وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لا حق والتقدير وما الحياة الدنيا كائنة في جنب الآخرة ولا يجوز أن تكون «في» للظرفية لأن الحياة الدنيا لا تكون في الآخرة وإلا أداة حصر ومتاع خبر. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) الواو عاطفة ليتساوق الارتباط بين قولهم وما كانوا عليه من ضلال.
ويقول الذين فعل مضارع وفاعل وجملة كفروا صلة ولولا حرف تحضيض بمثابة هلا وأنزل فعل ماض مبني للمجهول وعليه متعلقان بأنزل والضمير يعود على النبي محمد عليه السلام وآية نائب فاعل ومن ربه صفة. (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) إن واسمها وجملة يضل خبرها ومن مفعول به وجملة يشاء صلة ويهدي عطف على يضل واليه متعلقان بيهدي ومن مفعول به وجملة أناب صلة.
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الذين بدل وجملة آمنوا صلة، أو الذين مبتدأ خبره الذين آمنوا والأول أولى، وتطمئن عدل عن الماضي إلى المضارع لإفادة التجدد وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة وقلوبهم فاعل تطمئن وبذكر الله متعلقان بتطمئن والقلوب فاعل. (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الذين مبتدأ أو خبر الذين الأولى وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على الصلة وطوبى مبتدأ ولهم خبر وساغ(5/119)
الابتداء بها لما فيها من معنى الدعاء، وقيل طوبى خبر لمبتدأ محذوف واللام في لهم للبيان مثل سقيا لك ورعيا لك أو مفعول لفعل محذوف أي أصبت خيرا طيبا وقرىء وحسن مآب بالنصب والرفع، ولك أن تعربها مفعولا مطلقا كما قدمنا على قراءة من نصب حسن لظهور حركة الاعراب عليها والأول أولى لأن الجمهور قرأ بالرفع ولأبي البقاء وهم فيها إذ أجاز اعرابها حالا مقدرة ولا أدري ما هو مبرره وحسن عطف على طوبى ومآب مضاف اليه.
البلاغة:
في قوله تعالى «الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم» فن رفيع من فنون البلاغة وقد سبق ذكره ونعيد الآن ما يتعلق بهذه الآية فقد عدل عن عطف الماضي على الماضي فلم يقل واطمأنت قلوبهم لسر من الأسرار يدق إلا على العارفين بأسرار هذه اللغة الشريفة ذلك أن من خصائص الفعل المضارع أنه قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال وهما الزمانان اللذان يحتملهما المضارع فلا يدل إلا على مجرد الاستمرار ومنه هذه الآية أي أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بصورة مطردة مهما تتالت المحن، وتعاقبت الأرزاء، وحدثت المفاجأة فكأنما أعدوا لكل محنة صبرا ولكل رزء اطمئنانا جديدا فتدبر هذه الملاحظة فإنها عمود الجمال وسره.(5/120)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
[سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 31]
كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
اللغة:
(يَيْأَسِ) قال الزمخشري: ومعنى أفلم ييئس: أفلم يعلم قيل:
هي لغة قوم من النخع وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف والنسيان في معنى الترك قال سحيم بن وثيل الرياحي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم
وفي المختار: «اليأس: القنوط وقد يئس من الشيء من باب فهم وفيه لغة أخرى يئس ييئس بالكسر فيهما وهو شاذ ويئس أيضا بمعنى علم في لغة النخع ومنه قوله تعالى: «أفلم ييئس الذين آمنوا» .
(قارِعَةٌ) : داهية تقرعهم بصنوف البلاء وفي المختار قرع الباب من باب قطع والقارعة الشديدة من شدائد الدهر وهي الداهية.(5/121)
الإعراب:
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) الكاف في محل نصب كنظائرها أي مثل ذلك الإرسال أرسلناك إرسالا له شأن وقد تقدمت نظائرها كثيرا وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وفي أمة متعلقان بأرسلناك وجملة قد خلت صفة لأمم ومن قبلها حال لأنه كان صفة لأمم وأمم فاعل. (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) لتتلو اللام للتعليل وتتلو مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتتلو والفاعل أنت وعليهم متعلقان بتتلو والذي مفعول به وجملة أوحينا إليك صلة. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الواو للحال أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن والجار والمجرور متعلقان بيكفرون ولا مانع من جعلها استئنافية كما قال بعضهم. (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هو ربي مبتدأ وخبر والجملة الاسمية مقول القول ولا إله إلا هو تقدم القول فيها مفصلا في البقرة فجدد به عهدا. (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) عليه متعلقان بتوكلت وإليه خبر مقدم ومتاب مبتدأ مؤخر. (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للرد على من طلبوا من رسول الله أن يسيّر الجبال بقرآنه عن مكة حتى تتسع لهم ويبعث لهم آباءهم ليشهدوا بنبوته. ولو شرطية وان حرف مشبه بالفعل وقرآنا اسمها وجملة سيرت خبر ان وبه متعلقان بسيرت والجبال نائب فاعل وأو حرف عطف وقطعت به الأرض معطوفة وكذلك أو كلم به الموتى وجواب لو محذوف كما تقول لمن تهدده لو أني قمت إليك وتترك الجواب والمعنى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال عن مقارها أو(5/122)
قطعت به الأرض حتى تتصدع وتتزايل وتتهافت أو كلم به الموتى فتسمع وتجيب لما آمنوا وقدرة أبو حيان «لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الانذار والتخويف» وسيأتي مزيد بحث عن هذا الحذف في باب البلاغة. (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) بل حرف إضراب ولله خبر مقدم والأمر مبتدأ مؤخر وجميعا حال وهو عطف للاضراب عما تضمنته لو من معنى النفي أي بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوه متعنتين. (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) الهمزة للاستفهام والتقرير ولم حرف نفي وقلب وجزم وييئس مضارع مجزوم بلم والذين فاعل وجملة آمنوا صلة وأن مخففة من الثقيلة لتقدم معنى العلم عليها واسمها ضمير الشأن ولو حرف شرط ويشاء فعل مضارع والله فاعل واللام رابطة وجملة هدى الناس جواب لولا محل لها وجميعا حال وجملة الشرط وجوابه خبر ان. (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) الواو عاطفة ولا يزال فعل مضارع ناقص والذين اسمها وجملة كفروا صلة وجملة تصيبهم خبر لا تزال وبما صنعوا متعلقان بتصيبهم أي بسبب صنعهم فالباء سببية وما مصدرية وقارعة فاعل تصيبهم. (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أو حرف عطف وتحل عطف على تصيبهم والفاعل هي أي القارعة وقريبا ظرف مكان أي مكانا قريبا من دارهم ومن دارهم متعلقان بقريبا فيتطاير عليهم شرارها وتطوح بهم ويلاتها وقيل إن الفاعل لتحل يعود الى المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم أي تحل أنت بجيشك قريبا من دارهم كما حل بالحديبية وقد أتى فتح مكة والأول أظهر وأولى. (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) حتى حرف غاية وجر ويأتي مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ووعد الله فاعل والمراد بوعده النصر المحتوم وان واسمها وجملة لا يخلف خبرها والميعاد مفعول به.(5/123)
البلاغة:
في قوله تعالى: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الى آخر الآية إيجاز عجيب فقد حذف الجواب كما تقدم، واختلف المعربون والمفسرون في تقديره وقد قدرناه في الإعراب: لما آمنوا وقد اختار الزمخشري هذا التقدير ولكنه جعله مرجوحا وقدر الأرجح بقوله «لكان هذا القرآن» لكونه غاية في التذكير ونهاية في الانذار وهو تقدير لا بأس به وإن كان الأول أقرب الى سياق الحديث وأوكد في تقرير المعنى وحذف جواب «لو» شائع في كلامهم ومن أمثلته في الشعر قول أبي تمام في قصيدته البائية التي يمدح بها المعتصم عند فتحه عمورية:
لو يعلم الكفر كم من أعصر كنت ... له المنية بين السّمر والقضب
فإن جواب لو محذوف تقديره لأخذ أهبته ولأعد للأمر عدته أو لما أقدم على ما أقدم عليه من اجتراء كما تدل عليه قصة المرأة الهاشمية التي سباها أحد العلوج فصرخت وا معتصماه.
وعبارة ابن هشام: «ولو أن قرآنا سيرت به الجبال» الآية أي لما آمنوا به بدليل وهم يكفرون بالرحمن والنحويون يقدرون: لكان هذا القرآن وما قدرته أظهر» .
أي للدليل المذكور وفيه أن ما قدروه أيضا دل عليه قوله تعالى:
«لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله» فلم يتبين كون تقديره أظهره من تقديرهم واعلم أن كلّا من الوجهين(5/124)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
ودليل كل واحد ذكره الزمخشري فلم يقدر المصنف شيئا انفرد به عن غيره خلافا لما يشعر به قوله: وما قدرته أظهر. هذا وقد أطلق الباقلاني على هذه الآية فن الاشارة وعرفه «بأنه اشتمال اللفظ القليل على المعاني الكثيرة وقال بعضهم في وصف البلاغة «لمحة دالة» وهو بعينه تعريف الإيجاز.
[سورة الرعد (13) : الآيات 32 الى 34]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)
اللغة:
(فَأَمْلَيْتُ) : الاملاء أن يترك مدة طويلة من الزمن في دعة وأمن وفي القاموس وشرحه: «أملي إملاء الله فلانا أطال عمره: أطاله ومتعه به وأملى الله الظالم وله أمهله» وقال: والاملاء مصدر والامهال والتأخير وما يملى من الأقوال والمليّ الطويل من الزمان يقال: انتظرته مليا أي زمنا طويلا ومر مليّ من الليل وهو ما بين أوله إلى ثلثه وقيل هو قطعة منه لم تحد.(5/125)
(أَشَقُّ)
أشد منه اسم تفضيل من شق يشق من باب نصر مشقة وشقّ الأمر: اشتد وصعب.
الإعراب:
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) الواو عاطفة ليتساوق الكلام وللتمهيد الى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق واستهزىء فعل ماض مبني للمجهول وبرسل سد مسد نائب الفاعل ومن قبلك صفة لرسل. (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) الفاء للعطف وأمليت فعل وفاعل وللذين متعلقان بأمليت وجملة كفروا صلة وثم حرف عطف وأخذتهم فعل وفاعل ومفعول به، فكيف: الفاء عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر لكان مقدم وكان فعل ماض ناقص وعقابي اسمها وحذفت الياء لمراعاة الفواصل. (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) الهمزة للاستفهام الانكاري وجوابه محذوف تقديره لا كما سيأتي والفاء عاطفة على محذوف وقد تقدم تقديره ومن اسم موصول مبتدأ وهو مبتدأ ثان وقائم خبر المبتدأ الثاني والجملة الاسمية صلة الموصول وعلى كل متعلقان بقائم والباء حرف جر بمعنى مع وما موصول مجرور بالباء أو مصدرية وهي مع مدخولها مجرورة بالباء والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال وخبر من محذوف تقديره كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع وقد دل عليه قوله فيما بعد: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) وجواب الاستفهام «لا» كما قدرناه. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة للدلالة على خبر من المحذوف كما تقدم وهذا أحسن الأقوال فيها وجعلها أبو البقاء عاطفة وجعلها غيره حالية، وجعلوا فعل وفاعل ولله متعلقان بمحذوف مفعول ثان أو بمحذوف حال وشركاء مفعول جعلوا الأول إن كانت جعل بمعنى صيّر.(5/126)
(قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) سموهم فعل أمر للتعجيز وهو فعل وفاعل ومفعول به وأم هي المنقطعة وتنبئونه فعل مضارع حذفت منه همزة الاستفهام والتقدير أتنبئونه وهو فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بتنبئونه وجملة لا يعلم صلة ومفعول يعلم محذوف أي يعلمه وفي الأرض حال والمراد نفي أن يكون له شركاء كما سيأتي في باب البلاغة وإلا لتناولهم علمه. (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أم المنقطعة أيضا وهي بمعنى بل وبظاهر متعلقان بتنبئونه أي من غير حقيقة واعتبار معنى ومن القول صفة لظاهر. (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) بل حرف إضراب وعطف وزين فعل ماضي مبني للمجهول وللذين متعلقان بزين وكفروا صلة ومكرهم نائب فاعل. (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) الواو عاطفة وصدوا فعل وفاعل وعن السبيل متعلقان بصدوا ومن الواو استئنافية ومن شرطية في محل نصب مفعول به مقدم ليضلل ويضلل فعل الشرط والله فاعل، فما: الفاء رابطة لجواب الشرط وما نافية حجازية وله خبرها المقدم ومن حرف جر زائد وهاد اسم ما محلا مجرور بما لفظا. (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)
لهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الحياة صفة لعذاب والدنيا صفة للحياة. (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ)
الواو عاطفة أو حالية واللام للابتداء والآخرة مضاف اليه وأشق خبر عذاب وما لهم من الله من واق تقدم اعرابها.
البلاغة:
انطوت الآية الكريمة وهي قوله تعالى: «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ... » الى آخر الآية على فنون عديدة من البلاغة لأنها وردت في معرض الاحتجاج عليهم في اشراكهم بالله ندرجها فيما يلي:(5/127)
1- الاستفهام الانكاري في قوله تعالى أفمن وحذف خبره تصريحا في التوبيخ والزراية عليهم على القياس الفاسد لفقد الجهة الجامعة لهما وهذا ما يسميه علماء البيان: الإضمار على شريطة التفسير وهو أن يحذف من صدر الكلام ما يؤتى به في آخره فيكون الآخر دليلا على الأول وهو على ثلاثة أضرب:
آ- أن يأتي عن طريق الاستفهام فتذكر الجملة الأولى دون الثانية كالآية التي نحن بصددها وكقوله تعالى أيضا: «أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين» تقدير الآية أفمن شرح الله صدره للاسلام كمن أقسى قلبه ويدل على المحذوف قوله «فويل للقاسية قلوبهم» .
ب- أن يرد على حد النفي والإثبات كقوله «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا» تقديره لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل ومن أنفق من بعده وقاتل.
ج- أن يرد على غير هذين الوجهين فلا يكون استفهاما ولا نفيا واثباتا كقول أبي تمام:
يتجنب الآثام ثم يخافها ... فكأنما حسناته آثام
ففي صدر البيت إضمار مفسر في عجزه وتقديره انه يتجنب الآثام فيكون قد أتى بحسنة ثم يخاف تلك الحسنة فكأنما حسناته آثام والبيت بعد مأخوذ بطرف خفي من قوله تعالى: «والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة» .
2- وضع المظهر موضع المضمر للتنبيه على أنهم جعلوا شركاء لمن(5/128)
هو فرد واحد لا يشاركه أحد في اسمه وذلك في قوله «وجعلوا لله شركاء» .
3- التعجيز في قوله «قل سموهم» أي عيّنوا أسماءهم فقولوا فلان وفلان فهو إنكار لوجودها على وجه برهاني كما تقول: إن كان الذي تدعيه موجودا فسمّه لأن المراد بالاسم العلم.
4- نفي الشيء بايجابه أو عكس الظاهر وقد تقدم بحث هذا الفن وهو من متطرفات علم البيان وهو في قوله تعالى «أم تنبئونه بما لا يعلم» وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء وان الله لا يعلمهم كذلك لأنهم- في الواقع- ليسوا كذلك وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة. معبودة ولكن مجيء النفي على هذه السنن المتلو بديع لا تكاد تكتنه بلاغته وعبارته ومن طريفه قول علي بن أبي طالب في وصف مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تثنى فلتاته» أي لا تذاع سقطاته فظاهر هذا اللفظ انه كان ثم فلتات غير أنها لا تذاع وليس المراد ذلك بل المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتثنى.
5- الاستدارج بقوله «أم بظاهر من القول» ليحثهم على التفكير دون القول المجرد من الفكر كقوله في مكان آخر: «ذلك قولهم بأفواههم» ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها» وهذا الاحتجاج من أعجب الأساليب وأقواها.
6- التدرج في كل من الإضرابات بأم المنقطعة وب «بل» على أنطف وجه.(5/129)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
[سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 37]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37)
الإعراب:
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) مثل الجنة مبتدأ وخبره محذوف على مذهب سيبويه أي فيما قصصناه عليكم مثل الجنة أي صفتها التي هي مثل في الغرابة وقد تقدمت مقتطفات من كلام سيبويه في مثل هذا التركيب وقال الزجاج معناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد. والتي صفة للجنة ووعد المتقون فعل ماض مبني للمجهول ونائب فاعل وجملة تجري من تحتها الأنهار تفسير للمحذوف على رأي سيبويه فهي نصب على الحال وكذلك جملة أكلها دائم، وأكلها مبتدأ ودائم خبر وظلها مبتدأ حذف خبره دل عليه ما قبله أي دائم وتلك مبتدأ وعقبى خبر والذين مضاف اليه وجملة اتقوا صلة. (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) عقبى مبتدأ والنار خبر أو بالعكس(5/130)
لمناسبة الاول ولعله أولى. (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والذين مبتدأ وجملة آتيناهم صلة والكتاب مفعول آتيناهم الثاني وجملة يفرحون خبر الذين وبما متعلقان بيفرحون وجملة أنزل إليك صلة وسر الفرح موافقته لما ورد عندهم.
(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) الواو عاطفة ومن الأحزاب خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وجملة ينكر صلة وبعضه مفعول به وسيرد في باب الفوائد كتاب الصلح يوم الحديبية. (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ) إنما كافة ومكفوفة وأمرت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض أي بأن أعبد الله والجار والمجرور متعلقان بأمرت. (وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) ولا أشرك عطف على أن أعبد وبه متعلقان بأشرك واليه متعلقان بأدعو وإليه الثانية خبر مقدم ومآب مبتدأ مؤخر وعلامة رفعه الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل أي واليه مآبي أي مرجعي. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) الكاف في موضع نصب صفة لمصدر محذوف أي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه، وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وحكما عربيا حالان أي حاكما بين الناس عربيا أي بلغة العرب ولما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم وقد تقدمت له نظائر. (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) اللام موطئة لتقسم وان شرطية واتبعت فعل وفاعل وهو في محل جزم فعل الشرط وأهواءهم مفعول به وبعد ظرف متعلق باتبعت وما موصول مضاف اليه وجملة جاءك صلة ومن العلم حال. (ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ما نافية حجازية أو تميمية ولك خبر مقدم ومن الله حال لأنه كان في الأصل صفة ومن زائدة وولي اسم ما أو مبتدأ ولا واق عطف عليه وجملة مالك لا محل لها لأنها جواب القسم ولذلك لم تقترن بالفاء(5/131)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفقا للقاعدة في اجتماع الشرط والقسم.
الفوائد:
لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصلح يوم الحديبية كتب فيه بسم الله الرّحمن الرّحيم قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله تعالى «وهم يكفرون بالرحمن قل: هو ربي» وانما قال: «ومن الأحزاب من ينكر بعضه» لأنهم كانوا لا ينكرون الله وينكرون الرحمن وقيل لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم وكانوا ينكرون نعت رسول الله وغير ذلك.
[سورة الرعد (13) : الآيات 38 الى 43]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)(5/132)
اللغة:
(أُمُّ الْكِتابِ) : أصله الذي يرتد إليه فكل كائن مكتوب فيه والأم أصل الشيء والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمّا له ومنه أم الرأس للدماغ وأم القرى لمكة.
(مُعَقِّبَ) : المعقب في الأصل هو الذي يتعقب الشيء بالابطال ومنه قيل الحق معقب لأنه يتعقب غريمه بالطلب والمعقب هو الذي يكر على الشيء فيبطله.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة لابطال الشبهات التي كانوا يوردونها لابطال النبوة وقد أنهاها المفسرون إلى ست شبهات ويمكن الرجوع إليها في المطولات واللام مواطئة للقسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل ورسلا مفعول به ومن قبلك متعلقان بأرسلنا. (وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) وجعلنا فعل وفاعل ولهم في موضع المفعول الثاني وأزواجا هو المفعول الأول وذرية عطف على أزواجا وهذا إبطال للشبهة الأولى من شبهاتهم وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما اشتغل بالنسوة ولما انهمك في تعدد الزوجات ولا نصرف الى النسك والزهادة فأجاب بأن الرسل الذين سبقوك كانت لهم زوجات كثيرة فلم يقدح ذلك في نبوتهم.(5/133)
(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص ولرسول خبر كان المقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وبآية جار ومجرور متعلقان بيأتي وإلا أداة حصر وبإذن الله استثناء من أعم الأحوال فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال. (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) لكل خبر مقدم وأجل مضاف اليه وكتاب مبتدأ مؤخر. (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) يمحو الله فعل مضارع وفاعل وما مفعول به وجملة يشاء صلة ويثبت عطف على يمحو وعنده الظرف خبر مقدم وأم مبتدأ مؤخر والكتاب مضاف وهذا رد على شبهة ثانية كانوا يوردونها تعطيلا وإرجافا وهي أن محمدا يأمر أصحابه اليوم بأمر كاستقبال بيت المقدس ثم يأمرهم في الغد بخلافه كاستقبال الكعبة فرد عليهم مفندا شبهتهم بأنه سبحانه إنما شرع الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم ورأب صدوعهم واختيار الأنفع لهم ولكنهم معطلة لا يأبهون لصلاح أمورهم ومقتضيات أحوالهم. (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) الواو عاطفة وإن الشرطية أدغمت بما الزائدة ونرينك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره نحن والكاف مفعول به وبعض مفعول به ثان والذي مضاف اليه وجملة نعدهم صلة الذي وأو حرف عطف ونتوفينك عطف على نرينك ويقدر المعربون جواب الشرط محذوفا أي فذلك شافيك ودليل صدقك ويعربون الفاء في قوله فإنما للتعليل لهذا المحذوف ولا داعي لهذا التكلف بل الأسهل أن يكون قوله فانما هو الجواب وتقدير الكلام ومهما يكن من أمر وكيفما دارت الأحوال وإن أريناك مصارعهم وأنزلنا بهم ما أوعدناهم به من عذاب أو توفيناك قبل أن ترى شيئا من ذلك فما يترتب عليك وليس قصاراك إلا تبليغ الرسالة فحسب. وإنما كافة ومكفوفة وعليك خبر مقدم والبلاغ مبتدأ مؤخر وعلينا خبر مقدم(5/134)
والحساب مبتدأ مؤخر. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على محذوف- كما تقدم- تقديره أأنكروا نزول ما أوعدناهم وشكوا في ذلك وامتروا فيه ألم ينظروا في ذلك؟ ألم يروا؟ ألم تكن لهم في تلك المشاهد الكافية والدلائل الوافية عبرة لهم؟ ولم حرف نفي وقلب وجزم وأن واسمها سدت مسد مفعولي يروا وجملة نأتي خبر أن وفاعل نأتي مستتر تقديره نحن والأرض مفعول به وجملة ننقصها من أطرافها حالية من فاعل نأتي أو من مفعوله أي نفتحها أرضا بعد أرض بما ينقص من أطراف المشركين ويزيد في أطراف المؤمنين. (وَاللَّهُ يَحْكُمُ) لفظ الجلالة مبتدأ وجملة يحكم خبر. (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا نافية للجنس ومعقب اسمها المبني على الفتح ولحكمه خبر لا وهو الواو عاطفة وهو مبتدأ وسريع الحساب خبر هو وجملة لا معقب لحكمه حال أيضا من فاعل نأتي على الالتفات كأنه قيل والله يحكم نافذا حكمه وستأتي الفائدة من الالتفات في باب البلاغة. (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) الواو استئنافية وقد حرف تحقيق وجملة مكر الذين من قبلهم استئنافية مسوقة لتسليته صلى الله عليه وسلم وقد مر بحث اسناد المكر الى الله كثيرا فعرج عليه، فلله المكر الفاء عاطفة على محذوف بمثابة التعليل أي فلا تأبه لمكرهم ولا تخش ضيرا منه فحذف هذا اكتفاء
بدلالة القصر المستفاد من التعليل، والله خبر مقدم والمكر مبتدأ مؤخر وجميعا حال وشتان بين مكرهم ومكره. (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) الجملة تفسير لقوله فلله المكر جميعا ويعلم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تكسب صلة وكل نفس فاعل.
(وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) السين للاستقبال ويعلم الكفار وفي قراءة الكافر فعل وفاعل ولمن اللام حرف جر ومن اسم استفهام في محل(5/135)
جر باللام والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعقبى الدار مبتدأ مؤخر. (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) الجملة مستأنفة مسوقة لاجمال الشبهات الست التي أوردوها والتي تنتهي في اعتقادهم الى هذه النتيجة وهي إبطال رسالته صلى الله عليه وسلم وجملة لست مرسلا مقول قولهم وهو مجمل شبهاتهم وليس واسمها وخبرها.
(قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) كفى فعل ماض تقدم بحثه مستوفى وبالله الباء حرف جر زائد ولفظ الجلالة مجرور لفظا مرفوع محلا وشهيدا تمييز وبيني وبينكم ظرفان متعلقان بشهيدا ومن عطف على الله وعنده الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وعلم الكتاب مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية صلة من.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب في حكمه» التفات بليغ، وقد سبق ذكر الالتفات مشفوعا بالأمثلة والشواهد ونزيده هنا بسطا بصدد ما يتعلق بالآية فتقول: الرجوع عن خطاب النفس الى الغيبة في الآية وبناء الحكم على الاسم الجليل ينطوي على أعظم الأسرار وأبهرها فإنه لما أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة المشوبة بالتحذير كان لا بد أن يتوجه إليهم بالخطاب ليريهم مكان القوة والعظمة لديه، عاد الى تصوير الفخامة والمهابة، وتحقيق مضمون الخبر بالاشارة الى العلة التي هي السبب في إتيان الأرض وانتقاص أطرافها وإدالة الأمر من قوم لقوم، ونقل السيطرة من الظالمين بالأمس الى المظلومين ومن الغالبين بالأمس الى المغلوبين وهذه الفخمية لا تتأتى إلا بإيراد الكلام في معرض الغيبة فقال ملتفتا والله يحكم في خلقه بما يشاء لا راد لحكمه ثم أردف ذلك بقوله لا معقب(5/136)
لحكمه ولا مبطل لمشيئته وثلث بقوله وهو سريع الحساب فكل شيء محسوب لديه وعما قليل يحاسبهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا وستأتي شواهد بديعة من هذا الفن الرفيع.
2- الاستخدام:
وفي قوله «لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» فن رفيع من فنون البلاغة أطلق عليه علماء هذا الفن اسم:
«فن الاستخدام» وعزفوه بتعريفات لا تخلو من غموض وسنحاول بسط ما أجملوه فأما تعريفه كما أورده ابن أبي الإصبع وابن منقذ وصاحب نهاية الأرب فهو: أن يأتي المتكلم بلفظة لها محملان ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما وتستخدم كل لفظة منهما أحد محملي اللفظة المتوسطة، ففي الآية المذكورة لفظة «كتاب» تحتمل الأمد المحتوم بدليل قوله تعالى في البقرة «حتى يبلغ الكتاب أجله» أي حتى يبلغ الكتاب أمده أي أمد العدة وأجله منتهاه والكتاب المكتوب وقد توسطت لفظه كتاب بين لفظتي «أجل» و «يمحو» فاستخدمت لفظة أجل أحد مفهوميها وهو الأمد واستخدمت لفظة يمحو مفهومها الآخر وهو المكتوب فيكون التقدير على ذلك لكل حد مؤقت مكتوب يمحي ويثبت.
وهنالك تعريف آخر يتمشى على طريقة صاحب الإيضاح ومشى عليه كثير من الناس وهو أن الاستخدام اطلاق لفظ مشترك بين معنيين فتريد بذلك اللفظ أحد المعنيين ثم تعيد عليه ضميرا تريد به المعنى الآخر أو تعيد عليه إن شئت ضميرين تريد بأحدهما أحد المعنيين وبالآخر المعنى الآخر ومثال هذا النوع قول القائل:(5/137)
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
فلفظة السماء يراد بها المطر وهو أحد المعنيين والضمير في رعيناه يراد به المعنى الآخر وهو النبات وأما شاهد الضميرين فمثاله قول البحتري:
فسقى الغضا والساكنيه وان هم ... شبّوه بين جوانحي وضلوعي
فإن لفظة الغضا محتملة الموضع والشجر والسقيا صالحة لكل منهما فلما قال والساكنيه أحد معنى اللفظة وهو الموضع بدلالة القرينة عليه ولما قال شبوه استعمل المعنى الآخر وهو الشجر بدلالة القرينة عليه، وقد أورد الشيخ عز الدين الموصلي في شرح بديعيته نقدا حسنا لبيت البحتري فقد قال: «شرط علماء البديع أن يكون اشتراك لفظة الاستخدام اشتراكا أصليا والنظر هنا في اشتراك لفظة الغضا فإنه ليس بأصلي لأن أحد المعنيين منقول من الآخر والغضا في الحقيقة الشجر وسموا الوادي غضا لكثرة نبته فيه وقالوا جمر الغضا لقوة ناره فكل منقول من أصل واحد.
ومن الاستخدام قول أبي العلاء في داليته الشهيرة:
قصد الدهر من أبي حمزة الأ ... واب مولى حجا وخدن اقتصاد
وفقيها أفكاره شدن للنعمان ما لم يشده شعر زياد فالنعمان يحتمل هنا أبا حنيفة رحمه الله ويحتمل النعمان بن المنذر وقد أراد أبو العلاء بلفظ النعمان أبا حنيفة بدليل قوله وفقيها وأراد(5/138)
بالضمير المحذوف النعمان بن المنذر ملك الحيرة بدليل زياد وهو النابغة وكان معروفا بمدح النعمان بن المنذر وقد انتقدوه أيضا لأن ضمير يشده لم يعد على واحد منهما لأن شرط الضمير في الاستخدام أن يكون عائدا على اللفظة المشتركة ليستخدم بها معناها الآخر كما قال البحتري في شبوه فهذا الضمير عائد على الغضا وهذا قد جعل الضمير في يشده غير عائد على اللفظة المشتركة التي هي النعمان فصار طيب الذكر الذي شيده زياد لا يعلم لمن هو لأن الضمير لا يعود على النعمان.(5/139)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
(14) سورة ابراهيم مكيّة وآياتها ثنتان وخمسون
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
الإعراب:
(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) الر تقدم إعرابها وكتاب خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب وجملة أنزلناه صفة وإليك متعلقان بأنزلناه واللام لام التعليل وتخرج فعل(5/140)
مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت والناس مفعول به ومن الظلمات متعلقان بتخرج والى النور متعلقان بتخرج أيضا. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بإذن متعلقان بمحذوف حال أي حال كونك مأذونا من ربك وربهم مضاف اليه والى صراط بدل من قوله الى النور باعادة العامل والعزيز مضاف اليه والحميد صفة. (اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) الله بالجر بدل أو عطف بيان للعزيز الحميد وقرىء بالرفع على أنه خير لمبتدأ محذوف أي هو الله المتصف بملك ما في السموات وما في الأرض، والذي صفته وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر والجملة صلة الذي وفي السموات صلة ما وما في الأرض عطف على ما في السموات. (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ويل مبتدأ سوغ الابتداء به قصد الدعاء على الكافرين وسيأتي مزيد بحث عن هذه الكلمة في باب الفوائد والجملة دعائية لا محل لها وللكافرين خبر ومن عذاب نعت لويل أو متعلقان بويل فعلى الأول تكون من بيانية وعلى الثاني تكون للتعدية وشديد صفة وفي تفسير أبي السعود: ومن عذاب شديد متعلقان بويل على معنى يولولون ويضجون منه قائلين يا ويلاه كقوله دعوا هنالك ثبورا، ومنع أبو حيان تعليقها بويل قال: «ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل ولا يضير الفصل بالخبر بين الصفة والموصوف ولا يجوز أن يكون متعلقا بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به الخبر. (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) الذين نعت للكافرين أو مبتدأ خبره جملة أولئك في ضلال بعيد الآتية أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين يستحبون وجميع هذه الأوجه متساوية في الأرجحية فلذلك ذكرناها وجملة يستحبون صلة والحياة مفعول به والدنيا صفة وعلى الآخرة متعلقان بيستحبون، لأنها بمعنى(5/141)
الإيثار والاختيار وهي استفعال من المحبة لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها وأفضل عندها من الآخر.
(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) ويصدون عطف على يستحبون وعن سبيل الله جار ومجرور متعلقان بيصدون ويبغونها عطف على يصدون ويبغون فعل وفاعل والهاء نصب بنزع الخافض أي يبغون لها وعوجا مفعول به. (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) اسم الاشارة مبتدأ وفي ضلال خبره وبعيد صفة لضلال وفي جعل الضلال ظرفا فن بلاغي سنعرض له في باب البلاغة. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لبيان وسيلة المخاطبة التي يظطلع بها كل رسول لأمته وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن زائدة ورسول مجرور لفظا منصوب على المفعولية محلا وإلا أداة حصر وبلسان قومه حال أي ملتبسا بلسان قومه فهو استثناء من أعم الأحوال وليبين اللام للتعليل ويبين مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولهم متعلقان بيبين. (فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الفاء استئنافية ويضل مرفوع على الاستئناف ولا يجوز عطفه على يبين كما يتوهم لأن المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى والرسل أرسلت للبيان لا للإضلال، قال الفراء: إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلا للأول فالرفع على الاستئناف هو الوجه، على أن الزجاج قال: «ولو قرىء بنصبه على أن اللام لام العاقبة جاز» ويضل الله فعل مضارع وفاعل ومن مفعول به ويشاء صلة ويهدي من يشاء عطف على يضل الله من يشاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان.(5/142)
البلاغة:
انطوت هذه الآيات الأربع على فنون من البلاغة نوجزها فيما يلي:
1- الظلمات والنور استعارتان تصريحيتان للضلال والهدى وقد تقدم نظائرها فلا حاجة للاعادة.
2- في اسناد البعد الى الضلال مجاز عقلي لأن البعد في الحقيقة الضال لأنه هو الذي يتباعد عن الطريق فوصف به فعله كما تقول جد جده وداهية دهياء.
3- في جعل الضلال ظرفا مجاز أيضا كأنه قد أحاط بهم وجلببهم بسوادة فهم منغمسون فيه الى الأذقان يتخبطون في متاهاته ويتعسفون في ظلماته.
4- في جعل اللسان لغة مجاز علاقته السببية لأنه آلة النطق لأن معنى بلسان قومه: بلغة قومه واللسن واللسان كالريش والرياش وسيأتي في باب الفوائد تفصيل مسهب عن لغة القرآن واللهجات السبع التي قرىء بها. ووحد اللسان لأن المراد اللغة، وقد قيل في هذه الآية إشكال لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الى الناس جميعا ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة وأجيب بأنه إن كان صلى الله عليه وسلم مرسلا الى الناس كافة لكن لما كان قومه العرب وكانوا أخص به وأقرب اليه كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ويوضحونه حتى يصير فاهما له كفهمهم إياه ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحا لباب التنازع على(5/143)
مصراعيه لأن كل أمة قد تدعي من المعاني في لسانها مالا يعرفه غيرها، وربما كان أيضا مفضيا الى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوى الباطلة التي يقع فيها المتعصبون.
5- الطباق بين يضل ويهدي وجميع هذه الفنون تقدم بحثها في مظانها.
الفوائد:
في هذه الآيات من الفوائد ما يستوعب الاجلاد ولكننا جريا على نهج الكتاب سنجتزىء بما لا بد من ذكره فيما يلي:
1- (وَيْلٌ) :
كلمة وعيد وتهديد وهو نقيض الوأل أي النجاة اسم بمعنى الهلاك إلا أنه لا يشتق منه فعل إنما يقال ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال ويل له كسلام عليك وفي المختار الوائل الملجأ وقد وأل اليه أي لجأ وبابه وعد وءولا بوزن وجود، وويل زيد وويحه منصوبان على المصدرية وقيل ويل كلمة عذاب وويح كلمة ترحّم.
2- لغة القرآن ورأي الدكتور طه حسين:
لغة القرآن:
علم قائم بذاته ويظهر أن الحديث الشريف «نزل القرآن على سبعة أحرف» كان سببا في نشوء هذا العلم من علوم القرآن وأحدث الدراسات فيه وأقومها ما قرره الدكتور طه حسين في كتابه الأدب(5/144)
الجاهلي وفيما يلي خلاصة هذا البحث القيم: يثبت الدكتور طه أن هنالك خلافا جوهريا بين اللغة التي يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية واللغة التي كانوا يصطنعها في شمال هذه البلاد وينتهي من إثبات ذلك الى القول بأن القدماء المحدثين مضطربون في تحديد ما ينبغي أن يفهم من لفظ العرب وفي تحديد ما ينبغي أن يفهم من لفظ اللغة العربية وهذا الاضطراب ليس من شأنه أن يعين على التحقيق العلمي ثم يمضي الأستاذ في ذكر الفروق بين لغة عرب الجنوب وعرب الشمال ويورد بعض النصوص التي كشفها الأستاذ جويدي من اللغة الحميرية وكيف أنها تختلف اختلافات كثيرة جدا عن اللغة الحجازية القرشية التي نعرفها ومثال هذا النص الذي يقول: «وهبم واخهو بنو كلبت هقنيو الى مقه ذهرن ذن فرندن حجن وقههمو بمسألهو لو فيهمو وسعدهمو نعمتم» ومعناها: «وهاب (اسم رجل) وأخوه بنو كلب أعطوا المقة (اسم إله في هران) هذا اللوح لأنه أجابهم عن سؤالهم وسلمهم وساعدهم بنعمته» ويمضي في هذا البحث الطويل الى أن يقول: «إن القرآن الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لغة قريش ولهجتها لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه وتباينت تباينا كثيرا حيّر القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه وأقاموا له علما أو علوما خاصة ولسنا نشير هنا الى هذه القراءات التي تختلف فيما بينها اختلافا كثيرا في ضبط الحركات سواء أكانت حركة بنية أو حركة إعراب، لسنا نشير الى اختلاف القراء في نصب الطير في الآية: «يا جبال أوّبي معه والطير» أو رفعها ولا إلى اختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية «لقد جاءكم رسول من أنفسكم» انما نشير الى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي(5/145)
لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي وعشيرته من قريش فقرأته كما كانت تتكلم فأمالت حيث لم تكن تميل، وقصرت حيث لم تكن تقصر وسكنت حيث لم تكن تسكن وأدغمت أو أخفت أو نقلت حيث لم تكن تدغم ولا تخفي ولا تنقل.
وقفة لا بد منها:
وهنا وقفة لا بد منها ذلك أن قوما من رجال الدين فهموا أن هذه القراءات السبع متواترة عن النبي نزل بها جبريل على قلبه فمنكرها كافر في غير شك ولا ريبة ولم يوفقوا الى دليل يستدلون به على ما يقولون سوى ما روي في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، والحق أن هذه القراءات السبع ليست من الوحي في قليل ولا كثير وليس منكرها كافرا ولا فاسقا ولا مغتمزا في دينه وإنما قراءات مصدرها اللهجات واختلافها، للناس أن يجادلوا فيها وأن ينكروا بعضها ويقبلوا بعضها وقد جادلوا فيها بالفعل وتماروا وخطأ فيها بعضهم بعضا ولم نعرف أن أحدا من المسلمين كفّر أحدا لشيء من هذا، وليست هذا القراءات بالأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها وانما هي شيء وهذه الأحرف شيء آخر فالأحرف جمع حرف والحرف: اللغة فمعنى أنزل القرآن على سبعة أحرف أنه أنزل على سبع لغات مختلفة في لفظها ومادتها يفسر ذلك قول ابن مسعود: إنما هو كقولك هلم وتعال وأقبل ويفسر ذلك قول أنس في الآية: «إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا» أصوب وأقوم وأهدى واحد ويفسر ذلك قراءة ابن مسعود «ما ينظرون إلا زقية واحدة» مكان «ما ينظرون إلا صيحة واحدة» .(5/146)
الأحرف غير القراءات:
الأحرف إذن اللغات التي تختلف فيما بينها لفظا ومادة فأما هذه القراءات التي تختلف في القصر والمد وفي الحركة والسكون وفي النقل والإثبات وفي حركات الاعراب فليست من الأحرف في شيء لأنها اختلاف في الصورة والشكل لا في المادة واللفظ وقد اتفق المسلمون على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف أي على سبع لغات مختلفة في ألفاظها ومادتها، واتفق المسلمون على أن أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف السبعة كل يقرأ على الحرف الذي سمعه من النبي فاشتد الخلاف والمراء في ذلك حتى كادت الفتنة تقع بين الناس ولا سيما في جيوش المسلمين التي كانت تغزو وترابط في الثغور بعيدة عن مهبط الوحي ومستقر الخلافة فرفع الأمر الى الخيفة عثمان رضي الله عنه فجزع له وأشفق على المسلمين أن يقع بينهم مثل ما وقع بين النصارى من الاختلاف في نص القرآن كما اختلفوا في نص الإنجيل فجمع لهم المصحف وأذاعه في الأمصار وأمر بما عداه من المصاحف فمحي محوا وعلى هذا محيت الأحرف الستة ولم يبق إلا حرف واحد هو هذا الحرف الذي نقرؤه في مصحف عثمان وهو حرف قريش وهو الحرف الذي اختلفت لهجات القراء فيه فمدّ بعضهم وقصر بعضهم وفخّم فريق ورقّق فريق ونقلت طائفة وأثبتت طائفة ثم أورد الدكتور طه ما ورد في الجزء الأول من تفسير ابن جرير الطبري لتأييد رأيه.
خلاصة قول الطبري:
قال ابن جرير ما ملخصه: إن قوما من العلماء ذهبوا إلى أن الأحرف السبعة هي سبعة معان جملتها: الأمر والنهي والوعد والوعيد(5/147)
والجدل والقصص والمثل، ولكنه يعارض هذا ويقول: إن الأحرف السبعة هي سبع لغات من لغات احياء من قبائل العرب مختلفة الألسن وذكر أن أصحاب رسول الله تماروا في تلاوة بعض القرآن فاختلفوا في قراءته دون تأويله وأنكر بعض قراءة بعض مع دعوى كل قارئ منهم قراءة منها أن رسول الله أقرأه ما قرأه بالصفة التي قرأ ثم احتكموا الى رسول الله فكان من حكم رسول الله بينهم أن صوّب قراءة كل قارئ منهم على خلاف قراءة أصحابه الذين نازعوه فيها وأمر كل امرئ منهم أن يقرأ كما علم حتى خالط قلب بعضهم الشك في الإسلام لما رأى من تصويب رسول الله قراءة كل منهم على اختلافها ثم جلاه الله ببيان رسول الله له أن القرآن على سبعة أحرف.
وعرض الطبري لنقطة هامة وهي الرد على سؤال المستفسرين:
فما بال الأحرف الأخر الستة غير موجودة، وقد أقرأهن رسول الله أصحابه وأمر بالقراءة بهن وأنزلهن الله من عنده على نبيه؟ أنسخت فرفعت؟ فما الدلالة على نسخها ورفعها؟ أم نسيتهن الأمة؟ فذلك تضييع ما قد أمروا بحفظه أم ما القصة في ذلك؟ وأجاب ابن جرير على هذه الأسئلة المحرجة جوابا بارعا فقال: لم تنسخ الأحرف الستة فترفع ولا ضيّعتها الأمة وهي مأمور بحفظها ولكن الأمة أمرت بحفظ القرآن وخيرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة شاءت وضرب لها مثلا في الفقه: إذا حنث موسر في يمين فله أن يختار كفارة من ثلاث كفارات: اما بعتق أو اطعام أو كسوة، فكذلك الأمة أمرت بحفظ القرآن وقراءته وخيرت في قراءته بأي الأحرف السبعة شاءت قرأت، ولعلة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد قراءته بحرف واحد ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية ولم تحظر قراءته بجميع حروفه على قارئه بما أذن له في قراءته به.(5/148)
رأي السيوطي في الإتقان:
أما السيوطي فقد أكد في كتابه «الإتقان» صحة الحديث بشهادة واحد وعشرين صحابيا ذكروه ثم أراد عثمان بن عفان أن يستوثق من صحته فطلب من المسلمين وهم مجتمعون في المسجد أن يقف منهم من سمع هذا الحديث فوقف من في المسجد كلهم، فقال وأنا أشهد معهم، وانتقل السيوطي الى بحث الأقوال التي قيلت في هذا الحديث فإذا هي نحو أربعين قولا وبدأ فأضاف إشكالا الى الإشكالات الموجودة في هذا الموضوع فقال: انه ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد، بل المراد التيسير والتسهيل والسعة ولفظ السبعة يطلق على ارادة الكثرة في الآحاد كما يطلق السبعون في العشرات ولكنه ردّ هذا القول بأن في القرآن آيات كثيرة تقرأ على أكثر من سبعة أوجه ومنها ما يقرأ على أقل ومنها ما تغيرت حركته ولم يتغير معناه ولا صورته (مادة اللفظ) ومنها ما ذكره الطبري من اختلاف الألفاظ واتفاق المعاني وذكر الطحاوي أن ذلك كان رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الخط ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ وضرب مثلا لهذا أن عبد الله بن مسعود كان يعلّم رجلا القرآن فتلا عليه (طَعامُ الْأَثِيمِ) فقال الرجل: طعام اليثيم فردّها عليه فلم يستقم لسانه بها فقال: أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال:
نعم، قال: فافعل.
وقول آخر ذهب اليه الكثير من العلماء مثل أبي عبيد وثعلب والزهري وهو: ان الأحرف السبعة هي لغات سبع فلما قيل لهم إن لغات العرب أكثر من سبع أجابوا أن المراد هو أفصحها.(5/149)
ولأبي عبيد رأي قيم وهو أن في القرآن سبع لغات متفرقة فيه فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن وبعضه بلغة اليمن وغيرهم أي أن في القرآن ألفاظا وجملا مما كانت تعرف هذه القبيلة وهذه القبيلة.
ومضى السيوطي يعرض طائفة أخرى من الأقوال لا أهمية لها ثم أنهى كلامه بقوله: لقد ظن كثير من العوام أن المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع وهو جهل قبيح.
خلاصة وافية:
ويطول بنا البحث إن رحنا نتقصى ما قيل في هذا الصدد أو نبحث الأصول التي تمتد إليها اللغة العربية فبا مكان القارئ أن يرجع إليها في الكتب المؤلفة بهذا الشأن وحسبنا أن نقول الآن: ان القرآن نزل باللغة العربية القرشية التي ذابت فيها اللغات الأخرى ولغات القبائل المجاورة بنوع خاص وقد فهم الصحابة القرآن إجمالا ولكن ألفاظا غير قليلة استغلقت عليهم بل ان بعضها لا يزال مستغلقا علينا اليوم بالرغم من أن وسيلة العلم ببعض اللغات القديمة قد توفرت لدينا وقد روي أن عمر بن الخطاب لم يفهم كلمة «أبا» من قوله «وفاكهة وأبا» وله العذر فهي كلمة حبشية وروي عن ابن عباس أن اعرابيين اختصما لديه في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها وعارضه الثاني، قال ابن عباس:
ففهمت حينئذ معنى قوله تعالى «فاطر السموات والأرض» وروي عن ابن عباس أيضا انه لم يكن يفهم معنى الآية «ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق» حتى سمع فتاة من اليمن «بنت ذي يزن» تنادي زوجها:
أنا تحك تقصد أحاكمك.(5/150)
وقد ذكر ابن النقيب في خصائص القرآن أن القرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير وقد سبق أن أوردنا هذا القول ومن الألفاظ غير العربية التي فطن الأقدمون الى وجودها في القرآن ما يأتي:
ل 1 إستبرق: يونانية ابلعي ماءك: هندية أو حبشية الأرائك: حبشية إصر/ اي/ عهد: نبطية أواب: المسيح بالحبشية بطائنها: أي ظواهرها بالقبطية تنور: فارسية جهنم: يونانية أو فارسية حواريون: أي غسالون بالحبشية دري: أي مضيء بالحبشية السجل: الكتاب بالحبشية الرس: أي البئر باليونانية سريا: قيل سريانية أو نبطية أو
يونانية
الصراط: الطريق بلغة الروم عدن: الكروم بالسريانية غيض: أي نقص بالحبشية القسط: العدل بالفارسية قسورة: الأسد بالحبشية كفلين: ضعفين بالحبشية ل 2 مشكاة: الكوة بالحبشية منسأة: عصا بالنبطية اب: حبشية أخلد: عبرية أسفار: سريانية أو نبطية أليم: موجع قالوا زنجية أو عبرية الاداة: الموقن بالحبشية حصب: بمعنى حطب في الزنجية دينار: فارسية.
رهوا: سهلا بالسريانية.
سجيل: فارسية سندس: فارسية وهندية الطاغوت: الكاهن بالحبشية غساق: المنتن البارد بالتركية الفردوس: البستان بالرومية القسطاس: الميزان بالفارسية كافور: بالفارسية اليم: البحر بالسريانية والقبطية ناشئة الليل: بالحبشية وزر: الملجأ بالنبطية(5/151)
ل 1 كوّرت: أي غورت بالفارسية مرقوم: مكتوب بالعربية مناص: فرار بالنبطية المهل: الزيت بلسان البربر هونا: بالسريانية ل 2 هيت لك: بالقبطية ياقوت: بالفارسية يحور: يرجع بالحبشية يعهد: أي ينضج بالبربرية الفوم: الحنطة بالعبرية وقد أورد السيوطي في الإتقان هذه الألفاظ وغيرها كما أورد مئات الألفاظ وردت في القرآن بغير لغة الحجاز ومنها لغات اليمن وقد نص على كثير من الألفاظ الحميرية بالذات فقد ذكر مثلا أن أسطورا بلغة حمير تعني الكتاب وعلى هذا يفهم قوله: «وكتاب مسطور» وذكر أن اللهو تعني المرأة بلغة اليمن وعلى هذا تفهم الآية «لو أردنا أن نتخذ لهوا» ترى ما الذي يمنع وقد صح لدينا أن أمر الألفاظ القرآنية والمصادر العديد التي جاءت منها أن تكون الأحرف السبعة هي هذه اللغات العديدة التي ذابت في لغة قريش والتي علم النبي بعضها والتي تضمنتها ألفاظ القرآن.
اننا نرجح مبدئيا وليس لدينا وسائل الجزم النهائي أن هذا هو الصواب في شأن الأحرف السبعة فهي تشير الى ألفاظ كثيرة من لغات عدة استعملها القرآن منها الفارسية واليونانية والآرامية والكلدانية والحبشية والحميرية والعبرية والسريانية والمصرية وكلها أضيفت الى لغة قريش فقوت من شأنها وأزالت الركاكة والغثاثة التي كانت موجودة في لغة القبائل الأخرى التي كانت تفد الى الحج وهي التي تلتزم حروفا بدل حروف مثل ابدال كاف المؤنث شيئا فيقولون كتابش بدل كتابك وعليه قوله:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... ولكن عظم الساق منش دقيق(5/152)
وأصله:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكن عظم الساق منك دقيق
وهي قبيلة قيس ومثل الذين لا يستطيعون النطق بالسين فيستبدلون بها تاء فالناس عندهم النات وهم قبيلة تميم.
خلا القرآن من هذه اللهجات الكثيرة والتزم الاعراب في أواخر الكلمات جميعا ولم يكن ملتزما في كثير من اللغات الاخرى وعرف النبي وهو متلقي الوحي ومعلم القرآن الأول تفسير ما أنزل عليه كله وما سأله عنه أصحابه كان يخبرهم به ولعلهم كانوا يتحاشون سؤاله في كثير من الألفاظ بدليل جهلهم بها بعد وفاته ونهيهم عن التكلف والتعمق أي البحث في معنى كل لفظ والتنقيب وراءه وليس هذا الذي نقوله في أمر ألفاظ القرآن وإنها هي الأحرف السبعة قولا شاذا لم يقل به أحد وانما قال به كثيرون منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وثعلب وأبو حاتم السجستاني وغيرهم.
واذن فمن الخطأ كل الخطأ أن نقول أن قرآنا نزل ليكون معجزة نبي ثم نقول: إنا قادرون على أن نبدل لفظا مكان لفظ لأن لدينا الكثير من الألفاظ أي المترادفات. استمع الى هذه الآية: «للذين آمنوا انظرونا» ثم نقرؤها على الأحرف التي يقولون عنها هكذا «للذين آمنوا امهلونا» أو «للذين آمنوا ارقبونا» ولنترك للقارىء أن يدقق النظر قليلا ويطيل التفكير ليرى هل يتفق معنى هذه التعابير كلها وهل يبقى لها مكانها من الاعجاز وهي بهذه الصورة واسمع الى الآية الأخرى:
«كلما أضاء لهم مشوا فيه» و «كلما أضاء لهم مروا فيه» و «كلما(5/153)
أضاء لهم سعوا فيه» من يقل أن مشى وسعى ومر متساوية في الاستعمال فهو جاهل كل الجهل خابط في عشواء من الضلال.
الأحرف السبعة، إذن، شيء آخر غير هذه التعديلات والتبديلات وأدنى الى الصواب في توضيحها ما ذكرناه من تضمن القرآن الكثير من الألفاظ الأعجمية التي دخلت اليه والى لغة قريش من الشعوب المحيطة بشبه الجزيرة وسيأتي مزيد بيان لهذا البحث الجليل الذي طال قليلا ولم يكن من شرط الكتاب.
ونذكر بهذه المناسبة أن المرحوم الأستاذ عباس محمود العقاد وضع كتابيه: «أبو الأنبياء: الخليل ابراهيم» و «الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين» وتصدى فيهما لقضية لغة خليل الرحمن ابراهيم عليه الصلاة والسلام ورد على المنحرفين الذين يريدون أن ينحرفوا ببحوثهم في اتجاه معين مسبوق بتخطيط ينسلخ بسببه العرب عن صلتهم بالخليل وأثبت صلة ابراهيم الوثيقة بالعروبة في وقت مبكر يقع بين القرنين التاسع عشر والثامن عشر قبل الميلاد ونرى تتميما لبحثه الرفيع أن نورد حديثا ساقه الامام البخاري في صحيحه ورواه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد استوعب هذا الحديث صفحات عدة من هذا السفر العظيم نوجز تلخيصه وتحديد موضوعاته فيما يأتي:
1- تحدّث عن الشخصيات الطاهرة التي نزلت بمكة وقت كان ليس بها أحد ولا ماء وهم: الخليل ابراهيم وهاجر وابنها الرضيع إسماعيل.
2- نبع زمزم لهاجر وولدها.(5/154)
3- قدوم بطن عربي جرهمي واستئذانه هاجر في السماح له بالإقامة في مكة راضين بشرطها «أن لا حق لهم في الماء» واستقدموا أهلا لهم وقد شب إسماعيل عليه السلام بينهم وتزوج منهم مرتين.
4- زيارات ثلاث للخليل الى مكة لوديعته عدا الأولى التي قدم فيها بأهله إليها، وكان آخرها تلك الزورة مع ولده وأمر فأذن في الناس بالحج.
وهذا الحديث يعطي حقائق موضوعية هامة توضح بعض ما غاب عن التاريخ في منهجه الحديث.
أولها: بيانه الواضح عن مبدأ تاريخ العمران في مكة.
ثانيها: يوضح حلقة مفقودة لدى المؤرخين عن ممالك الاسماعيليين في شمال الجزيرة العربية.
ثالثهما: لغة الخليل فقد زار الخليل مكة أربع زيارات وتزوج إسماعيل امرأتين من جرهم وكان يخاطبهما ويحاورهما بالعربية حتما دون مترجم، فصحّ ما قاله العقاد ولسنا نقول أنه تحدث بالعربية التي هي عربيتنا أعني لغة القرآن الكريم لكنها عربية زمانه الوثيقة الصلة أصولا وفروعا بعربية القرآن الكريم.(5/155)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 6]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
اللغة:
(يَسُومُونَكُمْ) يذيقونكم وأصله من سام السلعة يسوم سوما وسواما عرضها وذكر ثمنها، وسام المشتري السلعة طلب بيعها أو ثمنها وسامت الماشية خرجت الى المرعى وسامه الأمر كلفه إياه وسامه خسفا أذله، قال عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الذل فينا
وسام الطير على الشيء حام عليه وسامت الريح مرّت واستمرّت وسام ناقته على الحوض: عرضها عليه.
ومن المجاز سمت المرأة المعانقة: أردتها منها وعرضتها عليها وللسين مع الواو فاء وعينا خاصة عجيبة انهما تفيدان الكلمة معنى الإحاطة بالشيء والهيمنة عليه وشموله وتغطيته لأن المحيط بالأشياء شامل لها مهيمن عليها فالسوء القبح وهو يحيط بصاحبه ويلفه، كما يحيط بمن يمتد إليهم ويصيبهم وقال تعالى «عليهم دائرة السوء» وفلان يحيط الحسنى بالسوأى، وهذا مما ساءك وناءك ومما يسوءك وينوءك قال الجاحظ: هو من السوء: البرص وقال أبو زبيد:
لم يهب حرمة النديم وحقّت ... يا لقومي للسوءة السواء(5/156)
وسوّج وسيّج الكرم ونحوه أو على الكرم عمل عليه سياجا يحوطه ويصونه والسياج بكسر السين الحائط وما أحيط به على كرم ونحوه وجمع السياج سياجات وأسوجة وسوج وعملت سفينة نوح من ساج وهي خشب سود رزان لا تكاد الأرض تبليها، ولبسوا السيجان وهي الطيالسة المدورة الواسعة، والساحة فضاء بين دور الحي يحيط بها لا بناء فيه ولا سقف وجمعه ساح وسوح وساحات ويقولون: احمر اللّوح واغبرّت السوح إذا وقع الجدب وقال أبو ذؤيب:
وكان سيّان أن لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السّوح
وساخت قوائم الدابة في الأرض وهذه أرض تسوخ بها الأقدام وساخت بهم الأرض، وساد قومه يسودهم كأنما أحاطهم بنعمته وغلبته وساده أي غلبه عند المغالبة والسواد خلاف البياض وهو لون يحيط بالجسم أو بالشيء والسواد الشخص سواد البلدة ما حولها من الريف والقرى ومنه سواد العراق لما بين البصرة والكوفة ولما حولهما من القرى وقد أبدع شوقي في قوله:
قف تمهل وخذ أمانا لقلبي ... من عيون المها وراء السواد
والأسود معروف والأسود الحية العظيمة السوداء وهي المعروفة بالحنش وفلان أسود الكبد أي عدو وهم سود الأكباد أي أعداء والسوداء والسويداء عند الأطباء خلط مقره في الطحال مرض الماليخوليا وهو فساد الفكر في حزن وسوداء القلب وسويداؤه حبته، وساوره(5/157)
وثب عليه وله سورة في الحرب وتسورت الحائط والسور حائط يطوف بالمدينة ويحيط بها وسورة الخمر وسوارها حدتها والسوار حلية كالطوق تلبسه المرأة في زندها وهو بكسر السين وضمها ويقال الإسوار، والوالي يسوس الرعية ويسوس أمرهم وسوس فلان أمر قومه بالبناء للمجهول قال الحطيئة:
لقد سوّست أمر بنيك حتى ... تركتهم أدق من الطحين
والسياسة استصلاح الخلق بإرشادهم الى الطريق المنجي في العاجل أو الآجل ولا جرم من يسوس القوم يحيط بأمورهم، وساطه يسوطه سوطا ضربه بالسوط ولا يضرب إلا من هيمن على الآخر وعليه، والساعة الوقت المعلوم وهو يحيط بالموجودات جميعها فلا يندّ عنها شيء، وساغ الشراب سهل فكأنه غالب لا يقف شيء في طريقه، وساف الشيء شمّه وفيه معنى الإحاطة والهيمنة وسوّفه مطّله وقال له مرة بعد مرة وكم مسافة هذه الأرض والمسافة تحيط بما يمتلكه صاحب الأرض وبينهم مساوف جمع مسافة، قال ذو الرمة:
فقام الى حرف طواها بطية ... بها كل لمّاع بعيد المساوف
وساق النعم فانساقت والسوق معروفة تحيط بما يعرض فيها من شخوص وبضائع وأمتعة، وساك يسوك سوكا دلك، وسوّل الشيطان له أمرا غلبه على أمره فزين له الشر، وسوّى بين الناس ساوى بينهم وسويت المعوج فاستوى والرحمن على العرش استوى أي استولى ورآه في سواء المكان: في وسطه وسوي الرجل استقام أمره ولا يستقيم الأمر إلا لمن غلب وهما سواء وهم سواسية في الشر وهذا من عجيب أمر هذه اللغة.
(يَسْتَحْيُونَ) : يستبقون.(5/158)
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) جملة مستأنفة مسوقة للشروع في تفصيل ما أجمله عن الرسل في قوله تعالى «وما أرسلنا من رسول» واللام جواب قسم محذوف، وأرسلنا فعل وفاعل وموسى مفعول به وبآياتنا متعلقان بمحذوف حال أي مصحوبا بآياتنا ومعززا بها. (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ان مفسرة والضابط لها موجود وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه وأرسلنا فيه معنى قلنا أي قلنا له أخرج ويجوز أن تكون أن المصدرية الناصبة للفعل وانما صلح أن توصل بفعل الأمر لأن الغرض وصلها بما تكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل والأمر وغيره سواء في الفعلية وتكون مع مدخولها منصوبة بنزع الخافض والتقدير بأن اخرج قومك والجار والمجرور متعلقان بمحذوف منصوب على الحال أي قائلين له اخرج قومك وعلى هذا يكون اعرابها تفسيرية أقل عناء ما دام التقديران يرتدان الى أصل واحد. وقومك مفعول به لأخرج ومن الظلمات الى النور متعلقان بأخرج. (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) الواو عاطفة وذكرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبأيام الله متعلقان بذكرهم وسترى بحثا مفيدا عن قوله أيام الله في باب الفوائد. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة للتوكيد وآيات اسم ان المؤخر ولكل صفة وصبار مضاف اليه وشكور صفة لصبار. (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الظرف متعلق بمحذوف يفسره ما بعده وهو اذكروا أي اذكر وجملة قال موسى مضاف إليها الظرف ولقومه متعلقان بقال واذكروا فعل أمر والواو(5/159)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
فاعل ونعمة الله مفعول به وعليكم متعلقان بمحذوف حال أي كائنة عليكم. (إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) الظرف متعلق بنعمة الله إذا كانت بمعنى الإنعام أي إنعامه ذلك الوقت ويجوز أن تكون بدلا من النعمة لأن النعمة تشتمل على النجاة فيكون بدل اشتمال ومن آل فرعون جار ومجرور متعلقان بأنجاكم. (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) أحوال ثلاثة من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين. (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) الواو عاطفة وفي ذلكم خبر مقدم وبلاء مبتدأ مؤخر ومن ربكم صفة بلاء وعظيم صفة ثانية.
الفوائد:
(أيام الله) في- كما في القاموس- نعمه، ويوم أيوم: شديد، وآخر يوم في الشهر وفي المختار: وربما عبروا عن الشدة باليوم. وهذا من باب المجاز العقلي ووجهه أن العرب تتجوز بنسبة الحدث الى الزمان مجازا فتضيفه اليه كقولهم نهاره صائم وليله قائم ومكر الليل ويترجح تفسير أيام الله ببلائه ونعمائه وجنح الزمخشري الى تفسير أيام الله بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم قوم نوح وعاد وثمود. قال ومنه أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار وغيرها وقد عبر عنها عمر بن كلثوم بقوله:
وأيام لنا غر طوال ... عصينا الملك فيها أن ندينا
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 7 الى 12]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)(5/160)
اللغة:
(تَأَذَّنَ) : أذن ونظير تأذن توعد وأوعد وتفضل وأفضل ولا بد في تفعل زيادة معنى ليس في أفعل لما في التفعل من التكلف والمبالغة.(5/161)
الإعراب:
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) وإذ عطف على نعمة الله عليكم كأنه قيل: وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم ويجوز عطفه على إذ أنجاكم وجملة تأذن مضاف إليها الظرف وربكم فاعل تأذن وجملة لئن شكرتم مقول قول محذوف أو أجري تأذن مجرى قال لأنه ضرب من القول فلا حاجة لتقدير القول واللام موطئة للقسم وإن شرطية وشكرتم فعل الشرط ولأزيدنكم اللام جواب القسم وجملة لأزيدنكم لا محل لها لأنها جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم وفاقا للقاعدة. (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) جملة معطوفة على نظيرتها وجواب القسم محذوف ولكنه مدلول عليه ضمنا بقوله: إن عذابي لشديد أي لأعذبنكم وانما حذفه هنا وأظهره في مقام الشكران لأن من عادة الله وهو الكريم أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد، وإن واسمها وخبرها.
(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وقال موسى فعل وفاعل وجملة إن تكفروا مقول القول وان شرطية وتكفروا فعل الشرط والواو فاعل وأنتم تأكيد للواو ومن عطف على الواو وفي الأرض صلة من وجميعا حال والفاء رابطة وان واسمها واللام المزحلقة وحميد خبرها. (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويأت فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والكاف مفعول به ونبأ فاعل والذين مضاف اليه ومن قبلكم صفة. (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) قوم بدل من الذين ونوح مضاف اليه وعاد وثمود معطوفان والذين من بعدهم(5/162)
مبتدأ وجملة لا يعلمهم إلا الله خبر والجملة الاسمية معترضة بن المفسر وهو نبأ الذين من قبلكم وتفسيره وهو جاءتهم عليهم بالبينات ويجوز أن تكون والذين من بعدهم عطف على ما قبله وهو قوم نوح أو الذين من قبلكم وقوله لا يعلمهم إلا الله معترضة. (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) جملة مستأنفة أو خبر ثان للذين ورسلهم فاعل وبالبينات متعلقان بجاءتهم. (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) الفاء عاطفة وردوا فعل وفاعل وأيديهم مفعول به وفي أفواههم متعلقان بردوا أو بمحذوف حال وسيأتي بحث عن هذا التعبير في باب البلاغة وقالوا عطف على ردوا وان واسمها وجملة كفرنا خبر وبما متعلقان بكفرنا وجملة أرسلتم صلة وبه متعلقان بأرسلتم (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) وإنا عطف على إنا السابقة وان واسمها واللام المزحلقة وفي شك خبر ومما متعلقان بشك أو صفة له وجملة تدعوننا صلة وإليه متعلقان بتدعوننا ومريب صفة لشك. (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) جملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل فماذا قالت رسلهم فأجيب بأنهم قالوا منكرين فالهمزة الاستفهامية للانكار من مقالتهم الحمقاء وفي الله خبر مقدم وشك مبتدأ مؤخر وقيل شك فاعل أفي الله لاعتماده على الاستفهام ورجحه النحاة القدامى وجميع المعربين لئلا يلزم على الوجه الاول الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المبتدأ بخلاف الفاعل الذي هو كالجزء من رافعه والحق ان هذا كله لا أساس له والوجه هو الاول.
(فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) فاطر صفة لله أو بدل منه وجملة يدعوكم حالية أي حالة كونه يدعوكم الى الايمان بإرساله إيانا واللام للتعليل ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بيدعوكم ومن ذنوبكم(5/163)
متعلقان بيغفر وهي بمعنى التبعيض قال في الكشاف: «فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله من ذنوبكم قلت: ما علمته جاء إلا هكذا في خطاب الكافرين» لئلا يسوي بينهم وبين المؤمنين وقال الرازي: «أما قول صاحب الكشاف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر فهو من باب الطامات لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة الى ذكر الجواب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا» . وقال بعضهم هي للبدل أي بدل عقوبة ذنوبكم ويحتمل أن يضمن يغفر معنى يخلص أي يخلصكم من ذنوبكم واختار أبو عبيدة زيادتها تبعا للأخفش الذي يجيز زيادتها في الموجب. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ويؤخركم عطف على يغفر والى أجل متعلقان بيؤخركم ومسمى نعت لأجل. (قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) إن نافية وأنتم مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلنا صفة.
(تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) جملة تريدون صفة ثانية لبشر أو تكون مستأنفة وتريدون فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول تريدون وعما متعلقان بتصدونا وجملة كان صلة وجملة يعبد خبر كان وآباؤنا فاعل يعبد. (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) الفاء الفصيحة وائتونا فعل أمر وفاعل ومفعول به وبسلطان متعلقان بأتونا ومبين صفة. (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) قالت لهم رسلهم فعل وفاعل ولهم متعلقان بقالت وإن نافية ونحن مبتدأ وإلا أداة حصر وبشر خبر ومثلكم صفة. (وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) الواو حالية أو عاطفة ولكن واسمها وجملة يمن خبرها وعلى من متعلقان بيمن وجملة يشاء صلة ومن عباده حال. (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص ولنا خبر كان المقدم وأن ومدخولها في تأويل مصدر اسم كان المؤخر وبسلطان متعلقان بنأتيكم وإلا أداة حصر وبإذن الله حال أي ملتبسا بإذن الله. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) الواو عاطفة(5/164)
وعلى الله متعلقان بيتوكل والفاء عاطفة أيضا واللام لام الأمر ويتوكل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر والمؤمنون فاعل يتوكل. (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) الواو عاطفة وما استفهامية والاستفهام هنا معناه النفي أي لا مانع لنا ولا عذر نتشبث بأهدابه، وهو في محل رفع مبتدأ ولنا الخبر وان وما في حيزها في موضع نصب على الحال أي الجار والمجرور فهو منصوب بنزع الخافض والواو للحال وقد حرف تحقيق وهدانا فعل وفاعل مستتر ومفعول به وسبلنا نصب بنزع الخافض والمعنى: والحال أنه قد هدانا وفعل بنا ما يوجب التوكل ويستدعيه حيث هدانا سبلنا أي ارشد كلامنا سبيله ومنهاجه. (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) الواو عاطفة واللام جواب قسم محذوف ونصبرن فعل مضارع مبني على الفتح، وعلى ما: على حرف جر وما مصدرية وآذيتمونا فعل وفاعل ومفعول والواو للاشباع ويجوز أن تكون ما موصولة أي على الذي آذيتمونا به. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) تقدم اعرابها وكرر الأمر بالتوكل لأن الأول لاستحداث التوكل والثاني لاثباته.
البلاغة:
رد الأيدي في الأفواه بقوله تعالى: «فردوا أيديهم في أفواههم» وعض الأنامل وحرق الارم كناية عن الغيظ والضجر عند حدوث ما لا تهواه النفس وتريده. قال أبو عبيدة: هو ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت:
قد ردّ يده في فيه وهكذا قال الأخفش واعترض ذلك القتيبي فقال لم يسمع أحد من العرب يقول رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به. وقيل:
المراد برد الأيدي في الأفواه هنا الضحك والاستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه وقيل ان المراد بالأيدي والأفواه غير الجارحتين(5/165)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
فقيل المراد بالأيدي النعم ومعناه ردوا ما لو قبلوه لكان نعمة عليهم يقال:
لفلان عندي يد أي نعمة والمراد بالأفواه تكذيبهم الرسل والمعنى كذبوا بأفواههم وردوا قولهم، وهناك أقوال أخرى ضربنا عنها صفحا لأن أقوى الوجوه هو الأول لأن اقناطهم الرسل من الايمان قولا وفعلا بوضع اليد في الفم هو المناسب لحسدهم في الكفر وتصدير العبارة بالحرف المؤكد ومواجهة الرسل بضمير الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد دل على قنوطهم بالمرة.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)(5/166)
اللغة:
(عادٍ) : لها معان كثيرة وهي هنا بمعنى صار فتلحق بها وتعمل عملها ويقال: عاد إليّ من فلان مكروه أي صار منه إلي ومن معانيها عاده يعوده عودا: صرفه وعاد السائل: رده وعاد فلانا بالمعروف صنعه معه ومن معانيها عاده عودا: صيره عادة وكذلك عاد يعود عودا وعيادا وعيادة وعوادة المريض زاره فهو عائد. وفي القاموس: عاد يعود الشيء عودا وعيادا بدأه وباشره ثانيا، قيل ومنه المثل:
«العود أحمد» .
(اسْتَفْتَحُوا) : استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى: «إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح» وقيل استحكموا الله وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهو الحكومة كقوله تعالى: «ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق» وفي القاموس: والفتح كالفتاحة بضم الفاء وكسرها:
الحكم بين الخصمين.
(صَدِيدٍ) : هو ما يسيل من جلود أهل النار.
(يَتَجَرَّعُهُ) : يتكلف جرعه أي ابتلاعه وفي الأساس: «جرعت الماء واجترعته بمرة وتجرعته شيئا بعد شيء وما سقاني إلا جرعة وجريعة وجرعا وبتنا بالأجرع وبالجرعاء ونزلوا بالأجارع وهي أرضون حزنة يعلوها رمل.
(يُسِيغُهُ) : من أساغ الطعام أو الشراب سهل دخوله في الحلق.(5/167)
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا) قال الذين فعل وفاعل وجملة كفروا صلة ولرسلهم جار ومجرور متعلقان بقال واللام موطئة للقسم ونخرجنكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن أرضنا متعلقان بنخرجنكم والجملة مقول القول. (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أو حرف عطف بمعنى إلا وسيأتي مزيد بحث عن أو في باب الفوائد.
ولتعودن عطف على نخرجنكم غير أن الفعل هنا معروب لعدم مباشرة نون التوكيد له وهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وقد تقدم له نظائر وفي ملتنا متعلقان بتعودن أو خبرها. (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) الفاء عاطفة وأوحى إليهم ربهم فعل وفاعل ولنهلكن اللام جواب للقسم المحذوف ونهلكن الظالمين فعل مضارع مبني على الفتح وفاعل مستتر ومفعول به والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة.. (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) الواو عاطفة ونسكننكم فعل مضارع مبني على الفتح وفاعل ومفعول به والأرض نصب بنزع الخافض أو مفعول به على السعة وقد تقدم القول في دخل وسكن ونحوهما ومن بعدهم حال. (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) ذلك مبتدأ ولمن خبر وجملة خاف صلة وفاعله مستتر تقديره هو ومقامي مفعول به وهو مصدر مضاف للفاعل أي قيامي عليه بالحفظ أو اسم مكان قال الزجاج مكان وقوفه بين يدي للحساب، وخاف فعل ماض أيضا ووعيد مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لمراعاة الفواصل.
(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) واستفتحوا فعل ماض والواو(5/168)
فاعل والضمير يعود على الرسل أي واستنصروا الله على أعدائهم وقيل يعود على الكفار أي واستفتح الكفار على الرسل والأولى انه يعود على كلا الفريقين لأن كلّا من الجانبين يلتمس النصر على صاحبه فالواو استئنافية والجملة مستأنفة وخاب كل جبار فعل وفاعل وعنيد صفة لجبار ومعنى خاب هلك أو خسر، والعنيد: المعاند للحق والمجانب له وهو مأخوذ من العند وهو الناحية أي أخذ في ناحيته معرضا قال الشاعر:
إذا نزلت فاجعلوني وسطا ... إني كبير لا أطيق الغدا
وقال الزجاج: العنيد الذي يعدل عن القصد. (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) من ورائه خبر مقدم وجهنم مبتدأ مؤخر ومعنى من ورائه: من بين يديه أي من أمامه وخلفه والجملة صفة ثانية لجبار ويسقى الواو عاطفة على مقدر جوابا عن سؤال سائل وكأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ قيل يلقى فيها ويسقى. ويسقى فعل مضارع مبني للمجهول ومن ماء متعلقان بيسقى وصديد بدل من ماء أو عطف بيان له كأنه قال ويسقى من ماء ثم أراد أن يبين ما أبهمه فأردف بقوله صديد لأن الصديد هو الماء ولكنه السائل من جلود أهل النار خاصة قال أبو حيان «وقال ابن عطية: هو نعت لماء كما تقول: هذا خاتم حديد وليس بماء ولكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء وقيل هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول: مررت برجل أسد التقدير مثل صديد فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة وعلى هذا القول لا يكون صديدا ولكنه ما يشبه الصديد وقال الزمخشري: صديد عطف بيان لماء قال ويسقى من ماء فابهمه إبهاما ثم بينه بقوله صديد» والبصريون لا يجيزون عطف البيان(5/169)
في النكرات وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي فأعرب زيتونة عطف بيان لشجرة مباركة» . وجملة يسقى معطوفة على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى من ماء شديد يتميز عن عذابها بما هو أشدّ وأبلغ في الإيلام. (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) الجملة صفة لماء ويتجرعه فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولا بأس بجعل الجملة مستأنفة مسوقة للرد على سؤال كأنه قيل فماذا يفعل به؟ فقيل يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد مرة إطفاء لسورة العطش وحرارة الغليل، ولا الواو عاطفة ولا نافية ويكاد من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره هو وجملة يسيغه خبر وسيأتي المزيد من بحث هذا التركيب العجيب في باب البلاغة. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) الواو عاطفة ويأتيه الموت فعل وفاعل مؤخر ومفعول مقدم أي أسباب الموت كأنها تظاهرت عليه فهي تأتيه من كل مكان والجار والمجرور في موضع نصب على الحال أي تأتيه محيطة به من جميع جهاته. (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) الواو للحال وما نافية حجازية وهو اسمها والباء حرف جر زائد وميت مجرور لفظا منصوب محلا على أنه خبر ما ومن ورائه خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وغليظ صفة لعذاب. (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) مثل الذين مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه تقديره وفيما يقص عليكم مثل وقد تقدمت نظائره وجملة كفروا بربهم صلة وأعمالهم مبتدأ والكاف بمعنى مثل خبر أو هي حرف مع مجرورها في محل رفع خبر والجملة مستأنفة للاجابة على سؤال مقدر نشأ عن تقدير المثل كأنه قال وما ذلك المثل فقيل أعمالهم كرماد ويجوز أن يكون مثل مبتدأ وأعمالهم مبتدأ ثانيا وكرماد خبر الثاني والثاني وخبره خبر الأول وقد رد أبو حيان هذا الوجه بقوله «وهو لا يجوز لأن الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ الذي هو(5/170)
مثل عارية من رابط يعود على المثل وليست نفس المبتدأ في المعنى فلا تحتاج الى رابط» ، ويجوز- وهو وجه جميل- أن يكون مثل مبتدأ وأعمالهم بدل اشتمال منه وكرماد خبر مثل وأعمالهم معا وجملة اشتدت به الريح صفة لرماد وفي يوم عاصف حال من الريح. (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) الجملة حالية من فاعل كفروا ويقدرون فعل وفاعل ومما كسبوا حال لأنه كان في الأصل صفة لشيء وقد تقدم عليه وعلى شيء متعلقان بيقدرون وجملة كسبوا صلة وذلك مبتدأ وهو مبتدأ ثان والضلال خبر الثاني والثاني وخبره خبر الاول والبعيد صفة.
البلاغة:
في هذه الآيات أفانين متعددة من البلاغة نوردها فيما يلي:
1- في ألفاظ الآيات الواردة مورد التهديد والوعيد مراعاة النظير وقد تقدم بحثه فجميع ألفاظها متضافرة على التعبير عن المخيف القارع للقلوب.
2- في قوله تعالى: (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) فنون عديدة فيما يلي أهمها:
آ- الاستقصاء وهو أن يتناول المتكلم معنى فيستقصيه أي يأتي بجميع عوارضه ولوازمه بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية بحيث لا يترك لمن يتناوله بعده فيه مقالا يقوله فقد استقصى المعنى الذي أراده في الآية وهو كراهية الصديد الذي يشربه بأنه يتجرعه وفيه احتمالات أولها انه مطاوع جرعته بالتشديد نحو علمته فتعلم وثانيها انه(5/171)
للتكلف وقد اخترناه في الاعراب أي يتكلف جرعه ولم يذكر الزمخشري غيره وثالثها انه دال على المهلة نحو تفهمته أي يتناوله شيئا فشيئا بالجرع كما يتفهم شيئا فشيئا بالتفهيم ورابعها انه بمعنى جرعه المجرد وفي جميع هذه الأحوال استقصى غاية ما يمكن أن يتناوله شارب الماء.
ب- المبالغة في قوله «ولا يكاد» فدخول فعل يكاد للمبالغة، يعني: ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الاساغة؟ كقوله «لم يكد يراها» أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها.
ج- ذكر الموت وأراد أسبابه وهذا مجاز.
د- وصف العذاب بالغلظة كناية عن قوته واتصاله لأن الغلظة تستوجب القوة وتستدعي أن يكون متصلا تتصل به الأزمنة كلها فلا انفصال بينها.
هـ- الغلو: بذكر كاد وهذا يطرد في كل كلام تستعمل فيه أداة المقاربة كقول الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وقد أفرط أبو العلاء في استعمالها قال:
تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في سيوفهم النبالا
تكاد سوابق حملته تغني ... تجد الى رقابهم انسلالا
تكاد سوابق حملته تغني ... عن الأقدار صونا وابتذالا
سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات براحة يصف الكلالا
شجا ركبا وأفراسا وإبلا ... وزاد فكاد أن يشجو الرحالا(5/172)
ولا بن خفاجة الاندلسي. وكاد هنا مرقصة:
وأهيف قام يسعى ... والسكر يعطف قده
وقد ترنح غصنا ... وحمر الكأس ورده
وألهب السكر خدا ... أورى به الوجد زنده
فكاد يشرب نفسي ... وكدت أشرب خدّه
وكل هذا من الغلو المقبول لأنه مقترن بالأداة ويزداد حسنه إذا تضمن نوعا حسنا من التخييل كقول المتنبي:
عقدت سنابكها عليه عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه أمكنا
ولأبي العلاء في صفة السيف:
يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا
وقال في وصف الخيل:
ولما لم يسابقهن شيء ... من الحيوان سابقن الظلالا
أما الغلو غير المقبول فهو نوعان نوع يستسيغه الفن كقول المتنبي:
ولو قلم ألقيت في شقّ رأسه ... من السقم ما غيرت من خط كاتب
وقول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى انه ... لتخافك النطف التي لم تخلق(5/173)
والتتميم: وقد تحدثنا عنه أيضا ونبينه هنا فنقول التتميم أنواع ثلاثة تتميم النقص وتتميم الاحتياط وتتميم المبالغة فقد قال يتجرعه ولو قال جرعه لما أفاد المعنى الذي أراده لأن جرع الماء لا يشير الى معنى الكراهية ولكنه عند ما أتي بالتاء على صيغة التفعل أفهم أنه يتكلف شربه تكلفا وانه يعاني من جراء شربه مالا يأتي الوصف عليه من تقزز وكراهية ثم احتاط للأمر لأنه قد يوهم بأنه تكلف شربه ثم هان عليه الأمر بعد ذلك فأتي بالكيدودة أي أنه تكلف شربه وهو لا يكاد يشربه ولو اكتفى بالكيدودة لصح المعنى دون مبالغة ولكن عند ما جاءت يسيغه افهم انه لا يسيغه بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة وتارة بالعطش.
3- التشبيه التمثيلي بقوله «والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف» فالمشبه مركب وهو الذين كفروا وأعمالهم الصالحة التي يقومون بها في حياتهم كصلة يرفدون بها المحتاج وصدقة يجبرون بها المكسور وعلم يعم نفعه العباد والمشبه به الرماد وهو ما سحقته النار من الاجرام واشتداد الريح واليوم العاصف ووجه الشبه ان الريح العاصف تطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى له أثر فكذلك كفرهم أبطل أعمالهم وأحبطها بحيث لا يبقى لها أثر.
4- المجاز العقلي في اسناد العصف لليوم كقولهم نهاره صائم وليله قائم شبهت صنائعهم الحميدة ومكارمهم المجيدة وما كانوا ينتدبون له من إغاثة الملهوف وعتق الرقاب وفك العاني وافتداء الأسارى وعقر الإبل للأضياف وغير ذلك شبهت هذه الصنائع في(5/174)
حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والايمان به برماد طيرته الريح في اليوم الذي أسند اليه العصف.
5- وصف الضلال بالبعد تقدم القول فيه قريبا فجدد به عهدا.
الفوائد:
«أو» حرف عطف وله معان نوردها فيما يلي:
آ- الشك نحو «لبثنا يوما أو بعض يوم» .
ب- الإبهام نحو «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» والشاهد في أو الأولى.
ج- الإباحة وهي الواقعة قبل ما يجوز فيه الجمع نحو: جالس العلماء أو الزهاد.
د- التخيير وهي الواقعة قبل ما يمتنع فيه الجمع نحو: تزوج هندا أو أختها وسر ماشيا أو راكبا.
هـ- مطلق الجمع كالواو كقوله:
وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقد أنكرها بعضهم هنا وقال هي للابهام أي انها تعلم اتصافها بالأمرين وقصدت الإبهام على السامع وهذا مردود لأن كون التقى للنفس والفجور عليها أمران مجتمعان في الواقع كما قال تعالى: «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» ومن ورودها لمطلق الجمع قول جرير:
جاء الخلافة أو كانت له قدرا ... كما أتى ربه موسى على قدر(5/175)
وقول النابغة المشهور في معلقته:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
وعلى هذا المعنى حمل بعض العلماء أو في قوله تعالى «وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون» وفيها أقوال أخرى سترد في مكانها إن شاء الله.
والإضراب ك «بل» واشترط سيبويه لاجازة ذلك شرطين تقدم نفي أو نهي وإعادة العامل نحو ما قام زيدا وما قام عمرو واستشهد بقوله تعالى: «ولا تطع منهما آثما أو كفورا» ولم يشترط غير سيبويه هذين الشرطين واستشهدوا بقول جرير:
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية ... لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
وقيل هي المقصودة بقوله تعالى «وأرسلناه الى مائة ألف أو يزيدون» فقال الفراء الاخبار الاول بحسب ما يظهر للناس ليندفع الاعتراض بأنه كيف يجوز الاضراب مع كونه عالما بعددهم وأنهم يزيدون فهو إخبار منه تعالى بناء على ما يحزر الناس من غير تحقيق ثم أخذ في التحقيق مضربا عما يغلط فيه الناس بناء على ظاهر الحزر وسيأتي المزيد من هذا البحث القيم عند الكلام على هذه الآية.
ز- التقسيم نحو: الكلمة اسم أو فعل أو حرف وسماه بعضهم التفريق نحو قوله تعالى: «وقالوا كونوا هودا أو نصارى» وهو أولى من التعبير بالتقسيم لأن استعمال الواو في التقسيم أجود.(5/176)
ح- أن تكون بمعنى إلا في الاستثناء وهذه ينتصب المضارع بعدها بإضمار أن كقول زياد الأعجم:
وكنت إذا غمزت قناة قوم ... كسرت كعوبها أو تستقيما
وهذه الآية منها ولكن امتنع النصب لدخول اللام الدالة على الحال فيمتنع تقدير ان الدالة على الاستقبال لئلا تحصل المنافاة.
ط- أن تكون بمعنى الى وهي كالتي قبلها في انتصاب المضارع بعدها بأن مضمرة كقوله:
لأستسهلنّ الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر
ي- أن تكون للتقريب نحو ما أدري أسلّم أو ودع قال الحريري في درة لغواص: «انهم لا يفرقون بين قولهم: لا أدري أينا أقام أو أذن وقولهم أدري أقام أم أذن والفرق بينهما انك إذا نطقت بأم كنت شاكأ فيما أتى به من الإقامة والأذان وإذا أتيت بأو فقد حققت أنه أتى بالأمرين إلا انه لسرعة وقرب ما بينهما صار بمنزلة من لم يقم ولم يؤذن» .
ك- الشرطية نحو: لأضربنه عاش أو مات أي إن عاش بعد الضرب وإن مات.
ل- التبعيض ذكره بعضهم واستشهد بقوله تعالى: «وقالوا كونوا هودا أو نصارى» وهذا محض تكلف.(5/177)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 22]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
اللغة:
(مَحِيصٍ) : منجى ومهرب والمحيص يجوز أن يكون مصدرا كالمغيب والمشيب ومكانا كالمبيت والمصيف وفي المختار حاص عنه عدل وحاد وبابه باع وحيوصا ومحيصا ومحاصا وحيصانا بفتح الياء، يقال ما عنه محيص أي محيد ومهرب والانحياص مثله. ومن أقوالهم: وقع في حيص بيص أي في اختلاط لا مخرج منه وفتنة تموج بأهلها وهما(5/178)
اسمان ركبا اسما واحدا وبنيا بناء خمسة عشر والذي أوجب بناءها تقدير الواو فيهما فالحيص التأخر والهرب والبوص مأخوذ من قولهم باص يبوص أي فات وسبق لأنه إذا وقع الاختلاط والفتنة فمنهم فائت ومنهم هارب وكان القياس يقضي أن يقال حيص بوص إلا أنهم أتبعوا الثاني الاول وفيها لغات كثيرة أشهرها حيص بيص بفتح الحاء والباء وفتح آخرهما على البناء كما تقدم، أنشد الأصمعي لأمية بن عائذ الهذلي:
قد كنت خراجا ولوجا صرفا ... لم تلتحصني حيص بيص لحاص
وقالوا: حيص بيص بكسر أولهما وفتح آخرهما وبعضهم يبنيهما على الكسر كما تكسر الأصوات نحو غاق غاق وهناك لغات أخرى أضربنا عن ذكرها.
(بِمُصْرِخِكُمْ) : بمغيثكم وفي المصباح: «صرخ يصرخ من باب قتل صراخا فهو صارخ وصريخ إذا صاح وصرخ فهو صارخ إذا استغاث واستصرخته فأصرخني استغثت به فأغاثني فهو صريخ أي مغيث ومصرخ على القياس» وهو المغيث والمستغيث فهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح. قال ابن الاعرابي المستغيث والمصرخ المغيث.
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر فعل مضارع مجزوم بلم وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي تر، والسموات مفعول خلق وقيل مفعول مطلق وسترى بحثا شيقا في باب الفوائد وبالحق متعلقان بخلق(5/179)
أو بمحذوف حال فالباء للسببية على الأول وللمصاحبة على الثاني.
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) إن شرطية ويشأ فعل الشرط ويذهبكم جواب الشرط والكاف مفعول به ويأت عطف على يذهبكم وبخلق متعلقان بيأت وجديد صفة (وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) الواو عاطفة أو حالية وما نافية حجازية وذلك اسمها وعلى الله جار ومجرور متعلقان بعزيز والباء حرف جر زائد وعزيز مجرور لفظا منصوب محلا على انه خبر ما. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتقرير بعثهم من القبور وعبر عنه بصيغة الماضي وان كان معناه الاستقبال لأن كل ما أخبر الله عنه فهو حق وصدق كائن لا محالة فصار كأنه قد حصل ودخل في حيز الوجود وبرزوا فعل وفاعل ولله متعلقان ببرزوا وجميعا حال. (فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) الفاء عاطفة وقال الضعفاء فعل وفاعل وللذين متعلقان بقال وجملة استكبروا صلة وجملة إنا مقول القول وان واسمها وجملة كنا خبرها وكان واسمها ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة له ثم تقدمت وتبعا خبر كنا وهو جمع تابع كقولم خادم وخدم.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام وأنتم مبتدأ ومغنون خبر وعنا متعلقان بمغنون ومن عذاب الله حال ومن الثانية زائدة وشيء مفعول به محلا مجرور بمن لفظا وهذا أولى الأعاريب الكثيرة. (قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) قالوا فعل وفاعل ولو حرف امتناع وهدانا الله: فعل ومفعول به وفاعل، لهديناكم: اللام واقعة في جواب الشرط وهديناكم:
فعل وفاعل ومفعول به، سواء خبر مقدم وأ جزعنا مبتدأ مؤخر لأنه في تأويل مصدر لأن الهمزة للتسوية والفعل بعدها يؤول بمصدر وأم حرف عطف متصلة وصبرنا عطف على جزعنا. (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) ما(5/180)
نافية حجازية ولنا خبر مقدم ومن حرف جر زائد ومحيص مجرور لفظا اسم ما محلا. (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) الواو عاطفة وقال الشيطان فعل وفاعل ولما ظرفية حينية أو رابطة وقضي الأمر فعل ونائب فاعل والجملة مضافة للما أو لا محل لها وإن واسمها وجملة وعدكم خبرها ووعد مفعول مطلق والحق مضاف اليه وجملة إن الله مقول القول وهو من كلام إبليس قاله ردا على أهل النار الذين أخذوا يلومونه ويقرعونه. (وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) لا بد من تقدير محذوف أي فصدقكم، ووعدتكم عطف على وعدكم، فأخلفتكم عطف على وعدتكم وهو فعل وفاعل ومفعول به. (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) الواو عاطفة وما نافية وكان فعل ماض ناقص ولي خبرها المقدم وعليكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطان ومن حرف جر وسلطان مجرور لفظا واسم كان محلا وإلا أداة استثناء وأن وما في حيزها مستثنى لأن الاستثناء المنقطع يجب نصبه ولو كان الكلام غير موجب ولأن الدعاء ليس من جنس السلطان فاستجبتم عطف على دعوتكم ولي متعلقان باستجبتم.
(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) الفاء الفصيحة كأنه قيل إن علمتم انكم أسرعتم في اجابتي فأنتم الملومون ولا ناهية وتلوموني مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به ولوموا فعل أمر وفاعل وأنفسكم مفعول به. (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) ما نافية حجازية وأنا اسمها وبمصرخكم الباء حرف جر زائد ومصرخكم خبر ما محلا وما أنتم بمصرخي عطف على مثيلتها وأصل بمصرخي بمصرخين لي جمع مصرخ فياء الجمع ساكنة وياء الاضافة ساكنة كذلك فحذفت اللام للتخفيف والنون للاضافة فالتقى ساكنان وهما الياء ان فأدغمت ياء الجمع في ياء الاضافة ثم حركت ياء الاضافة(5/181)
بالفتح طلبا للخفة وتخلصا من توالي ثلاث كسرات. (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) إن واسمها وجملة كفرت خبرها والباء حرف جر وما مصدرية مؤولة مع أشركتموني بمصدر مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بكفرت أي كفرت باشراككم إياي ويجوز أن تكون موصولة والأول أولى كما قررنا والياء مفعول أشركتموني ومن قبل متعلقان بأشركتموني وسيأتي في باب البلاغة معنى اشراكهم إياه مع الله تعالى. (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ان واسمها ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة والجملة الاسمية خبر ان.
البلاغة:
في قوله تعالى: «إني كفرت بما أشركتموني» استعارة تصريحية شبه الطاعة بالاشراك ونزلها منزلته لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله في أعمال الخير أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها باتباعهم له في ذلك فكأنهم أشركوه لأنه هو الذي كان يزين لهم عبادة الأوثان ثم حذف المشبه وأبقى المشبه به على طريق الاستعارة التصريحية التبعية.
وبوضوح هذه الاستعارة يتضح أن الشيطان قام لهم في هذا اليوم مقاما يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم فقد أوضح لهم:
أولا- ان مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة ومعارضة لوعد الحق من الله سبحانه.
ثانيا- انه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها.(5/182)
ثالثا- أوضح لهم أنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول ولا ينفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بد للعاقل منها في قبول قبول غيره.
رابعا- أوضح لهم انه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان الخالية من أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء.
خامسا- ثم نعى عليهم ما وقعوا فيه ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى مسكة من عقل.
سادسا- أوضح لهم انه لا نصر عنده ولا إغاثة ولا يستطيع لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضرا بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص من هذه المحنة.
سابعا: ثم صرح لهم بأنه قد كفر بما اعتقدوه وأثبتوه له فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب.
وإذا كانت جملة «ان الظالمين لهم عذاب أليم» من تتمة كلامه كما ذهب اليه بعض المفسرين فهو نوع ثامن من كلامه الذي خاطبهم به.
الفوائد:
إعراب خلق الله السموات:
هذا بحث شيق وإن يكن لا حقيقة له فقد اعترض عبد القاهر الجرجاني على إعراب خلق الله السموات والعالم ونحوهما إذ قال:
«العالم هنا مصدر لا مفعول به لأن المفعول به هو الذي كان موجودا(5/183)
أو أثر فيه الفاعل شيئا آخر بفعله والمصدر هو الذي لم يكن موجودا بل كان عدما محضا والفاعل موجده ومخرجه من العدم الى الوجود بفعله والعالم في قولنا خلق الله العالم كذلك فكان مصدرا» واعترض عليه بأنه لو كان مصدرا لكان نفس الخلق ولا يجوز أن يكون ذلك لوجهين أحدهما انا نعلم العالم مع الشك في كونه مخلوقا لله تعالى الى أن نعلم ذلك بدليل منفصل فالعالم على هذا معلوم وكونه مخلوقا له تعالى غير معلوم لتوفقه على الدليل والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم فكان الخلق غير العالم والوجه الثاني ان الله تعالى يوصف بالخلق فلو كان الخلق العالم لكان الله موصوفا بالعالم وهو لا يجوز لأنه يلزم من ذلك وصف القديم بالحادث أو قدم العالم وهذه حذلقة لا طائل تحتها والحق ان الذي أورده عبد القاهر الجرجاني طائح من أساسه لأن الكلام إنما هو في اصطلاح النحاة وهذا المصطلح إنما هو فيما يعرض لأواخر الكلم من الرفع والنصب والجر لا تصاف الكلمة بالفاعلية تارة وبالمفعولية تارة وبالإضافة تارة أخرى الى غير ذلك فإذا قلنا خلق الله السموات والأرض قلنا: هذه الكلمات المركبة المسموعة نسميها في اصطلاحنا فعلا وفاعلا ومفعولا به فرفعنا اسم الله تعالى على أنه فاعل ونصبنا السموات والأرض على المفعولية لوقوع فعل الفاعل عليها ولا يلزمنا من هذه العبارة التي أوقعناها على هذه الألفاظ أن يكون المعنى في الأصل قد وقع وتجدّد لأن الألفاظ أدلة على المعاني والدليل غير المدلول ولأن الاسم غير المسمى وإلا لزم احتراق فم من تلفّظ بالنار ولزم إذا قلنا أعدم الله العالم وأقام القيامة وأمات زيدا أن يكون هذا كله قد وقع الآن وتجدّد ونحن نجد هذا باطلا.
ونعتقد أن الامام عبد القاهر كان يعتقد بطلان ما أورده وإنما أورده مغالطة وإظهارا لصناعة البحث ليس غير.(5/184)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
ناصب المفعول به:
وهنا لا بد من إيراد بحث دقيق وهو: ما هو ناصب المفعول به؟
مذهب سيبويه أنه الفعل ولذلك تعددت المفاعيل بحسب اقتضاء الفعل لأن الفعل إن اقتضى مفعولا نصبه أو اثنين نصبهما أو ثلاثة نصبها، وقال ابن هشام: إنه الفاعل لأنه الذي أثر فيه في المعنى فيؤثر فيه في اللفظ.
أقول: وهذا ليس بشيء لأن الفاعل يضمر والمضمر لا يعمل في المظهر ولأنهم قسموا الفعل الى لازم ومتعدّ فدل على أن العمل له.
أما الفراء فاختار أن يكون الفعل والفاعل هما اللذين نصبا المفعول قياسا على الابتداء والخبر، وهو خلاف لا طائل تحته وانما أوردنا هذه المباحث النظرية لأنها مصقلة للذهن، ورياضة له، ويرد على الجميع قوله تعالى: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ... » إذ لا فاعل ولا فعل هنا والكلام في هذا لا يتسع له هذا المقام.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 23 الى 27]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)(5/185)
الإعراب:
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) بعد أن شرح أحوال الكفار الأشقياء شرع في شرح أحوال المؤمنين السعداء. وأدخل فعل ماض مبني للمجهول والذين نائب فاعل وجملة آمنوا صلة وعملوا عطف على آمنوا وهي فعل وفاعل والصالحات مفعول به وجنات مفعول به ثان على السعة وجملة تجري من تحتها الأنهار صفة لجنات. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) بإذن جار ومجرور متعلقان بأدخل وربهم مضاف لإذن وتحيتهم مبتدأ وفيها حال وسلام خبر تحيتهم. (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وتر مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به والحال من المفعول به. (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) كلمة بدل من مثلا أو منصوبة بفعل محذوف أي جعل كلمة طيبة أو بتضمين ضرب معنى جعل فيكون مفعولا به ثانيا وكشجرة خبر لمبتدأ محذوف بمعنى هي كشجرة طيبة وطيبة صفة لشجرة وأصلها مبتدأ وثابت خبر والجملة صفة ثانية لشجرة وفرعها في السماء عطف على(5/186)
أصلها ثابت ويجوز أن يكون قوله كشجرة صفة ثانية لكلمة طيبة.
(تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) الجملة صفة ثالثة لشجرة وتؤتي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هي وأكلها مفعول به وكلّ حين ظرف متعلق بتؤتي وسيأتي حديث عن الشجرة الطيبة وبإذن ربها متعلقان بتؤتي أو بمحذوف حال أي ملتبسة بإذن ربها. (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ويضرب الله الأمثال فعل مضارع وفاعل ومفعول به وللناس متعلقان بيضرب ولعل واسمها وجملة يتذكرون خبرها.
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) ومثل مبتدأ وكلمة مضاف اليه وخبيثة صفة وكشجرة خبر مثل وخبيثة صفة وجملة اجتثت من فوق الأرض صفة ثانية لشجرة وجملة مالها من قرار صفة ثالثة لشجرة وما نافية حجازية أو تميميه ولها خبر مقدم ومن زائدة وقرار مبتدأ مؤخر أو اسم ما مؤخر. (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير حالة كل من المرادين بالمثلين المتقدمين ويثبت فعل مضارع والله فاعل والذين مفعول به وجملة آمنوا صلة وبالقول متعلقان بيثبت والثابت نعت للقول وفي الحياة الدنيا حال. (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ) ويضل الله الظالمين فعل وفاعل ومفعول به ويفعل الله ما يشاء فعل وفاعل ومفعول به وجملة يشاء صلة.
البلاغة:
1- التشبيه التمثيلي في تشبيه الكلمة الطيبة الموصوفة بثلاث صفات وهي إيتاء الاكل كل حين أي من وقت أن نؤكل الى حين انصرامها قال الربيع بن أنس هي النخلة لأن ثمرها يؤكل أبدا ليلا(5/187)
ونهارا وصيفا وشتاء فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح والبسر والمنصف والرطب وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: إن الله ضرب مثل المؤمن شجرة فأخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي وكنت صبيا فوقع في قلبي أنها النخلة فهبت رسول الله أن أقولها وأنا أصغر القوم وروي فمنعني منها مكان عمر واستحييت فقال لي عمر: يا بني لو كنت قلتها لكانت أحب إليّ من حمر النعم. ووجه الشبه في تمثيل الايمان بالشجرة أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء عرق راسخ وأصل قائم وفرع عال كذلك الايمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالأبدان فوجود الصفات الثلاث في جانب المشبه به حسية بينما هي في جانب المشبه معنوية.
2- التشبيه التمثيلي أيضا في تشبيه الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة غير الثابتة كأنها اجتثت أو كأنها ملقاة على وجه الأرض فلا تغوص الى الأرض بل عروقها في وجه الأرض ولا غصون لها تمتد صعدا الى السماء وهذا معنى قوله ما لها من قرار.
3- المجاز العقلي في قوله «تؤتي أكلها» ففعل الإيتاء مسند الى غير فاعله الحقيقي لأن النخلة لا تؤتي الأكل على حد قول الصلتان العبدي.
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومرّ العشي فالمجاز وقع في اثبات الشيب فعلا لكر الغداة ومر العشي وهو في الحقيقة فعل الله تعالى.(5/188)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
اللغة:
(الْبَوارِ) : الهلاك وفي المصباح: «بار الشيء يبور بورا بالضم هلك وبار الشيء بوارا كسد على الاستعارة لأنه إذا ترك صار غير منتفع به فأشبه الهالك من هذا الوجه» وفي القاموس والتاج: «البور بفتح الباء:
الأرض قبل أن تصلح للزرع أو التي تجم سنة لتزرع من قابل، والاختبار كالابتيار والهلاك، وأباره الله، وكساد السوق كالبوار فيهما(5/189)
وجمع بائر وبالضم الرجل الفاسد والهالك لا خير فيه يستوي فيه الاثنان والجمع والمؤنث، وما بار من الأرض فلم يعمّر كالبائر والبائرة» وفي الأساس: «فلان له نوره وعليك بوره أي هلاكه وقوم بور وأحلوا دار البوار ونزلت بوار على الكفار قال أبو مكعت الأسدي:
قتلت فكان تظالما وتباغيا ... إن التظالم في الصديق بوار
لو كان أول ما أتيت تهارشت ... أولاد عرج عليك عند وجار
جعلها علما للضباع فاجتمع التعريف والتأنيث ومن المجاز: بارت البياعات كسدت وسوق بائرة وبارت الأيم إذا لم يرغب فيها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيم وبارت الأرض إذا لم تزرع وأرض بوار وأرضون بور» .
(يَصْلَوْنَها) : يدخلونها وفي المصباح صلي بالنار وصليها صليا من باب تعب وجد حرّها والصلاء وزان كتاب حرّ النار وصليت اللحم أصليه من باب رمى إذا شويته» .
(خِلالٌ) مخالّة أي صداقة كذا فسرها الزمخشري والجلال وغيرها وهو يقتضي أنها مفرد وفي القرطبي: انه جمع خلة بالضم مثله قلة وقلال وفي الأساس ما يؤيد انه مفرد قال: «هو خليلي وخلّي وخلتي وهم أخلائي وخلّاني وبيننا خلة قديمة، وخاللته مخالّة وخلالا» وما يؤيد أنه جمع قال: «وهذه خلة صالحة وفيه خلال حسنة» .
الإعراب:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ)(5/190)
الهمزة للاستفهام التعجبي أي ألا تعجب من صنيع هؤلاء الكفرة الذي لا يصدر عمن له أدنى إدراك. ولم حرف نفي وقلب وجزم والى الذين متعلقان بتر وجملة بدلوا صلة ونعمة الله مفعول به ثان لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي بنعمة الله وكفرا هو المفعول الأول قال أبو حيان: «وزعم الحوفي وأبو البقاء ان كفرا هو مفعول ثان لبدلوا وليس بصحيح لأن «بدّل» من أخوات «اختار» فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني والذي يصل اليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الاول» وأحلوا عطف على بدلوا وقومهم مفعول به أول ودار البوار مفعول به ثان. (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) جهنم بدل أو عطف بيان من دار البوار أو بنصبه بفعل محذوف يفسره ما بعده أي يصلون جهنم وجملة يصلونها حالية على الأول وتفسيرية على الثانية والواو حالية وبئس القرار فعل وفاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي. (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) الواو عاطفة وجعلوا فعل وفاعل ولله في محل نصب مفعول به ثان لجعلوا وأندادا مفعول به أول ولك أن تعلق لله بمحذوف حال وليضلوا قيل اللام للعاقبة أو الصيرورة وقيل هي على بابها من التعليل ولكن ليس ذلك غرضا حقيقيا لهم من اتخاذ الأنداد ولكن لما كان ذلك نتيجة له شبه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية ويضلوا منصوب بأن مضمرة بعد لام العاقبة أو لام التعليل والواو فاعل وعن سبيله متعلقان بيضلوا. (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) قل فعل أمر وجملة تمتعوا مقول القول وتمتعوا فعل أمر وفاعله، فإن: الفاء للتعليل وان واسمها والى النار خبرها. (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) اتفق أكثر المعربين على أن مقول القول محذوف يدل عليه جوابه أي قل لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا وسيرد على هذا القول(5/191)
ما اعترض به بعضهم وذلك في باب البلاغة والذين صفة لعبادي وجملة آمنوا صلة ويقيموا مجزوم في جواب الأمر أي إن قلت لهم أقيموا الصلاة وأنفقوا إلخ يقيموا الصلاة وينفقوا وجوزوا أن يكون يقيموا وينفقوا بمعنى ليقيموا ولينفقوا فهما مجزومان بلام الأمر ويكون هذا هو المقول وسيرد في باب البلاغة بحث طريف بهذا الصدد والصلاة مفعول به.
وعبارة ابن هشام في المغني: «والجمهور على أن الجزم في الآية- أي قل لعبادي- مثله في قولك ائتني أكرمك وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال:
1- أحدها للخليل وسيبويه انه بنفس الطلب لما تضمنه من معنى ان الشرطية كما أن أسماء الشرط انما جزمت لذلك.
2- والثاني للسيرا في والفارسي انه بالطلب لنيابته مناب الجازم الذي هو الشرط المقدر كما أن النصب بضربا في قولك ضربا زيدا لنيابته عن أضرب لا لتضمنه معناه.
3- والثالث للجمهور انه بشرط مقدر بعد الطلب وهذا أرجح من الأول لأن الحذف والتضمين وان اشتركا في أنهما خلاف الأصل لكن في التضمين تغيير معنى الأصل ولا كذلك الحذف وأيضا فإن تضمين الفعل معنى الحرف إما غير واقع أو غير كثير ومن الثاني لأن نائب الشيء يؤدي معناه والطلب لا يؤدي معنى الشرط، وأبطل ابن مالك بالآية أن يكون الجزم في جواب شرط مقدر لأن تقديره يستلزم أن لا يتخلف أحد من المقول له ذلك عن الامتثال لكن التخلف واقع وأجاب ابنه بأن الحكم مسند إليهم على سبيل الإجمال لا إلى كل فرد فيحتمل(5/192)
أن الأصل يقيم أكثرهم ثم حذف المضاف وأنيب عنه المضاف اليه فارتفع واتصل بالفعل وباحتمال انه ليس المراد بالعباد الموصوفين بالإيمان مطلقا بل المخلصين منهم وكل مؤمن مخلص قال له الرسول أقم الصلاة أقامها، وقال المبرد: التقدير قل لهم أقيموا يقيموا والجزم في جواب أقيموا المقدر لا في جواب قل ويرده أن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو أسلم تدخل الجنة أو في الفاعل نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيهما وأيضا فإن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا للغيبة وقيل يقيموا مبني لحلوله محل أقيموا وهو مبني وليس بشيء وزعم الكوفيون وأبو الحسن أن لام الطلب حذفت حذفا مستمرا في نحو قم واقعد وان الأصل لتقم ولتقعد فحذفت اللام للتخفيف وتبعها حرف المضارعة وبقولهم أقول لأن الأمر معنى فحقه أن يؤدى بالحرف ولأنه أخو النهي ولم يدل عليه إلا بالحرف ولأن الفعل إنما وضع لتقييد الحدث بالزمان المحصل وكونه أمرا أو خبرا خارج عن مقصوده ولأنهم قد نطقوا بذلك الأصل كقوله «لتقم أنت يا ابن خير قريش» .
(وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) وينفقوا عطف على يقيموا ومما رزقناهم متعلقان بينفقوا وسرا وعلانية منصوبان على الحال أي ذوي سر وذوي علانية بمعنى مسرين ومعلنين أو على المصدر أي انفاق سر وعلانية أو على الظرفية أي وقتي سر وعلانية أو بنزع الخافض أي في سر وعلانية. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) من قبل متعلقان بينفقوا وان وما في حيزها مصدر مضاف لقبل ويوم فاعل يأتي ولا نافية للجنس أهملت لتكرارها كما في لا حول ولا قوة وقد تقدمت الأوجه فيها وبيع مبتدأ وفيه خبر ولا خلال عطف على لا بيع. (اللَّهُ(5/193)
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)
الله مبتدأ والذي خبره وخلق صلة والسموات والأرض مفعوله. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) وأنزل عطف على خلق والفاعل مستتر هو الله ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأخرج عطف على أنزل وبه جار ومجرور متعلقان بأخرج ومن الثمرات حال لأنه تقدم على موصوفه وهو رزقا، ورزقا مفعول به ولكم صفة لرزقا. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) وسخر لكم الفلك عطف على ما تقدم ولتجري اللام للتعليل وتجري منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وفي البحر متعلقان بتجري وبأمره حال. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) عطف على ما تقدم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) عطف أيضا ودائبين حال من الشمس والقمر فلما اتفقا لفظا ومعنى ثنيا ولا يضر اختلافهما في التذكير والتأنبث. (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) وآتاكم عطف أيضا وهو فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن كل متعلقان بآتاكم وما موصول مضاف لكل وسألتموه صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) الواو عاطفة وان شرطية وتعدوا فعل الشرط والواو فاعل ونعمة الله مفعول تعدوا ولا نافية وتحصوها جواب ان. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) جملة مستأنفة مسوقة للتأكيد على جحود الإنسان الظالم لآلاء الله ونعمه متغافل عن شكرها وان واسمها واللام المزحلقة وظلوم خبر ان الأول وكفار خبر إن الثاني.
البلاغة:
في هذه الآيات من التهديد والوعيد والارعاد والابراق ما فيها، وسنورد خصائصها بصورة متعاقبة:(5/194)
فأولها: التعجب الوارد بصيغة الاستفهام من أعمالهم التي لا تمت الى الحلم بصلة فقد بدلوا نفس النعمة كفرا وجنوا على أنفسهم وعلى قومهم.
وثانيهما: الاستعارة في قوله ليضلوا عن سبيل الله ولم يكن ذلك غرضا لهم ولكنه شبيه به لأنه نتيجة محتومة لاتخاذ الأنداد فهي استعارة تصريحية تبعية.
وثالثهما: حذف المقول من قوله «قل لعبادي الذين آمنوا إلخ» وقد رد الحذاق على هذا الإعراب بقوله «وفي هذا الإعراب نظر لأن الجواب حينئذ يكون خبرا من الله تعالى بأنه إن قال لهم هذا القول امتثلوا مقتضاه فأقاموا الصلاة وأنفقوا لكنهم قد قيل لهم فلم يمتثل كثير منهم وخبر الله يجل عن الحلف وهذه النكتة هي الباعثة لكثير من المعربين على العدول عن هذا الوجه من الاعراب مع تبادره فيما ذكر بادي الرأي ويمكن تصحيحه بحمل العام على الغالب لا على الاستغراق ويقوى بوجهين لطيفين أحدهما ان هذا النظم لم يرد إلا لموصوف بالايمان الحق المنوه بايمانه عند الأمر كهذه الآية وغيرها مثل قوله تعالى «قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن» و «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم» والثاني تكرر مجيئه للموصوفين بأنهم عباد الله المشرفون باضافتهم الى اسم الله تعالى وقد قالوا: إن لفظ العباد لم يرد في الكتاب العزيز إلا مدحة للمؤمنين وخصوصا إذا انضاف اليه تعالى اضافة التشريف والحاصل ان المأمور في هذه الآي من هو بصدد الامتثال وفي حيز المسارعة للطاعة فالخبر في أمثالهم حق وصدق اما على العموم إن أريد أو على الغالب.(5/195)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
ورابعها: التأكيد الذي جعل الخبر إنكاريا بقوله «إن الإنسان لظلوم كفار» فقد اشتملت هذه الآية على أربعة تأكيدات أولها «ان» وثانيها «اللام المزحلقة أو لام التأكيد» وصيغة «ظلوم» وصيغة «كفار» .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)(5/196)
اللغة:
(وَاجْنُبْنِي) : أهل الحجاز يقولون: جنبني شره بالتشديد وأهل نجد جنبني وأجنبني والمعنى أدمنا وثبتنا على اجتناب عبادتها، ويقال جنبه الشر وأجنبه إياه ثلاثيا ورباعيا وهي لغة نجد وجنّبه إياه مشددا وهي لغة الحجاز وهو المنع وأصله من الجانب، وقال الراغب: «وقوله تعالى وأجنبني وبني من جنبته عن كذا أي أبعدته منه وقيل من جنبت الفرس وكأنه سأله أن يبعده عن جانب الشرك بألطاف منه وأسباب خفية وأن نعبد على حذف حرف الجر أي عن أن نعبد» وفي القاموس:
«والجنب محركة أن يجنب فرسا الى فرسه في السباق فاذا فتر المركوب تحول الى المجنوب» وفي المصباح: «وجنبت الرجل الشر جنوبا من باب قعد أبعدته عنه وجنبته بالثقيل مبالغة» وفي المختار: وجنبه الشيء من باب نصر وجنّبة الشيء تجنيبا بمعنى أي نحاه عنه ومنه قوله تعالى:
«واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام» وقال أبو علي: ويقال جنبت فلانا الخير، أي نحيته عنه وجنبته أيضا بالتثقيل. قال أبو نصر: والتخفيف أجود قال الله تعالى: «وأجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام» .
(تَهْوِي إِلَيْهِمْ) : تميل وتحن وتطير شوقا نحوهم وأصله أن يتعدى باللام وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى تميل قال في الأساس:
وهوى الى الجبل وهوى الجبل صعده هو يا قال أبو بكر الهذلي يصف تأبط شرا:
وإذا رميت به الفجاج رأيته ... يهوى مخارمها هوي الأجدل
أي إذا قذفته في نواحي الأمكنة المتشعبة رأيته يهوى مخارمها أي يسرع في سلوك مسالكها الضيقة كهوي الأجدل وهو الصقر أي كاسراعه في الطيران» .(5/197)
الإعراب:
(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) إذ ظرف زمان لما مضى متعلق باذكر وجملة قال مضاف إليها الظرف وابراهيم فاعل ورب منادى محذوف منه حرف النداء مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة واجعل فعل دعاء وفاعله مستتر تقديره أنت وهذا مفعوله الأول والبلد بدل من اسم الاشارة وآمنا مفعول به ثان. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) واجنبني فعل دعاء والنون للوقاية والياء مفعوله وبني عطف على الياء أو مفعول معه وان نعبد ان وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض كما قال الراغب أي عن أن نعبد والجار والمجرور متعلقان باجنبني والأصنام مفعول به لنعبد. (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) رب منادى محذوف منه حرف النداء وقد تقدم نظيره وان واسمها وجملة أضللن خبر إن والضمير يعود على الأصنام والمراد بالدعاء طلب الثبات والدوام على ذلك وكثيرا مفعول به ومن الناس صفة لكثيرا وجملة إنهن تعليلية لقوله واجنبني. (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الفاء عاطفة ومن اسم شرط جازم مبتدأ وتبعني فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والنون للوقاية والياء مفعول به فانه الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها ومني خبرها والجملة في محل جزم جواب الشرط والفعل وجوابه خبر من.
(وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة معطوفة على نظيرتها. (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) تكرر النداء لتأكيد الابتهال والتضرع وان واسمها وجملة أسكنت خبرها ومن ذريتي متعلقان بمحذوف صفة لمفعول أسكنت المحذوف أي أسكنت ذرية من ذريتي ومن للتبعيض، بواد جار ومجرور متعلقان بأسكنت(5/198)
وغير صفة لواد وذي مضاف لغير وزرع مضاف لذي وعند بيتك الظرف صفة لواد والمحرم صفة لبيتك وسيأتي تفصيل هذا الإسكان في باب الفوائد (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) كرر نداء ربنا تأكيدا للابتهال.
وليقيموا اللام لام التعليل وهي متعلقة بأسكنت أي أسكنتهم هذا الوادي الخلاء البلقع من كل مرتفق ومرتزق ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم أي العظيم الحرمة ويعمروه بذكراك وعبادتك. (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) الفاء الفصيحة واجعل أفئدة فعل دعاء ومفعول به ومن الناس صفة لأفئدة أي قلوبا وجملة تهوي مفعول به ثان لا جعل وإليهم متعلقان بتهوي. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) وارزقهم عطف على اجعل ومن الثمرات متعلقان بارزقهم أي بعض الثمرات فمن للتبعيض ولعل واسمها وجملة يشكرون خبرها. (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ) تكرير النداء لتكرير الابتهال ودليل التضرع واللياذ بالله تعالى. وان واسمها وجملة تعلم خبرها وما مفعول تعلم وجملة نخفي صلة وما نعلن عطف على ما نخفي. (وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى تصديقا لابراهيم أو من كلام ابراهيم. وما نافية ويخفى فعل مضارع وعلى الله جار ومجرور متعلقان بيخفى ومن زائدة وشيء مجرور بمن لفظا فاعل محلا وفي الأرض صفة لشيء ولا في السماء عطف على في الأرض. (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) الحمد مبتدأ ولله خبر والذي نعت لله وجملة وهب صلة ولي متعلقان بوهب وعلى الكبر في محل نصب حال وعلى بمعنى مع كقول الشاعر:
إني على ما ترين من كبري ... أعلم من حيث تؤكل الكتف(5/199)
وإسماعيل مفعول به واسحق عطف عليه. (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) إن واسمها واللام المزحلقة وسميع الدعاء خبرها والجملة تعليل لقوله وهب لي على الكبر. (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) اجعلني فعل دعاء والياء مفعوله الأول ومقيم الصلاة مفعوله الثاني أي مستمرا عليها.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) ومن ذريتي عطف على ياء المتكلم أي واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة وهذا الجار في الحقيقة صفة لذلك المفعول المحذوف أي وبعضا من ذريتي، وربنا منادى وتقبل عطف على ما تقدم ودعائي مفعول به وحذفت الياء مراعاة للفواصل. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) اغفر فعل دعاء ولي متعلقان باغفر ولوالدي وللمؤمنين عطف على لي ويوم ظرف زمان متعلق بمحذوف حال أي حال كون الغفران في ذلك اليوم العصيب وسيأتي مزيد بحث حول قيام الحساب في باب البلاغة.
البلاغة:
هذه الآيات مجموعة رائعة من الابتهالات التي تغرق نفس المؤمن في سبحاتها وتذوب في بحرانها الجميل، وقد انطوت على مجموعة من الفنون البلاغية نوجزها فيما يلي:
1- المجاز العقلي في اسناد الإضلال للاصنام وهي جمادات أو مجاز مرسل والعلاقة هي السببية لأنها سبب الإضلال.
2- الطباق بصورة متعددة كقوله تعالى «ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن» و «وما يخفى عليه من شيء في الأرض ولا في السماء» .(5/200)
3- الاستعارة في قوله «يوم يقوم الحساب» أي يثبت وهو مستعار من قيام القائم على الرجل والدليل عليه قولهم: قامت الحرب على ساقها ونحوه ولك أن تجعله مجازا مرسلا علاقته المحلية مثل واسأل القرية.
الفوائد:
قصة اسكان ابراهيم ذريته:
روى التاريخ أن هاجر كانت جارية لسارة فوهبتها لابراهيم فولدت منه إسماعيل فغارت سارة منهما لأنها لم تكن قد ولدت قط فأنشدته الله أن يخرجها من عندها فأمره الله تعالى بالوحي أن ينقلها الى أرض مكة فأتى من الشام ووضعها في مكة ورجع من يومه فتبعته هاجر فقالت أين تذهب وتتركني بهذا الوادي الذي ليس به إنس ولا شيء فلم يلتفت فقالت: آلله أمرك بذلك؟ قال: نعم، فقالت: إذن لا يضيعني ثم رجعت فانطلق ابراهيم ثم رفع يديه الى السماء وتلا الابتهالات التي عبر الله عنها بآياته الرائعة وترك عندها جرابا من تمر وسقاء من ماء فلما نفد الماء عطشت هي وابنها فجاء جبريل وضرب موضع زمزم بعقبه أو جناحه فخرج الماء فجعلت تشرب منه فمكثوا كذلك حتى مرت بهم قبيلة من جرهم كانوا ذاهبين الى الشام فعطشوا فرأوا الماء عندها فقالوا لها: تأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا نعم وأرسلوا الى أهليهم فنزلوا معهم فلما شب إسماعيل تعلم منهم العربية وكان أنفسهم وأعجبهم فزوجوه امرأة منهم وماتت أمه بعد ما تزوج الى آخر هذه القصة التي تحتاج الى القلم المبدع ليحيك منها المسرحية الخالدة.(5/201)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)(5/202)
اللغة:
(مُهْطِعِينَ) : مسرعين الى الداعي وقيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئي تديم النظر إليه لا تطرف وفي المختار: «اهطع الرجل إذا مدّ عنقه وصوب رأسه، وأهطع في عدوه أسرع» وفي الأساس: «بعير مهطع: في عنقه تصويب وقيل: هو المسرع وقد أهطع في سيره واستهطع وقال:
تعبّدني نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
وقال آخر يصف ثورا:
بمستهطع رسل كأنّ زمامه ... بقيدوم رعن من رضام ممتّع
(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) : الإقناع رفع الرأس وإدامة النظر من غير التفات إلى غيره. وفي القاموس «وأقنعه أرضاه ورأسه نصبه ورفعه أو لا يلتفت يمينا ولا شمالا وجعل طرفه موازيا» وقيل الاقناع من الاضداد يكون رفعا وخفضا، «مقنعي رءوسهم» رافعيها.
(الطرف) : في الأصل مصدر والطرف أيضا: تحريك الجفن قال جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك ... وهنّ أضعف خلق الله إنسانا(5/203)
(مُقَرَّنِينَ) : قرن بعضهم مع بعض أقرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين.
(الْأَصْفادِ) : القيود وقيل الأغلال وانشد لسلامة بن جندل:
وزيد الخيل قد لاقى صفادا ... يعضّ بساعد وبعظم ساق
وهو جمع صفد يقال صفده يصفده صفدا من باب ضرب قيده وصفّده مشددا للتكثير ومن أقوالهم «الصّفد صفد» أي العطاء قيد ومن المجاز صفّدته بكلامي تصفيدا إذا غلبته، وقال عمرو ابن كلثوم:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفّدينا
(قَطِرانٍ) : القطران فيه ثلاث لغات: قطران بفتح القاف وكسر الطاء وقطران بزنة سكران وقطران بكسر القاف وسكون الطاء بزنة سرحان وهو ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدته، والجلد وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فتطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص ليجتمع عليهم لذع القطران وحرقته واسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح وفي المنجد: «القطران والقطران والقطران: سيال دهني يتخذ من بعض الأشجار كالصنوبر والأرز» .
الإعراب:
(وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) الواو استئنافية ولا ناهية وتحسبن فعل مضارع مبني على الفتح لا تصاله بنون التوكيد(5/204)
الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ولفظ الجلالة مفعول به أول وغافلا مفعول به ثان وعما متعلقان بغافلا وجملة يعمل الظالمون صلة. (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) الجملة مستأنفة أيضا مسوقة لتعليل النهي السابق وانما كافة ومكفوفة ويؤخرهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وليوم متعلق بيؤخرهم وجملة تشخص صفة ليوم وفيه متعلقان بتشخص والأبصار فاعل والمعنى لا تستقر في أماكنها من هول ما ترى. (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) مهطعين ومقنعي رءوسهم حالان من المضاف المحذوف إذ التقدير أصحاب الأبصار أو تكون الأبصار دلت على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه وجملة لا يرتد إليهم طرفهم حال ثالثة من الضمير في مقنعي رءوسهم ويجوز أن تكون مستأنفة وأفئدتهم الواو للحال أيضا، وأفئدتهم هواء مبتدأ وخبر والجملة حال رابعة ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة.
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) وأنذر عطف على قوله ولا تحسبن والناس مفعول به أول ويوم مفعول به ثان لا مفعول فيه كما يتوهم للوهلة الاولى على حذف المضاف أي أنذرهم أهواله وعظائمه إذ لا إنذار في ذلك اليوم وإنما الانذار يقع في الدنيا وجملة يأتيهم العذاب مضافة للظرف ويأتيهم فعل ومفعول به والعذاب فاعل مؤخر. (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) الفاء عاطفة ويقول عطف على يأتيهم والذين فاعل وجملة ظلموا صلة وربنا منادى مضاف وأخرنا فعل وفاعل مستتر ومفعول به والى أجل متعلقان بأخرنا وقريب صفة ونجب جزم لأنه جواب الطلب والفاعل مستتر تقديره نحن ودعوتك مفعول به. (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) الهمزة للاستفهام التوبيخي التقريري والواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب(5/205)
وجزم وتكونوا مضارع ناقص مجزوم بلم والواو اسمها والجملة مقول القول محذوف أي فيقال لهم هذا القول توبيخا وتقريعا، وجملة أقسمتم خبر تكونوا وما نافية حجازية أو تميمية ولكم خبر مقدم ومن حرف جر زائد وزوال اسم ما أو مبتدأ مؤخر محلا مجرور بمن لفظا والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وجاءت بلفظ الخطاب مراعاة لقوله أقسمتم. (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) وسكنتم عطف على أقسمتم وهو فعل وفاعل وفي مساكن جار ومجرور متعلقان بسكنتم والذين مضاف لمساكن وجملة ظلموا صلة وأنفسهم مفعول به. (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) وتبين عطف على ما تقدم والفاعل مقدر على منطوق الجملة أي حالهم وذلك بالأخبار والمشاهدة ولكم متعلقان بتبين وكيف مفعول مطلق أي أيّ فعل فعلنا بهم ولك أن تعربها حالا ولا يصح أن تكون فاعلا لتبين لأن اسم الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله وله الصدارة وفعلنا فعل وفاعل وبهم متعلقان بفعلنا، وضربنا: لك أن تعطفه على تبين ولك أن تجعله مستأنفا وضربنا فعل وفاعل والأمثال مفعول به ولكم متعلقان بضربنا. (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ) الواو عاطفة وقد حرف تحقيق ومكروا فعل وفاعل ومكرهم مفعول مطلق والواو حالية وعند الله ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ومكرهم مبتدأ مؤخر والهاء مضاف اليه وهي إما هاء الفاعل فيكون المعنى ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر أعظم ويجوز وإن نافية وكان فعل ماض ناقص ومكرهم اسمها واللام لام الجحود الذي يستحقونه يأتيهم من حيث لا يشعرون والأول أولى لتلاؤمه مع هاء مكرهم الأولى. (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) الواو عاطفة وإن نافية وكان فعل ماض ناقص مكرهم اسمها واللام لام الجحود وتزول فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام الجحود والجار(5/206)
والمجرور خبر كان ومنه متعلقان بتزول والجبال فاعل والمعنى ولن تزول الجبال بمكرهم وسيأتي معنى ضرب المثل بالجبال في باب البلاغة.
(فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) عطف تفريعي على ولا تحسبن ولا ناهية وتحسبن مجزوم محلا بلا الناهية ولفظ الجلالة مفعول به ومخلف مفعول ثان لتحسبن وهو اسم فاعل ووعده مضاف الى مخلف وهو المفعول الثاني لمخلف ورسله هو المفعول الاول لمخلف والأصل مخلف رسله وعده ولكنه قدم الوعد لأهميته وإيذانا منه بأنه لا يخلف الوعد أصلا. (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) ان واسمها وخبرها وذو انتقام خبر ثان لها. (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) يوم الظرف بدل من يوم يأتيهم العذاب أو متعلق بمحذوف أي اذكر يوم وجملة تبدل مضاف إليها الظرف وتبدل فعل مضارع مبني للمجهول والأرض نائب فاعل وغير الأرض مفعول تبدل الثاني والسموات عطف على الأرض أي تتغير معالمهما على حد قوله:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعلم
وفي المطولات أحاديث وأقوال عن تبدل الأرض والسموات لا بأس بالرجوع إليها. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) عطف على تبدل فهو ماض بمعنى المضارع ولله متعلقان ببرزوا والواحد القهار صفتان لله. (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) عطف على تبدل أيضا والمجرمين مفعول به والرؤية هنا بصرية أي تراهم رؤية العين ويومئذ ظرف أضيف اليه ظرف وهو متعلق بتراهم ومقرنين حال من المجرمين وفي الأصفاد جار ومجرور متعلقان بمقرنين أو بمحذوف حال (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) الجملة حال ثانية أو جملة مستأنفة وسرابيلهم مبتدأ ومن قطران خبره(5/207)
(وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) عطف على الجملة الحالية وتغشى فعل مضارع ووجوهم مفعول به مقدم والنار فاعل مؤخر. (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) اللام لام التعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان ببرزوا والله فاعل وكل نفس مفعول به وما كسبت ما مفعول به ثان وجملة كسبت صلة. (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ان واسمها وخبرها والجملة تعليلية لا محل لها. (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) هذا مبتدأ وبلاغ خبر وللناس صفة ولينذروا معطوف على محذوف أي لينصحوا ويحذروا وبه متعلقان بينذروا.
(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) وليعلموا عطف على لينذروا وإنما كافة ومكفوفة وقد سدت مسد مفعولي يعلموا وهو مبتدأ وإله خبر وواحد صفة وليذكر عطف على ما تقدم وأولو الألباب فاعل.
البلاغة:
الاستعارة التمثيلية في قوله «وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال» فقد شبه بقوله لتزول منه الجبال مكرهم لتفاقمه وشدته، وافتتانهم فيه. وبلوغهم الغاية منه وشبه شريعته وآياته وما أنزله على نبيه من تعاليم سامية، وحجج بينة شبهها بالجبال في رسوخها وتمكنها من نفوس المؤمنين بها المتشبثين بأهدابها وهي من أرقى الاستعارات وأجملها وتزداد روعتها بأن صدور المكر المعدّ لإزالة الجبال صادر عن قوم جوف لا جدوى فيه ولا قوة لهم، وهم في تقلبهم وخفتهم أشبه بالهواء إذ قال قبل ذلك «وأفئدتهم هواء» والهواء الخلاء والخواء الذي لم تشغله الاجرام فوصف به القلب فقيل قلب هواء إذا كان(5/208)
قزوقة جبانا لا قوة في قلبه ولا جرأة ويقال للأحمق أيضا قلبه هواء، قال زهير بن أبي سلمى يصف ناقته:
كأن الرجل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء
الصعل: المنجرد شعر الرأس والصغير الرأس والظلمان جمع ظليم وهو ذكر النعام، والجؤجؤ الصدر وجعل صدره فارغا ليكون أسرع في السير الى طعامه، والنعام مثل في الجبن والخوف والحمق.
وقال حسان بن ثابت يهجو أبا سفيان قبل إسلامه:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوف نخب هواء
بأن سيوفنا تركت عبيدا ... وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد فيكم وقاء
والمجوف والنخب والهواء: خالي الجوف أو فارغ القلب من العقل والشجاعة، وقد رمق شوقي في العصر الحديث هذا المعنى فاقتبسه لوصف الغيد العذارى بقوله:
فاتقوا الله في قلوب العذارى ... فالعذارى قلوبهن هواء(5/209)
الفوائد:
معنى تبدل الأرض غير الأرض:
ننقل لك خلاصة كلام الامام الرازي في قوله تعالى «يوم تبدل الأرض غير الأرض» الى آخر الآية لأهميته ثم نعقب على هذا الكلام بكلمات لا تقل عنه أهمية. قال الرازي:
«اعلم أن التبديل يحتمل وجهين أحدهما: أن تكون الأرض باقية وتبدل صفتها بصفة أخرى والثاني أن تفنى الذات وتحدث ذات ثانية والدليل على أن اطلاق التبديل لإرادة التغيير في الصفة جائز انه يقال بدلت الحلقة خاتما إذا أنت سويتها خاتما فنقلتها من شكل الى شكل ومنه قوله تعالى «فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات» ويقال بدلت قميصي جبة أي نقلت العين من صفة الى صفة أخرى ويقال تبدل زيد إذا تغيرت أحواله، أما ذكر التبديل عند وقوع المبدل في الذات فكقولك بدلت الدرهم دنانير ومنه قوله تعالى «بدلناهم جلودا غيرها» وقوله: «وبدلناهم بجنتيهم جنتين» فإذا عرفت أن اللفظ محتمل لكل واحد من هذين المفهومين ففي الآية قولان:
الاول: المراد تبديل الصفة لا تبديل الذات.... وقوله والسموات أي وتبدل السموات بانتثار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وكورها فتارة تكون كالمهل وتارة تكون كالدهان.
القول الثاني: ان المراد تبديل الذات قال ابن مسعود تبدل بأرض كالفضة البيضاء النقية لم يسفك فيها دم ولم تعمل عليها خطيئة» انتهى كلام الرازي.(5/210)
وقد علل الفيلسوف الشيخ علاء الدين بن النفيس في رسالته التي عارض بها رسالة حي بن يقظان لا بن الطفيل خراب هذه الدار وفساد هذا العالم وظهور الآيات فقال ما معناه ملخصا: وإذ قد ثبت أن ميل الشمس الى الشمال والجنوب يتناقص دائما فإذا بطل هذا الميل أو قرب منه صارت الشمس دائمة المسامتة لخط الاستواء أو ما يقرب منه فلذلك تحدث حرارة شديدة جدا ويحدث في البقاع التي لها عرض بعيد برد مفرط فتفسد الأمزجة وتضعف القلوب ويكثر موت الفجأة وتسوء الأخلاق فتفسد المعاملات وتكثر الشرور والمخاصمات وتكثر الحروب والفتن ويتقدم الأشرار وتفسد الأذهان، وبفسادها تبعد الناس عن قبول العلوم والحكمة» الى أن يقول: «وإذا دام فقدان ميل الشمس مدة أفرط الخروج عن الاعتدال حتى أفسد الأمزجة الحيوانية والنباتية وكان من ذلك القيامة» انتهى كلام ابن النفيس.(5/211)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
(15) سورة الحجر مكية وآياتها تسع وتسعون
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)
ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)
الإعراب:
(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) الر تقدم اعرابها وتلك مبتدأ وآيات الكتاب خبر وقرآن عطف على الكتاب ومبين صفة للقرآن وساغ عطف قرآن على الكتاب وإن كان المراد واحدا للتعدد اللفظي(5/212)
والتغاير فيه ولزيادة صفة في المعطوف وهي مبين وجميل قول البيضاوي:
«تنكير القرآن للتفخيم وكذا تعريف الكتاب» . (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) ربما: كافة ومكفوفة، قال أبو حيان: «ولما كانت «رب» عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى ود لما كان المستقبل في اخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي فكأنه قيل ود وليس ذلك بلازم بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة الى دخولها على الماضي ومما وردت فيه للمستقبل قول هند أم معاوية:
يا رب قائلة غدا ... يا لهف أم معاويه
وقول جحدر:
فإن أهلك فرب فتى سيبكي ... عليّ مهذّب رخص البنان
وسيأتي قول مسهب فيها في باب الفوائد، ويود الذين فعل مضارع وفاعل وجملة كفروا صلة ولو مصدرية لوقوعها بعد يود وهي مع مدخولها في تأويل مصدر هو المفعول للودادة والمعنى يودون كونهم مسلمين، ويجوز أن تكون لو امتناعية ويكون جوابها محذوفا تقديره لو كانوا مسلمين لسروا بذلك إذ تخلصوا مما هم فيه ومفعول يود على هذا التقدير أي ربما يود الذين كفروا النجاة. (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وقد تقدم أن هذا الأمر وأمر دع لا يستعمل لهما ماض إلا قليلا بل يستعمل منهما المضارع نحو «ونذرهم في طغيانهم» ويأكلوا جواب مجزوم على انه جواب الأمر ويتمتعوا عطف على يأكلوا وكذلك يلههم الأمل والأمل فاعل، فسوف الفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال(5/213)
ويعلمون فعل وفاعل والمفعول محذوف أي عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم.
(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) الواو استئنافية وما نافية وأهلكنا فعل وفاعل ومن حرف جر زائد وقرية مجرور لفظا ومنصوب محلا على المفعولية وإلا أداة حصر والواو حالية ولها خبر مقدم وكتاب مبتدأ مؤخر ومعلوم صفة للكتاب والجملة حالية وقيل الواو زائدة واختار الزمخشري وجها آخر وهو أن تكون جملة لها كتاب معلوم صفة لقرية قال: «والقياس أن لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: «وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون» وانما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: «جاءني زيد عليه ثوب وعليه ثوب» وسيأتي مزيد بحث عن هذا التركيب في باب الفوائد.
(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) ما نافية وتسبق فعل مضارع ومن حرف جر زائد وأمة فاعل تسبق محلا وهي مجرورة لفظا وأجلها مفعول به وما يستأخرون عطف على ما تسبق وحمل على لفظ أمة أجلها فأفرد وأنّث وعلى معناها قوله وما يستأخرون فجمع وذكر. (وَقالُوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) الواو استئنافية وقالوا فعل وفاعل وجملة يا أيها الذي نزل إلخ مقول القول ويا حرف نداء وأي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه والذي بدل من أي وجملة نزل صلة وعليه متعلقان بنزل والذكر نائب فاعل وإن واسمها واللام المزحلقة ومجنون خبر إن. (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لو ما حرف تحضيض كهلا وتكون حرف امتناع لوجود والفرق بينهما أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهرا أو مضمرا والامتناعية لا يليها إلا الأسماء وقد تقدم بسط ذلك وسيأتي مزيد من بحث لو ما. وتأتينا فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبالملائكة متعلقان بتأتينا وإن شرطية وكنت كان واسمها(5/214)
ومن الصادقين خبرها وجواب إن محذوف تقديره آتيتنا بالملائكة.
(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) كلام مستأنف مسوق للرد على دعواهم وفيه لف ونشر مشوش وسيأتي حكمه في باب البلاغة وما نافية وننزل فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن والملائكة مفعول به. وإلا أداة حصر وبالحق حال أي ملتبسا بالحق فالباء للملابسة ويجوز تعليقه بنزل وجعله الزمخشري نعتا لمصدر محذوف أي الا تنزلا ملتبسا بالحق والجميع جائز والواو عاطفة وما نافية وكانوا كان واسمها وإذن حرف جواب وجزاء مهمل ومنظرين خبر كان. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ان واسمها ونحن تأكيد لاسم ان أو ضمير فصل لا محل له وجملة نزلنا خبر إن وإنا عطف وله متعلقان بحافظون واللام المزحلقة وحافظون خبر انا. (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك صفة للمفعول به المحذوف المفهوم من منطوق الإرسال أي رسلا من قبلك وفي شيع الأولين نعت آخر للمفعول المحذوف والشيع جمعة شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وما نافية ويأتيهم فعل ومفعول به ومن حرف جر زائد ورسول مجرور لفظا مرفوع محلا على الفاعلية وإلا أداة حصر وكانوا كان واسمها وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا وجملة كانوا به يستهزئون حال أو صفة لرسول.
قال الزمخشري: «وما يأتيهم حكاية حال ماضية لأن «ما» لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال» وهذا الذي ذكره الزمخشري هو قول الأكثر من أن «ما» تخلص المضارع للحال وتعينه له وذهب غيره الى أن ما يكثر دخولها على(5/215)
المضارع مرادا به الحال وتدخل عليه مرادا به الاستقبال وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب:
أودى بنيّ وأعقبوني حسرة ... عند الرقاد وعبرة ما تقلع
وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام:
له نافلات ما يغب نوالها ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا
البلاغة:
1- التعبير بالضد: في قوله: «ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين» اختلف علماء البلاغة في المراد بهذا التعبير وقد قرر النحاة أن ربما لا تدخل إلا على الماضي؟ وما المراد بمعنى التقليل الذي تفيده رب؟ وقد أجيب عن الاول بأن المترقب في اخبار الله تعالى بمثابة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل ربما ود، وأجيب عن الثاني بأن هذا مذهب وارد على سنن العرب في قولهم لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما يفعل ولا يشكون في ندامته ولا يقصدون تقليله والعقلاء يتحرزون من التعرض من المظنون كما يتحرزون من المتيقن الثابت وهذا الجواب جميل ولكن الاجمل منه أن يقال: إن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده ومنه قول أبي الطيب المتنبي:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ... للمنتهى ومن السرور بكاء(5/216)
وقد سبقت الاشارة الى هذا الفن الجميل وكلا هذين الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها والعمدة في ذلك على سياق الكلام.
2- اللف والنشر المشوش: وقد تقدم ذكر هذا الفن وذلك في قوله تعالى: ما ننزل ... ردا على مقالتهم الثانية وهي لو ما تأتينا بالملائكة» أما رده على مقالتهم الأولى وهي «انك لمجنون» فهو قوله:
«إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» ثم أردف ذلك بقوله ولقد أرسلنا من قبلك الى آخر الآية أي أن هذا ديدنهم وديدن الجاهلية مع جميع الأنبياء فلا تبتئس واقتد بمن قبلك وتأسّ بهم.
الفوائد:
1- (رب) ويقال ربت وربما وربتما وقد تخفف حرف جر للتقليل أو للتكثير حسبما يستفاد من سياق الكلام ولا يدخل الا على نكرة وهو في حكم الزائد فلا يتعلق بشيء نحو: رب جهل رفع، وإذا لحقته «ما» كفته عن العمل فيجوز دخوله على الافعال والمعارف فتقول ربما أقبل الخليل وربما الخليل مقبل وقد يبقى على عمله كقوله «ربما ضربة بسيف صقيل» وتكف بما فتدخل حينئذ على الاسم والفعل وتصير كحرف الابتداء يقع بعدها الجملة من الفعل والفاعل كقوله:
ربما تجزع النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال والمبتدأ والخبر كقول أبي دؤاد الايادي:
ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهنّ المهار(5/217)
وتخلفها الواو كقول امرئ القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
كما تخلفها الفاء كقول امرئ القيس أيضا:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
هذا ورب في الآية معناها التكثير كما قال الشاعر:
رب رفد هرقته ذلك اليوم ... وأسرى من معشر أقيال
أما علة دخوله على النكرة واختصاصها بها لأن النكرة تدل على الشيوع فيجوز فيها التقليل لقبولها التقليل، والتكثير لقبولها التكثير وأما المعرفة فمعلومة المقدر لا تحتمل تقليلا ولا تكثيرا، ولكنها قد تدخل في السعة على المضمر كما تدخل على المظهر مثل دخول الكاف في الضرورة كقول العجاج:
كل الذنابات شمالا كثبا ... وأم أوعال كها أو أقربا
إلا أن الضمير بعد رب يلزم الإفراد والتذكير والتفسير بتمييز يأتي بعده نحو ربه رجلا عرفته وربه امرأة لقيها وقال ابن النحاس:
«اختلف في الضمير العائد الى النكرة هل هو معرفة أو نكرة فإن قلنا بأن ضمير النكرة نكرة وبه قال السيرافي والزمخشري وجماعة فلا إشكال في دخول رب على الضمير لأنه لما أبهم من جهة تقديمه على المفسر من جهة وقوعه للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد وشاع من جهة(5/218)
تفسيره بالنكرة صار فيه من الإبهام والشيوع ما قارب به النكرة فجاز دخول رب عليه. وقال الشيخ ابن النحاس: لا بد للمخفوض بها أو بما ناب منابها من الصفة أولا فمن الناس من قال منهم بعدم اللزوم ومنهم من قال باللزوم كأبي علي الزمخشري وابن عصفور واحتجوا لذلك بأن الصفة في النكرة للتخصيص فهي تفيد الموصوف تقليلا فيوافق المعنى المقصود في أن رب للتقليل» وقال الشيخ بهاء الدين أيضا «إنما جاز: رب رجل وأخيه، ولم يجز: رب أخيه، لأن الثواني يجوز فيها ما لم يجز في الأوائل من قبل انه إذا كان ثانيا يكون ما قبله قد وفى الموضوع حقه فيما يقتضيه فجاز التوسع في ثاني الأمر بخلاف ما إذا أتينا بالتوسع في أول الأمر فإنا حينئذ لا نعطي الموضع شيئا مما يستحقه، هذا إذا لم نقل إن المضاف الى ضمير النكرة نكرة فإن قلنا انه نكرة كان الجواز أسوغ» قال: «ولا يكون العامل فيها إلا بمعنى المضي كقولك رب رجل جواد لقيته أو أنا لاق أو هو ملقي ولا تقول:
رب رجل جواد سألقى أو لألقين لأن التقليل في الماضي شائع ولا كذلك في المستقبل لأنه لم يعلم فيتحقق تقليله» قال: وتلزم أبدا الصدر لشبهها بحرف النفي من جهة مقاربة التقليل للنفي لأن النفي اعدام الشيء وتقليله تقريب من إعدامه ولأن العرب استعملوا القليل في موضع النفي قال الشاعر:
قلما يبرح المطيع هواه ... كلفا ذا صبابة وجنون
معناه ما يبرح المطيع هواه كلفا.
وهناك أبحاث تتعلق برب لا يتسع لها صدر هذه الفوائد.
2- واو الحال أيضا: مما توهم فيه النحاة اشتراطهم في واو الحال عدم اقترانها بإلا الإيجابية ومن العجيب أن يتورط في هذا الوهم(5/219)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
ابن هشام في شرحه لألفية ابن مالك ويشايعه في وهمه الشيخ خالد الأزهري فإن ذلك ثابت في فصيح الكلام وهو هذه الآية «وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم» وقول الشاعر كما قال شارح اللب:
نعم امرأ هرم لم تعر نائبه ... إلا وكان لمرتاع بها وزرا
وكأن الزمخشري شايع القائلين بعدم الجواز فجعل الجملة صفة والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.
3- لو ما: لو ما ولولا لهما وجهان أحدهما أن يدلا على امتناع جوابهما لوجود تاليهما فيختصان بالجمل الاسمية والى ذلك أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة:
لولا ولو ما يلزمان الابتداء ... إذا امتناعا بوجود عقدا
نحو قوله تعالى: «لولا أنتم لكنا مؤمنين» وقول الشاعر:
لو ما الاصاخة للوشاة لكان لي ... من بعد سخطك في رضاك رجاء
والوجه الثاني أن يدلا على التحضيض فيختصان بالجمل الفعلية نحو «لو ما تأتينا بالملائكة» .
[سورة الحجر (15) : الآيات 12 الى 20]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16)
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20)(5/220)
اللغة:
(نَسْلُكُهُ) : ندخله يقال سلكت الخيط في الإبرة وأسلكته إذا أدخلته فيها وفي المختار: «السلك بالكسر الخيط وبالفتح مصدر سلك الشيء في الشيء فانسلك أي أدخله فيه فدخل وبابه نصر قال الله تعالى:
«كذلك نسلكه في قلوب المجرمين» واسلك لغة فيه» وفي القاموس وغيره: سلك يسلك بضم اللام في المضارع سلكا وسلوكا المكان دخل فيه والطريق سار فيه متبعا إياه وأسلك الشيء في الشيء أدخله فيه كما يسلك الخيط في الإبرة وسلكه المكان وأسلكه المكان وفيه وعليه أدخله فيه.
(سُكِّرَتْ) : حيرت أو حبست من الأبصار أو سدت يقال سكرت النهر سكرا من باب قتل سددته والسكر بالكسر ما يسد به وفي القاموس وشرحه وغيرهما: سكر يسكر الإناء سكرا من باب قتل:
ملأه والنهر جعل له سدا والباب سده وسكرت الريح سكورا(5/221)
وسكرانا سكنت والحر فتر وسكر، وسكّر بصره تحير وحبس عن النظر وسكر يسكر من باب علم الحوض امتلأ وسكر الرجل عليه اغتاظ وغضب وسكر سكرا، وسكرا وسكرا وسكرا وسكرانا من الشراب نقيض صحا فهو سكر وسكران وهي سكرة وسكرى وسكرانة والجمع سكرى وسكارى وسكارى. وللسين مع الكاف إذا وقعتا فاء وعينا للفعل معنى التأثير في الشيء واحداث الأثر فيه يقال سكب الماء سفحه وصبه وماء ودم أسكوب قالت جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
الطاعن الطعنة النجلاء يتبعها ... مثعنجر من دم الأجواف أسكوب
وهذا أمر سكب وسنّة سكب: حتم قال لقيط بن زرارة لأخيه معبد وقد طلب اليه حين أسر أن يفديه بمئتين من الإبل: ما أنا بمنط (أي بمعط) عنك شيئا يكون على أهل بيتك سنة سكبا، ويدرب له الناس بنا دربا وسكت الرجل أصابته علة منعته من الكلام ورجل سكوت وساكوت وسكّيت وبه سكات إذا كان طويل السكوت من علة وللحبلى صرخة ثم سكتة، ومن المجاز ضربته حتى أسكتّ حركته، والسّكتة: داء معروف تتعطل به الأعضاء عن الحسّ والحركة إلا التنفس والسّكتة: ما تبقى في الوعاء وما تسكت به الصبيّ أو غيره والسّكات داء يمنع من الحيات والسكات من الحياة ما يلدغ قبل أن يشعر به. وسكع يسكع من بابي فهم وفتح سكعا وسكعا مشى على غير هدى لتأثره وفلان يتسكع لا يدري أين يتوجّه من أرض الله وتسكّع في الظلمة خبط فيها قال:
أيادي بيضا بيّضت وجه مطلبي ... وقد كنت في ظلمائه أتسكع(5/222)
وسئل بعض العرب عن قوله تعالى: «في طغيانهم يعمهون» فقال:
في عمههم يتسكعون، وهو إسكاف بكسر الهمزة من الأساكفة وهو الخراز وقيل: كل صانع، وما وطئت أسكفّة بابه، وما تسكّفت بابه وو الله لا أتسكّف له بيتا، ومن المجاز وقفت الدمعة على أسكفّة عينه أي على جفنها الأسفل، وسكّ الباب سده بالحديد وسكّ البئر حفرها وسك أذنيه اصطلمهما وسك النّعام ما في بطنه: رمى به رقيقا يقال: ما سك سمعي مثل ذلك الكلام أي ما دخل وضرب هذا الدرهم في سكة فلان وشقّ الأرض بالسّكة وله سكة من نخل وهو يسكن سكّة بني فلان وهي الزقاق الواسع، ومن المجاز استكت مسامعه:
صمت، قال النابغة:
أتاني أبيت اللعين أنك لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
وسكن المتحرك وأسكنته وسكّنته وتناسبت حركاته وسكناته وسكنوا الدار وسكنوا فيها وأسكنتهم الدار وأسكنتهم فيها، ومن المجاز سكنت نفسي بعد الاضطراب وعلمته علما سكنت إليه النفس ومالي سكن أي من أسكن اليه من امرأة أو حميم، قال أبو الطيب:
بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن
وعليه سكينة ووقار ودعة ولهم ضرب يزيل الهام عن سكناته.
قال النابغة:
بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كايزاغ المخاض الضوارب(5/223)
وهذا- كما يبدو- أشبه بأن يكون مقصودا ولكن لغتنا ولدت مع الإلهام متمشية مع خواطر النفوس وهواجسها.
(بُرُوجاً) : جمع برج وبروج السماء اثنا عشر- كما كانوا يقولون- وهي الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، قالوا: وهي منازل الكواكب السبعة السيارة: المريخ وله الحمل والعقرب، والزهرة ولها الثور والميزان، وعطارد (ويمنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع) وله الجوزاء والسنبلة، والقمر وله السرطان، والشمس ولها الأسد، والمشتري وله القوس والحوت، وزحل (بمنع الصرف للعلمية والعدل كعمر) وله الجدي والدلو، ولم نورد هذه الأسماء على سبيل التحقيق العلمي فقد بدل العلم الكثير من هذه المعلومات الابتدائية واكتشف ما لم يكن يدور بالخلد والحسبان ولكننا أوردناها للفوائد اللغوية فقط.
(اسْتَرَقَ) : خطفه وسرقه وسارقه النظر مثله واسترق الكاتب بعض المحاسبات إذا لم يبرزه.
(شِهابٌ) : الشهاب كل مضيء متولد من النار وما يرى كأنه كوكب انقضّ والكوكب عموما والسنان لما فيه من البريق والجمع شهب، قال أبو تمام وجانس:
والعلم في شهب الأرماح ساطعة ... بين الخمسين لا في السبعة الشهب
(مَعايِشَ) : جمع معيشة وهي ما يعيش به الإنسان مدة حياته من المطاعم والمشارب والملابس وهي بياء صريحة بخلاف الشمائل(5/224)
والخبائث وذلك لأن الياء في معايش أصلية في المفرد والمدّ في المفرد لا يقلب همزا في الجمع إلا إذا كان زائدا في المفرد كما قال ابن مالك في الخلاصة:
والمد زيد ثالثا في الواحد ... همزا يرى في مثل كالقلائد
الإعراب:
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك الإدخال ندخله في قلوب المجرمين ونسلكه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وفي قلوب المجرمين متعلقان بنسلكه.
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) الجملة في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مفسرة لقوله نسلكه فلا محل لها ويؤمنون فعل مضارع وفاعل وبه جار ومجرور متعلقان بيؤمنون وقد: الواو حالية وقد حرف تحقيق وخلت سنة الأولين فعل وفاعل والجملة حالية ويجوز أن تكون الواو استئنافية والجملة مستأنفة أي مضت سنة الله في إهلاكهم وتعذيبهم. (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) الواو عاطفة ولو امتناعية شرطية وفتحنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بفتحنا وبابا مفعول به ومن السماء صفة لبابا والفاء عاطفة وظل واسمها وسيأتي في باب البلاغة ذكر الضمير في يعرجون وفيه متعلقان بيعرجون وجملة يعرجون خبر ظل. (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) اللام واقعة في جواب لو وقالوا فعل وفاعل وانما كافة ومكفوفة وسكرت أبصارنا فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب لو وجملة إنما سكرت أبصارنا مقول القول(5/225)
وجملة نحن قوم مسحورون تابعة لجملة سكرت أبصارنا، وبل حرف إضراب ونحن مبتدأ وقوم خبر ومسحورون صفة. (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) الواو عاطفة واللام جواب القسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجعلنا فعل وفاعل وإذا كان بمعنى خلقنا كان قوله في السماء متعلقا به وإذا كان بمعنى صيرنا فيكون مفعوله الأول بروجا والجار والمجرور في محل نصب هو المفعول الثاني وزيناها فعل وفاعل ومفعول به وللناظرين متعلقان بزيناها. (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) الواو عاطفة وحفظناها فعل وفاعل ومفعول به ومن كل شيطان رجيم جار ومجرور متعلقان بحفظناها ورجيم صفة لشيطان.
(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) إلا أداة استثناء ومن اسم موصول في موضع نصب على الاستثناء المتصل إن فسر الحفظ بمعنى المنع أي منع الشياطين من التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة، أو الاستثناء المنقطع إن فسر بالمنع من دخولها والتصرف فيها.
والفاء عاطفة وأتبعه فعل ماض ومفعول به وشهاب فاعل ومبين صفة.
(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) والأرض نصب على الاشتغال أي مفعول به لفعل محذوف يفسره ما بعده ومددناها فعل وفاعل ومفعول به وألقينا فعل وفاعل وفيها متعلقان بألقينا ورواسي مفعول به أي جبالا ثابتة لئلا تميد بأهلها. (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) وأنبتنا عطف على ما قبله وفيها متعلقان بأنبتنا ومن كل شيء صفة للمفعول به المحذوف أي نباتا من كل شيء، وموزون صفة أي معلوم مقداره. (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) وجعلنا عطف على ما تقدم ولكم متعلقان بجعلنا أو في موضوع المفعول الثاني وفيها حال ومعايش مفعول جعلنا ومن الموصول عطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم(5/226)
له برازقين أو وجعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين وأراد بهم العيال والخدم والحشم والدواب وقدره الزجاج منصوبا بفعل محذوف مقدر تقديره وأغنينا من لستم له برازقين ويجوز قطع الواو فتكون ابتدائية ومن مبتدأ خبره محذوف تقديره ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش.
البلاغة:
في قوله تعالى «كذلك نسلكه في قلوب المجرمين، لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون» تشبيه تمثيلي للعناد المستحوذ عليهم واللدد الراسخ في صدورهم وتفصيل ذلك أن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويداءاتها كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدّق به هؤلاء كل على علم وبينة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الاعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى من الآن، وهم في مهلة وإمكان: انهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين ليكون أدحض لأية حجة يختلقونها وأنقى لكل ادعاء يخرصون به ولذلك عقبه الله تعالى بقوله «ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا» إلخ أي إن هؤلاء فهموا القرآن حق الفهم واكتنهوا أسراره، وسبروا أغوار معجزاته وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك الى قرارات نفوسهم ووقر في أسماعهم ولكنهم قوم ديدنهم العناد وشيمتهم اللجاج والمكابرة حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها الى الايمان بضرورة العيان والمشاهدة وذلك(5/227)
بأن يفتح لهم بابا في السماء يعرج ويعرج بهم حتى يدخلوا منه نهارا وقد أشار الى ذلك بقوله ظلوا لأن الظلول إنما يكون نهارا لقالوا بعد ذلك الإيضاح العظيم المكشوف انما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد وما هذه إلا خيالات مموهة لا حقائق تحتها فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب من عدم سماع ووعي ووصول الى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن شأنهم الاستمرار في اللدد والعناد والمكابرة واللجاج فاذا انتقلنا الى التفصيل قلنا في هذا التشبيه التمثيلي:
1- التتميم وقد مر سابقا وذلك بعرض مختلف مجالي المشاهدة والاعتبار.
2- الاحتراس بكلمة ظلوا خشية أن يكون عروجهم في الظلام فيتعلوا به على عدم الاهتداء.
3- سكر الابصار على طريق الاستعارة المكنية التبعية.
4- وفي كلمتي الحصر والاضراب دلالة على البت بأن ما يرونه لا حقيقة له بل هو باطل خيل إليهم بنوع من السحر حسب ادعائهم وإيضاح ذلك انهم قالوا: «انما» وهي تفيد الحصر في المذكور آخرا فيكون الحصر في الأبصار لا في التسكير فكأنهم قالوا سكرت أبصارنا لا عقولنا ونحن وإن كنا نتخيل بأبصارنا هذه الأشياء لكنا نعلم بعقولنا أن الحال بخلافه أي لا حقيقة له ثم قالوا «بل» كأنهم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا بل جاوز ذلك الى عقولنا بسحر صنعه لنا.
وهذه الآيات من الروائع التي يقف البيان أمامها مذعنا.(5/228)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
[سورة الحجر (15) : الآيات 21 الى 25]
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
اللغة:
(لَواقِحَ) : حوامل لأنها تحمل السحاب وتثيره وفيها قولان أحدهما أنها جمع لاقح إذا جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير ريح عقيم والثاني أنها بمعنى الملاحق وهي الإناث التي في بطونها أولادها، قال:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط ممّا تطيح الطوائح
يريد المطاوح جمع مطيحة وفعله لقح يقال لقحت تلقح من باب تعب لقحا ولقحا ولقاحا الناقة ونحوها قبلت اللقاح أو حملت فهي لاقح ولقوح ولقحت الحرب هاجت بعد سكون ولقحت المرأة حملت.
وفيما يلي أقوال كبار اللغويين:
قال أبو عبيدة: اللواقح: جمع ملقح لأنه من ألقح يلقح فهو ملحق فجمعه ملاقح فحذفت الميم تخفيفا يقال ألقحت الريح السحاب كما يقال ألقح الفحل الأنثى.(5/229)
وقال الأزهري: اللواقح: جمع لاقح يقال لقحت الريح إذا حملت الماء فهي حوامل لأنها تحمل السحاب كقولك ألقحت الناقة فلقحت إذا حملت الجنين في بطنها فشبهت الريح بها.
وقال الفراء: اللواقح: جمع لاقح على النسب كلا بن وتامر أي ذات لقاح.
وفي المختار: «ألقح الفحل الناقة ولريح السحاب، ورياح لواقح ولا تقل ملاقح» .
الإعراب:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) إن نافية ومن شيء من زائدة في المبتدأ وإلا أداة حصر وعندنا الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وخزائنه مبتدأ مؤخر والجملة خبر شيء. (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) الواو عاطفة وما نافية وننزله فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وبقدر حال من المفعول أي ملتبسا بقدر ولك أن تعلقه بننزله ومعلوم صفة لقدر. (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) وأرسلنا الرياح فعل وفاعل ومفعول به ولواقح حال مقدرة من الرياح. (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) فأنزلنا الفاء عاطفة وأنزلنا عطف على أرسلنا ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزلنا وماء مفعول به فأسقيناكموه الفاء عاطفة وأسقى فعل ماض ونا فاعل والكاف مفعول به أول والميم علامة جمع الذكور والواو لا شباع ضمة الميم والهاء مفعول به ثان وما الواو للحال وما نافية حجازية وأنتم اسمها وله متعلقان بخازنين والباء حرف جر زائد وخازنين خبر ما محلا مجرور(5/230)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
بالباء لفظا. (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة ونحن مبتدأ وجملة نحيي خبره ويجوز أن تكون نحن تأكيدا لنا ولا يجوز أن تكون فصلا لأنها لم تقع بين اسمين ونحن مبتدأ والوارثون خبر. (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعلمنا فعل وفاعل والمستقدمين مفعول به ومنكم حال ولقد علمنا المستأخرين عطف. (وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) وان ربك ان واسمها وهو مبتدأ وجملة يحشرهم خبر والجملة الاسمية خبر ان وان واسمها وحكيم خبر أول وعليم خبر ثان.
البلاغة:
1- الاستعارة التمثيلية في قوله «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه» فقد شبه ما ينتفع به العباد جميعا لا المطر وحده كما قال بعضهم بالخزائن التي تودع فيها المكنونات والمخبآت لا خراج كل شيء بحسب ما اقتضته الحكمة الإلهية ومصالح العباد الحيوية.
2- الاستعارة المكنية في تشبيه الرياح باللواقح وهي النوق لتوليد المطر مما أفاض الحديث في بسطه ولا يتنافى مع هذه الاستعارة.
[سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)(5/231)
اللغة:
(الصلصال) : الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ وإذا طبخ فهو فخار، قالوا: إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن، وقيل: الصلصال: طين يابس إذا نقر سمع له صوت أي صلصلة وهو(5/232)
بمعنى المصلصل كالزلزال بمعنى المزلزل ويكون فعلال أيضا مصدرا نحو الزلزال وفي وزن هذا النوع أي ما كررت فاؤه وعينه خلاف، فقيل وزنه فعفع كررت الفاء والعين ولا لام للكلمة وهو قول الفراء وهو غلط لأن أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام وقد عدل عنه الفراء فقال إن وزنه فعفل وقيل إن أصله فعّل بتشديد العين وأصله صلّل فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس فاء الكلمة، وخص بعضهم هذا الخلاف بما إذا لم يختلّ المعنى بسقوط الثالث نحو لملم وكبكب فانك تقول فيهما لمّ وكبّ فلو لم يصح المعنى بسقوطه نحو سمسم فلا خلاف في أصالة الجميع. وقيل: ان وزنه فعلل بتكرير اللام فقلبت الأولى منهما من جنس فاء الكلمة، وفي القاموس: الصلصال الطين اليابس الذي يصل من نفسه أي يصوت ويقال صلصل صلصلة الحلي أو اللجام صوت، والرعد صفا صوته والجرس رجع صوته وصلصل فلانا تهدده. هذا وقد جاءت الزيادة رابعة بعد اللام الأولى في أسماء صالحة العدة تقارب عشرة أبنية من ذلك:
فعليل وذلك في الاسم والصفة فالاسم قنديل وبرطيل والصفة شنظير وهمهيم فالقنديل معروف والبرطيل حجر طويل قدر الذراع والشنظير السيّء الخلق والهمهيم الذي يردّد ويهمهم ويقال حمار همهيم أي في صوته ترديد من الهمهمة.
ومن ذلك فعلول في الاسم والصفة فالاسم عصفور وزنبور والصفة سرحوب وقرضوب فالعصفور والزنبور معروفان والسرحوب الطويل والقرضوب الفقير وهو من أسماء السيف وربما قيل للص قرضوب.
ومن ذلك فعليل بضم الفاء وسكون العين وفتح اللام الأولى قالوا في الصفة: غرنيق وهو الرفيع السيد والغرنيق من طيور الماء طويل(5/233)
العنق قال الجوهري إذا وصف به الرجال قيل: غرنيق بكسر الغين وغرنيق بالضم والجمع غرانق بالفتح وغرانيق.
ومن ذلك فعلول جاء في الاسم والصفة والاسم فردوس وحرذون والصفة علطوس فالفردوس هو البستان والحرذون دويبة كالقطاة والعلطوس الناقة الفارهة.
ومن ذلك فعلول في الاسم والصفة فالاسم فربوس وزرجون والصفة قرقوس وحلكوك فالقربوس للسرج معروف والزرجون الخمر سميت بذلك للونها وأصلها بالفارسية زركون (الزر الذهب والكون اللون) وقال أبو عمرو الجرمي: هو صبغ أحمر.
ومن ذلك فعلول بفتح الفاء والعين وسكون اللام وفتح اللام قالوا كنهور وبلهور، والكنهور: السحاب العظيم والبلهور من ملوك الهند يقال لكل ملك عظيم منهم بلهور ولا نعلمه اسما.
ومن ذلك فعلال ولا يكون إلا في الكلام المضاعف من ذوات الأربعة يكون اسما وصفة فالاسم الزلزال والحثحاث والصفة الصلصال والقسقاس فالزلزال مصدر كالزلزلة والحثحاث بمعنى الحثحثة والصلصال الطين الحر خلط بالرمل فصار يتصلصل إذا جف فإن طبخ فهو الفخار والقسقاس الدليل الهادي وقد جاء حرف واحد على فعلال غير مضاعف قالوا ناقة بها خزعال وهو سوء مشي من داء.
ومن ذلك فعلال بكسر الفاء يكون اسما وصفة فالاسم نحو سربال وحملاق والصفة سرداح وهلباج، والسربال القميص والحملاق ما تغطيه الأجفان من العين والسرداح الأرض الواسعة والهلباج الكثير العيوب.(5/234)
ومن ذلك فعلّل بفتح الفاء والعين وتضعيف اللام الأولى يكون اسما وصفة فالاسم شفلح وهمرّجة والصفة العدبس والعملّس فالشفلح ثمر معين وقد يكون صفة بمعنى الغليظ الشفة والهمرّجة الاختلاط يقال همرجت عليه الخبر أي خلطته والعدبس الضخم والعملس الخفيف وقيل للذئب عملّس، قال الشنفري:
ولي دونكم أهلون سيد عملّس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيأل
ومن ذلك فعلّل بضم الفاء والعين وهو قليل قالوا الصفرق والزمرذ وهما اسمان فالصفرّق نبت والزمرذ من الجوهر معروف.
(حَمَإٍ) : الحمأ: الطين الأسود المتغيّر الرائحة من طول مكثه ويقال الحمأة.
(مَسْنُونٍ) : منتن من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فإن ما يسيل بينهما يكون منتنا ويسمى سنينا وقيل المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في أمثلتها وقد امتاز فعل سنّ بكثرة معانيه حتى ليكاد المرء يذهل يقال سن يسن السكين من باب نصر أحدّه وشحذه ويقال هذا مما يسنك على الطعام أي يشحذك على أكله ويشهيه إليك وسن الرمع ركب فيه السنان وسن الأسنان سوكها وسن العقدة حلها وسن الإبل ساقها سوقا سريعا وسن الرجل طعنه بالسنان وعضه بأسنانه وكسر أسنانه ومدحه وأطراه وسن الأمر بينه وسهله وأجراه وسن الطريقة سارفيها وسن عليهم السنة وضعها وسن الطين عمله فخارا وسن الشيء صوّره وسن الماء أو التراب(5/235)
صبه برفق وسنت العين الدمع صبته وسن الأمير رعيته أحسن سياستها يقال سن فلان طريقا من الخير أي ابتدأ أمرا من البر لم يعرفه قومه وهذا من أعاجيب لغتنا الشريفة.
(الْجَانَّ) : للجن كآدم للناس.
(السَّمُومِ) : نار الحر الشديد النافذ من المسام وقيل هي نار لا دخان لها تنفذ في المسام وقيل السموم: ما يقتل من افراط الحر من شمس أو ريح أو نار لأنها تدخل في المسام وهي الثقوب فتقتل وتجمع على سمائم.
(رَجِيمٌ) مطرود وفي المصباح: الرجم بفتحتين الحجارة والرجم القبر سمي بذلك لما يجتمع عليه من الحجارة ورجمته رجما من باب قتل ضربته بالرجم، وفي القاموس: «الرجم: اللعن والشتم والطرد والهجران» والمرجوم المطرود الملعون ولعنه الله طرده وأبعده قال الشماخ:
وماء قد وردت لوصل أروى ... عليه الطير كالورق اللّجين
ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين
الإعراب:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وخلقنا الإنسان فعل وفاعل ومفعول به ومن صلصال جار ومجرور متعلقان بخلقنا ومن حمأ يجوز أن يكون صفة لصلصال وأن يكون(5/236)
بدلا من قوله من صلصال باعادة الجار ومسنون صفة لحمأ.
(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) والجان نصب على الاشتغال وخلقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بمحذوف حال ومن نار السموم متعلقان بخلقناه. (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة قال ربك مضافة للظرف وللملائكة متعلقان بقال وإن واسمها وخالق خبرها وبشرا مفعول به لخالق ومن صلصال من حمأ مسنون تقدم اعرابها. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة سويته مضافة للظرف ونفخت عطف على سويته وفيه متعلقان بنفخت ومن روحي صفة لمفعول محذوف أي روحا من روحي والمراد الأحياء وليس ثمة نفخ ولا منفوخ فقعوا الفاء رابطة لجواب إذا وقعوا فعل أمر والواو فاعل وله متعلقان بساجدين وساجدين حال (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فخلقه وسواه ونفخ فيه من روحه فسجد الملائكة وكلهم وأجمعون تأكيدان لزيادة تمكين المعنى وترسيخه في الذهن، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال كلهم زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ثم عند هذا بقي احتمال وهو أنهم هل سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد في وقت فلما قال أجمعون ظهر أنهم جميعا سجدوا دفعة واحدة. (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) تقدم القول في هذا الاستثناء أنه متصل إما لأنه كان جنيا مغمورا بألوف الملائكة فعدّ منهم تغليبا واما لأنه منهم حقيقة ويجوز أن يكون منقطعا فيتصل به ما بعده أي لكن إبليس أبى أن يكون معهم، وأبى فعل ماض وأن يكون مصدر مؤول منصوب على المفعولية لأبى واسم يكون(5/237)
مستتر تقديره هو أي إبليس ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر يكون والساجدين مضاف اليه. (قالَ: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) يا حرف نداء وإبليس منادى مفرد علم وما اسم استفهام للتوبيخ مبتدأ ولك خبر وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي مالك غير كائن مع الساجدين، وأن لا تكون مع الساجدين تقدم اعرابها. (قالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) لم حرف نفي وقلب وجزم وأكن مضارع مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره أنا واللام لام الجحود وهي لتأكيد النفي وأسجد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبا بعدها والجار والمجرور خبر أكن ولبشر متعلقان بأسجد وجملة خلقته صفة لبشر ومن صلصال من حمأ مسنون تقدم إعرابها. (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) الفاء الفصيحة لأنها جواب شرط مقدر أي إن تماديت وعصيت فاخرج ومنها متعلقان باخرج والفاء تعليلية وان واسمها وخبرها والجملة لا محل لها. (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) الواو عاطفة وان حرف مشبه بالفعل للتوكيد وعليك خبر ان المقدم واللعنة اسمها المؤخر والى يوم الدين حال أي مستقرة الى تلك الغاية. (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) رب منادى محذوف منه حرف النداء وهو مضاف الى ياء المتكلم والفاء الفصيحة لأنها وقعت في جواب شرط مقدر أي إن قضيت علي بهذا الجزاء فأنظرني أي أمهلني، والى يوم متعلقان بأنظرني ويبعثون مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وجملة يبعثون مضاف إليها وانما طلب الانظار الى اليوم الذي فيه يبعثون ليجد مندوحة وفسحة في الإغواء ونجاة عند الموت إذ لا موت بعد وقت البعث فأجابه الى الاول دون الثاني أي انظر الى آخر أيام التكليف كما(5/238)
سيأتي. (قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) الفاء عاطفة وإن واسمها ومن المنظرين خبرها. (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) الى يوم جار ومجرور متعلقان بالمنظرين والوقت مضاف اليه والمعلوم صفة. (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) رب منادى كما تقدم وبما الباء للقسم وما مصدرية أي أقسم باغوائك إياي وجملة لأزينن جواب القسم وقد تقدم نظيره في الأعراف وقيل الباء للسببية وكلاهما جائز، لأزينن اللام جواب القسم أو هي موطئة للقسم إن كانت الباء سببية وأزينن فعل مضارع مبني على الفتح ولهم متعلقان
بأزينن وفي الأرض حال ولأغوينهم عطف على لأزينن وأجمعين تأكيد للضمير. (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) إلا أداة استثناء وعبادك مستثنى والمخلصين صفة ومنهم حال. (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) هذا مبتدأ وصراط خبر وعلي متعلقان بمحذوف صفة أي حق ومستقيم صفة ثانية أي هذا طريق حق علي أن أراعيه ولا أتجاوزه وهو: (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) فالجملة تفسيرية للصراط المستقيم الذي أوجبت على نفسي التزامه وان واسمها وجملة ليس خبر ولك خبر ليس المقدم وعليهم حال لأنه كان صفة لسلطان وسلطان اسم ليس المؤخر.
قال ابن هشام: «قول كثير من النحويين في قوله تعالى: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك» إنه دليل على جواز استثناء الأكثر من الأقل والصواب ان المراد بالعباد المخلصون لا عموم المملوكين وان الاستثناء منقطع بدليل سقوطه في الآية 65 سورة الاسراء «ان عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا» وتعقبه الدماميني بقوله: «اختياره لكون الاستثناء منقطعا مقدوح(5/239)
فيه بأنه ارتكاب لخلاف الأصل من غير ضرورة لإمكان حمل الاستثناء على الاتصال وهو الأصل ويكون المراد بالعباد عموم المملوكين ولا يضر في ذلك أن آية الاسراء بدون استثناء لأنه أريد بالعباد فيها المخلصون فترك الاستثناء وقد يجاب بأنه القرآن يفسر بعضه بعضا فإذا تكرر لفظ فيه وكان له موضع محمل واحد وفي آخر ذلك المحمل وغيره حمل في الآخر على ذلك المحمل دون غيره والاستثناء المنقطع وإن كان خلاف الأصل إلا أنه فصيح شائع.
(إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) قيل هو استثناء من غير الجنس لأن المراد بعبادي الموحدون ومتبع الشيطان غير موحد وقيل هو من الجنس لأن عبادي جميع المكلفين ومن الغاوين حال. (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وموعدهم خبر إن وأجمعين تأكيد للضمير. (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) لها خبر مقدم وسبعة أبواب مبتدأ مؤخر ولكل باب خبر مقدم ومنهم حال لأنه كان صفة لجزء وجزء مبتدأ مؤخر ومقسوم نعت لجزء أيضا والمراد بالجزء الطائفة.
البلاغة:
1- الإيجاز في قوله «قال هذا صراط علي مستقيم» ولعله من أبلغ الايجازات لأنه قسيم الإيجاز بالحذف فهو إيجاز بالتقدير وهو قسمان: أحدهما ما ساوى لفظه معناه، وثانيهما ما زاد معناه على لفظه ويسمى بالقصر إذ يدل لفظه على محتملات عديدة ومشتملات كثيرة ولا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدتها لا بل يستحيل ذلك(5/240)
فقوله «هذا» اشارة تدل على القرب فكأنه يشير إلى ما هو على مرأى من عيونهم، ومسمع من آذانهم، وبين متناول أيديهم، وصراط تدل على الطريق المسلوكة التي تفضي بسالكها إلى حيث يختار لنفسه من مذاهب ولكن الطريق قد تكون معوجة ملتوية كثيرة المنعطفات فيتيه السالك في متاهاتها وتلتبس عليه أوجه الاستهداء في سلوكها فجاء بكلمة «مستقيم» والمستقيم هو أقصر بعد بين نقطتين وأقل انحراف يخرجه عن سنن الاستقامة وحدودها وكلمة «علي» تعني الإلزام والإيجاب تقول علي عهد الله لأفعلن كذلك فتشعر أنك قد ألزمت نفسك بما هو حق مفروض الأداء ثم ان الاشارة تضمنت كل ما يحتويه الاستثناء فيما بعد وهو قوله «الا عبادك منهم المخلصين» فكأنه أخذ على نفسه وأوجب على ذاته حقا لا انفكاك له عنه وهو تخليص المخلصين من إغوائه، وقد تضمن تعريف المخلصين أيضا ما يؤكد هذا المعنى ويجعله مستقرا في الذهن لأن التعريف فيه مع تحقيق الصفة للموصوف وهي الإخلاص تفخيم لشأنهم وبيان لمنزلتهم ولانقطاع مخالب الإغواء عنهم، وفل معاول النقد ان تتوجه إليهم، فهذه الآية كلمات قليلة وقد احتوت على هذه الأغراض ولا بد لنا من أن نعرض نماذج من غير القرآن لا لأنها ترقى الى مستواه ولكن لأنها تدور في فلكه وتحوم حوله وتستقي من مناهله استمع الى هذه القصة العجيبة:
لما أرسل المهلب بن أبي صفرة أبا الحسن المدائني الى الحجاج ابن يوسف يخبره أخبار الأزارقة كلمه كلاما موجزا كالذي نحن بصدده هنا وذلك ان الحجاج سأله فقال كيف تركت المهلب؟ فقال أدرك ما أمّل وأمن مما خاف فقال: كيف هو لجنده؟ قال: والد رءوف، قال: كيف جنده له؟ قال: أولاد بررة، قال: كيف رضاهم عنه؟(5/241)
قال: وسعهم بفضله، وأغناهم بعدله، قال: كيف تصنعون إذا لقيتم العدو؟ قال: نلقاهم بجدنا ويلقوننا بجدهم، قال: كذلك الجد إذا لقي الجد، قال فأخبرني عن بني المهلب قال: هم أحلاس القتال بالليل، حماة السرج بالنهار قال: أيهم أفضل؟ قال: هم كحلقة مضروبة لا أيعرف طرفاها فقال الحجاج لجلسائه: هذا هو والله الكلام الفضل الذي ليس بمصنوع. وتأمل وصف الحجاج للكلام فقد وصف الكلام الموجز البليغ بما يدانيه في الإيجاز والبلاغة ولا غرو فالحجاج كان آية في إتقان اللغة ومعرفة خصائصها، روى الزجاج في أماليه قال: «أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم السجستاني عن الأصمعي قال: أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل:
الشعبي وعبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف وابن القريّة، والحجاج أفصحهم، قال يوما لطباخه: اطبخ لنا مخلّلة وأكثر عليها الفيجن (أي السذاب وهو نبات ورقه كالصعتر) واعمل لنا مزعزعا فلم يفهم عنه الطباخ فسأل بعض ندمائه فقال له: اطبخ له سكباجا وأكثر عليها من السذاب واعمل له فالوذا سلسا. وسترى نماذج من الإيجاز في أماكن كثيرة يتم بها شرط الكتاب.
2- الاستثناء في قوله تعالى: «فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس» فإن هذا الاستثناء لو لم يتقدم لفظه هذا الاحتراس من قوله كلهم أجمعون لا حتمل- كما أشرنا في الاعراب- أن يكون في الملائكة من لم يسجد فيتأسى به إبليس ولا يكون منفردا بهذه الكبيرة لاحتمال أن تكون آلة التعريف للعهد لا للجنس فلما كان هذا الاشكال يتوجه على الكلام إذا اقتصر فيه على ما دون التوكيد وجب الإتيان بالتوكيد ليعلم أن آلة التعريف للجنس فيرتفع هذا الإشكال بهذا(5/242)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
الاحتراس فحينئذ تعظم كبيرة إبليس لكونه فارق جميع الملأ الأعلى، وخرق إجماع الملائكة فيستحق أن يفرد بهذا اللعن إلى آخر الأبد، هذا والاستثناء الذي يطلقه البلاغيون هو غير الاستثناء المعروف عند النحاة فهو قسمان إذن لغوي وصناعي أما اللغوي فقد فرغ النحاة من تقريره وأما الصناعي فهو الذي نحن بصدده وهو المتعلق بعلم البيان وسترد له نماذج رائعة في هذا الكتاب العجيب.
[سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
اللغة:
(غِلٍّ) : الغل بكسر الغين الحقد الكامن في القلب من انغل في جوفه وتغلغل ويطلق على الشحناء والعداوة والبغضاء والحقد والحسد وتقول: جعل الله في كبده غلة وفي صدره غلّا وفي ماله غلو لا وفي رقبته غلا فالغل بالضم القيد وهي مادة تدل على التغلغل مطابقة للفظها يقال وبي وجد تغلغل في الحشا وأبلغ فلانا مغلغلة وهي الرسالة الواردة من بلد بعيد وغلغلت اليه رسالة قال الأخطل:
لأغلغلن إلى كريم مدحة ... ولأثنينّ بنائل وفعال(5/243)
الإعراب:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إن واسمها وفي جنات خبرها وعيون عطف على جنات. (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) الجملة مقول قول محذوف أي يقال لهم وادخلوها فعل أمر وفاعل ومفعول به وبسلام في محل نصب على الحال من الواو في ادخلوها أي سالمين من كل أذى أو مسلّما عليكم وآمنين حال ثانية من الواو في ادخلوها. (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ونزعنا فعل وفاعل وما مفعول به وفي صدورهم صلة ومن غل حال بيان للذي استقر في صدورهم وإخوانا حال ثانية من هم وعلى سرر جار ومجرور متعلقان بمتقابلين ومتقابلين حال ثالثة من ضمير صدورهم وجاز ذلك لأن المضاف جزء من المضاف اليه والعامل فيها معنى الإلصاق وقيل متقابلين صفة لإخوانا وليس ببعيد والأول أولى أي لا ينظر بعضهم قفا بعض لدوران الأسرة بهم وهي صفة الجالسين على موائد الشراب والولائم لأن ذلك أبلغ في المؤانسة والإكرام. (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة أو حالا من الضمير في متقابلين ولا نافية ويمسهم فعل مضارع ومفعول به مقدم ونصب فاعل مؤخر وما هم الواو عاطفة وما نافية حجازية وهم اسمها ومنها متعلقان بمخرجين والباء حرف جر زائد ومخرجين مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما. (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) نبىء فعل أمر والفاعل مستتر وعبادي مفعول به وأن وما في حيزها سدت مسد مفاعيل نبىء وأن واسمها وأنا ضمير فصل أو مبتدأ والغفور خبر أن أو خبر أنا والجملة خبر أن والرحيم خبر ثان. (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) عطف على سابقتها والاعراب واحد ولكن الأليم صفة للعذاب.(5/244)
الفوائد:
قوله «نبىء عبادي اني أنا الغفور الرحيم» هذا مما ورد منظوما في القرآن ولكنه ليس شعرا لأنه ليس مقصودا وقد تقدم القول في بعض الآيات التي وردت موزونة وهذه الآية تؤلف بيتا كاملا من البحر المجتث ولكننا لم نذكر هناك معاني أسماء الأبحر وفيما يلي بيان بالأسماء ومعانيها:
ذكر الزجاج أن ابن دريد أخبره عن أبي حاتم عن الأخفش قال:
سألت الخليل: لم سميت الطويل طويلا؟ قال لأنه طال بتمام أجزائه قلت: فالبسيط؟ قال: لأنه انبسط عن مدى الطويل وجاء وسطه فعلن وآخره فعلن، قلت: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه حول حماسيه قلت: فالوافر؟ قال: لوفور أجزائه وتدا بوتد قلت: فالكامل؟
قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من الشعر قلت: فالهزج؟
قال: لأنه يضطرب شبه بهزج الصوت قلت: فالرجز؟ قال: لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة عند القيام قلت: فالرمل؟ قال: لأنه برمل الحصير لضم بعضه الى بعض قلت: فالسريع؟ قال: لأنه يسرع على اللسان، قلت: فالمنسرح؟ قال: لانسراحه وسهولته، قلت: فالخفيف؟
قال: لأنه أخف السباعيات قلت: فالمقتضب؟ قال: لأنه اقتضب من السريع، قلت: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب، قلت:
فالمجتثّ؟ قال: لأنه اجتث أي قطع من طويل دائرته، قلت:
فالمتقارب؟ قال: لتقارب أجزائه لأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضا.(5/245)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
[سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 64]
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64)
الإعراب:
(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) عطف على نبىء عبادي ليعتبروا بما حل بقوم لوط من عذاب ونبئهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وعن ضيف ابراهيم متعلقان بنبئهم وأصل الضيف مصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع على أنه قد يجمع فيقال أضياف وضيوف وضيفان.
(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) الظرف متعلق(5/246)
بمحذوف تقديره اذكر وجملة دخلوا مضاف إليها وعليه متعلقان بدخلوا فقالوا عطف على دخلوا وسلاما مفعول مطلق لفعل محذوف أي نسلم سلاما أو مفعول به على المعنى أي اذكروا سلاما وقال فعل ماض وجملة إنا إلخ مقول القول وإن واسمها ومنكم متعلقان بوجلون ووجلون خبر إنا أي خائفون إما لامتناعهم من الأكل واما لأنهم دخلوا بغير إذن.
(قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) لا ناهية وتوجل مضارع مجزوم بلا الناهية وان واسمها وجملة نبشرك خبرها وبغلام متعلقان بنبشرك وعليم صفة والجملة تعليلية لعدم الوجل. (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) الهمزة للاستفهام التعجبي وبشرتموني فعل وفاعل ومفعول به وعلى حرف جر وان وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور في موضع نصب على الحال أي حالة كونه قد مسني والكبر فاعل مسني، فبم الباء حرف جر وما اسم استفهام حذفت ألفها لدخول حرف الجر والجار والمجرور متعلقان بتبشرون.
(قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) جملة بشرناك مقول القول وهو فعل ماض وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان ببشرناك والفاء حرف عطف ولا ناهية وتكن مضارع مجزوم بلا الناهية واسم تكن مستتر تقديره أنت ومن القانطين خبرها. (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) الواو عاطفة ومن اسم استفهام معناه النفي في محل رفع مبتدأ وجملة يقنط خبره ومن رحمة ربه متعلقان بيقنط وإلا أداة حصر والضالون بدل من الضمير المستتر في يقنط بدل بعض من كل ولم يؤت معه بضمير لقوة تعلق المستثنى بالمستثنى منه. (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) الفاء عاطفة لتتساوق المحاورة وما اسم استفهام مبتدأ وخطبكم خبر أي ما شأنكم وأيها منادى نكرة مقصودة وحرف النداء محذوف والهاء للتنبيه والمرسلون بدل أو نعت لأيها. (قالُوا(5/247)
إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ)
إن واسمها وجملة أرسلنا خبرها ونا نائب فاعل أرسل والى قوم متعلقان بأرسلنا ومجرمين صفة. (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) فيه وجهان أحدهما أنه مستثنى متصل على أنه مستثنى من الضمير المستكن في مجرمين والمعنى أنهم أجرموا كلهم إلا آل لوط فانهم لم يجرموا وجملة إنا لمنجوهم على هذا استئنافية مسوقة للإخبار بنجاتهم لأنهم لم يجرموا وثانيهما انه مستثنى منقطع لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين البتة وعلى كل حال محله النصب ويبدو أن جعله منقطعا أولى وأمكن وذلك ان في استثنائهم من الضمير العائد على قوم مجرمين بعدا من حيث ان موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول وهذا الدخول متعذر من التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ أعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء ومن ثم لم يحسن: رأيت قوما إلا زيدا، وحسن: ما رأيت أحدا إلا زيدا. وإن واسمها واللام المزحلقة ومنجوهم خبر إنا وأجمعين تأكيد للضمير، وعلى هذا تكون جملة إنا لمنجوهم متصلة بآل لوط كأنها خبر لكن المقدرة أي لكن آل لوط منجون. (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) اختلف المعربون في هذا الاستثناء وسننقل ما قاله الزمخشري وأبو البقاء، قال الزمخشري:
«فإن قلت فقوله إلا امرأته ممّ استثني وهل هو استثناء من استثناء؟
قلت استثنى من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيء لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه وان يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته كما اتحد الحكم في قول المطلّق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة وفي قول المقرّ: لفلان عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما فأما في الآية فقد(5/248)
اختلف الحكمان لأن إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم فأنى يكون استثناء من استثناء؟» .
وقال أبو البقاء: قوله تعالى: إلا امرأته فيه وجهان أحدهما هو مستثنى من آل لوط والاستثناء إذا جاء بعد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافا الى المبتدأ كقولك له عندي عشرة إلا أربعة لا درهما فإن الدرهم يستثنى من الأربعة فهو مضاف الى العشرة فكأنك قلت أحد عشر إلا أربعة أو عشرة إلا ثلاثة والوجه الثاني أن يكون مستثنى من ضمير المفعول في منجوهم وسيأتي في باب الفوائد مزيد.
وقدرنا فعل وفاعل وقد ضمن معنى العلم فلذلك علق باللام فكسرت إن وإنما أسند الملائكة التقدير لأنفسهم لما لهم من المكانة والقربى من الله كما تقول خاصة الملك نحن أمرنا ونحن رسمنا وان كانوا قد أمروا به ورسموه بأمر الملك، وان واسمها واللام المزحلقة ومن الغابرين خبر ان. (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) الفاء عاطفة على محذوف أي فخرجوا من عنده وسافروا مع قريته الى قرية قوم لوط ولما حينية أو رابطة وجاء فعل ماض وآل لوط مفعول به مقدم والمرسلون فاعل مؤخر. (قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) الجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وان واسمها وخبرها ومنكرون صفة لقوم. (قالُوا: بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) بل حرف إضراب وعطف وجئناك فعل وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بجئناك وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيمترون وجملة يمترون خبر كانوا.
(وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) الواو عاطفة وأتيناك فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بمحذوف حال أي ملتبسين أو ملتبسا أنت لا بصارك له ويجوز تعليقه بآتيناك وان واسمها واللام المزحلقة وصادقون خبر إن.(5/249)
الفوائد:
وقفنا على مناظرة جرت بين الكسائي وأبي يوسف بصدد قوله تعالى «إلا امرأته» وحكم «إلا» إذا تكررت فقد سأل الكسائي أبا يوسف عمن قال: له عليّ مائة درهم إلا عشرة إلا اثنين فقال:
يلزمه ثمانية وثمانون فقال الكسائي بل يلزمه اثنان وتسعون واستدل بالآية فلم يخالفه وهذا يؤيد رأي أبي البقاء ويخطىء قول الزمخشري وقال ابن هشام: ونظيره قوله تعالى «إنا أرسلنا الى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته» فالمرأة مستثناة من الأول والآل مستثنون من القوم المجرمين وهو منقطع والثاني متصل كذا ظهر لي وبعد فلا يمتنع عندي في مثل عشرة إلا أربعة الا اثنين أن يستثنى الاثنان من الأصل لأن الحمل على الأقرب أرجح لا متعين وكفى بباب التنازع شاهدا وإن كلّا من الفريقين يجيز أعمال كل من العاملين إلا ما استثني لعارض والعارض يوجد هنا أيضا نحو عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة فإن قلت: ما المانع من أن يكون في الآية الاستثناء الثاني من القوم المجرمين ويرجحه الاتصال على هذا أيضا لأنها من الآل ومن المجرمين قلت: متى قيل هذا فقد أبعد القائل وأحال أما الأول فواضح وأما الثاني فلأن معنى أرسلنا بالعذاب فلا يصح إخراجها من المعذبين فان قلت: فما المانع من أن يستثنى من هم في إنا لمنجوهم وحينئذ تكون معذبة ويكون حملا على أقرب ما ذكرت وتخرج الآية عن الاستثناء من الاستثناء قلت هو قول الزمخشري وليس عندي كغالب أقواله الاعرابية لأن «إنا لمنجوهم أجمعين» إنما ذكرت توكيدا لا تأسيسا لاستفادة معناها من الإخراج من حكم المعذبين.(5/250)
وبعد نقل ما تقدم عثرت على اعتراض جميل وهو أنه تقدم أن المراد بالاجرام ذلك الفعل الشنيع فكيف يقولون إن المرأة من الآل ومن المجرمين وذلك الفعل لا يتصور منها وعلى هذا يطيح الرأيان جميعا ويمكن أن يجاب بأن الدلالة على الشيء كفعله أو السكوت على الاجرام والرضا به إجرام وانما أطلنا الكلام لأن هذه الآية مما كثر فيه الكلام وقل من أصاب الغرض من الأئمة الاعلام وسئل عنها الجلال السيوطي في الفتاوى فما أتى بالمرام والله أعلم.
وقد اضطرب أبو حيان في كلامه على الرأيين والموازنة بينهما فقال:
«ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء ومن قال انه استثناء من استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين أحدهما انه لما كان الضمير في لمنجوهم عائدا على آل لوط وقد استثنى منه المرأة صار كأنّه مستثنى من آل لوط لأن المضمر هو الظاهر في المعنى والوجه الآخر أن قوله إلا آل لوط لمّا حكم عليهم بغير الحكم على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله إنا لمنجوهم أجمعين تأكيدا لمعنى الاستثناء إذ المعنى إلا آل لوط فلم يرسل إليهم بالعذاب فصار نظير قولك قام القوم إلا زيدا فانه لم يقم أو إلا زيدا لم يقم فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى مما جيء به للتأكيد» .(5/251)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
[سورة الحجر (15) : الآيات 65 الى 77]
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69)
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
اللغة:
(فَأَسْرِ) : بقطع الهمزة من أسرى وقرىء بوصلها من سرى يقال سرى بالليل وأسرى وسريت به وأسريت به وطال بهم السّرى وطالت يكون مصدرا كالهدى وجمع سرية يقال: سرينا سرية من الليل وسرية كالغرفة والغرفة وأنشد أبو زيد:(5/252)
وأرفع صدر العنس وهي شملّة ... إذا ما السرى مالت بلوث العمائم
(يَعْمَهُونَ) يتحيرون وقد تقدم ذكره.
(سِجِّيلٍ) طين طبخ بالنار.
(لِلْمُتَوَسِّمِينَ) للمتفرسين والمعتبرين المتأملين والتوسم تفعل من الوسم والتوسم أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البقر أو غيره، وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك الى قدمك.
(القطع) تقدم تفسيره ولا يكون إلا في آخر الليل، قال:
افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم
الإعراب:
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) الفاء الفصيحة وأسر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبأهلك حال وبقطع متعلقان بأسر ومن الليل صفة لقطع. (وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) واتبع عطف على فأسر وأدبارهم مفعول به والواو حرف عطف ولا ناهية ويلتفت مجزوم بلا ومنكم حال لأنه كان في الأصل صفة وأحد فاعل وامضوا عطف أيضا وحيث ظرف مبهم في محل نصب مفعول لأمضوا ولإبهامه تعدى إليه الفعل من غير واسطة وجملة تؤمرون(5/253)
مضاف إليها الظرف. (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) وقضينا فعل وفاعل واليه جار ومجرور متعلقان بقفينا لأنها تضمنت معنى أوحينا وذلك مفعول ففينا والأمر بدل من اسم الاشارة وأن وما في حيزها مصدر مؤول بدل من ذلك الأمر أو خبر لمبتدأ محذوف وفي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه وان واسمها ومقطوع خبرها ومصبحين حال من الضمير المستقر في مقطوع وجمعه على المعنى فيكون معنى مقطوع مقطوعين. (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) الواو عاطفة وجاء أهل المدينة فعل وفاعل وجملة يستبشرون حال. (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) إن واسمها وخبرها والفاء الفصيحة ولا ناهية وتفضحوني مجزوم بلا والواو فاعل والنون نون الوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعول به. (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ) عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيرها. (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) الهمزة للاستفهام والواو عاطفة على محذوف ولم حرف نفي وقلب وجزم وننهك فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به وعن العالمين متعلقان بننهك وأصح الأقوال في نهيه عن العالمين هو نهيه عن أن يجير أحدا منهم ويمنع بينهم وبين قومه. (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر ولا بد من تقدير محذوف أي فانكحوهن ويجوز أن يكون هؤلاء مفعولا به بفعل مقدر أي انكحوا هؤلاء وبناتي بدل وإن شرطية وكنتم كان واسمها وهي في محل جزم فعل الشرط وفاعلين خبر كنتم وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله المحذوفة أي فانكحوهن. (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) اللام للابتداء وعمرك مبتدأ محذوف الخبر وجوبا تقديره قسمي وجملة إنهم جواب القسم لا محل لها وان واسمها واللام المزحلقة وفي سكرتهم متعلقان بيعمهون وجملة يعمهون خبر إنهم وجملة لعمرك إنهم لفي(5/254)
سكرتهم يعمهون اعتراضية. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) الفاء عاطفة وأخذتهم الصيحة فعل ومفعول به وفاعل ومشرقين حال أي داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس. (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) الفاء عاطفة والعطف مرتب على أخذ الصيحة وجعلنا فعل وفاعل وعاليها مفعول جعلنا الأول وسافلها مفعول جعلنا الثاني وأمطرنا عطف على جعلنا وحجارة مفعول به وعليهم متعلقان بأمطرنا ومن سجيل صفة لحجارة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها وللمتوسمين صفة لآيات أو تتعلق بنفس الآيات لأنها بمعنى العلامات. (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) ان واسمها والضمير يعود للمدينة وهي سدوم والمراد آثارها واللام المزحلقة وبسبيل خبرها ومقيم صفة أي ثابت مسلوك يعرفه الناس وفيه تنبيه لقريش انكم لتمرون عليها كل يوم. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) تقدم اعراب نظيرتها.
البلاغة:
شملت الآية الكريمة وهي «فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون» شملت على وجازتها آداب المسافرين لأمر مهم ديني أو دنيوي من الآمر والمأمور والتابع والمتبوع وسنلخص ما ورد فيها من آداب:
1- أمره بأن يقدمهم أمامه لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم.
2- جعل السرى في آخر الليل لأنه أخفى للويل ولأن الإنسان يكون نشيطا فيه.(5/255)
3- نهاهم عن الالتفات الذي يعوق الساري المسرع المغذ في سراه في تلك الحالة المهولة المحذورة ولئلا يروا ما حلّ بقومهم من العذاب فترق قلوبهم لهم.
4- ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض فيصيبه العذاب ولأن المتلفت يقف دائما ويتذكر مرابعه ومراتعه فيتحسر ويأسى وقد يدوم النشيج كما حدث للصمة بن عبد الله.
تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا واخدعا
وكما حدث للشريف الرضي:
ولقد وقفت على ديارهم ... وطلولها بيد البلى نهب
وبكيت حتى ضج من لغب ... نضوي ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
الفوائد:
وفي أمثال العرب: «أجور من قاضي سدوم» قالوا بفتح السين مدينة من مدائن قوم لوط، قال الأزهري قال أبو حاتم في كتابه الذي صنفه في المفسد والمذال: إنما هو سذوم بالذال المعجمة والدال خطأ قال الأزهري: وهذا عندي هو الصحيح قال الطبري: «هو ملك من بقايا اليونانية غشوم كان بمدينة سرمين من أرض قنسرين» وهذا هو الذي اعتمده صاحب القاموس فحمله على تغليط الجوهري وقال الثعالبي: إن سدوم من الملوك المتقدمين المتصفين بالجور «كالة» قاض(5/256)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
أشد جورا منه قال الزبيدي: «وقد علم مما تقدم أن المثل مضبوط بالوجهين وان المشهور فيه إهمال الدال» ونقل عن الشهاب انه يمكن أن يكون بالمعجمة في الأصل قبل التعريب، فلما عرب أهملوا داله.
[سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 85]
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
اللغة:
(الْأَيْكَةِ) : هي غيضة شجر بقرب المدينة وأصحابها هم قوم شعيب وفي المختار: الأيك الشجر الملتف والكثير والواحدة أيكة مثل تمر وتمرة.
(الْحِجْرِ) : واد بين المدينة والشام وهم قوم ثمود.
الإعراب:
(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) الواو استئنافية أو عاطفة وإن(5/257)
مخففة من الثقيلة مهملة أو عاملة واسمها ضمير الشأن المحذوف أي وإن الشأن كان أصحاب الأيكة وكان واسمها والأيكة مضاف اليه واللام الفارقة وظالمين خبر كان. (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) فانتقمنا الفاء عاطفة على محذوف أي أمعنوا في الإثم فانتقمنا، وانتقمنا فعل وفاعل ومنهم متعلقان بانتقمنا وإنهما الواو حالية أو عاطفة وإنهما ان واسمها والميم والألف حرفان دالان على التثنية واختلف في عودتهما فقيل يعني قرى قوم لوط والأيكة وقيل يعودان على الأيكة ومدين لأن شعيبا كان مبعوثا إليهما فلما ذكر الأيكة دل بذكرها على مدين فجاء بضميرهما وقيل يعود على لوط وشعيب وقيل يعود على الخبرين خبر إهلاك قوم لوط وخبر إهلاك قوم شعيب واللام المزحلقة وبإمام خبر إنهما وسمي الطريق إماما لأن السالك فيه يأتم به حتى يصل الى الموضع الذي يريده ومبين صفته. (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) عطف على ما تقدم لتتساوق القصص واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وكذب أصحاب الحجر فعل وفاعل والمرسلين مفعول به وهذا شروع في قصة صالح. (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) وآتيناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وآياتنا مفعول به ثان فكانوا عطف على آتيناهم وكان واسمها وعنها متعلقان بمعرضين ومعرضين خبر كانوا (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) وكانوا عطف وكان واسمها وجملة ينحتون خبرها ومن الجبال حال لأنه كان في الأصل صفة أو بينحتون وبيوتا مفعول به وآمنين حال من الضمير في ينحتون أي حال كونهم آمنين عليها من أن تتهدم لاستيثاق بنائها واستحكامها أو من الاستهداف للغارات والاعتداءات لأنها معاقل حصينة لهم. (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) الفاء عاطفة وأخذتهم فعل ومفعول به مقدم والصيحة فاعل مؤخر ومصبحين حال أي داخلين في وقت الصباح. (فَما أَغْنى(5/258)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)
الفاء عاطفة وما نافية وأغنى فعل ماض وعنهم متعلقان بأغنى وما فاعل وجملة كانوا صلة وجملة يكسبون خبر كانوا ويجوز أن تكون ما استفهامية مفعولا مقدما لأغنى ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد. (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) الواو عاطفة وما نافية وخلقنا السموات فعل وفاعل ومفعول به والأرض عطف على السموات وإلا أداة حصر وبالحق حال والباء للملابسة أي ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة. (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)
الواو عاطفة وإن واسمها واللام المزحلقة وآتية خبرها والفاء الفصيحة واصفح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والصفح مفعول مطلق والجميل صفة.
البلاغة:
1- في قوله تعالى: «وان كان أصحاب الأيكة لظالمين» مجاز مرسل علاقته الحالية لأن الأيكة هي شجر ملتف مزدحم.
2- في قوله «لبإمام مبين» استعارة تصريحية لأن الطريق سبيل للوصول والمسافر فيه يتبعه حتى النهاية فاستعمل المشبه به بدلا عن المشبه.
[سورة الحجر (15) : الآيات 86 الى 99]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)(5/259)
اللغة:
(الْمَثانِي) : المراد بالمثاني هنا مختلف فيه فقيل الفاتحة لأنها تثنى في كل ركعة وهي سبع آيات وقيل هي السور السبع الطوال وهي جمع مثناة مؤنث مثنى وقد تقدم بحثه مفصلا في النساء وسميت السور السبع الطوال مثاني لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد والكلام في ذلك مبسوط في المطولات.
(عِضِينَ) : جمع عضة وأصلها عضوة من عضي الشاة إذا جعلها أعضاء وقيل عضهة من عضهته إذا بهته وفي المختار: «قال الكسائي:
العضة الكذب والبهتان وجمعها عضون مثل عزة وعزون قال الله تعالى:(5/260)
«الذين جعلوا القرآن عضين» قيل نقصانه الواو وهو من عضوته أي فرقته لأن المشركين فرقوا أقاويلهم فيه فجعلوه كذبا وسحرا وكهانة وشعرا وقيل نقصانه الهاء وأصله عضهة لأن العضة والعضين في لغة قريش السحر يقولون للساحر عاضه» وسيأتي مزيد بحث عن الملحقات بجمع المذكر السالم في باب الفوائد.
(فَاصْدَعْ) : فاجهر به وأظهره يقال صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا كقولك صرح بها من الصديع وهو الفجر والصدع في الزجاجة الإبانة وقال الضحاك: وأصل الصدع الشق والفرق أي افرق بين الحق والباطل وسيأتي مزيد بحث عن هذا التعبير العجيب في باب البلاغة.
الإعراب:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ان واسمها وخبرها، وهو ضمير فصل (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) كلام مستأنف مسوق لتنبيه المسلمين الى أن ما أنزل عليهم خبر من متاع الدنيا قيل:
وافت من بصرى وأذرعان سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقال لهم الله عز وعلا لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتيناك فعل ماض وفاعل ومفعول به أول وسبعا مفعول به ثان ومن المثاني صفة لسبعا والقرآن عطف على سبعا من قبيل عطف الصفات مع وحدة ذات الموصوف والعظيم صفة للقرآن. (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) لا ناهية وتمدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد(5/261)
الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وعينيك مفعول به والى ما متعلقان بتمدن وجملة متعنا صلة وبه متعلقان بمتعنا وأزواجا مفعول متعنا ومنهم صفة لأزواجا والمراد بالأزواج الأصناف منهم أي أن ما أوتيته من نعماء سابغة يضؤل أمامه كل ما في الدنيا من بهارج الحياة وتزاويقها. (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) ولا تحزن عطف على لا تمدن وعليهم متعلقان بتحزن واخفض عطف أيضا وجناحك مفعول به وللمؤمنين متعلقان بأخفض. (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) إن واسمها وأنا مبتدأ أو ضمير فصل والنذير خبر أنا أو خبر إن والمبين صفة. (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) كما فيها وجهان أحدهما أن يتعلقا بقوله ولقد آتيناك أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون والثاني أن يتعلقا بالنذير أي ينزل عليك مثل الذي نزل بأهل الكتاب وعلى كل حال صفة لمفعول مطلق محذوف وعلى المقتسمين جار ومجرور متعلقان بأنزلنا وسيأتي بيانهم. (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) الذين صفة للمقتسمين وجملة جعلوا صلة والقرآن مفعول جعلوا وعضين مفعول به ثان أي قسموا القرآن أقساما فجعلوه سحرا وشعرا وأساطير وقد اختلف بهؤلاء المقتسمين وقصصهم اختلافا يخرج بنا عن النهج المقرر للكتاب فارجع اليه في المطولات.
(فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) الفاء عاطفة والواو للقسم وربك مجرور بواو القسم وهما متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم، واللام واقعة في جواب القسم ولنسئلنهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجمعين تأكيد (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا فاصدع، واصدع فعل أمر وفاعله أنت وبما متعلقان به وما مصدرية أو موصولة وعن المشركين متعلقان بأعرض. وقد رجح ابن هشام في المغني أن تكون مصدرية وعلل ذلك ابن الشجري قال: فيه أي في الموصولية خمسة حذوف والأصل بما تؤمر بالصدع به فحذفت(5/262)
الباء فصار بالصدعة فحذفت أل لامتناع اجتماعها مع الاضافة فصار يصدعه ثم حذف المضاف كما في: واسأل القرية فصار به ثم حذف الجار كما قال عمرو بن معد يكرب:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب
فصار تؤمره ثم حذفت الهاء كما حذفت في: أهذا الذي بعث الله رسولا وانما ارتكب خمسة حذوف لأجل أن يكون جاريا على القياس في حذف العائد المجرور لأنه لا يحذف العائد المجرور إلا إذا كان مجرورا بمثل الحرف الذي جر الموصول وأن يكون كل من الحرفين متعلقا بعامل مماثل لما تعلق به الآخر فقول ابن الشجري: والأصل بما تؤمر بالصدع به العائد متعلق بمثل ما تعلق به الجار للموصول ولو قال: اصدع بما تؤمر به لم توجد تلك الشروط لاختلاف المتعلق لأن الباء الأولى متعلقة بالصدع والثانية متعلقة بتؤمر. (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) ان واسمها وجملة كفيناك خبرها وهو فعل وفاعل ومفعول به والمستهزئين مفعول به ثان. (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الذين صفة للمستهزئين وجملة يجعلون صلة والواو فاعل ومع الله ظرف مكان متعلق بمحذوف مفعول به ثان ليجعلون وإلها مفعول به وآخر صفة والفاء استئنافية وسوف حرف استقبال ويعلمون فعل مضارع وفاعل والمفعول محذوف أي عاقبة أمرهم. (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تقليل والمراد به هنا التكثير والتحقيق ونعلم فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن وأنك أن وما في حيزها سدت مسد مفعولي نعلم وان واسمها وجملة يضيق صدرك خبرها وصدرك فاعل يضيق وبما متعلقان بيضيق وجملة يقولون صلة والعائد محذوف أي يقولون من أقاويل ويرجفون به من أراجيف. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ(5/263)
السَّاجِدِينَ)
الفاء الفصيحة وسبح بحمد ربك تقدم إعرابه قريبا وكن مع الساجدين كان واسمها ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبرها والساجدين مضاف اليه. (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) حتى حرف غاية وجر ويأتيك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى والكاف مفعول به واليقين فاعل وسمي الموت يقينا لأنه متيقن الوقوع.
البلاغة:
1- في قوله «فاصدع بما تؤمر» استعارة مكنية فالمستعار منه الزجاجة والمستعار الصدع وهو الشق والمستعار له هو عقوق المكلفين وهو من استعارة المحسوس للمعقول وقد تقدمت الاشارة الى أقسام الاستعارة والمعنى صرح بجميع ما أوحي إليك وبين كل ما أمرت ببيانه وإن شق ذلك على بعض القلوب فانصدعت والمشابهة بينهما فيما يؤثره التصديع في القلوب فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من التقبض والانبساط ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر ذلك على ظاهر الزجاجة المصدوعة فانظر الى هذه الاستعارة ما أروعها وما أبعد دلائلها ومراميها وما أوجزها لأنها وقعت في ثلاث كلمات انطوت على ما يستوعب الصفحات، قال عبد الله بن عبيدة ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه.
ويروى أن بعض الأعراب لما سمع هذه اللفظات الثلاث سجد فقيل له: لم سجدت؟ فقال: سجدت لفصاحة هذا الكلام لأنه أدرك منه بديها من غير تأمل كل ما أدركناه بعد الروية والنظر ومن هذا يتبين لك أن العرب تيقنت من أول ما سمعت القرآن أنه غير مقدور للبشر فلم تشتغل بالمعارضة ولا حدثت نفوسها بها.(5/264)
2- في قوله «واخفض جناحك للمؤمنين» استعارة مكنية وسيأتي القول فيها مسهبا عند قوله «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» .
الفوائد:
الملحق بجمع المذكر السالم:
حملوا على جمع المذكر السالم أربعة أنواع أعربت بالحروف وليست جمعا مذكرا سالما وهي كما يلي:
الأول: أسماء جموع: وهي: أولو بمعنى أصحاب، وعالمون اسم جمع عالم بفتح اللام وليس جمعا له لأن العالم عام في العقلاء وغيرهم والعالمون مختص بالعقلاء والخاص لا يكون جمعا لما هو أعم منه، وعشرون وبابه وهو سائر العقود الى التسعين وقد وردت العقود كلها في القرآن وقد أحصيناها على الشكل التالي:
آ- «ان يكن منكم عشرون صابرون» .
ب- «وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة» .
ج- «فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما» .
د- «فإطعام ستين مسكينا» .
هـ- «ذرعها سبعون ذراعا» .
و «فاجلدوهم ثمانين جلدة» .(5/265)
ز- «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة» .
الثاني: جموع تكسير تغير فيها بناء الواحد وأعربت بالحروف وهي: (بَنُونَ) جمع ابن وقياس جمعه جمع السلامة ابنون كما يقال في تثنيته ابنان ولكن خالف تصحيحه تثنيته لعلة تصريفية أدت الى حذف الهمزة وذلك أن ابن أصله بنو حذفت لامه للتخفيف وعوض عنها همزة الوصل والجمع يرد الأشياء إلى أصولها فلما جمع رجعت الواو فذهبت الهمزة ثم حذفت الواو والمحذوف لعلة كالثابت فلم تأت الهمزة وأما التثنية فلو رجعت الواو لم يكن هناك ما يقتضي حذفها لأنها متحركة بالفتح والفتح خفيف وقد حذفت أولا لغرض التخفيف فلو حذفت لزال ذلك الغرض والمانع من حذفها لو رجعت ومن قلبها ألفا سكون ما بعدها كما في بيان ولو حذفت لصار اللفظ بنان فيحصل اللبس ببنان الكف بخلاف بنون فليتأمل وأرضون بفتح الراء جمع أرض بسكونها وجمع هذا الجمع لأنه ربما يورد في مقام الاستعظام كقوله:
لقد ضجت الأرضون إذ قام من بني ... سدوس خطيب فوق أعواد منبر
إلا أنه سكن الراء للضرورة، وسنون بكسر السين جمع سنة بفتحها اسم للعام ولامها واو أو هاء لقولهم سنوات وسنهات وبابه وهو شائع في كل اسم ثلاثي حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولم يكسر نحو عضة وعضين وأصل عضة عضه بالهاء من العضه وهو البهتان والكذب وفي الحديث: لا يعضه بعضكم بعضا وقيل أصله عضو من قولهم عضيته تعضية إذا فرقته فعلى الاول لامها هاء ويدل له تصغيرها على عضيهة وعلى الثاني واو ويدل له جمعها على عضوات فكل من التصغير(5/266)
والجمع يردان الأشياء الى أصولها، وعزة وعزين والعزة بكسر العين وفتح الزاي أصلها عزى فلامها ياء وهي الفرقة من الناس والعزين الفرق المختلفة لأن كل فرقة تعتزي الى غير من تعتزي إليه الأخرى، وثبة وثبين والثبة بضم الثاء وفتح الباء الجماعة وأصلها ثبو وقيل ثبي من ثبيت أي جمعت فلامها على الأول واو وعلى الثاني ياء ولا يجوز في نحو اسم واخت وبنت لأن العوض فيهنّ عن لامهنّ المحذوفة غير الهاء، أما اسم فأصله سمو فحذفت لامه وعوض عنها الهمزة في أوله وأما أخت وبنت فأصلهما أخو وبنو وحذفت لامهما وعوض منهما تاء التأنيث لا هاء التأنيث والفرق بينهما أن تاء التأنيث فيهما لا تبدل هاء في الوقف وتكتب مجرورة وهاء التأنيث يوقف عليها بالهاء وتكتب مربوطة ولا في نحو شاة وشفة لأنهما كسرا على شفاه وشياه، قال الجوهري: وإنما لم يجمعا بالحروف لأن العرب استغنت بتكسيرهما عن تصحيحهما.
الثالث: مما حمل على هذا الجمع جموع تصحيح لم تستوف شروط الجمع كأهلون ووابلون لأن أهلا ووابلا ليسا علمين ولا صفتين ولأن وابلا غير عاقل والمعروف أن شرط هذا الجمع أن يكون لعلم من يعقل أو صفته.
الرابع: ما سمي به من هذا الجمع ومما ألحق به فالأول نحو زيدون مسمى به شخص والثاني كعليون فإنه ملحق بهذا الجمع وسمي به أعلى الجنة قال تعالى: «إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون» وهناك تفاصيل أخرى لا حاجة إلى إثباتها لأنها دون الفصيح ولهذا أضربنا عن ذكرها ويرجع إليها في المطولات.(5/267)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
(16) سورة النحل مكية وآياتها ثمان وعشرون ومائة
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)(5/268)
اللغة:
(نُطْفَةٍ) : في المصباح: «نطف الماء ينطف من باب قتل سال، وقال أبو زيد: نطفت القربة تنطف وتنطف نطفانا إذا قطرت والنقطة ماء الرجل والمرأة وجمعها نطف ونطاف مثل برمة وبرام والنطفة أيضا الماء الصافي قلّ أو كثر ولا فعل للنطفة أي لا يستعمل لها فعل من لفظها» وفي المختار أن نطف من بابي قتل وضرب.
(خَصِيمٌ) : شديد الخصومة وفيه معنيان أحدهما أنه خصيم لربه منكر على خالقه قائل «من يحيي العظام وهي رميم» والثاني فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم باللدد والجدل والسفسطة وما إلى ذلك من ضروب الوقاحة والشرة وسيأتي المزيد من هذا في باب البلاغة.
(دِفْءٌ) : في المختار: «الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها قال الله تعالى: «لكم فيها دفء» وفي الحديث: «لنا من دفئهم ما سلموا بالميثاق» وهو أيضا السخونة اسم من دفىء الرجل: من باب طرب وسلم فالذكر دفآن والأنثى دفأى مثل غضبان وغضبى ورجل دفىء بالقصر ورجل دفيء بالمد» وفي المصباح: «دفيء البيت يدفأ مهموز من باب تعب قالوا: ولا يقال في اسم الفاعل دفيء وزان كريم بل وزان تعب ودفىء الشخص فالذكر دفآن والأنثى دفأى مثل غضبان وغضبى إذا لبس ما يدفئه ودفؤ اليوم مثل قرب والدفء وزان حمل خلاف البرد» وفي القاموس: «والدفء بالكسر ويحرك نقيض حدة البرد كالدفاءة والجمع أدفاء دفىء كفرح وكرم وتدفأ واستدفأ وادّفأ وأدفأه ألبسه الدفء والدفآن المستدفئ كالدفىء والدفء(5/269)
بالكسر نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها وما أدفأ من الأصواف والأوبار» وقال الزمخشري: «والدفء اسم ما يدفأ به كما أن الملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر» فتلخص أن للدفء ثلاثة معان:
1- ضد البرودة أي السخونة.
2- ما يتدفأ به من الثياب.
3- ما يتحصل من الإبل من نتاج ولبن ومنافع.
(تُرِيحُونَ) : تردونها الى مراحها بالعشي.
(تَسْرَحُونَ) : تخرجونها الى المرعى بالغداة وسيرد المزيد من بحث الاراحة والتسريح في باب البلاغة وفي المصباح: سرحت الإبل سرحا من باب نفع وسروحا رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدّى وسرحتها بالتثقيل مبالغة وتكثير.
(بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) : بجهدها بكسر الشين وفتحها وهما لغتان في معنى المشقة وبينهما فرق وهو ان المكسور بمعنى النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد وأما المفتوح فهو مصدر شق عليه الأمر شقا وحقيقته راجعة الى الشق وهو الصدع وفي المختار: «الشق بالكسر نصف الشيء والشق أيضا المشقة ومنه قوله تعالى: «إلا بشق الأنفس» وهذا قد يفتح» .
(قَصْدُ السَّبِيلِ) : القصد: مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه.
(جائِرٌ) : حائد عن الاستقامة.(5/270)
الإعراب:
(أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) أتى فعل ماض وأمر الله فاعله عبر عن المستقبل بالماضي لأنه بمثابة الأمر الواقع الذي لا محيد عنه، والفاء عاطفة ولا ناهية وتستعجلوه فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل والهاء مفعول به. (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) سبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف وتعالى فعل ماض وعما تنازعه كل من سبحانه وتعالى وما يحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج الى عائد ويحتمل أن تكون موصولة فتحتاج الى تقدير عائد وجملة يشركون لا محل لها على كل حال. (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ينزل الملائكة فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبالروح متعلقان بينزل أو بمحذوف حال أي ملتبسة بالروح ومن أمره متعلقان بمحذوف حال وعلى من يشاء متعلقان بينزل ومن عباده حال. (أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أن مخففة وهي وما في حيزها بدل من قوله بالروح أي ينزل الملائكة بأن أنذروا وتقديره بأنه أنذروا فاسم أن ضمير الشأن وجملة أنذروا مقول قول محذوف أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا ولك أن تجعل أن مفسرة لأن الروح بمعنى الوحي الذي فيه معنى القول دون حروفه وأنه سدت مع ما في حيزها مسد مفعول أنذروا لأنه متضمن معنى أعلموا الناس أو تكون أنذروا على معناها الأصلي وأنه نصب بنزع الخافض أي أنذروا بأنه وجملة لا إله إلا أنا خبر أنه وقد تقدم القول مفصلا في «لا إله إلا الله» ، فاتقون: الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على الأنبياء وأمرهم بأن ينذروا الناس أنه لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه، واتقون فعل أمر وفاعل والنون للوقاية وياء المتكلم(5/271)
حذفت لمراعاة الفواصل. (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) خلق السموات والأرض فعل وفاعل مستتر والسموات مفعول به والأرض عطف على السموات وبالحق في محل نصب على الحال أي محقا وتعالى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وعما متعلقان بتعالى وجملة يشركون صلة لما. (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) خلق الإنسان فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومن نطفة متعلقان بخلق ومن للابتداء فإذا الفاء عاطفة وإذا الفجائية وهو مبتدأ وخصيم خبر ومبين صفة. (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) الواو عاطفة والأنعام منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده وخلقها فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة مفسرة ولكم خبر مقدم وفيها حال ودفء مبتدأ مؤخر والجملة حالية ويجوز أن تكون مستأنفة ويجوز أن يكون لكم حالا من دفء وفيها الخبر، وقع الاسم المشتغل عنه وهو الانعام بعد عاطف غير مفصول من الاسم بأما مسبوق بفعل وهو خلق الإنسان من نطفة فترجح نصبه لأن المتكلم عاطف جملة فعلية على جملة فعلية والرافع عاطف جملة اسمية على جملة فعليه وتشاكل الجملتين أحسن من تخالفهما وقد يقال: إن في الرفع تخلصا من تقدير العامل فلكل مرجح فكان ينبغي التساوي لا أرجحية النصب ويجاب بأن مراعاة التشاكل أقوى مما ذكر ومنافع عطف على دفء ومنها متعلقان بتأكلون وتأكلون فعل مضارع وفاعل وتقديم الجار والمجرور وهو معمول للفعل يوجب حصره فيه. (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) الواو عاطفة ولكم خبر مقدم وفيها حال وجمال مبتدأ مؤخر وحين ظرف متعلق بمحذوف صفة وجملة تريحون مضاف إليها وكذلك قوله وحين تسرحون وسيأتي مزيد بحث عن الإراحة والتسريح في باب البلاغة. (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ)(5/272)
الواو عاطفة وتحمل أثقالكم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به والى بلد متعلقان بتحمل وجملة لم تكونوا بالغيه صفة لبلد وبالغيه خبر تكونوا وإلا أداة حصر وبشق الأنفس في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم. (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ان واسمها واللام المزحلقة ورءوف رحيم خبران. (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً)
والخيل وما بعده عطف على الانعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة ولتركبوها مضارع منصوب
بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور في موضع نصب مفعول لأجله وزينة عطف على محل لتركبوها وجر الأول بالجر لاختلاف الفاعل لأن الركوب فعل المخاطبين وفاعل الخلق هو الله تعالى أما زينة فهي من فعله تعالى ولذلك نصبت فالمزين والخالق هو الله ويجوز أن تعرب نصبا على الحال من الهاء في تركبوها. (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته تعالى وقدرته وان ما تناهى إليهم علمه يعد ضئيلا جدا بالنسبة إلى علمه الواسع. (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) على الله خبر مقدم وقصد السبيل مبتدأ مؤخر ومنها خبر مقدم وجائر صفة لموصوف هو المبتدأ المؤخر أي سبيل جائر أي حائد عن الاستقامة. (وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) الواو عاطفة ولو امتناعية شرطية ومفعول شاء محذوف أي شاء هدايتكم واللام رابطة لجواب لو وهداكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وأجمعين تأكيد.
البلاغة:
1- الإيجاز في قوله تعالى «حين تريحون وحين تسرحون» فقد انطوت كلمتا «تريحون» و «تسرحون» على الكثير من المعاني والصور، مما يضفي على مقتني هذه الأنعام جمالا ورواء وأبهة ليس(5/273)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
في المكنة تصوره لأن الرعاة إذا ردوا الأنعام بالعشي الى مراحها أي مأواها بالليل أو سرحوها عند الغداة إلى المراعي المعشوشبة وعرجوا على الأفنية والبيوت رغت الإبل وخارت البقر وثغت الشاء فتجاوب ذلك كله مع صياح الصبيان وحديث العقائل والأوانس وهن يتهادين متخطرات متوثبات شمل الفرح الجميع، ورقصت النعمة، ورفرفت السعادة وقدم الإراحة على التسريح لأن الجمال في الإراحة أكثر تقبل وهي ملأى البطون حافلة الضروع معسولة الحلب.
2- المجاز المرسل في قوله «فإذا هو خصيم مبين» لأن الفاء تدل على التعقيب وكونه خصيما مبينا لا يكون عقب خلقه من نطفة ولكنه إشارة إلى ما تؤول إليه حاله فهو مجاز مرسل والعلاقة اعتبار ما سيكون كقوله تعالى «إني أراني أعصر خمرا» أي عنبا يئول إلى الخمر.
[سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 17]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)(5/274)
اللغة:
(تُسِيمُونَ) : ترعون دوابكم من سامت الماشية إذا رعت فهي سائمة وأسامها صاحبها وهي من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض.
قال السيوطي: لم يأت اسم المفعول من أفعل على فاعل إلا في حرف واحد وهو قول العرب: أسمت الماشية من المرعى فهي سائمة ولم يقولوا مسامة وقوله تعالى: «فيه تسيمون» من أسام يسيم واجب المراد أسمتها أنا فسامت هي فهي سائمة كما تقول: أدخلته الدار فدخل فهو داخل.
(ذَرَأَ) : خلق وذرأنا الأرض وذروناها: بذرناها وذرأ الله الخلق وبرأ ومن الذارىء البارئ سواه واللهم لك الذّرء والبرء، ومنك السّقم والبرء، وقد علته ذرأة وهي بياض الشيب أول ما يبدو في الفودين وقد ذرىء رأسه ذرءا ورجل أذرأ وامرأة ذرءاء بيضاء الرأس أو بيضاء الوجه قال:(5/275)
فمرّ ولما تسخن الشمس غدوة ... بذرءاء تدري كيف تمشي المنائح
أي منحت كثيرا فاعتادت ذلك فهي تسامح بالمشي لا تأبى.
(طَرِيًّا) : الطراوة ضد اليبوسة أي غضا جديدا ويقال طريت كذا أي جددته وفي المصباح: طرو الشيء وزان قرب فهو طري أي غضّ بين الطراوة وطرىء بالهمز وزان تعب لغة فهو طريء بين الطراوة وطرأ فلان علينا يطرأ مهموز بفتحتين طروءا طلع فهو طارئ وطرأ الشيء يطرأ أيضا طرآنا مهموز حصل بغتة فهو طارئ وأطريت العسل بالياء عقدته وأطريت فلانا مدحته بأحسن ما فيه وستأتي النكتة في وصف اللحم بالطراوة أو الطراءة في باب البلاغة.
(حِلْيَةً) : في المصباح: «حلي الشيء بعيني وبصدري يحلى من باب تعب حسن عندي وأعجبني وحليت المرأة حليا ساكن اللام لبست الحلي وجمعه حلي والأصل على فعول مثل فلس وفلوس والحلية بالكسر الصفة والجمع حلى مقصور وتضم الحاء وتكسر وحلية السيف زينته، قال ابن فارس: ولا تجمع وتحلت المرأة لبست الحلي أو اتخذته وحليتها بالتشديد ألبستها الحلي أو اتخذته لها لتلبسه وحليت السويق جعلت فيه شيئا حلوا حتى حلا» وفي القاموس وشرحه وغيرهما: الحلي وجمعه حلي وحليّ والحلية وجمعها حليّ وحلى على غير القياس ما يزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة الكريمة وقول بعض المفسرين: اللؤلؤ والمرجان تفسير معنى للحلية لا تفسير لغة والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأنهن إنما يتزين من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم.(5/276)
(مَواخِرَ) : جواري والمخر شق الماء بحيزومها وعن الفراء هو صوت جري الفلك بالرياح وفي المختار: «مخرت السفينة من باب قطع ودخل جرت تشق الماء مع صوت ومنه قوله تعالى: وترى الفلك مواخر فيه أي جواري» وفي الأساس: «فلك مواخر تمخر الماء تشقه مع صوت ونشأت بنات مخر وهي سحاب الصيف تمخر الجو مخرا واستمخرت الريح استقبلتها بأنفي وخرجت أتمخر الريح وأستنشئها ومخرت الأرض مخرا سقيتها لتطيب» .
(تَمِيدَ) : تميل بكم وفي المختار: «ماد الشيء يميد ميدا من باب باع ومادت الأغصان والأشجار تمايلت وماد الرجل: تبختر» وفي القاموس: «ماد يميد ميدا وميدانا تحرك وزاغ والسراب اضطرب والرجل تبختر وأصابه غثيان ودوار من سكر أو ركوب بحر ومنه المائدة: الطعام والخوان عليه الطعام كالميدة فيهما» (عَلاماتٍ) جمع علامة ففي المصباح: «وأعلمت على كذا بالألف من الكتاب وغيره جعلت عليه علامة وأعلمت الثوب جعلت له علما من طراز وغيره وهو العلامة وجمع العلم أعلام وجمع العلامة علامات وعلمت له علامة بالتشديد وضعت له أمارة يعرفها» .
الإعراب:
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) هو مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل صلة ومن السماء جار ومجرور متعلقان بأنزل وماء مفعول به ولكم خبر مقدم ومنه متعلقان بمحذوف حال من شراب وشراب مبتدأ مؤخر والجملة صفة لماء ومنه(5/277)
شراب جملة مستأنفة متألفة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وفيه متعلقان بتسيمون وجملة تسيمون صفة لشجر والباء للسببية أي بسببه ينبت الشجر. (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ينبت فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بينبت وبه متعلقان بينبت أيضا والباء للسببية والزرع مفعول به والزيتون والنخيل والأعناب عطف على الزرع ومن كل الثمرات عطف على ما تقدم أيضا ومن تبعيضية أي وبعض كل الثمرات.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم إن المؤخر ولقوم صفة لآية وجملة يتفكرون صفة لقوم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وسخر لكم الليل فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولكم متعلقان بسخر والشمس والقمر معطوفان على الليل والنهار. (وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) الواو عاطفة والنجوم مبتدأ ومسخرات خبر والجملة عطف على الجملة السابقة وبأمره متعلقان بمسخرات. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) تقدم اعراب نظيرتها. (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) الواو عاطفة وما عطف على الليل والنهار يعني ما خلق فيها من حيوان ونبات وجماد ويجوز أن تنصبه بفعل محذوف أي وخلق وأنبت والمعنى واحد ولكم متعلقان بذرأ وفي الأرض متعلقان بذرأ أيضا ومختلفا حال وألوانه فاعل مختلفا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) تقدم اعرابها.
(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) الواو عاطفة وهو مبتدأ والذي خبر وجملة سخر صلة والبحر مفعول به ولتأكلوا اللام للتعليل وتأكلوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بسخر ومنه متعلقان بتأكلوا ولحما مفعول به(5/278)
وطريا صفة. (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) وتستخرجوا عطف على لتأكلوا ومنه متعلقان بتستخرجوا وحلية مفعول به وجملة تلبسونها صفة لحلية. (وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) الواو اعتراضية وترى الفلك فعل وفاعل مستتر ومفعول به والجملة معترضة ومواخر حال لأن الرؤية بصرية وفيه متعلقان بمواخر ولتبتغوا عطف على لتأكلوا ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
(وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) وألقى عطف على وسخر وفي الأرض متعلقان بألقى ورواسي صفة لمفعول به محذوف أي جبالا رواسي وأن وما في حيزها مفعول لأجله أي كراهة أن تميل بكم وتضطرب كالمائد الذي يدار به إذا ركب البحر وبكم متعلقان بتميد.
(وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) وأنهارا وسبلا عطف على رواسي أو مفعول به لفعل محذوف والتقدير وجعل فيها لأن ألقى فيه معنى جعل قال تعالى: «ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا» ولعل واسمها وجملة تهتدون خبرها. (وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) وعلامات عطف على أنهارا وسبلا وبالنجم متعلقان بيهتدون وهم مبتدأ وجملة يهتدون خبره وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها وعلامات أي عبرة واعلاما في كل سلوك فقد يهتدى بالجبال والأنهر وبالسبل، وهذا كلام غير مفهوم ولعل أبا البقاء كان على حق حين أعربها مفعولا لفعل محذوف أي ووضع فيها علامات.
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف ومن مبتدأ وجملة يخلق صلة والكاف خبر من وجملة لا يخلق صلة لمن الثانية والهمزة انكار ثان والفاء عاطفة ولا نافية وتذكرون أصله تتذكرون فحذفت إحدى التاءين.(5/279)
البلاغة:
1- التتميم:
في قوله تعالى «لتأكلوا منه لحما طريا» تتميم احتياط وقد تقدم أن التتميم فن يشتمل على كلمة لو طرحت من الكلام نقص معناه كما تقدم أنه ثلاثة أنواع تتميم نقص وتتميم احتياط وتتميم مبالغة وتقدمت الأمثلة عليه ونقول هنا انه علم سبحانه انه إذا لم يصف اللحم بالطراوة لم يكن مظنة للفساد ولكن المعروف أن الفساد الى اللحم الطري أكثر من غيره فلزم وصفه بها ليسارع الى أكله خيفة الفساد عليه، وللفقهاء مباحث في لحم السمك تدل على ذكاء وألمعية وسنشير إليها في باب الفوائد إشارة سريعة، ولهذا التميم فائدة عامة وهي التعليم والإرشاد إلى أن اللحم لا ينبغي أن يتناول إلا طريا والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون.
2- الالتفات:
في قوله تعالى: «وبالنجم هم يهتدون» التفات من الخطاب الى الغيبة والفائدة منه انه لما كانت الدلالة من النجم أنفع الدلالات وأوضحها في البر والبحر نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم ولئلا يظن أن المخاطب مخصوص بذلك وزاد التأكيد بتقديم الجار والمجرور كأنما يشير من طرف خفي الى أن دلالة غير النجم ضئيلة لا يؤبه لها.
3- التشبيه المقلوب:
وذلك في قوله تعالى «أفمن يخلق كمن لا يخلق» إذ مقتضى(5/280)
الظاهر عكسه لأن الخطاب لعباد الأوثان حيث سموها آلهة تشبيها به تعالى فجعلوا غير الخالق كالخالق فجاءت المخالفة في الخطاب كأنهم لمبالغتهم في عبادتها ولا سفافهم- بالتالي- وارتكاس عقولهم صارت عندهم كالأصل وصار الخالق الحقيقي هو الفرع فجاء الإنكار على وفق ذلك. وللتشبيه المقلوب أسرار كثيرة ومنها هذا السر الذي ألمعنا اليه ومنها أن ينسى الإنسان أن المشبه به هو المقدّم لشدة ولعه بالمشبه فيعكس التشبيه كما فعل البحتري في وصف البركة التي بناها المتوكل على الله إذ قال:
كأنها حين لجت في تدفقها ... يد الخليفة لمّا سال واديها
والمعهود أن تشبه يد الخليفة في تدفقها بالكرم بالبركة إذا تدفقت بالماء.
هذا وقد جرى الشعراء على مذهب القلب كثيرا فمنهم من أصاب كما أصاب أبو عبادة البحتري ومنهم من أخطأ وتعسف، وزعم أبو بكر الصولي أن أبا تمام قد أخطأ في قلبه بقوله:
طلل الجميع لقد عفوت حميدا ... وكفى على رزئي بذاك شهيدا
قال أبو بكر: «أراد وكفى بأنه مضى حميدا شاهدا على اني رزئت وكان وجه الكلام أن يقول: وكفى برزئي شاهدا على أنه مضى حميدا لأن حمد أمر الطلل قد مضى وليس بشاهد ولا بمعلوم ورزؤه بما ظهر من تفجعه شاهد معلوم فلأن يكون الحاضر شاهدا على الغالب أولى من أن يكون الغائب شاهدا على الحاضر» ومضى الصولي في نقده منكرا أن يكون القلب قد ورد في القرآن وان ما احتج به أصحاب(5/281)
أبي تمام من قلب في القرآن على ما جاء به في بيته من قلب ليس صحيحا رغم قول المفسرين وانه لهذا لا يصحّ القياس عليه فلا يصح القلب في بيت أبي تمام.
وهذا تعسف وتحامل من الصولي حدا به الى انكار ما انعقد الإجماع ودل المنطق عليه وسنعود الى مناقشته في مكان آخر من هذا الكتاب.
4- التغليب:
في قوله تعالى أيضا «أفمن يخلق كمن لا يخلق» إذ المراد بمن لا يخلق الأصنام وجاء بمن الذي هو للعقلاء ذوي العلم وذلك لأنهم لما عبدوها وسموها آلهة أجروها مجرى أولي العلم فجيء بمن على اعتقادهم ووفق ما هو مركوز في سلائقهم، وأيضا للمشاكلة بينها وبين الخالق الحقيقي وهو المعبر عنه بقوله «أفمن يخلق كمن لا يخلق» قال العز بن عبد السلام هذه الآية مشكلة لأن قاعدة التشبيه تقتضي أن يقال أفمن لا يخلق كمن يخلق ولا يقال انهم كانوا يعظمون الأصنام أكثر من الله لأنهم لم يقولوا ذلك وإنما قالوا: نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى بخلاف قوله تعالى: أفنجعل المسلمين كالمجرمين وقوله: أم نجعل المتقين كالفجار فإنهم لما كانوا يقولون نحن نسود في الآخرة كما سدنا في الدنيا جاء الجواب على وفق معتقدهم انهم أعلى والمؤمنون أدنى.
وأجاب شيخ الإسلام زكريا في فتح الرحمن: «بأن الخطاب لعباد الأوثان وهم بالغوا في عبادتها حتى صارت عندهم أصلا في العبادة والخالق فرعا فجاء الإنكار على وفق ذلك ليفهموا المراد على معتقدهم.(5/282)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
الفوائد:
اللحم الطري ولحم السمك:
من طرائف الفقهاء أنهم يقولون: إذا حلف الرجل لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث فإذا اعترض عليهم معترض بأن الله تعالى سماه لحما قالوا إن الأمر مبني على العادة وعادة الناس إذا ذكر اللحم على إطلاقه لا يفهم منه السمك قالوا: ألا ترى أنه لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث وإن سماه الله دابة في قوله: «إن شر الدواب عند الله الذين كفروا» وكذا لو خرب بيت العنكبوت لا يحنث بيمينه لا يخرب بيتا وكذلك الألية وشحم البطن ليسا بلحم لأنهما لا يستعملان استعمال اللحم ولا يتخذ منهما ما يتخذ من اللحم ولا يسميان لحما عرفا إلى آخر هذه المباحث التي يرجع إليها في المطولات من كتب الفقه.
[سورة النحل (16) : الآيات 18 الى 23]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)(5/283)
الإعراب:
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها) جملة مستأنفة مسوقة للتذكير الاجمالي بأنعم الله وآلائه وإن شرطية وتعدوا فعل الشرط والواو فاعل ونعمة الله مفعول به ولا نافية وتحصوها جواب الشرط والواو فاعل والهاء مفعول به. (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها واللام المزحلقة للتوكيد وغفور خبر إن الاول ورحيم خبرها الثاني. (وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) الله مبتدأ وجملة يعلم خبر وفاعل يعلم مستتر تقديره هو وما مفعول به وجملة تسرون صلة وما تعلنون عطف على ما تسرون. (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) والذين مبتدأ وجملة يدعون صلة ومن دون الله حال وجملة لا يخلقون خبر الذين وشيئا مفعول به والواو عاطفة أو حالية وهم مبتدأ وجملة يخلقون خبر وهو بالبناء للمجهول. (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي هم أموات فهو خبر لمبتدأ محذوف وهو أولى من جعله خبرا ثانيا للذين وان كان لا يمتنع وغير أحياء صفة لأموات قصد به التأكيد وما يشعرون عطف على أموات فهو بمثابة الجزء الثاني ل «هم» المقدرة أو خبر ثالث للذين وأيان ظرف ليبعثون فهو متعلق به واختلف في ضمير يبعثون فقيل هو للاصنام والمعنى وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء وفي ذلك من التهكم ما فيه وهذا أرجح ما قيل فيه ولهذا اقتصرنا عليه واجتزأنا به. (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) إلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد صفة والفاء الفصيحة والذين مبتدأ وجملة لا يؤمنون بالآخرة صلة وقلوبهم مبتدأ ومنكرة خبر لقلوبهم والجملة الاسمية خبر الذين وهم الواو حالية وهم مبتدأ ومستكبرون خبر والجملة في محل نصب على(5/284)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
الحال. (لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) لا جرم تقدم القول فيه في سورة هود ونضيف هنا ان لا نافية وجرم بمعنى بد وهذا بحسب الأصل أما هنا فقد ركبت لا مع جرم تركيب خمسة عشر وجعلا بمعنى فعل معناه حق وثبت وأن وما في حيزها فاعله وجملة يعلم خبر أن وجملة يسرون صلة وما يعلنون عطف على ما يسرون. (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) ان واسمها وجملة لا يحب خبرها والمستكبرين مفعول يحب.
الفوائد:
(أَيَّانَ) : اسم شرط للزمان يجزم فعلين ملحقا بما أو غير ملحق بها، كقول الشاعر:
أيان نؤمنك تأمن غيرنا وإذا ... لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا
وقول الآخر وقد ألحقها ما الزائدة للتوكيد:
إذا النعجة الأدماء باتت بقفره ... فأيان ما تعدل به الريح تنزل
وتكون اسم استفهام عن الزمان مثل متى وأصلها «أي آن» فهي مركبة من أي المتضمنة معنى الشرط وآن بمعنى حين فصارتا بعد التركيب اسما للشرط أو للاستفهام مبنيا على الفتح في محل نصب على الظرفية الزمانية.
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)(5/285)
اللغة:
(أَساطِيرُ) : جمع أسطورة كأحاديث وأضاحيك وأعاجيب جمع أحدوثة وأضحوكة وأعجوبة وفي القاموس والتاج: الإسطار والأسطار والأسطور والأساطير وأيضا كلها بالهاء ما يكتب والجمع أساطير والحديث الذي لا أصل له.
(أَوْزارَهُمْ) جمع وزر وهو الذنب.(5/286)
الإعراب:
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) إذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة قيل لهم مضاف إليها الظرف وجملة ماذا أنزل ربكم نائب فاعل لقيل والكلام مستأنف مسوق للشروع في ذكر نماذج من مثالب المشركين، وماذا: تقدم انه يجوز فيها وجهان فإما أن تكون كلها اسم استفهام في محل نصب مفعول مقدم لأنزل وإما أن تكون ما وحدها اسم استفهام وذا اسم موصول في محل رفع خبر، وأنزل ربكم فعل وفاعل وجملة قالوا لا محل لها وأساطير الأولين خبر لمبتدأ محذوف أي هي أساطير الأولين أو المنزل أساطير الأولين وفي تقديره المنزل بلاغة زائدة لأنه يكون تهكما أي على فرض أنه منزل فهو أساطير لا طائل تحتها. (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) اللام للتعليل ويحملوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل وأوزارهم مفعول به وكاملة حال ويوم القيامة ظرف متعلق بيحملوا ولك أن تجعل اللام للعاقبة وعلى كل حال هي متعلقة بقوله قالوا أساطير الأولين فإما أن يكون المعنى أنهم جنوا على أنفسهم بأيديهم وقالوا ما يسبب لهم حمل الأوزار أو أنهم فعلوا ذلك جاهلين غافلين فكانت عاقبتهم بذلك أن يحملوا أوزارهم يعني ذنوب أنفسهم التي اجترحوها سيأتي سر قوله «كاملة» في باب البلاغة. (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) ومن أوزار عطف على أوازرهم فالجار والمجرور متعلقان بيحملوا ومن للتبعيض أي وبعض أوزار من يضل بضلالهم وهذا ما ذهبت إليه طائفة من المفسرين على رأسهم الزمخشري والبيضاوي والجلال وقال الواحدي: «ولفظ من في قوله «ومن أوزار الذين يضلونهم» ليست للتبعيض لأنها لو كانت للتبعيض لنقص(5/287)
عن الاتباع بعض الأوزار وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام:
«لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا» لكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الكفار» وهو كلام جميل أيضا وجملة يضلونهم صلة الذين وبغير علم حال من المفعول به أي يضلون من لا يعلم انهم ضلال ويجوز أن تكون من الفاعل المسند إليه الإضلال والمعنى أنهم يقدمون على الإضلال جهلا منهم بما يترتب عليهم من العذاب الشديد. وألا أداة تنبيه وساء فعل ماض لانشاء الذم وما تمييز أي شيئا أو فاعل ساء وجملة يزرون صفة لما على الاول أو صلة لها على الثاني وعلى كل حال المخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم. (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) جملة مستأنفة مسوقة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم عما كابده من تعنتهم ومكرهم وقد حرف تحقيق ومكر الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الذين فأتى الله بنيانهم عطف على ما تقدم وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن القواعد حال أو جار ومجرور متعلقان بأتى. (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) الفاء عاطفة وخر فعل ماض وعليهم جار ومجرور متعلقان بخر والسقف فاعل ومن فوقهم حال وأتاهم العذاب فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومن حيث متعلقان بأتاهم وجملة لا يشعرون مضافة إلى الظرف. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) ثم حرف عطف ويوم ظرف متعلق بيخزيهم والقيامة مضاف اليه ويخزيهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به. (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أين اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم وشركائي مبتدأ مؤخر والذين صفة لشركائي وجملة كنتم صلة وجملة تشاقون خبر كنتم وفيهم متعلقان بتشاقون. (قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) قال الذين فعل(5/288)
وفاعل وجملة أوتوا صلة والواو نائب فاعل والعلم مفعول به ثان وإن واسمها واليوم ظرف متعلق بالخزي لأنه مصدر يعمل عمل الفعل والسوء عطف على الخزي وعلى الكافرين خبر إن. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الذين نعت للكافرين أو بدل منه وجملة تتوفاهم الملائكة صلة والجملة فعل ومفعول به وفاعل وظالمي أنفسهم حال من مفعول تتوفاهم وأنفسهم مضاف اليه وتتوفاهم مضارع بمعنى الماضي.
(فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) يجوز أن تكون الفاء عاطفة وألقوا معطوف على توفاهم لأنه بمعنى توفتهم ويجوز أن يكون ألقوا معطوفا على قال الذين أوتوا العلم ويجوز أن تكون للاستئناف، وألقوا فعل وفاعل والسلم مفعول به، والسلم المسالمة والإخبات وجملة ما كنا مقول لقول محذوف أي قائلين وما نافية وكنا كان واسمها وجملة نعمل خبر كنا ومن زائدة وسوء مجرور لفظا منصوب محلا على انه مفعول به.
(بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى حرف جواب وان واسمها وخبرها وبما متعلقان بعليم وجملة كنتم تعملون صلة ما وجملة تعملون خبر كنتم. (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) الفاء الفصيحة وادخلوا فعل أمر وفاعل وأبواب مفعول به على السعة وجهنم مضاف اليه وخالدين حال من فاعل ادخلوا وفيها متعلقان بخالدين والفاء استئنافية واللام للابتداء وبئس فعل ماض لانشاء الذم ومثوى المتكبرين فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي.
البلاغة:
1- في قوله تعالى: «قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم» استعارة تمثيلية فقد شبه حال(5/289)
جميع الماكرين المبطلين المدبرين للمكايد والمؤامرات والذين يحاولون إيقاع الضرر والمكر بالمؤمنين ونصب الشباك لهم بحال قوم بنوا بنيانا شامخا ودعموه بأساطين البناء وقواعده فطاح البنيان من الأساطين نفسها بأن وهنت ولم تقو على إمساك ما أقيم عليها فتهدم السقف وهوى عليها.
هذا وقد ذكر علماء البلاغة ان للتمثيل مظهرين أحدهما أن يظهر المعنى ابتداء في صورة التمثيل وثانيهما ما يجيء في أعقاب المعاني لإيضاحها وتقريرها في النفوس وهو على الحالين يكسو المعاني أبهة ويرفع من أقدارها ويضاعف قواها في تحريك النفوس لها ودعوة القلوب إليها. تأمل قول أبي الطيب:
ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا
لو كان عبر عن المعنى بقوله مثلا: ان الجاهل لمفاسد الطبع يتصور المعنى بغير صورته ويخيل اليه في الصواب انه خطأ فهل كنت تجد هذه الروعة؟ وهل كان يبلغ من التهجين للجاهل والكشف عن نقصه ما بلغ التمثيل في البيت؟ ومهما بالغت في تصوير المؤامرات المبطلة يدبرها المبطلون، ويحوكونها من خلف ستار حتى إذا خيل لهم انها قد أحكمت واستطاعت أن توقع الخصوم في شراكها إذا بها تحبط فجأة فهل يبلغ ذلك من نفسك مبلغ مشهد البناء وقد تطاول وتسامق وتشامخ وأحكمه بانيه إحكاما خيل اليه معه أنه ضمن له الخلود فما عتم أن تزلزلت منه أواخيه وصياصيه وانهار بمن وعلى من فيه وفيما يلي طائفة من أبيات التمثيل لتقيس عليها:
قال ابن لنكك يهجو قوما حسنت مناظرهم وقبحت مخابرهم.(5/290)
في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر
وقال ابن الرومي في المعنى نفسه:
فغدا كالخلاف يورق للعي ... ين ويأبى الإثمار كل الإباء
وتأمل كذلك قول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
مقطوعا عن البيت الذي يليه برغم أن البيت واضح المعنى ثم اتبعه بالبيت التالي:
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وانظر هل نشر المعنى تمام حلته وأظهر المكنون من حليته وزينته واستحق التقديم كله إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير.
وسيأتي من روائع التمثيل في كتابنا ما يذهل الألباب.
عودة إلى الآية:
والآية التي نحن بصددها من أرقى ما يصل اليه التمثيل وهي خالدة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة فالبناء كان ولا يزال يمثل القوة والجدّة والثراء، وتداعيه وتطوحه يمثل قديما وحديثا زوال ذلك كله وفناءه ذلك لأن الاستعارة التمثيلية أساسها التشبيه فلا عجب أن تختلف فبها الأذواق باختلاف الأزمنة كما اختلفت في تقدير التشبيه وها نحن أولاء اليوم لا نستسيغ كثيرا من الاستعارات التي أوحت بها البيئة(5/291)
الماضية والتي تبقى رواسم جامدة يبهرنا لفظها أكثر مما يوضحه في نفوسنا معناها أما الاستعارة التي تتجاوز ظروف الزمان والمكان وتضمن لها الجدّة الباقية بقاء الدهر فهي الاستعارة التي تحقق غرض القائل وتكون فيها الصورة المشبهة بها واضحة معروفة تصور ما تريد أن تصوره بوضوح وتأثير وإيجاز وتضاف إليها روافد كهذه الآية عند ما قال «فخر عليهم السقف من فوقهم» فقد أكد التمثيل بقوله من فوقهم لأن السقف لا يخر إلا من فوق لأنه أشعر بخروره فوقهم أنهم تحته فأزال احتمال أن يكونوا غير موجودين تحته وأكد إبطال مؤامراتهم بموتهم متأثرين بما نصبوه للآخرين على حد قول المثل: «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها» .
2- الاحتراس:
في قوله تعالى «فخر عليهم السقف من فوقهم» فإن لقائل أن يقول: السقف لا يكون إلا من فوق فما معنى ذكر من فوقهم والجواب انه احتراس من احتمال أن السقف قد يكون أرضا بالنسبة لغيرهم، فإن كثيرا من السقوف يكون أرضا لقوم وسقفا لقوم آخرين فرفع الله تعالى هذا الاحتمال بجملتين وهما قوله «عليهم» وقوله «خر» لأنها لا تستعمل إلا فيما يهبط أو يسقط من العلو إلى السفل.
هذا وقد ساق بعض النقاد بيتا في شواهد العيوب وهو:
زياد بن عين عينه تحت حاجبه ... وبيض الثنايا تحت خضرة شاربه
فقال: وجه العيب فيه كون العين لا تكون إلا تحت الحاجب.(5/292)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
والثنايا تحت الشارب، وقيل في الرد على هذا العائب: ان الشاعر أراد أن هذا الممدوح خلق في أحسن تقويم وولد كذلك ولم يولد مشوه الخلق ولا معيب الصورة ولم يطرأ عليه وهو جنين ما ينقص خلقه أو يشوهه.
وقال ابن الاعرابي: «وإنما قال: من فوقهم ليعلمك انهم كانوا حالين تحته والعرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله: من فوقهم ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب» وهو كلام لا بأس به.
[سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 34]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)(5/293)
الإعراب:
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) وقيل للذين قيل فعل ماض مبني للمجهول واختلف في ضميره وأقرب الأقوال انهم وفود العرب الذين كانت تبعثهم القبائل الى مكة وللذين متعلقان بقيل وجملة اتقوا صلة وماذا تقدم القول فيها كثيرا وأنزل ربكم فعل وفاعل وخيرا مفعول لفعل محذوف أي أنزل خيرا وعبارة الزمخشري «فإن قلت لم رفع الأول ونصب هذا قلت فرقا بين جواب المقر وجواب الجاحد يعني أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للانزال فقالوا: خيرا أي أنزل خيرا وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين وليس من الانزال في شيء» . (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) للذين خبر مقدم وجملة أحسنوا صلة وفي هذه متعلقان بأحسنوا والدنيا بدل وحسنة مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة ويجوز أن تكون مفسرة لقوله «خيرا» ولدار الآخرة اللام للابتداء ودار الآخرة مبتدأ وخير خبر ولنعم دار المتقين اللام للابتداء ايضا ونعم فعل ماض لإنشاء المدح ودار المتقين فاعل والمخصوص بالمدح محذوف أي هي (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) جنات خبر لمبتدأ محذوف ويجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح فتعرب مبتدأ خبره جملة نعم دار المتقين أو خبرا لمبتدأ محذوف والأول أرجح وأقل تكلفا وجملة يدخلونها حالية.
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) جملة تجري من تحتهم الأنهار حال أيضا ولهم خبر مقدم وفيها حال وما مبتدأ مؤخر وجملة يشاءون صلة وجملة لهم فيها حال ثالثة. (كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) الكاف نعت لمصدر محذوف ويجوز أن تعرب حالا وقد تقدم تقرير ذلك كثيرا ويجزي الله المتقين فعل وفاعل ومفعول به. (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ(5/294)
الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ)
الذين نعت للمتقين أو بدل منه وجملة تتوفاهم صلة والهاء مفعول به والملائكة فاعل وطيبين حال من المفعول في تتوفاهم أي طاهرين من الشوائب. (يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جملة يقولون حال من الملائكة مقارنة أو مقدرة وسيأتي تعريفهما في باب الفوائد وسلام مبتدأ وعليكم خبر وادخلوا الجنة فعل أمر وفاعل ومفعول به وبما متعلقان بادخلوا وجملة كنتم صلة وجملة تعملون خبر كنتم ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد.
َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)
هل حرف استفهام ومعناه النفي وينظرون فعل مضارع وفاعل وإلا أداة حصر وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول ينظرون وأو حرف عطف ويأتي أمر ربك عطف على تأتيهم الملائكة أي العذاب. َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)
تقدم إعراب كذلك قريبا فجدد به عهدا وفعل الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة الموصول. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
الواو عاطفة وما نافية وظلمهم الله فعل ومفعول به وفاعل والواو حالية أو اعتراضية ولكن مخففة مهملة وكان واسمها وجملة يظلمون خبرها وأنفسهم مفعول مقدم لقوله يظلمون. (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) الفاء عاطفة وأصابهم فعل ومفعول به مقدم وسيئات فاعل وما موصولة أو مصدرية وهي على كل مضافة لسيئات. (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) الواو عاطفة وبهم متعلقان بحاق وما فاعل وجملة كانوا صلة وبه متعلقان بيستهزئون وجملة يستهزئون خبر كانوا.
الفوائد:
الحال بالنسبة للزمان:
للحال بالنسبة للزمان ثلاثة أقسام:(5/295)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
1- مقارنة وهي الغالبة نحو: «هذا بعلي شيخا» .
2- مقدرة وهي المستقبلة نحو: «ادخلوها خالدين» .
3- ومحكية وهي الماضية نحو: جاء زيد أمس راكبا.
وفي الآية التي نحن بصددها وهي «يقولون سلام عليكم» يجوز أن تكون مقارنة إن كان القول واقعا منهم في الدنيا وأن تكون مقدرة إن كان القول واقعا منهم في الآخرة.
[سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 36]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
الإعراب:
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الواو استئنافية والجملة مستأنفة لتقرير مغالطتهم وقولهم كلمة حق أريد بها باطل واحتجاجهم على الله تعالى بمشيئته التي لا حجة(5/296)
لهم فيها مع ما خلق لها من اختيار النجدين وسلوك أحد الطريقين.
وقال الذين فعل وفاعل وجملة أشركوا صلة ولو امتناعية شرطية وشاء الله فعل وفاعل والمفعول محذوف أي لو شاء خلاف طريقتنا وما يصدر عنا وسيأتي مزيد بحث عن حذف المفعول به في باب البلاغة وما نافية وعبدنا فعل وفاعل ومن دونه حال ومن زائدة وشيء مجرور لفظا مفعول عبدنا محلا ونحن تأكيد لفاعل عبدنا والمعنى ما عبدنا شيئا حال كونه دونه ولا الواو عاطفة ولا نافية وآباؤنا عطف على نحن. (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) الواو عاطفة وحرمنا فعل وفاعل ومن دونه حال من شيء ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مفعول به منصوب محلا.
(كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كذلك نعت لمصدر محذوف مفعول مطلق وفعل الذين فعل وفاعل ومن قبلهم صلة. (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء عاطفة وهل حرف استفهام معناه النفي وعلى الرسل خبر مقدم وإلا أداة حصر والبلاغ مبتدأ مؤخر والمبين صفته. (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وبعثنا فعل وفاعل وفي كل أمة متعلقان ببعثنا ورسولا مفعول به.
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) أن يجوز أن تكون مصدرية وهي مع مدخولها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان ببعثنا ويجوز أن تكون مفسرة لأن البعث فيه معنى القول واعبدوا فعل أمر وفاعل ولفظ الجلالة مفعول به واجتنبوا الطاغوت فعل أمر وفاعل ومفعول به.
(فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) الفاء تفريعية استئنافية ومنهم خبر مقدم ومن مبتدأ مؤخر وهي نكرة موصوفة وجملة هدى الله صفة لمن ومنهم من حقت عليه الضلالة عطف على سابقتها وهي مثلها في الإعراب. (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ(5/297)
عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)
الفاء الفصيحة أي إن أردتم الاهتداء والاستدلال على الطريق المثلى فسيروا وفي الأرض جار ومجرور متعلقان بسيروا فانظروا الفاء عاطفة وانظروا فعل أمر وفاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب خبر كان المقدم وعاقبة المكذبين اسمها المؤخر.
البلاغة:
إيجاز الحذف:
الحذف للايجاز فقد حذف مفعول شاء في قوله «لو شاء الله ما عبدنا من دونه» أي لو شاء هدايتنا، ولحذف المفعول به لطائف هي أكثر من أن تذكر، ذلك أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية فتارة يذكرونها ويريدون أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين وعندئذ يكون الفعل المتعدي كغير المتعدي ومثال ذلك قول الناس: فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضر وينفع، والقسم الثاني أن يكون للفعل مفعول مقصود إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل يدل عليه وقد يكون ذلك جليا لا صنعة فيه كقولهم: «أصغيت اليه» أي بأذني، والخفي منه ما تدخله الصنعة، فمن الخفي أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص إلا أنك تنساه وتخفيه عن نفسك وتوهم أنك إنما تذكر الفعل لتثبت نفس معناه من غير أن تعديه إلى مفعول كقول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع
المعنى أن يرى مبصر محاسنه ويسمع واع أخباره، ومن الخفي(5/298)
ايضا أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قد علم انه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه لكي تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها اليه، قال طفيل الغنوي في بني جعفر بن كلاب:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبو أن يملونا ولو أن أمّنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملّت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت
حذف المفعول في أربعة مواضع هي «لملت» و «ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلت» لأن الأصل لملتنا وألجئونا الى حجرات أدفأتنا وأظلتنا وقول الشاعر «ولو أن أمنا تلاقي الذي لا قوه منا لملت» يتضمن أن ما لا قوه منا قد بلغ من القوة الى أن يجعل كل أم تملّ وتسأم وان المشقّة بلغت من ذلك حدا يجعل الأم له تمل الابن وتتبرم به مع ما في طباع الأمهات من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد وذلك انه وإن قال «أمنا» فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها ولو قال لملتنا لم يصلح لأنه يراد به معنى العموم وان بحيث يملّ كل أم من كل ابن، ومن ذلك حذف المفعول بعد فعل المشيئة كقوله:
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما ولم تهدم مآثر خالد
والأصل: لو شئت أن تفسد سماحة حاتم لم تفسدها ثم حذف ذلك من الأول استغناء بدلالة في الثاني عليه ثم هو على ما تراه من الحسن والغرابة لأن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف(5/299)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
فليس يخفى أنك لو رجعت إلى الأصل لصرت إلى كلام غث وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس.
ويعلل عبد القاهر الجرجاني لجمال حذف المفعول بعد فعل المشيئة بأن في البيان بعد الإبهام وبعد تحريك النفس الى معرفته لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك فأنت إذا قلت لو شئت علم السامع انك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء فهو يضع في نفسه أن هاهنا شيئا تقتضيه المشيئة فاذا قلت لم تفسد سماحة حاتم عرف ذلك الشيء.
[سورة النحل (16) : الآيات 37 الى 42]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
الإعراب:
(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) إن شرطية(5/300)
وتحرص فعل الشرط وعلى هداهم متعلقان بتحرص أي ترغب فيه، فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وجملة لا يهدي خبرها ومن اسم موصول مفعول به وجملة يضل صلة وقيل جواب الشرط محذوف وجملة فإن الله لا يهدي تعليل للجواب والتقدير لا تقدر أنت ولا يقدر أحد على هدايتهم. (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية حجازية ولهم خبر ما مقدم ومن حرف جر زائد وناصرين اسم ما محلا أو مبتدأ مؤخر ومجرور لفظا. (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) وأقسموا فعل وفاعل وبالله جار ومجرور متعلقان بأقسموا وجهد أيمانهم نصب على المصدرية وقيل مصدر في موضع الحال أي جاهدين والجملة عطف على وقال الذين أشركوا أو استئنافية إخبارية. (لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) لا نافية ويبعث الله من يموت فعل وفاعل ومفعول والجملة لا محل لها لأنها جواب القسم وسمي الحلف قسما لأنه يكون عند انقسام الناس الى مصدق ومكذب وبلى حرف جواب أي بلى يبعثهم لأنه إثبات لما بعد النفي ووعدا عليه حقا مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى وقيل حقا صفة لوعدا وكذا عليه، وعليه متعلقان بحقا. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) الجملة حالية ولكن واسمها وجملة لا يعلمون خبرها. (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) اللام للتعليل ويبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين ولهم متعلقان بيبين والذي مفعول به وجملة يختلفون صلة وفيه متعلقان بيختلفون. (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) وليعلم عطف على ليبين والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يعلم وان واسمها وجملة كانوا خبرها وكاذبين خبر كانوا. (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنما كافة ومكفوفة وقولنا مبتدأ ولشيء جار ومجرور متعلقان بقولنا وإذا ظرف متعلق بقولنا وجملة أردناه مضافة للظرف(5/301)
وأن ومدخولها مصدر مؤول خبر قولنا وله متعلقان بنقول وكن فعل أمر من كان التامة وجملة كن مقول القول، فيكون: الفاء عاطفة ويكون معطوف على مقدر تفصح منه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول له ذلك فيكون، واما جواب لشرط محذوف فتكون فصيحة أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وسيأتي مزيد بحث عن هذا القول والمقول والأمر والمأمور في باب البلاغة والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير القدرة على البعث أو كيفية التكوين على الإطلاق إبداء وإعادة. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) والذين مبتدأ وجملة هاجروا صلة أي انتقلوا من مكة الى المدينة، ومنهم من هاجر الى الحبشة فجمع بين الهجرتين وفي الله متعلقان بهاجروا وفي للتعليل أي لإقامة دين الله ومن بعد حال وما مصدرية مؤولة مع مدخولها بمصدر مضاف الى بعد، أي من بعد ظلمهم بالأذى من أهل مكة. (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) اللام موطئة للقسم وجملة نبوئنهم خبر الذين وفي الدنيا حال وحسنة صفة لمصدر محذوف أي تبوئة حسنة فهي نائب مفعول مطلق ولك أن تعربها مفعولا ثانيا لنبوئنهم لتضمن معناه نعطينهم فتكون صفة لمحذوف أي دارا حسنة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الواو حالية واللام للابتداء وأجر الآخرة مبتدأ وأكبر خبر ولو شرطية وكان واسمها وخبرها. (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الذين خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين صبروا فمحله الرفع أو منصوب على المدح أي أعني الذين صبروا فمحله النصب وجملة صبروا صلة وعلى ربهم جار ومجرور متعلقان بيتوكلون ويتوكلون فعل مضارع وفاعل.
البلاغة:
1- إنما:
«إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» عقد الامام(5/302)
عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الاعجاز فصلا ممتعا عن إنما ننقل خلاصته، فقد وقف يستلهم معاني «إنما» ويرى أن الوقوف فيها عند قول النحاة: انه ليس في انضمام «ما» إلى «ان» فائدة أكثر من أنها تبطل عملها خطأ بيّن، وأصل انما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا ينكر صحته أو لما ينزل هذه المنزلة فمن الاول قوله تعالى «انما يستجيب الذين يسمعون» فكل عاقل يعلم انه لا تكون استجابة إلا ممن يعقل ما يقال له ويدعى اليه ومثال ما ينزل هذه المنزلة قول ابن الرقيات:
انما مصعب شهاب من الله تجلّت عن وجهه الظلماء وتفيد انما في الكلام الذي بعدها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره وتجعل الأمر ظاهرا فإذا قلت إنما جاءني زيد عقل منه أنك أردت أن يكون الجائي غيره فمعنى الكلام معها شبيه بالمعنى في قولك: جاءني زيد لا عمرو إلا أن لها مزية وهي انك تعقل معها إيجاب الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة وتجعل الأمر ظاهرا في أن الجائي زيد.
2- الاستعارة التمثيلية: في قوله «كن فيكون» فهي استعارة للكينونة تمثل سرعة الإيجاد عند تعلق الارادة وليس هناك أمر حقيقة ولا كاف ولا نون وإلا لو كان هناك أمر لتوجه أن يقال إن كان الخطاب للشيء حال عدمه فلا يعقل لأن خطاب المعدوم لا يعقل وإن كان بعد وجوده ففيه تحصيل الحاصل وإنما القصد منه تصوير سرعة الحدوث بما لا يتجاوز أمده النطق بلفظ كن وما أسهلها.
3- الاخبار عن الماضي بالمستقبل أبلغ من الاخبار بالفعل الماضي وذلك في قوله تعالى «وعلى ربهم يتوكلون» فالظاهر أن المعنى على(5/303)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
المضي والتعبير بالمضارع لاستحضار تلك الصورة البديعة حتى كأن السامع يشاهدها وقد تقدم بحثه.
[سورة النحل (16) : الآيات 43 الى 47]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
اللغة:
(الزُّبُرِ) : الكتب جمع زبور بمعنى مزبور.
(تَخَوُّفٍ) : تنقص وهو من قولك تخوفته وتخونته إذا تنقصته قال زهير بن أبي سلمى- وقيل هو لأبي كبير الهذلي-:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السبفن
والمعنى يأخذهم على أن ينتقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا وعن عمر بن الخطاب أنه سأل عن معنى التخوف(5/304)
في قوله تعالى «أو يأخذهم على تخوف» فيقوم له رجل من هذيل ويقول: هذه لغتنا التخوف التنقص قال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم وأنشد البيت الآنف فقال عمر: عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم.
الصحابة والغريب في القرآن:
بدأت مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم تترسّم خطاه في التفسير وتحفظ ما نقل عنه وترويه وقد تتزيد فيه بشرح لفظ غريب وعلى الرغم من هذا لا نعدم بعض الغريب في آيات الكتاب توفقوا عنده من ذلك ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن ابراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: «وفاكهة وأبّا» فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ ونقل عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «وفاكهة وأبّا» فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟ ثم رجع الى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر، وقد انقسم الصحابة في صدر الإسلام الى قسمين: متحرج من القول في القرآن ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعبد الله بن عمر وكان عبد الله يأخذ على عبد الله بن عباس تفسيره القرآن بالشعر، والقسم الثاني الذين لم يتحرجوا وفسروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول أو حسب فهمهم الخاص بالمقارنة الى الشعر العربي وكلام العرب ومن هؤلاء علي ابن أبي طالب وعبد الله بن عباس ومن أخذ عنهما وقد وقف ابن عباس على رأس المفسرين بالرأي المتخذين شعر العرب وسيلة الى كشف معاني القرآن وكان علي بن أبي طالب يثني على عبد الله بن عباس ويقول:(5/305)
كأنما ينظر الى الغيب من ستر رقيق ومن هؤلاء أيضا ابن مسعود وأبي ابن كعب وغيرهما وتبعهم الحسن البصري ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم ويقول أحمد أمين في كتابه الممتع فجر الإسلام ما خلاصته ان هؤلاء المفسرين من الصحابة والتابعين كانوا ينهجون منهجا يتلخص في الاسترشاد بحديث رسول الله وبروح القرآن وبالشعر العربي والأدب الجاهلي بوجه عام ثم عادات العرب في جاهليتها وصدر إسلامها وما قابلهم من أحداث وما لقي رسول الله من عداء ومنازعات وهجرة وحروب
لمحة عن ابن عباس ومدرسته:
وشق ابن عباس طريقه بين هؤلاء جميعا متزعما مدرسة خاصة تسلطت على التفسير وطبعته بطابعها وقد أورد السيوطي في «الإتقان» مسائل ابن الأزرق المائة في القرآن وجواب ابن عباس عليها بالشعر مفسرا غريب كل آية ببيت ويقول ابن عباس في تفسير القرآن بالشعر:
إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي ويقول:
إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب، وكان إلمام ابن عباس واسعا بلغة القرآن ومعانيه حتى انه قال: كل القرآن أعلم إلا أربعا: غسلين وحنانا والأواه والرقيم.
وقد بدأت بمحاولات ابن عباس مدرسة جديدة في التفسير تكشف عن أسلوب القرآن ومعانيه بمقارنته بالأدب العربي شعره ونثره ومهدت هذه المدرسة لقيام حركة واسعة لجمع اللغة والشعر من مضارب الخيام وبوادي العرب ليواجهوا ما في القرآن من الغريب الذي ابتعدت به الشقة عن الحجاز وقلب الجزيرة العربية في العراق وفارس والشام(5/306)
وغيرها من الأمصار الاسلامية وتلقط العلماء ما كانت تجود به ألسنة الأعراب من أمثلة توافق ما يجري في آيات القرآن وكانت هذه الحركة الكبرى سببا في حفظ العربية من الضياع.
الإعراب:
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) الواو عاطفة ليتناسق الكلام يورد ناحية أخرى من نواحي تعنتهم وإصرارهم على القول: ان الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا، ولك أن تجعلها استئنافية قائمة بنفسها والجملة مسوقة لما ذكرناه، وما نافية وأرسلنا فعل وفاعل ومن قبلك حال وإلا أداة حصر ورجالا مفعول أرسلنا وجملة نوحي إليهم صفة. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) الفاء الفصيحة أي إن شككتم فيما ذكر فاسألوا، واسألوا فعل أمر وفاعل وأهل الذكر مفعوله وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والجواب محذوف دل عليه فاسألوا وكان واسمها وجملة لا تعلمون خبرها. (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) بالبينات يحتمل متعلقات شتى فإما أن يتعلقا بأرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ومثل له الزمخشري بقول القائل: ما ضربت إلا زيدا بالسوط لأن أصله ضربت زيدا بالسوط وإما متعلقان بمحذوف صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالبينات أي مصاحبين لها وإما بأرسلنا مضمرا كأنما قيل بم أرسلوا فقيل بالبينات وإما بنوحي أي نوحي إليهم بالبينات وهناك أوجه أخرى ضربنا عنها صفحا، وأنزلنا عطف على أرسلنا وإليك متعلقان بأنزلنا والذكر مفعول به ولتبين اللام للتعليل وتبين منصوب(5/307)
بأن مضمرة وهو متعلق بأنزلنا وللناس جار ومجرور متعلقان بتبين.
(ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ما مفعول تبين وجملة نزل إليهم صلة ولعلهم لعل واسمها وجملة يتفكرون خبرها. (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على محذوف- كما تقدم- يرشد اليه النظم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه ولم يتفكروا في ذلك فكأنه قيل ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات؟ وأمن الذين فعل وفاعل وجملة مكروا صلة والسيئات صفة لمفعول مطلق محذوف أي المكرات السيئات ويجوز أن يكون مفعولا به لأمن أي أمنوا العقوبات السيئات أو منصوبا بنزع الخافض أي مكروا بالسيئات وان يخسف أن وما في حيزها مصدر مفعول أمن على الوجه الأول في السيئات وبدل من السيئات على الوجه الثاني والله فاعل يخسف، وبهم متعلقان بيخسف والأرض مفعول به. (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) عطف على أن يخسف ومن حيث حال وجملة لا يشعرون مضافة للظرف.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) عطف أيضا على أن يخسف وفي تقلبهم حال من المفعول أي حال كونهم متقلبين في الأسفار والمتاجر وأسباب الدنيا والفاء عاطفة وما نافية حجازية وهم اسمها والباء حرف جر زائد ومعجزين مجرور بالباء لفظا منصوب محلا على انه خبر ما.
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) عطف ثالث على أن يخسف وعلى تخوف حال أيضا من الفاعل أو المفعول أي يأخذهم متنقصا إياهم شيئا بعد شيء أو وهم متخوفون والفاء تعليل لما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة ورؤوف خبر إن الاول ورحيم خبر إن الثاني.(5/308)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
[سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 52]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
اللغة:
(يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) تفيأ الظل تقلب وانتقل من جانب الى آخر والمصدر التفيؤ من فاء يفيء إذا رجع، وفاء لازم فإذا أريد تعديته عدي بالهمزة كقوله تعالى: «ما أفاء الله على رسوله» أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ مطاوع فيها فهو لازم واختلف في الفيء فقيل هو مطلق الظل سواء كان قبل الزوال أو بعده وهو ينسجم مع الآية وقيل ما كان قبل الزوال فهو ظل فقط وما كان بعده فهو ظل وفيء فالظل أعم وقيل بل يختص الظل بما قبل الزوال والفيء بما بعده فالفيء لا يكون إلا في العشي وهو ما انصرفت عنه الشمس والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله. وفي القاموس والتاج وغيرهما: الظل: الفيء والجمع ظلال وأظلال وظلول وظل الليل سواده، يقال أتانا في ظل الليل، قال ذو الرمة:(5/309)
قد أسعف النازح المجهول مسعفه ... في ظل أخضر يدعو هامة البوم
وهو استعارة لأن الظل في الحقيقة إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع فإذا لم يكن ضوء فهو ظلمة وليس بظل وقال أصحاب العلم: الظل مطلقا هو الضوء الثاني ومعنى ذلك أن النير إذا ارتفع عن الأفق استضاء الهواء بإثبات الشعاع فيه فهذا هو الضوء الأول فإذا حجب هذا الضوء حاجب كان ما وراء ذلك الحاجب ضوءا ثانيا بالنسبة إلى الضوء الاول لأنه مستفاد منه وهذا الضوء الثاني هو الظل وقد أوحى خيال الظل الى الشعراء طرائف بديعة فمن ذلك قول المناوي في راقصة:
إذا ما تغنت قلت: سكرى صبابة ... وإن رقصت قلنا احتكام مدام
أرتنا خيال الظل والستر دونها ... فأبدت خيال الشمس وهو غمام
وذكر ابن قتيبة في كتابه (أدب الكاتب) ما نصه: «يذهب الناس إلى أن الظل والفيء واحد وليس كذلك لأن الظل يكون من أول النهار إلى آخره، ومعنى الظل الستر والفيء لا يكون إلا بعد الزوال ولا يقال لما كان قبل الزوال فيء وانما سمي فيئا لأنه ظل فاء من جانب الى جانب أي رجع من جانب المغرب الى جانب المشرق والفيء الرجوع قال الله تعالى: «حتى تفيء إلى أمر الله» أي ترجع.
(الشَّمائِلِ) : جمع شمال أي عن جانبيهما أول النهار وآخره قال العلماء: إذا طلعت الشمس من المشرق وأنت متوجه إلى القبلة كان(5/310)
ظلك عن يمينك فإذا ارتفعت الشمس واستوت في وسط السماء كان ظلك خلفك فإذا مالت الشمس الى الغروب كان ظلك عن يسارك.
(داخِرُونَ) : خاضعون صاغرون.
الإعراب:
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي والواو عاطفة على محذوف مقدر يقتضيه السياق أي ألم ينظروا ولم يروا متوجهين الى ما خلق الله والى ما جار ومجرور متعلقان بيروا، وهذه الرؤية لما كانت بمعنى النظر وصلت بإلى لأن المراد منها الاعتبار وذلك الاعتبار لا يتأتى إلا بنفس الرؤية التي يكون معها النظر إلى الشيء لتدبره والتبصر فيه والتأمل بمغابه وعواقبه، وجملة خلق الله صلة ومن شيء حال من ما خلق الله وصح أن تكون مبنية لوصفها مع أن كلمة شيء مبهمة وجملة يتفيأ ظلاله صفة لشيء وظلاله فاعل يتفيأ وعن اليمين حال وعن الشمائل عطف ويصح أن تكون «عن» اسما بمعنى جانب فعلى هذا تنتصب على الظرف ويصح أن تتعلق بتتفيأ ومعناه المجاوزة أي تتجاوز الظلال عن اليمين الى الشمال، بقي هنا سؤال وهو لماذا أفرد اليمين وجمع الشمال وأجاب العلماء بأجوبة عديدة أقربها الى المنطق أن الابتداء يقع من اليمين وهو شيء واحد فلذلك وحد اليمين ثم ينتقص شيئا فشيئا وحالا بعد حال فهو بمعنى الجمع فصدق على كل حال لفظ الشمائل فتعدد بتعدد الحالات، وللفراء رأي طريف قال: كأنه إذا وحّد ذهب الى واحد من ذوات الظلال وإذا جمع ذهب إلى كلها لأن قوله «ما خلق الله من شيء» لفظه واحد ومعناه الجمع،(5/311)
فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله تعالى «وجعل الظلمات والنور» وقال ابن الصائغ: «أفرد وجمع بالنظر الى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقي منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان في الآية، هذا من جهة المعنى وفيه من جهة اللفظ المطابقة لأن سجّدا جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ولحظهما معا وتلك الغاية في الإعجاز» . وقيل أفرد اليمين مراعاة للفظ ما وجمع ثانيا مراعاة لمعناها وقد أفرد السهيلي رسالة لطيفة على هذه الآية.
وسجّدا حال من ظلاله والواو للحال وهم مبتدأ وداخرون خبر والجملة حالية من الضمير المستتر في سجدا فهي حال متداخلة. (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) لله جار ومجرور متعلقان بيسجد وما فاعل ليسجد وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات ومن دابة في موضع نصب على الحال المبنية والملائكة عطف على ما، وخصهم بالذكر بعد العموم تنويها بفضلهم.
(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) الواو عاطفة وهم مبتدأ وجملة لا يستكبرون خبر. (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) جملة يخافون نصب على الحال من ضمير يستكبرون أو بدل من جملة لا يستكبرون لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته ويخافون ربهم فعل مضارع وفاعل ومفعول به ومن فوقهم حال من ربهم أي يخافون ربهم عاليا عليهم في الرتبة على حد قوله «وهو القاهر فوق عباده» ويفعلون عطف على يخافون وما مفعول به وجملة يؤمرون صلة. (وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) الواو استئنافية وقال الله فعل وفاعل ولا ناهية وتتخذوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل وإلهين مفعول به واثنين صفة لإلهين ومن طريف المفارقات أن جميع المفسرين تقريبا يعربونها توكيدا(5/312)
لإلهين وليست اثنين من ألفاظ التوكيد المعنوي وليست من باب التوكيد اللفظي ويظهر أن إعرابهم لها كذلك قائم على المعنى لأن معنى الوصف هو التوكيد وسترى بحثا طريفا عن ذلك في باب البلاغة وقد اضطر بعضهم الى القول أن لفظ اثنين تأكيد لما فهم من إلهين من التثنية وقيل:
إن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير: لا تتخذوا إثنين إلهين. إنما هو إله واحد (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) إنما كافة ومكفوفة وهو مبتدأ وإله خبر وواحد صفة للتأكيد أيضا، فإياي: الفاء الفصيحة وإياي مفعول به لفعل مضمر يفسره ما بعده أي بقوله ارهبون، وارهبون فعل أمر والواو فاعل والنون للوقاية والياء المحذوفة لمراعاة الفواصل مفعوله.
(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لك أن تجعل الواو عاطفة والجملة معطوفة على قوله إنما هو إله واحد ولك أن تجعلها استئنافية والجملة مستأنفة وله خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة والأرض عطف على ما في السموات. (وَلَهُ الدِّينُ واصِباً) الواو عاطفة وله خبر مقدم والدين مبتدأ مؤخر وواصبا حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور والتقدير والدين ثابت له حال كونه واصبا وفي معنى الوصب قولان أحدهما الدوام أي له الدين ثابتا سرمدا وثانيهما المشقة والكلفة، أي له الدين ذا كلفة ومشقة. (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة على محذوف والتقدير أبعد ما تقرر من توحيد الله وبعد ما عرفتم أن كل ما سواه محتاج إليه كيف يعقل أن تتقوا غيره وترهبوا من غيره وغير الله مفعول مقدم لتتقون وتتقون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعله.
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على وجازتها على فنون من البلاغة تستوعب الأجلاد، وسنحاول تلخيصها في العبارات الآتية:(5/313)
1- التغليب:
في قوله تعالى «ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض إلخ» فقد أتى بلفظ ما الموصولية في قوله ما في السموات وما في الأرض للتغليب لأن ما لا يعقل أكثر ممن يعقل في العدد والحكم للأغلب وما الموصولة في أصل وضعها لما لا يعقل كما أن من موضوعة في الأصل لمن يعقل وقد تتخالفان، ومن استعمال «من» لغير العاقل في الشعر قول العباس بن الأحنف:
أسرب القطا هل من يعير جناحه ... لعلّي الى من قد هويت أطير
فأوقع من على سرب القطا وهو غير عاقل وقول امرؤ القيس:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
فأوقع من على الطلل وهو غير عاقل.
وفيما يلي ضابط هام نوجزه فبما يلي:
- قد تستعمل «من» لغير العقلاء في ثلاث مسائل:
آ- أن ينزل غير العاقل منزلة العاقل كقوله تعالى «ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة» وقول امرئ القيس السابق.
وكذلك قول العباس بن الأحنف السابق الذكر.(5/314)
فدعاء الأصنام التي لا تستجيب الدعاء في الآية الكريمة ونداء الطلل والقطا في البيتين سوغا تنزيلها منزلة العاقل إذ لا ينادى إلا العقلاء.
ب- أن يندمج غير العاقل مع العاقل في حكم واحد كقوله تعالى:
«أفمن يخلق كمن لا يخلق» وقوله «ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض» .
ح- أن يقترن غير العاقل بالعاقل في عموم مفصل كقوله تعالى:
«والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع» فالدابة تعم أصناف من يدب عن وجه الأرض وقد فصلها على ثلاثة أنواع.
- وقد تستعمل (ما) للعاقل إذا اقترن العاقل بغير العاقل في حكم واحد كما في الآية المتقدمة.
2- الاحتراس:
وذلك في قوله تعالى «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد» والمعروف انه لا يجمع بين العدد والمعدود إلا فيما وراء الواحد والاثنين فيقولون عندي رجال ثلاثة ونساء ثلاث لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص فلو لم تشفعه بصفته لما فهمت العدد المراد وأما رجل وامرأة ورجلان وامرأتان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد وامرأة واحدة ورجلان اثنان وامرأتان اثنتان أما في الآية فالاسم الحامل لمعنى الافراد والتثنية وهو إله وإلهان دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريد(5/315)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
الدلالة على أن المراد الذي يساق إليه الحديث هو العدد كان لا بد من أن يشفع بما يؤكده ألا ترى أنك لو قلت إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل إليك أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية فكان لا بد من الاحتراس وهذا من روائع البلاغة التي تتقطع دونها الأعناق.
3- الالتفات:
عن الغيبة الى التكلم فقد قال: «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إلخ» ثم عدل الى الحضور وهو قوله «وإياي فارهبون» لأن ذلك أبلغ في الرهبة من أن يقول جريا على السياق فإياه فارهبون.
[سورة النحل (16) : الآيات 53 الى 60]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)(5/316)
اللغة:
(تَجْئَرُونَ) تتضرعون والجؤار بوزن الزكام رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة قال الأعشى يصف راهبا:
يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا والمراوحة في العمل الانتقال من حالة الى أخرى ولا يفوتنك ما في هذا الوصف من دقة، وقبله:
وما آبلي على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا
والآبلي الراهب نسبة إلى آبل وهو قيم البيعة وصلب أي صور الصليب وفي القاموس: «جأر كمنع جأرا وجؤارا بوزن غراب رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث والبقرة والثور صاحا والنبت جأرا طال والأرض طال نبتها» .
(ظَلَّ) هنا بمعنى صار وليست على بابها من كونها تدل على الإقامة نهارا على الصفة المسندة إلى اسمها وعلى التقديرين هي ناقصة ومصدرها الظلول ويجوز ابقاؤها على معناها الأصلي وهو اتصاف الشيء بصفة ما نهارا فقط لأن الأوضاع تتشابه في الليل أي يظل سحابة نهاره مغتما مربدّ الوجه من الكآبة والحياء من الناس.
(كَظِيمٌ) : مملوء حنقا على الأنثى وفي المصباح: «كظمت الغيظ كظما من باب ضرب وكظوما أمسكت على ما في نفسك منه على صفح أو غيظ وفي التنزيل «الكاظمين الغيظ» وربما قيل كظمت على الغيظ وكظمني الغيظ فأنا كظيم ومكظوم وكظم البعير كظوما لم يجتر» .(5/317)
(هُونٍ) : هوان وذل قال اليزيدي: والهون الهوان بلغة قريش.
وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي وحكى الكسائي انه البلاء والمشقة قالت الخنساء:
نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
الإعراب:
(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) ما شرطية في محل رفع مبتدأ وفعل الشرط محذوف وبكم متعلقان بفعل الشرط المحذوف ومن نعمة حال من اسم الشرط واختار أبو البقاء أن تكون حالا من الضمير في الجار والفاء رابطة لجواب الشرط ومن الله خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهو من الله والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط المحذوف والجواب في محل رفع خبر ما ويجوز أن تكون ما موصولة مبتدأ والجار والمجرور صلتها والخبر قوله فمن الله والفاء رابطة لتضمن الموصول معنى الشرط والتقدير والذي استقر بكم وسيأتي مزيد بحث عن حذف فعل الشرط والجواب في باب الفوائد. (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) ثم حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب تجأرون وجملة مسكم مضافة للظرف ومسكم فعل ومفعول به مقدم والضر فاعل مؤخر والفاء رابطة واليه متعلقان بتجأرون وتجأرون فعل مضارع وفاعل وجملة فإليه تجأرون لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم. (ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) ثم حرف عطف وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بما في إذا من معنى المفاجأة ولا يجوز أن يكون العامل(5/318)
في إذا هو الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها وجملة كشف مضافة والضر مفعول به وعنكم متعلقان بكشف وإذا فجائية لا محل لها وقد تقدم القول فيها وفريق مبتدأ ساغ الابتداء به لأنه وصف بقوله منهم وبربهم جار ومجرور متعلقان يشركون وجملة يشركون خبر فريق ومن العجيب أن أبا البقاء تورط فقاس إذا الفجائية على إذا الشرطية فقال «فريق فاعل لفعل محذوف» وهذا طائح من أساسه. (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ليكفروا اللام لام التعليل ويكفروا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والجار والمجرور متعلقان بيشركون أي اشراكهم سببه كفر هم بربهم ويجوز أن تكون اللام لام الصيرورة أو العاقبة أي فعاقبة إشراكهم بالله غيره كفرهم بالنعمة التي هي كشف الضر عنهم فيكون متعلق ليكفروا بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف وبما متعلقان بيكفروا وجملة آتيناهم صلة، فتستعوا جملة معمولة لقول محذوف أي قل لهم يا محمد تمتعوا، فسوف تعلمون الفاء الفصيحة وسوف حرف استقبال وتعلمون فعل وفاعل ومفعوله محذوف تقديره عاقبة ذلك. (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) عطف على ما سبق ويجعلون فعل مضارع وفاعل ولما متعلقان بيجعلون وجملة لا يعلمون صلة لما والضمير في يعلمون عائد على المشركين والعائد محذوف يقدر بأنها تضر ولا تنفع ولك أن تجعله عائدا على الأصنام المدلول عليها بما أي الأشياء غير موصوفة بالعلم لا تشعر أجعلوا لها نصيبا في أنعامهم وزروعهم أم لا، ونصيبا مفعول يجعلون ومما صفة لنصيبا وجملة رزقناهم صلة. (تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) التاء تاء القسم الجارة ولفظ الجلالة مجرور بتاء القسم والجار والمجرور متعلقان بمحذوف تقديره قسمي واللام واقعة في جواب القسم وتسألن فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون(5/319)
المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين فاعل والنون المشددة نون التوكيد الثقيلة وقد تقدم لهذا الإعراب نظائر وعما متعلقان تسألن وجملة كنتم صلة وجملة تفترون خبر كنتم. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ويجعلون عطف على ما تقدم ولله متعلقان بيجعلون والبنات مفعول يجعلون وسبحانه منصوب على المصدرية بفعل محذوف والجملة معترضة لكونه بتقدير الفعل وقد وقعت في مطاوي الكلام لأن قوله تعالى ولهم ما يشتهون عطف على قوله لله البنات على رأي الزمخشري والفراء، ولهم خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وجملة يشتهون صلة وبعضهم أعراب ما في محل نصب فعل مقدر وجملة ولهم ما يشتهون إما استئنافية وإما حالية ولك أن تعطف ما على البنات ولهم على لله فيكون من قبيل عطف المفردات وهذا رأي الزمخشري والفراء وتعقبهما أبو حيان فقال «وذهلوا عن قاعدة في النحو وهي أن الفعل إذا رفع ضميرا وجاء بعده ضمير منصوب لا يجوز أن ينصبه الفعل إلا إن كان من باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية أو فقد وعدم
فيجوز زيد ظنه قائما تريد ظن نفسه، ولو قلت زيد ضربه فتجعل في ضرب ضمير رفع عائدا على زيد وقد تعدي للضمير المنصوب لم يجز والمجرور يجري مجرى المنصوب فلو قلت زيد غضب عليه لم يجز كما لم يجز زيد ضربه فلذلك امتنع أن يكون قولهم لهم متعلقا بيجعلون.
(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) الواو حالية من ضمير يجعلون أي الواو أي كيف يستسيغون نسبة البنات اليه تعالى وهذه حالتهم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة بشر أحدهم مضافة للظرف وبالأنثى جار ومجرور متعلقان ببشر وجملة ظل لا محل لها ووجهه اسم ظل ومسودا خبرها والواو حالية أيضا وهو مبتدأ وكظيم خبر والجملة حال متداخلة، وليس المراد السواد الذي(5/320)
هو ضد البياض بل المراد الكناية بالسواد عن التغير والانكسار بما يحصل من الغم، والعرب تقول لكل من لقي مكروها قد اسود وجهه غما وحزنا قاله الزجاج وقال الماوردي: بل المراد سواد اللون حقيقة قال: وهو قول الجمهور والأول أولى فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتم لا يحصل في لونه إلا مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي. (يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) جملة يتوارى حالية من الضمير في كظيم ومن القوم متعلقان به ومن سوء متعلق به أيضا فالأولى للابتداء والثانية للعلة وما اسم موصول مضاف لسوء وجملة بشر به صلة أي من الأنثى وسوءها حسب اعتقاداتهم أنها مستهدفة للغواية ويخافون عليها من الزنا ومن حيث كونها لا تكسب. (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) الهمزة للاستفهام وجملة يمسكه الاستفهامية معمولة لشيء محذوف هو حال من فاعل يتوارى أي يتوارى حائرا مترددا مترجحا بين اليقين والشك أيمسكه محتملا الذل أم يئده في الحياة ويمسكه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وعلى هون حال من الفاعل المستتر أو من المفعول به وأم حرف عطف ويدسه عطف على يمسكه وفي التراب متعلقان بيدسه والتذكير في يمسكه ويدسه مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ.
(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ألا حرف تنبيه وساء فعل ماض لإنشاء الذم وما نكرة منصوبة على التمييز أو موصولة فاعل ساء وجملة يحكمون صلة ولك أن تجعلها مصدرية والمصدر المؤول فاعل أي ساء حكمهم.
(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) للذين خبر مقدم وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون ومثل السوء مبتدأ مؤخر ولله المثل الأعلى عطف على ما سبق وهو مبتدأ والعزيز خبر أول والحكيم خبر ثان.(5/321)
الفوائد:
حذف فعل الشرط وجوابه:
يجوز حذف ما علم ما شرط إن كانت الأداة إن مقرونة بلا النافية كقول الأحوص يخاطب مطرا وكان مطر دميم الخلقة وتحته امرأة وسيمة:
فطلّقها فلست لها بكفء ... وإلّا يعل مفرقك الحسام
فحذف فعل الشرط لدلالة قوله فطلقها عليه وأبقى جوابه أي وإن لا تطلقها يعل ولهذه الشروط منع بعض المفسرين إعراب «وما بكم من نعمة فمن الله» شرطية واكتفى بأن جعلها موصولة لكن نقل النحاة ان هذه الشروط ليست ملزمة فقد يتخلف واحد من إن والاقتران بلا وقد يتخلفان معا فالأول ما حكاه ابن الأنباري في الإنصاف عن العرب: من يسلم عليك فسلم عليه ومن لا فلا تعبأ به أي ومن لا يسلم عليك فلا تعبأ به قال الشاطبي وهذا نص في الجواز والثاني نحو «وإن امرأة خافت من بعلها» فحذف الشرط مع انتفاء اقتران إن بلا والثالث كقوله:
متى تؤخذوا قسرا بظنة عامر ... ولم ينج إلا في الصفاد يزيد
أي متى تثقفوا تؤخذوا فحذف الشرط مع انتفاء الأمرين ويجوز حذف ما علم من جواب شرط ماض نحو «فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية» فإن استطعت شرط حذف جوابه لدلالة الكلام عليه والتقدير فافعل والشرط الثاني وجوابه جواب للشرط الأول والمعنى إن استطعت منفذا تحت الأرض تنفذ فيه فتطلع(5/322)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
لهم بآية أو سلما تصعد به الى السماء فتنزل منها بآية فافعل وسيأتي تفصيل ذلك في مواضعه.
وفيما يلي عبارة ابن هشام في المغني قال عند الكلام على ما الشرطية: «وقد جوزت في: وما بكم من نعمة فمن الله على أن الأصل وما يكن ثم حذف فعل الشرط كقوله:
إن العقل في أموالنا لا نضق بها ... ذراعا وإن صبرا فنصبر للصبر
أي إن يكن العقل وان نحبس حبسا والأرجح في الآية أنها موصولة وان الفاء داخلة على الخبر لا شرطية والفاء داخلة على الجواب» .
[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)(5/323)
اللغة:
(مُفْرَطُونَ) : اسم مفعول من أفرط أي أعجل يقال: أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء إذا قدمته وقيل منسيون متروكون من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته وفي المختار: «وفرط القوم سبقهم الى الماء فهو فارط والجمع فراط بوزن كتاب وبابه نصر وأفرطه تركه ومنه قوله تعالى «وانهم مفرطون» أي متروكون في النار منسيون وأفرط في الأمر جاوز الحدّ فيه» وفي القاموس: «وأفرط فلانا: تركه وتقدمه وجاوز الحد وأعجل بالأمر وانهم مفرطون أي منسيون متروكون في النار أو مقدمون معجلون إليها.
وفي الحديث: عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني فرطكم على الحوض من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم» وقال القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فراط لورّاد
الإعراب:
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) الواو استئنافية ولو شرطية ويؤاخذ الله الناس فعل مضارع وفاعل ومفعول به وبظلمهم الباء حرف جر للسببية أي بسبب ظلمهم متعلقان بيؤاخذ وجملة ما ترك لا محل لها وترك فعل وفاعل مستتر وعليها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لدابة ومن حرف جر زائد ودابة مجرور(5/324)
لفظا مفعول به محلا والضمير يعود على الأرض وان لم تذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة فإن الجميع مستقرون على الأرض.
(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الواو عاطفة ولكن حرف استدراك مهمل لأنها مخففة ويؤخرهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلى أجل متعلقان بيؤخرهم ومسمى صفة أي معين. (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) الفاء عاطفة أو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء أجلهم مضافة للظرف وجملة لا يستأخرون لا محل لها وساعة ظرف متعلق بيستأخرون ولا يستقدمون عطف على لا يستأخرون وقد تقدمت الاشارة في آية مماثلة لها إلى معنى لا يستأخرون ولا يستقدمون. (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ) ويجعلون فعل مضارع وفاعل ولله متعلقان بيجعلون وما مفعول يجعلون وجملة يكرهون صلة وتصف ألسنتهم الكذب فعل مضارع وفاعل ومفعول به وقد فسر الكذب بقوله: (أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى) فأن وما في حيزها بدل من الكذب بدل الكل من الكل ولهم خبر أن المقدم والحسني اسمها المؤخر. (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) تقدم القول في لا جرم، وأن وخبرها المقدم واسمها المؤخر وإنهم مفرطون عطف على أن لهم النار. (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) التاء تاء القسم والجر والجار والمجرور متعلقان بفعل القسم المقدر واللام واقعة في جواب القسم وقد حرف تحقيق وأرسلنا فعل وفاعل والى أمم متعلقان بأرسلنا ومن قبلك صفة. (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الفاء عاطفة وزين فعل ماض ولهم متعلقان بزين والشيطان فاعل وأعمالهم مفعول به. (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الفاء عاطفة وهو مبتدأ ووليهم خبر واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال إذا(5/325)
أردت حكاية الحال الآتية أو في الدنيا أو متعلق بوليهم إذا أردت حكاية انحال الماضية التي كان الشيطان يزين لهم أعمالهم فيها بمعنى ناصرهم ومعينهم، ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة. (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) الواو عاطفة وما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليك متعلقان بأنزلنا والكتاب مفعول به وإلا أداة حصر ولتبين لام التعليل ومدخولها متعلقة بأنزلنا على معنى التعليل وإنما جر المفعول لأجله باللام لاختلاف فاعله مع فاعل الفعل فإن المنزل هو الله والمبين هو النبي. (وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) هدى ورحمة عطف على محل لتبين وقد انتصبا نصب المفعول لأجله لاتحاد فاعلهما مع فاعل الفعل لأن الهادي والرحم هو الله كما هو المنزل ولقوم صفة أو متعلقان بالمصدر وجملة يؤمنون صفة لقوم.
الفوائد:
بحث مهم عن فاء التعقيب:
المعروف عن الفاء العاطفة أنها للعطف مع التعقيب ولكنه ليس التعقيب الفوري بل هي للتعقيب حسب ما يصح إما عقلا وإما عادة ولهذا صح أن يقال دخلت البصرة فبغداد وإن كان بينهما زمان كثير لكن يعقب دخول هذه دخول تلك على ما يمكن بمعنى انه لم يمكث بواسط مثلا سنة أو مدة طويلة بل طوى المنازل بعد البصرة ولم يقم بواحد منها إقامة يخرج بها عن حد السفر إلى أن دخل بغداد، هذا الذي يقوله أهل اللغة وأهل الأصول وليست الفاء للفور الحقيقي الذي معناه حصول هذا بعد هذا بغير فصل ولا زمان، ألا ترى إلى قوله تعالى «فإذا جاء أجلهم» فإن مجيء الأجل متراخ عن التأخير وسيأتي لهذا نظائر.(5/326)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 69]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
اللغة:
(الْأَنْعامِ) : تقدم شرحها في سورة الانعام وقد ذكر سيبويه الانعام في باب مالا ينصرف في الأسماء الواردة على أفعال ولذلك رجع الضمير اليه مفردا وقد رجع الضمير إليها مؤنثا في سورة المؤمنون لأن معناها الجمع ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان أحدهما أن يكون(5/327)
تكسير نعم كأجبال في جبل وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع فاذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله:
في كل عام نعم تحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
وإذا أنث ففيه وجهان انه تكسير نعم وانه في معنى الجمع، ولسيبويه بحث طريف كما قلنا فقد عدّ المفردات المبنية على أفعال كأخلاق وأمشاج فيعامل بالتذكير تارة باعتبار لفظه وبالتأنيث أخرى اعتبارا بمعناه وقيل هو جمع نعم كأسباب وسبب.
وقال ابن يعيش: «واعلم أن أبنية القلة أقرب الى الواحد من أبنية الكثرة ولذلك يجري عليها كثير من أحكام المفرد ومن ذلك جواز تصغيره على لفظه خلافا للجمع الكثير ومنها جواز وصف المفرد بها:
غرب ثوب أسمال وبرمة اكسار ومنها جواز عود الضمير إليها بلفظ الإفراد نحو قوله تعالى: «وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه» .
(عبرة) : عظة أي دلالة يعبر عليها من الجهل الى العلم فهي مصدر بمعنى العبور أطلق على ما يعبر به الى العلم مبالغة في كونه سببا الى العبور.
(فَرْثٍ) : الفرث الروث والأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش.
قال الحريري في درة الغواص: «ويقولون: فرث لما يخرج من الكرش وهو وهم لأنه إنما يسسى به مادام فيها فإذا خرج سمي سرجينا(5/328)
ومن أمثال العرب فيمن يحفظ الحقير ويضع الجليل: «فلان يحفظ الفرث ويفسد الحرث» وأجيب عن هذا بأن ذلك القول باعتبار ما كان ومثله كثير مطرد.
(سائِغاً) : سهل المرور في الحلق لا يغص به.
(سَكَراً) : السكر بفتحتين الخمر سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا، قال:
فجاءونا لهم سكر علينا ... فأجلى اليوم والسكران صاح
وفي القاموس والتاج: سكر يسكر من باب تعب سكرا بفتحتين وسكرا بضم فسكون وسكرا بضمتين وسكرا بفتح فسكون وسكرانا بفتحتين من الشراب نقيض صحا فهو سكر وسكران وهي سكرة وسكرى وسكرانة والجمع سكرى وسكارى بفتح السين وسكارى بضمها وجاء في غيره: «في السكر أربعة أقوال: الأول أنه من أسماء الخمر والثاني أنه مصدر في الأصل ثم سمي به الخمر والثالث أنه اسم للخل بلغة الحبشة والرابع أنه اسم للعصير ما دام حلوا كأنه سمي مجازا لمآله لذلك لو ترك» .
(يَعْرِشُونَ) : يبنون وبابه ضرب ونصر كما في المختار وفي القاموس: وعرش يعرش بنى عريشا كأعرش وعرش بالتثقيل.
الإعراب:
(وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) الله مبتدأ وجملة أنزل خبر ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأحيا عطف(5/329)
على أنزل وبه متعلقان بأحيا والأرض مفعول وبعد موتها الظرف متعلق بمحذوف حال. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسم ان ولقوم صفة لآية وجملة يسمعون صفة لقوم. (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) الواو عاطفة وإن حرف مشبه بالفعل ولكم خبرها المقدم وفي الأنعام حال لأنه كان صفة لعبرة واللام المزحلقة وعبرة اسمها المؤخر. (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) نسقيكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ومما متعلقان بنسقيكم وفي بطونه صلة ما وجملة نسقيكم مفسرة لعبرة أو خبر لمبتدأ محذوف على حد قوله «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» كأنه قيل: العبرة هي نسقيكم ومن بين فرث ودم حال لأنه كان في الأصل صفة لقوله لبنا وقدم عليه ولك أن تجعله حالا من ما التي قبله ومعنى من الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية ابتدائية لأن بين الفرث والدم مكان الاسقاء الذي منه يبتدأ ولبنا مفعول ثان لنسقيكم وسائغا صفة وللشاربين متعلقان بسائغا. (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ومن ثمرات النخيل خبر مقدم وجملة تتخذون صفة لموصوف محذوف هو المبتدأ المؤخر أي ثمر كانوا يتخذون منه سكرا ورزقا حسنا لأنهم كانوا يأكلون منه بعضا ويتخذون السكر من بعضه الآخر ولك أن تعلقه بمحذوف دل عليه نسقيكم أي نسقيكم من عصير النخيل والأعناب وعندئذ تكون جملة تتخذون حالا وقال أبو حيان: «والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون وكررت من للتوكيد وكان الضمير مفردا راعيا لمحذوف أي ومن عصير ثمرات أو على معنى الثمرات وهو الثمر وقيل تتعلق بنسقيكم فيكون معطوفا على مما في بطونه أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة فيكون من عطف الجمل والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل(5/330)
وقيل معطوف على الأنعام أي ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة ثم بيّن العبرة بقوله تتخذون» وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون تتخذون صفة موصوف محذوف كقوله «بكفي كان من أرمى البشر» تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه. والضمير في منه يعود على العصير المقدر والأول أضبط وسكرا مفعول تتخذون ورزقا عطف على سكرا وحسنا صفة ولا يخفى ما يتولد عن العنب والتمر من خل وزبيب ودبس وفي المختار: الدبس ما يسيل من الرطب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآية اسمها المؤخر وجملة يعقلون صفة لقوم. (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) الواو عاطفة على ما قبلها لتتساوق الدلائل على عجائب صنعته تعالى وبدائع قدرته ولك أن تجعلها مستأنفة مسوقة لما ذكر وأوحى ربك فعل وفاعل والى النحل متعلقان بأوحى وأن هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول دون حروفه وهو الشرط المعقود لأن التفسيرية، ولك أن تجعلها مصدرية وهي مع مدخولها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأوحينا أي بأن اتخذي وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب الفوائد فتنبّه له ومن الجبال متعلقان باتخذي فمن للتبعيض لأنها لا تبني بيوتها في كل جبل وشجر وكل ما يعرش وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب البلاغة وبيوتا مفعول اتخذي ومن الشجر عطف على من الجبال وكذلك مما يعرشون.
(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) ثم حرف عطف للتراخي والسرّ فيه أن سعيها لطلب الرزق بعد اتخاذها البيوت نسكناها لتطلب بعد ذلك الرزق في مظانه، وكلّيّ فعل أمر وفاعل ومن كل الثمرات متعلقان بكلّيّ فاسلكي الفاء عاطفة واسلكي عطف على كلّيّ وسبل ربك مفعول به وذللا حال من السبل لأن الله ذللها لها ووطأ لها(5/331)
مهادها ومسالكها أو من فاعل اسلكي أي وأنت منقادة لما أمرت به وهيئت له. (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) في الكلام التفات من الخطاب الى الغيبة سيأتي الكلام عنه في باب البلاغة ويخرج فعل مضارع ومن بطونها متعلقان بيخرج وشراب فاعل يخرج ومختلف صفة لشراب وألوانه فاعل مختلف لأنه اسم فاعل وفيه خبر مقدم وشفاء مبتدأ مؤخر وللناس جار ومجرور متعلقان بشفاء والجملة صفة ثانية لشراب. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تقدم إعراب نظيرتها قريبا فجدد به عهدا.
البلاغة:
1- الالتفات:
في قوله تعالى «يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه» إلى آخر الآية، التفات من الخطاب الى الغيبة ولو جاء الكلام على النسق الأول لقيل من بطونك، وإنما صرف الكلام هاهنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة وهي انه ذكر للبشر العسل وأوصافه وألوانه المختلفة وأخبرهم أن فيه فوائد شتى لهم ليلفت انتباههم اليه ولو قال من بطونك لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة وليس ذلك بخاف عن نقدة الكلام.
2- التنكير:
ونكر قوله «فيه شفاء» ولم يقل فيه الشفاء لكل الناس فاندفع الاعتراض بأن كثيرين يأكلون العسل ولا يشفون مما ألم بهم. فيلاحظ أن النكرة في سياق الإثبات لا تفيد العموم وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه(5/332)
وسلم فقال يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال سقيته عسلا فما زاد إلا استطلاقا، قال اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه، ثم جاء فقال ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه عسلا فبرىء.
3- التنكيت:
في قوله تعالى: «أن اتخذي من الجبال بيوتا» وقد تقدمت الاشارة إليه وهو هنا في قوله من الجبال إذ معنى من هنا للتبعيض ولم يقل في الجبال لأنها لا تبني بيوتها في كل جبل وفي كل شجر وكل ما يعرش فلم يترك لها الحرية في بناء البيوت ولم يكل الأمر إلى شهواتها كما وكله إليها في قوله ثم كلّيّ من الثمرات وإنما خولف ذلك وحجر عليها في المسكن ولم يحجر عليها في المأكل لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق لاستمراء مشتهاها منه وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع ولهذا المعنى بالذات دخلت ثم لتفاوت الأمر وتباعده بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت والإطلاق لها في تناول الثمرات.
الفوائد:
أن التفسيرية:
تقدم القول في «أن التفسيرية» وانها الواقعة بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه وقد وقعت هنا بعد الإيحاء لما فيه من معنى القول فما بعدها لا محل له من الإعراب ومن طريف المناقشات أن أبا عبد الله الرازي وهو الفخر المشهور منع ذلك وقال إننا لا نسلم أنها مفسرة كيف(5/333)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
وقد انتفى شرط التفسير لأن الوحي هنا إلهام باتفاق وليس في الإلهام معنى القول قال: وإنما هي مصدرية أي باتخاذ الجبال بيوتا ولكن الفخر الرازي جنح به الخيال هذه المرة فلم يقع على الصواب إذ المقصود من القول الإعلام والإلهام فعل من أفعال الله يتضمن الإعلام بحيث يكون الملهم عالما بما ألهم به وإلهام الله النحل من هذا القبيل.
[سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 72]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
اللغة:
(حَفَدَةً) : الحفدة: جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة، قال:
حفد الولائد بينهن وأسلمت ... بأكفهنّ أزمة الأجمال(5/334)
وفي الصحاح: «الحفدة الأعوان والخدم أيضا» وفي المختار:
«الحفد السرعة وبابه ضرب وحفدا أيضا بفتح الفاء ومنه قولهم في الدعاء وإليك نسعى ونحفد، وأحفده حمله على الحفد وبعضهم يجعل أحفد لازما والحفد بفتحتين الأعوان والخدم وقيل ولد الولد واحدهم حافد» وفي القاموس والتاج: «حفد يحفد من باب ضرب حفدا بسكون الفاء وحفودا وحفدانا واحتفد في العمل أسرع وحفده خدمه وأحفد الظلم أسرع وأحفده حمله على الحفد أي الإسراع والحفيد ولد الولد وجمعه حفداء والحافد: الخادم والتابع والناصر وولد الولد وجمعه حفدة وحفد والحفدة أيضا: صناع الوشي» وللمفسرين كلام طويل حول المراد بهم واللفظ يحتمل الجميع لاشتمال الحفدة على الكثير من المعاني كما تقدم.
الإعراب:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) الله مبتدأ وجملة خلقكم خبر ثم حرف عطف للتراخي كما تقدم ومنكم الواو حرف عطف ومنكم خبر مقدم وهو معطوف على مقدر أي فمنكم من يبقى محتفظا بقوة جسمه وعقله ومنكم، ومن مبتدأ مؤخر وجملة يرد صلة ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإلى أرذل العمر متعلقان بيرد وأرذل العمر هو الهرم حيث تغور الأعين وتضعف الحركات وترتعش المفاصل ويدب الوهن إلى جميع أنحاء الجسم ويستولي الخرف عليه.
(لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) اللام لام التعليل وكي حرف مصدري ونصب ولا نافية ويعلم منصوب بكي واللام ومدخولها متعلقة بيرد ويجوز أن تكون اللام للصيرورة أي فكانت عاقبته أنه رجع الى حال الطفولة في النسيان وعدم الإدراك، وبعد علم ظرف متعلق(5/335)
بيعلم وشيئا مفعول به ليعلم ولك أن تجعل المسألة من باب التنازع فتنصب شيئا بالعلم وهو مصدر وإن واسمها وعليم خبرها الأول وقدير خبرها الثاني. (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الله مبتدأ وجملة فضل خبر وبعضكم مفعول به وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بفضل وفي الرزق حال أي حالة كونكم مرزوقين فمنكم غني ومنكم فقير. (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) الفاء عاطفة وما نافية حجازية والذين اسمها وجملة فضلوا صلة والباء حرف جر زائد ورادي مجرور لفظا خبر ما محلا ورزقهم مضاف اليه من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما متعلقان برادي وملكت أيمانهم صلة.
(فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) الفاء عاطفة للدلالة على أن التساوي مترتب على التراد أي لا يردون عليهم ردا مستتبعا للتساوي وإنما يردون عليهم شيئا يسيرا وهم مبتدأ وفيه متعلقان بسواء وسواء خبر هم وسيأتي بحث هذا الإيجاز البليغ في باب البلاغة. (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) استفهام إنكار وتوبيخ والفاء عاطفة على مقدر أي يشركون به فيجحدون نعمته وبنعمة الله متعلقان بيجحدون لأنه متضمن معنى الكفران. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) الله مبتدأ وجملة جعل خبر ولكم متعلقان بجعل ومن أنفسكم حال لأنه كان في الأصل صفة لأزواجا وأزواجا مفعول جعل (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) عطف على ما تقدم والاعراب مماثل لها (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) ورزقكم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به ومن الطيبات متعلقان برزقكم والهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والفاء عاطفة على مقدر أي يكفرون بالله فيؤمنون بالباطل وبنعمة الله متعلقان يكفرون وهم مبتدأ وجملة يكفرون خبر.(5/336)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
البلاغة:
الإيجاز:
في قوله تعالى «فهم فيه سواء» إيجاز بليغ، وإشارة الى أرفع النظم التي يتحتم على البشر سلكوكها في دنياهم لتستقيم أمورهم، وتزول أسباب العداوة والخصام من قلوبهم وليسود السلام بينهم فقد أخبر تعالى أنه جعلهم متفاوتين في الرزق ولكن هذا التفاوت لا يعني تفضيلهم عليهم في الانسانية أو كأنه يشير إلى أن الواجب يحتم عليكم أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملابس والمطاعم روي عن أبي ذر الغفاري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» ويزداد هذا المعنى رسوخا بما تلاه من توبيخ لهم وتقريع لأنهم فرقوا بين الناس وما يزوا بين الطبقات. وفي قوله تعالى «إلى أرذل العمر» إيجاز آخر، إلى الهرم وما يستوجبه من حالات الضعف والخرف التي تدنو بالعاجز والهرم إلى عالم الطفولة الأول مع الفارق البيّن بين الأمل المترتب على الطفولة ومخايلها المبشرة بالفوز في المستقبل والأمل بالحياة الراغد في الآتي أما الآن فليس أمامه إلا مكابدة الحالات التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها وهي قوله: «اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» .
[سورة النحل (16) : الآيات 73 الى 76]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(5/337)
اللغة:
(أَبْكَمُ) : الأبكم الذي ولد أخرس فهو أخص من مطلق الأخرس وفي القاموس: «البكم محرك الخرس كالبكامة أو مع عيّ وبله أو أن يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر وبكم كفرح فهو أبكم وبكيم والجمع بكم، وبكم ككرم امتنع عن الكلام تعمدا» وروى ثعلب عن ابن الاعرابي: الأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر وعلى هذا يتميز عن الأخرس بأنه لا يفهم ولا يفهم أما الأخرس فيفهم بالسماع أو بالاشارة ويفهم بالاشارة.
(كَلٌّ) : ثقيل على من يلي أمره ويعوله وفي القاموس وغيره:
«مصدر كل يكل من باب تعب كلّا وكلة وكلالة وكلولا وكلالة وكلولة تعب وأعيا والضعيف والذي لا ولد له ولا والد وقفا السكين أو السيف والوكيل والصنم والمصيبة تحدث والعيّل والعيال والثقل ويطلق الكلّ على الواحد وغيره وبعضهم يجمع المذكر والمؤنث على كلول» .(5/338)
الإعراب:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الواو عاطفة ويعبدون فعل مضارع وفاعل ومن دون الله حال وما مفعول به وجملة لا يملك صلة ورزقا مفعول به ومن السموات والأرض صفة لرزقا أو متعلقان برزقا. (شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) شيئا مفعول به لرزقا إذا أردت به المصدر أو اسم المصدر كقوله تعالى: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ... » ، وان أردت به المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا وسيأتي في باب الفوائد تفصيل حول إعراب شيئا لا بد من معرفته، ولا يستطيعون يجوز في هذه الجملة العطف على صلة ما والاخبار عنهم بعدم الاستطاعة باعتبار معناها لأن ما هنا مفردة لفظا جمع معنى ويجوز أن تكون مستأنفة وعلى كل حال الواو عائدة على ما والمراد بها آلهتهم (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) الفاء استئنافية ولا ناهية وتضربوا فعل مضارع مجزوم والواو فاعل ولله متعلقان بتضربوا والأمثال مفعول به لأن ضرب المثل تشبيه حال بحال وذلك يتنافى مع الذات الإلهية. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إن واسمها وجملة يعلم خبر والجملة تعليلية وأنتم الواو حالية وأنتم مبتدأ وجملة لا تعلمون خبر. (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) جملة مستأنفة لتعليمهم كيف يضرب الله المثل، وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به وعبدا بدل من مثلا ومملوكا صفة وجملة لا يقدر على شيء صفة ثانية وعلى شيء متعلقان بيقدر أي من التصرفات (وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) الواو عاطفة ومن عطف على عبدا مملوكا ومن اسم موصول أو نكرة موصوفة كأنه قيل وحرا رزقناه ليطابق عبدا وجملة رزقناه صلة على الأول وصفة على(5/339)
الثاني ونا فاعل والها مفعول به ومنا متعلقان برزقناه ورزقا مفعول به ثان إن أردت به الحال أو مفعول مطلق إن أردت به المصدر وحسنا صفة لرزقا. (فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ) الفاء عاطفة وهو مبتدأ وجملة ينفق خبر ومنه متعلقان بينفق وسرا وجهرا مصدران منصوبان على المفعولية المطلقة أي انفاق سر وجهر أو منصوبان على الحال أي مسرا ومجاهرا وتقديم السر على الجهر مشعر بفضيلته عليه وأن الثواب فيه أكثر، وهل حرف استفهام للنفي وجمع الضمير في يستوون وان تقدمه اثنان لأن المراد جنس الأحرار والعبيد المدلول عليهما والمعنى لا يستوي الأحرار والعبيد. (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحمد مبتدأ ولله خبر وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر وأتى بالجملة الاخبارية إرشادا للعبد الى وجوب شكر المنعم على ما أسبغ من العوارف والآلاء. (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) الواو عاطفة وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به ورجلين بدل من مثلا. (أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) أحدهما مبتدأ وأبكم خبره وجملة لا يقدر على شيء صفة أبكم (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) الواو حالية وهو مبتدأ وكل خبره وعلى مولاه متعلقان بكل (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية، وهو متعلق بفعل الشرط كما هي القاعدة وقيل بجوابه ولكل وجه وقال الرضي: «العامل في متى وكل ظرف فيه معنى الشرط شرطه على ما قاله الأكثرون» غير إذا والصحيح ان العامل فيها الجواب ووجهه ابن الحاجب فقال: ان الشرط والجزاء جملتان ولا يستقيم عمل الجواب في اسم الشرط لأنه يؤدي إلى أنه يصير جملة واحدة لأنه إذا كان ظرفا له كان من تتمته ولا يكون جملة ثانية أما إذا فالعامل فيها هو الجزاء(5/340)
ووجه ذلك قوة توهم الاضافة في إذا وضعفه في متى، وفصل بعضهم فقال: والأولى أن نفصل ونقول إن تضمن إذا معنى الشرط فحكمه حكم أخواته من متى ونحوه وإن لم يتضمن نحو إذا غربت الشمس جئتك بمعنى أجيئك وقت غروب الشمس فالعامل هو الفعل الذي في محل الجزاء وإن لم يكن جزاء في الحقيقة دون الذي في محل الشرط إذ هو مخصص للظرف وتخصيصه له إما لكونه صفة له أو لكونه مضافا اليه ولا ثالث بالاستقراء. ويوجهه فعل الشرط ولا نافية
ويأت جواب الشرط وبخير متعلقان بيأت. (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هل حرف استفهام معناه النفي ويستوي فعل مضارع وهو تأكيد للفاعل المستتر ومن عطف على الفاعل المستتر في يستوي والشرط موجود وهو العطف بالضمير المنفصل وهو لفظ هو وهو مبتدأ وعلى صراط مستقيم خبره والجملة الاسمية صلة من وحذف مقابل أحدهما أبكم للدلالة عليه بقوله ومن يأمر أي والآخر ناطق قادر خفيف على مولاه أينما يوجهه يأت بخير.
الفوائد:
الفرق بين المصدر واسم المصدر:
كثر الاختلاف في إعراب شيئا ولهذا كان لا بد من التبسّط في إعمال المصدر، والفرق بينهما: ان المصدر هو الذي له فعل يجري عليه كالانطلاق في انطلق واسم المصدر هو اسم المعنى وليس له فعل يجري عليه كالقهقرى فإنه لنوع من الرجوع ولا فعل له يجري عليه من لفظه وقد يقولون مصدر واسم مصدر في الشيئين المتغايرين لفظا أحدهما للفعل والآخر للدلالة التي يستعمل بها الفعل كالطهور(5/341)
والطهور والأكل والأكل فالطهور المصدر والطهور اسم ما يتطهر به والأكل المصدر والأكل ما يؤكل.
ويعمل المصدر عمل فعله إن كان يحل محله فعل إما مع أن المصدرية والزمان ماض أو مستقبل نحو عجبت من ضربك زيدا أمس، ونحو يعجبني ضربك زيدا غدا وإما مع ما المصدرية والزمان حال فقط كيعجبني ضربك زيدا الآن أي ما تضربه الآن وعمل المصدر مضافا أكثر من عمله غير مضاف نحو: «ولولا دفع الله الناس» وعمله منونا هو القياس لأنه أقرب إلى الشبه بالفعل لتنكيره نحو: «أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما» فإطعام مصدر وفاعله مستتر ويتيما مفعوله وعمله معرفا بأل قليل في السماع ضعيف في القياس لبعده من مشابهة الفعل كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخي الأجل
فالنكاية مصدر مقرون بأل وأعداءه مفعوله والمعنى ضعيف نكايته أعداءه يظن أن الفرار من الموت يباعد الأجل.
أما اسم المصدر فيعمل أيضا كالمصدر إذا كان ميميا كقول العرجي وقيل الحارث بن خالد المخزومي:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
فمصاب مصدر ميمي مضاف إلى فاعله ورجلا مفعوله وجملة أهدى السلام نعت رجلا وتحية مفعول مطلق وستأتي قصة هذا البيت، وإن كان غير ميمي لم يعمل عند البصريين لأن أصل وضعه لغير المصدر(5/342)
فالغسل موضوع لما يغتسل به والوضوء لما يتوضأ به ويعمل عند الكوفيين وجماعة من البصريين وعليه قول القطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
فعطاء اسم مصدر مضاف الى فاعله والمائة مفعوله الثاني أما الأول فهو محذوف أي عطائك إياي المائة الرتاع أي الراتعة وهي الإبل التي ترتعي والواقع أن البصريين اضطربت أقوالهم فقال بعضهم بالجواز وقال بعضهم بالمنع.
قصة بيت العرجي:
غنت جارية بحضرة الواثق من شعر العرجي:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
فاختلف من بالحضرة في إعراب رجلا فمنهم من نصبه وجعله اسم ان ومنهم من رفعه على انه خبرها والجارية مصرة على أن شيخها أبا عثمان المازني لقنها إياه بالنصب فأمر الواثق بأشخاصه قال أبو عثمان: فلما مثلت بين يديه قال: ممن الرجل؟ قلت من مازن، قال: من أي الموازن؟
قلت: من مازن ربيعة فكلمني بكلام قومي وقال با اسمك؟ لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما إذا كانت في أول الأسماء فكرهت أن أجيبه على لغة قومي لئلا أواجهه بالمكر فقلت: بكر يا أمير المؤمنين ففطن لما قصدته وأعجبه مني ذلك ثم قال: ما تقول في قول الشاعر:
أظلوم إن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم(5/343)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
أترفع رجلا أم تنصبه فقلت الوجه النصب قال ولم ذلك؟ فقلت:
لأن مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم وهو بمنزلة قولك: إن ضربك زيدا ظلم فالرجل مفعول مصاب ومنصوب به والدليل عليه ان الكلام متعلق الى أن تقول ظلم فيتم فاستحسنه الواثق وأمر له بألف دينار.
[سورة النحل (16) : الآيات 77 الى 82]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)(5/344)
اللغة:
(ظَعْنِكُمْ) : سفركم يقال ظعن يظعن من باب فتح ظعنا وظعنا وظعونا ومظعنا سار ورجل قال:
أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا ... إن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا
والقاعدة هي: كل ما كان بوزن فعل مما عينه حرف حلق يجوز تسكينه كبحر ونحر ونهر وشعر وشهر، وقال ابن درستويه في شرح الفصيح: أهل اللغة وأكثر النحويين يقولون: كل ما كان الحرف الثاني منه حرف حلق جاز فيه التسكين والفتح وقال الحذاق: ليس ذلك صحيحا ولكن هي كلمات فيها لغتان فمن سكن من العرب لا يفتح ومن فتح لا يسكن إلا في ضرورة شعر والدليل على ذلك انه قد جاء عنهم مثل ذلك في كلام كثير ليس في شيء منه من حروف الحلق شيء مثل القبض والقبض فإنه جاء فيهما الفتح والإسكان، قال: ومما يدل على بطلان ما ذهبوا اليه أنه قد جاء في النطع أربع لغات فلو كان ذلك من أجل حروف الحلق لجازت هذه الأربع في الشعر والنهر وكل ما كان فيه شيء من حروف الحلق قال: ومما جاء فيه الوجهان مما ثانية حرف حلق: الشعر والشعر والنهر والنهر والصخر والصخر والبعر والبعر والظعن والظعن والدأب والدأب والفحم والفحم والسحر والسحر للرئة، ومما جاء فيه الوجهان وليس ثانيه حرف حلق نشز من الأرض ونشز مرتفع ورجل صدع وصدع خفيف اللحم وليلة النفر والنفر وسطر وسطر وقدر وقدر ولفظ ولفظ وشمع وشمع ونطع ونطع وغذل وغذل وطرد وطرد وطرد وغبن وغبن ودرك ودرك وشبح وشبح للشخص، وهو صريح في أن طريق ذلك السماع.(5/345)
(أَثاثاً) : الأثاث: متاع البيت الكبير وأصله من أث أي تكاثف وكثر ومنه شعر أثيث أي كثير مجتمع قال امرؤ القيس:
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف لفظيهما، فإن قلت لا بد من فرق بين الأثاث والمتاع حتى يصح ذكر واو العطف والعطف يوجب المغايرة فما هو هذا الفرق؟ قلت الأثاث ما كثر من آلات البيت وحوائجه فيدخل فيه جميع أصناف المال، والمتاع ما ينتفع به في البيت خاصة فظهر الفرق بين اللفظين.
(أكنان) : جمع كن وهو ما يستكن فيه من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف وفي المختار: «الكنّ السترة والجمع أكنان قال تعالى: «وجعل لكم من الجبال أكنانا» والأكنة الأغطية قال تعالى: «وجعلنا على قلوبهم أكنة» الواحد كنان وقال الكسائي كنّ الشيء ستره وبابه رد» وقد تقدم ذكر الأكنة.
(سَرابِيلَ) هي القمصان والثياب المتخذة من الصوف والكتان والقطن ومنه قول لبيد:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
الإعراب:
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) الواو استئنافية ولله خبر مقدم وغيب السموات والأرض مبتدأ مؤخر والواو عاطفة وما نافية وأمر مبتدأ والساعة مضاف إليه وإلا أداة حصر وكلمح البصر خبره وأو حرف عطف وهو مبتدأ وأقرب خبره.
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن واسمها وعلى كل شيء متعلقان بقدير(5/346)
وقدير خبر إن. (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) الله مبتدأ وجملة أخرجكم خبر ومن بطون أمهاتكم جار ومجرور متعلقان بأخرجكم.
(لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) الجملة في محل نصب على الحال من الكاف أي غير عالمين شيئا، وشيئا مفعول به. (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وجعل عطف على أخرجكم والفاعل مستتر تقديره هو ولكم في موضع المفعول الثاني لجعل والسمع مفعوله الأول والأبصار والأفئدة عطف عليه ولعل واسمها وجملة تشكرون خبرها.
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم ويروا فعل مضارع مجزوم بلم والواو فاعل والى الطير متعلقان بيروا ومسخرات حال أي مذللة للطيران بما خلق لها من أجنحة وأسباب مواتية له وفي جو السماء متعلقان بمسخرات أي للتحليق في سمت العلو وسكاكه. و (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ) الجملة حالية وما نافية ويمسكهن فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر والله فاعل. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر ولقوم صفة لآيات وجملة يؤمنون صفة لقوم. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) والله مبتدأ وجملة جعل خبر مفعوله الأول سكنا ومفعوله الثاني أحد الجارين والثاني حال لأنه كان صفة لسكنا وتقدم عليه وإذا كانت جعل بمعنى خلق تعلق أحد الجارين به واكتفى بمفعول واحد وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تقدم إعراب نظيرتها والمراد بالبيوت هنا القباب والأبنية من الأدم والأنطاع كالخيام وغيرها وجملة تستخفونها صفة لبيوتا ويوم ظعنكم الظرف متعلق بتستخفونها ويوم إقامتكم عطف على يوم ظعنكم.(5/347)
(وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) ومن أصوافها عطف على من جلود الأنعام وأثاثا معطوف على بيوتا أي وجعل لكم من أصوافها أثاثا فيكون من باب عطف الجار والمجرور والمنصوب على مثله ومتاعا عطف على أثاثا وإلى حين متعلقان بمتاعا أو صفة له. (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا) تقدم إعرابها. (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً)
تقدم إعرابها أيضا. (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) جملة تقيكم الحر صفة لسرابيل وحذف المعطوف للعلم به أي والبرد. (وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) وسرابيل عطف على سرابيل الأولى وجملة تقيكم صفة وتقيكم فعل مضارع وفاعل مستتر والكاف مفعوله الأول وبأسكم مفعوله الثاني والمراد بها الدروع والجواشن. (كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) كذلك نعت مصدر محذوف وقد تقدم كثيرا ويتم نعمته فعل وفاعل مستتر ومفعول به ولعل واسمها وجملة تسلمون خبرها. (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء استئنافية وان شرطية وتولوا فعل الشرط وأصله تتولوا فحذفت إحدى التاءين ويجوز أن يكون فعلا ماضيا والكلام فيه التفات ولعله أولى وجواب إن محذوف أي فلا غضاضة عليك والفاء تعليلية وإنما أداة حصر كافة ومكفوفة وعليك البلاغ خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والمبين صفة.
البلاغة:
معنى التشبيه هنا التمثيل، أي ان الساعة لما كانت آتية ولا بد جعلت من القرب بمثابة لمح البصر، واللمح النظر بسرعة، ولا بد فيه من زمان تنقلب فيه الحدقة نحو المرئي، وكل زمان قابل للتجزئة، وقال الزجاج: «لم يرد ان الساعة تأتي في لمح البصر وانما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأنه يقول للشيء كن فيكون» وقيل:
المعنى هي عند الله كذلك وان لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة.(5/348)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
[سورة النحل (16) : الآيات 83 الى 86]
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)
اللغة:
(يُسْتَعْتَبُونَ) : يسترضون وقد اختلفت عبارات المفسرين فيها فلنرجع الى كتب اللغة. قال في المختار: عتب عليه وجد وبابه ضرب ونصر ومعتبا أيضا بفتح التاء والتعتب كالعتب والاسم المعتبة بفتح التاء وكسرها وقال الخليل: العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة وعاتبه معاتبة وعتابا وأعتبه سره بعد ما أساءه والاسم منه العتبى واستعتب وأعتب بمعنى. واستعتب أيضا طلب أن يعتب تقول استعتبه فأعتبه أي استرضاه فأرضاه» وفي الأساس: «واستعتبه استرضاه «وما بعد الموت مستعتب» وبينهم أعتوبة إذا كانوا يتعاتبون. تقول:
سمعت منها أعتوبة، لم تكن إلا أعجوبة. وعتابك السيف وعاتبت المشيب قال النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ... وقلت: ألمّا أصح والشيب وازع(5/349)
أي قلت للشيب: ما أقبح بك أن تصبو وعلى: من صلة عاتبت كما تقول عاتبته على الذنب» .
(نَبْعَثُ) : نرسل، وفي القاموس وغيره: بعثه يبعثه من باب فتح بعثا وتبعاثا أرسله وحده وبعث به أرسله مع غيره وبذلك يتضح صواب أبي الطيب المتنبي في قوله:
فآجرك الإله على عليل ... بعثت إلى المسيح به طبيبا
وقد أخطأ الصاحب في نقده لهذا البيت لأنه عدى بعث بالباء بحجة أن بعث يتعدى الى العاقل بنفسه والى غير العاقل بالباء وقد صرفه تحامله على أبي الطيب عن التأمل في قصة البيت فقد ذكر الواحدي في كتابه قال سمعت الشيخ كريم بن الفضل قال سمعت والدي أبا بشر قاضي القضاة قال: أنشدني أبو الحسين الشامي الملقب بالمشوق قال كنت عند المتنبي فجاء وكيل علي بن محمد بن سيار بن مكرم وكان يحب الرمي فلما دخل عليه أنشده أبياتا سخيفة فنظم المتنبي قصيدته الرائعة في مديح علي بن مكرم والتي مطلعها:
ضروب الناس عشاق ضروبا ... فأعذرهم أشفهم حبيبا
وفيها يصف نفسه بأبيات ما لحسنها نهاية نثبتها فيما يلي:
أعزمي طال هذا الليل فانظر ... أمنك الصبح يفرق أن يئوبا
كأن الفجر حبّ مستزار ... يراعي من دجنته رقيبا
كأن نجومه حلي عليه ... وقد حذيت قوائمه الجبوبا
كأن الجو قاسى ما أقاسي ... فصار سواده فيه شحوبا(5/350)
كأن دجاه يجذبها سهادي ... فليس تغيب إلا أن ت
غيبا أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد به على الدهر ألذ
نوبا وما ليل بأطول من نهار ... يظل بلحظ حسادي م
شوبا وما موت بأبغض من حياة ... أرى لهم معي فيها نصيبا
ثم يتطرق إلى مديح علي بن مكرم ويشير الى قصة وكيله الشاعر السخيف:
تيممني وكيلك مادحا لي ... وأنشدني من الشعر الغريبا
فآجرك الإله على عليل ... بعثت الى المسيح به طبيبا
وعبر عنه بما لا يعقل لأنه عدى البعث بحرف الجر أو انه من جملة الهدايا التي بعث بها اليه ولكنها هدية منكرة إذ يقول:
ولست بمنكر منك الهدايا ... ولكن زدتني فيها أديبا
أما أبيات الوكيل فهي تافهة غير مستقيمة الوزن ولهذا أعرضنا عنها.
الإعراب:
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) يعرفون نعمة الله يعرفون فعل مضارع والواو فاعل ونعمة الله مفعول به وثم حرف عطف للتراخي ينكرونها عطف على يعرفون وعطف بثم للدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد توفر دلائل المعرفة، وأكثرهم الواو(5/351)
للحال وأكثرهم مبتدأ والكافرون خبره أو بالعكس أي انهم كانوا يعرفون وينحرفون. (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) الظرف متلق بمحذوف أي اذكر وجملة نبعث مضاف إليها الظرف ومن كل أمة حال لأنه كان في الأصل صفة لشهيدا وشهيدا مفعول به. (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) ثم حرف عطف للتراخي ولا نافية ويؤذن فعل مضارع مبني للمجهول وللذين متعلقان به وقد اختلفت الآراء في هذا الإذن وأصحها أنه لا يؤذن لهم في الاعتذار لا سيما وان لها مثيلا في القرآن وهو قوله «ولا يؤذن لهم فيعتذرون» ولا الواو عاطفة ولا نافية وهم مبتدأ وجملة يستعتبون خبر وإنما عطف بثم لطول المدة التي كانت مغبتها منعهم من الكلام. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة رأى مضافة الى الظرف والذين فاعل رأى وجملة ظلموا صلة والعذاب مفعول به والفاء رابطة لجواب إذا. (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) الفاء رابطة لجواب إذا ولا نافية ويخفف فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر أي العذاب ولا عاطفة وهم مبتدأ وجملة ينظرون خبر. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) تقدم نظيرتها وشركاءهم مفعول رأى. (قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) جملة قالوا لا محل لها لأنها جواب إذا وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء وهؤلاء مبتدأ وشركاؤنا خبر والذين صفة شركاؤنا وجملة كنا صلة وكان واسمها وجملة ندعو خبر كنا ومن دونك حال من مفعول ندعو المحذوف أي ندعوهم ونعبدهم من دونك.
(فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) الفاء عاطفة وألقوا فعل وفاعل وهو الشركاء وإليهم متعلقان بألقوا والقول مفعول به وإنكم لكاذبون ان واسمها واللام المزحلقة وخبرها والجملة مقول القول.(5/352)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
[سورة النحل (16) : الآيات 87 الى 90]
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
الإعراب:
(وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) الواو عاطفة وألقوا فعل وفاعل وهو الكفار والى الله جار ومجرور متعلقان بألقوا ويومئذ ظرف أضيف إلى ظرف مثله والتنوين عوضا عن جملة وقد مرّ مثاله كثيرا والسلم مفعول به. (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) الواو عاطفة وضل فعل ماض وعنهم متعلقان به وما فاعل ضل وجملة كانوا صلة وكان واسمها وجملة يفترون خبر كانوا. (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) الذين مبتدأ خبره جملة زدناهم وجملة كفروا صلة وصدوا عن سبيل الله عطف على كفروا، وزدناهم فعل وفاعل ومفعول به وعذابا مفعول به ثان وفوق العذاب ظرف متعلق(5/353)
بمحذوف صفة لعذابا وبما متعلقان بزدناهم والباء للسببية وما مصدرية أي بسبب صدهم وإفسادهم وكان واسمها وجملة يفسدون خبرها.
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقد تكررت هذه الجملة مبالغة في التهديد والوعيد وجملة نبعث مضافة للظرف وفي كل أمة متعلقان بنبعث وشهيدا مفعول به وعليهم متعلقان بشهيدا ومن أنفسهم صفة لشهيدا (وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) وجئنا الواو عاطفة وجئنا فعل وفاعل وبك جار ومجرور متعلقان بجئنا وشهيدا حال وعلى هؤلاء متعلقان بشهيدا.
(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ونزلنا عطف على جئنا ونا فاعل وعليك متعلقان بنزلنا والكتاب مفعول به وتبيانا مفعول لأجله أو حال أي مبينا ولكل شيء متعلقان بتبيانا وهدى ورحمة وبشرى عطف على تبيانا وللمسلمين متعلقان ببشرى وهو متعلق بالمصادر الأخرى المتقدمة من حيث المعنى.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) إن واسمها وجملة يأمر خبر إن وبالعدل متعلقان بيأمر والإحسان عطف على العدل وكذلك إيتاء وذي القربى مضاف لإيتاء. (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وينهى عطف على يأمر والفاعل مستتر وعن الفحشاء متعلقان بينهى وما بعده عطف عليه وجملة يعظكم حال من فاعل يأمر وينهى ولعل واسمها وجملة تذكرون أي تتذكرون خبرها.
البلاغة:
اتفق علماء البلاغة والمفسرون جميعا على أن هذه الآية أجمع آية في القرآن للخير والشر وهي قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان إلخ» وقد أمر عمر بن عبد العزيز الخليفة الصالح بتلاوتها(5/354)
بدلا من القذف الذي كان يعقب خطب الجمعة بالإمام علي بن أبي طالب وبسببها أسلم عثمان بن مظعون، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الوليد بن المغيرة فقال له: يا ابن أخي أعد فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم قراءتها عليه فقال له: إن له لحلاوة. وإن عليه لطلاوة. وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر.
وقد اشتملت في الواقع على أفانين من البلاغة نبينها فيما يلي:
1- الإيجاز: فقد أمر في أول الآية بكل معروف ونهى بعد ذلك عن كل منكر وختم الآية بأبلغ العظات وصاغ ذلك في أوجز العبارات.
2- صحة التقسيم: فقد استوفى فيها جميع أقسام المعنى فلم يبق معروف إلا وهو داخل في نطاق الأمر ولم يبق منكر إلا وهو داخل في حيز النهي، وقدم ذكر العدل لأنه واجب وتلاه بالإحسان لأنه مندوب ليقع نظم الكلام على أحسن ترتيب وقرنهما في الأمر لأن الفرض لا يخلو من خلل وتفريط يجبره الندب والنوافل وخص ذا القربى بالذكر بعد دخوله في عموم من أمر بمعاملته بالعدل والإحسان لبيان فضل ذي القربى وفضل الثواب عليه.
3- الطباق اللفظي والمقابلة بين يأمر وينهى وبين العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وبين الفحشاء والمنكر والبغي.
4- حسن النسق: في ترتيب الجمل وعطفها بعضها على بعض كما بنبغي حيث قدم العدل وعطف عليه الإحسان لكون الإحسان اسما عاما وإيتاء ذي القربى خاص فكأنه نوع من ذلك الجنس ثم أتى بجملة الأمر مقدمة وعطف عليها جملة النهي.
5- التسهيم: لأن صدر الكلام يدل على عجزه كدلالة صدر البيت المسهم على عجزه.(5/355)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
6- حسن البيان: لأن لفظ الآية لا يتوقف من سمعه في فهم معناه إذ سلم من التعقيد في لفظه ودل على معناه دلالة واضحة بأقرب الطرق وأسهلها واستوى في فهمه الذكي والغبي.
7- الائتلاف: لأن كل لفظة لا يصلح مكانها غيرها.
8- المساواة: لأن ألفاظ الكلام قوالب لمعانيه لا تفضل عنها ولا تقصر دونها.
9- تمكين الفاصلة: لأن مقطع الآية مستقر في حيزه ثابت في مقره وقراره معناه متعلق بما قبله الى أول الكلام ولأنه لا تحسن الموعظة إلا بعد التكليف ببيان الأمر والنهي ولأن أي لفظة حذفتها من ألفاظ الآية يختل المعنى بحذفها اختلالا ظاهرا وينقص نقصا بيّنا.
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 93]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)(5/356)
اللغة:
(تَوْكِيدِها) : توثيقها والتوكيد مصدر وكد يوكد بالواو وفيه لغة أخرى أكد يؤكد بالهمز ومعناه التقوية وهذا كقولهم ورخت الكتاب وأرخته وليست الهمزة بدلا من واو كما زعم بعضهم لأن الاستعسالين في المادتين متساويان فليس ادعاء كون أحدهما أصلا أولى من الآخر.
(أَنْكاثاً) : جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وفي المصباح: «نكث الرجل العهد نكثا من باب قتل نقضه ونبذه فانتكث مثل نقضه فانتقض ونكث الكساء وغير نقضه أيضا والنكث بالكسر ما نقض ليغزل ثانية والجمع أنكاث مثل حمل وأحمال وفي القاموس:
«النكث بالكسر ما نقض من الأكسية والأخبية ليغزل ثانية وجمعه أنكاث، يقال: حبل نكث وأنكاث أي منكوث» .
(دَخَلًا) : مفسدة ودغلا وفي الصحاح الدغل بالتحريك الفساد مثل الدخل وفي المعاجم الدخل العيب وفي القاموس والتاج: «الدخل بفتحتين ما داخل الإنسان من فساد في العقل أو الجسم والخديعة والعيب في الحسب والقوم الذين يتسبون إلى من ليسوا منهم ومن غريب أمر الدال والخاء أنهما لا تجتمعان إلا دلتا على فساد أو ظلام فالدّخ والدّخ بفتح الدال وضمها الدخان وناهيك بظلمته واربداده قالت امرأة أعرابية لزوجها وكان قد كبر:
لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا ... وسال غرب عينه ولخا
وكان أكلا قاعدا وشخا ... تحت رواق البيت يغشى الدخا
وانثنت الرجل فصارت فخا ... وصار وصل الغانيات أخا(5/357)
ودخر: ذل وصغر وأدخره أذله ودخس الحافر بكسر الخاء أصابه داء الدخس بسكون الخاء وهو ورم في الحافر والدخس بضم الدال وسكون الخاء دابة في البحر والدخيس الملتف من الكلأ وإذا التف فقد قارب السواد والعدد الكثير واللحم المكتنز وتداخلت الأمور التبست وتشابهت والدخل بفتح الدال وسكون الخاء ما دخل عليك من مالك ويقابله الخرج وهو مفسدة لصاحبه ما لم يؤدّ زكاته وما يترتب عليه ومنه سميت ضريبة الدخل ودخلة الرجل بتثليث الدال داخلته وهي محتجبة بظلمة الخفاء والدخيل من دخل في قوم وانتسب إليهم وليس منهم فهو في لبس من أمره وقلما يكون صالحا وداء دخيل أي داخل في أعماق البدن وكل كلمة أعجمية أدخلت في كلام العرب ودخمه دفعه بإزعاج ودخن الطعام واللحم وغيرهما أصابه الدخان في حال طبخه أو شيه فتغلبت رائحة الدخان على طعمه فهو دخن والدخن بفتحتين الحقد والفساد وتغير العقل والدين والحسب يقال: «لست أصالحه على دخن» أي على مكر وفساد والدخي بفتح الدال المشددة الظلمة وليلة دخياء مظلمة وهذا من عجائب اللغات.
(أَرْبى) أزيد عددا وأوفر مالا.
الإعراب:
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ) الواو عاطفة وأوفوا فعل أمر وفاعل وبعهد الله جار ومجرور متعلقان بأوفوا وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة عاهدتم مضاف إليها الظرف. (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتنقضوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والأيمان مفعول به(5/358)
وبعد ظرف متعلق بتنقضوا وتوكيدها مضاف اليه والواو حالية والجملة حال من فاعل تنقضوا وقد حرف تحقيق وجعلتم الله فعل وفاعل ومفعول به وعليكم متعلقان بكفيلا وكفيلا مفعول به ثان لجعلتم. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) تقدم إعراب مثيلتها كثيرا. (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) الواو عاطفة ولا ناهية وتكونوا مجزوم بها وكان واسمها والكاف خبرها وجملة نقضت صلة وغزلها مفعول به ومن بعد قوة حال من فاعل نقضت أو من مفعوله أي محكمة له أو محكمأ وأنكاثا منصوب بفعل محذوف أي فجعلته أنكاثا أو بتضمين نقضت معنى صيرت فهو مفعول ثان وجوّز الزجاج فيه وجها آخر وهو النصب على المصدرية لأن معنى نقضت نكثت فهو مطابق لعامله في المعنى وقيل هو حال من غزلها أي منقوضا وستأتي قصة هذه المرأة في باب الفوائد. (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) جملة تتخذون حال من ضمير تكونوا أي لا تكونوا مثلها متخذين أيمانكم دخلا وتتخذون فعل مضارع وفاعل وأيمانكم مفعول به أول ودخلا مفعول به ثان وبينكم صفة لدخلا وأن وما في حيزها مصدر في محل نصب مفعول لأجله أي مخافة أن تكون وأمة اسم تكون وهي مبتدأ وأربى خبر والجملة خبر تكون ومن أمة جار ومجرور متعلقان بأربى، كانوا يحالفون الحلفاء ويقطعون العهود والمواثيق فإذا وجدوا أكثر منهم وأعز جانبا نقضوا حلف أولئك وحالفوا هؤلاء.
(إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) إنما كافة ومكفوفة وهي للحصر ويبلوكم الله فعل ومفعول مقدم وفاعل مؤخر وبه متعلقان بيبلوكم وليبيننّ الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ويبينّ فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وجوبا ولكم متعلقان بيبينن ويوم القيامة ظرف متعلق بمحذوف حال(5/359)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
وما مفعول به وكنتم صلة وهي كان واسمها وفيه جار ومجرور متعلقان بتختلفون وجملة تختلفون خبر كنتم. (وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الواو عاطفة ولو شرطية وشاء الله فعل وفاعل واللام واقعة في جواب لو وجعلكم فعل وفاعل مستتر ومفعول به أول وأمة مفعول به ثان وواحدة صفة. (وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الواو حالية ولكن حرف استدراك مهملة لأنها خففت، ويضل فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو ومن مفعول به ويشاء صلة ويهدي من يشاء عطف على ما تقدم. (وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وتسألن فعل مضارع معرب لأن النون لم تباشره فهو مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين نائب فاعل والنون المشددة هي نون التوكيد الثقيلة وعما متعلقان بتسألن وجملة كنتم تعملون خبر كنتم.
الفوائد:
روى التاريخ أن امرأة حمقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تميم من مكة اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن فالكلام تشبيه تمثيلي مرسل والمشبه به معين.
[سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)(5/360)
الإعراب:
(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ) كرره تأكيدا مع التصريح بالنهي عنه مبالغة في قبحه (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) الفاء فاء السببية المسبوقة بالنهي وتزل مضارع منصوب بإضمار أن وقدم فاعل وبعد ظرف متعلق بتزل وثبوتها مضاف اليه. (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وتذوقوا عطف على تزل والسوء مفعول به والباء حرف جر وهي للسببية وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بتذوقوا وعن سبيل الله متعلقان بصددتم ولكم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفته.
(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتشتروا فعل مضارع مجزوم بلا وبعهد الله متعلقان بتشتروا فالباء داخلة على المتروك وثمنا مفعول به وقليلا صفة (إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن واسمها والظرف صلة ما وهو مبتدأ وخير خبر والجملة خبر ان ولكم متعلقان به وإن شرطية وكنتم في محل جزم فعل الشرط(5/361)
والتاء اسم كان وجملة تعلمون خبرها وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فلا تنقضوا (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ) ما اسم موصول مبتدأ وعندكم ظرف متعلق بالصلة وجملة ينفد خبر ما ومثلها وما عند الله باق. (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اللام موطئة للقسم ونجزين فعل مضارع مبني على الفتح لتأكيده بالنون المشددة والفاعل مستتر تقديره نحن والذين صبروا مفعوله وأجرهم مفعول ثان لنجزين وبأحسن جار ومجرور متعلقان بنجزين وهو صفة لمحذوف أي بجزاء أحسن، وما مصدرية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها ولك أن تجعل ما موصولة والتقدير بجزاء أحسن من عملهم الذي كانوا يعملونه في الدنيا أو نجعل الأجر متناسبا مع الأحسن من أعمالهم. (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) من اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ومن ذكر متعلقان بمحذوف حال من فاعل عمل وأو حرف عطف وأنثى عطف على ذكر وهو الواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة حالية فلنحيينه الفاء رابطة واللام موطئة للقسم ونحيينه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والهاء مفعول به وحياة مفعول مطلق وطيبة صفة وجملة فلنحيينه جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من ولك أن تجعل من اسما موصولا والفاء الداخلة لما في الموصوف من رائحة الشرط فتكون جملة فلنحيينه خبره.
(وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) تقدم إعرابها وسيأتي مزيد بيان لهذه الآيات في باب البلاغة.(5/362)
البلاغة:
1- في قوله تعالى «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن إلى آخر الآية» فنون شتى أبرزها التتميم وقد تقدم القول فيه وتكرر في هذه الآية مرتين الأولى في قوله من ذكر أو أنثى لأن من الشرطية أو الموصولية تفيد العموم فكان لا بد من تتميمها بذلك للتأكيد وإزالة لوهم التخصيص جريا على معتقدات العرب القديمة في تفضيل الذكر على الأنثى وإيثاره بكل ما هو خير والثانية في قوله وهو مؤمن وقد اختلفت الآراء في هذا التميم وما هو المراد بالحياة الطيبة التي ينالها من هو بهذه المثابة وأحسن ما نختاره منها قول الزمخشري وننقله بنصه لفائدته قال وأبدع:
«وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسرا كان أو معسرا يعيش عيشا طيبا إن كان موسرا فلا مقال فيه وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله وأما الفاجر فأمره على العكس إن كان معسرا فلا إشكال في أمره على حد قول أبي دلامة:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل
وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يهنأ بعيشه» ويؤيد هذا ما نراه من انهماك النوع البشري في ابتكار وسائل التدمير والخراب للاستعلاء والاستغلال والسيطرة على العالم وهيهات!! 2- وفي قوله «فتزل قدم بعد ثبوتها استعارة تمثيلية للمستقيم الحال يقع في شر عظيم ويسقط فيه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان(5/363)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
من حال خير الى حال شر ويقال لمن أخطأ في شيء زلت به قدمه ومنه قول زهير:
تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
3- وفي قوله «فتزل قدم بعد ثبوتها إلخ» توحيد القدم وتنكيرها والسر في ذلك استعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن توطأ لها مهاده وثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة وفيه تقليل للواعي من الناس لما يقضي بسداد الرأي واستقامته ومن جنس إفادة التنكير هنا للتقليل إفادته له في قوله تعالى: «وتعيها اذن واعية» وفي قوله «اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد» فنكر الاذن والنفس تقليلا للواعي من الناس لما يقضي بسداده.
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)(5/364)
الإعراب:
(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) الفاء استئنافية وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن متعلق باستعذ وجملة قرأت مضاف إليها الظرف والقرآن مفعول به أي إذا أردت قراءة القرآن، والفاء رابطة للجواب واستعذ فعل أمر وفاعله أنت وبالله متعلقان باستعذ وكذلك يتعلق باستعذ من الشيطان، والرجيم صفة. (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) الجملة تعليلية للأمر وان واسمها وجملة ليس خبرها وله خبر مقدم لليس وسلطان اسمها المؤخر وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بسلطان لأنه مصدر بمعنى التسلط أي الاستيلاء والقهر والتمكن وآمنوا صلة وعلى ربهم متعلقان بيتوكلون.
(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) إنما كافة ومكفوفة وسلطانه مبتدأ وعلى الذين خبر وجملة يتولونه من الفعل والفاعل والمفعول به صلة الموصول وعائده والذين عطف على الذين الأولى وجملة هم مشركون صلة وهم مبتدأ وبه متعلقان بمشركون ومشركون خبرهم. (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وبدلنا فعل وفاعل وآية مفعول به ومكان مفعول ثان لبدلنا أو ظرف مكان متعلق ببدلنا وآية مضاف إليه. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا) الواو اعتراضية والجملة معترضة بين شرط إذا وجوابها لا محل لها والله مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وينزل صلة وجملة قالوا لا محل لها لأنها جواب إذا. (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الجملة مقول القول وإنما كافة ومكفوفة وأنت مبتدأ ومفتر خبر وبل حرف إضراب وأكثرهم مبتدأ وجملة لا يعلمون خبر وحذف مفعول يعلمون للعلم به أي حقيقة التبديل والنسخ وفائدتهما. (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ(5/365)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا)
جملة نزله مقول قل وهو فعل ومفعول به مقدم وروح فاعل مؤخر والقدس مضاف اليه من إضافة الموصوف لصفته أي الروح المقدس وهو جبريل ومن ربك متعلقان بنزله وبالحق حال أي ملتبسا بالحق، وليثبت اللام لام التعليل ويثبت فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والفاعل هو والذين مفعول به وآمنوا صلة وليثبت في محل نصب مفعول لأجله وجر باللام لأن المصدر ليس بقلبي ولاختلاف الفعل لأن المنزل هو جبريل والمثبت هو القرآن. (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) هذان المصدران معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتا وهداية وبشرى.
[سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 106]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)
اللغة:
(يُلْحِدُونَ) : يميلون ولحدت القبر وألحدته وقبروه في لحد وملحود ولحد للميت وألحد له حفر له لحدا ولحد الميت وألحده جعله(5/366)
في اللحد ولحد السهم عن الهدف وألحد، وألحد في دين الله ولحد عن القصد عدل عنه وألحد في الحرم ولحد إليه مال إليه والتحد اليه: التجأ ومالي دونه ملتحد قال ذو الرمة:
إذا استوسجت آذانها استأنست لها ... أناسيّ ملحود لها في الحواجب
الإعراب:
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف يراد به التكثير هنا ونعلم فعل مضارع وفاعل مستتر وان وما في حيزها سدت مسدّ مفعولي نعلم وأن واسمها وجملة يقولون خبرها.
(إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) الجملة مقول قولهم وإنما كافة ومكفوفة ويعلمه بشر فعل ومفعول به مقدم وبشر فاعل مؤخر وهو قين أي حداد رومي اسمه جبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وهو غلام عامر بن الحضرمي وقيل يعنون جبرا ويسارا وكانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرأانه وقيل غير ذلك مما لا يخرج عن الصدد. (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) لسان مبتدأ والذي مضاف إليه وجملة يلحدون إليه صلة وأعجمي خبر لسان أي غير مبين وهذا مبتدأ وعربي خبر ومبين صفة وهذا تأكيد على عروبة لغة القرآن ووجه الجواب ان الذي يعزون إليه أنه يعلم النبي القرآن رجل أعجمي في لسانه لكنة وعجمة تمنعانه من الإفصاح والإبانة ومحمد صلى الله عليه وسلم الذي جاءكم بهذا القرآن المبين الذي عجزتم عن الإتيان بسورة(5/367)
من مثله. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) إن واسمها وجملة لا يؤمنون صلة وبآيات الله متعلقان بيؤمنون وجملة لا يهديهم الله خبر إن والواو عاطفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفته. (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ) إنما كافة ومكفوفة ويفتري فعل مضارع والكذب مفعول به مقدم والذين فاعل مؤخر وجملة لا يؤمنون بآيات الله صلة. (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) الواو اعتراضية وأولئك مبتدأ وهم ضمير فصل أو مبتدأ ثان والكاذبون خبر أولئك أو خبرهم والجملة خبر أولئك وجملة أولئك هم الكاذبون معترضة.
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) أولى الأعاريب التي ذكرها المعربون لمن أن تكون بدلا من الذين لا يؤمنون بآيات الله وتكون جملة وأولئك هم الكاذبون اعتراضا بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ويجوز على بعد أن تعربه مبتدأ خبره جملة فعليهم والفاء زيدت لتضمن الموصول معنى الشرط وجملة كفر بالله صلة كما يجوز أن تعرب من شرطية وبالله جار ومجرور متعلقان بكفر ومن بعد إيمانه حال وإلا أداة استثناء ومن مستثنى متصل لأن الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد وقيل هو منقطع لأن الكفر اعتقاد والإكراه على القول دون الاعتقاد كالمكره وجملة أكره صلة الموصول، وقلبه الواو حالية وقلبه مبتدأ ومطمئن خبر وبالايمان متعلقان بمطمئن. (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ولكن الواو استئنافية ولكن حرف مشبه بالفعل واسمها ضمير الشأن ومن مبتدأ وشرح فعل الشرط إن جعلتها صلة وصلة إن جعلتها موصولا والله فاعل وصدرا(5/368)
تمييز أي طاب به نفسا واعتقده، فعليهم الفاء رابطة وعليهم خبر مقدم وغضب مبتدأ مؤخر ومن الله صفة ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وعظيم صفة.
البلاغة:
الإلجاء:
في قوله تعالى: «ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر إلخ» وقول الله تعالى جوابا لهذا القول: «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين» والإلجاء فن لم يذكره علماء البديع كثيرا وقد تكلم عنه أسامة بن منقذ في بديعه تحت اسم الالتجاء والمغالطة، وهو أن تكون صحة الكلام المدخول ظاهرة موقوفه على الإتيان فيه بما يبادر الخصم إلى رده بشيء يلجئه الى الاعتراف بصحته، أو بعبارة أوضح:
لكل كلام يرد فيه على المعترض عليه جواب مدخول إذا دخله الخصم به التجأ إلى تصحيح الجواب كقوله تعالى الآنف الذكر فإن للخصم أن يقول: نحن أردنا القصص والاخبار ونحن نعلم أن الأعجمي إذا ألقى الكلام إلى العربي لا يخرجه عن كونه تعلم معانيه من الأعجمي فظاهر الكلام لا يصح أن يكون ردا على المشركين فيقال لهم: هب الأعجمي علّمه المعاني فهذه العبارة الهائلة التي قطعت أطماعكم عن الإتيان بمثلها من علمها له؟ فإن كان هو الذي أتى بها من قبل نفسه فقد أقررتم أن رجلا واحدا منكم أتى بهذا المقدار من الكلام الذي هو مائة سورة وأربع عشرة سورة وقد عجزتم بأجمعكم وكل من تدعون من دون الله عن الإتيان بأقصر سوره فإن قلتم إن الأعجمي علمه المعاني والألفاظ فهذا أشد عليكم لأنه إقرار بأن رجلا أعجميا قدر على بين الآيات المتضمنة للأخبار والقصص وقد عجزتم عن ثلاث آيات منهن، يلجئهم ذلك الى الإقرار بأنه من عند الله.(5/369)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
الفوائد:
قصة عمار بن ياسر:
روى التاريخ أن ناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار بن ياسر وأبواه ياسر وسمية وصهيب وبلال وخباب وسالم عذبوا فأما سمية أم عمار فربطوها بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في قلبها فماتت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فإنه أعطاهم بعض ما أرادوا بلسانه مكرها فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال: كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله يبكي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله نلت منك فذكرت فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: إن عادوا لك فقل لهم ما قلت إلى آخر هذه القصة الممتعة التي يرجع إليها في المطولات.
[سورة النحل (16) : الآيات 107 الى 111]
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)(5/370)
اللغة:
(النفس) يؤخذ من مجموع أقوال المعاجم العربية أن النفس مصدر وهي أيضا الروح والدم يقال دفق نفسه أي دمه والجسد يقال هو عظيم النفس أي الجسد والعين يقال أصابته نفس أي عين وشخص الإنسان، ونفس الشيء عينه ويؤكد به فيقال: جاءني هو نفسه وبنفسه ونفس الأمر حقيقته والنفس أيضا العظمة والهمة والعزة والأنفة والإرادة والرأي والعقوبة والماء، والنفس مؤنث إن أريد بها الروح نحو خرجت نفسه ومذكر إن أريد بها الشخص نحو عندي خمسة عشر نفسا والجمع أنفس ونفوس ويقال في نفسي أن أفعل شيئا أي قصدي ومرادي أن أفعل كذا وفلان يؤامر نفسيه ويشاورهما أي يتردد في الأمر ويتجه له رأيان لا يدري على أيهما يثبت وخرجت نفسه وجاد بنفسه إذا مات، أما معنى النفس عند الفلاسفة فمرجعه علم النفس وليس هذا مكانه والخلاف فيه طويل وقد أصاب أبو الطيب حيث قال:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في الشجب
فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب(5/371)
ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين الهمّ والتعب
من قصيدة الرئيس ابن سينا في النفس:
هذا ومن المفيد أن نقتبس هنا أبياتا مختارة من قصيدة الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا في النفس:
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزّز وتمنع
محجوب عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع
أنفت وما أنست فلما واصلت ... ألفت مجاورة الغراب الأبقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... عن ميم مركزها بذات الاجرع(5/372)
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول ا
لخضع تبكي وقد ذكرت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولما
تقلع وتظل ساجعة على الدمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع
ويطول بنا القول إن حاولنا شرح ما رمزت إليه هذه الأبيات المقتبسة من العينية الرائعة وحاصل ما أراده أنه يتساءل: لم تعلقت النفس بالبدن؟ إن كان رائدها غير الكمال فهي حكيمة خفية على الأذهان وإن كان رائدها الكمال فلم ينقطع تعلقها به قبل حصوله.
الإعراب:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) الاشارة الى ما تقدم من ذكر الغضب والعذاب واسم الاشارة مبتدأ خبره بأنهم أي ثابت بسبب أنهم فالباء للسببية وان واسمها وجملة استحبوا خبرها أي اختاروا والحياة مفعول به والدنيا صفة وعلى الآخرة جار ومجرور متعلقان باستحبوا. (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) وأن عطف على بأنهم وأن واسمها وجملة لا يهدي خبرها والقوم مفعول به والكافرين صفة القوم. (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) أولئك مبتدأ والذين خبره وجملة(5/373)
طبع الله صلة وعلى قلوبهم جار ومجرور متعلقان بطبع وسمعهم وأبصارهم عطف على قلوبهم وأولئك مبتدأ وهم مبتدأ ثان أو ضمير فصل والغافلون خبر هم أو خبر أولئك. (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) لا جرم تقدم القول فيها وأن واسمها وفي الآخرة متعلقان بالخاسرون وهم مبتدأ والخاسرون خبره والجملة خبر ان. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) ثم للترتيب مع التراخي لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك وإن واسمها وللذين خبر إن بمعنى أنه وليهم وناصرهم وجملة هاجروا صلة ومن بعد متعلقان بهاجروا وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مضاف للظرف أي من بعد فتنتهم ثم حرف عطف وتراخ وجاهدوا وصبروا عطف على هاجروا (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها ومن بعدها حال واللام المزحلقة وغفور خبر إن الأول ورحيم خبرها الثاني، هذا وقد أسهب المعربون في إعراب هذه الآية واضطربت أقوالهم اضطرابا شديدا لفرط عنايتهم وتحريهم مواقع الصواب فجهدهم مشكور ولكن لا حاجة لذلك كله والكلام واضح لا لبس فيه. (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) الظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وجملة تأتي مضافة للظرف وكل نفس فاعل تأتي وجملة تجادل حال وعن نفسها متعلقان بتجادل وإنما جازت إضافة النفس الى النفس ومن شرط المتضايفين أن يكونا متغايرين ان المراد بالنفس الأولى الإنسان وبالثاني ذاته فكأنه قال يوم يأتي كل إنسان يجادل على ذاته أي يعتذر عنها لا يهمه شأن غيره. (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) وتوفى عطف على تجادل وكل نفس نائب فاعل وما عملت مفعول توفى الثاني وهم الواو حالية أو عاطفة وهم متدأ وجملة لا يظلمون خبر.(5/374)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
[سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 113]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113)
الإعراب:
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ) الواو استئنافية وضرب الله مثلا فعل وفاعل ومفعول به وقرية بدل من مثلا أي جعل القرية الموسومة بهذه السمات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا، وجملة كانت صفة لقرية وكان واسمها المستتر وآمنة خبرها ومطمئنة خبر ثان وجملة يأتيها خبر ثالث وهو فعل مضارع ومفعول به مقدم ورزقها فاعل مؤخر ورغدا وصف للمصدر أي اتيانا رغدا فهو مفعول مطلق أو بمعنى راغدا فهو حال ومن كل مكان متعلقان بيأتيها. (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) الفاء عاطفة وكفرت فعل ماض والفاعل مستتر يعود على القرية وبأنعم الله متعلقان بكفرت فأذاقها الفاء عاطفة للتعقيب وأذاقها فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ولباس الجوع والخوف مفعول ثان والباء حرف جر للسببية وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي بسبب صنعهم أو بسبب الذي كانوا يصنعونه. (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ) الواو عاطفة واللام(5/375)
موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وجاءهم رسول فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر ومنهم صفة لرسول فكذبوه الفاء حرف عطف وكذبوه فعل ماض وفاعل ومفعول به. (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) فأخذهم عطف على فكذبوه والعذاب فاعل والواو حالية وهم مبتدأ وظالمون خبر والجملة حالية.
البلاغة:
في قوله تعالى «وضرب الله مثلا قرية» مجاز مرسل واستعارتان مكنيتان، أما المجاز المرسل ففي قوله قرية والمراد أهلها فعلاقة المجاز المحلية إذ أطلق المحل وأريد الحال وأما الاستعارة الأولى فهي استعارة الذوق للباس فأما الإذاقة فقد كادت تجري عند العرب مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا فيقولون ذاق فلان البؤس والضرر شبّه ما يدرك منهما من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المرّ البشع وأما اللباس فقد صح التشبيه به لأنه يشتمل على لابسه وأما الاستعارة الثانية فهي استعارة اللباس للجوع والخوف كأنما قد أحاط بهم واشتمل عليهم كما يشتمل اللباس على لابسه، وبناء الاستعارة على الاستعارة ميدان فسيح تضل فيه الأفكار وقد ينغلق فهمه كما انغلق على ابن سنان الخفاجي في نقده للآمدي حين تناول بيت امرئ القيس:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
فقد قال الآمدي في كتاب الموازنة «وقد عاب امرأ القيس بهذا المعنى من لم يعرف موضوعات المعاني ولا المجازات وهو في غاية الحسن والجودة والصحة وهو إنما قصد وصف أجزاء الليل الطويل فذكر(5/376)
امتداد وسطه وتثاقل صدره للذهاب والانبعاث وترادف اعجازه وأواخره شيئا فشيئا وهذا عندي منتظم لجميع نعوت الليل الطويل على هيئته وذلك أشد ما يكون على من يراعيه ويترقب تصرمه فلما جعل له وسطا يمتد وأعجازا رادفة للوسط وصدرا متثاقلا في نهوضه حسن أن يستعير للوسط اسم الصلب وجعله متمطيا من أجل امتداده لأن تمطّى وتمدّد بمنزلة واحدة وصلح أن يستعير للصدر اسم الكلكل من أجل نهوضه وهذه أقرب الاستعارات من الحقيقة وأشد للاءمته هنا لما استعيرت له وكذلك قول زهير:
وعرّي أفراس الصبا ورواحله
لما كان من شأن ذي الصّبا أن يوصف أبدا بأن يقال: ركب جواده وجرى في ميدانه، وجمح في عنانه، ونحو هذا، حسن أن يستعار للصبا اسم الأفراس وأن يجعل النزوع عنه أن تعرى أفراسه ورواحله وكانت هذه الاستعارة أيضا من أليق شيء بما استعيرت له» .
وقال ابن سنان الخفاجي في كتابه «سر الفصاحة» : حول قول امرئ القيس:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
«إن هذا الذي ذكره الآمدي ليس بمرضي غاية الرضا وإن بيت امرئ القيس ليس من الاستعارة الجيدة ولا الرديئة بل هو وسط فإن الآمدي قد أفصح بأن امرأ القيس لما جعل لليل وسطا ممتدا استعار له اسم الصلب وجعل متمطيا من أجل امتداده وحيث جعل له أولا وآخرا استعار له عجزا وكلكلا وهذا كله إنما يحسن بعضه مع بعض فذكر(5/377)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
الصلب إنما يحسن من أجل العجز والوسط والتمطي من أجل الصلب والكلكل لمجموع ذلك استعارة مبنية على استعارة أخرى» . هذا ما قاله الرجلان بصدد الاستعارة المبنية على استعارة أخرى وقد غفل ابن سنان على سموه في البلاغة عن آية القرآن وإلا ما كان أساغ لنفسه أن يذم هذه الاستعارة.
وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس هب أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع فرد عليه ابن الأعرابي، وقد أجاب علماء البلاغة أن هذا من تجريد الاستعارة وذلك انه استعار اللباس لما خشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال الثوب على اللابس ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف لأن اطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره فكانت الاستعارة مجردة ولو قال فكساها كانت مرشحة، قيل وترشيح الاستعارة وان كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحا من حيث أنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا.
[سورة النحل (16) : الآيات 114 الى 117]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)(5/378)
الإعراب:
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً) الفاء الفصيحة أي إذا استبان لكم حال من كفر وما آل إليه أمرهم فانتهوا عما أنتم عليه وأقلعوا عن كفران النعم وكلوا واشربوا ومما متعلقان بكلوا وجملة رزقكم صلة وحلالا حال ولك أن تجعله مفعولا به لكلوا وطيبا صفة.
(وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) واشكروا نعمة الله فعل أمر وفاعل ومفعول به وإن شرطية وكنتم فعل الشرط وكان واسمها وإياه مفعول مقدم لتعبدون وجملة تعبدون خبر كنتم. (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) إنما كافة ومكفوفة وحرم فعل وفاعل مستتر وعليكم جار ومجرور متعلقان بحرم والميتة مفعول به والدم والخنزير عطف على الميتة وما عطف أيضا وجملة أهل صلة ولغير الله حال وبه متعلقان بأهل وقد تقدمت هذه الآية.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الفاء تفريعية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ واضطر فعل ماض مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط ونائب الفاعل مستتر يعود على من وغير باغ حال ولا عاد عطف على باغ والفاء رابطة وان واسمها وغفور خبرها الأول ورحيم خبرها الثاني والجملة في محل جزم جواب الشرط.
(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)(5/379)
لا ناهية وتقولوا مضارع مجزوم بلا والواو فاعل ولما تصف اللام حرف جر وما مصدرية وهي مع مدخولها في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بتقولوا وألسنتكم فاعل تصف والكذب مفعول تصف وجملة هذا حلال مقول القول فيكون المعنى ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي لتعودها عليه وجريانها به أي لا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم وهو قول مدفوع لا تقوم به حجة وهذا حرام عطف على هذا حلال ولتفتروا بدل من قوله لما تصف، وعلى الله متعلقان بتفتروا والكذب مفعول به لتفتروا ويجوز أن ينتصب الكذب مفعولا لتقولوا ولكون جملة هذا حلال بدل منه وعندئذ تكون ما موصولة أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا هذا حرام وهذا حلال وكلا الاعرابين صحيح وسائغ وأورد ابن هشام في المغني هذه الآية وعبارته: قيل في ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب وفي كما أرسلنا فيكم رسولا منكم، أن الكذب بدل من مفعول تصف المحذوف أي لما تصفه وكذلك في رسولا بناء على أن «ما» في «كما» موصول اسمي ويرده أن فيه إطلاق ما على الواحد من أولي العلم والظاهر أن ما كافة وأظهر منه أنها مصدرية لإبقاء الكاف حينئذ على عمل الجر وقيل في الكذب إنه مفعول لتقولوا والجملتان بعده بدل منه أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل أو الحرمة وإما لمحذوف أي فتقولون الكذب وإما لنصف على أن ما مصدرية والجملتان محكيتا القول أي لا تحللوا وتحرموا لمجرد قول تنطق به ألسنتكم. وسيأتي معنى وصف الألسنة بالكذب في باب البلاغة. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) ان واسمها وجملة يفترون صلة وعلى الله متعلقان بيفترون والكذب مفعول يفترون وجملة لا يفلحون خبر ان. (مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ(5/380)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
أَلِيمٌ)
متاع خبر مبتدأ محذوف أي ذلك العمل الذي هو ديدنهم متاع قليل الفائدة أو مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع وقليل صفة متاع ولهم خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وأليم صفة عذاب.
البلاغة:
وصف الألسنة للكذب تعبير عربي مبين للمبالغة جعلت الألسنة لاستساغتها الكذب وجريانه عليها وتردده فيما تنطق به دائما كأنها تصفه وتجسده للسامع ومن ذلك قولهم وجهها يصف الجمال وعينها توحي بالسحر أو كأن الكذب أمر مجهول وعليهم تبيانه للناس وكشف الغطاء عن خوافيه فهو مجاز عقلي.
[سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 123]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)(5/381)
الإعراب:
(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وعلى الذين متعلقان بحرمنا وهادوا صلة الذين وما مفعول به وقصصنا صلة وعليك متعلقان بقصصنا ومن قبل متعلقان بحرمنا وقد تقدمت الاشارة الى ما خص اليهود بتحريمه وذلك في قوله تعالى: «وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر» الى آخر الآية من سورة الأنعام (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الواو عاطفة وما نافية وظلمناهم فعل وفاعل ومفعول به والواو حالية ولكن مخففة مهملة فهي حرف استدراك وكانوا كان واسمها وأنفسهم مفعول مقدم ليظلمون وجملة يظلمون خبر كانوا. (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) ثم حرف عطف للتراخي وان واسمها وللذين خبرها أي غفور للذين وعملوا صلة والسوء مفعول به وبجهالة في موضع الحال من الواو أي عملوا السوء جاهلين ثم تابوا عطف على عملوا ومن بعد متعلقان بتابوا وذلك مضافة لبعد وأصلحوا عطف على تابوا.
(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) إن واسمها ومن بعدها متعلقان بغفور واللام المزحلقة وغفور خبر إن ورحيم خبر ثان. (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو أي ابراهيم وأمة خبر كان أي كان وحده أمة بذاتها لأنه اجتمعت فيه من صفات الكمال ما يجتمع في أمة فصدق فيه قول أبي نواس:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وقانتا خبر ثان لكان ولله متعلقان بقانتا وحنيفا خبر ثالث. ولم(5/382)
بك: لم حرف نفي وقلب وجزم ويك فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون وحذفت النون للتخفيف وقد مر ذلك في بحث خصائص كان واسم يك مستتر تقديره هو ومن المشركين خبر يك. (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) شاكرا خبر رابع لكان ولأنعمه منعلقان بشاكرا وجملة اجتباه خبر خامس وهداه عطف على اجتباه والى صراط جار ومجرور متعلقان بهداه ومستقيم صفة لصراط.
(وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) عطف على ما تقدم على طريق الالتفات عن الغيبة الى التكلم لزيادة الاعتناء بشأنه وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به وفي الدنيا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لحسنة وحسنة مفعول به ثان وانه ان واسمها وفي الآخرة متعلقان بمحذوف حال واللام المزحلقة ومن الصالحين خبر ان. (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ثم حرف عطف وأوحينا فعل وفاعل وعطفها بثم الدالة على التراخي والتباعد إشعار بالمكانة السميا والمنزلة العليا لمحمد صلى الله عليه وسلم وان أجلّ ما أوتي ابراهيم من النعمة اتباع محمد لشريعته، وإليك متعلقان بأوحينا وأن اتبع أن مفسرة أو مصدرية فتكون منصوبة بنزع الخافض وملة ابراهيم مفعول اتبع وحنيفا حال من ابراهيم وسيأتي بحث مجيء الحال من المضاف اليه والواو عاطفة وما نافية وكان واسمها المستتر ومن المشركين خبرها.
الفوائد:
مجيء الحال من المضاف اليه:
تأتي الحال من المضاف اليه بشروط ثلاثة:(5/383)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
1- أن يكون المضاف جزءا من المضاف اليه نحو «ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا» فإخوانا حال من المضاف اليه وهو الضمير والصدور بعضه ونحو «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» فميتا حال من الأخ المضاف اليه اللحم واللحم بعض الأخ 2- أو كالجزء منه مثل هذه الآية فحنيفا حال من ابراهيم المضاف اليه الملة والملة كبعضه في صحة حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إذ لو قيل واتبع ابراهيم لكان صحيحا.
3- أن يكون المضاف عاملا في الحال كأن يكون مصدرا أو وصفا نحو «إليه مرجعكم جميعا» فجميعا حال من الكاف والميم المضاف اليه مرجع ومرجع مصدر ميمي عامل في الحال النصب.
[سورة النحل (16) : الآيات 124 الى 128]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)(5/384)
الإعراب:
(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) إنما كافة ومكفوفة وجعل فعل ماض مبني للمجهول والسبت نائب فاعل وعلى الذين جار ومجرور متعلقان بجعل فهو بمثابة المفعول الثاني وجملة اختلفوا صلة وفيه متعلقان باختلفوا وقد تقدم أن اليهود خالفوا نبيهم موسى حيث أمرهم أن يعظموا يوم الجمعة بالتفرغ للعبادة فيه وترك الأشغال فقالوا لا نريده واختاروا السبت فشدد عليهم فيه. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الواو عاطفة أو استئنافية وان واسمها واللام المزحلقة وجملة يحكم خبر إن وبينهم متعلقان بيحكم وكذلك الظرف وهو يوم القيامة وفيما متعلقان بمحذوف حال وجملة كانوا صلة وفيه متعلقان بيختلفون وجملة يختلفون خبر كانوا.
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ادع فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت والمفعول محذوف أي الناس والى سبيل ربك متعلقان بادع وبالحكمة حال أي ملتبسا بها والموعظة الحسنة عطف على الحكمة. (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وجادلهم عطف على ادع والهاء مفعول به وبالتي متعلقان بادع وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة الاسمية صلة التي. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إن واسمها وهو مبتدأ وأعلم خبر والجملة خبر إن وبمن متعلقان بأعلم وجملة ضل صلة وعن سبيله متعلقان بضل وهو مبتدأ وأعلم خبر وبالمهتدين متعلقان بأعلم. (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) الواو استئنافية وان شرطية وعاقبتم فعل ماض والتاء فاعل وهو في محل جزم فعل الشرط فعاقبوا الفاء رابطة وعاقبوا فعل أمر وفاعل وبمثل جار ومجرور متعلقان بعاقبوا وما مضاف اليه وجملة عوقبتم صلة وبه(5/385)
متعلقان بعوقبتم وجملة فعاقبوا في محل جزم جواب الشرط.
(وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية وصبرتم في محل جزم فعل الشرط واللام واقعة في جواب القسم لتقدمه وقد تقدم ذلك وهو مبتدأ وخير خبر وللصابرين متعلقان بخير.
(وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) واصبر الواو استئنافية واصبر فعل أمر وفاعله مستتر وما صبرك الواو حالية وما نافية وصبرك مبتدأ وإلا أداة حصر وبالله خبر والواو عاطفة ولا ناهية وتحزن فعل مضارع مجزوم بلا وعليهم متعلقان بتحزن. (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتك فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر تقديره أنت وفي ضيق خبر تك ومما صفة لضيق وجملة يمكرون صلة.
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) إن واسمها ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر والذين مضاف اليه واتقوا صلة والذين عطف على الذين وهم مبتدأ ومحسنون خبر والجملة صلة.
البلاغة:
خواتم سورة النحل:
قوله تعالى «ولا تك في ضيق» يجوز أن يكون من الكلام المقلوب لأن الضيق وصف يكون في الإنسان ولا يكون الإنسان فيه ويجوز أن يراد أن في الكلام تشبيها فقد شبه الضيق بالشيء الذي يحيط بالإنسان وهو من روائع التعبير وجوامع الكلم ولذلك روي عن ابراهيم بن حيان عند ما احتضر أنه قيل له: أوص، فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي ولكني أوصيكم بخواتم سورة النحل.(5/386)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
(17) سورة الإسراء مكية وآياتها إحدى عشرة ومائة
[سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)(5/387)
اللغة:
(سُبْحانَ) : علم جنس للتنزيه والتقديس وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحانه أو سبحت الله سبحان أي فهو مفعول مطلق ومعناه ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص ولذا لا يستعمل إلا فيه تعالى.
(أَسْرى) : سرى بمعنى سار في الليل وهما لازمان ومصدر الأول الإسراء ومصدر الثاني السرى بضم السين.
(مَرَّتَيْنِ) : تثنية مرة وفي القاموس مرمرا ومرورا جاز وذهب واستمر ومره وبه جاز عليه وامترّ به وعليه كمر والمرة الفعلة الواحدة والجمع مرّ ومرار ومرر بكسرهما ومرور بالضم ولقيه ذات مرة ولا يستعمل إلا ظرفا» .
(فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ) : في القاموس: «الجوس بالجيم طلب الشيء باستقصاء والتردد خلال الدور والبيوت في الغارة والطوف فيها كالجوسان والاجتياس وبابه قال وخلال الديار فيه وجهان أحدهما أنه اسم مفرد بمعنى وسط والثاني انه جمع خلل كجبل وجبال وجمل وجمال.(5/388)
وقال الجوهري: الجوس مصدر جاسوا خلال الديار أي تخللوا فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها. وحكى الهروي في الغريبين عن الأزهري أن معنى جاسوا وطئوا. وحكي عن الأصمعي انه يقال تركت فلانا يجوس بني فلان ويحوسهم ويدوسهم أي يضؤهم.
وقال أبو عبيد كل موضع خالطته ووطئته فقد جسته وحسته.
(الْكَرَّةَ) : الغلبة والدولة وهي في الأصل مصدر كريكر أي رجع ثم استعملت تعبيرا عن الدولة والقهر والغلبة.
(نَفِيراً) : النفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفر كالعبيد والمعيز وفيه أوجه أحدها انه فعيل بمعنى فاعل أي نافر والثاني أنه جمع نفر نحو عبيد والثالث انه مصدر أي أكثر خروجا الى الأعداء وفد قدمنا أن النون والفاء إذا كاتنا فاء للكلمة وعينا لها، دلتا على الخروج والنفاذ.
(يتبروا) : التتبير: الهلاك.
(حَصِيراً) : محبسا وسجنا. قال لبيد:
ومقامه غلب الرجال كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
وقال الحسن: يعني فراشا، وعنه أيضا: وهو مأخوذ من الحصر والذي يظهر انها حاصرة لهم أي محيطة بهم من جميع جهاتهم فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث كما تقول: رحيمة وعليمة، ولكنه على معنى النسب كقوله: السماء منفطر به، أي ذات انفطار.(5/389)
الإعراب:
(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) سبحان مفعول مطلق لفعل محذوف وقد تقدم بحثه في باب اللغة والذي مضاف اليه وجملة أسرى صلة، وبعبده متعلقان بأسرى وليلا ظرف متعلق بأسرى وسيأتي في باب البلاغة سر ذكره مع أن السرى لا يكون إلا في الليل وبعبده جار ومجرور متعلقان بأسرى وليلا ظرف زمان متعلق بأسرى أيضا ومن المسجد جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي مبتدئا وإلى المسجد الأقصى حال أيضا أي منتهيا الى المسجد والأقصى نعت للمسجد والذي نعت ثان وباركنا صلة وهي فعل وفاعل وحوله ظرف متعلق بباركنا. (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) اللام للتعليل ونريه فعل مضارع منصوب بأن مضمرة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به والأولى أن تجعل الجار والمجرور خبرا لمبتدأ محذوف أي وذلك لنريه ومن آياتنا جار ومجرور متعلقان بنريه ومن حرف جر للتبعيض وان واسمها وهو مبتدأ أو ضمير فصل والسميع خبر هو أو خبر إن والبصير خبر ثان وسيأتي سر هذه الالتفاتات في باب البلاغة. (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) الواو استئنافية أو عاطفة على جملة سبحان الذي أسرى ونا فاعل وموسى مفعول به أول والكتاب مفعول به ثان وجعلناه هدى فعل وفاعل والهاء مفعول به أول وهدى مفعول به ثان ولبني متعلقان بهدى وإسرائيل مضاف اليه. (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) يصح في أن أن تكون مصدرية منصوبة مع مدخولها بنزع الخافض أي بأن لا تتخذوا والجار والمجرور متعلقان بكتبنا ويجوز أن تكون مفسرة لأن الإتيان فيه معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتتخذوا مضارع(5/390)
مجزوم بلا ووكيلا مفعول تتخذوا الأول ومن دوني هو المفعول الثاني لتتخذوا. (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) ذرية:
اضطربت أقوال المعربين في نصبها المتفق عليه بين القراء جميعا فقيل:
نصبت على الاختصاص وبه بدأ الزمخشري وقيل على النداء وقيل بدل من وكيلا وقيل مفعول ثان لتتخذوا، على أن النفس لا تطمئن لواحد منها والله أعلم ومن مضاف الى ذرية وحملنا صلة ومع ظرف مكان متعلق بحملنا ونوح مضاف إليه وان واسمها وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو وعبدا خبرها وشكورا صفة ومما يرجح إعراب ذرية على الاختصاص أو النداء قول الزمخشري في إعراب جملة: «إنه كان عبدا شكورا» انها تعليلية لاختصاصهم بأنهم أولاد المحمولين مع نوح فكأنه قيل: «لا تتخذوا من دوني وكيلا ولا تشركوا بي لأن نوحا عليه السلام كان عبدا شكورا وأنتم ذرية من آمن به وحمل معه فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم» وهذه فطنة من الزمخشري تسترعي الانتباه وتستحق الاعجاب. (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) الواو عاطفة وقضينا فعل وفاعل وإلى بني إسرائيل متعلقان بقضينا وقضينا في الأصل فعل يتعدى بنفسه ولكنه تعدى هنا بإلى لتضمنه معنى أوحينا، ومعنى قضينا أعلمنا وأخبرنا أو حكمنا وأتممنا، وأصل القضاء الإحكام للشيء والفراغ منه وقيل أوحينا ويدل عليه قوله إلى بني إسرائيل ولو كان بمعنى الإعلام والاخبار لقال قضينا بني إسرائيل ولو كان بمعنى حكمنا لقال على بني إسرائيل ولو كان بمعنى أتممنا لقال لبني إسرائيل. وفي الكتاب حال والمراد به التوراة. (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) اللام جواب للقسم المحذوف أو أجرى القضاء المبتوت مجرى القسم كأنه قيل: وأقسمنا لتفسدن، وتفسدن فعل مضارع معرب لأنه لم يتصل مباشرة بنون التوكيد الثقيلة وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي النونات(5/391)
وواو الجماعة المحذوفة لالتقاء الساكنين هي الفاعل والأصل لتفسدونن وقد تقدمت له نظائر وفي الأرض متعلقان بتفسدن ومرتين نصب على الظرفية وأعربه أبو البقاء مفعولا مطلقا على أنه صفة لمصدر محذوف أو على أنه في نفسه مصدر عمل فيه ما هو من غير جنسه وسيأتي المراد بالمرتين في باب الفوائد. (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) الواو عطف ولتعلن عطف على لتفسدن وهي مماثلة لها في إعرابها وعلوا مفعول مطلق وكبيرا صفة. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة جاء مضاف إليها الظرف ووعد فاعل وأولاهما مضافة لوعد ولما كان الوعد على إطلاقه خاصا بالخير كان لا بد من تقدير مضاف محذوف أي وعد عقاب أولاهما وجملة بعثنا لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وعليكم متعلقان ببعثنا وعبادا مفعول به وأولي صفة لعبادا وهي من الأسماء الخمسة بمعنى أصحاب وبأس مضاف اليه وشديد صفة لبأس.
(فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا) الفاء عاطفة وجاسوا عطف على بعثنا وخلال ظرف مكان متعلق بجاسوا والديار مضاف اليه والواو عاطفة وكان عطف على الجوس واسمها ضمير يعود على الجوس أو الوعد بالعقاب ووعدا خبر كان ومفعولا صفة لوعدا. (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) ثم حرف عطف للتراخي ورددنا فعل وفاعل ولكم متعلقان برددنا والكرة مفعول به وعليهم متعلقان بالكرة أي الغلبة عليهم أو حال منها. (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) وأمددناكم عطف على رددنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وبأموال جار ومجرور متعلقان بأمددناكم وبنين عطف على أموال وجعلناكم فعل وفاعل ومفعول به وأكثر مفعول به ثان ونفيرا تمييز. (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) إن شرطية وأحسنتم فعل وفاعل وهو في محل جزم(5/392)
فعل الشرط وأحسنتم جوابه وإن أسأتم عطف على إن أحسنتم والفاء رابطة للجواب ولها متعلقان بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف أي فإساءتكم، وكان القياس يقتضي أن يقول فعليها ولكنه عدل الى اللام للمشاكلة مع قوله لأنفسكم، وقيل اللام بمعنى على أي فعليها كما في قول عنترة:
فخرّ صريعا لليدين وللفم
(فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ) الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل، وجاء وعد فعل وفاعل والآخرة مضاف لوعد وأراد المرة الآخرة وليسوءوا اللام للتعليل ويسيئوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وهو متعلق بجواب إذا المحذوف أي بعثناهم ليسوءوا وقد دل على الجواب جواب إذا الأولى ووجوهكم مفعول به والمعنى ليجعلوا وجوهكم بادية المساءة منكسفة المعالم. (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وليدخلوا عطف على ليسوءوا أي فهو متعلق بمحذوف هو بعثناهم والمسجد منصوب على السعة وكما نصب على المصدرية أي دخولا مثل دخولهم وأول مرة نصب على الظرفية. (وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً) وليتبروا عطف على ليسوءوا وواو الجماعة فاعل وما مفعول به ليتبروا أي ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ويجوز أن تجعل ما مصدرية ظرفية ومفعول يتبروا محذوف ولعله أولى لإفساح المجال أمام الخيال ليتصور مدى إهلاكهم الحرث والنسل مدة علوهم على البلاد ويكون الظرف متعلقا بيتبروا وتتبيرا مفعول مطلق. (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) عسى فعل ماض من أفعال الرجاء ترفع الاسم وتنصب الخبر وربكم اسمها وأن مع مدخولها في محل نصب خبر والواو حرف عطف وإن(5/393)
شرطية وعدتم فعل ماض وفاعل في محل جزم فعل الشرط وعدنا فعل ماض وفاعل في محل جزم جواب الشرط وجعلنا عطف على عدنا ونا فاعل وجهنم مفعول به أول وللكافرين متعلقان بحصيرا وحصيرا مفعول به ثان هذا إذا اعتبرنا حصيرا فعيلا بمعنى فاعل وان اعتبرناه اسما جامدا أي مكان الحبس المعروف فتكون للكافرين حالا منه.
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على ضروب من البلاغة ندرجها فيما يلي:
1- الذكر:
ذكر الليل مع أن السرى لا يكون إلا بالليل يحتمل أمرين:
آ- أولهما أن الاسراء لما دل على أمرين أحدهما السير والآخر كونه ليلا أريد إفراد أحدهما بالذكر تثبيتا في نفس المخاطب وتنبيها على أنه مقصود بالذكر وقد مرت الاشارة الى هذه النكتة في قوله تعالى «وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد» فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية وكذلك المفرد فأريد التنبيه لأن أحد المعنيين وهو التثنية مقصود مراد.
ب- وثانيهما الإشارة بتنكير الليل إلى تقليل مدته لأن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية وهذا بخلاف ما لو قيل أسرى بعبده الليل فإن التركيب مع التعريف يفيد استغراق السير لجميع أجزاء الليل.
2- الوصل والفصل:
ومن الفنون البعيدة المنال التي تطول على من رامها الفصل(5/394)
والوصل فإن القارئ ليشعر أن بين آية الاسراء وقوله «وآتينا موسى الكتاب» إلى آخر الآية تباينا شديدا في ظاهر الأمر حتى إذا تمعّن وتدبر وجد الوصل بين الفعلين فإنه تعالى أخبر أنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم الى الأرض المقدسة ليريه من آياته ويرسله الى عباده كما أسرى بموسى من مصر إلى مدين حين خرج خائفا يترقب وأسرى به وبابنه شعيب الى الأرض المقدسة ليريه من آياته ويرسله الى فرعون وملئه وآتاه الكتاب فهذا هو الوصل بين الفصلين المذكورين وأما الوصل بين قوله تعالى: «ذرية من حملنا مع نوح» وبين ما قبله فتذكار بني إسرائيل بأول نعمه عز وجل عليهم بنجاة آبائهم مع نوح في السفينة من الغرق إذ لو لم ينج آباؤهم لما وجدوا فكأنما النعم السابغة عليهم سلسلة متعاقبة الحلقات أولها نجاة آبائهم من غرق الطوفان الذي عم العالم بأسره وآخرها نجاتهم من الغرق حين شق لهم البحر ليغرق فرعون وجنوده وملؤه وينجوا هم وإذن كان يترتب عليهم أن يشكروا من أسبغ عليهم هذه الآلاء والعوارف وأن يتأسوا بنوح جدهم الأكبر الذي كان عبدا شكورا، أليس الولد سر أبيه؟ بيد أن هؤلاء نسيج وحدهم من الجحود والإنكار، وغمط النعمة، ومقابلة الحسنات بالسيئات.
3- الالتفات:
تحدثنا عن الالتفات كثيرا في هذا الكتاب وتقدمت له شواهد متعددة وفي هذه الآية، آية الاسراء، تعاقب الالتفات كثيرا على قصر متنه وتقارب طرفيه، فقد قال أولا «سبحان الذي أسرى» بلفظ الواحد الغائب ثم قال «الذي باركنا» بلفظ الجمع المتكلم ثم قال «إنه هو السميع البصير» بلفظ الواحد الغائب ولو جاء الكلام على(5/395)
مساق الأول لكان «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير» وهذا جميعه محمول على أسرى فلما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة الى صيغة كان ذلك اتساعا في الكلام، وتفننا فيه، وتنويعا لأساليبه والفائدة منه فضلا عن تطرية نشاط الذهن، واستحضاره، واسترعائه لعرض الحقائق المملوءة بالعظات والعبر، أنه لما بدأ الكلام بسبحانه ردفه بقوله الذي أسرى إذ لا يجوز أن يقال الذي أسرينا فلما جاء بلفظ الواحد، والله تعالى أعظم العظماء وهو أولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمع استدرك الاول بالثاني فقال: «باركنا» ثم قال «لنريه من آياتنا» فجاء بذلك على نسق «باركنا» ثم قال «إنه هو» عطفا على أسرى وذلك موضع متوسط الصفة لأن السمع والبصر صفتان يشاركه فيهما غيره، بصرف النظر عن التفاوت بين السمعين والبصريين وتلك حال متوسطة فخرج بهما عن خطاب العظيم في نفسه الى خطاب غائب وهذه مرام بعيدة المدى، جليلة الغرض لا يسبر غورها ولا يكتنه فحواها إلا المطبوع.
الفوائد:
1- «من» و «إلى» الجارتين:
ل «من» الجارة معان كثيرة يمكن الرجوع إليها في معني اللبيب وغيره من الكتب المطولة في النحو ولكننا نريد أن نشير إلى المعنى الرئيسي لها الوارد في آية الاسراء وهو الابتداء أي ابتداء الغاية المكانية باتفاق جميع النحاة بصريهم وكوفيهم بدليل انتهاء الغاية بعدها وهي قوله «الى المسجد الأقصى» أما ابتداء الغاية الزمانية فقد اختلف النحاة فأقرها الكوفيون وأقرها من البصريين المبرد والأخفش وابن(5/396)
درستويه وهذا هو الصحيح لورودها في الكتاب العزيز وهو قوله «من أول يوم أحق أن تقوم فيه رجال» وفي الحديث وهو قول أنس «فمطرنا من الجمعة الى الجمعة» وفي الشعر وهو قول النابغة الذبياني يصف السيوف:
تخيرن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب
أما «إلى» الجارة فهي تفيد انتهاء الغاية مكانية وزمانية فمثالها في المكان «الى المسجد الأقصى» ومثالها في الزمان «ثم أتموا الصيام إلى الليل» ولإلى سبعة معان أخرى حكاها في مغني اللبيب وغيره ومما أشكل من معاني إلى قول النابغة الذبياني أيضا يعتذر الى النعمان ابن المنذر:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
ذكر في المغني أنها هنا بمعنى في وهو غريب وقال الدماميني:
«إلى متعلقة بمحذوف وهو حال من اسم كأن، أي: كأنني مبغضا إلى الناس بسبب الوعيد كجمل أجرب طلي به القار أي جعل فيه أو اتصف به» وقد ذهل الدماميني عن القلب في مطلي به القار أو انه تكلفه ليجعل مطليا بمعنى مبغض فالقار يطلى به ولا يطلي هو ولهذا كان لا بد من الرجوع الى رأي ابن هشام وهو ان الى بمعنى في وان الجار والمجرور في موضع النصب على الحال أي كأنني كائنا في الناس بعير طلي بالقار وهو مبغض.
2- معنى مرتين:
اختلف المفسرون في تفسير المرتين الواردتين في قوله تعالى «لتفسدن في الأرض مرتين» فذهب بعضهم الى أن المرة الأولى هي قتل(5/397)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
زكريا وحبس أرميا والثانية قتل يحيى وقصد قتل عيسى وقال البيضاوي:
«أولاهما مخالفة أحكام التوراة وقتل شعيا وقيل أرميا وثانيتهما قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام» على أن فساد اليهود في الأرض لا يمكن حصره بمرتين وإنما أتى القرآن الكريم بالمرتين مثالا سريعا لفسادهم الذي لا يحصى والذي يستمر مدى الدهور. ويمكن الرجوع الى المطولات لهذا الغرض.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 9 الى 15]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13)
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)(5/398)
الإعراب:
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) إن واسمها والقرآن بدل من اسم الاشارة ويهدي فعل وفاعل مستتر والمفعول به محذوف أي يهدي الناس والجملة خبر إن وللتي جار ومجرور متعلقان بيهدي وهي مبتدأ وأقوم خبر والجملة الاسمية صلة التي وأقوم اسم تفضيل على قول الزجاج إذ قدر أقوم الحالات، وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال ورجح أبو حيان انها ليست للتفضيل إذ قال لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها وفضلت هذه عليها وانما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة كما قال: وذلك دين القيمة، وفيها كتب قيمة، أي مستقيمة الطريقة، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين. (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) ويبشر عطف على يهدي والمؤمنين مفعول به والذين صفة المؤمنين وجملة يعملون صلة والصالحات مفعول به وأن وما في حيزها نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بيبشر ولهم خبر أن المقدم وأجرا اسمها المؤخر وكبيرا صفة. (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) وان الذين عطف على أن لهم أجرا كبيرا أي يبشر المؤمنين ببشارتين عظيمتين الأولى بثوابهم والثانية بعقاب أعدائهم ويجوز أن يعطف على يبشر بإضمار ويخبر بأن الذين لا يؤمنون معذبون وجملة أعتدنا خبر أن ولهم متعلقان بأعتدنا وعذابا مفعول به وأليما صفة. (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) الواو استئنافية ويدعو الإنسان فعل وفاعل وبالشر متعلقان بمحذوف حال أو بيدعو ودعاءه مفعول مطلق وبالخير حال أيضا أو متعلقان بالدعاء لأنه مصدر والواو عاطفة أو حالية وكان واسمها وخبرها.
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) وجعلنا فعل وفاعل(5/399)
والليل مفعول به والنهار عطف على الليل وآيتين مفعول به ثان فمحونا الفاء عاطفة ومحونا عطف على جعلنا وآية الليل مفعول به.
(وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) وجعلنا فعل وفاعل وآية النهار مفعول به أول ومبصرة مفعول به ثان ولتبتغوا اللام للتعليل وتبتغوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو فاعل والجار والمجرور متعلقان بقوله وجعلنا، وفضلا مفعول به ومن ربكم متعلقان بتبتغوا وصفة لقوله فضلا. (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا) ولتعلموا عطف على ولتبتغوا وعدد السنين مفعول به والحساب عطف على عدد ولا تكرار فيهما وكل شيء نصب على الاشتغال ورجح نصبه لتقدم جملة فعلية كما سيأتي في باب الفوائد وفصلناه فعل وفاعل ومفعول به وتفصيلا مفعول مطلق.
(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) وكل انسان نصب على الاشتغال أيضا وألزمناه فعل وفاعل ومفعول به وطائره مفعول به ثان وفي عنقه حال أي كائنا وسيأتي تفصيل ذلك في باب البلاغة. (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) الواو عاطفة ونخرج فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن وله جار ومجرور متعلقان بنخرج وكتابا مفعول به وجملة يلقاه صفة لكتابا ومنشورا اما صفة ثانية لكتابا وإما حال.
(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) جملة اقرأ كتابك في موضع نصب مقول قول محذوف أي يقال له واقرأ فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكتابك مفعول به وكفى فعل ماض وبنفسك الباء حرف جر زائد ونفسك فاعل مرفوع محلا مجرور بالباء لفظا واليوم ظرف متعلق بمحذوف حال وعليك متعلقان بحسيبا، وحسيبا تمييز وهو بمعنى حاسب كما ذكر سيبويه، قال سيبويه: «ضريب القداح(5/400)
بمعنى ضاربها وصريم بمعنى صارم» وأجاز بعضهم إعرابه حالا لأنه مشتق وليس ببعيد. (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) من شرطية مبتدأ واهتدى فعل ماض في محل جزم فعل الشرط فإنما الفاء رابطة وإنما كافة ومكفوفة ويهتدي فعل مضارع مرفوع والفاعل هو ولنفسه متعلقان بيهتدي والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط.
(وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) عطف على الجملة السابقة وعليها في موضع نصب على الحال أي واقعا ضلاله عليها. (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الواو عاطفة ولا نافية وتزر فعل مضارع وفاعل ووزر مفعول لتزر أي تحمل وأخرى مضاف اليه. (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الواو عاطفة وما نافية وكنا كان واسمها ومعذبين خبرها، حتى حرف غاية وجر ونبعث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ورسولا مفعول به.
البلاغة:
1- المجاز العقلي في قوله تعالى «وجعلنا آية النهار مبصرة» لأن النهار لا يبصر بل يبصر فيه فهو من إسناد الفعل إلى زمانه وقد تقدم ذكره كثيرا.
2- «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» تعبير مسوق على عادة العرب كانوا لا يباشرون عملا من الأعمال الهامة إلا إذا اعتبروا أحوال الطير ليتبينوا إذا كانت مغبة العمل خيرا أم شرا فإذا طارت الطير بنفسها أو بإزعاج من أحد متيامنة تفاءلوا وأقدموا على عملهم وإذا طارت متياسرة تشاءموا وأحجموا عن عملهم ولما كثر منهم ذلك سموا نفس(5/401)
الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه على طريق المجاز المرسل وقد تقدم ذكره كثيرا.
وإنما خص العنق بالذكر لأنه محل القلادة التي تزين الجيد وتبدو لأول وهلة وتسم المتقلد بها بالوسامة فكان ذلك كناية عن اتصافه بالخير والشر المقدرين له في لوح الأزل وإيثاره باختياره جانب واحد منهما كالذي يتبع السوانح وهي الطير الذاهبة متيامنة والذي يتبع البوارح وهي الطير الذاهبة متياسرة وأجاز بعضهم أن يكون الكلام من باب الاستعارة التصريحية أي استعير الطائر لما هو سبب الخير والشر من قدر الله وعمل العبد أي لما جعلوا الطائر سببا للخير والشر وأسندوهما اليه باعتبار سنوحه وبروحه استعير الطائر لما كان سببا لهما وهما قدرة الله الكائنة وعمل العبد المختار وكما أن الطائر الحقيقي يأتي الى كل مكان بعد مزايلة وكناته وأعشاشه فكذلك الحوادث تنتهي إلى الإنسان.
3- الطباق بين الهدى والضلال وقد تقدم.
4- في قوله «وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة» فن الجمع مع التفريق وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين في حكم واحد ثم يفرق بينهما في ذلك الحكم، ومما ورد منه في الشعر قول البحتري البديع:
ولما التقينا والنقا موعد لنا ... تعجب رائي الدرّ منّا ولا قطه
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه(5/402)
الفوائد:
الاشتغال:
الاشتغال عرفه النحاة بأنه اسم تقدم على عامل من حقه أن ينصبه لولا اشتغاله عنه بالعمل في ضميره نحو: خالد أكرمته، والأفضل في الاسم المتقدم الرفع على الابتداء والجملة بعده خبره ويجوز نصبه بفعل محذوف يفسره المذكور بعده وجملة رأيته مفسرة للجملة المقدرة ولا محل لها من الإعراب ولا يجوز إظهار الفعل المقدر ويقدر بلفظ الفعل المذكر إلا إذا كان لازما فيقدر بمعناه نحو حمص مررت بها فيقدر بجاوزت مثلا وله أحوال:
1- وجوب النصب:
وذلك إذا وقع بعد أدوات التحضيض والشرط والاستفهام غير الهمزة نحو هلّا الخير فعلته، وإن عليا لقيته فسلم عليه، وهل خالدا أكرمته؟ غير أن الاشتغال بعد أدوات الاستفهام والشرط لا يكون إلا في الشعر.
2- ترجيح النصب:
ويترجح النصب في خمسة أمور:
آ- أن يقع بعد الاسم أمر نحو خالدا أكرمه وقد استثنيت من ذلك مسألة «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما» وقد تقدم الكلام عليها مستوفى.(5/403)
ب- أن يقع بعد الاسم نهي نحو: الكريم لا تهنه.
ج- أن يقع بعد الاسم دعاء نحو: اللهم أمري يسره.
د- أن يقع الاسم بعد همزة الاستفهام كقوله تعالى «أبشرا منا واحدا نتبعه» .
هـ- أن يقع الاسم جوابا لمستفهم عنه كقولك: عليا أكرمته، في جواب من قال: من أكرمت؟
3- وجوب الرفع:
ويجب الرفع في موضعين:
1- أن يقع بعد إذا الفجائية نحو: خرجت فإذا الجو يملؤه الضباب، لأن إذا الفجائية لا تدخل على الأفعال.
2- أن يقع قبل أدوات الاستفهام أو الشرط أو التحضيض أو ما النافية أو لام الابتداء أو ما التعجبية أو كم الخبرية أو إن وأخواتها نحو: علي هل أكرمته، وسعيد إن لقيته فسلم عليه، وخالد هلّا دعوته، والشر ما فعلته، والخير لأنا أفعله، والخلق الحسن ما أطيبه، وزهير كم أكرمته، وخالد إني أحبه، فالاسم في ذلك كله مبتدأ والجملة بعده خبر وإنما لم يجز نصبه لأن هذه الأدوات لها الصدارة وما بعدها لا يعمل فيما قبلها.
4- ترجيح الرفع:
ويترجح الرفع إذا لم يكن هناك ما يوجب نصبه أو يرجحه أو يوجب رفعه نحو الكتاب قرأته لأن عدم التقدير أولى من التقدير.(5/404)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
وهناك مسائل تتعلق بالاشتغال يرجع إليها في المطولات وستأتي نكت طريفة منه في هذا الكتاب.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 16 الى 21]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)
اللغة:
(مُتْرَفِيها) : منعميها بمعنى رؤسائها وفي القاموس «الترفه بالضم النعمة والطعام الطيب والشيء الظريف تخصّ به صاحبك، وترف كفرح تنعّم، وأترفته النعمة أطغته أو نعمته كترفته تتريفا والمترّف كمكرم المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع والمتنعم لا يمنع من تنعمه(5/405)
وتترف تنعم» وفي أساس البلاغة: «أترفته النعمة: أبطرته وأترف فلان وهو مترف وأعوذ بالله من الإتراف والإسراف واستترفوا:
تعفرتوا وطغوا ولم أزل معهم في ترفة أي في نعمة» .
(مَدْحُوراً) : مطرودا وفي القاموس: «الدحر: الطرد والإبعاد والدفع كالدحور فعلهن كجعل وهو داحر ودحور» .
الإعراب:
(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها)
الواو استئنافية مسوقة لبيان الأسباب التي تهلك بها القرى، وتدول الشعوب، وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة أردنا مضاف إليها الظرف وان وما في حيزها مصدر مؤول في محل نصب مفعول به لأردنا وقرية مفعول به وجملة أمرنا لا محل لها لأنها جواب إذا ومترفيها مفعول، ففسقوا الفاء عاطفة وفسقوا فعل وفاعل وفيها متعلقان بفسقوا (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً)
الفاء عاطفة وحق فعل ماض وعليها متعلقان بحق والقول فاعل، فدمرناها فعل وفاعل ومفعول به وتدميرا مفعول مطلق وسيأتي تفصيل لهذه الآية البليغة في باب البلاغة.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) كم خبرية في محل نصب مفعول أهلكنا ومن القرون في محل نصب تمييز ل «كم» ومن بعد نوح متعلقان بمحذوف حال أو بأهلكنا فمن للابتداء. (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) الباء زائدة في الفاعل وقد تقدم ذلك قريبا وبذنوب عباده متعلقان بخبيرا بصيرا. (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) من شرطية مبتدأ وكان فعل ماض ناقص في محل جزم فعل(5/406)
الشرط وجملة يريد العاجلة خبر كان وعجلنا فعل وفاعل وهو في محل جزم جواب الشرط وله متعلقان بعجلنا وفيها متعلقان بمحذوف حال وما موصول مفعول به وجملة نشاء صلة ولمن الجار والمجرور بدل من له بإعادة العامل وجملة نريد صلة ومفعول نريد محذوف أي لمن نريد تعجيله وفعل الشرط وجوابه خبر من. (ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) ثم حرف عطف لتراخي المدة وجعلنا فعل وفاعل وله في محل نصب مفعول جعلنا الثاني وجهنم مفعول جعلنا الأول وجملة يصلاها حال من الضمير في له ومذموما حال من الضمير في يصلاها وكذلك مدحورا. (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها وهي مماثلة لها في الإعراب وسعى لها عطف على أراد وسعيها مفعول مطلق أي حق سعيها ومن سقطات معظم المفسرين كأبي البقاء والكرخي وغيرهما انهم أجازوا إعراب سعيها مفعولا به ونسوا أن سعى فعل لازم، هذا بالاضافة الى أن المصدرية واضحة تماما. والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والجملة نصب على الحال من الضمير في سعى. (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) الفاء رابطة لجواب من وأولئك اسم إشارة مبتدأ وكان واسمها وخبرها والجملة خبر أولئك وجملة أولئك كان إلخ في محل جزم جواب الشرط. (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ) كلّا مفعول به مقدم لنمد والتنوين عوض عن الإضافة أي كل واحد، وفاعل نمد مستتر تقديره نحن وهؤلاء بدل من كلّا وهؤلاء عطف على هؤلاء الأولى ومن عطاء ربك جار ومجرور متعلقان بنمد. (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) الواو عاطفة أو حالية وما نافية وكان واسمها وخبرها.(5/407)
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) انظر فعل أمر والفاعل مستتر وكيف اسم استفهام في محل نصب على الحال وفضلنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به وعلى بعض جار ومجرور متعلقان بفضلنا.
(وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) الواو للحال واللام للابتداء والآخرة مبتدأ وأكبر خبر ودرجات تمييز نصب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم وأكبر عطف على أكبر الأولى وتفضيلا تمييز.
البلاغة:
في هذه الآية «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا» فنون شتى:
أولها: الالتزام، أو لزوم ما لا يلزم، وقد تقدم البحث عنه مستفيضا وهو التزام حرف أو حرفين فصاعدا قبل الروي على قدر طاقة الشاعر أو الكاتب من غير كلفة وإنما قيدناه بعدم الكلفة لأنه يستحيل صنعة باهتة لا أثر فيها لجمال ويسف عن درجة البلاغة ولا ينتظم في سلكها، فقد التزم في قوله «مترفيها» و «فيها» الفاء قبل ياء الردف ولزمت الياء وسيأتي الكثير منه في القرآن وهو من أرشق الاستعمالات ومما ورد فيه التزام سين قبل ألف الردف قول أبي العلاء صاحب اللزوميات:
رويدك قد غررت وأنت حر ... بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا ... ويشربها على عمد مساء
يقول لقد غدوت بلا كساء ... وفي لذاتها رهن الكساء(5/408)
وثانيها: المجاز المرسل في قوله «أمرنا مترفيها» لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا وهذا باطل فبقي أن يكون مجازا وإنما جعل الترف وهو الاتساع في العيش والبلهنية التي لا حدود لها ذريعة الى المعاصي والانجرار وراء الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لا مناص لهم عنه ولا انفكاك لهم منه وليس ثمة أمر ولا آمر وإنما هو المال رائد الشهوة، وبريد الغفلة، يزين للنفوس الموبقات فتسترسل فيها وتتعامى عن رؤية واقعها، وقد يكون واقعها عاليا وفوق المستويات بيد أنه لا يعتم أن يهوي بعد أن غفل عنه حارسوه وكالئوه كما حدث للعرب بعد استبحار مجدهم واتساع سلطانهم فهووا من حالق وأضاعوا ملكا لم يحافظوا عليه مثل الرجال على حد قول أم أبي عبد الله آخر ملوك بني الأحمر في الأندلس:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا ... لم تحافظ عليه مثل الرجال
وثالثها: الحذف: فقد حذف المأمور به ولم يقل بماذا أمرهم إيجازا في القول واعتمادا على بديهة السامع لأن قوله ففسقوا فيها يدل عليه وهو كلام مستقيض. تقول أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام وقراءة ولو أردت تقدير غيره لتكلفت شططا وحذفت ما لا دليل عليه هذا في حين توفر الدلائل على نقيضه كما بيّنا لك.
هذا وقد تورط بعضهم فزعم في مجازفة لا حدود لها أن أمرنا معناها كثّرنا وفي مقدمة هؤلاء المتورطين أبو علي القالي في كتابه الممتع «الأمالي» فقد قال: «وقال الله تعالى: «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها» أي كثرنا ولا أدري كيف ساغ له هذا التفسير لأن أمر من باب فرح بكسر الميم والقراءة أمر بفتحها وهو أيضا لازم ولا يجوز(5/409)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
أن تفسر بمعنى كثر المشددة الثاء إلا إذا ضعفت الميم وقد قرىء بها فكان الأولى به أن يشير إلى ذلك قال أبو البقاء: «أمرنا» يقرأ بالقصر والتخفيف أي أمرناهم بالطاعة وقيل كثرنا نعمهم وهو في معنى القراءة بالمد ويقرأ بالتشديد والقصر أي جعلناهم أمراء وقيل هي بمعنى الممدودة لأنه تارة يعدى بالهمزة وتارة بالتضعيف.
وفي قوله «كلّا نمد هؤلاء وهؤلاء» لف ونشر مرتب فهؤلاء الأولى للفريق الأول أي مريد الدنيا وهؤلاء الثانية للفريق الثاني أي مريد الآخرة.
الفوائد:
تساءل بعضهم عن معنى قوله تعالى: «كيف فضلنا بعضهم على بعض» وكيف يصح التفاوت بين أبناء البشر وهم سواسية والجواب هو أن التفاوت منوط بالفضل ومبلغ ما يؤديه المرء لأبناء جلدته وللمجتمع عامة، روى التاريخ أن قوما من الأشراف فمن دونهم اجتمعوا بباب عمر بن الخطاب فخرج الاذن لبلال وصهيب فشق على أبي سفيان فقال سهيل بن عمرو: إنما أتينا من قبلنا انهم دعوا ودعينا يعني الى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا. وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 25]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)(5/410)
الإعراب:
(لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا) لا ناهية وتجعل فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت ومع الله ظرف متعلق بمحذوف مفعول تجعل الثاني وإلها مفعول تجعل الأول وآخر صفة، فتقعد: الفاء فاء السببية وتقعد فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره أنت ومذموما حال ومخذولا حال ثانية وسيأتي ما في تقعد من أقوال. (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لبيان منزلة الوالدين ووجوب معاملتهما من قبل الأبناء معاملة لائقة وقضى ربك فعل وفاعل ومعنى قضى أمر أمرا قاطعا وقيل أوصى و «أن» يحتمل أن تكون مصدرية فلا نافية وتعبدوا منصوب بها والمصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بقضى وقيل مفسرة لأن قضى فيه معنى القول دون حروفه أو مخففة من الثقيلة فلا على الحالين ناهية وتعبدوا مجزوم بها وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وإلا أداة حصر وإياه مفعول وبالوالدين جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره وأحسنوا، وإحسانا مفعول مطلق ناصبه الفعل المحذوف، وإنما علقناهما بالفعل المحذوف لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته (إِمَّا يَبْلُغَنَّ(5/411)
عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما)
إن شرطية زيدت عليها ما تأكيدا لها ويبلغن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم فعل الشرط وعندك ظرف متعلق بمحذوف حال وأحدهما فاعل يبلغن والميم والألف حرفان دالان على التثنية وأو حرف عطف وكلاهما عطف على أحدهما وعلامة رفعه الألف لأنه ملحق بالمثنى ومعنى عندك أي حالة كونهما في كفالتك يتولى منهما ما كانا يتوليان منه إبان الطفولة وفي ذلك منتهى التوصية باستعمال لين الجانب ودماثة الخلق معهما في هذه الحال. (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً) الفاء رابطة للجواب ولا ناهية وتقل فعل مضارع مجزوم بلا ولهما متعلقان بتقل وأف اسم فعل مضارع بمعنى التضجر وفاعله مستتر تقديره أنا والجملة مقول القول وسيأتي تحقيق واسع في هذه الكلمة وفي أسماء الأفعال في باب الفوائد، ولا تنهرهما عطف على لا تقل لهما والنهر الزجر، وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولهما متعلقان بقل وقولا مفعول مطلق وكريما صفة. (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) واخفض لهما عطف على وقل لهما وجناح الذل مفعول به ومن الرحمة متعلقان بأخفض فمن للتعليل أي من أجل الرحمة أو الابتداء أي أن هذا الخفض ناشىء من الرحمة المركوزة في الطبع ولك أن تعلقها بمحذوف حال. (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) وقل عطف على ما تقدم ورب منادى مضاف لياء المتكلم محذوف منه حرف النداء وارحمهما فعل دعاء وكما نعت لمصدر محذوف أي ارحمهما رحمة مثل تربيتهما لي أو رحمة مثل رحمتهما لي فتكون التربية بمعنى الرحمة وربياني فعل ماض والألف ضمير الاثنين فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به وصغيرا حال من الياء. (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) ربكم مبتدأ وأعلم خبر(5/412)
وبما متعلقان بأعلم وفي نفوسكم صلة ما. (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) الجملة حالية وإن شرطية وتكونوا فعل الشرط والواو اسمها وصالحين خبرها والفاء رابطة للجواب وإن اسمها وجملة كان خبرها وللأوابين أي التوابين متعلقان بغفورا، وغفورا خبر كان.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» استعارة شغلت علماء البيان وقد وعدناك أن تتحدث عن هذه الاستعارة مطولا فلنبحث هذا الموضوع ولنورد ما قاله البيانيون في صددها:
فهي استعارة مكنية لأن إثبات الجناح للذل يخيل للسامع أن ثمة جناحا يخفض والمراد ألن لهما جانبك، وتواضع لهما تواضعا يلصقك بالتراب، والجامع بين هذه الاستعارة والحقيقة أن الجناح الحقيقي في أحد جانبي الطائر وان الطائر إذا خفض جناحه وهو الذي به يتقوى وينهض، انحط إلى الأرض وأسف الى الحضيض ولصق بالتراب فالاستعارة مكنية إذ شبهت إلانة الجانب بخفض الجناح بجامع العطف والرقة وهذه أجمل استعارة وأحسنها وكلام العرب جاء عليها.
وذكر الصولي في كتابه أخبار أبي تمام: وعابوا عليه- أي على أبي تمام- قوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
فقالوا ما معنى ماء الملام؟ وهم يقولون: كلام كثير الماء وما أكثر ماء شعر الأخطل، قاله يونس بن حبيب ويقولون: ماء الصبابة وماء الهوى يريدون الدمع. قال ذو الرمة:
أأن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم(5/413)
وقال أيضا:
أدارا بحزوى هجت للعين عبرة ... فماء الهوى يرفضّ أو يترقرق
وقال عبد الصمد- وهو محسن عند من يطعن على أبي تمام:
أي ماء لماء وجهك يبقى ... بعد ذل الهوى وذل السؤال
فصير لماء الوجه ماء، وقالوا ماء الشباب يجول في وجناته، فما يكون أن استعار أبو تمام من هذا كله حرفا فجاء به في صدر بيته لما قال في آخر بيته: «فانني صب قد استعذبت ماء بكائي» قال في أوله:
لا تسقني ماء الملام، وقد تحمل العرب اللفظ على اللفظ فيما لا يستوي معناه قال الله عز وجل: «وجزاء سيئة سيئة مثلها» والسيئة الثانية ليست بسيئة لأنها مجازاة ولكنه لما قال: وجزاء سيئة قال: سيئة فحمل على اللفظ وكذلك «ومكروا ومكر الله» وكذلك: «فبشرهم بعذاب أليم» لما قال بشر هؤلاء بالجنة قال: بشر هؤلاء بالعذاب، والبشارة انما تكون في الخير لا في الشر فحمل اللفظ على اللفظ ويقال: إنما قيل لها البشارة لأنها تبسط الوجه فأما الشر والكراهة فانهما يقبضانه، وقال الأعشى:
يزيد بغضّ الطرف دوني كأنما ... زوى بين عينيه عليّ المحاجم
وقال الله عز وجل: «واخفض لهما جناح الذل من الرحمة» فهذه أجمل استعارة وأحسنها وكلام العرب جاء عليها فما يكون أن قال أبو تمام:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي(5/414)
أما ابن الأثير فيقول في كتابه «المثل السائر» :
«وقد عيب عليه قوله:
لا تسقني ماء الملام فإنني ... صب قد استعذبت ماء بكائي
وقيل: انه جعل للملام ماء وذلك تشبيه بعيد وما بهذا التشبيه عندي من بأس بل هو من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم وهو قريب من وجه، بعيد من وجه، أما سبب قربه فهو ان الملام هو القول الذي يعنف به الملوم لأمر جناه وذاك مختص بالسمع فنقله أبو تمام إلى السقيا التي هي مختصة بالحلق كأنه قال لا تذقني الملام ولو تهيأ له ذلك مع وزن الشعر لكان تنبيها حسنا ولكنه جاء بذكر الماء فحط من درجته شيئا ولما كان السمع يتجرع الماء أولا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به وهو تشبيه معنى بصورة. وأما سبب بعد هذا التشبيه فهو أن الماء مستلذّ والملام مستكره فحصل بينهما مخالفة من هذا الوجه فهذا التشبيه إن بعد من وجه فقد قرب من وجه فيغفر هذا لهذا ولذلك جعلته من التشبيهات المتوسطة التي لا تحمد ولا تذم، وقد روي أن بعض أهل المجانة أرسل إلى أبي تمام قارورة وقال: ابعث في هذه شيئا من ماء الملام فأرسل اليه أبو تمام وقال: إذا بعثت إليّ ريشة من جناح الذل بعثت إليك شيئا من ماء الملام، وما كان أبو تمام ليذهب عليه الفرق بين هذين التشبيهين فانه ليس جعل الجناح للذل كجعله الماء للملام، فإن الجناح للذل مناسب وذاك أن الطائر إذا وهن أو تعب بسط جناحه وخفضه وألقى نفسه على الأرض وللانسان أيضا جناح فإن يديه جناحاه وإذا خضع واستكان طأطأ من رأسه وخفض(5/415)
من يديه فحسن عند ذلك جعل الجناح للذل وصار تشبيها مناسبا وأما الماء للملام فليس كذلك في مناسبة التشبيه» .
هذا ما أورده الصولي وابن الأثير وقد عقب عليهما كثير من نقاد القرن الرابع الهجري ووفقوا منهما بين مؤيد ومعاكس فأخذ الآمدي برأي الصولي في كتابه الموازنة ولكن على أساس آخر من الفهم وعاب على أبي تمام استعماله استعارات شبيهة بماء الملام قال: «فمن مرذول ألفاظه وقبيح استعاراته قوله:
يا دهر قوّمّ أخدعيك فقد ... أضججت هذا الأنام من خرقك
وقال:
سأشكر فرجة الليت الرخي ... ولين أخادع الدهر الأبي
وقال:
أنزلته الأيام عن ظهرها ... من بعد إثبات رجله في الركاب
وقال:
كأنني حين جردت الرجاء له ... غضّا صببت به ماء على الزمن
ثم قال: «وأشباه هذا مما إذا تتبعته في شعره وجدته فجعل كما ترى مع غثاثة هذه الألفاظ للدهر أخدعا ويدا تقطع من الزند وكأنه يصرع ويحل ويشرق بالكرام ويبتسم وان الأيام تنزلع والزمان أبلق وجعل للممدوح يدا وجعل للأيام ظهرا يركب والزمان كأنه صب عليه ماء» ولننظر الآن في ماء الملام- عند أبي تمام- أهو تعبير طبيعي؟ أهو(5/416)
تعبير سائغ مستحسن؟ إن إطلاق الماء وإضافته الى البكاء يثب بالذهن أولا الى الصورة المباشرة المعروفة للماء الذي يشرب والماء في البحار والمحيطات والأنهار ثم ماء المطر ومجرد أن تنطلق كلمة بكاء يتضاءل المعنى الأول فجأة وينكمش الى صورة جزئية هي بضع قطرات من الدمع ولكن على أية حال هناك صلة تجعل الصورة محتملة، أما ماء الملام فلا صلة البتة بين الماء والملام وإذا انطلقت كلمة ماء بمعانيها الاصلية والربطية ومعها كلمة الملام ومعانيها الربطية فلا يجمع بينهما صلة أو رابط مشترك من الصور الجزئية لذلك كان التعبير باردا مختلا لا يدل في الذهن على شيء لأنه لا صلة بين الملام والماء، أما ما احتج به الصولي من القرآن فلا يبرر ما اعتمده فإن كلمة السيئة اقترنت بكلمة الجزاء فأثارت معنى آخر مقابلا هو القصاص وقد سماه القرآن سيئة ولكن أصحاب البديع يحاولون الاستشهاد بالشاهد القرآني ليبرروا صناعة أبي تمام ومن نحا نحوه.
ووجدت للسكاكي رأيا يستهجن فيه قول أبي تمام قال فيه: «إن الاستعارة التخييلية فيه منفكة عن الاستعارة بالكناية وصاحب الإيضاح يمنع الانفكاك فيه مستندا بأنه يجوز أن يكون قد شبه الملام بظرف شراب مكروه فيكون استعارة بالكناية واضافة الماء تخييلية أو انه تشبيه من قبيل لجين الماء لا استعارة قال: ووجه الشبه ان اللوم يسكن حرارة الغرام كما أن الماء يسكن غليل الأوام، وقال الفاضل الجلبي في حاشية المطول: فيه نظر لأن المناسب للعاشق أن يدعي أن حرارة غرامه لا تسكن بالملام ولا بشيء آخر فكيف يجعل ذلك وجه شبهه» اهـ كلامه.(5/417)
ورأيت في كتاب الكشكول للعاملي رأيا مطولا فيه ننقل خلاصته تتمة للبحث قال: إن للبيت محملا آخر كنت أظن اني لم أسبق اليه حتى رأيته في التبيان وهو أن يكون ماء الملام من قبيل المشاكلة لذكر ماء البكاء ولا تظن أن تأخر ذكر ماء البكاء يمنع المشاكلة فانهم حرصوا في قوله تعالى: «فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين» وان تسميته الزحف على البطن مشيا لمشاكلة ما بعده، وهذا الحمل إنما يتمشى على تقدير عدم صحة الحكاية المنقولة ثم أقول: هذا الحمل أولى مما ذكره صاحب الإيضاح فإن الوجهين اللذين ذكرهما في غاية البعد إذ لا دلالة في البيت على أن الماء مكروه كما قاله المحقق التفتازاني في المطول، والتشبيه لا يتم بدونه، وأما ما ذكره صاحب المثل السائر من أن وجه الشبه ان الملام قول يعنف به الملوم وهو مختص بالسمع فنقله أبو تمام الى ما يختص بالحلق كأنه قال: لا تذقني الملام، ولما كان السمع يتجرع الملام أولا كتجرع الحلق الماء صار كأنه شبيه به فهو وجه في غاية البعد أيضا كما لا يخفى، والعجب منه أن جعله قريبا وغاب عنه عدم الملاءمة بين الماء والملام، هذا وقد أجاب بعضهم عن نظر الفاضل الجلبي في كلام صاحب الإيضاح بأن تشبيه الشاعر الملام بالماء في تسكين نار الغرام إنما هو على وفق معتقد اللوام بأن حرارة غرام العشاق تسكن بورود الملام وليس ذلك على وفق معتقده فلعل معتقده أن نار الغرام تزيد بالملام قال أبو الشيص:
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم
أو أن تلك النار لا يؤثر فيها الملام أصلا كما قال الآخر:
جاءوا يرومون سلواني بلومهم ... عن الحبيب فراحوا مثلما جاءوا(5/418)
فقول الجلبي: لأن المناسب للعاشق الى آخره غير جيد فان صاحب الإيضاح لم يقل إن التشبيه معتقد العاشق وعقب العاملي صاحب الكشكول على ذلك: إن ذكر صاحب الإيضاح الكراهة في الشراب صريح بأنه غير راض بهذا الجواب.
2- صورة مجسدّة لطاعة الوالدين:
هذا ولا بد من التنويه بالصورة المجسدة التي رسمتها الآية لطاعة الوالدين وبرهما، ليتدبرها البنون ويكتنهوا سرها الخفي وقد أفصح عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلاء حين شكا إليه رجل أباه وانه يأخذ ماله فدعا به فاذا شيخ يتوكأ عصا فسأله فقال انه كان ضعيفا وأنا قوي وفقيرا وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قوي وأنا فقير وهو غني ويبخل علي بماله ثم التفت الى ابنه منشدا:
غذوتك مولودا وعلتك يافعا ... تعل بما أدني إليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت ... لأجلك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني فعيني تهمل
فلما بلغت السنّ والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك أؤمل(5/419)
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم الم
تفضل فليتك إذ لم ترع حقّ أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ثم قال للولد: أنت ومالك لأبيك.
وعن ابن عمر أنه رأى رجلا في الطواف يحمل أمه ويقول:
إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر
تظنني جازيتها يا ابن عمر؟ قال: لا ولو زفرة واحدة.
الفوائد:
1- القول في «أف» :
اختلف النحاة في أسماء الأفعال هل هي ألفاظ نائبة عن الأفعال أو لمعانيها من الأحداث والأزمنة أو أسماء للمصادر النائبة عن الافعال أو هي أفعال والصحيح أنها أسماء أفعال وانها لا موضع لها من الاعراب وقد قدمنا أقسامها ونقول إن «أف» اسم فعل مضارع ومعناه أتضجر وفيه أربعون لغة وحاصلها أن الهمزة إما أن تكون مضمومة أو مكسورة أو مفتوحة فإن كانت مضمومة فاثنتان وعشرون لغة وحاصل ضبطها انها إما مجردة عن اللواحق أو ملحقة بزائد والمجردة إما أن يكون آخرها(5/420)
ساكنا أو متحركا والمتحركة إما أن تكون مشددة أو مخففة وكل منهما مثلث الآخر مع التنوين وعدمه فهذه اثنتا عشرة والساكنة إما مشددة أو مخففة فهذه أربع عشرة واللواحق لها من الزوائد إما هاء السكت أو حرف المد فإن كان هاء السكت فالفاء مثلثة مشددة فهذه سبع عشرة وإن كان حرف مد فهو إما واو أو ياء أو ألف والفاء فيهن مشددة والألف إما مفخمة أو بالإمالة المحضة أو بين بين فهذه خمس أخرى مع السبع عشرة وإن كانت مكسورة فإحدى عشرة مثلثة الفاء مخففة مع التنوين وعدمه فهذه ست، وفتح الفاء وكسرها بالتشديد فيهما مع التنوين وعدمه، فهذه أربع لغات والحادية عشرة أفي بالإمالة وإن كانت مفتوحة فالفاء مشددة مع الفتح والكسر والتنوين وعدمه والخامسة أف بالسكون والسادسة أفي بالامالة والسابعة أفاه بهاء السكت فهذه السبع مكملة للأربعين وقد قرىء من هذه اللغات بسبع:
ثلاث في المتواتر وأربع في الشواذ وقراءة حفص وهي قراءتنا أف بالكسر والتنوين مع التشديد.
2- لمحة في العقوق:
ومما جاء في العقوق ما يروى عن جرير فقد كان أعق الناس بأبيه وكان بلال ابنه كذلك فراجع جرير بلالا في الكلام فقال له: الكاذب بيني وبينك.... أمه، فأقبلت أمه عليه وقالت: يا عدو الله تقول هذا لأبيك فقال جرير: دعيه فكأنه سمعها مني وأنا أقولها لأبي.
وممن شهر عنه العقوق بوالديه الحطيئة الشاعر المخضرم قال يهجو أباه:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى الفعال(5/421)
جمعت اللؤم لا حيّاك ربي ... وأبواب السفاهة والضلال
وقال يهجو أمه:
لحاك الله ثم لحاك أما ... ولقاك العقوق من البنينا
أغربالا إذا استودعت سرا ... وكانونا على المتحدثينا
وممن هجا أباه علي بن بسام، قال في أبيه:
هيك عمرت عمر عشرين نسرا ... أترى أنني أموت وتبقى؟
فلئن عشت بعد موتك يوما ... لأشقّنّ جيب مالك شقّا
وقال فيه أيضا:
بنى أبو جعفر دارا فشيدها ... ومثله لخيار الدور بنّاء
فالجوع داخلها والذل خارجها ... وفي جوانبها بؤس وضراء
ما ينفع الدار من تشييد حائطها ... وليس داخلها خبز ولا ماء
ولقد كذب، كان أبو جعفر محمد بن منصور بن بسام في نهاية السؤدد والمروءة والنظافة، كان رجلا مترفا نبيل المركب مليح الملبس له همة في تشييد البنيان وما رثاه به ابن الرومي يدل على كذب ابنه، قال ابن الرومي فيه:
أودى محمد بن نصر بعد ما ... ضربت به في جوده الأمثال
ملك تنافست العلا في عمره ... وتنافست في موته الآجال(5/422)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
من لم يعاين سير نعش محمد ... لم يدر كيف تسير الأ
جيال وذخرته للدهر أعلم أنه ... كالحصن فيه لمن يئول
مآل وتستعت نفسي بروح رجائه ... زمنا طويلا والتمتع
مال ورأيته كالشمس إن هي لم تنل ... فالرفق منها والضياء
ينال بالله أقسم ان عمرك ما انقضى ... حتى انقضى الإحسان والإجمال
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 31]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)
اللغة:
(فَتَقْعُدَ) : فتصير وهو من المجاز قال في الأساس: «ومن المجاز(5/423)
فعد عن الأمر تركه وقعد له اهتم به وقعد يشتمني أقبل، وأرهف شفرته حتى قعدت كأنها حربة: صارت، وقال الدّيان الحارثي:
لأصبحن ظالما حربا رباعية ... فاقعد لها ودعن عنك الأظانينا
وتقاعد عن الأمر وتقعّد وما قعد به عن نيل المساعي وما تقعده وما أقعده إلا لؤم عنصره وقال:
بنو المجد لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آباء صدق فأنجبوا
(مَحْسُوراً) : منقطعا لا شيء عندك من حسره السفر إذا بلغ منه وفي المختار: والحسرة شدة التلهف على الشيء الفائت تقول حسر على الشيء من باب طرب وحسرة أيضا فهو حسير وحسّره غيره تحسيرا.
(وَيَقْدِرُ) : يقال قدر عليه رزقه وقدّر قتر وضيق.
(إِمْلاقٍ) : فقر وفاقة يقال أملق الرجل: أنفق ماله حتى افتقر ورجل مملق وقال أعرابي: قاتل الله النساء كم يتملقن العلل لكأنها تخرج من تحت أقدامهن أي يستخرجنها.
(خِطْأً) : مصدر خطىء من باب علم.
الإعراب:
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) وآت ذا القربى حقه: آت فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وذا القربى مفعول به وحقه مفعول به ثان والمسكين وابن السبيل عطف(5/424)
على ذا القربى ولا ناهية وتبذر مضارع مجزوم بلا وتبذيرا مفعول مطلق. (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) إن واسمها وجملة كانوا خبرها وإخوان الشياطين خبر كان أي أمثالهم والعرب تقول لكل ملازم سنة قوم هو أخوهم والملازم للشيء هو أخ له فيقولون: فلان أخو الجود وأخو الكرم وأخو الشعر. (وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) الواو عاطفة أو حالية وكان واسمها ولربه متعلقان بكفورا، وكفورا خبر كان ولا بد من تقدير مضاف أي لنعم ربه وآلائه. (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً)
وإما: إن شرطية وما زائدة وتعرضن فعل الشرط وهو في محل جزم والفاعل مستتر تقديره أنت وعنهم متعلقان بتعرضن وابتغاء رحمة مفعول من أجله ولك في ناصبه وجهان فإما أن تجعله فعل الشرط من وضع المسبب مكان السبب أي وان أعرضت عنهم لفقد رزق من ربك ترجو أن يفتح لك فسمى الرزق رحمة فردهم ردا جميلا وإما أن تجعله جواب الشرط وقد تقدم عليه أي فقل لهم قولا كريما لينا وعدهم وعدا جميلا تطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك. ومن ربك صفة لرحمة وجملة ترجوها حال من رحمة أو صفة ثانية، فقل الفاء رابطة وقل فعل أمر ولهم متعلقان بقل وقولا مفعول مطلق وميسورا صفة. (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتجعل مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ويدك مفعول تجعل الأول ومغلولة مفعول تجعل الثاني والى عنقك جار ومجرور متعلقان بمغلولة. (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) ولا تبسطها عطف على لا تجعل وكل البسط مفعول مطلق فتقعد الفاء فاء السببية وتقعد مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء المسبوقة بالنهي وستأتي الشروط التي يجب أن تسبق هذه الفاء في باب الفوائد وفاعل تقعد مستتر تقديره أنت وملوما(5/425)
محسورا حالين أو تجعلهما خبرين لتقعد إذا ضمنتها معنى تصير.
(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ان واسمها وجملة يبسط خبرها والرزق مفعول به ولمن متعلقان بيبسط وجملة يشاء صلة ويقدر عطف على يبسط وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وبعباده متعلقان بخبيرا بصيرا وهما خبر ان لكان. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) لا ناهية وتقتلوا مجزوم بها وأولادكم مفعول به وخشية مفعول لأجله وإملاق مضاف إليه. (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) نحن مبتدأ وجملة نرزقهم خبر وإياكم عطف على الهاء وإن واسمها وجملة كان خبر إن وخطئا خبر كان واسمها مستتر تقديره هو وكبيرا صفة لخطئا.
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على طائفة من الحكم والأمثال وعلى أنواع من البلاغة نوجزها فيما يلي:
1- الاستعارة التمثيلية:
في قوله تعالى «ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط» استعارة تمثيلية لمنع الشحيح وإعطاء المسرف فقد شبه حال البخيل في امتناعه من الانفاق بحال من يده مغلولة إلى عنقه فهو لا يقدر على التصرف في شيء وشبه حال المسرف المبذر المتلاف بحال من يبسط يده كل البسط فلا يبقي على شيء في كفه ولا يدخر شيئا ينفعه في حال الحاجة ليخلص الى نتيجة مجدية وهي التوسط بين الأمرين(5/426)
والاقتصاد الذي هو وسط بين الإسراف والتقتير، وقد طابق في الاستعارة بين بسط اليد وقبضها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها وغلّها أبلغ في القبض وقد رمق أبو تمام سماء هذا المعنى فقال في المعتصم:
تعود بسط الكف حتى لو أنه ... ثناها لقبض لم تطعه أنامله
2- التغاير:
في قوله تعالى «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم» وقد تقدم بحثه في سورة الانعام وفيه سر خفي بين ما جاء في سورة الاسراء وما جاء في سورة الانعام وهو قوله «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم» فجدد به عهدا ونضيف اليه الآن ان قتل الأولاد إن كان مبعثه خوف الفقر فهو من سوء الظن بالله واليأس من رحمته وإن كان مبعثه الغيرة على البنات فهو تدبير أرعن لا ينجم عنه إلا هدم المجتمع وتعطيل معالم الحياة.
الفوائد:
شروط النصب بأن بعد فاء السببية وواو المعية:
لا تضمر أن بعد فاء السببية وواو المعية أيضا إلا بشرطين أساسيين وهما أن يسبقهما نفي أو طلب محضين ولا فرق في النفي بين أن يكون حرفا أو فعلا أو اسما أو تقليلا مرادا به النفي ومثال التقليل: قلما تأتينا فتحدثنا وأما الطلب فيشمل سبعة أمور وهي الأمر والنهي(5/427)
والدعاء والعرض والتحضيض والاستفهام والتمني فهذه سبعة مع النفي تصير ثمانية وزاد بعضهم الترجي وقد جمع هذه التسعة بقوله:
مروانه وادع وسل عرض لحضّهم ... تمن وارج كذاك النفي قد كملا
واحترزنا بقولنا «نفي أو طلب محضين» من النفي التالي تقريرا بالهمزة لأن التقرير اثبات ومن النفي المتلو بالنفي لأن نفي النفي اثبات ومن النفي المنتقض بإلا ومما يجب مراعاته قول جميل بن معمر العذري:
ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق
فينطق مرفوع وهو في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي فهو ينطق والفاء استئنافية وليست للسببية كما أنها ليست للعطف إذ العطف يقتضي الجزم، ورجح ابن هشام في المغني أن تكون الفاء للعطف وان المعتمد بالعطف الجملة لا الفعل وحده وانما يقدر النحويون كلمة هو ليبينوا أن الفعل ليس المعتمد بالعطف قال «ومثله فإنما يقول له كن فيكون» أي فهو يكون حينئذ وقوله:
الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به الى الحضيض قدمه ... يريد أن يعربه فيعجمه
أي فهو يعجمه» .
ونعود الى بيت جميل فنقول: أورده سيبويه في كتابه وقال ما نصه: «لم يجعل الأول سبب الآخر ولكنه جعله ينطق على كل حال(5/428)
كأنه قال وهو مما ينطق كما يقال ائتني وأحدثك فجعل نفسه ممن يحدثه على كل حال وزعم يونس أنه سمع هذا البيت وانما كتبت ذلك لئلا يقول انسان فلعل الشاعر قال: إلا اهـ» وقال ابن النحاس:
«تقرير معناه انك سألته فيقبح النصب لأن المعنى يكون انك ان تسأله ينطق» وقال الأعلم: الشاهد فيه رفع ينطق على الاستئناف والقطع على معنى فهو ينطق وإيجاب ذلك ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن.
وقال الفراء: أي قد سألته فنطق ولو جعلته استفهاما وجعلت الفاء شرطا لنصبت كما قال آخر:
ألم تسأل فتخبرك الديارا ... عن الحي المضلّل حيث سارا
والجزم في هذا البيت جائز كما قال:
فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيدرك من أخرى القطاة فتزلق
فجعل الجواب بالفاء كالمنسوق على ما قبله.
هذا ولأهمية هذا البيت وعناية العلماء به نقول انه مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري صاحب بثينة المشهور وبعده وهو من جيد الشعر:
بمختلف الأرواح بين سويقة ... وأحدب كادت بعد عهدك تخلق
أضرت بها النكباء كل عشية ... ونفح الصبا والوابل المتعبق(5/429)
وقفت بها حتى تجلت عمايتي ... ومل الوقوف الأرحبيّ الم
نوّق وقال صديقي: إن ذا لصبابة ... ألا تزجر القلب اللجوج في
لحق؟ تعزّ وإن كانت عليك كريمة ... لعلك من أسباب بثنة
تعتق فقلت له: إن البعاد يشوقني ... وبعض بعاد البين والنأي أشوق
والربع: المنزل، والقواء: القفر وجعله ناطقا للاعتبار بدروسه وتغيره ثم حقق وأخبر أنه لا يجيب ولا يخبر سائله لعدم وجود القاطنين به، البيداء القفر، والسملق: الأرض التي لا شيء فيها.
ومما اختلف فيه وكان موضع الدقة قول عروة العذري صاحب عفراء:
وما هو إلا أن أراها فجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
قال سيبويه: «وسألت الخليل عن قول الشاعر: وما هو إلا أن أراها إلخ فقال: أنت في «فأبهت» بالخيار إن شئت حملتها على أن وإن شئت لم تحملها عليها فرفعت كأنك قلت ما هو إلا الرؤي فابهت» ومعنى ما أراده سيبويه أن النصب بالعطف على أن المراد المصدر(5/430)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
والتقدير فما هو إلا الرؤية فأبهت والرفع على القطع والاستئناف والمعنى فاذا أنا مبهوت. وإنما أطلنا في هذا لأنه من الدقة بمكان فاعرفه وقس عليه.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 32 الى 39]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)(5/431)
اللغة:
(الزِّنى) : يكتب بالياء لأنه مصدر زنى يزني ويكتب بالألف على أنه مقصور من الزناء بالمد، ويقولون: هو زان بين الزنى والزناء بالمد والقصر قال الفرزدق:
أبا خالد من يزن يعلم زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكّرا
وقال الفراء: المقصور من زنى والممدود من زانى يقال زاناها مزاناة وزناء وخرجت فلانة تزاني وتباغي وقد زّني بها وهو ولد زنية وانه لزنية بالفتح والكسر.
(القسطاس) هو رومي عرّب كما تقدم وقد ذكرنا من قبل أن ذلك لا يقدح في عربية القرآن لأن العجمي إذا استعملته العرب وأجرته مجرى كلامهم في الاعراب والتعريف والتنكير ونحوها صار عربيا وسيأتي المزيد من هذا البحث المفيد، والقسطاس بالضم والكسر وهو القرسطون أي القبان وقيل كل ميزان صغر أو كبر.
(وَلا تَقْفُ) ولا تتبع يقال فقا أثره وقافه قيل هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور يتبعها ويتعرفها وقيل القفو شبيه بالعضيهة ومنه الحديث: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي المخرج» وأنشدوا لبعضهم:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا(5/432)
يصف نساء بأنهن جميلات مثل الدمى ويشبههن بالبيوت ويشبه الحياء بقوم يسكنونها على طريق الاستعارة المكنية والسكنى تخييل لذلك ويقول انهن لا يشعن أي لا يظهرن التقافي أي المتابعة بالقذف من قفوته إذا اتبعته بالغيبة.
وقال الكميت:
ولا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن قفينا
يقول لا أتهم البريء بشيء زور بل بذنب محقق ولا أتبع العفائف وأتكلم فيهن بفحش ما دمن عفائف إن قفاهنّ الناس فتكلموا فيهن فكيف إذا لم يتكلم فيهنّ أحد.
الإعراب:
(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا والواو فاعل والزنا مفعول به وجملة إنه تعليلية لا محل لها وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وفاحشة خبرها وساء فعل ماض للذم والفاعل مستتر وسبيلا تمييز والمخصوص بالذم محذوف أي هو. (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) ولا تقتلوا عطف على ما تقدم والنفس مفعول به والتي صفة وجملة حرم الله صلة وإلا أداة حصر وبالحق متعلقان بتقتلوا والباء للسببية أو بمحذوف حال من فاعل تقتلوا فهي للملابسة أي ملتبسين بالحق (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) الواو استئنافية ومن شرطية مبتدأ وقتل فعل ماض مبني للمجهول في محل(5/433)
جزم فعل الشرط ونائب الفاعل مستتر تقديره هو ومظلوما حال، فقد الفاء رابطة وقد حرف تحقيق وجعلنا فعل وفاعل ولوليه مفعول جعلنا الثاني وسلطانا مفعول جعلنا الأول أي حجة يثب بها عليه.
(فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) الفاء عاطفة ولا ناهية ويسرف مضارع مجزوم بلا وفاعله مستتر يعود على الولي أي فلا يقتل غير القاتل ولا اثنين والقاتل واحد كديدن الجاهلية على حد قول مهلهل ابن ربيعة:
كل قتيل في كليب غره ... حتى ينال القتل آل مرة
وفي القتل متعلقان بيسرف وجملة إنه تعليلية وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر ومنصورا خبرها. (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ولا تقربوا عطف أيضا ومال اليتيم مفعول به وإلا أداة حصر وبالتي استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقربوه بحال من الأحوال إلا بالخصلة أو الطريقة التي هي أحسن وهي حفظه وصيانته واستغلاله لمصلحة اليتيم وهي مبتدأ وأحسن خبر والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول. (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) حتى حرف غاية وجر ويبلغ منصوب بأن مضمرة بعد حتى والمراد بالأشد بلوغه مرتبة يحسن فيها التصرف وقد تقدم معنى الأشد وانه مفرد بمعنى القوة أو جمع لا واحد له من لفظه. وقيل جمع شدة أو شد. وفي كتاب معاني القرآن للفراء ان الأربعين أشبه بالصواب. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا) أوفوا فعل أمر والواو فاعل وبالعهد متعلقان بأوفوا وان واسمها وجملة كان خبرها ومسئولا خبر كان ومعنى مسئولا مطلوبا كأنه يطلب من المعاهد أن يفي به وحذف الجار والمجرور تخفيفا أي عنه وقد ذكر في بقية الآي كما سيأتي ويجوز وجه آخر سيأتي في باب(5/434)
البلاغة. (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) وأوفوا فعل أمر والواو فاعل والكيل مفعول أوفوا وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة كلتم مضافة إلى الظرف وجوابه محذوف دل عليه قوله أوفوا الكيل. وزنوا بالقسطاس المستقيم عطف على أوفوا بالكيل. (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ذلك مبتدأ وخير خبر وأحسن عطف على خير وتأويلا تمييز أي أحسن عاقبة فالتأويل تفصيل من آل إذا رجع وهو ما يئول اليه في الآخرة. (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) لا ناهية وتقف مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الواو وفاعله مستتر تقديره أنت وما مفعول به وجملة ليس صلة ولك خبر ليس المقدم وبه متعلقان بمحذوف حال ولا يجوز تعلقها بعلم لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه وقال بعضهم متعلقان بما تعلق به لك وهو الاستقرار وفيه بعد، ومعنى الآية النهي عن أن يقول الإنسان مالا يعلم أو يعمل بما لا علم له به وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور إلا أن الشيوع أولى، وعلم اسم ليس المؤخر.
(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا) ان واسمها والبصر والفؤاد عطف على السمع وكل مبتدأ وأولئك مضاف وجملة كان خبر وعنه متعلقان بمسئولا، ومسئولا خبر كان وسيأتي مزيد من التفصيل حول هذه الآية في بابي البلاغة والفوائد. (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) لا ناهية وتمش مجزوم بها وفاعله مستتر تقديره أنت وفي الأرض متعلقان بتمش ومرحا حال على تقدير مضاف أي ذا مرح أي ولا تمش في الأرض حال كونك ذا مرح أي مارحا ملتبسا بالكبر والخيلاء وقد أحسن الأخفش إذ فضل المصدر على اسم الفاعل كأنه نفس المرح ويجوز أن يعرب مفعولا لأجله كما قال أبو البقاء. (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا) جملة تعليلية لا محل لها(5/435)
كأنها تعليل للنهي أي لن تجعل فيها صدوعا وخروقا بدوسك لها وإن واسمها وجملة لن تخرق الأرض خبرها ولن تبلغ الجبال عطف على لن تخرق وطولا تمييز محول عن الفاعل أي ولن يبلغ طولك الجبال وقيل مصدر في موقع الحال أو مفعول له، وسيأتي مزيد من البحث في باب البلاغة. (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) كل مبتدأ وذلك مضاف اليه والاشارة الى ما تقدم من الخصال الخمس والعشرين الآنفة من قوله تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر وسيأتي تفصيل عدها في باب الفوائد وكان فعل ماض ناقص وسيئه اسمها وعند ربك ظرف متعلق بمكروها، ومكروها خبر كان. (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) ذلك مبتدأ أي ما تقدم من خصال ومما خبر وجملة أوحى صلة وإليك متعلقان بأوحى وربك فاعل ومن الحكمة حال من عائد الموصول المحذوف أي من الذي أوحاه إليك حال كونه من الحكمة التي هي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به أو حال من نفس الموصول وقد استهلت هذه الخصال وختمت بالنهي عن الشرك. (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) ولا تجعل عطف على ما تقدم ومع ظرف مكان متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لتجعل وإلها هو المفعول الأول وآخر صفة فتلقى الفاء فاء السببية ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت وفي جهنم متعلقان بتلقى وملوما ومدحورا حالان.
البلاغة:
انطوت هذه الآية على فنون كثيرة من البلاغة نثبتها فيما يلي:
1- الاطناب:
في قوله تعالى: «ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه(5/436)
سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا» فإن معنى هذه الآية جاء موجزا في قوله تعالى «ولكم في القصاص حياة» لكن الأول إطناب والثاني إيجاز وكلاهما موصوف بالمساواة وقد تحدثنا عن الإيجاز فلنتحدث الآن عن الاطناب والمساواة فالاطناب مأخوذ في الأصل من أطنب في الشيء إذا بالغ فيه يقال أطنبت الريح إذا اشتدت في هبوبها وأطنب في السير إذا اشتد فيه وفي اصطلاح البيانيين هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة فإذا لم تكن في الزيادة فائدة سمي تطويلا إن كانت الزيادة غير متعينة وحشوا إن كانت متعينة فالتطويل كقول عنترة بن شداد:
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
والحشو كقول زهير بن أبي سلمى:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم
والإطناب يكون بأمور عدة نوجزها فيما يلي:
آ- التأكيد والتقرير وهو يكون حقيقة ومجازا فالحقيقة كقولهم رأيته بعيني وقبضته بيدي ووطئته بقدمي وذقته بفمي وكل هذا يظن الظان أنه لا حاجة إليه فالرؤية لا تكون إلا بالعين والقبض لا يكون إلا باليد والوطء لا يكون إلا بالقدم والذوق لا يكون إلا بالفم وليس الأمر كما توهم بل يطرد في كل ما يعزّ مناله ويعظم الوصول إليه ومن أمثلته البديعة في الشعر قول البحتري:
تأمل من خلال السجف وانظر ... بعينك ما شربت ومن سقاني
تجد شمس الضحى تدنو بشمس ... إليّ من الرحيق الخسرواني(5/437)
ولما كان الحضور في هذا المجلس مما يعز وجوده ومناله وكان الساقي بهذه المثابة من الحسن قال انظر بعينك. وعلى هذا ورد الكثير منه في القرآن الكريم فقال تعالى: «ذلك قولكم بأفواهكم» والمجاز كقوله تعالى: «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» ففائدة ذكر الصدور هنا انه قد تعورف وعلم أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب تشبيه وتمثيل فلما أريد إثبات ما هو خلاف ما تعورف وعلم من نسبة العمى الى القلوب احتاج الأمر إلى زيادة تصوير وتعريف ليقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الصدور.
ب- ذكر الخاص بعد العام: كقوله تعالى «تنزل الملائكة والروح فيها» فقد خص الله سبحانه الروح بالذكر وهو جبريل مع انه داخل في عموم الملائكة تكريما له وتعظيما لشأنه وكأنه من جنس آخر ففائدة الزيادة هنا التنويه الخاص.
ج- ذكر العام بعد الخاص: كقوله تعالى: «ربي اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات» فقد ذكر الله سبحانه المؤمنين والمؤمنات وهما لفظان عامان يدخل في عمومهما من ذكر قبل ذلك والغرض من هذه الزيادة إفادة الشمول مع العناية بالخاص ذكره مرة وحده ومرة مندرجا تحت العام.
د- الإيضاح بعد الإبهام: كقوله تعالى: «وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين» فقوله ذلك الأمر إبهام وقوله أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين إيضاح للإبهام الذي تضمنه لفظ الأمر لزيادة تقرير المعنى في ذهن السامع مرة على طريق الإجمال والإبهام، ومرة على طريق التفصيل والإيضاح.(5/438)
هـ- التكرار لتقرير المعنى: وهذا موضوع جم الشعاب متعدد المسالك نحتاج إلى مجلدات لإحصائه ولكننا نذكر ما هو بمثابة الدليل والرائد لغيره كقول عنترة بن شداد في بعض روايات معلقته:
يدعون عنتر والسيوف كأنها ... لمع البوارق في سحاب مظلم
يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
فالتكرار في بيتي عنترة تقرير المعنى في نفس السامع وترسيخه في ذهنه وهو هنا لداعي الفخر ويطرد في الخطابة وفي مواطن الفخر والمدح والإرشاد والانذار وقد يكون للتحسر كقول الحسين بن مطير يرثي معن بن زائدة:
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للسماحة موضعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مرتعا
ومنها طول الفصل كقول الشاعر:
لقد علم الحيّ اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد اني خطيبها
والاعتراض: وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين في المعنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لغرض يقصد إليه البليغ وقد تقدم ذكره ومنه قول النابغة الجعدي:
ألا زعمت بنو سعد بأني- ألا كذبوا- كبير السن فان(5/439)
فقد جاءت جملة «ألا كذبوا» معترضة بين اسم ان وخبرها للاسراع الى التنبيه على كذب من رماه بالكبر.
ز- التذييل: وهو تعقيب الجمل بجملة أخرى تشتمل على معناها توكيدا لها كقول الحطيئة:
تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المحامد يحمد
فإن المعنى تم في الشطر الأول ثم ذيل بالشطر الثاني للتوكيد.
ح- الاحتراس: وقد تقدم بحثه ومنه قول ابن المعتز:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
فلو أسقطنا كلمة «ظالمين» لتوهم السامع أن فرس ابن المعتز كانت بليدة تستحق الضرب وهذا خلاف المقصود.
هذا وستأتي أمثلة من الاطناب في مواضعها من هذا الكتاب.
أما المساواة فهي أن تكون المعاني بقدر الألفاظ والألفاظ بقدر المعاني لا يزيد بعضها على بعض ولا ينقص عنه وقد تقدم التمثيل لها بقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان» إلخ ومن أمثلتها في الشعر قول النابغة الذبياني:
فانك كالليل الذي هو مدركي ... وان خلت أن المنتأى عنك واسع(5/440)
وقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
والقرآن حافل بأمثلة المساواة وستأتي في مواضعها إن شاء الله.
2- الاستعارة:
في قوله تعالى: «إن العهد كان مسئولا» وقد قدمنا انه جار على الحقيقة بحذف الجار والمجرور ويجوز أن يكون الكلام جاريا على طريق الاستعارة المكنية بأن يشبه العهد بمن نكث عهده ونسبته السؤال إليه تخييل.
3- التهكم:
وقد سبق ذكره لأن مشية المرح مشتملة على شدة الوطء والتباهي على الأرض بمشيه عليها والتطاول على الآخر ولو كان المتكبر خفيف الوطأة قميء النظرة، شخت الخلقة، على حد قول المتنبي:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ... ضعيف يقاويني قصير يطاول
الفوائد:
في هذه الآيات الجامعة فوائد كثيرة تتناول المهم منها جريا على أسلوبنا في هذا الكتاب فمنها تعليق الجار والمجرور في قوله تعالى:
«كل أولئك كان عنه مسئولا» فقد علقناه في باب الإعراب بمسئولا(5/441)
وجعلنا نائب الفاعل ضميرا يعود على كل أي كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه يعني عما فعل به صاحبه وقد أسند الزمخشري مسئولا الى الجار والمجرور وجعله بمثابة نائب الفاعل وهذا سهو من الزمخشري يجل عنه لأن الجار والمجرور يقام مقام الفاعل أو نائبه إذا تقدم الفعل أو ما يقوم مقامه وأما إذا تأخر فلا يصح ذلك لأن الاسم إذا تقدم على الفعل صار مبتدأ وحرف الجر إذا كان لازما لا يكون مبتدأ ف «عنه» ليس هو النائب عن الفاعل خلافا لصاحب الكشاف ولا ضمير المصدر كما قال بعضهم وإنما النائب في هذه الآية ضمير راجع إلى ما رجع اليه اسم كان وهو المكلف المدلول عليه بالمعنى والتقدير مسئولا هو أي المكلف وإنما لم يقدر ضمير كان راجعا لكل لئلا يخلو مسئولا عن ضمير فيكون مسندا الى عنه وذلك لا يجوز.
وعبارة ابن هشام «وقول بعضهم في قوله تعالى: «إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا» إن عنه مرفوع المحل بمسئولا والصواب ان اسم كان ضمير المكلف وإن لم يجد له ذكر وان المرفوع بمسئولا مستقر فيه راجع اليه أيضا وان عنه في موضع نصب» .
أي على انه مفعول ثان لمسئولا لأنه يعتدى لمفعولين ثانيهما بعن.
الخصال الخمس والعشرون:
وعدناك بإحصاء الخصال الخمس والعشرين التي وردت الاشارة إليها بقوله تعالى: «كل ذلك» وهذا احصاؤها بالترتيب:
1- لا تجعل مع الله إلها آخر.(5/442)
2 و3- قوله تعالى وقضى ربك الى آخر الآية لاشتماله على تكليفين وهما عبادة الله والنهي عن عبادة غيره.
4- وبالوالدين إحسانا.
5- فلا تقل لهما أف.
6- ولا تنهرهما.
7- وقل لهما قولا كريما.
8- واخفض لهما جناح الذل.
9- وقل رب ارحمهما.
10- وآت ذا القربى حقه.
11- والمسكين.
12- وابن السبيل.
13- ولا تبذر تبذيرا.
14- فقل لهم قولا ميسورا.
15- ولا تجعل يدك مغلولة.
16- ولا تبسطها كل البسط.
17- ولا تقتلوا أولادكم.
18- ولا تقربوا الزنا.
19- ولا تقتلوا النفس.
20- فلا يسرف في القتل.(5/443)
21- وأوفوا بالعهد.
22- وأوفوا الكيل.
23- وزنوا بالقسطاس.
24- ولا تقف ما ليس لك به علم.
25- ولا تمش في الأرض مرحا.
الاشارة بأولئك:
الاشارة في قوله تعالى «كل أولئك كان عنه مسئولا» الى السمع والبصر والفؤاد وقد أشير إليها بأولئك وهي في الأكثر لمن يعقل لأنه جمع ذا، وذا لمن يعقل ولما لا يعقل وأولاء ممدود عند الحجازيين مقصور عند أهل نجد وتميم والأكثر مجيئه للعقلاء ويقل مجيئه لغير العقلاء كقول جرير بن عطية:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام
وهو من قصيدة مستجادة له مطلعها:
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كل مرام
وفيها يقول بعد البيت المتقدم:
وإذا وقفت على المنازل باللوى ... فاضت دموعي غير ذات نظام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام(5/444)
تجري السواك على أغر كأنه ... برد تحدّر من متون
غمام لو كان عهدك كالذي حدثتنا ... لوصلت ذاك فكان غير
رمام إني أواصل من أردت وصاله ... بحبال لا صلف ولا لوام
ومنها في هجاء الفرزدق:
خلق الفرزدق سوءة في مالك ... ولخلف ضبة كان شر غلام
مهلا فرزدق إن قومك فيهم ... خور القلوب وخفّة الأحلام
الظاعنون على العمي بجميعهم ... والنّازلون بشرّ دار مقام
واللوى بكسر اللام وفتح الواو مقصورا في الأصل منقطع الرمل وقد ورد في مطلع معلقة امرئ القيس وهو:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللّوى بين الدخول فحومل(5/445)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
وهو أيضا موضع بعينه قال ياقوت: «وقد أكثرت الشعراء من ذكره وخلطت بين ذلك اللوى والرمل فعز الفصل بينهما وهو واد من أودية بني سليم» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)
اللغة:
(أَفَأَصْفاكُمْ) : أخلصكم وخصكم والتصفية في الأصل معناها التخليص ولكنه هنا ضمن معنى خصكم لأجل تعلق البنين به وفي الأساس: «ومن المجاز أصفيته المودة وأصفيته بالبر آثرته واختصصته «أفأصفاكم ربكم بالبنين» وأصفى عياله بشيء يسير: أرضاهم به، وصادف الصياد خفقا فأصفى أولاده بالغبيراء قال الطرماح:
أو يصادف خفقا يصفهم ... بعتيق الخشل دون الطعام(5/446)
وهو صفيي من بين إخواني وهم أصفيائي وصافيته وهما خليلان متصافيان.»
(صَرَّفْنا) : بينا وأوضحنا ولها معان كثيرة بالتشديد يقال صرفه بمعنى صرفه مع مبالغة وصرّف الشيء باعه وصرف الدراهم بدلها وصرف الخمر شربها صرفا أي غير ممزوجة وصرف الكلام اشتق بعضه من بعض وصرفه في الأمر فوض الأمر اليه وصرف الماء أجراه وصرف الله الرياح أجراها من وجه إلى وجه.
الإعراب:
(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً) الهمزة للاسفهام والحقيقة ان هذا الاستفهام معناه الإنكار الابطالي وهذا يقتضي أن ما بعده غير واقع وان مدعيه كاذب، ومعناه التقريع والتوبيخ والنفي أيضا أي لم يفعل ذلك. وأصفاكم فعل ماض والكاف مفعوله وهو معطوف على محذوف يقدر بحسب المقام وربكم فاعل وبالبنين متعلقان بأصفاكم واتخذ من الملائكة إناثا عطف على أصفاكم وهو فعل وفاعل مستتر ومن الملائكة مفعول اتخذ الثاني وإناثا هو المفعول الاول ويجوز أن تكون جملة اتخذ من الملائكة إناثا حالية والواو واو الحال وقد مقدرة. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة تقولون خبرها وقولا مفعول مطلق وعظيما صفة. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وصرفنا فعل وفاعل ومفعوله محذوف أي أمثالا ومواعظ وحكما وقصصا وأخبارا وأوامر ونواهي(5/447)
وقد حذف الضمير للعلم به وفي هذا متعلقان بصرفنا والقرآن بدل واللام للتعليل ويذكروا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والواو للحال وما نافية ويزيدهم فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر ونفورا مفعول يزيدهم الثاني (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ) قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولو شرطية ومعه ظرف متعلق بمحذوف خبر كان المقدم وآلهة اسمها المؤخر وكما يقولون نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون.
(إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا) اذن حرف جواب وجزاء مهملة دالة على أن ما بعدها وهو لابتغوا جواب عن مقالة المشركين واللام واقعة في جواب لو وجملة ابتغوا لا محل لها والواو فاعل والى ذي العرش متعلقان بابتغوا أو بمحذوف حال من سبيلا، وسبيلا مفعول ابتغوا (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً) سبحانه مفعول مطلق وقد تقدم مرارا وتعالى عطف على ما تضمنه المصدر والتقدير تنزه وتعالى فهو فعل ماض وعما متعلقان به وجملة يقولون صلة وعلوا مفعول مطلق لأنه مصدر واقع موقع التعالي وكبيرا صفة. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) تسبح فعل مضارع وله متعلقان به والسموات فاعل والسبع صفة والأرض عطف على السموات ومن عطف على السموات والأرض وفيهن متعلقان بمحذوف صلة من. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) الواو عاطفة وإن نافية ومن حرف جر زائد وشيء مجرور لفظا مرفوع محلا وساغ الابتداء به لتقدم النفي وإلا أداة حصر ويسبح فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو والجملة خبر شيء وبحمده حال أي متلبسا بحمده، ولكن:
الواو حالية ولكن حرف استدراك مهمل ولا نافية وتفقهون فعل مضارع وفاعل وتسبيحهم مفعول به. (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) إن(5/448)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وحليما خبر أول لكان وغفورا خبر ثان لها.
البلاغة:
في قوله تعالى «وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم» فن التنكيت وقد تقدمت الاشارة اليه وانه قصد المتكلم الى شيء بالذكر دون غيره مما يسدّ مسدّه لنكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه فقد خصّ سبحانه تفقهون دون تعلمون لما في الفقه من الزيادة على العلم لأنه التصرف في المعلوم بعد علمه واستنباط الأحكام منه والمراد الذي يقتضيه معنى الكلام التفقه في معرفة التسبيح من الحيوان البهيم والبنات والجماد وكل ما يدخل تحت لفظة شيء مما لا يعقل ولا ينطق إذ تسبيح ذلك بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده وحكمته.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)(5/449)
الإعراب:
(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) الواو استئنافية وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وقرأت القرآن فعل وفاعل ومفعول به والجملة مضافة الى إذا وجعلنا فعل وفاعل وبينك الظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وبين الذين لا يؤمنون عطف على الظرف الاول وجملة لا يؤمنون صلة وبالآخرة متعلقان بيؤمنون وحجابا مفعول جعلنا الأول ومستورا نعت لحجابا ويجوز أن يكون مستورا على بابه أي لا يرى فهو مستور ويجوز أن يكون مفعولا بمعنى فاعل أي ساترا لك عنهم فلا يرونك يريد الذين حاولوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم. (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) جعلنا فعل وفاعل وعلى قلوبهم مفعول جعلنا الثاني وأكنة مفعول جعلنا الأول وأن يفقهوه في موضع النصب مفعول من أجله أي كراهة أن يفقهوه ويجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي من أن يفقهوه والجار والمجرور متعلقان بأكنة لأن فيها معنى المنع من الفقه فكأنه قيل ومنعناهم أن يفقهوه، وفي آذانهم وقرا عطف على قوله على قلوبهم أكنة. (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجملة ذكرت مضافة وذكرت فعل وفاعل وربك مفعول به وفي القرآن متعلقان بذكرت ووحده حال لأنه في قوة النكرة أي منفردا وجملة ولوا لا محل لها وعلى أدبارهم متعلقان بمحذوف حال ونفورا مفعول مطلق لأنه في معنى ولوا أي فهو مصدر ويجوز إعرابه مفعولا من أجله وأعربه أبو البقاء حالا أي نافرين فيكون جمع نافر.
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) نحن مبتدأ وأعلم خبر(5/450)
وبما متعلقان بأعلم وجملة يستمعون صلة وبه جار ومجرور متعلقان بيستمعون والباء سببية والمعنى ما يستمعون بسببه وهو الهزء بك وبالقرآن وقال الزمخشري «به في موضع الحال كما نقول يستمعون بالهزء أي هازئين» وفيه بعد وقال أبو البقاء الباء بمعنى اللام وإذ ظرف لما مضى متعلق بأعلم وجملة يستمعون إليك مضافة للظرف. (وَإِذْ هُمْ نَجْوى) عطف على إذ داخلة في حكمها فهي ظرف لأعلم أي وبما يتناجون به إذ هم ذو ونجوى فهم مبتدأ ونجوى خبر على حذف مضاف ويحتمل أن يكون نجوى جمع نجي فلا حاجة لتقدير مضاف قبل الخبر.
(إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً) إذ يقول بدل من إذ هم نجوى أو من إذ يستمعون إليك ويقول الظالمون فعل مضارع وفاعل وإن نافية وتتبعون فعل مضارع مرفوع والواو فاعل وإلا أداة حصر ورجلا مفعول به ومسحورا نعت لرجلا.
الفوائد:
بحث طريف عن وحده:
اعلم ان «وحده» لم يستعمل إلا منصوبا إلا ما ورد شاذا قالوا:
هو نسيج وحده وعيير وحده وجحيش وحده فأما نسيج وحده فهو مدح وأصله ان الثوب إذا كان رفيعا فلا ينسج على منواله غيره فكأنه قال نسيج أفراده يقال هذا للرجل إذا أفرد بالفضل وأما عيير وحده وجحيش وحده فهو تصغير عير وهو الحمار يقال للوحشي والأهلي وجحيش وحده وهو ولد الحمار فهو ذم يقال للرجل المعجب برأيه لا يخالط أحدا في رأي ولا يدخل في معونة أحد ومعناه انه ينفرد بخدمة نفسه، وأما قولك جاء وحده فوحده حال من فاعل جاء المستتر فيه(5/451)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
وهو معرفة بالاضافة الى الضمير فيؤول بنكرة من لفظه أو من معناه أي متوحدا أو منفردا وتقول مررت به وحده ومررت بهم وحدهم فوحده مصدر في موضع الحال كأنه في معنى إيحاد جاء على حذف الزوائد كأنك قلت أوحدته بمروري ايحادا أو ايحاد في معنى موحد أي منفرد فإذا قلت مررت به وحده فكأنك قلت مررت به منفردا ويحتمل عند سيبويه أن يكون للفاعل والمفعول.
وكان الزجاج يذهب الى أن وحده مصدر وهو للفاعل دون المفعول فإذا قلت مررت به منفردا فكأنك قلت أفردته بمروري إفرادا.
وقال يونس: إذا قلت مررت به وحده فهو بمنزلة موحدا ومنفردا وتجعله للممرور به، وليونس فيه قول آخر: أن وحده معناه على حياله وعلى حياله في موضع الظرف وإذا كان الظرف صفة أو حالا قدر فيه مستقر ناصب للظرف ومستقر هو الاول.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 48 الى 52]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)(5/452)
اللغة:
(رُفاتاً) : الرفات ما بولغ في دقه وتفتيته وهو اسم مفرد لأجزاء ذلك الشيء المفتت، وقال الفراء: هو التراب يؤيده أنه تكرر في القرآن ترابا وعظاما. ويقال رفت الشيء يرفته بالكسر أي كسره والفعال يغلب في التفريق كالحطام والرقاق والفتات. وفي القاموس وتاج العروس: «رفته يرفته ويرفته كسره ودقه وانكسر واندق لازم ومتعد وانقطع كارفتّ ارفتاتا في الكل وكغراب الحطام وكصرد:
التبن والذي يرفت كل شيء أي يكسره» وفي الأساس: «وفي ملاعبهن رفات المسك أي فتاته ويقال لمن عمل ما يتعذر عليه التفصي منه:
الضبع ترفت العظام ولا تعرف قدر استها تأكلها ثم يتعسر عليها خروجها ومن المجاز هو الذي أعاد المكارم وأحيا رفاتها وأنشر أمواتها» .
(فَسَيُنْغِضُونَ) : أي يحركون رءوسهم وفي المختار: نغض رأسه من باب نصر وجلس أي تحرك وأنغض رأسه حرّكه كالمتعجب من الشيء ومنه قوله تعالى: «فسينغضون إليك رؤوسهم» ونغض فلان رأسه أي حرّكه يتعدى ويلزم. وفي اللسان: يقال أنغض رأسه ينغضها أي حركها الى فوق وإلى أسفل انغاضا فهو منغض وأما نغض ثلاثيا ينغض، وينغض بالفتح والضم فمعنى تحرك لا يتعدى» .
الإعراب:
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) انظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وضربوا فعل وفاعل ولك متعلقان بضربوا والأمثال مفعول(5/453)
به فضلوا عطف على ضربوا والفاء حرف عطف ولا نافية ويستطيعون سبيلا فعل وفاعل ومفعول به. (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل والهمزة للاستفهام الانكاري واستبعاد ما يتساءلون عنه وإذا ظرف مستقبل متعلق بمحذوف تقديره أنبعث أو نحشر إذا كنا عظاما ورفاتا وقد دل عليه مبعوثون ولا يجوز أن يتعلق به لأن ما بعد ان لا يعمل فيما قبلها وكذا ما بعد الاستفهام لا يعمل فيما قبله وقد اجتمعا هنا والجواب هو الفعل الذي تعلقت به وكنا كان واسمها وعظاما خبرها ورفاتا عطف على عظاما. (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الهمزة للاستفهام الانكاري والاستبعاد كما تقدم وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبر ان وخلقا حال أي مخلوقين أو مفعول مطلق من معنى الفعل لا من لفظه أي نبعث بعثا جديدا، وجديدا صفة.
(قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) جملة كونوا حجارة مقول القول وكان واسمها وحجارة خبرها وأو حرف عطف وحديدا عطف على حجارة والأمر هنا معناه التعجيز مع الاهانة. (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) أو حرف عطف وخلقا عطف على حجارة ومما صفة لخلقا وجملة يكبر صلة وفي صدوركم متعلقان بيكبر. (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) الفاء عاطفة والسين حرف استقبال ويقولون فعل مضارع وفاعل ومن اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة يعيدنا خبر وقل فعل أمر والذي فطركم مبتدأ خبره محذوف تقديره يعيدكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي فطركم وجملة فطركم صلة وأول مرة ظرف متعلق بفطركم. (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) الفاء عاطفة والسين للاستقبال وينغضون فعل مضارع وفاعل وإليك متعلقان بينغضون أي يحركون رءوسهم الى فوق والى أسفل، هزءا وسخرية ورؤوسهم مفعول به ويقولون عطف على ينغضون ومتى اسم(5/454)
استفهام متعلق بمحذوف خبر مقدم وهو مبتدأ مؤخر أي البعث.
(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) عسى من أفعال الرجاء واسمها ضمير مستتر تقديره هو وأن وما بعدها في محل نصب خبر عسى واسم يكون مستتر تقديره هو وقريبا خبرها. (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) في متعلّق هذا الظرف أقوال لا تطمئن إليها النفس لأن أقربها الى الفهم أن يكون متعلقا باسم كان أي البعث ولكنه ممتنع من الناحية النحوية لأن الضمير لا يعمل فالأولى أن يعرب بدلا من قريبا أو يتعلق بيكون على رأي من يرى التعلق بالأفعال الناقصة، واختار أبو السعود تبعا لأبي البقاء أن يكون ظرفا لا ذكر وهو بعيد عن سياق الموضوع، وجملة يدعوكم مضاف إليها الظرف، فتستجيبون عطف على يدعوكم وبحمده متعلقان بمحذوف حال أي حامدين قال الزمخشري وأحسن: «وهي مبالغة في انقيادهم البعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويتمنع: ستركبه وأنت حامد شاكر» . (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) الواو حالية وتظنون فعل مضارع مرفوع وفاعل أي يخيل إليكم لفرط ما تكابدون من الهول والرّوع وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وقليلا ظرف متعلق بلبثتم أي في الدنيا أي تستقصرون مدة لبثكم في الدنيا وتحسبونها يوما أو بعض يوم فهو نعت لزمان محذوف ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا.
البلاغة:
في قوله تعالى «قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم» إلى آخر الآية فنان من فنون البلاغة:
1- أولهما فن يسمى التمكين وبعضهم يسميه الارصاد وحقيقته أن يمهد المتكلم لقافيته أو سجعة فقرته تمهيدا تأتي القافية فيه متمكنة(5/455)
في مكانها مستقرة في قرارها غير نافرة ولا قلقة فإن السامع يعلم انه أراد حجارة أو حديدا بجاذب من قلبه ووحي من هاجسه دون أن يسمع بقية الآية ومثل ذلك في الشعر قول أبي الطيب:
يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم
وللبحتري في علوة الحلبية:
فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام
وقال النابغة الذبياني في القديم:
كالاقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي
زعم الهمام ولم أذقه بأنه ... يشفى بريّا ريقها العطش الصدي
ومن طريف هذا الفن ما يحكى انه اجتمع السراج الوراق وأبو الحسين الجزار وابن نفيس الشاعر فمر بهم غلام مليح الصورة فقال السراج:
شمائله تدل على اللطافة ... وريقته تنوب عن السّلافة
فقال أبو الحسين الجزار:
وفي وجناته ورد ولكن ... عقارب صدغه منعت قطافه
فقال ابن نفيس:
فلو ولي الخلافة ذو جمال ... لحق له بأن يعطى الخلافة(5/456)
فالقوا في الثلاث متمكنة كما ترى.
2- والفن الثاني في هاتين الآيتين هو التخيير وهو أن يؤتى بقطعة من الكلام أو بيت من الشعر جملة وقد عطف بعضها على بعض بأداة التخيير وان يتضمن صحة التقسيم فيستوعب كلامه أقسام المعنى الذي أخذ المتكلم فيه فانظر إلى التخيير في هاتين الآيتين وصحة التقسيم وحسن الترتيب في الانتقال، على طريق البلاغة، من الأدنى إلى الأعلى حتى بلغ سبحانه النهاية في أوجز إشارة وأعذب عبارة حيث قال بعد الانتقال من الحجارة: «أو حديدا» فانتقل من الحجارة إلى ما هو أصلب منها وأقوى ثم قال بعد ذلك: «أو خلقا مما يكبر في صدوركم» غير حاصر لهم في صنف من الأصناف، وتصوّر أيها القارئ بعد ذلك المعنى كيف يتكامل ويشرق في النفس إشراقا تغرق النفس فيه أي انكم تستعبدون أن يجدد الله خلقكم، ويرده إلى حال الحياة والى رطوبتها وغضاضتها بعد ما كنتم عظاما يابسة وذلك ديدنكم في الإنكار، ودأبكم في العناد، فهبكم لم تكونوا عظاما بل كنتم أقسى منها وأصلب وأبعد عن رطوبة الحياة، هبكم حجارة طبيعتها القساوة والصلابة بل هبكم حديدا وهو أشد أنواع المادة بعدا من الحياة ومنافاة لها بل أترك الأمر لكم لتتصوروا ما هو أقسى وأصلب وأنأى عن قبول الحياة، مما لا يخطر إلا لذوي العناد من أمثالكم فإنه لقادر على أن يردكم إلى الحياة لأن القادر على البدء قادر على الإعادة بل هي أهون عليه بالنسبة لأفهامنا لا إليه تعالى وهذا من بديع الكلام ومعجزه بل هو من النمط الذي استحق أن لا يكون من كلام البشر.(5/457)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 57]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
الإعراب:
(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) الواو عاطفة والجملة منسوقة على ما سبق ليستكمل التعاليم التي بها قوام أمورهم. وقل فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ولعبادي متعلقان بقل ويقولوا جواب الطلب أو مجزوم بلام الأمر المحذوفة وقد تقدم في سورة ابراهيم تفصيل لهذا التعبير فجدد به عهدا والتي مفعول به ليقولوا أو على الأصح صفة لمفعول محذوف أي الكلمة التي هي أحسن وهي(5/458)
مبتدأ وأحسن خبر والجملة صلة. (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) الجملة تعليلية لقوله يقولوا التي هي أحسن وان واسمها وجملة ينزغ بينهم أي يفسد بينهم خبر وجملة إن الشيطان الثانية بدل من الأولى وكان فعل ماض ناقص وللانسان جار ومجرور متعلقان بعدوا، وعدوا خبر كان ومبينا صفة لعدوا وجملة كان إلخ خبر إن. (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) ربكم مبتدأ وأعلم خبر وبكم متعلقان بأعلم، وإن شرطية ويشأ فعل الشرط مجزوم ويرحمكم جواب الشرط مجزوم أيضا. (أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) عطف على ما تقدم والواو عاطفة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل وعليهم متعلقان بوكيلا، ووكيلا حال من الكاف أي موكولا إليك أمرهم فتحاول هدايتهم. (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وربك مبتدأ وأعلم خبر وبمن متعلقان بأعلم وفي السموات والأرض صلة. (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وفضلنا فعل وفاعل وبعض النبيين مفعول به وعلى بعض متعلقان بفضلنا وآتينا عطف على فضلنا وهو فعل وفاعل وداود مفعول به أول وزبورا مفعول به ثان وسيأتي في باب الفوائد سر تخصيص داود بإيتاء الزبور.
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ) جملة ادعوا الذين مقول القول وادعوا فعل أمر وفاعل والذين مفعول به وجملة زعمتم صلة ومفعولا زعمتم محذوفان للعلم بهما وهما زعمتموهم آلهة، ومن دونه الجار والمجرور متعلقان بمحذوف نصب على الحال. (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا) الفاء استئنافية ولا نافية ويملكون كشف الضر فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعنكم متعلقان بكشف والواو حرف عطف ولا نافية وتحويلا معطوف على كشف الضر. (أُولئِكَ الَّذِينَ(5/459)
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)
أولئك مبتدأ والذين يدعون بدل منه وجملة يبتغون خبر والواو فاعل والى ربهم متعلقان بالوسيلة، والوسيلة مفعول به ويجوز لك أن تعرب الذين هي الخبر وجملة يبتغون حال من فاعل يدعون. (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) أيهم بدل من فاعل يبتغون وأي موصولة ويجوز أن تكون استفهامية فهي مبتدأ وأقرب خبر وعبارة أبي حياة: «واختلفوا في اعراب أيهم أقرب وتقديرة، فقال الحوفي أيهم أقرب ابتداء وخبر والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به ويجوز أن يكون أيهم أقرب بدلا من الواو في يبتغون» ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق وأيهم أقرب في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدى بفي وان كانت بصرية تعدت بإلى فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر كقوله فلينظر أيها أزكى طعاما، وفي إضمار الفعل المعلق نظر والوجه الثاني قاله الزمخشري قال: «وتكون أي موصولة أي يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب» فعلى هذا الوجه يكون أقرب خبر مبتدأ محذوف واحتمل أن يكون أيهم معربا وهو الوجه واحتمل أن يكون مبنيا لوجود مسوغ البناء، وسيأتي حكم «أي» في باب الفوائد. وأقرب خبر لمبتدأ محذوف والمعنى يبتغون من هو أقرب منهم وأمت إليهم بزلفى الوسيلة الى الله فما بالك بغير الأقرب فكيف يزعمون انهم آلهة، ويرجون رحمته عطف على يبتغون ويرجون فعل مضارع وفاعل وحذفت لام الفعل وهي الواو لالتقاء الساكنين ورحمته مفعول به ويخافون عذابه عطف على يرجون رحمته. (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) تعليل للخوف وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو ومحذورا خبر كان.(5/460)
الفوائد:
1- معنى تفضيل بعض الأنبياء على بعض:
تفضيل بعض الأنبياء على بعض يكون بتفاوت الفضائل النفسانية ولهذا اشتهر منهم أولو العزم المستهدفون للبلاء فما وهنوا وما استكانوا وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الأنبياء الذين اتسموا بكامل الصفات وتخصيص داود بالزبور فيه رد على اليهود الذين زعموا انه لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة وقد استعمل الزبور بلام التعريف ومجردا عنها لمحا للأصل لأنه فعول بمعنى المفعول كالحلوب بمعنى المحلوبة أو لأنه أراد بعضا من الزبور.
2- أي:
تأتي على ستة أوجه:
1- شرطية: «أيّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى» بدليل جزم تدعوا وإدخال الفاء رابطة على الجملة الاسمية وأيّا ما مفعول تدعوا.
2- استفهامية: «أيكم زادته هذه إيمانا» «فبأي حديث بعده يؤمنون» .
3- موصولية: «لننزعنّ من كل شيعة أيهم أشد» التقدير لننزعن الذي هو أشد.
4- أن تكون دالة على الكمال فتقع صفة للنكرة نحو: زيد رجل أيّ رجل، وحالا للمعرفة نحو مررت بعبد الله أيّ رجل.(5/461)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
5- أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه أل نحو يا أيها الرجل، وإنما التزم بناؤها على الضم لتكون على صورة المنادى المفرد المقصود بالنداء لأنه مضموم الآخر.
6- أن تكون للتعجب نحو: سبحان الله أيّ رجل هذا.
وأيّ تعرب في جميع أحوالها إلا إذا كانت موصولة مضافة ومحذوفا صدر صلتها كما تقدم فتبنى على الضم، ولأيّ تفاصيل يرجع إليها في المطولات وسيأتي المزيد من بحثها.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
الإعراب:
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) الواو استئنافية وإن نافية ومن حرف جر زائد وقرية(5/462)
مجرور لفظا مرفوع محلا مبتدأ وإلا أداة حصر ونحن مبتدأ ومهلكوها خبر والجملة الاسمية خبر قرية وقبل يوم القيامة الظرف متعلق بمهلكوها وأو حرف عطف ومعذبوها عطف على مهلكوها وعذابا مفعول مطلق وشديدا صلة. (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) كان واسمها وفي الكتاب متعلقان بمسطورا، ومسطورا خبر كان. (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) الواو عاطفة وما نافية ومنعنا فعل ماض ومفعول به مقدم وأن نرسل المصدر المؤول مفعول ثان لمنع وبالآيات الباء حرف جر زائد على حد زيادتها في قول عمرو بن كلثوم:
وقد علم القبائل من معد ... إذا قبب بأبطحها بنينا
بأنا المطعمون إذا أردنا ... وأنا النازلون بحيث شينا
ولك أن تجعلها أصلية فتكون للملابسة والمفعول محذوف أي في محل نصب حال والمعنى وما منعنا أن نرسل نبيا حالة كونه ملتبسا بالآيات، وإلا أداة حصر وأن الثانية وما في حيزها في محل رفع فاعل منع وبها متعلقان بكذب والأولون فاعل. (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها) هذه آية من الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها وآتينا فعل وفاعل وثمود مفعول به أول والناقة مفعول به ثان ومبصرة حال فظلموا الفاء عاطفة وظلموا فعل وفاعل وهو متضمن معنى كفروا وبها متعلقان به. (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) الواو للحال وما نافية ونرسل فعل مضارع وفاعل مستتر وبالآيات تقدم القول في هذه الباء وإلا أداة حصر وتخويفا مفعول لأجله ولك أن تجعله مصدرا في موضع نصب على الحال إما من الفاعل أي مخوفين بها أو من المفعول أي مخوّفا بها. (وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) الظرف متعلق(5/463)
بمحذوف أي اذكر ولك متعلقان بقلنا وان واسمها وجملة أحاط بالناس خبرها. (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) الواو عاطفة وما نافية وجعلنا الرؤيا فعل وفاعل ومفعول به وأراد بها ما رآه بعد الوحي في منامه أو ليلة الاسراء على خلاف وإذا كانت ليلة الاسراء فتسميتها رؤيا على أنها كانت في الليل ولأنها وشيكة سريعة الانقضاء لأن الرؤيا للحكم أما الرؤية البصرية فلا يطلق عليها رؤيا ولذلك أخذوا على المتنبي قوله:
«ورؤياك أحلى في الجفون من الغمض» ويبرر المتنبي أنه استعملها في الجفون لأن الرؤيا لا تكون إلا فيها.
والتي صفة وأريناك صلة الموصول وإلا أداة حصر وفتنة مفعول به ثان لجعلنا وللناس صفة لفتنة. (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) عطف على الرؤيا والملعونة نعت لها وفي القرآن جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال والمراد بها شجرة الزقوم وسيأتي الحديث عنها في موضعها من هذا الكتاب، فقد سخروا من محمد صلى الله عليه وسلم عند ما سمعوا بشجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم وقالوا: انه يزعم أن الجحيم تحرق الحجارة ثم يقول ان الشجر ينبت فيها. (وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) الواو استئنافية ونخوفهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، فما الفاء عاطفة وما نافية ويزيدهم فعل ومفعول به والفاعل مستتر تقديره تخويفنا وإلا أداة حصر وطغيانا مفعول به ثان وكبيرا نعت.(5/464)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)
اللغة:
(لَأَحْتَنِكَنَّ) لأستأصلن ذريته بالإغواء من احتنك الجراد الأرض إذا جرّد ما عليها أكلا مأخوذ من الحنك ومنه ما ذكر سيبويه من قولهم أحنك الشاتين أي آكلهما، وقيل معنى لأحتنكن لأسوقنهم وأقودنهم حيث شئت من حنك الدابة إذا جعل الرسن في حنكها، وفي المختار: «حنك الفرس جعل في فيه الرسن وبابه نصر وضرب وكذا احتنكه واحتنك الجراد الأرض أكل ما عليها وأتى على نبتها وقوله تعالى:
حاكيا عن إبليس: «لأحتنكن ذريته» قال الفراء: لأستولين عليهم، والحنك المنقار يقال أسود مثل حنك الغراب وأسود حانك مثل حالك(5/465)
والحنك ما تحت الذقن من الإنسان وغيره» ولهذه المادة شعاب يضيق عن استيعابها الحصر ففي القاموس وتاج العروس واللسان ما خلاصته:
حنك يحنك ويحنك بالضم والكسر حنكا الشيء فهمه وأحكمه، واحتنك الفرس جعل في فيه الرسن وحنك وحنّك: مضغ فدلك بحنكة وحنك يحنك ويحنك بالضم والكسر أيضا حنكا وحنكا وحنّك وأحنك واحتنك الدهر الرجل: جعلته التجارب والأمور وتقلبات الدهر حكيما فهو حنيك وتحنّك أدار العمامة من تحت حنكه واحتنك أيضا الجراد الأرض أكل ما عليها واحتنكه استولى عليه، واستحنك اشتد أكله بعد قلته والحنك والحنك والحنكة: الاسم من حنّكه الدهر والحنك: أعلى باطن الفم والأسفل من طرف مقدّم اللحيين.
(وَاسْتَفْزِزْ) : استفزه: استخفه والفزّ الخفيف وفي القاموس والتاج: «فزّ يفزّ فزّا انفرد وفز عنه تنحى وعدل وفزّ الظبي فزع وفزه عزه وغلبه وطير فؤاده وأفزعه وأزعجه وأزاله عن مكانه وفز يفزّ فزيزا الجرح سال بما فيه وفز فزازة وفزوزة: اضطرب وتوقد وافتزّ عليه غلب وتفازّ الرجلان: تبارزا واستفزه: استخفّه واستدعاه وجعله يضطرب وأزعجه وأخرجه من داره وقتله والفزّ الرجل الخفيف وولد البقرة الوحشية والفزة الوثبة بانزعاج.
(وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) صح عليهم وتصرف فيهم بكل ما تقدر وفي المختار: «وجلب على فرسه يجلب جلبا بوزن طلب يطلب طلبا صاح به من خلفه واستحثه للسبق وكذا أجلب عليه» وفي القاموس والتاج:
جلبه يجلبه بالضم والكسر جلبا وجلبا بالسكون والفتح ساقه وجاء به وجلب الرجل انساق وجلب الجرح برىء وأجلب القوم: جمعهم وجلبه وأجلبه توعده بالسر وجلب واجلب لأهله كسب وجلب وأجلب(5/466)
على الفرس: صاح به واستحثه للسبق وجلب وأجلب القوم: ضجوا واختلطت أصواتهم والجلبة: اختلاط الأصوات والصياح والجلب بفتحتين ما يجلبه من بلد الى بلد وجمعه أجلاب فما يقوله العامة عن المتاع هو جلب بفتحتين صحيح لا غبار عليه.
(وَرَجِلِكَ) بفتح فكسر الركاب والمشاة وفي القاموس: الرجل:
الراجل ومن يمشي على رجليه والراجل: من يمشي على رجليه لا راكبا وجمعه رجل ورجّالة ورجّال ورجال ورجالى ورجالى ورجلان ويقال: جاءت الخيالة والرجالة وأغار عليهم بخيله ورجله والخيل الخيالة ومنه الحديث: يا خيل الله اركبي.
الإعراب:
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الواو استئنافية والظرف متعلق بمحذوف أي اذكر وقد تقدم اعراب هذه الآية المكررة كثيرا. (قالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) الهمزة للاستفهام الانكاري الصادر عن تعنت وسوء تقدير وجهل وغباء ولمن متعلقان بأسجد وجملة خلقت صلة وطينا حال من الموصول والعامل فيه أأسجد، أو من عائد هذا الموصول أي خلقته طينا فالعامل فيها خلقته، وجاز وقوع طينا حال وإن كان جامدا لدلالته على الأصالة كأنه قال متأصلا من طين وأعربه بعضهم منصوبا بنزع الخافض أي من طين بدلالة آية أخرى صرح فيها بالجار. قال «وخلقته من طين» وقال الزجاج وغيره هو تمييز وفيه بعد (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) تقدم القول مفصلا في أرأيتك وانها بمعنى أخبرني والكاف لتأكيد(5/467)
الخطاب لا محل لها من الإعراب وهذا مفعول أول والموصول صفة أو بدل عنه والثاني محذوف لدلالة الصلة عليه أي أخبرني عن هذا الذي كرمته عليّ بأن أمرتني بالسجود له لم كرمته علي، ولم يجبه الله تعالى عن هذا السؤال استصغار لأمره واحتقارا لشأنه فاختصر الكلام بحذف ذلك ثم ابتدأ بالقسم فقال:
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) اللام موطئة للقسم وان شرطية وأخرتني فعل وفاعل ومفعول به والنون للوقاية وهو فعل الشرط والى يوم القيامة متعلقان بأخرتني ولأحتنكن اللام واقعة في جواب القسم وأحتنكن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا وذريته مفعول به وإلا أداة استثناء وقليلا مستثنى من ذريته منصوب وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة.
(قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) اذهب فعل أمر وفاعل مستتر والجملة مقول القول وليس المراد بالذهاب نقيض المجيء وانما معناه امض لشأنك الذي اخترته بمحض مشيئتك وسيأتي أنه أمره بأمور أربعة أخرى فيكون المجموع خمسة وكلها تهدف الى التنديد به وتهديده واستدراجه، فمن الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ وتبعك فعل ماض والفاعل مستتر والكاف مفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط ومنهم حال، فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها وخبرها وجزاء مفعول مطلق لفعل دل عليه جزاؤكم أي تجزون جزاء، ولا مانع عندي من أن يكون مصدرا انتصب بمثله وسيأتي مزيد بحث عنه في باب الفوائد، وقيل هو حال موطئة وقيل تمييز وليس ذلك ببعيد وسيأتي القول في هذا الالتفات في باب البلاغة وموفورا(5/468)
صفة (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) واستفزز أمر ثان للشيطان، من استطعت: من اسم موصول مفعول استفزز وجملة استطعت صلة ومفعول استطعت محذوف تقديره من استطعت أن تستفزه، ومنهم متعلقان بمحذوف حال وبصوتك متعلقان باستفزز وأجلب أمر ثالث وعليهم متعلقان بمحذوف حال وبخيلك متعلقان بأجلب ورجلك عطف على بخيلك أي استخف منهم من استطعت بصوتك وصح عليهم وسقهم حال كونك مصحوبا بخيلك ورجلك. (وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) وشاركهم أمر رابع والهاء مفعول به وفي الأموال متعلقان بشاركهم والمشاركة في الأموال أي حملهم على جمعها بالطرق الحرام غير المشروعة كالربا والميسر وإنفاقها في الأمور المحرمة والفسوق والعصيان وعدهم هذا هو الأمر الخامس والهاء مفعول به ولم يذكر الموعود اختصارا والمراد المواعيد الكاذبة الباطلة، وما الواو للحال أو اعتراضية وما نافية ويعدهم الشيطان فعل مضارع ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر وفي الكلام التفات سيأتي الكلام عنه وإلا أداة حصر وغرورا يجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي إلا وعدا غرورا ونسبة الغرور للمصدر سيأتي في باب البلاغة ولك أن تعربه مفعولا من أجله أي ما يعدهم ويمنيهم من الوعود الكاذبة والأماني المعسولة إلا لأجل الغرور والجملة حالية أو معترضة. (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا) جملة تعليلية للأمر بالوعد أي إنما نأمرك بذلك لأننا نعلم أنه ليس لك سلطان على عبادنا الصالحين، وان واسمها وجملة ليس خبرها ولك خبر مقدم لليس وعليهم حال لأنه كان في الأصل صفة لسلطان وسلطان اسم ليس مؤخر وكفى فعل ماض والباء زائدة في الفاعل ووكيلا تمييز.(5/469)
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على فنون شتى منها:
1- المجاز المرسل في استعمال الرؤية بمعنى الأخبار في قوله «أرأيتك» لأنها سببه فالعلاقة فيها السببية وقد تقدم بحث ذلك.
2- الالتفات عن الخطاب الى الغيبة وكان مقتضى الظاهر أن يقال: وما تعدهم إلا غرورا ولكنه عدل عن ذلك تهوينا لأمره واستصغارا لأمر الغرور الذي يعدهم به من جهة وليتولى الكلام على طريق الغيبة متحدثا الى الناس جميعا ليعلم الجاهل، ويخلد المبطل الى الصواب.
3- المجاز العقلي في نسبة الغرور الى الوعد على حد قوله:
نهاره صائم وليله قائم وقد تقدم تفصيل ذلك في مواضعه.
الفوائد:
1- عامل المفعول المطلق:
عامل المفعول المطلق إما مصدر مثله لفظا ومعنى مثل «فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا» فجزاء مفعول مطلق وعامله جزاؤكم وهو مصدر مثله أو معنى لا لفظا نحو أعجبني إيمانك تصديقا، أو ما اشتق منه من فعل نحو «وكلم الله موسى تكليما» أو من وصف أي اسم فاعل أو اسم مفعول أو للمبالغة دون التفضيل والصفة المشبهة فاسم الفاعل نحو «والصافات صفا» واسم المفعول نحو: الخبز مأكول أكلا، وأمثلة المبالغة نحو: زيد ضرّاب ضربا ولا يجوز زيد حسن وجهه حسنا ولا أقوم منك قياما، وأما قول الشاعر:(5/470)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم ... لؤما وأبيضهم سربال طباخ
فلؤما منصوب بمحذوف. ونعود الى الآية فقد اعترض بعضهم على انتصاب جزاء بالمصدر وهو جزاؤكم قال: إنه وإن كان لفظه مصدرا معناه المجزي به لحمله على جهنم فمعنى الآية ان جهنم هي الشيء الذي أنتم مجزيون به. ولو جاهة هذا الاعتراض قلنا انه يجوز أن ينتصب بفعل محذوف دل عليه جزاؤكم والمعنى تجازون، أو على الحال الموطئة.
2- الحال الموطئة:
والحال الموطئة بكسر الطاء أو بفتحها هي الجامدة الموصوفة لأنها ذكرت توطئة للنعت بالمشتق أو شبهه نحو «فتمثل لها بشرا سويا» فإنما ذكر بشرا توطئة لذكر سويا ومعنى هذا الكلام ان الاسم الجامد لما وصف بما يجوز أن يكون حالا صح أن يكون حالا والموطئة لغة
[سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 69]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)(5/471)
هي المهيئة وسيأتي المزيد منها أثناء الكلام على هذه الآية في سورة مريم.
اللغة:
(يُزْجِي) : يجري ويسير وفي القاموس: «زجاه ساقه ودفعه كزجّاه وأزجاه ومنه قول الشاعر:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
(حاصِباً) الحاصب: الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء، والحصباء الحجارة الصغيرة واحدتها حصبة كقصبة وفي المصباح:
«وحصبته حصبا من باب ضرب وفي لغة من باب قتل رميته بالحصاء» .
قال أبو عبيدة والقيتبي: الحصب الرمي: أي ريحا شديدة حاصبة وهي التي ترمي بالحصى الصغار، وقال الزجاج: الحاصب التراب الذي فيه حصباء فالحاصب ذو الحصباء والحصباء كاللابن والتامر ويقال للسحابة التي ترمي بالبرد حاصب ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين جبال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور
(قاصِفاً) القاصف: الريح التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر وقيل: التي لا تمر بشيء إلا قصفته.
(تَبِيعاً) التبيع المطالب. قال الشماخ يصف عقابا:
تلوذ ثعالب الشرقين منها ... كما لاذ الغريم من التبيع
أي تهرب منها ثعالب الشرقين بمعنى المشرقين كما هرب والتجأ الغريم أي المدين من التبيع أي الدائن المطالب.(5/472)
الإعراب:
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) الجملة تعليل لبيان قدرته تعالى وربكم مبتدأ والذي خبره وجملة يزجي صلة ولكم متعلقان بيزجي والفلك مفعول به وفي البحر متعلقان بمحذوف حال ولتبتغوا اللام للتعليل وتبتغوا مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بتبتغوا أي تبتغوا الربح من فضله (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ان واسمها وجملة كان خبرها وبكم متعلقان برحيما، ورحيما خبر كان. (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) الواو عاطفة وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة مسكم مضافة للظرف والكاف مفعول به والضر فاعل وفي البحر متعلقان بمحذوف حال أي حالة كونكم في البحر وجملة ضل لا محل لأنها جواب شرط غير جازم ومن فاعل ضل وجملة تدعون صلة وإلا إياه استثناء أي ذهب عن خواطركم كل من تدعونه إلا إياه فانكم عندئذ وفي ذلك الوقت بالذات تذكرونه فهو استثناء متصل لأنه اندرج مع من ذكروه ويجوز أن يكون منقطعا أي ضل من تدعونه من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله وحده وهو الذي ترجونه وحده. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) لما أداة شرط غير جازمة ونجاكم فعل ماض ومفعول به وهو فعل الشرط وفاعله هو، والى البر متعلقان بنجاكم وأعرضتم جواب الشرط وكان واسمها وخبرها. (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم فحملتكم نجاتكم على الإعراض. وأمنتم فعل وفاعل وأن يخسف مصدر مؤول في محل نصب بنزع الخافض أن من أن يخسف(5/473)
والجار والمجرور متعلقان بأمنتم وبكم حال أي مصحوبا بكم فالباء للمصاحبة، ويجوز أن يتعلق بيخسف وتكون الباء للسببية. وجانب البر مفعول يخسف وأو حرف عطف ويرسل عطف على يخسف وعليكم متعلقان بيرسل وحاصبا مفعول به. (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا) ثم حرف عطف للتراخي ولا نافية وتجدوا عطف على يرسل أيضا ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لوكيلا وتقدمت عليه ووكيلا مفعول به. (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى) أم حرف عطف وهي متصلة أي أي الأمرين كائن وأمنتم فعل وفاعل وأن يعيدكم مصدر مؤول في محل نصب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بأمنتم وفيه متعلقان بيعيدكم وتارة ظرف متعلق بيعيدكم أيضا وأخرى صفة. (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) الفاء عاطفة ويرسل عطف على أن يعيدكم وعليكم متعلقان بيرسل وقاصفا مفعول به ومن الريح صفة والفاء حرف عطف ويغرقكم عطف على يرسل وبما متعلقان بيغرقكم وما مصدرية أي بسبب كفركم.
(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) ثم حرف عطف ولا تجدوا عطف على يغرقكم ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لتبيعا وتقدمت عليه فهو على حد قول أبي الطيب المتنبي:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا
فقوله لها متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسبلا ولا يجوز تعليقه بوجدت لأن وجد لا يتعدى باللام وانما يتعدى بنفسه.
وعلينا متعلقان بمحذوف حال أيضا وبه متعلق بتبيعا ويجوز أن يتضمن تبيعا معنى ناصرا لأن المطالب بحق الملازم للطلب فيكون علينا متعلقا به أي ناصرا علينا.(5/474)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 72]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72)
اللغة:
(فَتِيلًا) : تقدم القول في النقير والقطمير فالفتيل هو الخيط الذي في نقرة النواة طولا وأما القشرة فهي القطمير وأما الخيط الذي في ظهرها فهو النقير ففي النواة أمور ثلاثة: فتيل وقطمير ونقير وفي القاموس: الفتيل: السحاة في شق النواة والقطمير والقطمار بكسر القاف فيهما: القشرة الرقيقة بين النواة والثمرة، والنقير: النكتة في ظهر النواة.
الإعراب:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وكرمنا فعل وفاعل وبني آدم مفعول به وحملناهم عطف على كرمنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وفي البر والبحر متعلقان بحملناهم. (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ(5/475)
وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا)
ورزقناهم فعل وفاعل ومفعول به أيضا ومن الطيبات متعلقان برزقناهم وفضلناهم عطف أيضا وعلى كثير متعلقان بفضلناهم وممن خلقنا صفة لكثير وجملة خلقنا صلة وتفضيلا مفعول مطلق. (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وندعو فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن وكل أناس مفعول به وجملة ندعو مضافة للظرف وبإمامهم يجوز أن يتعلق بندعو وأن يتعلق بمحذوف حال أي موسومين ومعروفين والمراد بالإمام من ائتموا به في دنياهم وفوضوا اليه أمورهم وأحكام معايشهم، وقلدوه في شؤون دنياهم وأخراهم. (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفاء عاطفة ومن شرطية أو موصولة وهي في محل رفع مبتدأ وأوتي فعل ماض مبنى للمجهول ونائب الفاعل مستتر وكتابه مفعول به ثان وبيمينه متعلقان بأوتي والفاء رابطة وجملة أولئك جواب الشرط أو خبر الموصول وأولئك مبتدأ وجملة يقرءون خبر وكتابهم مفعول به، ولا: الواو حرف عطف ولا نافية ويظلمون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفتيلا نائب مفعول مطلق أي ظلما قدر الفتيل وقد تقدمت له نظائر. (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) الواو عاطفة ومن شرطية أو موصولة وكان فعل ماض ناقض وفي هذا خبر مقدم والاشارة للدنيا وأعمى اسم كان مؤخر وهي بمعنى فاعل. (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) الفاء رابطة وهو مبتدأ وفي الآخرة حال وأعمى خبر وهي إما بمعنى فاعل كالأولى أي من كان في هذه الدنيا عميا عن حجته فهو في الآخرة كذلك وإما بمعنى أفعل التفضيل التي تقتضي من، والمعنى: من كان في هذه الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى أيضا والمراد العمى القلبي الذي لا يبصر الهداية. وأضل عطف على أعمى وسبيلا تمييز.(5/476)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 73 الى 77]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)
الإعراب:
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) الواو استئنافية وإن مخففة من الثقيلة مهملة ويجوز إعمالها قليلا كما تقدم وكادوا فعل ماض ناقص من أفعال المقاربة والواو اسمها واللام الفارقة وجملة يفتنونك خبر كادوا وعن الذي متعلقان بيفتنونك وقد ضمّن يفتنونك معنى يصرفونك فلذلك عدي بعن وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا، لتفتري: اللام لام التعليل وتفتري مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وعلينا متعلقان بتفتري والفاعل مستتر تقديره أنت وغيره مفعول به (وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) الواو عاطفة وإذن حرف جزاء وجواب يقدر بلو الشرطية أي ولو اتبعت مرادهم وحققت مقترحاتهم التي حاولوا أن يستنزلوك لتحقيقها، واللام(5/477)
موطئة للقسم والتقدير والله لا تخذوك والكاف مفعول به أول وخليلا مفعول به ثان. (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) لولا حرف امتناع لوجود وان وما في حيزها مبتدأ محذوف الخبر أي ولولا تثبيتا لك وعصمتنا إياك واللام جواب لولا وقد حرف تحقيق وكاد واسمها وجملة تركن خبرها وإليهم متعلقان بتركن وشيئا مفعول مطلق فهو بمعنى الركون أي وشيئا قليلا من الركون. (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) إذن حرف جواب وجزاء يقدر بلو الشرطية أيضا أي ولو اتبعت مرادهم وحققت مقترحاتهم التي حاولوا أن يستنزلوك لتحقيقها، اللام موطئة للقسم وأذقناك فعل وفاعل ومفعول به وضعف مفعول ثان والحياة مضاف ولا بد من تقدير محذوف أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وثم حرف عطف وتراخ ولا نافية وتجد فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت، ولك متعلقان بتجد وعلينا متعلقان بنصيرا، ونصيرا مفعول به. (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) الواو عاطفة وان مخففة يجوز إهمالها وإعمالها وكادوا من أفعال المقاربة والواو اسمها واللام الفارقة وجملة يستفزونك خبر كادوا، ومن الأرض متعلقان بيستفزونك وليخرجوك متعلقان بيستفزونك ومنها متعلقان بيخرجوك والضمير يعود الى الأرض وهي أرض المدينة.
(وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا) الواو عاطفة واذن حرف جواب وجزاء مهمل ولا نافية ويلبثون فعل مضارع مرفوع وخلافك أي خلفك ظرف متعلق بيلبثون وعليه قول الشاعر:
عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا
يصف الشاعر ديارهم بعدهم بدروسها وكثرة قمامتها لعدم كنسها(5/478)
ووجود من يتعهدها والشواطب النساء يشققن شطب النخل أي سعفه الأخضر يعملنه حصيرا. وإلا أداة حصر وقليلا صفة لظرف محذوف أي زمانا قليلا أو صفة لمصدر محذوف أي لبثا قليلا فهي ظرف أو مفعول مطلق. (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا) نصبت سنة نصب المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة واختيار الفراء نصبها على نزع الخافض أي كسنة الله وإذن ينبغي على هذا الإعراب أن لا يوقف على قليلا واختار آخرون أن تنصب بفعل محذوف أي اتبع سنة ولا مانع من ذلك فالاوجه كلها متساوية.
البلاغة:
- قصة ثقيف واقتراحاتها:
في هذه الآيات ضروب من البلاغة ولا بد لتقريرها من إيراد قصة تنزيلها فقد روي أن ثقيفا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر ولا نحشر ولا نجبّي في صلاتنا وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة حتى نأخذ ما يهدى لها فإذا أخذناه كسرناها وأسلمنا وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل إن الله أمرني به، وجاءوا بكتابهم فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول الله لثقيف: لا يعشرون ولا يحشرون فقالوا: ولا يجبون فسكت رسول الله ثم قالوا للكاتب اكتب ولا يجبون والكاتب ينظر الى رسول الله فقام عمر بن الخطاب فسلّ سيفه فقال: أسعرتم قلب نبينا يا معشر ثقيف أسعر الله قلوبكم(5/479)
نارا فقالوا لسنا نكلم إياك وإنما نكلم محمدا فنزلت، ولا بد من شرح بعض المفردات فقولهم لا نعشر بالبناء للمجهول أي لا يؤخذ منا عشر أموالنا ولا نحشر بالبناء للمجهول أيضا أي لا نساق للجهاد ولا نجبي في صلاتنا بالبناء للمجهول أيضا من التجبية وهي- كما في الصحاح- أن يقوم الإنسان قيام الراكع وقال أبو عبيدة تكون في حالين أحدهما أن يضع يديه على ركبتيه والآخر أن ينكب على وجهه باركا وهو السجود والمراد لا نركع ولا نسجد والقصة طريفة تمثل أمورا هامة.
أ- إصرار القوم وعتوهم وتماديهم في الكبرياء والعنفوان.
ب- حلم النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه القوم باللين والاستمالة وفي ذلك منتهى الكياسة والسياسة.
ح- صلابة عمر وجرأته ولأمر ما سمي الفاروق أما أوجه البلاغة في الآية فهي:
1- الاطناب في ذكر هذا الموقف الذي يثبت لك دهاء السياسي وأحوذيته، يأخذ قومه بالملاينة والصبر ولا تذهب نفسه شعاعا وهو يرى التمادي في الغي والإصرار على الخطل.
2- المبالغة في تقليل الكيدودة لأن مجرد الملاينة التي تقتضيها السياسة واستمالة القوم أخذت على النبي لأن الذنب يعظم بحسب فاعله على ما ورد من أن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
3- الاستعارة المكنية في أذقناك ضعف الحياة وقد تقدمت أمثالها كثيرا.
4- الحذف فقد حذف العذاب تكريما لمقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأصل موصوف أي عذابا ضعفا في الحياة وعذابا(5/480)
ضعفا في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل أذقناك أليم الحياة وأليم الممات.
- ولابن هشام فصل ممتع عن كاد أورده في الباب السادس من كتابه المغني في التحذير من أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها:
«الثامن عشر قولهم إن كاد إثباتها نفي ونفيها إثبات فإذا قيل «كاد يفعل» فمعناه أنه لم يفعل وإذا قيل «لم يكد يفعل» فمعناه أنه فعله، دليل الأول «وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك» وقوله:
«كادت النفس أن تفيض عليه» ودليل الثاني «وما كادوا يفعلون» .
وقد اشتهر ذلك بينهم حتى جعله المعري لغزا فقال:
أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة ... جرت في لسائي جرهم وثمود
إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت ... وإن أثبتت قامت مقام جحود
والصواب أن حكمها حكم سائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، وبيانه: أن معناها المقاربة ولا شك أن معنى «كاد يفعل» قارب الفعل وأن معنى «ما كاد يفعل» ما قارب الفعل فخبرها منفي دائما أما إذا كانت منفية فواضح لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى عقلا حصول ذلك الفعل ودليله «إذا أخرج يده لم يكد يراها» ولهذا كان أبلغ من أن يقال «لم يرها» لأن(5/481)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
من لم ير قد يقارب الرؤية وأما إذا كانت المقاربة المثبتة فلأن الإخبار بقرب الشيء يقتضي عرفا عدم حصوله وإلا لكان الإخبار حينئذ بحصوله لا بمقاربة حصوله إذ لا يحسن في العرف أن يقال لمن صلى قارب الصلاة، وإن كان ما صلى حتى قارب الصلاة ولا فرق فيما ذكرنا بين كاد ويكاد فإن أورد على ذلك «وما كادوا يفعلون» مع أنهم قد فعلوا إذ المراد بالفعل الذبح وقد قال تعالى «فذبحوها» فالجواب أنه إخبار عن حالهم في أول الأمر فانهم كانوا أولا بعداء من ذبحها بدليل ما يتلى علينا من تعنتهم وتكرر سؤالهم ولما كثر استعمال مثل هذا فيمن انتفت عنه مقاربة الفعل أولا ثم فعله بعد ذلك توهم من توهم ان هذا الفعل بعينه هو الدال على حصول ذلك الفعل بعينه وليس كذلك وانما فهم حصول الفعل من دليل آخر كما فهم في الآية من قوله تعالى فذبحوها» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 81]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)(5/482)
اللغة:
(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) أي من وقت زوالها يقال دلكت الشمس أي غربت وقيل زالت واشتقاقه من الدلك لأن الإنسان يدلك عينيه عند النظر إليها فإن كان الدلوك الزوال فالآية جامعة للصلوات الخمس المفروضة وإن كان الغروب فقد خرجت منها الظهر والعصر، وأصل هذه المادة أي ما كانت فاؤه وعينه دالا ولاما يدل على التحول والانتقال فالدلبة واحدة الدّلب وهو شجر عظيم الورق لا زهر له ولا ثمر وهي تتسامى صعدا في الجو كأنها انتقلت من الأسفل الى الأعلى ومنه قولهم: «هو من أهل الدّربة، بمعالجة الدّلبة» ومنه تتخذ النواقيس أي هو نصراني. وسقى أرضه بالدّولاب بفتح الدال وهم يسقون بالدواليب وهي تستعمل لنقل المياه من مكان الى مكان لسقاية الأرض ودلج من الدلجة وهي سير الليل والانتقال فيه من مكان الى آخر ودلج ومنه وكفت عيناه وكيف غربي دالج وهو الذي يختلف بالدلو من البئر الى الحوض وبات لبلته يدلج دلوجا قال:
كأنها وقد براها الإخماس ... ودلج الليل وهاد قياس
شرائح النبع براها القوّاس ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلدل أعضاءه دلدلة أي حركها في المشي وتدلدل في مشيه اهتز واضطرب، ودلس الظلام معروف وخرج في الدّلس والغلس ودلّس المحدّث في حديثه أتى فيه بغير الراهن كأنما انتقل من واقعة الى واقع آخر ومنه تدليس البائع يكتم المساويء فيما يبيعه ويظهر المحاسن وأرض دلصتها السيول(5/483)
انتقلت بها من حال الى حال فجعلتها ملساء ومنه درع دلاص قال أبو الطيب:
لأمة فاضة أضاة دلاص ... أحكمت نسجها يدا داوود
ودلع وأدلع لسانه أخرجه من فمه ودلع بنفسه واندلع خرج واسترخى من كرب أو عطش كما يدلع الكلب ومن المجاز: اندلع السيف من غمده واندلق، واندلعت ألسنة النيران والمدلّع المتربي في العز والنعمة والاسم الدلاعة وهو من كلام العامة فهو عامي فصيح، ودلف إذا مشى مشي المقيد يقال دلف الشيخ والمقيّد دليفا ودلوفا وهو فوق الدبيب وشيخ دالف وعجائز دوالف قال طرفة:
لا كبير دالف من هرم ... أرهب الناس ولا كلّ الظفر
وجاء يدلف بحمله لثقله. ودلق عليهم السيل ودلقت عليهم الخيل واندلقت، ودلقوا عليهم الغارة شنوها ودلق البعير شقشقته أخرجها، وضربه فاندلقت أقتاب بطنه، ودلك الشيء مرسه بيده وقد تقدم ودله على الطريق وهو دليل المفازة، ودلت تدلّ وهي حسنة الدل والدلال، أي أخرجت كل ما لديها من مفاتن جسمية لتستهوي بها الآخرين ودله فلان دلها تحير وذهب عقله من هم أو عشق ففيه انتقال معنوي وأدليت دلوي في البئر أرسلتها فيها ودلى رجليه من السرير وتدلت الثمرة من الشجرة همت بالانتقال منها وأدلى بحقه وبحجته أحضرها فكأنه نقلها الى مكان النقاش ويطول بنا القول إن رحنا تنقصى ما في هذه المادة العجيبة.
(غَسَقِ اللَّيْلِ) : الغسق الظلمة وقيل دخول أول الليل قاله النضر بن شميل وقيل هو سواد الليل وظلمته وأصله من السيلان يقال:(5/484)
عسقت العين أي سال دمعها فكأن الظلمة تنصب على العالم وتسيل عليهم وفي الأساس: «يقولون من الغسق الى الفلق وهو دخول أول الليل حين يختلط الظلام وقد غسق الليل يغسق غسقا، وبنو تميم على أغسق، قال ابن قيس:
إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهمّ والأزقا
وقال جساس:
أزور إذا ما أغسق الليل خلّتي ... حذار العدى أو أن يرجّم قائل
(فَتَهَجَّدْ) : الهجود ترك النوم للصلاة وفيه خلاف بين أهل اللغة فقيل هو النوم وقيل الهجود مشترك بين النائم والمصلّي وقال ابن الأعرابي تهجد صلى من الليل وتهجد نام وهو قول أبي عبيد والليث ووزن تفعّل يأتي للسلب نحو تحرّج وتأثم وتحوّب وفي الأساس:
وهجد الرجل هجودا وتهجّد: ترك الهجود للصلاة (فَتَهَجَّدْ بِهِ) وبات فلان متهجدا: متوحدا، وهجّدنا مكّنا من الهجود قال لبيد:
قال هجّدنا فقد طال السّرى ... وقدرنا إن خنى الدهر غفل
وفي القاموس والتاج: «الهجود النوم بالنهار والهجوع النوم بالليل والتهجد صلاة الليل» .
(نافِلَةً) : زائدة.
الإعراب:
(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أقم الصلاة فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول به ولدلوك في هذه اللام وجهان(5/485)
أحدهما أن تكون بمعنى بعد أي بعد دلوك الشمس كقولهم كتبت كتابي لثلاث خلون وستأتي معاني اللام في باب الفوائد والثاني أن تكون على بابها أي لأجل دلوكها وقد انتفى اتحاد الوقت واتحاد الفاعل في أقم الصلاة لدلوك الشمس، ففاعل القيام المخاطب وفاعل لدلوك هو الشمس، وزمنهما مختلف فزمن الاقامة متأخر عن زمن الدلوك فلذلك جر بلام التعليل، وقيل هي لابتداء الغاية وان في الكلام حذف مضاف، والجار والمجرور متعلقان بأقم على كل حال. والى غسق الليل فيه وجهان أحدهما أن تعلقه بأقم أيضا لانتهاء غاية إقامة الصلاة والثاني انه متعلق بمحذوف حال من الصلاة أي أقمها ممتدة إلى غسق الليل. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الواو عاطفة وقرآن عطف على الصلاة أو نصب على الإغراء فالأول معناه وأقم صلاة الصبح عبّر عن الصلاة بالقراءة وهي أحد أركانها والثاني معناه وعليك قرآن الفجر أي الزمه والأول أقل تكلفا كما انه لم يسمع إضمار أسماء الأفعال وهي عاملة وجملة إن قرآن إلخ تعليل للأمر وإن واسمها وجملة كان مشهودا خبرها، ومشهودا خبر كان واسمها مستتر تقديره هو. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) الواو عاطفة ومن الليل متعلقان بتهجد أي تهجد بالقرآن بعض الليل ولك أن تعلقهما بمحذوف أي قم قومة من الليل وقال الحوفي من متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام تقديره واسهر من الليل بالقرآن، والفاء عاطفة وتهجد فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وبه متعلقان بتهجد ونافلة حال ولك صفة لنافلة أي صل حال كون الصلاة نافلة لك ويجوز أن تكون نافلة مصدرا كالعافية والعاقبة فتكون مفعولا مطلقا والمعنى فتنفل نافلة ولا أدري كيف أعربها بعضهم مفعولا لتهجد وهو فعل لازم إلا أن يقال انه ضمنه معنى أعبد وما أغنانا عن ذلك. (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) عسى من أفعال الرجاء والرجاء من الله قطعي الوقوع واسم عسى مستتر(5/486)
وأن يبعثك خبرها وربك فاعل يبعثك أو المسألة من باب التنازع ومقاما نصب على الظرف أي يبعثك في مقام أو مفعول مطلق لأن يبعثك هنا معناها يقيمك أو حال أي يبعثك ذا مقام ومحمودا صفة مقاما.
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) رب منادى محذوف منه حرف النداء وأدخلني فعل دعاء وفاعل مستتر والياء مفعول به ومدخل صدق مفعول مطلق لأنه مصدر ميمي وإضافته لصدق من إضافة الموصوف الى صفته أو للبيان وأخرجني مخرج صدق عطف على الجملة المماثلة. (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) واجعل عطف على ادخلني وأخرجني ولي مفعول ثان لاجعل وسلطانا مفعول أول لاجعل ونصيرا صفة ومن لدنك حال لأنه كان صفة لسلطانا أو متعلق بما تعلق به الأول. (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) أي قل عند دخولك مكة فاتحا وجملة جاء الحق مقول القول وزهق الباطل عطف عليه. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ان واسمها وجملة كان خبرها وزهوقا خبر كان.
البلاغة:
في قوله «وقل جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا» .
فن التذييل وهو أن يذيل الناظم والناثر كلامه بعد تمامه وحسن السكوت عليه بجملة تحقق ما قبلها من الكلام وتزيده توكيدا وتجري منه مجرى المثل لزيادة التحقيق والفرق بينه وبين التكميل أن التكميل يرد على معنى يحتاج الى الكمال والتذييل لم يفد غير تحقيق الكلام الأول وتوكيده وهذه الآية من أعظم الشواهد عليه فالجملة الأخيرة هي(5/487)
التذييل الذي خرج مخرج المثل السائر ومن شواهده في النظم قول النابغة الذبياني:
ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أيّ الرجال المهذّب
أي المنفي الفعال المرضي الخصال فصدر البيت دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال وعجزه تأكيد لذلك وتقرير لأن الاستفهام فيه للانكار أي لا مهذب في الرجال وقد اتفق علماء البديع على ان قوله:
أي الرجال المهذب، من أحسن تذييل وقع في شعر لأنه خرج مخرج المثل ومن ثم قالوا ان النابغة كان أشعر الناس بربع بيت.
الفوائد:
1- تحققت البشارة، وأتى أمر الله ودخل محمد مكة فاتحا، كما هو معروف في تاريخ السيرة، وقال جبريل لمحمد- صلى الله عليه وسلم- عند ما نزل بهذه الآية يوم الفتح: خذ مخصرتك ثم ألقها فجعل يأتي صنما صنما وهو ينكث بالمخصرة في عينه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا وبقي منها صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال: يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره إلى آخر هذه القصة الفريدة.
2- معاني اللام الجارة:
أورد ابن هشام في مغني اللبيب أن لّلام الجارة اثنين وعشرين معنى واكتفى غيره بذكر اثني عشر معنى فقط وأنكر أن يكون لها هذه المعاني الأخرى وفيما يلي تلخيص مفيد لذلك:(5/488)
1- الملك نحو «الله ما في السموات» .
2- شبه الملك. وجعل ابن هشام هذا القسم قسمين وهما الاختصاص نحو: السرج للدابة والاستحقاق وهي الواقعة بين معنى وذات نحو «العزة لله» والأمر لله.
3- التعدية الى المفعول به نحو «فهب لي من لدنك وليا» ورجح ابن هشام وغيره أن يمثل لها بنحو: ما أضرب زيدا لعمرو لأن ضرب متعد في الأصل ولكنه لما بني منه فعل التعجب نقل الى فعل بضم العين فصار لازما فعدي بالهمزة إلى زيد وباللام الى عمرو.
4- التعليل كقول أبي صخر الهذلي:
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر
أي لأجل ذكري إياك.
5- التوكيد وهي الزائدة وهي أنواع منها:
آ- اللام المعترضة بين الفعل المتعدي ومفعوله كقول ابن ميادة الرماح يمدح عبد الملك بن مروان:
وملكت ما بين العراق ويثرب ... ملكا أجار لمسلم ومعاهد
أي أجار مسلما ومعاهدا.
ب- ومنها اللام المقحمة بين المتضايفين كقول زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم(5/489)
والأصل لا أباك موجود وهو تعبير يحتمل المدح والذم وانجرار ما بعدها بالاضافة.
ح- ومنها لام المستغاث، فإنها زائدة عند المحققين بدليل صحة إسقاطها.
6- تقوية العامل الذي ضعف إما بكونه فرعا في العمل كالمصدر واسمي الفاعل والمفعول وأمثلة المبالغة نحو «مصدقا لما معهم» ونحو «فعّال لما يريد» واما بتأخره عن المعمول نحو «إن كنتم للرؤيا تعبرون» والأصل إن كنتم تعبرون الرؤيا فلما أخر الفعل وقدم معموله عليه ضعف عمله فقوي باللام وجعلها ابن هشام في المغني زائدة والأصح أنها ليست كذلك.
7- موافقة «الى» أي لانتهاء الغاية نحو «كل يجري لأجل مسمى» أي الى أجل مسمى.
8- القسم وتختص بالجلالة لأنها خلف عن التاء نحو:
لله لا يؤخر الأجل.
9- التعجب نحو: لله درك أي ما أكثر درك وأكثر ما تستعمل في النداء كقول امرئ القيس:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
10- الصيرورة أو العاقبة أو المآل نحو «فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا» وقول أبي العتاهية:
لدوا للموت وابنوا للخراب فإن الموت ليس علة للولد والخراب ليس علة للبناء ولكن صار(5/490)
عاقبتهما ومآلهما الى ذلك وأنكرها الزمخشري وقال: والتحقيق انها لام العلة وان التعليل فيها وارد على المجاز دون الحقيقة» .
11- البعدية نحو «أقم الصلاة لدلوك الشمس» وقد تقدم ذكرها لأن الوقت إنما يدخل ونعلمه بالدلوك فلا تقام الصلاة إلا بعد الدلوك وهو ميل الشمس عن الاستواء ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقول متمم بن نويرة:
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
12- الاستعلاء أي موافقة على حقيقة نحو «يخرون للأذقان» جمع ذقن أي عليها ومجازا نحو «وإن أسأتم فلها» أي عليها.
13- موافقة في نحو «قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو» أي لا يجليها في وقتها إلا هو.
14- موافقة «عند» كقراءة الحجوري «بل كذبوا بالحق لما جاءهم» بكسر اللام وتخفيف اللام أي عند مجيئه إياهم.
15- موافقة «مع» كقول متمم بن نويرة الآنف الذكر: فلما تفرقنا إلخ.
16- موافقة «من» نحو سمعت له صراخا وقول جرير:
لنا الفضل في الدنيا وأنفك راغم ... ونحن لكم يوم القيامة أفضل
أي ونحن منكم أفضل.
17- التبليغ نحو «قل لعبادي» وضابطها أن تجر اسم السامع لقول.(5/491)
18- موافقة «عن» إذا استعملت مع القول نحو «وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه» .
19- التمليك نحو: وهبت لزيد دينارا.
20- التعليل نحو قول امرئ القيس:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي ... فيا عجبا من كورها المتحمل
ومنها اللام الداخلة لفظا على المضارع نحو «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس» وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة.
21- توكيد النفي وهي الداخلة في اللفظ على الفعل مسبوقا بما كان أو بلم يكن نحو «وما كان الله ليطلعكم على الغيب» ويسميها أكثر النحاة لام الجحود.
22- التبيين وقد تقدم ذكرها ونعيدهاهنا مفصلة فنقول هي ثلاثة أقسام:
آ- ما تبين المفعول من الفاعل وضابطها أن تقع بعد فعل تعجب أو اسم تفضيل مفهمين حبا أو بغضا تقول ما أحبني وما أبغضني فإن قلت لفلان: أنت فاعل الحب والبغض وهو مفعولهما وإن قلت: الى فلان فالأمر بالعكس.
ب وج- ما يبين فاعلية غير ملتبسة بمفعولية وما يبين مفعولية غير ملتبسة بفاعلية ومصحوب كل منهما إما غير معلوم مما قبلها أو معلوم لكن استؤنف بيانه تقوية للبيان وتوكيدا له واللام في ذلك كله(5/492)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
متعلقة بمحذوف، مثال المبينة للمفعولية: سقيا لزيد وجدعا له، فهذه اللام ليست متعلقة بالمصدرية ولا بفعليهما المقدرين لانهما متعديان ولا هي مقوية للعامل لضعفه بالفرعية وإنما هي لام مبينة للمدعو له أو عليه.
واختلف في قوله تعالى «هيهات هيهات لما توعدون» فقيل اللام زائدة وما فاعل وقيل الفاعل ضمير مستتر راجع الى البعث والإخراج فاللام للتبيين والبحث في اللام طويل ومرجعه للمطولات.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 84]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
اللغة:
(نَأى) : النأي بالجانب أن يوليه عطفه ويوليه ظهره وأراد الاستكبار لأن ذلك ديدن المستكبرين وفي المصباح: «ونأى نأيا من باب نفع بعد» ويتعدى بنفسه وبالحرف وهو الأكثر فيقال نأيته ونأيت عنه ويتعدى بالهمزة فيقال أنأيته.
(شاكِلَتِهِ) : مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطريق التي تتشعب منه والمعنى كل(5/493)
إنسان يعمل حسب جوهر نفسه فإن كانت نفسه شريفة طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة.
الإعراب:
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الواو عاطفة وننزل فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومن القرآن حال على أن من للتبيين ويجوز أن تكون لابتداء الغاية أو تبعيضية فهي متعلقة بننزل كما اختار أبو حيان وما مفعول به وهو مبتدأ وشفاء خبر والجملة صلة الموصول ورحمة عطف على شفاء وللمؤمنين متعلقان بشفاء.
(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) الواو حالية ولا نافية ويزيد الظالمين فعل وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر وخسارا مفعول به ثان.
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) الواو حرف عطف وإذا ظرف مستقبل وجملة أنعمنا مضافة للظرف وهو فعل وفاعل وعلى الإنسان متعلقان به وجملة أعرض لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ونأى عطف على أعرض وبجانبه متعلقان بنأى. (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) عطف على ما تقدم وجملة مسه الشر مضافة للظرف وجملة كان لا محل لها واسم كان مستتر تقديره هو ويئوسا خبر كان. (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) كل مبتدأ أي كل أحد وجملة يعمل خبر وعلى شاكلته متعلقان بيعمل. (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا) الفاء استئنافية وربكم مبتدأ وأعلم خبره وبمن متعلقان بأعلم وهو مبتدأ وأهدى خبر والجملة صلة وسبيلا تمييز.(5/494)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 85 الى 87]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)
الإعراب:
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) الواو استئنافية ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن الروح متعلقان بيسألونك والضمير يعود على اليهود المتعنتين الذين سألوه تجنيا منهم عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة. (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الروح مبتدأ ومن أمر ربي خبر أي انه مما استأثر الله بعلمه والواو عاطفة أو حالية وما نافية وأوتيتم فعل ماض مبني للمجهول ومن العلم متعلقان بأوتيتم وإلا أداة حصر وقليلا مفعول به ثان لأوتيتم أي شيئا قليلا بالنسبة الى علمه تعالى وان كان كثيرا في حد ذاته. (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وان شرطية وشئنا فعل ماض وفاعل في محل جزم فعل الشرط واللام جواب القسم وجواب الشرط محذوف أي ذهبنا به على القاعدة في اجتماع الشرط والقسم من حذف جواب المتأخر استغناء عنه بجواب المتقدم وبالذي متعلقان بنذهبن وجملة أوحينا صلة وإليك متعلقان بأوحينا.
(ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا) ثم حرف عطف ولا نافية وتجد فعل(5/495)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
مضارع مرفوع وفاعله أنت ولك متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لوكيلا وبه متعلقان بتجد وعلينا متعلقان بوكيلا ووكيلا مفعول به أي لا تجد من يتوكل علينا باسترداده بعد رفعه.
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) يجوز في هذا الاستثناء أن يكون متصلا لأن الروح يندرج في قوله وكيلا أي إلا رحمة فيكون مستثنى أو بدلا من وكيلا ويجوز أن يكون منقطعا. وإلا بمعنى لكن فتعرب رحمة مفعولا من أجله والتقدير حفظناه عليك للرحمة أو مفعولا مطلقا والتقدير لكن رحمناك رحمة ومن ربك صفة لرحمة وان واسمها وجملة كان خبرها وعليك حال لأنه كان صفة لكبيرا وكبيرا خبر كان.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 88 الى 89]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)
الإعراب:
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) لئن اللام موطئة للقسم وإن شرطية واجتمعت فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والانس فاعل والجن عطف على الانس وعلى أن يأتوا: أن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال(5/496)
أي متظاهرين ومتعاونين وبمثل متعلقان بيأتوا وهذا مضاف لمثل والقرآن بدل. (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) لا يأتون لا نافية ويأتون فعل مضارع مرفوع لأنه جواب القسم المحذوف لتقدمة لا جواب الشرط والواو فاعل وبمثله متعلقان بيأتون ولو: الواو حالية ولو وصلية وكان فعل ماض ناقص وبعضهم اسم كان ولبعض متعلقان بظهيرا وظهيرا خبر كان وجملة لو كان إلخ حالية ولهذا التركيب قاعدة نوردها في باب الفوائد. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وصرفنا فعل وفاعل وفي هذا متعلقان بصرفنا والقرآن بدل ومن كل مثل صفة للمفعول به المحذوف أي من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) فأبى عطف على صرفنا وأكثر الناس فاعل وإلا أداة حصر لأن أبى متأول بالنفي كأنه قيل فلم يرضوا إلا كفورا، وكفورا مفعول به.
الفوائد:
إذا أتى حرف العطف قبل لو الوصلية كان عاطفا على مقدر ويكون حذف المعطوف عليه مطردا لدلالة المعطوف دلالة واضحة عليه ففي قوله تعالى «ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا» فالعطف هنا على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا لبعض ولو كان بعضهم ظهيرا لبعض فإن الإتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهر فلأن ينتفي عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد ومحله النصب على الحال حسبما عطف عليه أي لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها.(5/497)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 90 الى 93]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
اللغة:
(يَنْبُوعاً) : الينبوع بفتح الياء عين غزيرة لا ينصب ماؤها وهو يفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثرت أمواجه وللنون مع الباء فاء وعينا للكلمة سرّ عجيب مطرد وهو أنها تدل على الظهور والبروز وقد أحصيناها في جميع تراكيبها فرأيناها لا تنفك عن أداء هذا المعنى: فنبأ معناها ارتفع والنبأ الخبر والنبوءة، والنبوة الاخبار عن الغيب أو المستقبل، والنابئ المكان المرتفع المحدودب وسيل نابىء طارئ من حيث لا يدرى وكل شيء يظهر، قال:
ألا فاسقياني وانفيا عنكما القذى ... وليس القذى بالعود يسقط في الخمر(5/498)
ولكن قذاها كل أشعث نابىء ... أتتنا به الأقدار من حيث لا ندري
ونبّ التيس نبا: صاح عند الهياج وليس أظهر من ذلك ورمح مطرد الأنابيب وشرب من أنبوب الكوز وله أنبوب من نخل وغيره، قال:
أو من مشعشعة ورهاء نشوتها ... أو من أنابيب رمّان وتفّاح
ونبت المكان صار ذا نبت ظاهر وظهر النبت والنبات في الأرض والنابتة مؤنث النابت والناشئة من الأولاد والأنعام ونبث التراب من الحفرة استخرجه، ونبثوا عن الأمر: بحثوا عنه ولا يزالون يتنابثون عن الأسرار ويتباحثون عن الأخبار والانبوثة بضم الهمزة: لعبة للصبيان يدفنون شيئا في حفيرة فمن استخرجه غلب، وانه لنفّاج نبّاج ليس معه إلا الكلام، ونبحته الكلاب معروفة واستنبح الضيف الكلاب عند ظهوره، قال الأخطل وهو أهجى بيت:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار
ونبذ الشيء من يده طرحه ورمى به وصبي منبوذ والتقط فلان منبوذا ونبذ أمري وراء ظهره ونبذ النبيذ وهو أن يلقي الثمر في الجرّ وغيره، والنبيذ التمر المنبوذ والخمر المعتصر من العنب وغيره وجمعه أنبذة والنبّاذ بائع النبيذ، ونبر الغلام ترعرع ونبر المغنّي رفع صوته بعد خفض ونبر الحرف همزه والمنبر محل مرتفع يرتقيه الخطيب أو(5/499)
الواعظ يكلم منه الجمع سمي بذلك لارتفاعه وكسرت الميم على التشبيه بالآلة والجمع منابر، والنبز اللقب ونبزه بكذا لقبه ليعرف به وهو شائع في الألقاب القبيحة، ونبس بالمجلس ونبّس تكلم وأكثر استعماله بعد النفي يقال: ما نبس بكلمة وتقول كلّمته فعبس وما نبس، ونبش الشيء المستور أبرزه وأظهره ونبش الكنز من الأرض كشفه واستخرجه وهو ينبش الأسرار، قال:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
وهو ينبش لعياله ويحترش إذا استخرج رزقهم من هنا وهنا واحتال، وانتبش العروق من الأرض استخرجها قال الكميت:
موتهنّ انتباشهن من الأر ... ض ويحيين ما سكنّ القبورا
أي ما دامت العروق تحت الأرض كانت حية فإذا انتبشت ماتت، والنبّاش فعال للمبالغة الذي ينبش القبور، ونبص الغلام بالطائر والكلب وهو أن يضمّ شفتيه ويدعوه، ونبض عرقه نبضا ونبضانا وتقول: رأيت ومضة برق كنبضة عرق، ونبط الماء نبع، واستنبط البئر أخرج ماءها واستنبط العرب صاروا نبطا، قال خالد بن الوليد لعبد المسيح بن بقيلة: أعرب أنتم أم نبيط؟ فقال: عرب استنبطنا ونبيط استعربنا، وقال أبو العلاء المعري:
أين امرؤ القيس والعذارى ... إذ مال من تحته الغبيط
استنبط العرب في الموامي ... بعدك واستعرب النبيط(5/500)
وتقدم القول في النبع والينوع ونبغ الشيء خرج وظهر ونبغ الرجل: قال الشعر وأجاده ويقال إن النابغة قال الشعر على كبر سنه فاجاد فسمي النابغة وقيل بل لقوله:
وحلت في بني القين بن جسر ... فقد نبغت لنا منهم شئون
وهو نابغة من النوابغ ونبغ في العلم وفي كل صناعة. ونبق الشيء ينبق ظهر والنّبق والنّبق والنّبق والنّبق: حمل شجر السدر الواحدة نبقة وعن بعض العرب: ان النبق ليعجبني وان النّبق لي لمؤذ وفي الحديث «ونبقها كقلال هجر» ، ووقعنا في نبك من الأرض ونباك جمع نبكة وهي الأكمة المحددة الرأس ونبك المكان ارتفع وهضاب نوابك، قال ذو الرمة:
طواهن تغويري إذا الآل أرفلت ... به الشمس أزر الحزورات النوابك
ونبل الرجل كان ذا نبالة وفضل ظاهرتين ورجل نابل ونبّال معه نبل قال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وليس بذي رمح فيطعنني به ... وليس بذي سيف وليس بنبّال
ورجل تنبال: قصير، ونبه ينتبه للأمر فطن له وكان ذا نباهة وشرف، ونبا السيف عن الضريبة نبوّا ونبوة وسيف ناب ولكل صارم نبوة، قال:(5/501)
أنا السيف إلا أن للسيف نبوة ... ومثلي لا تنبو عليك مضاربه
وقد رمق سماء هذا المعنى حافظ ابراهيم فقال:
لا تلم كفي إذا السيف نبا ... صّح مني العزم والدهر أبى
(كِسَفاً) : قطعا يقال: كسفت الثوب قطعته وقال الزجاج كسف الشيء بمعنى غطاه قيل ولا يعرف هذا لغيره وفي الأساس: «وهذه كسفة وكسف وكسف من السحب وأعطني كسفة من الثوب:
قطعة» .
(قَبِيلًا) : كفيلا بما تقول شاهدا بصحته وقيل مقابلة وعيانا وقيل هو جمع قبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة يشهدون بصحة ما تقول واللغة تحتمل الجميع.
(زُخْرُفٍ) ذهب وهو المراد هنا ولها معان شتى منها حسن الشيء وزخرف الكلام أباطيله المموهة وزخرف الأرض ألوان نباتها والجمع زخارف وزخرف الشيء حسنه وزينه، والكلام موّهه بالكذب.
الإعراب:
(وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) الواو عاطفة وقالوا فعل وفاعل ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن نصب بها وفاعل نؤمن مستتر تقديره نحن ولك متعلقان بنؤمن وحتى حرف غاية وجر وتفجر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال ومن الأرض متعلقان بتفجر وينبوعا(5/502)
مفعول به. (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً) أو حرف عطف وتكون عطف على تفجر وهو المطلب الثاني من مطالبهم الستة. ولك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكون المقدم، وجنة اسمها المؤخر، فتفجر: الفاء عطف وتفجر عطف على تكون وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت والأنهار مفعول به وخلالها ظرف متعلق بمحذوف حال أي كائنة خلالها وتفجيرا مفعول مطلق. (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) أو حرف عطف وتسقط عطف على ما تقدم وهو المطلب الثالث والسماء مفعول به والكاف حرف جر أو اسم بمعنى مثل وهي مع ما المصدرية المؤولة بمصدر نعت لمصدر محذوف أو نصب على الحال وعلينا متعلقان بتسقط وكسفا حال من السماء والاشارة الى قوله تعالى «إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء» . (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) وهذا هو المطلب الرابع من مطالبهم المتعنتة وبالله متعلقان بتأتي والملائكة عطف على الله وقبيلا حال من الله والملائكة وقد تقدم معناها في باب اللغة. (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) وهذان هما المطلبان الخامس والسادس. ولك خبر يكون المقدم وبيت اسم يكون المؤخر ومن زخرف متعلقان بمحذوف صفة لبيت أو حرف عطف وترقى عطف على ما تقدم وبه تكتمل المطالب الستة المتعنتة وفي السماء جار ومجرور متعلقان بترقى ومعنى الرقي الصعود في السماء.
(وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) الواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤمن منصوب بها وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن ولرقيك متعلقان بنؤمن وحتى حرف غاية وجر وتنزل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وعلينا متعلقان بتنزل وكتابا مفعول به وجملة نقرؤه نعت لكتابا أو حال مقدرة من نا في علينا. (قُلْ سُبْحانَ(5/503)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا)
قل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت أي قل في الرد على العناد واللجاج وسبحان ربي مفعول مطلق والجملة مقول القول ومعناها التعجب من هذا اللجاج وتنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد في قدرته وهل حرف استفهام معناه النفي والإنكار وكنت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وإلا أداة حصر وبشرا خبر كنت أو حال ورسولا نعت أو خبر كنت.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 96]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)
الإعراب:
(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) الواو عاطفة أو استئنافية وما نافية ومنع فعل ماض والناس مفعول به مقدم وأن وما في حيزها في محل نصب مفعول به ثان لمنع وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بمنع أي وما منع الناس الايمان وقت مجيء الهدى وجملة جاءهم الهدى مضاف إليها الظرف. (إِلَّا أَنْ قالُوا: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا) إلا أداة حصر وأن وما في حيزها في محل رفع فاعل منع والهمزة للاستفهام الانكاري وما أنكروه هو المنكر، وبعث الله فعل وفاعل وبشرا حال من رسولا لأنه كان نعتا له وتقدم عليه كما هي القاعدة ورسولا مفعول به. (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ(5/504)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
مُطْمَئِنِّينَ)
قل فعل أمر ولو شرطية وكان فعل ماض ناقص وفي الأرض متعلقان بمحذوف خبر كان المقدم وملائكة اسمها المؤخر وجملة يمشون صفة لملائكة ومطمئنين حال ويجوز في كان التمام وملائكة هي الفاعل (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا) اللام واقعة في جواب لو ونزّلنا فعل وفاعل وعليهم متعلقان بنزلنا ومن السماء متعلقان بنزلنا أيضا وملكا حال من رسولا، ورسولا مفعول نزلنا. (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) كفى فعل ماض والباء حرف جر زائد والله مجرور بالباء لفظا وهو فاعل كفى محلا وشهيدا تمييز وبيني الظرف متعلق بشهيدا وبينكم عطف على الظرف الأول. (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) إن واسمها وجملة كان خبرها وخبيرا بصيرا خبران لكان.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 100]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100)(5/505)
الإعراب:
(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل نصب مفعول مقدم ليهد، ويهد فعل الشرط والله فاعل فهو الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه جملة اسمية وهو مبتدأ والمهتدي خبره وتحذف الياء في رسم المصحف وجملة هو المهتدي في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من على الأصح. (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) الواو عاطفة والجملة معطوفة على سابقتها ولهم متعلقان بأولياء ومن دونه حال. (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) ونحشرهم الواو استئنافية ونحشرهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به ويوم القيامة متعلق بنحشرهم وعلى وجوههم حال من الهاء في نحشرهم وعميا وما عطف عليه أحوال أيضا.
(مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) مأواهم جهنم جملة مستأنفة مؤلفة من مبتدأ وخبر وكلما ظرف متضمن معنى الشرط وقد تقدم وهو متعلق بالجواب وهو زدناهم وسعيرا مفعول به ثان وجملة كلما خبت حال من جهنم. (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا) ذلك اسم اشارة مبتدأ وجزاؤهم خبره وبأنهم أن وما في حيزها في محل جر بالباء والجار والمجرور متعلقان بجزاؤهم ويجوز أن يكون جزاؤهم بدلا من ذلك وبأنهم هو الخبر وجملة كفروا خبر أن وبآياتنا متعلقان بكفروا (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) الهمزة للاستفهام الانكاري وإذا ظرف مستقبل وكنا عظاما كان واسمها وخبرها ورفاتا عطف على عظاما والهمزة للاستفهام الإنكاري أيضا وان واسمها واللام المزحلقة ومبعوثون خبر إنا وخلقا حال وجديدا نعت ولك أن تجعل خلقا مفعولا مطلقا من معنى الفعل أي نبعث بعثا جديدا.(5/506)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) الهمزة للاستفهام الانكاري للرد على إنكارهم، والواو عاطفة على محذوف وقد تقدم تحقيقه كثيرا وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي يروا والذي صفة لله وجملة خلق السموات والأرض صلة وقادر خبر أن وعلى أن متعلقان بقادر ومثلهم صفة للمفعول المحذوف أي خلقا مثلهم وتقرير ذلك أن مثل الشيء مساويا له في حال فجاز أن يعبر به عن الشيء نفسه. (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ) الواو عاطفة وجعل معطوف على أو لم يروا لأنه في تقدير قد رأوا والمعنى قد علموا بالدلائل العقلية أن من قدر على خلق السموات والأرض هو قادر على خلق أمثالهم وجعل أجل لهم، ولهم متعلقان بمحذوف مفعول جعل الثاني وأجلا مفعول جعل لأول ولا ريب فيه الجملة صفة لأجلا ولا نافية للجنس وريب اسمها المبني على الفتح وفيه خبرها. (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) تقدم تقريره قريبا فجدد به عهدا. (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) لو شرطية وحقها أن تدخل على الأفعال دون الأسماء فلا بد من تقدير فعل يفسره ما بعده أي لو تملكون فلما أضمر على شريطة التفسير انفصل الضمير فأنتم تأكيد للفاعل المستتر في الفعل المحذوف الذي يفسره ما بعده وسيأتي بحث ذلك مفصلا في باب الفوائد.
وغلط من أعرب أنتم فاعلا لأن ضمير المخاطب لا يجوز إظهاره وجملة تملكون مفسرة لا محل لها وخزائن رحمة ربي مفعول به.
(إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) اذن حرف جواب وجزاء مهمل، ولأمسكتم اللام واقعة في جواب لو والجملة لا محل لها وخشية الانفاق مفعول لأجله والواو حالية وكان الإنسان قتورا كان واسمها وخبرها والجملة نصب على الحال وسيرد تقرير هذا المعنى في باب الفوائد.(5/507)
الفوائد:
1- «لو» والاسم بعدها:
تقدم القول في غير موضع من هذا الكتاب أن الشرط لا يكون إلا بالأفعال لأنك تعلق وجود غيرها على وجودها والأسماء ثابتة موجودة لا يصح تعليق وجود شيء على وجودها ولذلك لا يلي حرف الشرط إلا الفعل ويقبح أن يتقدم الاسم فيه على الفعل، ولو داخلة في هذا التحديد وإذا وقع بعدها الاسم وبعده الفعل فالاسم محمول على فعل قبله مضمر يفسره الظاهر وذلك لاقتضائها الفعل دون الاسم ومن كلام حاتم «لو ذات سوار لطمتني» على تقدير لو لطمتني ذات سوار.
2- معنى «وكان الإنسان قتورا» :
أورد بعض المتعنتين سؤالا اعترض فيه على قوله تعالى «وكان الإنسان قتورا» وقال على طريق التعنت والجدل اللفظي: كيف يصح هذا السلب الكلّيّ؟ وكيف يكون عموم الجنس الانساني ممسكا بخيلا ونحن نرى من بني الإنسان الجواد الكريم؟ والجواب في غاية البساطة وهو أن بناء أمر الإنسان في الأصل قائم على الحاجة والبخل بما يحتاج إليه للحفاظ على ما فيه قوام معيشته وملاك أمره وكسب الذكر الجميل والثناء العطر غاية لما يبذله حتى أن من بينهم- كما قال المعترض- لا الجواد الكريم فحسب بل الذي يرى بذل النفس والنفيس على حد قوله:
يجود بالنفس إن ضن الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود(5/508)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
3- ذهب بعض المتأخرين من النحاة الى قياس إذا الظرفية على إذ في إلحاق التنوين بها و «إذا» ذا حذفت الجملة التي تضاف هي إليها عوض عنها التنوين كقوله تعالى «وإذا لآتيناهم» و «إذا لأمسكتم» و «إذا لأذقناك» و «إذا لا يلبثون» و «إنكم إذا لمن المقربين» قالوا وليست إذا في هذه الأمثلة الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به ولذا عملت فيه ولا يعمل إلا ما يختص وهذه لا تختص به بل تدخل على الماضي وعلى الاسم وممن ذكر هذا الكافجي وأبو حيان في تذكرته والزركشي في البرهان وما نحسبه بعيدا قالوا «وتقول لمن قال أنا آتيك إذا أكرمك» بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمتك فحذف أتيتني وعوض التنوين من الجملة فسقطت الألف لالتقاء الساكنين.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)(5/509)
اللغة:
(بَصائِرَ) : عبر وبينات جمع بصيرة قال قس بن ساعدة الإيادي:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
وله فراسة ذات بصيرة وذات بصائر وهي الصادقة ورأيت عليك ذات البصائر قال الكميت:
ورأوا عليك ومنك في المهد النهى ذات البصائر (مَثْبُوراً) هالكا أو مصروفا عن الخير وفي المصباح: «وثبر الله الكافر ثبورا من باب قعد أهلكه وثبر هو يتعدى ويلزم» .
(لَفِيفاً) : قيل هو مصدر لف يلف لفيفا نحو النذير والنكير من لف الشيء يلفه لفا والألف المتداني الفخذين أو عظيم البطن وقيل هو اسم جمع لا واحد له من لفظه والمعنى جئنا بكم جميعا.
الإعراب:
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وآتينا فعل وفاعل وموسى مفعول به أول وتسع آيات مفعول به ثان وبينات صفة للعدد فهي منصوبة أو صفة للمعدود فهي مجرورة وقد تقدم ذكر هذه الآيات وما فيها من خلاف ونوجزها هنا في رواية ابن عباس قال: هي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه على بني إسرائيل وعن الحسن(5/510)
هي الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الحجر والبحر والطور وقيل غير ذلك ممالا علاقه له بكتابنا هذا. (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) الفاء الفصيحة إذا كان الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل الخطاب لموسى فتكون عاطفة على قول محذوف أي فقلنا له اسأل بني إسرائيل أي اسأل فرعون، وبني إسرائيل مفعول ثان وإذ ظرف لما مضى متعلق بآتينا على الأول وبالقول المقدر على الثاني وجملة جاءهم مضافة إليها الظرف فقال له عطف على مقدر أي إذ جاءهم وبلغهم الرسالة، فقال له فرعون فعل وفاعل وله متعلقان بقال، وإني ان واسمها واللام المزحلقة وأظنك فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره أنا ومفعول به ويا موسى يا حرف نداء وموسى منادى مفرد علم ومسحورا مفعول به ثان أي سحرت فخولط عقلك واختل كلامك. (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) قال فعل ماض وفاعله مستتر أي موسى واللام جواب للقسم المحذوف وعلمت فعل وفاعل وما نافية وأنزل فعل ماض وهؤلاء مفعول به أي الآيات التي جئت بها وإلا أداة حصر ورب السموات والأرض فاعل وبصائر حال أي أنزلها بصائر وإنما احتجنا الى هذا التقدير لأن ما بعد إلا لا يكون معمولا لما قبلها وأجازه بعضهم فهي حال من هؤلاء. (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجملة أظنك خبر إن ويا فرعون نداء ومثبورا مفعول ثان لأظنك. (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ) الفاء عاطفة وأراد فعل وفاعل مستتر أي فرعون وأن وما في حيزها مصدر مؤول مفعول أراد ومن الأرض متعلقان بيستفزهم. (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) الفاء عاطفة وأغرقناه فعل وفاعل ومفعول به ومن الواو واو المعية ومن مفعول معه ويجوز عطفه على الهاء وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد ومعه(5/511)
ظرف مكان صلة من وجميعا حال. (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وقلنا عطف على ما تقدم ومن بعده حال ولبني إسرائيل متعلقان بقلنا.
(اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) جملة اسكنوا مقول القول والأرض مفعول به على السعة وقد تقدم تفصيل ذلك فإذا الفاء عاطفة وإذا ظرف مستقبل وجاء وعد الآخرة فعل وفاعل وجملة جئنا لا محل لها وبكم متعلقان بجئنا ولفيفا حال.
الفوائد:
حالات المفعول معه:
للمفعول معه خمس حالات:
1- وجوب العطف نحو: كل رجل وعمله ونحو اشترك زيد وعمرو لأن الاشتراك لا يتأتى الا من اثنين.
2- ترجيح العطف نحو: جاء زيد وعمرو، لأنه الأصل.
3- وجوب المفعول معه نحو: مالك وزيدا، لامتناع العطف، ونحو: مات زيد وطلوع الشمس لأن العطف يقتضي التشريك وهو باطل هنا.
4- ترجيح المفعول معه نحو قوله:
فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال
ونحو قمت وزيدا، ففي المثال الأول يكون المعنى مع العطف كونوا لهم وليكونوا لكم وذلك خلاف المقصود وفي المثال الثاني(5/512)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
لا يحسن العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا بعد توكيده بضمير منفصل.
5- امتناع كليهما نحو:
علفتها تبنا وماء باردا ... حتى غدت همالة عيناها
وقول الآخر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
أما امتناع العطف فلانتفاء المشاركة لأن الماء لا يشاركه التبن في العلف والعيون لا تشارك الحواجب في التزجيج لأن تزجيج الحواجب تدقيقها وتطويلها يقال رجل أزج وامرأة زجاء إذا كانت حاجباهما دقيقين طويلين وأما امتناع المفعول معه فلانتفاء المعية في البيت الأول لأن الماء لا يصاحب التبن في العلف وانتفاء فائدة الاعلام بمصاحبة العيون للحواجب في البيت الثاني إذ أن المعلوم أن العيون مصاحبة للحواجب فلا فائدة في الاعلام بذلك ويجب في ذلك إضمار فعل ناصب للاسم الواقع بعد الواو على أنه مفعول به أي علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا، وزججن الحواجب وكحلن العيون.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 111]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)(5/513)
اللغة:
(مُكْثٍ) بتثليث الميم أي تطاول في المدة وعلى مهل وتؤدة ولم ترد قراءة بالكسر.
(الْأَذْقانِ) : جمع ذقن وهو مجتمع اللحيتين وسيأتي تفصيل واسع في باب البلاغة.
(تُخافِتْ) : تسر، يقال خفت الصوت من بابي ضرب وجلس إذا سكن ويعدى بالباء فيقال خفت الرجل بصوته إذا لم يرفعه وخافت بقراءته مخافته إذا لم يرفع صوته بها وخفت الزرع ونحوه مات فهو خافت.(5/514)
الإعراب:
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) الكلام هنا مرتبط بما تقدم من كلامه تعالى عن القرآن وقوله: «قل لئن اجتمعت الانس والجن» إلخ على طريق الاستطراد المتبع في أساليب العرب حيث ينتقلون من الصدد الذي هم فيه إلى غيره ثم يعودون إليه، وعلى كل فالواو استئنافية وبالحق متعلقان بأنزلناه وأنزلناه فعل وفاعل ومفعول به وبالحق متعلقان بنزل فالباء سببية فيهما ولك أن تجعلها للملابسة فيتعلق الجار والمجرور بمحذوف حال أي ملتبسا والحال من المفعول به أو ملتبسين بالحق فالحال من الفاعل وسيأتي المزيد من هذا البحث في باب البلاغة.
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) الواو عاطفة وما نافية وأرسلناك فعل وفاعل ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرا حال ونذيرا معطوف عليه وسيأتي الحديث عن هذا القصر في باب البلاغة. (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا) وقرآنا منصوب على الاشتغال بفعل محذوف يفسره ما بعده فتكون جملة فرقناه مفسرة أي جعلنا نزوله مفرقا منجما حسب الحوادث والوقائع ومقتضيات الأحوال، ولتقرأه اللام للتعليل وتقرأه مضارع منصوب بأن مضمرة والجار والمجرور متعلقان بفرقناه وفرقناه فعل وفاعل ومفعول به وعلى الناس متعلقان بتقرأه وعلى مكث في موضع الحال من الفاعل أي متريثا متمهلا وشيئا بعد شيئا رعاية لمصالح العباد ومعايشهم، ونزلناه فعل وفاعل ومفعول به وتنزيلا مفعول مطلق. (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) جملة آمنوا مقول القول والأمر للاحتقار أي سواء علينا إيمانكم أو عدمه فما أنتم بمن يؤبه لهم أو لا تؤمنوا وأو حرف عطف ولا ناهية وتؤمنوا مجزوم بلا. (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ(5/515)
لِلْأَذْقانِ سُجَّداً)
ان واسمها وجملة أوتوا العلم صلة والعلم مفعول ثان لأوتوا والأول نائب الفاعل وهو الواو ومن قبله حال والجملة تعليلية للقول على سبيل التسلية له صلى الله عليه وسلم وإذا ظرف مستقبل متعلق بيخرون وجملة يتلى مضاف إليها الظرف وعليهم متعلقان بيتلى وجملة يخرون لا محل لها لأنها جواب إذا وللأذقان متعلقان بيخرون وسجدا حال. (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا) ويقولون عطف على يخرون وسبحان ربنا مفعول مطلق وإن مخففة مهملة واسمها ضمير الشأن وجملة كان خبرها ووعد ربنا اسم كان واللام الفارقة ومفعولا خبرها. (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) الجملة معطوفة على سابقتها وسيأتي سر هذا التكرير في باب البلاغة وجملة يبكون حالية والواو للحال ويزيدهم فعل وفاعل مستتر والهاء مفعول به أول وخشوعا مفعول به ثان وسيأتي سر هذين الحالين المتتابعين في باب البلاغة. (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) سمعوا محمدا يدعو مرة في سجوده ويقول يا الله يا رحمن فقال أبو جهل إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين اثنين فنزلت، وجملة ادعوا الله مقول القول والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهي تنصب مفعولين حذف أحدهما استغناء عنه للعلم به ولفظ الجلالة مفعول به وأو للتخيير فهي عاطفة وادعوا معطوف على ادعوا الأولى والرحمن مفعول به أي سموه بهذا الاسم أو بذاك (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أيا شرطية وهي منصوبة بتدعوا على أنها مفعول مقدم وما زائدة للابهام المؤكد وتدعوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وله خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى صفة وقيل ما شرطية وجمع بين أداتي الشرط للتأكيد ولاختلاف اللفظين ولا داعي لهذا وستأتي الأسماء(5/516)
الحسنى في باب الفوائد. (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا) الواو عاطفة ولا ناهية وتجهر مضارع مجزوم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت نهي عن المجاهرة تفاديا لشتائمهم وهذا من محاسن الأخلاق ولا تخافت عطف على ولا تجهر أي لا تجعلها غير مسموعة لمن خلفك من المصلين وابتغ فعل أمر بني على حذف حرف العلة وبين ظرف متعلق بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لسبيلا وذلك مضاف للظرف والاشارة إلى اثنين وهما المجاهرة والمخافتة ولذلك صح دخول بين، وسبيلا مفعول ابتغ. (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) جملة الحمد لله مقول القول والحمد مبتدأ ولله خبر والذي صفة وجملة لم يتخذ ولدا صلة وترتيب الحمد على عدم اتخاذ الولد لأن من كان هذا وصفه فهو القادر ولا شك على إسباغ النعم وايلائها أما صاحب الولد فهو مستهدف للتلهي بولده عن غيرهم والاشتغال بهم عمن سواهم.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) عطف على لم يتخذ ولم حرف نفي وقلب وجزم ويكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وله خبرها المقدم وشريك اسمها المؤخر وفي الملك متعلقان بشريك ونفي الشريك أدعى الى الحمد لعدم وجود المزاحم الذي تتعارض إرادته معه. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) عطف على ما تقدم ونفي النصير يدل على الاستغناء وإنما يستغني القوي القادر على زيادة الإنعام ومن الذل متعلقان بولي أي ناصر وكبّره عطف على قل وهو فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وتكبيرا مفعول مطلق للتأكيد.
البلاغة:
حفلت خواتم سورة الاسراء بطائفة من فنون البلاغة نوجزها فيما يلي فأولها:(5/517)
1- الذكر أو التصريح:
بقوله تعالى «وبالحق أنزلناه وبالحق نزل» فإنه لو ترك الإظهار وعدل عنه الى الإضمار كما يقتضي السياق فقال: وبالحق أنزلناه وبه نزل، لم يكن فيه من الفخمية ما فيه الآن ويسميه بعضهم بالتصريح ويورد عليه شاهدا قول البحتري:
قد طلبنا فلم نجد لك في السوء ... دد والمجد والمكارم مثلا
والمعنى قد طلبنا مثلا فلم نجده وحذف لأن هذا المدح إنما يتم في المثل وأما الطلب فكالشيء الذي يذكر ليبنى عليه الغرض المطلوب وإذا كان ذلك كذلك فقد قال قد طلبنا مثلا في السؤدد والمجد فلم نجده ومنه قوله تعالى «قل هو الله أحد الله الصمد» فلو ترك الإظهار إلى الإضمار فقال: قل هو الله وهو الصمد، لم يكن له الوقع الملائم.
2- فن الاستطراد:
الاستطراد: ذكر الحاتمي في قواعد الشعر: انه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر وسماه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى وعرفه غيره بأنه أن يكون المتكلم في غرض من الأغراض يوهم أنه مستمر فيه لم يخرج منه إلى غيره لمناسبة بينهما ثم يرجع إلى الأول ويقطع الكلام فقد انتقل سبحانه من كلامه عن القرآن وان الانس والجن عاجزون عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، انتقل إلى ما في منطوياته من مثل وعبر وبصائر وانساق الكلام إلى تعنت(5/518)
الكافرين وتماديهم في اللجاج وسدورهم في الغي والمكابرة وطمس الحقائق وإنكار الوقائع ثم أورد شاهدا على ذلك ما لاقاه موسى من مكابرة فرعون وملئه وضرب مثلا في المغبة التي نالها فرعون ومن معه ثم عاد الى الموضوع الذي شرع فيه وهو كون القرآن نازلا بالحق واليه هادفا ومن طريف الاستطراد قول عبد المطلب المشهور:
لنا نفوس لنيل المجد عاشقة ... فإن تسلّت أسلناها على الأسل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا ... كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
فقد استطرد من ذكر المجد إلى النوم وقد استغله الشعراء للهجاء قال بعضهم يهجو شعر خالد الكاتب:
وشادن بالدلال عاتبني ... ومنيتي في تدلل العاتب
فكان ردي عليه من خجلي ... أبرد من شعر خالد الكاتب
فما أجمل هذا الاستطراد، لقد كان يتغزل بالشادن، وليس ثمة أبرد ممن يعاتب الحلو الجميل، ويرد عليه إذا تدلل أو عتب، وان من يتكلف مثل هذا الرد لن يأتي إلا بالبارد من الكلام الذي يشبه شعر خالد الكاتب، وجميل قول بعضهم يهجو قاضي القضاة منتقلا من وصف البستان إلى ما هو بصدده قال:
لله بستان حللنا دوحه ... في جنة قد فتحت أبوابها
والبان تحسبه سنانيرا رأت ... قاضي القضاة فنفشت أ. ذنابها
وأورد الباخرزي في دمية القصر للظاهر الحرمي هذه الأبيات بهجو فيها مغنيا اسمه البرقعيدي وهي:(5/519)
وليل كوجه البرقعيدي ظلمة ... وبرد أغانيه وطول قرونه
قطعت دياجيه بنوم مشرّد ... كعقل سليمان بن فهد ودينه
على أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خبطه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
3- القصر وطرقه:
وفي قوله: «وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا» قصر إضافي، والقصر هو تخصيص شيء بشيء بطريق مخصوص وينقسم إلى حقيقي وإضافي فالحقيقي ما كان الاختصاص فيه بحسب الواقع والحقيقة لا بحسب الإضافة الى شيء آخر نحو لا كاتب في المدينة إلا علي إذا لم يكن فيها غيره من الكتاب، والإضافي ما كان الاختصاص فيه بحسب الإضافة الى شيء معين نحو ما علي إلا قائم أي أن له صفة القيام لا صفة القعود وكل منهما ينقسم الى قصر صفة على موصوف نحو لا فارس إلا علي وقصر موصوف على صفة نحو وما محمد إلا رسول.
والقصر الإضافي ينقسم باعتبار حال المخاطب الى ثلاثة أقسام قصر إفراد إذا اعتقد المخاطب الشركة وقصر قلب إذا اعتقد العكس وقصر تعيين إذا اعتقد واحدا غير معين.
وللقصر طرق أربع مشهورة وطرق كثيرة غير مشهورة أما الأربع المشهورة فهي:
آ- النفي والاستثناء وهنا يكون المقصور عليه ما بعد أداة(5/520)
الاستثناء مثل: لا يفوز إلا المجد فالفوز مقصور والمجد مقصور عليه وهو قصر صفة على موصوف.
ب- «انما» ويكون المقصور عليه مؤخرا وجوبا وقد تقدم كلام عبد القاهر على انما نحو: انما الحياة تعب فالحياة مقصورة والتعب مقصور عليه وهو قصر موصوف على صفة.
ج- العطف بلا أو بل أو لكن فإن كان العطف بلا كان المقصور عليه مقابلا لما بعدها نحو: الأرض متحركة لا ثابتة وإن كان العطف ببل أو لكن كان المقصور عليه ما بعدهما نحو ما الأرض ثابتة بل متحركة وما الأرض ثابتة لكن متحركة.
هـ- تقديم ما حقه التأخير وهنا يكون المقصور عليه هو المقدم نحو على الرجال العاملين نثني.
وهناك طرق أخرى للقصر غير هذه الأربع منها ضمير الفصل نحو علي هو الشجاع ومنها التصريح بلفظ «وحده» الحالية أو ليس غير نحو أكرمت عليا وحده ولكنها لا تعدّ من طرقه الاصطلاحية.
4- التكرير المعنوي:
وقد تقدم بحث التكرير في اللفظ وهذا التكرير الذي نحن بصدده يتعلق بالمعنى فقد كرر الخرور للذقن وهو السقوط على الوجه لاختلاف الحالين فالأول خرورهم في حال كونهم ساجدين والثاني خرورهم في حال كونهم باكين أو الأول في حالة سماع القرآن أو قراءته والثاني في سائر الحالات ثم عقب الحالين بحال ثالثة وهي(5/521)
زيادتهم خشوعا كلما قرءوا وكلما سجدوا فاستوفى بذلك سائر أحوالهم وهم الكملة الذين أوتوا العلم ومما لا بد من التنويه انه أتى بالحال الأولى اسما وهي قوله سجدا للدلالة على الاستمرار وأتى بالحال الثانية فعلا للدلالة على التجدد والحدوث فكأنما بكاؤهم يتجدد بتجدد الأحوال الطارئة والعظات المتتالية وهذا موضع من التكرير مشكل وتدق معرفته على الأغمار ومما ورد منه حديث حاطب بن بلتعة في غزوة الفتح وذاك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر علي بن أبي طالب والزبير والمقداد رضي الله عنهم فقال: اذهبوا الى روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فأتوني به، قال علي رضي الله عنه: فخرجنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة وإذا فيها الظعينة فأخذنا الكتاب من عقاصها وأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا هو من حاطب بن بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما هذا يا حاطب؟ فقال: يا رسول الله لا تعجل عليّ إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون بها أموالهم وأهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب أن أتخذ عندهم بدا يحمون قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انه قد صدقكم» . فقوله: ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام من التكرير الحسن يظنه بعض الجهال تكريرا لا فائدة فبه، فإن الكفر والارتداد عن الدين سواء وكذلك الرضا بالكفر بعد الإسلام وليس كذلك والذي يدل عليه اللفظ هو اني لم أفعل ذلك وأنا كافر: أي باق على الكفر ولا مرتدا: أي اني كفرت بعد إسلامي، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام:
أي ولا إيثارا لجانب الكفار على جانب المسلمين وهذا حسن حسن(5/522)
واقع في مكانه ولكن هي مقتضيات الأحوال ومتشعبات لا يرود ثناياها إلا الطلعة المتذوق. ومما ورد شعرا من هذا التكرير المعنوي قول المقنع الكندي ونوردها كاملة لأهميتها:
يعاتبني في الدّين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
أسدّ به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ... وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا
وان زجروا طيرا بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا(5/523)
وليسوا الى نصري سراعا وان هم ... دعوني إلى نصر أتيتهم
شدا وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ... وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
فإن كل لحم يؤكل للانسان هو تضييع لغيبه وليس كل تضييع لغيبه أكلا للحمه ألا ترى أن أكل اللحم هو الاغتياب وأما تضييع الغيب فمنه الاغتياب ومنه التخلي عن النصرة والاعانة ومنه إهمال السعي في كل ما يعود بالنفع كائنا ما كان وهو موضع يرد في الكلام البليغ ويظن الجاهل انه لا فائدة فيه.
الفوائد:
1- الأسماء الحسنى:
«إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا إنه وتر يحب الوتر من أحصاها دخل الجنة وهي: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت (أي المقتدر) الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب،(5/524)
المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الاول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور.
2- الجهر والمخافتة وبيان السبب في ذلك:
بعد أن وجدت قريش أن دخولها في محاورات مع النبي لن يجديها شيئا بعد أن تكررت هزيمتها أمام الحجج الرائعة والمعاجز الإلهية التي كان يبدها بها، وبعد أن شعرت أنه لا قبل لها بتحدي القرآن وسلطانه المقدس على النفوس قرّ رأيها على أن تلجأ الى ضرب آخر من المقاومة السلبية وذلك أن تمتنع تماما عن سماع القرآن، روى ابن اسحق: جعلوا إذا جهر الرسول بالقرآن وهو يصلي يتفرقون عنه ويأبون أن يستمعوا له وكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فظن الذي يستمع انهم لا يستمعون شيئا من قراءته وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه.(5/525)
وروى ابن عباس انما أنزلت هذه الآية «ولا تجهر بصلاتك» إلخ من أجل هؤلاء النفر.
وإذا كان سادة قريش قد دعوا أهل مكة الى الانصراف عن سماع القرآن فما كانت بهم طاقة على تنفيذ هذا الأمر لما يحسون في أنفسهم من رقة ومن شغف لسماع هذا التنزيل الذي لا عهد لهم به.
وروى ابن اسحق أيضا:
أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله وهو يصلي من الليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم الى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال له:
- أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال:
- يا أبا ثعلبة، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها(5/526)
وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، فقال له الأخنس:
- وأنا والذي حلفت به كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته وقال له:
- يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال:
- ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا هنا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس وتركه.
وهكذا كانت قريش في حيرة من أمرها: ترق قلوبها وتخشع أفئدتها للقرآن لإدراكها أسراره ونفاذها إلى بيانه وسبرها غوره بيد أن نزاع العصبية وشارات الرياسة وأوضاع الجاهلية كل ذلك كان يحجبها عن الإسلام. وسيأتي المزيد من هذا البحث الطريف الجليل ...(5/527)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
(18) سورة الكهف مكية وآياتها عشر ومائة
[سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8)(5/528)
اللغة:
(عِوَجاً) : جاء في القاموس وغيره من معاجم اللغة: عوج بكسر الواو يعوج بفتحها عوجا العود ونحوه انحنى، والإنسان ساء خلقه فهو أعوج والعوج بكسر ففتح الاسم من عوج والالتواء وعدم الاستقامة ولم تفرق هذه المعاجم بينهما وفي الأساس: «يقال في العود عوج وفي الرأي عوج» ففرق بينهما وهذا هو الحق بدليل الآية.
فالعوج بكسر ففتح في المعاني كالعوج بفتحتين في الأعيان، وقال الشهاب في حاشيته على البيضاوي: «يعني أن المكسور يكون فيما لا يدرك بالبصر بل بالبصيرة والمفتوح فيما يدرك به» وقال في الكشاف: والعوج بكسر ففتح في المعاني كالعوج بفتحتين في الأعيان.
وسيأتي المزيد عنه في باب البلاغة.
(قَيِّماً) : مستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط أو قيما بمصالح العباد فيكون وصفا للكتاب بالتكميل بعد وصفه بالكمال أو قيما على الكتب السابقة مصدقا لها شاهدا بصحتها وفي القاموس والتاج واللسان: القيم على الأمر متوليه كقيم الوقف وغيره وقيم المرأة زوجها وأمر قيم مستقيم والديانة القيمة: المستقيمة وفي التنزيل «ذلك دين القيمة» أي دين الأمة القيمة ويتعدى بالباء وبعلى.
(باخِعٌ نَفْسَكَ) : مهلكها وقاتلها يقال: بخع الرجل نفسه يبخعها من باب نفع بخعا وبخوعا أهلكها وجدا وسيأتي مزيد بيان لها في باب البلاغة.
(صَعِيداً) : ترابا أو فتاتا يضمحل بالريح لا اليابس الذي يرسب.(5/529)
(جُرُزاً) بضمتين والجرز الذي لا نبات فيه فهو حائل البهجة باطل الزينة يقال سنة جرز وسنون أجراز وجرز الجراد الأرض: أكل ما فيها والجروز المرأة الأكول قال الراجز:
إن العجوز حية جروزا ... تأكل كل ليلة فقيزا
وجرزه الزمان اجتاحه. قال تبع:
لا تسقني بيديك إن لم ألقها ... جرزا كأن أشاءها مجروز
وفي أمثال العرب: «لن ترضى شانئة إلا بجرزة» وهو يضرب في العداوة وان المبغض لا يرضى إلا باستئصال من يبغضه.
الإعراب:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) الحمد مبتدأ ولله متعلقان بمحذوف تقديره ثابت لله فهو الخبر والذي نعت وجملة أنزل صلة وعلى عبده متعلقان بأنزل والكتاب مفعول به والواو يجوز أن تكون عاطفة فالجملة معطوفة على أنزل داخلة في حيز الصلة ويجوز أن تكون اعتراضية فالجملة معترضة بين الحال وهي قيما وصاحبها وهو الكتاب ويجوز أن تكون حالية فالجملة حال من الكتاب فتكون قيما حالا متداخلة كما سيأتي. (قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ) اضطربت أقوال النحاة والمفسرين في اعراب قيما اضطرابا شديدا وقد وقع اختيارنا على أن تكون حالا من الكتاب وجملة ولم يجعل معترضة واختار أبو البقاء أن تكون حالا من الهاء في له والحال مؤكدة واختار الزمخشري أن تكون منصوبة بفعل مقدر(5/530)
تقديره جعله قيما وننقل عبارته لأهميتها: «فإن قلت بم انتصب قيما؟
قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمر ولا يجعل حالا من الكتاب لأن قوله ولم يجعل معطوف على أنزل فهو داخل في حيز الصلة فجاعله حالا من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة، وتقديره ولم يجعل له عوجا جعله قيما لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة» وقد فطن حفص الى هذا الاضطراب في إعراب قيما فوقف على تنوين عوجا مبدلا له ألفا سكتة لطيفة من غير قطع نفس إشعارا بأن قيما ليس متصلا بعوجا وإنما هو من صفة الكتاب. وصرح أبو حيان في البحر بأن المفرد يبدل من الجملة كقوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فقيما بدل من جملة ولم يجعل له عوجا لأنها في معنى المفرد أي جعله مستقيما. وهناك أعاريب أخرى ضربنا عنها صفحا لأنها لا تخرج عن هذا النطاق.
ولينذر اللام للتعليل وينذر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بأنزل وينذر ينصب مفعولين وحذف أولهما وتقديره الكافرين وبأسا مفعول به ثان وشديدا صفة ومن لدنه صفة ثانية أو متعلقان بقوله لينذر. (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) ويبشر عطف على لينذر والفاعل مستتر تقديره هو والمؤمنين مفعول به وجملة يعملون الصالحات صلة وأن وما في حيزها قيل هو مصدر مؤول مفعول به ثان ليبشر على رأي من يرى أن يبشر تتعدى لمفعولين وقيل هو مصدر مؤول منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور متعلقان بيبشر ولهم خبر ان المقدم وأجرا اسمها المؤخر وماكثين حال من الهاء في لهم أي مقيمين فيه وفيه متعلقان بماكثين وأبدا ظرف متعلق بماكثين أيضا. (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ(5/531)
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً)
وينذر عطف على لينذر الأولى والذين مفعول ينذر الأول وحذف الثاني وهو الغرض المنذر به لأنه سبق ذكره وهو البأس فيكون في الكلام احتباك وجملة قالوا صلة وجملة اتخذ مقول القول والله فاعل وولدا مفعول به. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير جهالتهم وانهم يقولون مالا يعرفون وما نافية ولهم خبر مقدم وبه متعلقان بعلم ومن حرف جر زائد وعلم مبتدأ مؤخر ولا الواو عاطفة ولا نافية ولآبائهم عطف على لهم. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) كبرت فعل ماض لانشاء الذم والتاء علامة التأنيث والفاعل ضمير مستتر يعود على مقالتهم المختلقة وهي قولهم اتخذ الله ولدا أي كبرت مقالتهم وكلمة تمييز والكلام مبني على أسلوب التعجب كأنه قيل: ما أكبرها كلمة وجملة تخرج نعت لكلمة ومن أفواههم متعلقان بتخرج ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا مفسرا بنكرة وهي كلمة المنصوبة على التمييز فيكون الكلام للذم المحض ويكون المخصوص بالذم مخذوفا تقديره هي أي الكلمة وكلا الوجهين مستقيم سائغ، وإن نافية ويقولون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون والواو فاعل وإلا أداة حصر وكذبا فيه وجهان أظهرهما أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا قولا كذبا، ويجوز أن يكون مفعولا به لأنه يتضمن جملة وعليه يتمشى قول دعبل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم ... الله يعلم اني لم أقل فندا
إني لأغمض عيني ثم أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا
(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) الفاء استئنافية ولعل حرف ترج ونصب وهي من أخوات ان والكاف اسمها وباخع خبرها ونفسك مفعول به وعلى آثارهم متعلقان بباخع(5/532)
وسيأتي مزيد بيان عنه في باب البلاغة وإن شرطية ولم يؤمنوا فعل الشرط وبهذا متعلقان بيؤمنوا والحديث بدل من اسم الاشارة وأسفا مفعول لأجله أو على انه مصدر في موقع الحال وجواب الشرط محذوف دل عليه الترجي والتقدير فلا تحزن ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ان واسمها والجملة تعليل للنهي المقصود من الترجي وجملة جعلنا خبر إنا وما موصول مفعول به أول لجعلنا إن كانت بمعنى التصيير وعلى الأرض صلة ما وزينة مفعول به ثان لجعلنا وان كانت بمعنى خلقنا فتكون زينة حالا ومن العجيب أن يعربها بعضهم مفعولا لأجله مع أن الزينة ليست من المصادر القلبية مهما أسرفنا في التأويل، ولها صفة لزينة ولنبلوهم اللام للتعليل ونبلوهم منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بجعلنا وأيهم اسم استفهام مبتدأ والهاء مضاف إليه وأحسن خبر وعملا تمييز والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي نبلو لأنه في معنى نعلم وقد علق عن العمل بأي الاستفهامية ويجوز أن تكون أي موصولة بمعنى الذي وتعرب بدلا من الهاء في نبلوهم، والتقدير: لنبلو الذي هو أحسن، وأحسن خبر لمبتدأ محذوف أي هو أحسن والجملة صلة للموصول وتكون الضمة في أي للبناء لأن شرطه موجود وهو أن تضاف ويحذف صدر صلتها أو تكون ضمتها ضمة إعراب على رأي بعض النحاة والضمير في نبلوهم يعود على سكان الأرض كما يفهم من سياق الكلام أو على ما ولكنه بعيد لأنه يحتاج إلى تأويل ما بأنها خاصة بالعقلاء. (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة وجاعلون خبرها وما مفعول به ثان لجاعلون وعليها صلة وصعيدا مفعول به ثان لجاعلون وجرزا نعت لصعيدا ويجوز اعتبار الكلمتين بمعنى واحد نحو الرمان حلو حامض أي مز، فهما(5/533)
بمثابة المفعول الثاني ولعله أولى وسيأتي تحقيقه في موضعه من هذا الكتاب.
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على أفانين متعددة من فنون البلاغة نذكرها فيما يلي:
1- التكرير:
1- التكرير وقد تقدم ذكره في قوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فإن نفي العوج معناه إثبات الاستقامة وإنما جنح الى التكرير لفائدة منقطعة النظير وهي التأكيد والبيان، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، مجمع على استقامته ومع ذلك فإن الفاحص المدقق قد يجد له أدنى عوج فلما أثبت له الاستقامة أزال شبهة بقاء ذلك الأدنى الذي يدق على النظرة السطحية الاولى.
2- المطابقة:
فقد طابق سبحانه بين العوج والاستقامة فجاء الكلام حسنا لا مجال فيه لمنتقد كما حدث لأبي الطيب الذي أهمل المطابقة في قصيدة من أبدع قصائده وذلك انه أنشد في مجلس سيف الدولة قوله:
نظرت الى الذين أرى ملوكا ... كأنك مستقيم في محال
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال(5/534)
فقيل له: إن المحال لا يطابق الاستقامة ولكن القافية ألجأتك الى ذلك ولكن لو فرض أنك قلت: كأنك مستقيم في اعوجاج كيف كنت تصنع في البيت الثاني؟ فقال ولم يتوقف: «فإن البيض بعض دم الدجاج» فاستحسن هذا من بديهته.
نقول: إنما يستحسن هذا في سرعة البديهة وإلا أين قوله: فإن المسك بعض دم الغزال من قوله: فإن المسك بعض دم الدجاج.
ولما كنا نريد أن ننصف النقد نورد ما أخذه أحد خصوم المتنبي عليه من أنه كان لا يقيم للمطابقة وزنا وان ديدنه عدمها وذلك رغم إعجابنا الشديد بشاعر الخلود وتفضيلنا إياه على جميع شعراء العربية في القديم والحديث، قال الناقد القديم:
وأما عدم المطابقة في شعر أبي الطيب المتنبي فكثير جدا من ذلك قوله:
ولكل عين قرة في قربه ... حتى كأن مغيبه الأقذاء
القرة ضدها السخنة والاقذاء ليست ضدها وقوله أيضا:
ولم يعظم لنقص كان فيه ... ولم يزل الأمير ولن يزالا
العظم ضد الحقارة والنقص ضد الكمال فلو قال: ولم يكمل لنقص كان فيه، لكان أمنع.
وكذلك قوله رغم سموه وابداعه:
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو اساءة مجرم(5/535)
وليس المجرم ضد المحب ولا السرور ضد الإساءة وإنما المجرم ضد المحسن والمحب ضد المبغض والاساءة ضد الإحسان.
وكذا قوله:
وانه المشير عليك فيّ بضدّه ... فالحر ممتحن بأولاد الزنا
والحرّ ضد اللئيم.
3- نفي الشيء بايجابه:
وذلك في قوله تعالى «وقالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم» وقد تقدم ذكر هذا الفن وله تسمية أخرى وهي عكس الظاهر وهو من مستطرفات علم البيان وذلك أن تذكر كلاما يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف وهو نفي للموصوف أصلا فإن لقائل أن يقول: ان اتخاذ الله ولدا هو في حد ذاته محال فكيف ساغ قوله «مالهم به من علم» ؟
وهو يشبه الاعتراض في قوله تعالى «وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا» فإن ذلك كله وارد على سبيل التهكم وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل، والولد في حد ذاته محال لا يستقيم تعلق العلم ولكنه ورد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم، ونظيره كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تثنى فلتاته» أي لا تذاع سقطاته وليس ثمة فلتات فتثنى وقول الشاعر يصف فلاة:
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضبّ بها ينجحر
فإن ظاهر هذا المعنى أنه كان هناك ضب ولكنه غير منجمر وليس ذلك كذلك بل المعنى انه لم يكن ثمة ضب أصلا.(5/536)
4- التشبيه التمثيلي البليغ المصون عن الابتذال:
وذلك في قوله تعالى «فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» فقد شبهه تعالى وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وأصروا على المكابرة والعناد واللجاج بالسفسطة الباطلة ثم ما تداخله من جراء ذلك من وجد وأسف على توليهم وإشفاق عليهم لسوء المغاب التي تؤول إليها أمورهم. شبه ذلك سبحانه برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم وأتى بهذه الصورة الفريدة صيانة لتشبيهه من الابتذال فإن التلهف على فراق الأحبة، واستشعار الوجد أمر شائع تناوله الشعراء في أشعارهم، وتحدثوا في قصائدهم عن لواعجهم، وهذا مقياس يقاس به البليغ يترفع في تشبيهه المألوف عن العادي من التشبيه بتزاويقه وتحاسينه ويفيض عليه من روائه وكان المتنبي، بنوع خاص، يتفطن لذلك ويصون تشبيهه الذي لا مندوحة له عنه من الابتذال وسنورد لك نماذج من شعره لتعلم الى أي مدى بلغ هذا الشاعر الخالد.
فقد صور أبو الطيب موقفا من مواقف الغزل اضطر فيه إلى تشبيه نفسه بالميت المتكلم ومحبوبته بالبدر المبتسم وكلا هذين التشبيهين وارد تناولته الشعراء فابتذل وذهبت جدته وإذن فليجعل من الحوار وسيلة إلى تصوير موقف رائع يحلو فيه التشبيه ويبدو معه جديدا كل الجدة قال:
نرى عظما بالبين والصد أعظم ... ونتهم الواشين والدمع منهم
ومن لبّه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم(5/537)
ولما التقينا والنوى ورقيبنا ... غفولان عنا ظلت أبكي
وتبسم فلم أر بدرا ضاحكا قبل وجهها ... ولم تر قبلي ميتا يتكلم
فهو بعد أن قرر أثر الصدّ وأن مسافته لا تقرب ولا تقطع لأن البين قد يقرب وقد تقطع مسافته اعترف بأنه غير قادر على كتمان رسيس هواه لأنه إذا كان عقلك مع غيرك فكيف يكون حالك؟ وإذا كان سرك في جفنك فكيف تقدر على كتمانه؟ يريد أن الدمع يظهره ثم صور الموقف فجعل حسناءه عابثة ازدهاها الدّل، واستخف بها النعيم، فهي عابثة لاهية تبتسم وهو يحرق الأرم، ويتكوى بنار الهجران على حد قولهم «ويل للشجي من الخلي» وهذا من أروع الشعر وأعذبه.
ونعود الى الآية فنقول ان الله تعالى أراد أن يسلي نبيه وأن يهدهد عنه ما ألم به من جوى وارتماض فعرض الموقف بصيغة الترجي وان كان المراد به النهي أي لا تبخع نفسك ولا تهلكها من أجل غمك على عدم إيمانهم وأتى بهذا التشبيه التمثيلي البديع والأسف المبالغة في الحزن.
الفوائد:
1- نصب المفعول لأجله:
اشترط النحاة لنصب المفعول لأجله خمسة أمور وهي:
1- كونه مصدرا.
2- كونه قلبيا من أفعال النفس الباطنة كالتعظيم والاحترام والإجلال والتحقير والخشية والخوف والجرأة والرغبة والرهبة(5/538)
والحياء والوقاحة والشفقة والعلم والجهل ونحوها ويقابل أفعال الجوارح أي الحواس الظاهرة وما يتصل به كالقراءة والكتابة والقيام والقعود والوقوف والجلوس والمشي والنوم واليقظة وغيرها وذلك لأن العلة هي الحاملة على إيجاد الفعل والحامل على الشيء متقدم عليه وأفعال الجوارح ليست كذلك.
3- كونه علة لأنه الباعث على الفعل.
4- اتحاده مع الفعل المعلل به في الزمان فلا يجوز: تأهبت اليوم السفر غدا لأن زمن التأهب غير زمن السفر.
5- اتحاده مع الفعل المعلل به في الفاعل فلا يجوز: جئتك محبتك إياي لأن فاعل المجيء المتكلم وفاعل المحبة المخاطب.
ومتى فقد شرطا من هذه الشروط وجب جره بحرف تعليل كاللام ومن والباء وفي، وفيما يلي أمثلة لكل شرط مفقود:
1- «والأرض وضعها للأنام» فالأنام علة للوضع ولكنه ليس مصدرا فلذلك جر باللام.
2- «ولا تقتلوا أولادكم من إملاق» فإملاق هو علة القتل ولكنه ليس مصدرا قلبيا فلذلك جر بمن.
3- قتلته صبرا، فصبرا مصدرا ولكنه ليس علة فامتنع نصبه مفعولا لأجله وامتنع جره باللام لأن اللام تفيد العلية.
4- قول امرئ القيس:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ... لدى الستر إلا لبسة المتفضل(5/539)
فالنوم وإن كان علة لخلع الثياب لكن وقت الخلع سابق على وفت النوم فلذلك جر باللام، هذا والنوم ليس مصدرا قلبيا أيضا ففي الاستشهاد به على عدم اتحاد الزمن فقط تسامح.
5- قول أبي صخر الهذلي:
وإني لتعروني لذكراك هزة ... كما انتفض العصفور بلّله القطر
فالذكرى علة عن الهزة ففاعل العرو الهزة وفاعل الذكرى هو المتكلم فلذلك جر باللام. ونعود الى الآية فقوله «زينة لها» علة للجعل ولكنه ليس قلبيا لأنها من اعمال اليد، فلذلك استغربنا اعراب بعضهم لها مفعولا لأجله إلا بتقدير فعل الإرادة أي إرادة الزينة ولكن هذا التكلف لا يجوز وفيه مندوحة باعرابها مفعولا ثانيا لجعلنا كما تقدم أو حالا.
ابدال المفرد من الجملة:
قلنا في الاعراب ان أبا حيان اختار اعراب قيما بدلا من جملة لم يجعل لها عوجا لأنها في معنى المفرد. وأقول ان النحاة صرحوا بابدال الجملة من المفرد بدل كل كقول الفرزدق:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجة ... وبالشام أخرى كيف يلتقيان
أبدل جملة كيف يلتقيان من حاجة وأخرى وهما مفردان وانما صح ذلك لرجوع الضمير الى مفرد فهل يجوز العكس؟ ومعنى البيت الى الله أشكو هاتين الحالين تعذر التقائهما فتعذر مصدر مضاف الى فاعله وهو بدل من هاتين قال الدماميني ويحتمل أن يكون كيف يلتقيان جملة مستأنفة نبه بها على سبب الشكوى وهو استبعاد اجتماع(5/540)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
هاتين الحاجتين والشام بلاد سميت بشام بن نوح فإنه بالشين المعجمة بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا يهمز وقد يذكر، كذا في القاموس.
[سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 12]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12)
اللغة:
(الْكَهْفِ) الغار في الجبل قيل: مطلق الغار وقيل: هو ما اتسع في الجبل فإن لم يتسع فهو غار والجمع كهوف وفي القاموس: «الكهف هو كالبيت المنقور في الجبل فاذا صغر فهو الغار، الملجأ والجمع كهوف» وفي الأساس: «لجئوا الى كهف والى كهوف وهي الغيران وتكهّف الجبل: صارت فيه كهوف ومن المجاز فلان كهف قومه:
ملجؤهم وتقول: أولئك معاقلهم وكهوفهم» .
(الرَّقِيمِ) في القاموس: الرقيم: الكتاب، المرقوم ورقم يرقم من باب نصر الكتاب بينه وأعجمه بوضع النقط والحركات وغير ذلك ورقم الثوب خططه والبعير: كواه، والخبز: نقشه ويقولون: فلان يرقم على الماء لمن يكون ذا حذق في الأمور» قيل هو لوح كتب فيه(5/541)
أسماء أهل الكهف وقصتهم ثم وضعوه على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل من حجارة. وعن ابن عباس ان الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف وقيل اسم للقرية التي خرجوا منها وقيل اسم للجبل الذي فيه أصحاب الكهف وقيل هو اسم كلبهم، قال أمية بن أبي الصلت:
وليس بها إلا الرقيم مجاورا ... وصيدهم والقوم في الكهف همد
والوصيد فناء البيت وبابه وعتبته والبيت يحتملها والهمد جمع هامد أي راقد يقول: ليس في تلك الصحراء إلا الكلب حالة كونه مجاورا لفناء غارهم وإلا القوم حال كونهم رقودا في الكهف.
وقال الزجاج: إن الفتية لما هربوا من أهلهم خوفا على دينهم ففقدوهم فخبروا الملك خبرهم فأمر بلوح من رصاص فكتبت فيه أسماءهم وألقاه في خزانته وقال: انه سيكون له شأن فذلك اللوح هو الرقيم.
وقال في أماليه: اعلم أن في الرقيم خمسة أقوال أحدها هذا الذي روي عن ابن عباس رحمه الله أنه لوح كتب فيه أسماؤهم والآخر ان الرقيم هو الدواة يروى ذلك عن مجاهد وقال هو بلغة الروم وحكى ذلك ابن دريد قال ولا أدري ما صحته والثالث ان الرقيم القرية وهو يروى عن كعب والرابع أن الرقيم الوادي والخامس ما روي عن الضحاك وقتادة انهما قالا الرقيم الكتاب والى هذا يذهب أهل اللغة ويقولون: هو فعيل بمعنى مفعول يقال رقمت الكتاب أي كتبته فهو مرقوم ورقيم كما قال عز وجل «كتاب مرقوم» .(5/542)
الإعراب:
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أم منقطعة وقد تقدم ذكرها والغالب أن تفسر ببل والهمزة وتفسر ببل وحدها وبالهمزة وحدها أي أظننت أن قصة أهل الكهف عجب في بابها أو لا تظن أنها أعجب الآيات بل من الآيات ما هو أعجب منها. وحسبت فعل وفاعل وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسبت وأن واسمها والرقيم عطف على الكهف وجملة كانوا خبر أن ومن آياتنا حال وعجبا خبر كانوا والاستفهام هنا للانكار والنفي وليس المراد نفي العجب عن قصة أهل الكهف فهي عجب كما ذكرنا ولكن القصد نفي كونها أعجب الآيات ثم شرع في سرد قصتهم فقال: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) الظرف الماضي يتعلق باذكر محذوفا وجملة أوى في محل جر باضافة الظرف إليها والفتية فاعل أوى والى الكهف متعلقان بأوى خائفين على أنفسهم من الكفار لأنهم كانوا مؤمنين وقصتهم مستفيضة في جميع المطولات وقد صنف الكاتب القصصي المعاصر توفيق الحكيم مسرحية أهل الكهف فارجع إليها لأنها من أمتع القصص.
(فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) فقالوا عطف على أوى وربنا منادى وآتنا فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت ونا مفعول به ومن لدنك حال لأنه كان صفة لرحمة وتقدم عليها ورحمة مفعول به وهيء عطف على آتنا ولنا متعلقان بهيئ ومن أمرنا حال ورشدا مفعول به.
(فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) الفاء عاطفة وضربنا فعل وفاعل وعلى آذانهم متعلقان بضربنا ومفعول ضربنا محذوف تقديره(5/543)
حجابا مانعا لهم من السماع وفي الكهف حال وسنين ظرف لضربنا وعددا نعت لسنين أو مفعول مطلق لفعل محذوف فهو إما مصدر فيجوز فيه الوجهان واما فعل بمعنى مفعول فلا يجوز فيه إلا النعت.
(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) ثم حرف عطف للتراخي وبعثناهم فعل وفاعل ومفعول به ولنعلم يجوز أن تكون اللام للتعليل أو للعاقبة وعلى كل حال نعلم مضارع منصوب بأن مضمرة بعدها وسيأتي في باب البلاغة معنى العلم بإحصائهم والله عالم بذلك وأيّ اسم استفهام مبتدأ ولهذا علق نعلم عن العمل والحزبين مضاف اليه وأحصى فعل ماض وفاعله يعود على أي الحزبين ولما لبثوا اللام حرف جر وما مصدرية ولبثوا فعل وفاعل وما وما بعدها مصدر مؤول مجرور باللام والجار والمجرور متعلقان بأحصى وأمدا مفعول به واختلف النحاة هل يجوز أن يكون أحصى اسم تفضيل أم لا، أما القائلون بالجواز فأعربوا أحصى خبر أي، وأمدا تمييز، أو مفعول لفعل محذوف أي أحصى أمدا وستأتي مناقشة هذه الآراء في باب الفوائد.
البلاغة:
في هذه الآيات أفانين من البلاغة تذهل العقول وتكشف النقاب عن بيان القرآن البديع وهذا هو التفصيل:
1- الاستعارة التصريحية:
في قوله تعالى «فضربنا على آذانهم» فقد استعار الحجاب المانع على آذانهم للزوم النوم وخص الآذان لأنه بالضرب عليها يحصل عليها، فالصور البيانية لا تتجسد إلا باعتمادها على أسس جمالية ونفسية قريبة(5/544)
من البحوث الحديثة وقد ذكر الجماليون الإحساسات التي يصح نعتها بالجمال على أتم وجه هي الإحساسات البصرية حتى لقد عرف ديكارت الجمال بقوله: «هو ما يروق في العين فالعين حاسة النور وحاجة الإنسان الى النور راجع إلى حاجته الى الحياة إذ تتعلق به بعض العناصر التي تمد الجسم بالحياة والنشاط والحركة والمتعة والسرور «وسيأتي ما اعتمده القرآن من الصور البصرية ولا يقف الأمر عند حاسة البصر بل حاسة السمع هي التي أوجدت أرفع الفنون: الشعر والموسيقى والبلاغة قال الرماني في كتابه «النكت في إعجاز القرآن» : «واحساس السمع في قوله تعالى «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا» وحقيقته منعناهم الاحساس بآذانهم من غير صمم» فكأن الاستعارة قصدت الى هذا التصوير السمعي وإبراز فقدان حاسة السمع دون سائر الحواس ودون الدلالة على الصمم النهائي وستأتي تتمة هذه الصورة المهولة صورة الضرب على الآذان في قوله تعالى في سورة يس «يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا» .
2- التعليق:
وذلك في قوله: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» ليس المراد أن يعلم الله شيئا هو داخل في نطاق علمه ولكنه أراد ما تعلق العلم به من ظهور الأمر لهم ليزدادوا إيمانا واعتبارا وليكون ذلك من الألطاف الخفية على المؤمنين في زمانهم أو ليحدث تعلق علمنا نعلقا حاليا أي نعلم أن الأمر واقع في الحال بعد أن علمنا قبل أنه سيقع في مستقبل الزمان أما المراد بالحزبين اللذين اختلفا فقال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم(5/545)
وقيل المراد بالحزبين نفس أصحاب الكهف لأنهم اختلفوا فيما بينهم في المدة التي لبثوها نائمين وروي عن ابن عباس: أن المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك، وأصحاب الكهف الى غير ذلك من أقوال لا يتسع المجال لإيرادها.
الفوائد:
1- رجحنا أن تكون «أحصى» في قوله تعالى «لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» فعلا ماضيا لأن بناء اسم التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس اما نحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذاق فشاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به كما أن اعراب أمدا لا يصح إلا بكون «أحصى» فعلا ماضيا وإذا جعلناه اسم تفضيل احتجنا الى تقدير فعل لأن اسم التفضيل لا يعمل على أن بعض النحاة جعل بناء اسم التفضيل من المزيد في الهمزة قياسا فتقول في أكرم فعلا فلان أكرم من فلان على رأيهم وزعم هؤلاء النحاة أن سيبويه قال به وعلله بأن بناءه منه لا يغير نظم الكلمة وانما هو تعويض همزة بهمزة، هذا وقد اختار كون أحصى للتفضيل الزجاج والتبريزي واختار أبو علي الفارسي والزمخشري كونه فعلا ماضيا وعليه درجنا.
2- ما يقوله المبرد عن أي:
قال المبرد في حديثه عن أيّ «ألا ترى أن معناها أذا أم ذا، وقال عز وجل «لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» لأن معناها أهذا أم هذا وقال تعالى: «فلينظر أيها أزكى طعاما» على ما فسرت لك وتقول: أعلم أيهم ضرب زيدا، وأعلم أيهم ضرب زيد تنصب أيا بضرب لأن زيدا(5/546)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
فاعل فانما هذا لما بعده وكذلك ما أضيف الى اسم من هذه الأسماء المستفهم بها نحو قد علمت غلام أيهم في الدار وقد عرفت غلام من في في الدار وقد علمت غلام من ضربت فتنصبه بضربت فعلى هذا مجرى الباب» وخلاصة ما أراد المبرد أن يقوله في هذه اللمحة المفيدة أن أدوات الاستفهام إذا كانت أسماء امتنعت مما قبلها.
وقال ابن هشام في المغني انه وهم أي كونه اسم تفضيل لأن شرط التمييز المنصوب بعد أفعل أن يكون كونه فاعلا في المعنى كزيد أكثر مالا بخلاف مال زيد أكثر مال ففي المثال الأول فاعل الكثرة في المعنى المال لا زيد وقال في الخلاصة:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا ... مفضلا كأنت أعلى منزلا
[سورة الكهف (18) : الآيات 13 الى 15]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)(5/547)
الإعراب:
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ) نحن مبتدأ وجملة نقص خبر وعليك متعلقان بنقص ونبأهم مفعول به وبالحق حال من فاعل نقص أو من مفعوله وهو النبأ فالباء للملابسة. (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) الجملة مستأنفة مسوقة لسرد قصتهم وان واسمها وخبرها وجملة آمنوا بربهم خبر وزدناهم فعل وفاعل ومفعول به أول وهدى مفعول به ثان أو تمييز. (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وربطنا عطف على زدناهم وعلى قلوبهم متعلقان بربطنا وإذ ظرف ماض متعلق بربطنا وجملة قاموا مضاف إليها الظرف فقالوا عطف على قاموا وربنا مبتدأ ورب السموات والأرض خبره.
(لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً) لن حرف نفي ونصب واستقبال وندعو منصوب بلن ومن دونه حال لأنه كان صفة لإلها وتقدم عليه ولقد اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وقلنا فعل وفاعل وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وشططا مفعول مطلق أي قولا ذا شطط فهو نعت للمصدر المحذوف بتقدير المضاف ويجوز أن يكون مفعولا به لأن الشطط فيه معنى الجملة وقال سيبويه ما نصه بالحرف «نصبه على الحال من ضمير مصدر قلنا» والشطط هو الافراط في الظلم والإبعاد فيه من شط إذا بعد فقول سيبويه له وجه كبير من الصحة، قالوا ذلك وهم قيام بين يدي الملك الجبار دقيانوس.
(هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) هؤلاء مبتدأ وقومنا بدل من اسم الاشارة أو عطف بيان وجملة اتخذوا خبر ومن دونه حال وآلهة مفعول به ومعنى الخبر هنا الإنكار ويجوز أن تعرب هؤلاء مبتدأ وقومنا هو الخبر وجملة اتخذوا في موضع نصب على الحال.(5/548)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
(لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) لولا حرف تحضيض ويأتون فعل مضارع وفاعل والجملة مستأنفة وعليهم أي على عبادتهم متعلقان بمحذوف حال وبسلطان متعلقان بيأتون وبيّن صفة فمن أظلم الفاء استئنافية ومن اسم استفهام معناه النفي والإنكار مبتدأ وأظلم خبره وممن متعلقان بأظلم وجملة افترى صلة وعلى الله متعلقان بافترى وكذبا مفعول به.
البلاغة:
في قوله تعالى «وربطنا على قلوبهم» استعارة تصريحية تبعية تشبه «فضربنا على آذانهم» لأن الربط هو الشد بالحبل والمراد قوينا قلوبهم بالصبر على هجر الأوطان والفرار بالدين الى الكهوف والغيران وافتراش صعيدها وجسرناهم على قول الحق والجهر به أمام دقيانوس الجبار.
[سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 18]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)(5/549)
اللغة:
(مِرفَقاً) : بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس وقد قرىء بهما ما ترتفقون به من غداء وعشاء أي تنتفعون قال في أساس البلاغة: «وارتفقت به:
انتفعت ومالي فيه مرفق ومرفق وما فيها مرفق من مرافق الدار نحو المتوضأ والمطبخ» وقيل بالكسر في الميم هو لليد وبالفتح للأمر وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر حكاه الأزهري عن ثعلب وقال بعضهم:
هما لغتان فيما يرتفق به فأما الجارحة فبكسر الميم فقط وفي القاموس والتاج وغيرهما: «المرفق بكسر الميم وفتح الفاء والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء الموصل بين الساعد والعضد وما ارتفقت به فهما لغتان» .
(تزاور) : أي تمايل أصله تتزاور فخفف بإدغام التاء في الزاي أو حذفها وقد قرىء بهما وقرىء تزورّ وتزوارّ وكلها من الزور وهو الميل ومنه زاره إذا مال اليه والزور الميل عن الصدق.
(تَقْرِضُهُمْ) : تقطعهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم البتة مأخوذ من معنى القطيعة والصرم قال ذو الرمة:(5/550)
إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف ... شمالا وعن أيمانهن الفوارس
وقبله:
نظرت بجرعاء السبية نظرة ... ضحى وسواد العين في الماء شامس
وجرعاء السبية اسم موضع وسواد العين إلخ جملة حالية أي الدمع كثير الحركة والاضطراب من شمس الفرس إذا جمح وساء خلقه والظعن جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ويقرضن أي يقطعن وأجواز جمع جوز وهو المجاز والطريق أي يفصلنه عنهن والفوارس اسم موضع لا جمع فارس.
وقال الفارسي: ومعنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا كالقرض ثم يسترد بعد حين وهي تزول بسرعة أيضا.
(فَجْوَةٍ) : متسع من الفجاء وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء والجمع فجاء كقصعة وقصاع وفي القاموس:
«الفجوة: الفرجة بين الشيئين وساحة الدار وما اتسع من الأرض والجمع فجوات وفجاء» .
(الوصيد) تقدم شرحه ونضيف اليه ما قاله صاحب القاموس:
الوصيد العتبة فناء الدار، الكهف وقال غيره والباب أيضا وأنشد:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر(5/551)
والبيت لزهير يقول: نزلت في أرض خالية من البناء ليس فيها بناء له وصيد أي باب يسد علي ويحجب عني الضيفان كأهل الحضر فنفي السد كناية عن نفي الوصيد من أصله فهو من باب نفي الشيء بإيجابه واحساني بها معروف لا ينكره أحد من الناس.
الإعراب:
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) خطاب من بعضهم لبعض حين صمموا على الفرار بدينهم فإذ منصوب بمضمر تقديره قال بعضهم لبعض وجملة اعتزلتموهم في محل جر بإضافة الظرف إليها وهي فعل وفاعل ومفعول به وما يعبدون: الواو حرف عطف وما معطوف على الهاء أي اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم فما موصولية أو مصدرية فيقدر وعبادتهم وإلا أداة استثناء والله مستثنى متصل على تقدير كونهم مشركين ومنقطع على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان وقيل الواو اعتراضية وما نافية والجملة معترضة وهي إخبار من الله عن الفتية انهم لم يعبدوا غير الله ولا مانع من ذلك. قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت فافعل كذا وهو قول ضعيف لأنه يعني أن إذ تفيد الشرطية والمعروف انها لا تفيدها إلا مقترنة مع ما. (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ) الفاء هي الفصيحة أي ان شئتم النجاة بدينكم فأووا وأووا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والى الكهف متعلقان به.
(يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) ينشر فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب ولكم متعلقان بينشر وربكم فاعل ينشر ومن رحمته صفة لمفعول ينشر المحذوف أي ينشر لكم نجاحا من رحمته ويهيىء عطف على ينشر ولكم متعلقان بيهيىء ومن أمركم حال لأنه كان(5/552)
صفة لمرفقا ومرفقا مفعول به. (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) في الكلام إيجاز بحذف عدة جمل وتقدير الكلام فأووا الى الكهف كما قرروا بينهم وشعروا بالتعب فناموا واسترسلوا في النوم، وأجاب الله دعاءهم إذ قالوا: «ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا» فالواو استئنافية وترى فعل مضارع وفاعله أنت والشمس مفعول به وإذا ظرف مستقبل متعلق بتزاور وهو الجواب وتزاور فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هي والجملة لا محل لها وعن كهفهم متعلقان بتزاور وذات اليمين ظرف متعلق بتزاور (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة لها في اعرابها. (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ) الواو للحال وهم مبتدأ، وفي فجوة خبر ومنه صفة لفجوة وذلك مبتدأ ومن آيات الله خبر.
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) من شرطية في محل نصب مفعول مقدم ويهد فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف حرف العلة والفاء رابطة للجواب لأنه جملة اسمية وهو مبتدأ والمهتدي خبره وحذفت الياء بخط المصحف ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا عطف على ما تقدم والجملة مماثلة لسابقتها. (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) الواو استئنافية وتحسبهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به أول وأيقاظا مفعول به ثان وهم الواو حالية وهم مبتدأ ورقود خبر والجملة في محل نصب حال. (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) ونقلبهم الواو عاطفة ونقلبهم فعل وفاعل مستتر ومفعول به وذات اليمين ظرف متعلق بنقلبهم وذات الشمال عطف على ذات اليمين وكلبهم الواو للحال وكلبهم مبتدأ وباسط خبر وذراعيه مفعول به وبالوصيد متعلقان بباسط. (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) لو شرطية واطلعت فعل وفاعل(5/553)
وعليهم متعلقان باطلعت ولوليت اللام واقعة في جواب لو ووليت فعل وفاعل ومنهم متعلقان بفرارا وفرارا مفعول مطلق مطلق من معنى الفعل قبله لأنه مرادفه ويجوز أن يعرب مصدر في موضع الحال أي فارا، ولملئت عطف على لوليت ومنهم متعلقان برعبا ورعبا تمييز ورجح أبو حيان أن يكون مفعولا ثانيا لملئت.
البلاغة:
في قوله تعالى «وتحسبهم أيقاظا وهم رقود تشبيه وطباق أما الطباق فهو ظاهر بين أيقاظ ورقود وأما التشبيه فهو قسم من أقسام التشبيه جاءت فيه الأداة فعلا من أفعال الشك واليقين تقول حسبت زيدا في جرأته الأسد وعمرا في جوده الغمام فحاصل ذلك تشبيه زيد بالأسد وعمرو بالغمام وفي الآية حاصلة تشبيه أهل الكهف في حال نومهم بالايقاظ في بعض صفاتهم لأنه قيل انهم كانوا مفتحي العيون في حال نومهم.
الفوائد:
استدل الكسائي بقوله «وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد» على أن اسم الفاعل يعمل عمل الفعل ولو كان بمعنى الماضي ومنع البصريون ذلك وقالوا لا حجة للكسائي ومن تبعه في أن اسم الفاعل هنا بمعنى الماضي وعمل في ذراعيه النصب وانه على ارادة حكاية الحال الماضية أي انه يقدر الهيئة الواقعة في الزمن الماضي واقعة في حال التكلم والمعنى يبسط ذراعيه فيصح وقوع المضارع موقعه بدليل أن الواو في وكلبهم واو الحال ولذا قال سبحانه ونقلبهم بالمضارع الدال على الحال ولم يقل وقلبناهم بالماضي.(5/554)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
اللغة:
(بِوَرِقِكُمْ) الورق بفتح الواو وكسر الراء الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ومنه الحديث أن عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب» والكلاب بالضم اسم ماء كانت عنده الوقعة كما في الصحاح قال:
أعطيتني ورقا لم تعطني ورقا ... قل لي بلا ورق ما ينفع الورق؟
(أَزْكى) : أطيب وفي القاموس: زكا يزكو زكاء وزكوّا الزرع فما والأرض طابت والزكي ما كان ناميا طيبا صالحا.
الإعراب:
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ) الكاف نعت لمصدر محذوف(5/555)
أي كما أنمناهم هذه النومة الطويلة كذلك بعثناهم، وبعثناهم فعل وفاعل ومفعول به، ليتساءلوا اللام للتعليل ويتساءلوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والظرف متعلق بمحذوف حال. (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قال قائل فعل وفاعل وكم اسم استفهام في محل نصب على الظرفية والمميز المنصوب محذوف تقديره كم يوما بدليل الجواب عليه ومنهم صفة لقائل، قالوا فعل وفاعل وجملة لبثنا مقول القول ويوما ظرف متعلق بلبثنا أو حرف عطف، بعض يوم عطف على يوما وأو هنا للشك منهم. (قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) قالوا فعل وفاعل وربكم مبتدأ وأعلم خبره، بما جار ومجرور متعلقان بأعلم ولبثتم صلة ما وما أجمل تفويضهم أمر العلم بمدة اللبث الى الله، وما ينطوي عليه هذا التفويض من حسن الأدب فقد استرابوا في أمرهم بعد أن راعوا الى أنفسهم ونظروا الى طول شعورهم وأظفارهم.
(فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) الفاء عاطفة على محذوف أي فدعوا التساؤل وخذوا فيما هو أهم وأجدى لنا في موفقنا هذا فابعثوا، وأحدكم مفعول به وبورقكم متعلقان بابعثوا أو بمحذوف حال من أحدكم والباء للملابسة أي ملتبسا بها ومصاحبا لها وهذه نعت لورقكم وإلى المدينة متعلقان بابعثوا، فلينظر الفاء عاطفة واللام لام الأمر وينظر مضارع مجزوم بلام الأمر وأيها يجوز أن تكون استفهامية ويجوز أن تكون موصولة وقد تقدم ذلك في قوله «أيهم أحسن عملا» فجدد به عهدا وهي مبتدأ خبره أزكى وطعاما تمييز محول عن المضاف اليه أي أيّ أطعمة المدينة أزكى وأحلّ وأرخص وأطيب. (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) الفاء عاطفة واللام لام الأمر ويأت مجزوم بلام الأمر والفاعل مستتر تقديره هو والكاف مفعول به وبرزق متعلقان بيأتكم ومنه صفة لرزق(5/556)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
وليتلطف عطف على فليأتكم ولا الواو عاطفة ولا ناهية ويشعرن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة وهو في محل جزم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره هو وبكم متعلقان بيشعرن واحدا مفعول به. (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) إن واسمها وإن شرطية ويظهروا فعل الشرط والواو فاعل وعليكم متعلقان بيظهروا ويرجموكم جواب الشرط أو يعيدوكم عطف على يرجموكم وفي ملتهم متعلقان بيعيدوكم أي يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله أو المراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير انهم لم يكونوا على ملتهم وإيثار كلمة «في» على كلمة «الى» للدلالة على الاستقرار. (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) الواو عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتفلحوا فعل مضارع منصوب بلن والواو فاعل وإذن حرف جواب وجزاء مهمل وأبدا ظرف متعلق بتفلحوا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 26]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)(5/557)
اللغة:
(أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) : أطلعنا عليهم قومهم والمؤمنين وفي الأساس:
«وعثر على كذا اطلع عليه وأعثره على كذا أطلعه وأعثره على أصحابه:
دله عليهم ويقال للمتورط «وقع في عاثور» وفلان يبغي صاحبه العواثين وأصله: حفرة تحفر للأسد وغيره يعثر بها فيطيح فيها» .
(رَجْماً بِالْغَيْبِ) رميا بالخبر الخفي وإتيانا به وفي المصباح: الرجم بفتحتين الحجارة ورجمته رجما من باب قتل ضربته بالرجم وهي الحجارة الصغار ورجمته بالقول رمبته بالفحش قال تعالى: «رجما بالغيب» أي ظنا من غير دليل ولا برهان كقول زهير بن أبي سلمى يصف الحرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم(5/558)
أي المظنون وسيرد في باب البلاغة مزيد من البحث حول هذا التعبير.
(تُمارِ) : تجادل وفي القاموس: «مارى مراء ومماراة: جادل ونازع ولاجّ وتماريا تجادلا وامترى في الشيء: شك والمرية بكسر الميم والمرية بضمها: الجدل يقال ما في ذلك مرية أي جدل وشك» .
الإعراب:
(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) الكاف نعت لمصدر محذوف أي وكما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا عليهم قومهم والمؤمنين، وأعثرنا فعل وفاعل والمفعول به محذوف كما قدرناه في باب اللغة وعليهم متعلقان بأعثرنا وليعلموا اللام للتعليل ويعلموا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وأن وما في حيزها سدت مسد مفعولي ليعلموا وأن واسمها وحق خبرها وأن الساعة عطف وان واسمها ولا نافية للجنس وريب اسمها وفيها خبرها وجملة لا واسمها وخبرها في محل رفع خبر أن والمراد بوعد الله البعث لأن من قدر على إنامتهم هذه النومة الطويلة وبعثهم بعدها قادر على أن يحييهم بعد الموت. (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) الظرف متعلق بأعثرنا أي أعثرنا عليهم قومهم حين يتنازعون ويختلفون في حقيقة البعث فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح وجملة يتنازعون في محل جر باضافة الظرف إليها وبينهم ظرف مكان متعلق بيتنازعون وأمرهم نصب بنزع الخافض أي في أمرهم وقيل تنازعوا تنصب مفعولا إذا كانت بمعنى التجاذب فيكون في الكلام استعارة. (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) الفاء عاطفة وقالوا فعل(5/559)
وفاعل وجملة ابنوا مقول القول وهو فعل أمر وفاعل وعليهم متعلقان بابنوا وبنيانا مفعول به أي قالوا ذلك حين توفى الله أصحاب الكهف وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدث تمليخا حامل الورق حديثهم موتا حقيقيا ورجع من كان يساوره الشك في بعث الأجساد الى اليقين أي ابنوا عليهم بنيانا ضنا بتربتهم ومحافظة عليها وجملة ابنوا عليهم بنيانا مقول قولهم. (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ) الجملة إما تتمة لمقولهم قالوا ذلك تفويضا للعلم الى الله سبحانه وقيل هو مقول كلام لله سبحانه ردا لقول المتنازعين فيهم أي دعوا ما أنتم فيه من التنازع فإني أعلم بهم منكم والكلام مبتدأ وخبر وبهم متعلقان بأعلم. (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) قال الذين فعل وفاعل وجملة غلبوا صلة الموصول وعلى أمرهم متعلقان بغلبوا وهم المؤمنون وكانت الكلمة لهم آنذاك ولنتخذن اللام موطئة للقسم ونتخذن فعل مضارع مبني على الفتح وفاعله مستر تقديره نحن وعليهم حال ومسجدا مفعول به.
(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ) السين للاستقبال اشارة الى أن النزاع في أمرهم حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أي في المستقبل البعيد بالنسبة لقصتهم ويقولون فعل مضارع وفاعل والضمير يعود الى الخائضين في قصتهم زمن النبي من أهل الكتاب والمؤمنين. قال أبو حيان: «وجاء بسين الاستقبال لأنه كأنه في الكلام طي وإدماج، والتقدير فإذا أجبتهم عن سؤالهم وقصصت عليهم قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم إذا سألتهم سيقولون ولم يأت بالسين فيما بعده لأنه معطوف على المستقبل فدخل في الاستقبال أو لأنه أريد به معنى الاستقبال الذي هو صالح له.
وثلاثة خبر لمبتدأ محذوف أي هم ثلاثة أشخاص وانما قدرنا أشخاصا لأن رابعهم اسم فاعل أضيف الى الضمير والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم(5/560)
أربعة وصيرهم إلى هذا العدد فلو قدر ثلاثة رجال استحال أن يصير ثلاثة رجال أربعة لاختلاف الجنسين، ورابعهم مبتدأ وكلبهم خبر وجملة ثلاثة مقول القول وجملة رابعهم كلبهم في محل نصب على الحال أي حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضامه إليهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم عطف على الجملة السابقة وهي مماثلة في اعرابها ورجما منصوب على المصدرية بفعل محذوف أي يرجمون رجما والمعنى يرمون رميا بالخبر الخفي المظنون أو على الحال بمعنى راجمين وبالغيب متعلقان برجما. (وَيَقُولُونَ: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) الواو عاطفة ويقولون فعل وفاعل وسبعة خبر لمبتدأ محذوف والواو فيها أقوال تربو على الحصر وقد شغلت العلماء والأدباء فصنّفوا فيها المطولات وسنأتي على ذكرها وخلاصة ما قيل فيها في باب الفوائد وأولى ما يقره المنطق أن تكون هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيها لها بالجملة الواقعة حالا بعد المعرفة نحو جاء زيد ومعه رجل آخر وذلك لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف بمعنى أن اتصافه بها أمر مستقر راسخ في الأذهان وهذا ما اختاره الزمخشري وابن هشام وانتظر التفاصيل وجملة ثامنهم كلبهم صفة لسبعة وقد ردّ أبو حيان هذا القول وعبارته:
«وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا انه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة وأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف في هذه الأسماء المفردة وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها وقد ردوا على من ذهب الى أن قول سيبويه:
وأما ما جاء لمعنى وليس باسم ولا فعل هو على ان وليس باسم ولا فعل صفة لقوله لمعنى وان الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام(5/561)
العرب مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة واما قوله تعالى: «إلا ولها كتاب معلوم» فالجملة حالية» . (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) ربي مبتدأ وأعلم خبره والجملة مقول القول وبعدتهم متعلقان بأعلم وجملة ما يعلمهم حالية وما نافية ويعلمهم فعل مضارع ومفعول به وإلا أداة حصر وقليل فاعل يعلمهم والتفضيل بالنسبة للكيفية لأن مراتب اليقين متفاوتة في القوة وليس التفضيل بالنسبة إلى الطائفتين الأولين الذين جنحا الى الرجم بالغيب والحدس والتخمين دون الحقيقة والاطلاع على الواقع. (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذا وحق لك أن تعرفه فلا تجادل، ولا ناهية وتمار مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وإلا أداة حصر ومراء مفعول مطلق وظاهرا صفة. (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) الواو عاطفة ولا ناهية وتستفت مجزوم بها وعلامة جزمه حذف حرف العلة أيضا والفاعل مستتر تقديره أنت وفيهم متعلقان بتستفت ومنهم حال لأنه كان في الأصل صفة لأحدا وأحدا مفعول به لأن فيما أوحي إليك مندوحة لك عن السؤال. (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) الواو حرف عطف ولا ناهية وتقولن فعل مضارع مبني للفتح لاتصاله بنون التوكيد في محل جزم بلا والفاعل مستتر تقديره أنت ولشيء متعلقان بتقولن أي لأجل شيء تقدم عليه وتهتم به وقيل اللام بمعنى في وقد تقدم ذكر ذلك وكسرت همزة إن لسبقها بالقول وان واسمها مقول القول وفاعل خبر إن وذلك مفعول لفاعل وغدا ظرف متعلق بفاعل وإلا أن يشاء الله استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقل لشيء في حال من الأحوال إلا في حال تلبسك بالمشيئة والتعليق عليها فأن وما بعدها حال والتقدير لا تقولن أفعل غدا إلا قائلا إن شاء الله وقيل التقدير إلا بأن يشاء الله فالمصدر منصوب بنزع الخافض والجار والمجرور في موضع(5/562)
النصب على الحال أي إلا متلبسا بقول إن شاء الله وقيل إن الاستثناء منقطع وموضع أن يشاء الله نصب على الاستثناء.
وقد أجاد في إعراب هذه الآية أبو البقاء العكبري ونصه: «في المستثنى منه ثلاثة أوجه أحدها هو من النهي والمعنى لا تقولن افعل غدا إلا أن يؤذن لك في القول والثاني هو من فاعل تقولن أي لا تقولن اني فاعل غدا حتى تقرن به قول إن شاء الله والثالث انه منقطع وموضع أن يشاء الله نصب على وجهين أحدهما على الاستثناء والتقدير لا تقولن ذلك في وقت إلا وقت أن يشاء الله أي يأذن فحذف الوقت وهو مراد والثاني هو حال والتقدير لا تقولن افعل غدا إلا قائلا إن شاء الله فحذف القول وهو كثير وجعل قوله أن يشاء في معنى إن شاء وهو مما حمل على المعنى وقيل: التقدير إلا بأن يشاء الله أي متلبسا بقول إن شاء الله» والخلاصة ان الغرض من هذا النهي عن هذا القول هو عدم اقترانه بقول المشيئة وهذا نهي تأديب حين قالت اليهود لقريش سلوا محمدا عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش، وسيأتي في باب الفوائد ذكر انقطاع الوحي.
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) واذكر عطف على ما تقدم وربك مفعول به ولا بد من حذف مضاف أي مشيئة ربك وإذا ظرف متعلق باذكر أي إذا فرط منك نسيان وجملة نسيت في محل جر بإضافة الظرف إليها وجوابها محذوف دل عليه ما قبله أي فاذكر وقل عطف على اذكر وعسى من أفعال الرجاء واسمها مستتر تقديره هو وأن يهديني أن وما في حيزها هي الخبر وربي فاعل يهديني ولأقرب متعلق بيهديني ومن هذا متعلقان بأقرب ورشدا تمييز(5/563)
أو مفعول مطلق أي يهديني هداية فيكون ملاقيا لعامله بهذا المعنى والأول أقرب أي لشيء أقرب إرشادا للناس ودلالة على ذلك والاشارة في قوله هذا لما تقدم من نبأ أصحاب الكهف وقصتهم العجيبة التي اختتمت الآن. (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً) ولبثوا عطف على ما تقدم حسما للخلاف وإماطة للشبهة الناجمة عن الاختلاف في أمرهم ومدة لبثهم وفي كهفهم متعلقان بلبثوا وثلاث ظرف ومائة مضاف اليه وسنين عطف بيان لثلاثمائة أو بدل ولا يصح أن يكون تمييزا لأن تمييز المائة مجرور وجره بالاضافة والتنوين مانع منها وسيأتي بحث العدد مفصلا في باب الفوائد وازدادوا فعل وفاعل وتسعا مفعول به أي تسع سنين. (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) الله مبتدأ وأعلم خبر والجملة مقول القول وبما متعلقان بأعلم وجملة لبثوا صلة الموصول أي بالزمن الذي لبثوه. (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) له خبر مقدم وغيب السموات والأرض مبتدأ مؤخر وأبصر صيغة تعجب وهو فعل ماض أتى على صيغة الأمر ومعناه الخبر والباء مزيدة في الفاعل إصلاحا للفظ وسيأتي البحث في صيغتي التعجب في باب البلاغة واسمع عطف على ابصر. (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) ما نافية ولهم خبر مقدم ومن دونه حال ومن حرف جر زائد وولي مبتدأ مؤخر محلا ولا الواو عاطفة ولا نافية ويشرك فعل مضارع وفاعل مستتر وفي حكمه متعلقان بيشرك وأحدا مفعول به.
البلاغة:
الكلام يطول جدا على هذه الآيات وما اشتملت عليه من فنون بلاغية وسنجنح الى الاختصار ما أمكن فنقول:(5/564)
1- الاستعارة المكنية:
في قوله تعالى «يتنازعون بينهم أمرهم» استعارة مكنية فقد شبه أمرهم بشيء كثر النزاع حوله ثم حذف ذلك الشيء واستعير النزاع القائم حوله.
وفي قوله تعالى «رجما بالغيب» استعارة مكنية أيضا فقد شبه الغيب والخفاء بشيء يرمى بالحجارة واستعير الرجم له.
2- واو الثمانية والخلاف المشتجر حولها:
وعدناك بأن نأتي بالأقوال حول الواو الداخلة على ثامنهم في قوله تعالى «ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم» وقد قدمنا في الاعراب ما اخترناه من هذه الأقوال فقال عدد من كبار الأدباء انها واو الثمانية قال ابن هشام: «واو الثمانية ذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ومن النحويين الضعفاء كابن خالويه ومن المفسرين كالثعلبي وزعموا أن العرب إذا عدوا قالوا ستة سبعة وثمانية إيذانا بأن السبعة عدد تام وان ما بعده عدد مستأنف واستدلوا على ذلك بآيات احداها «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم» الى قوله سبحانه «وثامنهم كلبهم» وقيل هي في ذلك لعطف جملة على جملة إذ التقدير هم سبعة ثم قيل الجميع كلامهم وقيل العطف من كلام الله تعالى والمعنى نعم هم سبعة وثامنهم كلبهم وان هذا تصديق لهذه المقالة كما ان رجما بالغيب تكذيب لتلك المقالة» وبعد كلام طويل قال: «وأقول لو كان لواو الثمانية حقيقة لم تكن الآية منها إذ ليس فيها ذكر عدد البتة وانما فيها ذكر الأبواب وهي جمع لا يدل على عدد خاص ثم الواو ليست داخلة عليه بل على جملة هو فيها» .(5/565)
وقال آخرون في الرد على من زعم وجود واو الثمانية: وهو أن في اللغة واوا تصحب الثمانية وتختص بها فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي الى الثامن فتصحبه الواو وربما عدوا من ذلك «والناهون عن المنكر» وهو الثامن من قوله تعالى «التائبون» وهذا مردود أيضا بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي الآمرون بالمعروف لما بينهما من التناسب والربط ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما كقوله: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وكقوله: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، وربما عد بعضهم من ذلك الواو في ثيبات وأبكارا لأنه وجدها مع الثامن وهذا غلط فاحش فإن هذه واو التقسيم ولو ذهبت تحذفها فتقول ثيبات أبكارا لم يستدل الكلام فقد وضح أن المراد في جميع هذه المواضع المعدودة ورادة لغير ما زعمه هؤلاء.
قلت: لو سقطت الواو من أبكار لاختل المعنى لأنهن لا يكنّ ثيبات أبكارا في وقت معا فاضطر الى الواو لتدل على المغايرة. هذا وقد كان القاضي الفاضل صاحب الطريقة المصنوعة في الإنشاء يعتقد زيادة الواو في هذه الآية ويتبجح باستخراجها ويقول هي واو الثمانية الى أن ذكر ذلك بحضرة الشيخ أبو الجود المقري فبين له أنه وأهم وان الضرورة تدعو الى دخولها وإلا فسد المعنى بخلاف واو الثمانية فانه يؤتى بها لا لحاجة فقال أرشدتنا يا أبا الجود.
هذا وممن أيد وجود واو الثمانية الإمام فخر الدين الرازي وقال العلامة الكافيجي قولا طريفا منصفا في هذا الصدد نورده بنصّه:
«هي في التحقيق واو العطف لكن لما اختص استعمالها بمحل مخصوص وتضمنت أمرا غريبا واعتبارا لطيفا ناسب أن تسمى باسم غير جنسها(5/566)
فسميت واو الثمانية لمناسبة بينها وبين سبعة وذلك لأن السبعة عندهم عقد تام كعقود العشرات لاشتمالها على أكثر مراتب أصول الأعداد فان الثمانية عقد مستأنف فكان بينهما اتصال من وجه وانفصال من وجه وهذا هو المقتضي للعطف وهذا المعنى ليس موجودا بين السبعة والستة.
وأقول: ان توجيه تمام السبعة هو أن العدد إما فرد وإما مركب من فردين وهو الزوج أو من زوج وفرد أو من زوجين والثلاثة الأول من الثلاثة فان في ضمنها الواحد والاثنين والآخر من الأربعة. ومجموع الثلاثة والأربعة سبعة فتمت بها الأصول وما يأتي تكرار فالثمانية زوج وزوج قد مضى والتسعة زوج وفرد وهكذا.
هذا وسيأتي المزيد من هذا البحث عند الكلام على «وفتحت أبوابها» وعلى «ثيبات وأبكارا» فقد طال البحث جدا.
الفوائد:
1- أحكام العدد وتمييزه:
مميز العدد على ضربين منصوب ومجرور فالمجرور على ضربين مفرد ومجموع فالمفرد مميز المائة والألف والمجموع مميز الثلاثة الى العشرة والمنصوب مميز أحد عشر الى تسعة وتسعين ولا يكون إلا مفردا ومما شذ عن ذلك قولهم ثلاثمائة الى تسعمائة اجتزءوا بلفظ الواحد عن الجمع وقد رجع الى القياس من قال:
ثلاث مئين للملوك وفي بها ... ردائي وجلت عن وجوه الاهاتم
فجاء بتمييز الثلاث جمعا من لفظ المائة على ما يقتضيه القياس وإن كان(5/567)
شاذا في الاستعمال ويجوز في التمييز حينئذ وجهان أحدهما الاتباع على البدل نحو ثلاثة أثواب والنصب على التمييز نحو ثلاثة أثوابا وقوله تعالى ثلاثمائة سنين نصب على البدل أو عطف البيان لثلاثمائة.
هذا رأي أبي اسحق الزجاج قال: ولا يجوز أن يكون تمييزا لأنه لو كان تمييزا لوجب أن يكون أقل ما لبثوا تسعمائة سنة لأن المفسر يكون لكل واحد من العدد وكل واحد سنون وهو جمع والجمع أقل ما يكون ثلاثة فيكونون قد لبثوا تسعمائة سنة وأجاز الفراء أن يكون سنين تمييزا على حد قوله:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأعصم
قال وذلك انه جاء في التمييز سودا وهو جمع لأن الصفة والموصوف شيء واحد والمذهب الأول لأن الثواني يجوز فيها مالا يجوز في الأوائل ألا ترى أنك تقول يا زيد الطويل ولو قلت يا الطويل لم يجز.
هذا والبيت لعنترة من معلقته التي مطلعها:
هل غادر الشعراء من متردّم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقبل البيت المستشهد به:
ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم
وراعني أفزعني والحمولة: الإبل التي يحمل عليها ووسط ظرفه وإذا لم يكن ظرفا حركت السين فقلت وسط الدار واسع، وتسف:(5/568)
تأكل يقال: سففت الدواء أسفه، والحلوبة المحلوبة تستعمل في الواحد والجمع على لفظ واحد، والخوافي أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر، والأسحم الأسود، واثنتان مرفوع بالابتداء وأربعون معطوف عليه وقوله سودا نعت لحلوبة لأنها في معنى الجمع والمعنى من الحلائب والكاف في قوله كخافية في موضع نصب والمعنى سودا مثل خافية الغراب الأسحم ومما ذكرناه في تفسير الحلوبة وصلاحيتها للاطلاق على الواحد والجمع تعلم ما في قولهم ان الشاهد في هذا البيت جواز وصف المميز المفرد بالجمع وادعائهم ان حلوبة مفرد مميز للعدد وانه وصف بالجمع وهو سود الذي هو جمع سوداء وزعم الأعلم ان قوله سودا ليس بوصف وانما هو حال من قوله اثنتان وأربعون قال: «وهو حال من نكرة ويجوز رفعه على النعت ولا يكون نعتا لحلوبة لأنها مفردة إذا كانت تمييزا للعدد وسودا جمع ولا ينعت الواحد بالجمع» وليس بشيء لأنهم غفلوا عن السر وهو إطلاق حلوبة على الواحد والجمع.
هذا ونلخص فيما يلي أحكام العدد عامة:
ألفاظ العدد من ثلاثة إلى تسعة تكون على عكس المعدود في التذكير والتأنيث سواء كانت مفردة كقوله تعالى «سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما» أو مركبة كخمسة عشر قلما وست عشرة ورقة أو معطوفا كثلاثة وعشرين يوما وأربع عشرين ساعة، وأما واحد واثنان منهما على وفق المعدود في الأحوال الثلاثة، وأما مائة وألف فلا يتغير لفظهما في التذكير والتأنيث، وكذلك ألفاظ العقود كعشرين وثلاثين إلا عشرة فهي على عكس معدودها إذا كانت مفردة، وعلى وفقه إذا كانت مركبة.(5/569)
هذا ويصاغ من اسم العدد وصف على وزن فاعل مطابق لموصوفه، أما تعريف العدد، فالمضاف تدخل ال على المضاف إليه، والمركب تدخل ال على جزئه الأول، والمعطوف تدخل ال على الجزأين.
واما اعراب الاعداد فعلى ثلاثة أشكال:
1- بالحركات من واحد الى عشرة على أن تكون هذه مفردة غير مركبة ويستثنى منها العدد اثنان للمذكر واثنتان للمؤنث فانهما لفظان ملحقان بالمثنى.
وكذلك العددان مائة وألف.
2- بالحروف وهو العدد اثنان للمذكر واثنتان للمؤنث والعقود.
3- بالبناء على الفتح وهي الأعداد المركبة أي من أحد عشر الى تسعة عشر ومن الحادي عشر الى التاسع عشر ما عدا الجزء الاول من اثني عشر لأنه يلحق بالمثنى كما تقدم.
اسم الفاعل المشتق من العدد:
يستعمل اسم الفاعل المشتق من العدد على معنيين:
أحدهما: أن يكون المراد به واحدا من جماعة.
وثانيهما: أن يكون فاعلا كسائر أسماء الفاعلين.
فالأول نحو ثاني اثنين وثالث ثلاثة قال الله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة» وقال عز وجل: «إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين» فما كان من هذا الضرب فإضافة محضة لأن معناه أحد(5/570)
ثلاثة وبعض ثلاثة فكما أن إضافة هذا صحيحة فكذلك ما هو في معناه ولا يجوز فيه أن ينون وينصب في قول أكثر النحويين لأنه ليس مأخوذا من فعل عامل وأما الثاني وهو ما يكون فاعلا كسائر أسماء الفاعلين نحو ثالث اثنين ورابع ثلاثة وخامس أربعة فهذا غير الوجه الأول إنما معناه هو الذي جعل الاثنين ثلاثة بنفسه فمعناه الفعل كأنه قال الذي ثلثهم وربعهم وخمسهم وعلى هذا قوله تعالى: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم» ومثله: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم.... رجما بالغيب» ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم وعلى هذا الوجه يجوز أن ينون وينصب ما بعده فتقول: هذا ثالث اثنين ورابع ثلاثة لأنه مأخوذ ثلثهم وربعهم فهو بمنزلة هذا ضارب زيدا والأول أكثر قال سيبويه: قلما تريد العرب هذا يعني خامس أربعة فإن أضفته فهو بمنزلة ضارب زيد فتكون الاضافة غير محضة هذا إذا أريد به الحال أو الاستقبال فان أريد به الماضي لم يجز فيه إلا حذف التنوين والإضافة كما كان كذلك في قولك هذا ضارب زيد أمس.
2- التعجب وصيغة في العربية:
التعجب انفعال يحدث في النفس عند الشعور بأمر خفي سببه ولهذا يقال: إذا ظهر السبب بطل العجب ولا يطلق على الله انه متعجب إذ لا شيء يخفى عليه وما وقع مما ظاهره ذلك في القرآن فمحمول على انه مصروف الى المخاطب نحو قوله تعالى فما أصبرهم على النار أي أن حالهم في ذلك اليوم ينبغي لك أيها المخاطب أن تتعجب وقيل التعجب هو استعظام فعل فاعل ظاهر المزية فيه، وقوله تعالى هنا «أبصر به وأسمع» ذهب العلماء فيه ثلاثة مذاهب:
1- انه بلفظ الأمر ومعناه الخبر والباء مزيدة في الفاعل إصلاحا(5/571)
للفظ فإن قلت كيف تكون الهاء فاعلا وهي ضمير نصب أو جر قلت إنما هو اصطلاح وساغ ذلك لوجود الباء لفظا قبلها ولأن الباء إنما زيدت ليصير على صورة المفعول.
2- ان الفاعل ضمير المصدر.
3- ان الفاعل ضمير المخاطب واحتج القائلون بذلك على انه لا يعهد استعمال الأمر في الماضي وانما التزم إفراده وتذكيره فلم يثن ولم يجمع ولم يؤنث لأنه كلام جرى مجرى المثل وهذه إحدى صيغ التعجب القياسية.
والثانية ما أفعله وهاتان الصيغتان هما المبوب لهما في كتب النحو وهما القياسيتان ومعنى ما كما قال سيبويه انها نكرة تامة بمعنى شيء وابتدئ بها لتضمنها معنى التعجب وما بعدها من الجملة الفعلية في موضع رفع خبرها وهذا هو المذهب الصحيح لأن قصد المتعجب الإعلام بأن المتعجب منه ذو مزية إدراكها جلي وسبب الاختصاص بها خفي فاستحقت الجملة المعبر بها عن ذلك أن تفتح بنكرة غير مختصة ليحصل بذلك إبهام متلو بافهام.
وهنالك صيغ أخرى للتعجب واردة في الكتاب والحديث ولسان العرب فمن الكتاب «كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم» ومن الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة «سبحان الله ان المؤمن لا ينجس» ومن كلام العرب «لله دره فارسا» ولكن النحاة لم يبوبوا لهذه الصيغ لأنها لم تدل على التعجب بالوضع بل بالقرينة.
مسائل هامة:
1- لا يتعجب الا من معرفة أو نكرة مختصة فلا يقال ما أسعد رجلا لأنه لا فائدة من ذلك.(5/572)
2- يجوز حذف المتعجب منه إذا كان ضميرا كقول علي بن أبي طالب كما قيل:
جزى الله عني والجزاء بفضله ... ربيعة خيرا ما أعف وأكرما
أي ما أعفها وأكرمها وإنما قلنا كما قيل لأن هذا البيت لم يثبت لعلي وفي القاموس في مادة «ودق» نقلا عن المازني وصوبه الزمخشري انه لم يصح انه تكلم بشيء من الشعر غير بيتين وهما قوله:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك لا برّوا ولا ظفروا
وإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات ودقين لا يعفو لها أثر
وفي باب أفعل به إن كان معطوفا على آخر مذكور معه كما في الآية: «أبصر به وأسمع» وانما حذف مع كونه فاعلا لأن لزومه للجر كساه صورة الفضلة وشذ حذفه دون أن يعطف على مثله كقول عروة ابن الورد:
فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر
فحذف المتعجب منه ولم يكن معطوفا على مثله.
هذا ولا يبنى هذان الفعلان إلا مما اجتمعت فيه ثمانية شروط:
1- أن يكون فعلا وشذ قولهم ما أذرع المرأة بنوه من قولهم امرأة ذراع والذراع كسحاب: الخفيفة اليدين بالغزل وروى ابن القطاع في الأفعال ذرعت المرأة خفت يدها في العمل فهي ذراع وعلى هذا لا شذوذ في قولهم ما أذرع المرأة ومن ذلك قولهم ما أجدره بكذا(5/573)
وما أقمنه بكذا فالأول بنوه من قولهم هو قمين بكذا والثاني من قولهم هو جدير بكذا والمعنى فيهما ما أحقه بكذا ولا فعل لهما ولكن قال في القاموس «وقد جدر ككرم جدارة وإنه لمجدرة أن يفعل ومجدور أي مخلقة وجدره جعله جديرا» وطاح كلام النحاة من أساسه.
2- أن يكون الفعل ثلاثيا فلا يبنيان من رباعي مجرد ولا مزيد فيه ولا ثلاثي مزيد بحرف أو حرفين أو ثلاثة إلا وزن أفعل فقيل يجوز بناؤهما منه سواء كانت الهمزة فيه للنقل أم لا نحو ما أظلم الليل وما أفقر هذا المكان وقيل هو شاذ يحفظ ما سمع منه كما تقدم ولا يقاس عليه وقالوا: ما أعطاه للدرهم وما أولاه للمعروف وما أتقاه الله وشذا كذلك ما أخصره لأنه من اختصر.
3- أن يكون الفعل متصرفا لأن التصرف فيما لا يتصرف نقض لوضعه وشذ ما أعساه وأعسى به.
4- أن يكون معناه قابلا للتفاضل أو التفاوت فلا يبنيان من نحو فني ومات وغرق لأنه لا مزية فيه لبعض فاعليه على بعض حتى يتعجب منه.
5- أن يكون مبنيا للمعلوم فلا يبنيان من المبني للمجهول وبعضهم استثنى ما كان ملازما للبناء على المجهول نحو عنيت بحاجتك وزهي علينا فيجيز التعجب لعدم اللبس فتقول ما أعناه بحاجتك وما أزهاه علينا.
6- أن يكون تاما فلا يبنيان من نحو كان وكاد وصار لأنهن نواقص وحكى ابن السراج والزجاج: ما أكون زيدا قائما.
7- أن يكون مثبتا فلا يبنيان من منفي سواء كان ملازما للنفي نحو ما عاج بالدواء أي ما انتفع به ومضارعه يعيج ملازم للنفي أيضا(5/574)
كذا قال النحاة وطاح كلامهم بوروده غير منفي، روى أبو علي القالي في نوادره: أنشدنا ثعلب عن ابن الاعرابي:
ولم أر شيئا بعد ليلى ألذه ... ولا مشربا أروى به فأعيج
أي أنتفع به أم غير ملازم للنفي لئلا يلتبس المنفي بالمثبت.
8- أن لا يكون اسم فاعله على وزن أفعل فعلاء فلا يبنيان من نحو عرج فهو أعرج من العيوب وشهل فهو أشهل من المحاسن وخضر الزرع فهو أخضر من الألوان ولمي فهو ألمى من الحلي لأن الألوان والعيوب والمحاسن الظاهرة جرت مجرى الخلق الثابتة التي لا تزيد ولا تنقص كاليد والرجل وسائر الأعضاء في عدم التعجب منها.
شرط تاسع:
وهناك شرط تاسع أغفله الكثير من النحاة مع أنه مهم جدا وهو أن لا يستغنى عنه بالمصوغ من غيره نحو قال من القائلة فانهم لا يقولون ما أقيله استغناء بقولهم ما أكثر قائلته، ذكره سيبويه ونحو سكر وقعد وجلس فانهم لا يقولون ما أسكره وأقعده وأجلسه استغناء بقولهم ما أشد سكره وأكثر قعوده وجلوسه وزادّ ابن عصفور قام وغضب ونام، وحكى سيبويه ما أنومه وقالوا أنوم من فهد.
كيف يتم التوصل الى التعجب مما فقد بعض الشروط:
ويتوصل الى التعجب من الزائد على الثلاثي ومما وصفه على أفعل فعلاء بما أشد ونحوه وبنصب مصدرهما بعده وبأشدد ونحوه وبجر مصدرهما بعده فتقول ما أشد انطلاقه أو حمرته وأشدد بانطلاقه وحمرته والمنفي والمبني للمجهول يكون مصدرهما مؤولا لا صريحا(5/575)
نحو ما أكثر أن لا يقوم وما أشد ما ضرب واشدد بهما وأما الناقص فيؤتى بمصدره إن كان له مصدر على نحو ما تقدم نحو ما أشد صيرورته جميلا وأما الجامدة وغير القابل للتفاوت فلا يتعجب منهما البتة.
3- القول في أحد، والفرق بين الأحد والواحد:
أحد أكمل من الواحد ألا ترى أنك إذا قلت: فلان لا يقوم له واحد جاز في المعنى أن يقوم له اثنان فأكثر بخلاف قولك لا يقوم له أحد وفي الأحد خصوصية ليست في الواحد تقول ليس في الدار أحد فيجوز أن يكون من الدواب والطير والوحش والإنس فيعم الناس وغيرهم بخلاف ليس في الدار واحد فإنه مخصوص بالآدميين.
ويأتي الأحد في كلام العرب بمعنى الواحد فيستعمل في النفي والإثبات نحو «قل هو الله أحد» أي واحد، وأول «فابعثوا أحدكم بورقكم» وبخلافهما فلا يستعمل إلا في النفي تقول ما جاءني من أحد ومنه قوله تعالى: «أيحسب أن لن يقدر عليه أحد» وواحد يستعمل فيهما مطلقا وأحد يستعمل في المذكر والمؤنث قال تعالى «لستنّ كأحد من النساء» بخلاف الواحد فلا يقال كواحد من النساء بل كواحدة، وأحد يصلح للأفراد والجمع ولهذا وصف به في قوله «من أحد عنه حاجزين» بخلاف الواحد والأحد له جمع من لفظه وهو الأحدون والآحاد وليس للواحد جمع من لفظه فلا يقال واحدون بل اثنان وثلاثة، والأحد ممتنع من الدخول في شيء من الحساب بخلاف الواحد فتلخص من ذلك سبعة فروق.(5/576)
4- قصة انقطاع الوحي لفترة محدودة:
ولا بد هنا من تفصيل قصة انقطاع الوحي فقد ذكر الرواة أن قريشا لجأت الى وسيلة رهيبة لتكافح بها تأثير القرآن فأوفدت الى يهود يثرب فدا يسألها عن الوسائل التي تستطيع أن تقاوم بها هذا الذي جاء به محمد فطلب منهم اليهود أن يسألوا النبي عن أمور فلما عادوا الى مكة ذهبوا اليه وقالوا يا محمد أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي؟ فقال لهم النبي:
- أخبركم عما سألتم غدا.
وكان رسول الله ينتظر أن ينزل عليه وحي فيه جواب ما سألت عنه قريش ولكن الوحي أبطأ على النبي خمسة عشر يوما وطارت قريش فرحا بعجزه عن الجواب وقالت وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه وقد أحزن النبي انقطاع الوحي عنه حزنا شديدا وزاد في قلقه ما كان يتكلم به أهل مكة وفي ختام هذا اليوم نزل جبريل فابتدره بقوله:
- لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا فرد عليه جبريل بالآية الكريمة: «وما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا» ثم أخذ جبريل يلقن النبي سورة «الكهف» وفيها- كما سيأتي- رد على ما سألت قريش وتفصيل رائع لكثير من الأمور التي تشغل الأذهان إذ ذاك وقد أخذت عليهم إجابات سورة الكهف السبيل فلم يحيروا ردا ولا جوابا.(5/577)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
[سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 28]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
اللغة:
(مُلْتَحَداً) : ملتجأ تجنح اليه لائذا إن هممت بالتبديل للقرآن وفي المصباح: «قال أبو عبيدة: ألحد إلحادا جادل ومارى ولحد جار وظلم وألحد في الحرم استحل حرمته وانتهكها والملتحد بالفتح اسم الموضع وهو الملجأ» وفي القاموس: «التحد عن الدين بمعنى ألحد والتحد إلى كذا مال والتحد إلى فلان التجأ» .
(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ) لا تنصرف يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاءني القوم عدا زيد فحق الكلام أن يقال بالنصب أي لا تعد عينيك وانما عدل الى الرفع لأنه أراد صاحب العينين فهو من المجاز وسيأتي مزيد شرح له في باب البلاغة.
(فُرُطاً) : بضمتين أي مجاوزا الحد وقد تقدم شرح هذه المادة مفصلا.(5/578)
الإعراب:
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) الواو عاطفة واتل فعل أمر مني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وما مفعول به وجملة أوحي صلة وإليك متعلقان بأوحي ومن كتاب ربك حال من ما.
(لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) لا نافية للجنس ومبدل اسمها مبني على الفتح ولكلماته خبر والجملة حالية ولن تجد عطف ومن دونه حال وملتحدا مفعول به. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) واصبر عطف وهو فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ونفسك مفعول به ومعنى الصبر هنا حبس النفس وتثبيتها وفي المختار: الصبر حبس النفس عن الجزع وبابه ضرب وصبره حبسه قال تعالى: «واصبر نفسك» وقال أبو ذؤيب يرثي ابنه:
فصبرت عارفة لذلك جسرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع
أي حبست نفسا عارفة لذلك البلاء وضمّن عارفة معنى صابرة فعداه باللام وجسرة أي قوية صلبة ويروى حرة تسكن إذا طلعت نفس الجبان من مستقرها وطارت شعاعا. ومع الذين ظرف مكان متعلق باصبر وجملة يدعون ربهم صلة وربهم مفعول به وبالغداة والعشي متعلقان بيدعون وجملة يريدون وجهه حال. (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) عطف على واصبر ولا ناهية وتعد مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف حرف العلة وعيناك فاعل وعنهم متعلقان بتعد وجملة تريد زينة الحياة الدنيا حال والدنيا صفة وسيأتي القول مفصلا عنها في باب الفوائد. (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) الواو عاطفة على ما تقدم ولا ناهية وتطع مجزوم بها والفاعل مستتر ومن مفعول به وجملة أغفلنا صلة وقلبه مفعول به وعن(5/579)
ذكرنا متعلقان بأغفلنا واتبع هواه فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به والواو عاطفة وكان واسمها وخبرها.
البلاغة:
المجاز العقلي:
في قوله «ولا تعد عيناك» مجاز عقلي لأنه أسند فعل عدا أي تجاوز الى العينين ومن حقه أن يسندهما إليه لأن عدا متعد بنفسه كما تقدم وانما جنح الى المجاز لأنه أبلغ من الحقيقة فكأن عينيه ثابتتان في الرنو إليهم وكأنما أدركتا ما لا تدركان وأحستا بوجوب النظر الى هؤلاء وصبر النفس ورياضتها على ملازمتهم.
وقيل هو من باب التضمين فقد ضمن عدا معنى نبا وعلا من قولهم نبت عينه عنه إذا اقتحمته ولم تعلق به والغرض من هذا التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى مفرد أي لا تقتحمهم عيناك مجاوزتين الى غيرهم وهو جميل أيضا.
الفوائد:
القاعدة في اسم التفضيل انه إذا كان مقترنا بأل امتنع وصله بمن الجارة فلا يقال فلان الأفضل من فلان ووجبت مطابقته لما قبله إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا وقد شذ وصله بمن في قول الشاعر:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
وإذا تجرد من أل والاضافة فلا بد من إفراده وتذكيره في جميع(5/580)
أحواله وأن تتصل به من المجارة ولو تقديرا نحو قوله تعالى «وللآخرة خير وأبقى» .
وإذا أضيف الى نكرة وجب إفراده وتذكيره وامتنع وصله بمن الجارة.
وإذا أضيف الى معرفة امتنع وصله بمن الجارة وجاز فيه وجهان:
الإفراد والتذكير كالمضاف الى نكرة ومطابقته لما قبله وقد ورد الاستعمالان في القرآن فمن الأول «ولتجدنهم أحرص الناس على حياة» ولم يقل أحرصي الناس ومن الثاني «وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها» .
حكم الدنيا: هذا والقياس أن تأتي الدنيا بالألف واللام لأنها صفة في الأصل على وزن فعلى والمذكر الأدنى له فمن حقها المطابقة كما أتت في الآية التي نحن بصددها على أنهم استعملوها استعمال الأسماء فهم لا يكادون يذكرون معها الموصوف فاستعملوها بغير ألف ولام كسائر الأسماء قال العجاج:
يوم ترى النفوس ما أعدت ... من نزل إذا الأمور غبت
في سعي دنيا طالما قد مدت ... حتى انقضى قضاؤها فأدت
وقال بشامة بن حزن النهشلي وقيل للمرقش الأكبر:
وإن دعوت الى جلى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا
فقيل جلى مؤنث أجل على حد الأكبر والكبرى وبذلك يجري مجرى دنيا في سيرورة الاستعمال استعمال الأسماء وقيل هو مصدر(5/581)
كالرجعى والبشرى بمعنى الرجوع والبشارة فأما قول أبي نواس الحسن ابن هانىء يصف الخمر:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
فقد عابه بعضهم لكونه استعملها نكرة وهذا الضرب من الصفات لا يستعمل إلا معرفة والاعتذار عنه انه استعملها استعمال الأسماء لكثرة ما يجيء منه بغير تقدم موصوف ويجوز أن يكون لم يرد فيه التفضيل بل معنى الفاعل كأنه قال كأن صغيرة وكبيرة من فواقعها على حد قوله تعالى «وهو أهون عليه» وقيل ان «من» المذكورة زائدة وكبرى مضافة الى فواقعها لكن يرد على هذا أن زيادة من في الموجب لا تجوز.
وقال ابن الأثير في المثل السائر: «ألا ترى أن أبا نواس كان معدودا في طبقات العلماء مع تقدمه في طبقات الشعراء وقد غلط فيما لا يغلط مثله فيه فقال في صفة الخمر:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب
وهذا لا يخفى على أبي نواس فإنه من ظواهر علم العربية وليس من غوامضه في شيء لأنه أمر نقلي يحمله ناقله فيه على النقل من غير تصرف وقول أبي نواس «صغرى وكبرى» غير جائز فإن فعلى أفعل لا يجوز حذف الألف واللام منها وانما يجوز حذفها من فعلي التي لا أفعل لها نحو حبلى إلا أن تكون فعلى أفعل مضافة وهاهنا قد عريت(5/582)
عن الاضافة وعن الألف واللام فانظر كيف وقع أبو نواس في مثل هذا الموضع مع قربه وسهولته» .
ورد ابن أبي حديد في كتاب «الفلك الدائر» على هذا القول بأن قال: «لا ينكر أن كثيرا من أئمة العربية طعن في هذا البيت ولكن انتصر لأبي نواس كثير منهم فقالوا: وجدنا فعلى أفعل في غير موضع واردة بغير لام ولا إضافة ولا من مثل دنيا في قول الراجز: في سعي دنيا طالما قد مدت، وقول الآخر: وإن دعوت الى جلى ومكرمة، وقول الآخر لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة، وقالوا: طوبى لك. وفي البيت وجه آخر وهو أن تكون من في قوله من فواقعها زائدة على مذهب أبي الحسن الأخفش في زيادة من في الواجب فإنه يذهب الى ذلك ويحتج بقوله تعالى: «فيها من برد» أي فيها برد وهذا يرجح أن يكون صغرى وكبرى في البيت مضافتين» .
وقال الشيخ بهاء الدين بن النحاس: هذا عجيب من مثل هذا الرجل الفاضل أما إيراده دنيا وأخواتها فكل وجوهها مذكورة في كتب النحاة بما يغني عن الإطالة بذكره بخلاف صغرى وكبرى، وأما قوله بزيادة من فكأنه يظن أن من إذا كانت زائدة كان الجر بالإضافة أو كانت الإضافة باقية وهذا لا وجه له وإنما الجر بحرف الجر لأن حروف الجر لا تعلق وأما زيادة حرف الجر بين المتضايفين فلم بقل به إلا في مثل لا أبا لك على شذوذ وليس هذا منه ولا يريد الأخفش بقوله ان من تزاد في الواجب ما أراد ابن أبي الحديد» ومثله قول العروضيين فاصلة صغرى وفاصلة كبرى أي صغيرة وكبيرة لا يريدون التفضيل وانما يريدون الاسم وقول أبي تمام يصف الربيع:
دنيا معاش للورى حتى إذا ... حل الربيع فإنما هي منظر(5/583)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
غلبت الاسمية عليها حتى لم يعد يلمح لأصل التفضيل فيها.
وننتهز الفرصة لنورد أبياتا من القصيدة التي منها هذا البيت لأبي نواس لحسنها، ومطلعها:
ساع بكأس إلى ناس على طرب ... كلاهما عجب في منظر عجب
قامت تريني وستر الليل منسدل ... صبحا تولد بين الماء والعنب
كأن صغرى وكبرى.... البيت وبعده
كأن تركا صفوفا في جوانبها ... تواتر الرمي بالنشاب من كثب
في كف ساقية ناهيك ساقية ... في حسن قدّ وفي ظرف وفي أدب
[سورة الكهف (18) : الآيات 29 الى 31]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)(5/584)
اللغة:
(أَعْتَدْنا) : أعددنا وهيأنا وفي القاموس «عتّد وأعتد الشيء:
هيأه وأعده وعتد الشيء يعتد من باب ظرف وجمل عتادا تهيأ، وتعتد في صنعته تأنّق فيها والعتاد: ما أعد لأمر ما، وكل ما هيء من سلاح وآلة حرب والجمع أعتد وعتد وأعتدة» .
(سُرادِقُها) : السرادق بضم السين وكسر الدال: الفسطاط الذي يمد فوق صحن البيت والخيمة والغبار والدخان المرتفع المحيط بالشيء والجمع سرادقات وفي الكشاف: «شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وبيت مسردق ذو سرادق وقيل هو دخان يحيط بالكفار قبل دخول النار وقيل حائط من نار يطيف بهم» وقال الراغب: «السرادق: فارسي معرب وليس في كلامهم اسم مفرد ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا وفي المختار: السرادق مفرد والجمع سرادقات الذي يمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف أي قطن فهو سرادق ويقال بيت مسردق.
قال الجوهري: والسرادق واحد السرادقات وهي التي تمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف فهو سرادق ومنه قول رؤبة:(5/585)
يا حكم بن المنذر بن جارود ... سرادق المجد عليك ممدود
وقال الشاعر:
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق
يقوله سلام بن جندل لما قتل ملك الفرس ملك العرب النعمان ابن المنذر تحت أرجل الفيلة.
(المهل) : بضم الميم اسم يجمع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد والصفر، ما كان منها ذائبا، القطران الرقيق، الزيت الرقيق، السم، القيح أو صديد الميت خاصة، ما يتحات عن الخبز من الرماد وقيل هو كعكر الزيت أي ما بقي في الإناء منه والخلاصة هو اسم جامع لكل المستقذرات التي تغثى منها النفس وتتألم وتنفر.
(مُرْتَفَقاً) : تقدم ذكر هذه المادة في هذه السورة وهي هنا متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقا الآتي وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء وقد يكون من وادي قوله:
إني أرقت فبت الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح
والارتفاق الاتكاء على المرفق مع نصب الساعد وهي هيئة المتحزن المتحسّر، والصاب نبت مرّ كالحنظل، والمذبوح المشقوق وهو كناية عن البكاء وانصباب الدموع والبيت لأبي ذؤيب الهذلي.
(السندس) : ما رقّ من الديباج.
(الاستبرق) : ما غلظ من الديباج والإستبرق يونانية والسندس(5/586)
فارسية وقيل هندية وقد تقدم ذكرهما في جدول أحصينا فيه الألفاظ الأعجمية.
الإعراب:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الحق خبر لمبتدأ محذوف ومن ربكم حال ويجوز أن يكون الحق مبتدأ ومن ربكم خبره، فمن شاء الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو والفاء رابطة للجواب لأن الجملة طلبية واللام لام الأمر ويؤمن مضارع مجزوم بلام الأمر ومن شاء فليكفر عطف على سابقتها. (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) إن واسمها وجملة أعتدنا خبرها وللظالمين متعلقان بأعتدنا ونارا مفعول به وأحاط بهم سرادقها الجملة صفة لنار، وأحاط فعل ماض وبهم متعلقان بأحاط وسرادقها فاعل أحاط.. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) الواو عاطفة وإن شرطية ويستغيثوا فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ويغاثوا جواب الشرط وبماء متعلقان بيغاثوا وكالمهل صفة لماء وجملة يشوي الوجود صفة ثانية أو حال والوجوه مفعول به. (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) بئس فعل ماض جامد من أفعال الذم، والشراب فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي وساءت عطف على بئس ومرتفا تمييز محول عن الفاعل أي مرتفقها ولا تلتفت لمن أعربها مصدرا. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) إن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا، إنا لا نضيع يجوز أن تكون هذه الجملة خبر إن أو يجوز أن تجعلها معترضة وان واسمها وجملة لا نضيع خبرها وفاعل نضيع مستتر تقديره نحن وأجر مفعول(5/587)
به ومن موصول مضاف اليه وجملة أحسن صلة وعملا تمييز ويجوز أن يكون مفعولا به وفاعل أحسن ضمير هو الرابط إذا جعلت إنا لا نضيع خبر إن الذين أو الرابط هو تكرر الظاهر بمعناه. (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الجملة خبر ثان لإن الذين أو خبر إذا جعلت جملة إنا لا نضيع معترضة وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وجنات عدن مبتدأ مؤخر والمبتدأ الثاني وخبره خبر أولئك وجملة تجري من تحتهم الأنهار حال من جنات أو صفة لها فصار لهم بذلك نوعان من الثواب من خمسة أنواع والثلاثة الباقية هي:
(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) يحلون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها حال أي حال كونهم في الجنة أو متعلقان بيحلون ومن أساور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول محذوف أي حليا من ذهب، ومن ذهب صفة لأساور ويلبسون عطف على يحلون والواو فاعل وثيابا مفعول به وخضرا صفة ومن سندس صفة أو حال من ثيابا وإستبرق عطف على سندس ومتكئين حال من أولئك وفيها حال أيضا فهي متداخلة وعلى الأرائك متعلقان بمتكئين فتمت بذلك النعم السوابغ الخمس. (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) تقدم اعراب نظيرتها فجدد به عهدا.
البلاغة:
في هذه الآيات فنون كثيرة من البلاغة تقدم ذكر معظمها فنكتفي بالاشارة إليها:
1- التهكم:
في قوله تعالى «يغاثوا بماء كالمهل» فقد سمى أعلى أنواع العذاب(5/588)
إغاثة والإغاثة هي الإنقاذ من العذاب تهكما بهم وتشفيا منهم والتهكم فن طريف من فنونهم من تهكمت البئر إذا تهدمت أو من التهكم بمعنى الغضب الشديد أو الندم على أمر فائت فالبشارة فيه إنذار والوعد معه وعيد والإجلال للمخاطب المتهكم به تحقير وهذه الآية من أحسن شواهده إذ جعل الإغاثة ضد الإغاثة نفسها ففيه الى جانب التهكم مشاكلة أيضا وقد افتتن الشعراء بهذا المعنى وأخذه بعضهم بلفظه فأجاد من جهة وأسف من جهة التركيب وذلك بقوله يهجو بخيلا:
أبات الضيوف على سطحه ... فبات يريهم نجوم السماء
وقد فتت الجوع أكبادهم ... وان يستغيثوا يغاثوا بماء
وقد برع فيه من شعرائنا ابن الرومي وأوردنا نماذج من تهكمه ونورد الآن أبياتا له يتهكم فيها بصاحب لحية طويلة:
ارع فيها الموسى فإنك منها ... يشهد الله في اثام كبير
أيما كوسج يراها فيلقى ... ربه بعدها صحيح الضمير
هو أحرى بأن يشك ويغرى ... باتهام الحكم في التقدير
لحية أهملت فسالت وفاضت ... فإليها تشير كف المشير
ما رأتها عين امرئ ما رآها ... قط إلا أهلّ بالتكبير
روعة تستخفه لم يرعها ... من رأى وجه منكر ونكير
فاتق الله ذا الجلال وغيّر ... منكرا فيك ممكن التغيير
أو فقصّر منها فحسبك منها ... نصف شبر علامة التذكير(5/589)
ومغالطته بادية من دخيلة إحساسه بهيبة اللحية حتى البحتري لم تسلم لحيته من هجوه إذ يقول:
البحتري ذنوب الوجه تعرفه ... وما رأينا ذنوب الوجه ذا أدب
2- التشبيه المؤكد:
في قوله تعالى «إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها» فقد شبه النار المحيطة بهم بالسرادق المضروب على من يحتويهم وأضيف السرادق الى النار فذلك هو التشبيه المؤكد وهو أن يضاف المشبه الى المشبه به كقول بعضهم:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء
فقد أضاف الأصيل وهو المشبه الى الذهب وهو المشبه به كما أضاف الماء الذي هو المشبه الى اللجين الذي هو المشبه به وقد رمقه شوقي فقال في وصف دمشق:
دخلتها وحواشيها زمردة ... والشمس فوق لجين الماء عقيان
والمراد بالتشبيه المؤكد قوله لجين الماء أما حواشيها زمردة والشمس عقيان فهو من التشبيه البليغ المضمر الأداة.
3- المشاكلة:
وذلك في قوله «وساءت مرتفقا» فقد ذكر الارتفاق مشاكلة لقوله فيما بعد في وصف أهل الجنة «وحسنت مرتفقا» لأن ارتفاق(5/590)
اليد في النار لا يصح بل فيها العذاب والضرر وقد ذكرنا في باب اللغة انه يجوز أن يكون الارتفاق ناشئا عن الهم والعذاب كقول الهذلي المتقدم فلا مشاكلة ومن طريف المشاكلة قول بعضهم وقد دعاه إخوانه الى صبوح وليس لديه ثياب يلبسها فكتب إليهم:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة ... وأتى رسولهم إليّ خصيصا
قالوا التمس شيئا نجد لك طبخة ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
ومن المفيد أن نشير الى تأنيث حسنت وساءت وذلك على المعنى أي ساءت النار مرتفقا وحسنت الجنة مرتفقا.
4- الاستتباع:
وهو فن جميل يتقصى الشيء الذي تتصدى للكتابة عنها باستقصاء الأوصاف المحيطة به والملائمة له فلا يكاد المتكلم يذكر معنى من المعاني أو يتناول غرضا من الأغراض حتى يستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصفه فقد ذكر تعالى الجنة جزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات فوصفها بأن الأنهار تجري خلالها من تحتهم ثم ذكر الأساور حلية لهم ونكرها لإبهام أمرها في الحسن وجمع بين السندس والإستبرق وهما ما رقّ وغلظ من ألبسة الحرير على عادة المترفين الذين يعدون ثيابا للصيف تصلح له وللشتاء لباسا أخرى تلائم حالات البرد الشديد وخص الاتكاء بالذكر لأنه هيئة المنعّمين المترفين المسترخين على المقاعد والسرر في الابهاء الممتعة والقصور المنيفة فسبحان قائل هذا الكلام.(5/591)
ومن الاستتباع في الشعر قول المتنبي:
نهبت من الأعمار ما لو حويته ... لهنئت الدنيا بأنك خالد
فقد استتبع مدحه بالشجاعة مدحه بأنه سبب لصلاح الدنيا حيث جعلها مهنأة بخلوده لأنه سبب عمرانها ومثله قوله أيضا:
الى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام
فقد مدح سيف الدولة بالشجاعة أيضا واستتبع في باقي البيت مدحه بالكرم لعصيان الملام في الهبات والمعنى انك تردهم عما يطلبون من الهدنة ردك لوم اللائمين لك في العطاء أي كما انك لا تصغي الى ملامة لائم في سخائك فكذلك لا تقبل الهدنة وهذا من أروع ما تبتكره الأذهان ومن الفائدة أن نورد أبياتا مختارة من هذه القصيدة التي قالها في مديح سيف الدولة وقد وردت عليه رسل الروم يطلبون الهدنة في سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وأولها:
أراع كذا؟ كل الملوك همام ... وسح له رسل الملوك غمام؟
يقول هل راع ملك جميع الملوك كما أرى من روعك إياهم وهل تقاطرت الرسل على ملك كما تقاطرت عليك جعل توالي الرسل عليه كسح الغمام وفي البيت براعة استهلال لأنه أشار فيه وهو مطلع القصيدة الى موضوع الرسل، ثم قال:
ودانت له الدنيا فأصبح جالسا ... وأيامها فيما يريد قيام(5/592)
إذا زار سيف الدولة الروم غازيا ... كفاها لمام لو كفاه
لمام فتى يتبع الأزمان في الناس خطوه ... لكل زمان في يديه
زمام تنام لديك الرسل أمنا وغبطة ... وأجفان رب الرسل ليس
تنام حذارا لمعرورى الجياد فجاءة ... إلى الطعن قبلا ما لهن
لجام تعطف فيه والأعنة شعرها ... وتضرب فيه والسياط
كلام الى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت
ملام وإن كنت لا تعطي الذمام طواعة ... فعوذ الأعادي بالكريم
ذمام وإن نفوسا أممتك منيعة ... وإن دماء أملتك حرام
وفيها يقول:
وشر الحمامين الزؤامين عيشة ... يذل الذي يختارها ويضام(5/593)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
فلو كان صلحا لم يكن بشفاعة ... ولكنه ذل لهم وغرام
[سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)(5/594)
اللغة:
(أَعْنابٍ) : جمع عنب والعنبة الحبة وفي القاموس وغيره:
عنّب الكرم: صار ذا عنب والعنب ثمر الكرم وجمعه أعناب والحبة منه عنبة.
(وَحَفَفْناهُما) : جعلنا النخل محيطا بكل منهما. يقال: حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا ثانيا كقولك غشيه وغشيته به وفي الأساس: «حفّوا به واحتفّوا أطافوا وهم حافون به وحففته بالناس: جعلتهم حافّين به و «حفّت الجنة بالمكاره» «وحففناهما بنخل» ودخلت عليه وهو محفوف بخدمه، وهودج محفف بالديباج، قال امرؤ القيس:
رفعن حوايا واقتعدن قعائدا ... وحفّفن من حوك العراق المنمّق
وجلسوا حفافيه وحفافي سريره وهما جانباه وركبت في محفتها، وهو رجل محفوف بثوب، وما بقي في شعر رأسه إلا حفاف وهو طرّة حول رأسه وحفّت المرأة وجهها واحتفّته: أخذت شعره، وحفّ الفرس والريح والطائر والسهم حفيفا وهو صوت مروره والأغصان الشجرة حفيف» .(5/595)
(ثَمَرٌ) : أنواع من المال من ثمر ماله إذا كثره بالتشديد وفي المصباح: الثمر بفتحتين والثمرة مثله فالأول مذكر ويجمع على ثمار مثل جبل وجبال ثم يجمع على ثمر ككتاب وكتب ثم يجمع على أثمار مثل عنق وأعناق والثاني مؤنث والجمع ثمرات مثل قصبة وقصبات والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا فيقال ثمر الأراك وثمر العوسج وثمر الدوم وهو المقل كما يقال ثمر النخل وثمر العنب، قال الأزهري: وأثمر الشجر أطلع ثمره أول ما يخرجه فهو مثمر ومن هنا قيل لما لا نفع فيه: ليس له ثمرة وفي الأساس: «وكان له ثمر» أي مال وانظر ثمر مالك ونماءه ومال ثمر: مبارك فيه وأثمر القوم وثمروا ثمورا: كثر مالهم وثمر ماله يثمر كثر وفلان مجدود ما يثمر له مال» والمراد في الآية انه كان الى جانب الجنتين الموصوفتين الأموال الداثرة من الذهب والفضة وغيرهما وكان وافر اليسار من كل وجه.
(حُسْباناً) : إما أن تكون مصدرا كالغفران والبطلان فإن لحسب مصادر عديدة تقول حسبه بفتح السين يحسبه بضمها حسبا وحسابا وحسبانا وحسبانا وحسبة وحسابة: عده، وتقول: حسبه بكسر السين يحسبه بكسرها وفتحها حسبانا ومحسبة ومحسبة: ظنه، وتقول حسب بضم السين يحسب بضمها أيضا حسبا وحسابة:
كان ذا حسب وذا كرم فهو حسيب، فإلى أي الفروع ينتمي هذا المصدر؟ واضح مما تقدم أنه ينتمي إما الى حسب يحسب بمعنى العد والمعنى عندئذ يرسل عليها مقدارا من العذاب قدره الله وحسبه وهو تخريبها والإطاحة بها وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداه واما إن تكون حسبانا جمع حسبانة بضم الحاء وهي السهم أو الصاعقة وقال الزجاج عذاب حسبان وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك.(5/596)
(زَلَقاً) : صفة لصعيدا أي ملساء لا تثبت عليه القدم وفي القاموس: الزلق بفتحتين والزلق بفتح فسكون أرض ملساء ليس بها شيء وصيرورتها كذلك لاستئصال نباتها.
(غَوْراً) : مصدر غار في الأرض أي ذهب فلا سبيل اليه فهو بمعنى الفاعل أي غائرا في الأرض لا يدرك وزاد أبو نصر غئورا وغارت عينه تغور غئورا وغارت الشمس تغور غئورا أيضا والغور الاسم يقال: سقطت في الغور يعني الشمس وغار الرجل يغور غورا إذا أتى الغور وزاد اللحياني: وأغار أيضا وأنشد بيت الأعشى:
نبيّ يرى مالا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
فهذا على ما قال اللحياني وكان الكسائي يقول: هو من الاغارة وهي السرعة وكان الأصمعي يقول: أغار ليس هو من الغور إنما هو بمعنى عدا وقال اللحياني: يقال للفرس إنه لمغوار أي شديد العدو والجمع مغاوير والتفسير الأول الوجه لأنه قال وأنجدا فانه أراد أن الغور وأتى نجدا والغور تهامة وغار فلان على أهله يغار غيره ورجل عيور من قوم غير وامرأة غيرى من نساء غيارى وقال الأصمعي:
فلان شديد الغار على أهله أي شديد الغيرة وزاد اللحياني والغير، وقال أبو نصر: أغار فلان على بني فلان يغير إغارة وقال اللحياني يقال للرجل: إنه لمغوار أي شديد الإغارة والجمع مغاوير وقال أبو نصر:
يقال غارهم يغيرهم إذا مارهم والغيار المصدر قال عبد مناف بن ربعي الهذلي:
ماذا يضير ابنتي ربع عويلهما ... لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا(5/597)
يريد انه لا يغني بكاؤهما على أبيهما من طلب ثأره شيئا.
وقال أبو نصر: الغاران البطن والفرج يقال المرء يسعى لغاريه أي لبطنه وفرجه وقال أبو عبيدة: يقال لفم الإنسان وفرجه الغاران، وقال أبو نصر: الغار كالكهف في الجبل ويقال في أمثالهم «عسى الغوير أبؤسا» وأصله انه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه عدو فقتلوهم فيه فصار مثلا لكل ما يخاف منه الشر وقيل ان الغوير اسم ماء بناحية السماوة قالته الزباء لما رأت قصيرا الذي جاء يأخذ بثأر جذيمة الأبرش عن طريق الغوير والغوير تصغير غار وخلاصة معنى المثل عسى أن يكون جاء البأس من الغار وحسبنا ما تقدم فهذه المادة لا يدرك غورها.
(خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) : العروش في المصباح: «العرش شبه بيت من جريد يجعل فوقه الثمام والجمع عروش» فهو في الأصل صنع ليوضع عليه الكرم فإذا سقط سقط ما عليه وقد تقدم تقريره.
(الْوَلايَةُ) : بفتح الواو وبكسرها الملك والقهر والسلطة.
الإعراب:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) تقدم في سورة البقرة أن ضرب مع المثل يجوز أن يتعدى لاثنين لأنه بمعنى الجعل فاضرب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولهم متعلقان باضرب ومثلا مفعول به ورجلين لك أن تجعلها بدلا من مثلا فيكون لهم بمثابة المفعول الثاني ومثلا هو المفعول الأول ولك أن تجعل رجلين هي المفعول الثاني وسيأتي حديث الرجلين. (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا(5/598)
بَيْنَهُما زَرْعاً)
جملة جعلنا صفة لرجلين ولأحدهما مفعول ثان لجعلنا وجنتين مفعول أول ومن أعناب صفة لجنتين وحففناهما عطف على جعلنا وهو فعل وفاعل ومفعول به وبنخل متعلقان بحففناهما وجعلنا بينهما زرعا عطف على ما تقدم وقد تقدم إعراب نظيرتها. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) كلتا مبتدأ وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف لأنه اسم مقصور وسيأتي حكم كلا وكلتا في باب الفوائد وجملة آتت أكلها خبر كلتا وقد روعي لفظها فأتى الخبر مفردا ولم تظلم عطف على آتت ومنه حال لأنه كان صفة لشيئا وشيئا إما مفعول به على أن تظلم بمعنى تنقص أو مفعول مطلق وقد تقدم تحقيق ذلك. ومن نوادر كلام العرب: قيل لأعرابي: أتأكل العنب؟ قال: ما ظلمني أن آكله أي ما منعني قال أبو عثمان سعيد بن هارون الاشنانداني: ومنه قول الله عز وجل: «ولم تظلم منه شيئا» أي لم تمنع. (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) فجرنا فعل وفاعل وخلالهما ظرف متعلق بفجرنا ونهرا مفعول به.
(وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص وله خبر كان المقدم وثمر اسمها المؤخر فقال عطف على وكان ولصاحبه متعلقان بقال والواو للحال وهو مبتدأ وجملة يحاوره خبر والجملة حالية والمراد به أحدهما. (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً) الجملة مقول القول وسيأتي أنه قال ثلاث قولات منافية للحق في باب البلاغة وأنا مبتدأ وأكثر خبر ومنك متعلقان بأكثر ومالا تمييز وأعز نفرا عطف على أكثر مالا. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) ودخل جنته فعل وفاعل ومفعول به على السعة وهو الواو للحال وهو مبتدأ وظالم خبر والجملة حالية ولنفسه متعلقان بظالم، وقال فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو وجملة ما أظن مقول القول وان وما بعدها سدت مسد مفعولي أظن وهذه فاعل تبيد وأبدا(5/599)
طرف زمان متعلق بتبيد. (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) وما أظن عطف على ما أظن الأولى والساعة مفعول به أول وقائمة مفعول به ثان وأراد وهو منكر للبعث: ما أحسب الساعة قائمة كما تزعم، كما أن شكه في بيدودة جنته وأمواله ناشىء عن طول اغتراره وهيمنة الحرص عليه، ولئن الواو عاطفة واللام موطئة للقسم وان شرطية ورددت فعل ماضي مبني للمجهول في محل جزم فعل الشرط والتاء نائب فاعل ولأجدن اللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم كما هي القاعدة على حد قول صاحب الخلاصة:
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... جواب ما أخرت فهو ملتزم
وخيرا مفعول به لأجدن ومنها متعلقان بخيرا ومنقلبا تمييز أي مرجعا فهو مصدر ويجوز أن نعرب خيرا حال ومنقلبا مفعول أي منقلبا خيرا من منقلب هذه الدنيا. (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) قال فعل ماض وله متعلقان به وصاحبه فاعل والواو للحال وهو مبتدأ وجملة يحاوره خبر والهمزة للاستفهام التوبيخي والتقريعي وكفرت فعل وفاعل وبالذي متعلقان بكفرت وجملة خلقك صلة ومن تراب جار ومجرور متعلقان بخلقك وثم من نطفة عطف، وثم حرف عطف وسواك فعل ماض وفاعل مستتر والكاف مفعول به ورجلا حال وإنما ساغ مجيئه حالا وهو غير مشتق لأنه بعد سواك إذ كان من الجائز أن يسويه غير رجل وسيأتي بحث ذلك مفصلا في باب الفوائد ويجوز أن يعرب مفعولا(5/600)
ثانيا لسواك، وأعربه بعضهم تمييز. (لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) لكنا الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة المحذوفة على النون وأدغمت النون في النون والجيد حذف الألف في الوصل وإثباتها في الوقف لأن أنا كذلك والألف فيه زائدة لبيان الحركة وانا مبتدأ وهو أي ضمير الشأن مبتدأ ثان والله مبتدأ ثالث وربي الخبر والياء عائدة على المبتدأ الأول ولا يجوز أن تكون لكن المشددة لعاملة نصبا إذ لو كان كذلك لم يقع بعدها هو لأنه ضمير مرفوع ويجوز أن يكون اسم الله بدلا من هو ومثل هذا التركيب قول القائل:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكن إياك لا أقلى
ولكن أصله لكن أنا فنقلت حركة الهمزة الى النون ثم حذفت ثم أدغمت النون في النون بعدها وحذفت الألف الأخيرة في الرسم كاللفظ ولو أجرى الوصل مجرى الوقف لثبتت وقدم المفعول وهو إياك للاهتمام ببراءتها من قلاه وتخصيصها بذلك دون غيرها من النساء وواضح ان قوله ترمينني بالطرف استعارة تصريحية لأنه شبه اطلاق البصر بإطلاق الحجر. والواو استئنافية ولا نافية وأشرك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وبربي متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به.
(وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ولولا الواو عاطفة ولولا حرف تحضيض أي هلا وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بقلت وما شاء الله ما موصولة في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هذا الذي شاءه الله من بدائع الجمال وتهاويل النعم وتعاجيب المنن والآلاء أو نعرب ما مبتدأ والخبر محذوف تقديره كان والجملة مقول القول وجملة شاء(5/601)
الله صلة والعائد محذوف كما قدرناه ويجوز أن تكون شرطية منصوبة الموضع بفعل الشرط والجواب محذوف أي كان والمعنى أي شيء شاءه الله كان والجملة كلها مقول القول ولا نافية للجنس وقوة اسمها المبني على الفتح وإلا أداة حصر وبالله خبر لا. (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً) إن شرطية وترني فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة والنون للوقاية والياء مفعول به وحذفت في رسم المصحف وأنا ضمير فصل وأقل مفعول به ثان لترني ويجوز أن تعرب أنا توكيدا للياء ومنك متعلقان بأقل ومالا تمييز وولدا عطف عليه. (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ) الفاء رابطة لجواب الشرط لأنه اقترن بفعل الرجاء وهو جامد وقد تقدمت مواضع وجوب ربط الجواب بالفاء المجموعة في قول بعضهم:
اسمية طلبية وبجامد ... وبما ولن وبقد وبالتنفيس
وربي اسم عسى وان وما في حيزها في محل نصب خبرها وخيرا مفعول ثان ليؤتيني ومن جنتك متعلقان بخير. (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) ويرسل عطف على يؤتيني والفاعل مستتر تقديره هو وعليها متعلقان بيرسل وحسبانا مفعول به فتصبح الفاء عاطفة على ما تقدم وتصبح فعل مضارع منصوب لأنه عطف على ما تقدم واسم تصبح مستتر تقديره هي وصعيدا خبر تصبح وزلقا نعت لصعيد من باب الوصف بالمصدر. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً) أو حرف عطف ويصبح معطوف على ما قبله وماؤها اسم يصبح وغورا خبرها والفاء عاطفة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويستطيع منصوب بلن والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت وله متعلقان(5/602)
بطلبا وطلبا مفعول به. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب مدلول الكلام أي فانقضت الصواعق على جنته وغارت الأمواه فيها وأحيط بثمره بالهلاك أيضا وأحيط فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وبثمره متعلقان بأحيط فأصبح عطف واسمها مستتر تقديره هو وجملة يقلب كفيه خبرها وعلى ما متعلقان بيقلب لأنه ضمن معنى يندم وسيأتي سر هذا التعبير في باب البلاغة ويجوز أن يتعلق الجار والمجرور بمحذوف على أنه حال من فاعل كفيه أي نادما. (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً) الواو للحال وهي مبتدأ وخاوية خبر وعلى عروشها خبر ثان وقد تقدم إعرابه ويقول عطف على يقلب أو الواو للحال وجملة يقول حال من فاعل يقلب وجملة يا ليتني لم أشرك مقول القول ولم حرف نفي وقلب وجزم وبربي متعلقان بأشرك وأحدا مفعول به وقوله يا ليتني تقدم بحثه مرارا وهو أن تكون يا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف. (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً) الواو للعطف ولم حرف نفي وقلب وجزم وتكن فعل مضارع ناقص مجزوم وله خبرها المقدم وفئة اسمها المؤخر وجملة ينصرونه صفة لفئة وذكّرت الصفة وجمعت لأن الفئة تتضمن الجمع وهو يتضمن الذكور والإناث ومن دون الله حال والواو حرف عطف وما نافية وكان واسمها المستتر ومنتصرا خبرها. (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) هنالك اسم اشارة في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بمحذوف خبر مقدم والولاية مبتدأ مؤخر ولله متعلقان بما في معنى اسم الاشارة أو بمتعلقه والحق صفة لله ويجوز أن يتعلق اسم الاشارة بمعنى الاستقرار في لله والولاية مبتدأ ولله خبره أي مستقرة لله ويجوز أن يتعلق بالولاية نفسها لأنها مصدر بمعنى النصرة وهو مبتدأ(5/603)
وخير خبر وثوابا تمييز وخير عقبا عطف على خير ثوابا وعقبا بمعنى عاقبة.
البلاغة:
حفلت هذه الآية بأفانين متعددة من فنون البلاغة وهذا هو التفصيل:
1- التتميم والاحتراس والكناية:
التتميم أو التمام وقد تقدم بحثه مستوفى في سورة البقرة عند قوله تعالى: «أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب» الآية وهو هنا في وصف الجنتين فإن قوله تعالى «واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين» يحتمل أن تكون الجنتان مجرد اجتماع شجر متكانف يستر بظل غصونه الأرض كما تقتضيه الدلالة اللغوية على معنى الجنة أو يكون النفع منها ضئيلا كشجر الأثل والخمط ونحوهما فيكون أسفه عليها أقل من أن تكون الجنتان من نخيل وأعناب ينتفع بما تثمرانه عليه ثم تمم ذلك أيضا بقوله «وجعلنا بينهما زرعا» لئلا يتوهم أن الانتفاع قاصر على النخيل والأعناب ولتكون كل من الجنتين جامعة للأقوات والفواكه متواصلة العمار على الشكل الحسن والترتيب الأنيق ثم تمم ذلك بقوله «وفجرنا خلالهما نهرا» للدلالة على ديمومة الانتفاع بهما فإن الماء هو سر الحياة وعامل النمو الاول في النباتات وإذن فقد استكمل هذا الرجل كل الملاذّ واستوفى ضروب النعم، ثم تمم ذلك بقوله «كلتا الجنتين آتت آكلها» لاستحضار الصورة التامة للانتفاع بالموارد واحترس بقوله «ولم تظلم منه شيئا» من أن يكون ... ... اب القرآن وبيانه، ج 5، ص: 605
ثمة نقص في الأكل الذي آتته وليكون كناية عن تمام الجنتين ونموهما دائما وأبدا وانهما ليستا على عادة الأشجار حيث يتم ثمرها فتؤتيه ببعض السنين دون بعض أو تأتي بالثمر ناقصا عاما بعد عام فهي فيّاضة المورد في كل حين فقد استوفى وصف الجنتين هذه الفنون الثلاثة جميعا.
2- اللف والنشر المشوش:
وذلك في قوله تعالى: «فقال لصاحبه وهو يحاوره» الآية وحاصل ما قاله هذا الكافر ثلاث مقالات شنيعة وهي: 1- أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا، 2- عند ما دخل جنته متكبرا مزهوا ظالما لنفسه قال وقد رنحه الغرور «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» ، 3- والثالثة:
بادئا بالآخرة لأنها الأهم قائلا «أكفرت بالذي خلقك» وثنى بالثانية ناصحا لأنها تأتي في المرتبة بعدها فقال: «ولولا إذا دخلت جنتك» إلخ وثلث بالأولى مقرعا فقال «فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك» فهو لف ونشر مشوش وقد تقدم ذكره.
3- عودة الى التتميم والكناية:
ثم عاد الى التتميم فصور الاطاحة بالجنتين وبالثمر معا فقال «وأحيط بثمره» ثم وصف حالته فقال «فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها» وتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن كما كنى عن ذلك بعض الأنامل والسقوط في اليد.(5/604)
ثمة نقص في الأكل الذي آتته وليكون كناية عن تمام الجنتين ونموهما دائما وأبدا وانهما ليستا على عادة الأشجار حيث يتم ثمرها فتؤتيه ببعض السنين دون بعض أو تأتي بالثمر ناقصا عاما بعد عام فهي فيّاضة المورد في كل حين فقد استوفى وصف الجنتين هذه الفنون الثلاثة جميعا.
2- اللف والنشر المشوش:
وذلك في قوله تعالى: «فقال لصاحبه وهو يحاوره» الآية وحاصل ما قاله هذا الكافر ثلاث مقالات شنيعة وهي: 1- أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا، 2- عند ما دخل جنته متكبرا مزهوا ظالما لنفسه قال وقد رنحه الغرور «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» ، 3- والثالثة:
بادئا بالآخرة لأنها الأهم قائلا «أكفرت بالذي خلقك» وثنى بالثانية ناصحا لأنها تأتي في المرتبة بعدها فقال: «ولولا إذا دخلت جنتك» إلخ وثلث بالأولى مقرعا فقال «فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك» فهو لف ونشر مشوش وقد تقدم ذكره.
3- عودة الى التتميم والكناية:
ثم عاد الى التتميم فصور الاطاحة بالجنتين وبالثمر معا فقال «وأحيط بثمره» ثم وصف حالته فقال «فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها» وتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن كما كنى عن ذلك بعض الأنامل والسقوط في اليد.(5/605)
قصة الرجلين الأخوين:
وهو أن أحد الرجلين اللذين ضرب بهما المثل وقد رويت قصتهما على طرق شتى وخلاصتها أن رجلين أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن: اللهم إن أخي اشترى أرضا بألف دينار وأنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف دينار، فقال المؤمن: اللهم اني أشتري منك دارا في الجنة فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال:
اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال: اللهم إني اشتريت الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقيل غير ذلك وإنما أوردنا القصة على خلاف شرطنا في هذا الكتاب لطرافتها ولتكون نبراسا للمبدعين من الكتاب.
4- المبالغة:
وفي قوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» فن يقال له المبالغة والإفراط في الصفة كما سماها ابن المعتز والتسمية الأولى لقدامة وهو أن يذكر المتكلم حالا لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف عندها حتى يزيد في معنى كلامه ما يكون أبلغ في معنى قصده وقد جاءت المبالغة في الكتاب العزيز على ضروب نذكر ما ورد منها فيه:
أولا- فمنها المبالغة في الصفة المعدولة وقد جاءت على ستة أمثلة:
آ- فعلان كرحمن، عدل عن راحم للمبالغة ولا يوصف به إلا الله ولم تنعت العرب به أحدا في جاهلية ولا إسلام إلا مسيلمة الكذاب(5/606)
نعتوه به مضافا فقالوا رحمان اليمامة وأنشد شاعر من بني حنيفة يمدح به مسيلمة:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
ب- فعّال معدول عن فاعل للمبالغة كقوله تعالى «وإني لغفار لمن تاب» .
ج- وفعول عدل عن فاعل للمبالغة كغفور وشكور.
د- فعيل عدل عن فاعل للمبالغة كعليم وحكيم.
وهذه الصيغ الأربع وردت في القرآن وهناك صيغتان: مفعل كمطعن ومفعال كمطعام ومبطار.
ثانيا- إخراج الكلام مخرج الاخبار عن الأعظم الأكبر للمبالغة والاخبار عنه مجاز وقد جاء منه في القرآن قوله تعالى «وجاء ربك والملك صفا صفا» فجعل مجيء جلائل آياته مجيئا له للمبالغة.
ثالثا- إخراج الممكن من الشرط إلى الممتنع ليمتنع وقوع المشروط وقد تقدم ذكر هذا النوع في قوله تعالى «ولا يدخلون الجنة حتى بلج الجمل في سم الخياط» .
رابعا- ما كان مجازا فصار بالقرينة حقيقة كقوله تعالى «يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار» فإن قتران هذه الجملة بيكاد يصرفها الى الحقيقة فانقلبت من الامتناع الى الحقيقة والإمكان.(5/607)
خامسا- وقسم أتى بصيغة اسم التفضيل وهو محض الحقيقة من غير قرينة كقوله تعالى «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» وهو الذي نحن في صدده.
سادسا- ما بولغ بصفته على طريق التشبيه كقوله تعالى «إنها نرمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر» .
المبالغة في الشعر:
هذا ما ورد من المبالغة وضروبها في الكتاب العزيز. أما هي في الشعر ففنون تتشعب وأنواع اختلفت مقاييسها ومعاييرها كما اختلفت آراء الناس فيها فمنهم من يستجيدها ويراها الغاية القصوى في الجودة ومنهم نابغة بني ذبيان وهو القائل: «أشعر الناس من استجيد كذبه، وضحك من رديئه» وقد أورد صاحب العمدة مثالا على ذلك ما جرى بين النابغة وحسان بن ثابت ومطالبته حسان بن ثابت بالمبالغة واتهامه بالتقصير في قوله:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وهي مشهورة مستفيضة في كتب الأدب وأورد صاحب العمدة من أبيات المبالغة التي اختلفت الآراء فيها قول امرئ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامى ونشر القطر(5/608)
يعملّ به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر المستحرّ
فوصف فاها بهذه الصفة سحرا عند تغير الأفواه بعد النوم فكيف تظنها أول النوم؟ وفي أول الليل، وقال امرؤ القيس:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عال
وبين المكانين بعد أيام.
وقال أيضا يصف نارها:
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشبّ لقفّال
يقول: نظرت إلى نار هذه المرأة تشب لقفال والنجوم كأنها مصابيح رهبان وانما يرجع القفال من الغزو والغارات وجه الصباح فإذا رأوها من مسافة أيام وجه الصباح وقد خمد سناها وكل موقدها فكيف كانت أول الليل؟ وشبه النجوم بمصابيح الرهبان لأنها في السحر يضعف نورها كما يضعف نور المصابيح الموقدة ليلها أجمع فربما نعسوا في ذلك الوقت.
تعريف آخر للمبالغة:
وذهب قوم الى أن المبالغة افراط في وصف الشيء الممكن عادة القريب وقوعه وسنورد من بديع المبالغة ما يستهوي الألباب فمن ذلك ما رواه أحمد بن حمدون قال: كان الفتح بن خاقان يأنس بي ويطلعني على الخاص من أموره فقال لي مرة: يا أبا عبد الله لما دخلت البارحة الى(5/609)
منزلي استقبلتني جارية من جواريّ فلم أتمالك دون أن قبلتها فوجدت بين شفتيها هواء لو رقد فيه المخمور صحا فكان ذلك مما يستظرف ويستملح من الفتح بن خاقان وقد اقتبسه بعضهم فقال:
سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه ... فأنحلته حتى الصباح عناقا
بطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
وذهب أبو تمام في المبالغة مذهبا عجيبا فقال وأبدع متغزلا:
تلقّاه طيفي في الكرى فتجنّبا ... وقبلت يوما ظله فتغضّبا
وخبر أني قد مررت ببابه ... لأخلس منه نظرة فتحجّبا
ولو مرت الريح الصبا عند أذنه ... بذكري لسب الريح أو لتعتّبا
ولم تجرمني خطرة بضميره ... فتظهر إلا كنت فيه مسببا
وما زاده عندي قبيح فعاله ... ولا الصدّ والإعراض إلا تحببا
وله أيضا:
قد قصرنا دونك الأبصار خوفا أن تذوبا
كلما زدناك لحظا ... زدتنا حسنا وطيبا
مرضت ألحاظ عينيك فأمرضت القلوبا
الفوائد:
1- كلا وكلتا:
كلا وكلتا لفظان يعربان إعراب المثنى إن أضيفا الى الضمير فإن(5/610)
أضيفا إلى الاسم الظاهر أعربا إعراب الاسم المقصور أي بحركات مقدرة على الألف على كل حال وهما اسمان ملازمان للاضافة ولفظهما مفرد ومعناهما مثنى ولذلك يجوز الإخبار عنهما بما يحمل ضمير المفرد باعتبار لفظهما وضمير المثنى باعتبار معناهما وقد اجتمعا في قول الشاعر:
كلاهما حين جدّ الجري بينهما ... قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
إلا أن اعتبار اللفظ أكثر وبه جاء القرآن الكريم قال تعالى:
«كلتا الجنتين آتت أكلها» قال ابن هشام في مغني اللبيب: «وقد سئلت قديما عن قول القائل: زيد وعمر كلاهما قائم أو كلاهما قائمان فكتبت إن قدر كلاهما توكيد قيل قائمان لأنه خبر عن زيد وعمرو وإن قدر مبتدأ فالوجهان، والمختار الافراد ويتعين مراعاة اللفظ في نحو:
كلاهما محب لصاحبه لأن معناه كل واحد منهما وقوله:
كلانا غني عن أخيه حياته ... ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا
ومن الأبيات التي أتى فيها ذكر «كلتا» قول حسان بن ثابت:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت، قتلت، فهاتها لم تقتل
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
أخبر عن التي بالمفرد فوحد ثم قال كلتاهما فثنى، وما معنى كلتاهما حلب العصير ولم يذكر إلا خمرة واحدة وأخبر عن كلتاهما بأرخاهما والصحيح الإخبار عنهما بمفرد لأنهم لحنوا من قال: كلا الرجلين قاما وكلتا المرأتين حضرتا على اللغة الفصيحة ويدل على ذلك(5/611)
قوله تعالى «كلتا الجنتين آتت أكلها» وأيضا فالرواية صحت في المفصل انه بكسر الميم وفتح الصاد وانما يقال مفصل بفتح الميم وكسر الصاد.
وأجاب الحريري وغيره عن هذه الاعتراضات بأن قال: أما قوله:
ان التي ناولتني فرددتها قتلت فانه خاطب به الساقي الذي كان ناوله كأسا ممزوجة لأنه يقال: قتلت الخمرة إذا مزجتها فكأنه أراد أن يعلمه أنه فطن لما فعله ثم انه دعا عليه بقوله: قتلت وقوله أرخاهما للمفصل يعني به اللسان وسمي مفصلا لأنه يفصل به بين الحق والباطل.
وقال أبو بكر محمد بن القاسم الانباري: اجتمع قوم على شراب فغناهم المغني البيتين المتقدمين فقال بعضهم امرأتي طالق إن لم أسأل الليلة القاضي عبيد الله بن الحسن عن علة هذا الشعر لم قال إن التي فوحّد ثم قال كلتاهما فثنّى فأشفقوا على صاحبهم وتركوا ما كانوا عليه ومضوا يتخطون القبائل حتى انتهوا الى بني شقرة وعبيد الله يصلي فلما أتم صلاته شرحوا له وسألوه الجواب عن ذلك فقال لهم: إن التي عنى بها الخمر الممزوجة بالماء ثم قال من بعد: كلتاهما حلب العصير يريد الخمر المتحلبة من العنب، والماء المتحلب من السحاب المكنى عنه بالمعصرات في قوله تعالى: «وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا» .
2- الحال الثابتة:
الأصل في الحال أن تكون منتقلة لأنها مأخوذة من التحول وهو التنقل وتقع ثابتة في مواضع يرجع إليها في المطولات ومنها أن يدل عاملها على تجدد ذات صاحبها وحدوثه أو تجدد صفة له: نحو «ثم سوّاك رجلا» إذ كان من الجائز أن يسويه غير رجل وقولهم خلق الله(5/612)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
الزرافة يديها أطول من رجليها فيديها بدل من الزرافة بدل بعض من كل وأطول حال ملازمة من يديها ومن رجليها متعلقان بأطول لأنه اسم تفضيل وعامل الحال خلق وهو يدل على تجدد المخلوق.
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 51]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)(5/613)
اللغة:
(هَشِيماً) : يابسا متفرق الأجزاء وقال الزمخشري الهشيم:
ما تهشم وتحطم الواحدة هشيمة، وقال ابن قتيبة: كل ما كان رطبا ويبس فهو هشيم، ويقال صارت الأرض هشيما أي صار ما عليها من النبات والشجر قد يبس وتكسّر وللهاء مع الشين فاء وعينا خاصة التكسر والتحطيم والرخاوة وكل ما هو غير مقاوم فالهش الرخو اللين من كل شيء وخبزة هشة: رخوة المكسر ويقال فلان هشّ المكسر أي سهل الجانب فيما يطلب عنده من الحوائج يكون ذلك مدحا وذما والهشيش كالهشيم وهشر الناقة حلب ما في ضرعها أجمع وشجرة هشرة وهشور: يسقط ورقها سريعا والهيشر من الرجال الرخو الضعيف الطويل والهشم من الجبال الرخوة وتهشمت الأرض أجدبت لانقطاع المطر عنها.
(تَذْرُوهُ) : تفرقه وتنثره وذرت الريح التراب وأذرت العين دمعها وعيناه تذريان الدموع وطعنته فأذريته عن فرسه وأذراه الفرس عن ظهره رمى به وذرا حدّ نابه: انسحقت أسنانه وسقطت أعاليها، وبلغني عنه ذرو من قول أي طرف منه وأخذ في ذرو من الحديث إذا عرّض ولم يصرح قال صخر بن حبناء:
أتاني عن مغيرة ذرو قول ... وعن عيسى فقلت له كذاك(5/614)
(نُغادِرْ) : نترك يقال غادر وأغدره إذا تركه ومنه الغدر ترك الوفاء والغدير ما غادره السيل والغديرة الشعر الذي نزل حتى طال والجمع غدائر.
الإعراب:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) الواو استئنافية واضرب فعل أمر ولهم متعلقان باضرب ومثل الحياة الدنيا مفعول به أول والكاف مفعول به ثاني وجملة أنزلناه من السماء صفة لماء ويجوز أن تكون اضرب بمعنى اذكر فينصب مفعولا واحدا فتكون الكاف خبرا لمبتدأ محذوف أو متعلقة بمعنى المصدر أي ضربا كماء.
(فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) الفاء حرف عطف واختلط فعل ماض وبه متعلقان باختلط ونبات الأرض فاعل وسيأتي سر هذا التشبيه في في باب البلاغة. (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) فأصبح عطف على اختلط واسم أصبح مستتر يعود على نبات الأرض وهشيما خبر أصبح وجملة تذروه الرياح صفة لقوله هشيما وكان الواو استئنافية أو حالية وكان واسمها ومقتدرا خبرها وعلى كل شيء متعلقان بمقتدرا. (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) المال مبتدأ والبنون عطف على المال وزينة الحياة مضاف اليه والدنيا صفة.
(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا) الواو استئنافية والباقيات مبتدأ والصالحات صفة وخير خبر الباقيات والتفضيل ليس على بابه لأن زينة الدنيا ليس فيها خير أو هو على بابه في زعم الجاهلين والمغرورين وعند ربك متعلقان بمحذوف حال وثوابا تمييز وخير أملا عطف على خير ثوابا. (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ(5/615)
بارِزَةً)
الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة نسير مضاف إليها الظرف والفاعل مستتر تقديره نحن والجبال مفعول به وترى الأرض عطف على ما تقدم وفاعل ترى مستتر تقديره أنت والأرض مفعول به وبارزة حال لأن الرؤية بصرية. (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) الواو هنا للحال وحشرناهم فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب حال أي نفعل التسيير في حال حشرهم ليشاهدوا بأعينهم تلك الأهوال أو الواو عاطفة وأريد بالماضي المستقبل أي ونحشرهم ومن المفيد أن نورد هنا ما قاله الزمخشري بهذا الصدد وهو: «فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى قلت للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال العظام» فلم الفاء حرف عطف ولم حرف نفي وقلب وجزم ونغادر فعل مضارع مجزوم بلم وفاعله مستتر تقديره نحن ومنهم حال لأنه كان صفة لأحدا وأحدا مفعول بهَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا)
الواو عاطفة على وحشرناهم داخلة في حيزها وعرضوا فعل ماضي مبني للمجهول والواو نائب فاعل وعلى ربك متعلقان بعرضوا وصفا حال من الواو في وعرضوا. َقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)
اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئتمونا فعل وفاعل ومفعول به، وكما نعت لمصدر محذوف أو حال، وخلقناكم فعل وفاعل ومفعول به والجملة لا محل لها وأول مرة نصب على الظرف متعلق بخلقناكم وجملة لقد جئتمونا حالية أو مقول لقول محذوف.
َلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً)
بل حرف إضراب وزعمتم فعل وفاعل وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولن حرف نفي ونصب واستقبال ونجعل مضارع منصوب بلن وفاعله مستتر تقديره نحن والجملة خبر أن ولكم مفعول به ثان وموعدا مفعول به أول لنجعل وموعدا يحتمل الزمان والمكان وإذا كان الجعل مجرد الإيجاد كانت لكم متعلقة به وموعدا هي المفعول به. (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ(5/616)
مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)
الواو عاطفة ووضع فعل ماض مبني للمجهول والكتاب نائب فاعل فترى الفاء عاطفة وترى فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره أنت والمجرمين مفعول به أول ومشفقين مفعول به ثان والرؤية هنا علمية ولك أن تجعلها بصرية فتكون مشفقين حالا ومما متعلقان بمشفقين وفيه متعلقان بمحذوف صلة الموصول.
(وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) ويقولون عطف ويا حرف نداء وويلتنا منادى ينادون هلكتهم التي هلكوها وسيأتي مزيد بيان لهذا النداء في باب البلاغة وما اسم استفهام مبتدأ ولهذا خبره والكتاب بدل وجملة لا يغادر حالية وصغيرة مفعول به ولا كبيرة عطف على صغيرة وإلا أداة حصر وجملة أحصاها صفة لصغيرة ويجوز أن تكون مفعولا ثانية ليغادر لأنها بمعنى ترك وهي تنصب مفعولين والمراد بالاستفهام هنا مجرد التعجب من الكتاب في هذا الإحصاء الدقيق. (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الواو عاطفة ووجدوا فعل وفاعل وما مفعول به وجملة عملوا صلة أو ما مصدرية والمصدر المؤول مفعول به أي وجدوا عملهم وحاضرا مفعول به ثان ولا يظلم الواو حالية ولا نافية ويظلم ربك أحدا فعل وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب على الحال.
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وجملة قلنا مضافة للظرف وللملائكة متعلقان بقلنا واسجدوا فعل أمر وفاعل ولآدم متعلقان باسجدوا فسجدوا فعل وفاعل وإلا أداة استثناء وإبليس مستثنى والاستثناء منقطع وقيل متصل وقد تقدم تقرير ذلك. (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الجملة مستأنفة مسوقة لبيان التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأنه جواب سؤال مقدر وهو لم لم يسجد فقيل: كان، واسم كان مستتر(5/617)
تقديره هو يعود على إبليس ومن الجن خبر ففسق عطف على كان وعن أمر ربه متعلقان بفسق (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) الهمزة للاستفهام الانكاري التعجبي وتتخذونه فعل مضارع وفاعل ومفعول به وذريته يجوز أن تكون الواو عاطفة وذريته عطف على الهاء ويجوز أن تكون بمعنى مع وذريته مفعول معه وأولياء مفعول به ثان ومن دوني متعلقان بمحذوف صفة لأولياء أو بتتخذونه وهم الواو للحال وهم مبتدأ ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبرهم والجملة حال من مفعول تتخذونه أو فاعله وبئس فعل ماض جامد لإنشاء الذم وفاعله مضمر مفسر بنكرة وللظالمين متعلقان ببدلا وبدلا تمييز ويجوز أن يتعلق للظالمين بمحذوف حال والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس البدل إبليس وذريته. (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ما نافية وأشهدتهم فعل وفاعل ومفعول به وخلق السموات والأرض مفعول به ثان ولا خلق أنفسهم عطف على خلق السموات والأرض. (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) الواو عاطفة وما نافية وكنت كان واسمها ومتخذ خبرها والمضلين مضاف اليه وفيه وضع الظاهر موضع المضمر وعضدا مفعول به ثان لمتخذ وسيأتي الكلام عن هذا التشبيه في باب البلاغة.
البلاغة:
1- في قوله تعالى «واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض» الى آخر الآية تشبيه تمثيلي مقلوب أما التشبيه التمثيلي فهو تشبيه الحياة الدنيا وما فيها من زخارف(5/618)
تعجب المتلهي برؤيتها والمستمتع بزينتها حتى إذا أفاق من عمايته وجد أن ما كان يتلهى ويستمتع به باطل لا حقيقة، بالنبات الذي اختلط به الماء الهاطل من السماء فربا والتف، وزهاورف، وأنبت من كل زوج بهيج ولم تكد العين تستمتع به والنفس تنشرح بمنظره حتى يبس وتصوّح ثم جف وذبل ثم أصبح هشيما تذروه الرياح فكأنه ما كان، وأما التشبيه المقلوب فقد كان من حق الكلام أن يقول فاختلط بنبات الأرض ووجهه أنه لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته وبعبارة أوضح لما كان الاختلاط عبارة عن شيئين متداخلين صدق على كل منهما أنه مختلط ومختلط به لكن في عرف اللغة والاستعمال تدخل الباء على الكثير غير الطارئ فلذا جعل هذا من القلب، ولما كان القلب مقبولا إذا كان فيه نكتة وهي أن كلا منهما مختلط ومختلط به وهي المبالغة في كثرة حتى كأنه الأصل الكثير فالمراد بالعكس مما قدمناه آنفا هو القلب وهذا من الممتع الرائع فاعرفه.
2- الاستعارة المكنية في قوله «يا ويلتنا» نداء الويلة قائم على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل: يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك.
3- التشبيه البليغ في قوله «وما كنتت متخذ المضلين عضدا» فقد شبه المضلين بالعضد الذي يتقوى به الإنسان وأصله العضو الذي هو المرفق الى الكتف ولم يذكر الأداة وقد جعله بعضهم استعارة وهو خطأ لوجود ركني التشبيه وهما المشبه والمشبه به.
4- استعمال العام في النفي والخاص في الإثبات: وذلك في قوله تعالى: «ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها» فإن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة(5/619)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
فينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأولى أن لا يغادر كبيرة وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرة لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة فينبغي القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة.
5- وفي قوله تعالى «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» فن الجمع وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين أو أكثر في حكم واحد وهو واضح في الآية ومنه في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها. فجمع الأمن ومعافاة البدن وقوت اليوم في حوز الدنيا بحذافيرها وهي النواحي والواحد حذفار ومنه في الشعر قول أبي العتاهية:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أيّ مفسده
وقول ابن خفاجة الأندلسي:
تعلقته ريان من خمر ريقه ... له رشفها دوني ولي دونه السكر
وطبنا معا ثغرا وشعرا كأنما ... له منطقي ثغر له ولي ثغره شعر
[سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 59]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)(5/620)
اللغة:
(مَوْبِقاً) : اسم مكان أو مصدر ميمي من وبق يبق وبوقا كوثب يثب وثوبا أو وبق يوبق وبقا كفرح يفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار، وفي القاموس وغيره: وبق يبق من باب ضرب يضرب ووبق يبق من باب علم يعلم ووبق يوبق وبقا ووبوقا(5/621)
وموبقا واستوبق هلك فهو وبق والموبق المهلك والموعد والمحبس وكل شيء حال بين شيئين وعن الحسن: موبقا عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها هلاك وقال الفراء: البين الوصل أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.
(مَصْرِفاً) : اسم مكان أو زمان وقال أبو البقاء أي انصرافا فهي مصدر ميمي وفي الكشاف مصرفا: معدلا قال:
أزهير هل عن شيبة من مصرف (جَدَلًا) : خصومة في الباطل قال الفرزدق:
ما أنت بالحكم الترضي حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
(قُبُلًا) : عيانا ومقابلة وفي القاموس: «رأيته قبلا وقبلا وقبلا وقبلا وقبلا وقبيلا وقبليا أي عيانا ومقابلة.
قال الفراء: إن قبلا جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا وقيل:
عيانا وقيل فجأة.
(لِيُدْحِضُوا) : ليبطلوا ويزيلوا من ادحاض القدم وهو إزلاقها وإزالتها عن موطئها وفي المختار: دحضت حجته بطلت وبابه خضع وأدحضها الله ودحضت رجله زلقت وبابه قطع والإدحاض الإزلاق» .
(مَوْئِلًا) : منجى وملجأ والأصل المرجع من وأل يئل وألا وءولا إذا لجأ اليه وهو هنا مصدر ميمي وفي المصباح: وأل الى الله(5/622)
يئل من باب وعد التجأ وباسم الفاعل سمي ومنه وائل بن حجر وهو صحابي وسحبان بن وائل ووأل رجع والى الله الموئل أي المرجع.
الإعراب:
(وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) الظرف متعلق بمحذوف تقديره أذكر وجملة يقول مضاف إليها الظرف ونادوا فعل أمر وفاعل وشركائي مفعول به والذين نعت وجملة زعمتم صلة والعائد محذوف أي زعمتموهم شركاء كما حذف المفعول الثاني لزعمتم أيضا. (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) إما أن تعطف الجملة على محذوف مقدر أي فبادروا الى آلهتهم فدعوهم وإما أن تقدر الماضي بمعنى المستقبل ودعوهم فعل وفاعل ومفعول به فلم الفاء عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم ويستجيبوا مضارع مجزوم بلم والواو فاعل ولهم متعلقان بيستجيبوا وجعلنا فعل وفاعل وبينهم الظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني وموبقا هو المفعول الأول والمعنى صيرنا بين الأوثان وعابديها مكانا يجتمعون فيه ليهلكوا معا. (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها) ورأى المجرمون النار فعل وفاعل ومفعول به فظنوا الفاء عاطفة وظنوا فعل وفاعل وإن واسمها وخبرها وسدت مسد مفعولي ظنوا أي تراءت لهم من مكان بعيد فأيقنوا أنهم واقعون فيها والظن هنا معناه اليقين لأن ذلك الحين ليس حين شك.
(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) الواو عاطفة ولم يجدوا عطف على ظنوا وعنها متعلقان بمصرفا لأنه اسم مكان أو زمان مشتق أو مصدر ميمي بمعنى انصرافا ومصرفا مفعول به. (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق(5/623)
وصرفنا فعل وفاعل وفي هذا متعلقان بصرفنا والقرآن بدل من هذا وللناس متعلقان بصرفنا أيضا ومن كل صفة لموصوف محذوف هو مفعول صرفنا أي معنى غريبا بديعا يشبه المثل بغرابته وطرافته ومثل مضاف اليه. (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) الواو عاطفة أو حالية وكان الإنسان كان واسمها وأكثر شيء خبرها وجدلا تمييز يعني الإنسان أكثر المخلوقات الحية مجادلة ولجاجا باطلا (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) الواو عاطفة وما نافية ومنع فعل ماض والناس مفعول به مقدم وأن يؤمنوا مصدر مؤول في موضع المفعول الثاني لمنع وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بيؤمنوا وجملة جاءهم الهدى مضاف إليها الظرف. (وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا) ويستغفروا عطف على يؤمنوا والواو فاعل وربهم مفعول به وإلا أداة حضر وأن وما في حيزها فاعل منع وتأتيهم فعل مضارع ومفعول به مقدم وسنة الأولين فاعل مؤخر وأو حرف عطف ويأتيهم العذاب عطف على تأتيهم سنة الأولين وقبلا حال من الضمير أو العذاب ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل أن تأتيهم سنة الأولين تقديره انتظار الإتيان قالوا: «إنما احتيج الى تقدير المضاف إذ لا يمكن جعل إتيان سنة الأولين مانعا من إيمانهم فإن المانع يقارن الممنوع وإتيان العذاب متأخر عن إيمانهم بمدة طويلة» . (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) الواو عاطفة وما نافية ونرسل المرسلين فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وإلا أداة حصر ومبشرين حال ومنذرين عطف.
(وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) يجادل فعل مضارع والذين فاعل وكفروا صلة وبالباطل متعلقان بيجادل وليدحضوا اللام للتعليل ويدحضوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وبه متعلقان بيدحضوا والحق مفعول به. (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا(5/624)
هُزُواً)
الواو حالية أو استئنافية واتخذوا فعل وفاعل وآياتي مفعول به والواو حرف عطف وما اسم موصول معطوف على آياتي وجملة أنذروا صلة، ويجوز جعل ما مصدرية والمصدر معطوف على آياتي، وهزوا مفعول به ثان. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) الواو استئنافية ومن اسم استفهام معناه النفي في محل رفع مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة ذكر صلة وبآيات ربه متعلقان بذكر فأعرض عطف على ذكر وفاعله مستتر تقديره هو وعنها متعلقان بأعرض ونسي عطف على ما تقدم وما مفعول به وجملة قدمت صلة ويداه فاعل. (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) ان واسمها وجملة جعلنا خبرها وعلى قلوبهم في محل نصب مفعول به ثان لجعلنا وأكنة مفعول به أول وأن يفقهوه المصدر في محل نصب مفعول لأجله وفي آذانهم وقرا عطف على معمولي جعلنا. (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) الواو حرف عطف وأن شرطية وتدعهم فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به والى الهدى متعلقان بتدعهم فلن الفاء رابطة ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويهتدوا نصب بلن والواو فاعل واذن حرف جواب وجزاء وأبدا ظرف متعلق بيهتدوا. (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) وربك الواو استئنافية وربك مبتدأ والغفور خبر وذو الرحمة خبر ثان ولو شرطية ويؤاخذهم فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به وبما متعلقان بيؤاخذهم وجملة كسبوا صلة واللام رابطة وعجل فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ولهم متعلقان بعجل والعذاب مفعول به. (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) بل حرف إضراب ولهم خبر مقدم وموعد مبتدأ مؤخر ولن حرف نفي ونصب واستقبال ويجدوا فعل مضارع منصوب بلن ومن دونه متعلقان بمحذوف حال وموئلا مفعول به. (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا)(5/625)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
تلك مبتدأ أو منصوب على الاشتغال والقرى بدل وجملة أهلكناهم خبر والمراد أهل القرى ويجوز إعراب القرى خبرا وجملة أهلكناهم إما حال وإما خبر ثان، ولما ظرف بمعنى حين متعلق بأهلكناهم وجملة ظلموا مضافة للما. (وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) وجعلنا فعل وفاعل ولمهلكهم حال أو متعلقان بموعدا وموعدا مفعول به. ومهلكهم مصدر ميمي مضاف إلى الفاعل إن كان لازما أو مضاف الى المفعول إن كان متعديا.
البلاغة:
في قوله تعالى «أو يأتيهم العذاب قبلا» اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وقد أوردنا في باب اللغة معاني القبل وقد صنّف فيه أبو العباس محمد بن يزيد المبرد وأبو العمثيل الاعرابي الذي صنف كتابا مأثورا عنه وهو مجرد حصر للألفاظ التي قد يتعدد مدلولها دون التزام منه لترتيب ما في سوق الكلمات وبدون تعليل أو محاولة لإيجاد أية صلة بين المعاني المختلفة إذ يقول: «القبل على سبعة أوجه: القبل في العين والقبل النشز من الأرض يستقبلك تقول رأيت شخصا بذلك القبل والقبل أن ترى الهلال قبلا فكان صغيرا والقبل أن يتكلم الرجل بكلام لم يكن استعدّ له يقال تكلم فلان قبلا والقبل أن يورد الرجل إبله الماء ثم يستقي ويصب عليها فيقال سقاها قبلا والقبل شيء شبيه بالصوف يعلق في أعناق الصبيان والقبل طي البئر في أعلاها» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 63]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63)(5/626)
اللغة:
(مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) : ملتقى البحرين وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر وقد اختلفت أقوال المفسرين فيه، فقيل ملتقى بحر الروم وبحر فارس، وقيل غير ذلك مما يرجع اليه في المطولات.
(حُقُباً) : زمنا طويلا والحقب ثمانون سنة وفي القاموس الحقب بضم الحاء والقاف ثمانون سنة أو أكثر، والدهر والسنون ويجمع على أحقاب وحقاب وقيل الحقب بضم الحاء وسكون القاف، ويجمع على حقاب وفي المصباح: الحقب الدهر والجمع أحقاب مثل فقل وأقفال وضم القاف للاتباع لغة ويقال الحقب ثمانون عاما والحقبة بمعنى المدة والجمع حقب مثل سدرة وقيل الحقبة مثل الحقب» .
(سَرَباً) أي مثل السرب وهو الشق الطويل لا نفاذ له وفي معاجم اللغة السّرب بفتحتين الحفير تحت الأرض والقناة يدخل منها الماء ويقال طريق سرب أي يتتابع فيه الناس.
(غَداءَنا) : هو ما يؤكل أول النهار.(5/627)
الإعراب:
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في قصة التقاء موسى والخضر وما تخلل ذلك من أعاجيب وسنأتي على تفاصيلها في باب الفوائد والظرف متعلق بمحذوف تقديره اذكر وقال موسى الجملة في محل جر بإضافة الظرف إليها ولفتاه متعلقان بقال ولا نافية وأبرح فعل مضارع ناقص واسمها مستتر تقديره أنا والخبر محذوف تقديره أسير ويحتمل أنها تامة فلا تستدعي خبرا بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه وحتى حرف غاية وجر وأبلغ منصوب بأن مضمرة بعد حتى ومجمع البحرين مفعول به وأو حرف عطف وأمضي معطوف على أبلغ وحقبا ظرف زمان متعلق بأمضي واختار أبو البقاء وغيره أن تكون بمعنى الى وأبلغ منصوب بأن مضمرة بعدها وما أحسبه صحيحا. (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) الفاء عاطفة ولما ظرف بمعنى حين وجملة بلغا في محل جر بإضافة الظرف إليها والألف فاعل ومجمع مفعول به وبينهما ظرف أضيف الى مجمع أي بين البحرين وجملة نسيا لا محل لها لأنها جواب لما وحوتهما مفعول به فاتخذوا الفاء عاطفة واتخذ فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي الحوت وسبيله مفعول به وسربا مفعول به ثان وفي البحر متعلقان بمحذوف حال، وفي الكلام تقديم وتأخير لأن اتخاذ الحوت سبيله في البحر قبل النسيان. (فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية وجملة جاوزا مضاف إليها الظرف والمفعول محذوف أي الموعد وهو الصخرة وجملة قال لفتاه لا محل لها وجملة آتنا غداءنا مقول القول وغداءنا مفعول به ثان لآتنا.(5/628)
(لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) اللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ولقينا فعل وفاعل ومن سفرنا متعلقان بلقينا وهذا صفة لسفرنا أو بدل منه ونصبا مفعول به للقينا. (قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ) أرأيت تقدم الكلام عليها مطولا وانها بمعنى أخبرني ومفعولا أرأيت محذوفان اختصارا أي رأيت أمرنا ما عاقبته وهذا أسلوب معهود في الكلام المتداول بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا ألمّ به خطب أرأيت ما نابني فالظرف متعلق بهذا المحذوف أي بنابني وسيأتي مزيد من بحث هذه الرؤية في باب البلاغة وجملة أوينا مضاف إليها الظرف والى الصخرة متعلقان بأوينا. (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) الفاء لتعليل الدهشة التي اعترتهما مما نابهما وان واسمها وجملة نسيت الحوت خبرها والواو اعتراضية والجملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وما نافية وأنسانيه فعل ماض والنون للوقاية والياء مفعول به أول والهاء مفعول به ثان وإلا أداة حصر والشيطان فاعل أنسانيه وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الهاء أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان. (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) الواو عاطفة واتخذ فعل ماض معطوف على نسيت وفاعله مستتر تقديره هو أي الحوت وسبيله مفعول به أول وفي البحر حال وعجبا مفعول به ثان لاتخذ أو مفعول مطلق لفعل محذوف وفي البحر هو المفعول الثاني أي قال موسى عجبت عجبا: حوت يؤكل دهرا ثم يصير حيا بعد ما أكل بعضا.
البلاغة:
في قوله «أرأيت» الرؤية هنا مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة وهي استعارة تصريحية تبعية لأنها أجريت في فعل وقد حذف(5/629)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
المشبه وأقيم المشبه به مقامه والاستفهام في أرأيت للتعجب كأنه يحاول إثارة العجب في نفس موسى مما رأى من المعاجز التي لا تدور في الخلد، ويكاد لا يصدقها العقل مما يمكن الرجوع اليه في التفاسير المطولة والروايات المنقولة مما يخرج بنا عن نطاق الكتاب وسنكتفي بسرد قصة لقاء موسى والخضر معتمدين على نص الحديث والتحليل المنطقي المعقول تاركين المجال لأصحاب المواهب القصصية عسى أن ينسجوا على منوال الكاتب القاص توفيق الحكيم.
[سورة الكهف (18) : الآيات 64 الى 70]
قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68)
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)
الإعراب:
(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) ذلك مبتدأ وما خبر وجملة كنا صلة وكان واسمها وجملة نبغي خبرها وجملة ذلك إلخ مقول القول وفي المصحف تحذف ياء نبغي لأنها من ياءات الزوائد. (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما(5/630)
قَصَصاً)
الفاء عاطفة وارتدا فعل وفاعل وعلى آثارهما متعلقان بمحذوف حال أي رجعا أدراجهما، وقصصا مفعول مطلق لفعل محذوف أي يقصان قصصا ويتبعان آثارهما اتباعا، ولك أن تجعلها حالا أي فارتدا على آثارهما مقتصّين. (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) الفاء عاطفة ووجدا عبدا فعل وفاعل ومفعول به ومن عبادنا صفة لعبد وجملة آتيناه صفة ثانية ورحمة مفعول به ثان ومن عندنا صفة لرحمة وعلمناه فعل وفاعل ومفعول به ومن لدنا حال لأنه كان صفة لعلما وتقدم عليه وعلما مفعول به ثان لعلمناه ولو كان مفعولا مطلقا لكان تعليما لأن فعله على فعّل بالتشديد وقياس مصدره التفعيل. (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) قال فعل ماض وله متعلقان به وموسى فاعل وهل حرف استفهام واتبعك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، على أن تعلمني أن وما في حيزها في محل جر بعلى والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من الكاف في هل اتبعك أي هل اتبعك حال كونك معلما لي ومما متعلقان بتعلمني وجملة علمت صلة ورشدا مفعول ثان لتعلمني لأن الياء هي المفعول الأول ويجوز أن تعرب رشدا مفعولا لأجله أي لأجل الرشاد أو مصدر في موضع نصب على الحال. (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) جملة إنك مقول القول وان واسمها ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتستطيع منصوب بلن ومعي ظرف مكان متعلق بمحذوف أي حال كونك معي وصبرا مفعول به. (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) وكيف الواو عاطفة وكيف اسم استفهام في محل نصب حال وتصبر فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وعلى ما متعلقان بتصبر وجملة لم تحط صلة وبه متعلقان بتحط وخبرا مفعول مطلق لتحط في المعنى لأن لم تحط بمعنى لم تخبر وأعربها الزمخشري تمييزا(5/631)
محولا عن الفاعل أي لم يحط به خبرك وليس ببعيد. (قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ستجدني السين حرف استقبال وتجدني فعل مضارع مرفوع والنون للوقاية وفاعله مستتر تقديره أنت والياء ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول وإن شاء الله جملة معترضة وصابرا مفعول به ثان لتجدني وقد ذكر الرحمة احتراسا لما يأتي من قوله «حتى إذا لقيا غلاما فقتله» ، وقتله للغلام يوهم اتصافه بالغلظة والجفاء، وجملة ولا أعصي لك أمرا معطوفة على صابرا فهي في محل نصب أو معطوفة على ستجدني فلا محل لها من الإعراب ولك متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لأمرا وإنما قيد موسى بالمشيئة لعلمه بشدة الأمر وصعوبته وان الحمية قد تعترضه عند ما يرى أمرا مغايرا وسيأتي تفصيل ذلك في حينه. (قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) الفاء عاطفة وإن شرطية واتبعتني فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط والفاء رابطة ولا ناهية وتسألني مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والياء مفعول به وعن شيء متعلقان بتسألني وحتى حرف غاية وجر وأحدث فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى ولك متعلقان بأحدث ومنه حال وذكرا مفعول به ولا بد من تقدير صفة محذوفة بعد شيء أي شيء خفي عليك سره وغبي أمره.
الفوائد:
1- عند ولدن:
لدن وهي بمعنى عند فتكون اسما لزمان الحضور ومكانه كما أن عند كذلك إلا أن لدن تختص بستة أمور:(5/632)
1- انها ملازمة لمبدأ الغايات الزمانية والمكانية وعند غير ملازمة فمن ثم يتعاقبان في نحو جئت من عنده من لدنه وفي الآية الكريمة وقد لا يتعاقبان في نحو جلست عنده لعدم معنى الابتداء هنا وانما ترك التعاقب في الآية تفاديا لتكرار النظم.
2- ان الغالب في لدن استعمالها مجرورة بمن ونصبها قليل وجر عند بمن دون جر لدن في الكثرة.
3- انها مبنية على السكون بخلاف عند فانها معربة دائما.
4- جواز إضافتها الى الجمل كقول القطامي:
صريع غوان راقهن ورقنه ... لدن شبّ حتى شاب سود الذوائب
5- جواز إفرادها قبل غدوة كقوله:
وما زال مهري مزجر الكلب فيهم ... لدن غدوة حتى دنت لغروب
بنصب غدوة على التمييز أو على التشبيه بالمفعول به. وبجرها على القياس.
6- انها لا تقع إلا فضلة بخلاف عند فانها قد تقع عمدة.
وقال بعضهم: إن عند في لسان العرب لما ظهر ولدن لما بطن فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعا بأنه خاص.(5/633)
2- حديث النبي عن الخضر:
وقد آن أن نورد لك الحديث البليغ الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن الخضر والحديث الآخر الذي تحدث به عن لقاء موسى والخضر:
الحديث الأول: روي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدثكم عن الخضر؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: بينما هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب فقال: تصدق عليّ بارك الله فيك، فقال الخضر: آمنت بالله ما شاء من أمر يكون ما عندي شيء أعطيكه فقال المسكين: أسألك بوجه الله لما تصدقت عليّ، فإني نظرت السماحة في وجهك، ورجوت البركة عندك فقال الخضر: آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني فقال المسكين: وهل يستقيم هذا؟ قال: نعم، أقول: لقد سألتني بأمر عظيم أما إني لا أخيبك بوجه ربي بعني قال:
فقدمه إلى السوق فباعه بأربعمائة درهم فمكث عند المشتري زمانا لا يستعمله في شيء، فقال: إنما اشتريتني التماس خير عندي فأوصني بعمل، قال: أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ضعيف، قال: ليس يشقّ عليّ، قال: قم فانقل هذه الحجارة وكان لا ينقلها دون ستة نفر في اليوم فخرج الرجل لبعض حاجته ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعة، قال: أحسنت وأجملت وأطقت ما لم أرك تطيقه قال: ثم عرض للرجل سفر فقال: إني أحبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة، قال: وأوصني بعمل، قال: إني أكره أن أشق عليك، قال: ليس يشقّ علي، قال: فاضرب من اللّبن بيتي حتى أقدم عليك، قال:
فمر الرجل لسفره، قال فرجع الرجل وقد شيّد بناءه، قال: أسألك بوجه الله ما سببك؟ وما أمرك؟ قال: سألتني بوجه الله ووجه الله(5/634)
أوقعني في هذه العبودية، فقال الخضر سأخبرك من أنا، أنا الخضر الذي سمعت به سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي شيء أعطيه فسألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي فباعني وأخبرك أنه من سئل بوجه الله فردّ سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة جلدة ولا لحم له يتقعقع، فقال له الرجل: آمنت بالله، شققت عليك يا نبي الله ولم أعلم، قال: لا بأس أحسنت وأتقنت، فقال الرجل: بأبي أنت وأمي يا نبي الله احكم في أهلي ومالي بما شئت أو اختر فأخلّي سبيلك، قال: أحبّ أن تخلّي سبيلي فأعبد ربي، فخلّى سبيله، فقال الخضر الحمد لله الذي أوثقني في العبودية ثم نجاني منها» .
لمحة تحليلية:
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث، عن نبذة طريفة عن الخضر، ومدى إيمانه العميق بالله ورغبته في ثوابه ورهبته من عقابه لتكون بمثابة معالم الصبح لكل مؤمن بما يعتقده حقا وصوابا، لا يبالي ما يتكبده في سبيل ترسيخ ما يعتقده في النفوس كما انطوت النبذة على ميله إلى إجابة السائل الفقير المحتاج ولو ببيع نفسه قال أحدهم:
يجود بالنفس إذ ضنّ الجواد بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
بثّ النوال ولا تمنعك قلته ... فكلّ ما سدّ فقرا فهو محمود
ثم أعطى الخضر نصيحة غالية تصلح للاحتذاء في مختلف ظروف الزمان والمكان، فحذر المسئولين من البخل خشية الوقوف يوم الحساب(5/635)
حفاة عراة وهيئة أجسامهم رثة بالية تضطرب لرداءتها وقذارتها فكأن جسمه جلدة مثل الهيكل فقط يضطرب ويتحرك ولا تستدل عليه إلا بقعقعة خفيفة وأحسب أبا الطيب رمق سماء هذا المعنى حين قال واصفا نحو له:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وانظر بعد ذلك الى أسمى مطلب يجنح اليه العقلاء: «تخلي سبيلي فأعبد ربي» وهذا بمثابة مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لكل انسان ليجود بماله في مشروعات الخير وليثق بالله الرزاق المنفق المخلف، وليتحلى بشيم السخاء والعطاء، وما أجمل قول أبي فراس الحمداني وقد تضمن هذه المعاني السامية كلها كما صور الفتوة أجمل تصوير:
غيري يغيره الفعال الجافي ... ويحول عن شيم الكريم الوافي
إن الغنيّ هو الغنيّ بنفسه ... ولو انه عاري المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا ... وإذا قنعت فكل شيء كاف
وتعاف لي طمع الحريص فتوتي ... ومروءتي وقناعتي وعفافي(5/636)
ومكارمي عدد النجوم ومنزلي ... مأوى الكرام ومنزل الأ
ضياف لا أرتضي ودا إذا هو لم يدم ... عند الجفاء وقلة الانصاف
الحديث الثاني في لقاء موسى والخضر:
ورد في صحيح مسلم: «عن أبي بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قام موسى عليه السلام خطيبا في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، قال: فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب كيف لي به؟ فقيل له:
احمل حوتا في مكتل فحيث تفقد الحوت فهو ثم فانطلق وانطلق معه فتاه وهو يوشع بن نون فحمل موسى عليه السلام حوتا في مكتل وانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة فرأى رجلا مسجى عليه ثوب فسلم عليه موسى فقال له الخضر أنّى بأرضك السلام؟ قال أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وأنا على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه» .
وسيأتي في الآيات الآتية إيضاح أعمالها، هذا ولم يذكر يوشع ابن نون لأنه كان تابعا لموسى فأدرج في مطاوي الحديث عنه، أما أعمالهما فهي:
1- خرق السفينة.
2- قتل الغلام.(5/637)
3- إخراج كنز من جدار.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقصّ علينا من أخبارهما.
لماذا سمي الخضر؟
وقال النووي: «وقد صح في البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء، وجمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا وكان الحوت سمكة مالحة والمكتل: القفة والزنبيل والطاقة وقوله «مسجى مغطى» و «أنى بأرضك السلام» بمعنى كيف أي السلام عجيب بدار الكفر هذه.
التأدب في طلب العلم:
وقال البيضاوي: «ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة (سيدنا موسى) أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليهم فيما بعث به من أصول الدين وفروعه لا مطلقا وقد راعى في ذلك غاية التواضع والأدب فاستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعا له وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله به عليه» .
هل الخضر حيّ؟
هذا وقد زعم كثيرون أن الخضر حي وهذا غير صحيح إذ لا دليل عليه من كتاب منزل أو سنة ثابتة فيجب المصير اليه ولم ينقل عن أحد(5/638)
ممن يوثق به ويعتمد على نقله انه رآه وأخبره انه الخضر صاحب موسى ومثل هذا لا يمكن الركون اليه والتعويل عليه والتصديق به إلا بأحد هذين الطريقين إما الخبر الصادق أو المشاهدة بالبصر وبدون ذلك فالتصديق بوجوده ضرب من الخلط، والعادة المستمرة أن الإنسان لا يعيش مثل هذا العمر الطويل فمن ادعى خلاف العادة في فرد من أفراد هذا النوع طولب بالدليل على ذلك وكل ما استند اليه القائلون بحياة الخضر الى الآن وانه يبقى حيا الى آخر الدنيا أحاديث لم يصح منها شيء عند أهل العلم وحكايات لفقها القصاصون ترويجا لحالهم عند العامة ولذلك أنكر الامام المجتهد أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري وشيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني الحنبلي صحة ذلك وكفى بقولهما على سعة علمهما بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحه وضعيفه حجة لنا فيما ذكرناه على أن القرآن يخالف ما ذهب اليه القائلون بحياته فإن الله جل شأنه قال في محكم كتابه «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» وقال لشرّ خلقه إبليس «انك من المنظرين» في جواب قوله «انظرني إلى يوم يبعثون» فجعل ذلك خصوصية لعدوه إبليس لامتحان خلقه به ولتتم لعنته عليه ولم يجعل ذلك لأحد غيره لا نعمة ولا نقمة فالقائل بغير ذلك غير مصيب فيما قاله والله أعلم.
أما لفظ الخضر فقد ضبطوه بكسر الخاء مع سكون الضاد وبفتح الخاء مع سكون الضاد وكسرها ففيه ثلاث لغات وهذا لقبه وكنيته أبو العباس واسمه بليا، وهو من نسل نوح وكان أبوه من الملوك.(5/639)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
[المجلد السادس]
[تتمة سورة الكهف]
[سورة الكهف (18) : الآيات 71 الى 82]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75)
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80)
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)(6/5)
اللغة:
(إِمْراً) : الإمر العظيم المنكر، قال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة وأنشد:
قد لقي الأقران مني نكرا ... داهية دهيا وأمرا إمرا
ويقال: أمر الإمر أي عظم وتفاقم وهذه المادة اللغوية غريبة تقول الأمر بالفتح: طلب إحداث الشيء وجمعه أوامر والأمر الشأن وجمعه أمور وأولو الأمر أهل الرياسة والعلماء، والإمّر والإمّر الضعيف الرأي، والأمير الآمر، فتتغير معانيها بتغير شكلها.
(تُرْهِقْنِي) : تكلفني وفي المختار: رهقه غشيه وبابه طرب وأرهقا عسرا كلفه إياه.
(زَكِيَّةً) : طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث، وفي القاموس: زكا يزكو زكاء وزكّوا، وزكي يزكى زكى الزرع نما والرجل صلح وتنعم وزكاه الله بالتشديد أنماه وطهّره وأصلحه، وأخا زكاته وزكّى ماله أدّى عنه الزكاة، وزكّى نفسه مدحها.(6/6)
(نُكْراً) : بضم فسكون وبضمتين: المنكر وهو أبلغ من الإمر لأن معه القتل بخلاف خرق السفينة فإنه يمكن تداركه وتلافيه وقيل:
الإمر أبلغ لأن قتل النفس بسبب الخرق أعظم من قتل نفس واحدة.
(يُضَيِّفُوهُما) : يقال ضافه إذا كان له ضيفا وحقيقته من الميل، يقال ضاف السهم عن الغرض وأضافه وضيفه جعله ضيفا وهم ضيوف وأضياف وضيفان، ومن المجاز: أضاف إليه أمرا إذا أسنده إليه واستكفأه وفلان أضيفت اليه الأمور وما هو إلا مضاف أي دعي، ونزلت به مضوفة. قال:
وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمر حتى يبلغ الساق مئزري
الإعراب:
(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) الفاء استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة للشروع في الأمور الثلاثة التي ألمعنا إليها والتي خفيت بواطنها عن موسى وبدت له ظواهرها مستنكرة، ولا بد من تقدير محذوف أي فانطلقا يمشيان ومعهما تابعهما يوشع بن نون وقد اكتفى بذكر المتبوع عن التابع أي على ساحل البحر يطلبان سفينة تقلهما فوجدا سفينة فركباها فأخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي فجعل موسى يعارضه ويقول إلخ. وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة ركبا في السفينة في محل جر بإضافة الظرف إليها، وجملة خرقها جواب إذا وهو فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به. (قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قال- أي موسى- أخرقتها والهمزة للاستفهام الإنكاري،(6/7)
لتغرق اللام للتعليل وتغرق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل وأهلها مفعول به، وسيأتي سر نسيان نفسه في باب البلاغة، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به وإمرا صفة. (قالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وإن واسمها وجملة لن تستطيع معي صبرا خبرها. (قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) لا ناهية وتؤاخذني فعل مضارع مجزوم بلا والنون للوقاية والفاعل مستتر تقديره أنت والياء مفعول به. ومن أمري حال لأنه كان في الأصل صفة لعسرا وعبرا مفعول به ثان لترهقني. (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) فانطلقا الفاء للعطف وانطلقا فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة لقيا مضافة للظرف وهي شرط إذا وغلاما مفعول به، والفاء حرف عطف وقتله عطف على لقيا فهو داخل في حيز فعل الشرط بخلاف قوله «حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» بغير فاء فقد جعله هنا جوابا والعلة في هذه المخالفة، ان خرق السفينة لم يأت عقب الركوب مباشرة أما القتل فقد أتى عقب لقاء الغلام مباشرة، وقال هو جواب إذا، أقتلت: الهمزة للاستفهام الانكاري ونفسا مفعول به وزكية صفة، وبغير نفس: الجار والمجرور في موضع نصب على الحال من الفاعل أو المفعول أي قتلته ظالما أو مظلوما أو متعلق بقتلت، واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به ونكرا صفة. (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) الهمزة للاستفهام التقريري ولم حرف نفي وقلب وجزم وان واسمها وجملة لن تستطيع معي صبرا خبرها، وقد زاد هنا لفظ لك لأن سبب العتاب أكثر وموجبه أقوى وقيل زاد لفظ لك(6/8)
لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه: لك أقول وإياك أعني. (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) إن شرطية وسألتك فعل ماض وفاعل ومفعول به وهو في محل جزم فعل الشرط وعن شيء جار ومجرور متعلقان بسألتك وبعدها ظرف متعلق بمحذوف صفة لشيء، والفاء رابطة لجواب الشرط ولا ناهية وتصاحبني مجزوم بلا والياء مفعول به.
(قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) قد حرف تحقيق وبلغت فعل وفاعل ومن حرف جر ولدن ظرف مبني على السكون في محل جر والجار والمجرور متعلقان ببلغت أو بمحذوف حال وعذرا مفعول به. (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها) الفاء عاطفة وانطلقا فعل وفاعل وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وأتيا فعل وفاعل وأهل مفعول به وقرية مضاف إليه، قيل القرية هي انطاكية ومعنى استطعما أهلها طلبا منهم الطعام على سبيل الضيافة، وجملة استطعما أهلها لا محل لها لأنها جواب إذا، واختار ابن هشام أن تكون صفة لقرية، وكرر الأهل للتأكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر وقد تقدمت شواهده أو للتقصي ليشمل الاستطعام والامتناع من الإكرام جميع أهلها. (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) الفاء عاطفة وأبوا فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أبوا. (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) الفاء عاطفة ووجدا فعل وفاعل وفيها جار ومجرور متعلقان بوجدا وجدارا مفعول به وجملة يريد صفة لجدارا وفي معنى إسناد الإرادة للجدار بحث ممتع يطالعه القارئ في باب البلاغة وأن وما في حيزها مفعول يريد فأقامه الفاء عاطفة وأقامه فعل وفاعل مستتر ومفعول به أي رفعه ورممه وأصلحه. (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) لو حرف شرط غير جازم وشئت فعل وفاعل واللام واقعة في جواب لو واتخذت فعل وفاعل والجملة لا محل لها لأنها جواب لو(6/9)
وعليه متعلقان بمحذوف حال وأجرا مفعول به. (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) هذا مبتدأ والاشارة الى الفراق المترتب على تكرار السؤال وفراق خبر وبيني مضاف إليه وساغت اضافة بين الى غير متعدد لتكرير بين بالعطف بالواو وبينك عطف على بيني. (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) السين حرف استقبال وأنبئك فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبتأويل الباء حرف جر دخل على مضمون المفعولين الثاني والثالث وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد وما اسم موصول مضاف الى تأويل ولم حرف نفي وقلب وجزم وتستطع مضارع مجزوم بلم وصبرا مفعول به وعليه متعلقان بصبرا أي سأنبئك سر ما فعلت في الأمور الثلاثة. (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) أما حرف شرط وتفصيل والسفينة مبتدأ والفاء رابطة وكانت كان واسمها المستتر والتاء تاء التأنيث الساكنة ولمساكين خبر كانت والجملة خبر السفينة وجملة يعملون في البحر صفة لمساكين وفي البحر متعلقان بيعلمون. (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) الفاء عاطفة وأردت فعل وفاعل وأن أعيبها المصدر المؤول مفعول أردت والواو للحال وكان فعل ماض ناقص ووراءهم ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وهو بمعنى أمام ويجوز أن يكون بمعنى خلف وملك اسم كان المؤخر وجملة يؤخذ صفة وكل سفينة مفعول به وغصبا مفعول مطلق مبين لنوع الأخذ ويجوز أن يكون المصدر في موضع نصب على الحال وفي كلام تقديم وتأخير سيأتي سره العجيب في باب البلاغة.
(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) الواو عاطفة وأما حرف شرط وتفصيل والغلام مبتدأ فكان الفاء رابطة وكان واسمها وخبرها فخشينا الفاء عاطفة وخشينا فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول خشينا وطغيانا مفعول به ثان وكفرا عطف على(6/10)
طغيانا وجملة الجواب خبر الغلام وأسند الخشية الى نفسه لأن الله أطلعه على مآل الغلام لو تناهت به المدة وانفسح الأجل، أو لأنه حكى قول الله. (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) فأردنا عطف على خشينا وأردنا فعل وفاعل وأن يبدلهما أن وما في حيزها مفعول يبدلهما وخيرا منه مفعول ثان وزكاة تمييز أي صلاحا وتقى وأقرب رحما عطف على خيرا منه زكاة ورحما تمييز أيضا أي رحمة بوالديه.
قال أبو حيان: وانتصب رحما على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال لأنه في معنى رحمهما وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف. فتأمل.
(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) الجملة معطوفة على ما تقدم والاعراب مماثل وفي المدينة صفة ثانية أو حال. (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) الواو عاطفة وكان فعل ماض ناقص وتحته ظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم وكنز اسمها المؤخر ولهما صفة وكان أبوهما صالحا كان واسمها وخبرها. (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فأراد عطف على ما تقدم وربك فاعل وأن يبلغا مفعول أراد وأشدهما مفعول به وقد تقدم تفسير الأشد ويستخرجا عطف على يبلغا والألف فاعل وكنزهما مفعول به ورحمة من ربك مفعول لأجله أي لولا أني أقمته لانقض وهوى وخرج الكنز من تحته قبل أن يصبحا قادرين على حفظ المال وتنميته واستثماره ولضاع بددا. (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) الواو عاطفة وما نافية وفعلته فعل وفاعل ومفعول به والضمير يعود على مجموع ما ذكر وعن أمري جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي صادرا عن أمري وإنما هو بأمر الله وإلهامه(6/11)
إياي وذلك مبتدأ وتأويل خبر وما مضاف اليه ولم حرف نفي وقلب وجزم وتسطع أي تستطع فحذفت منه تاء الافتعال مجزوم بلم وعليه متعلقان بصبرا وصبرا مفعول به.
البلاغة:
الفنون التي انطوت عليها الآيات الآنفة لا يتسع لها صدر هذا الكتاب إذا نحن حاولنا استجلاء غوامضها واكتناه خوافيها فلنمض في استقصائها جانحين إلى لغة النظر فأولها:
1- نسيان نفسه عند ما قال: «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها»
وهو بين الراكبين وهو جدير بأن ينهمك بأمر نفسه وما هو مقدم عليه من سوء المصير وإنما حمله على المبادرة بالإنكار الالتهاب والحمية للحق فنسي نفسه واشتغل بغيره في الحالة التي يقول فيها كل واحد: نفسي نفسي، ولا يلوي على مال ولا ولد وتلك حالة الغرق تذهل فيها العقول وتغرب الأحلام ويضيع الرشد من الألباب.
2- التورية في قوله «قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ»
أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان لإيهامه بأنه قد نسي ليبسط عذره في الإنكار وبعضهم يسمي هذا النوع من معاريض الكلام، والمعاريض جمع معراض وهو هنا إيهام خلاف المراد لئلا يلزم الكذب وهو فن ظريف من فنونهم ولعله أجمل أنواع التورية التي سبق ذكرها وقد كان المتنبي يجنح إليه في قصائده وخاصة الكافوريات قال:
برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يمان(6/12)
فشبيب هذا خارجي خرج على كافور الإخشيدي وقصد دمشق وحاصرها فيقال أن امرأة ألقت عليه رحى فصرعته فانهزم الذين كانوا معه لما مات، ويقال إنه أكثر من شرب الخمر فحدث به صرع ففي ساعة القتال أتته نوبة الصرع فتركه أصحابه ومضوا فأخذه أهل دمشق وقتلوه وقد كان شبيب هذا من قيس ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب وأخبار ذلك مشهورة والسيف يقال له «يماني» في نسبته الى اليمن ومراد المتنبي من هذا البيت أن شبيبا لما قتل وفارق السيف كفه فكأن الناس قالوا لسيفه أنت يماني وصاحبك قيسي ولهذا جانبه السيف وفارقه وهذه مغالطة حسنة.
ومن معاريض الكلام الحسنة قول أبي العلاء المعري في وصف الإبل:
صلب العصا بضرب قد دمّاها ... تود أن الله قد أفناها
إذا أرادت رشدا أغواها ... محاله من رقه إياها
فالضرب لفظ مشترك يطلق على الضرب بالعصا وعلى الضرب في الأرض وهو المسير فيها وكذلك دماها يطلق على شيئين أحدهما يقال: دمّاه إذا أسال دمه ودماه إذا جعله كالدمية وهي الصورة وكذلك لفظ الفناء فإنه يطلق على عنب الثعلب وعلى إذهاب الشيء إذا لم يبق منه بقية يقال أفناه إذا أذهبه وأفناه إذا أطعمه حب الفناء وهو عنب الثعلب، والرشد والغوى نبتان يقال أغواه إذا أضله وأغواه إذا أطعمه النوى ويقال طلب رشدا إذا طلب ذلك النبت وطلب رشدا إذا طلب الهداية.
ويروى في الأخبار الواردة في غزاة بدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان سائرا بأصحابه يقصد بدرا فلقيهم رجل من العرب فقال:(6/13)
ممن القوم؟ فقال النبي: من ماء، فأخذ ذلك الرجل يفكر ويقول:
من ماء من ماء لينظر من أي بطون العرب يقال لها ماء فسار النبي لوجهته وكان قصده أن يكتم أمره وهذا من المغالطة المثلية لأنه يجوز أن يكون بعض بطون العرب يسمى ماء ويجوز أن يكون المراد أن خلقتهم من ماء وحاشى النبي أن يكذب.
3- توكيد الضميرين:
وذلك في قوله تعالى «قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» في قصة قتل الغلام وهذا بخلاف قصة السفينة فإنه قال فيها «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» والفرق بين الصورتين أنه أكد الضمير في الثانية دون الأولى «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ» وقال في الثانية «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» وإنما جيء بذلك للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة بعد مرة والوسم بعدم الصبر وهذا كما لو أتى الإنسان ما نهيته عنه فلمته وعنفته ثم أتى ذلك مرة ثانية أليس أنك تزيد في لومه وتعنيفه؟ وكذلك فعل هاهنا فإنه قيل في الملامة أولا: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ» ثم قيل ثانيا:
«أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ» وهذا موضع يدق عن العثور عليه بالنظرة العجيلة ولا يمكن اكتناه حسنه إلا بعد التأمل العميق وهذا فن جليل القدر، بعيد الغور، فللضمائر أسرار لا يدركها إلا الملهمون والمبدعون وهي ليست مجرد ضمائر تذكر كما ترد في كتب النحو وستأتي في كتابنا هذا صور رائعة عنه تبين مدى قدر المبين وتساميه عن الانداد.
التوكيد بالضمائر في الشعر:
وسنورد لك هنا الآن نماذج من التوكيد بالضمائر الوارد في الشعر تذهل العقول فمن بديع ما استظرفناه قول أبي تمام:(6/14)
لا أنت أنت ولا الديار ديار ... خف الهوى وتولت الأوطار
فقوله «لا أنت أنت ولا الديار ديار» من المليح النادر لأنه هو هو والديار الديار وإنما مراده أن البواعث التي كانت تبعث على قبيل أنت منهم وأنت أنت ولو تأتى له ذلك الرأب صدع البيت، ومع ولا الديار في عينه من الحسن تلك الديار. وقد حاول أبو الطيب أن ينسج على منوال أبي تمام فأسف ولم يلحق به إذ قال:
قبيل أنت أنت وأنت منهم ... وجدك بشر الملك الهمام
فقوله «أنت أنت» من توكيد الضميرين المشار إليهما وفائدته المبالغة في مدحه ولكنه أفسد على نفسه ما أراده لأن سبك البيت عار من الحسن وفيه تقديم وتأخير أفسداه أيضا لأنه كان من حقه أن يقول:
قبيل أنت منهم وأنت أنت ولو تأتّى له ذلك الرأب صدع البيت، ومع ذلك يبقى دون بيت أبي تمام العذب الرشيق وهذا مرده الى الذوق وهو الحكم في هذا الباب.
وروى صاحب الأغاني: أن عمرو بن ربيعة قال لزياد بن الهبولة:
يا خير الفتيان أردد علي ما أخذته من إبلي فردها عليه وفيها فحلها فنازعه الفحل إلى الإبل فصرعه عمرو فقال له زياد: لو صرعتم يا بني شيبان الرجال كما تصرعون الإبل لكنتم أنتم أنتم فقال عمرو له: لقد أعطيت قليلا وسمت جليلا، وجررت على نفسك ويلا طويلا» فقوله: لكنتم أنتم أنتم، أي أنتم الأشداء أو الشجعان أو ذوو النجدة والبأس إلا أن «أنتم» الثانية تخصيصا لهم بهذه الصفة دون غيرهم كأنه قال لكنتم أنتم الشجعان دون غيرهم ولو مدحهم بأي شيء مدحهم به من وصف البأس والشدة والشجاعة لما بلغ هذه الكلمة أعني «أنتم» الثانية.(6/15)
4- الاستعارة المكنية:
في قوله تعالى: «فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» فقد استعيرت الارادة للمشارفة والمداناة ويجوز أن يكون مجازا عقليا وهذا الخلاف مطرد في كل نسبة الى مالا يعقل كقول عمرو بن أبي ربيعة:
أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا
وسنبسط لك القول في هذا البيت بسطا شافيا لتتأكد من حقيقة هذا الكلام فالإباء المنع الاختياري وقد شبه الروادف والثدي لكبرها بمن يصح منه ذلك والكلام يحتمل إرادة التشبيه فهو مجاز علاقته المشابهة فيكون استعارة مكنية تبعية وقد لا يحتمل إرادة التشبيه ويكون عبارة عن مجرد إسناد الإباء إليها للدلالة على كبرها فيكون مجازا عقليا وفي الكلام أيضا لف ونشر مشوش لأن مس البطون يرجع للثدي ومس الظهور يرجع للروادف ولا بد لإظهار معنى البيت تماما من إيراد البيت الثاني وهو:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... نبّهن حاسدة وهجن غيورا
يقال تناوح الجبلان أي تقابلا فالمراد بالتناوح التقابل بحيث يجيء بعض الرياح من أمامها وبعضها من خلفها فتظهر روادفها ونهودها وتلتصق الثياب بخصرها فيظهر ضموره فتنبه الحاسدة لها وتهيج الغيور لكراهية ذلك من الرياح. ومن هذا الضرب قول الحسن بن هانىء أبي نواس:
فاستنطق العود قد طال السكوت به ... لا ينطق اللهو حتى ينطق العود(6/16)
شبه العود بانسان على طريق الاستعارة المكنية ويصح أن يكون مجازا عقليا على نحو ما قدمنا لك.
وقول حسان بن ثابت:
ان دهرا يلف شملي بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان
وجمل اسم محبوبته ويروى بعدي يقول: إن الدهر الذي يجمع شملي بمحبوبتي لدهر يهمّ بالإحسان على طريق المكنية ولفظ الهم تخييل ويحتمل أن إسناد الهم له مجاز عقلي كإسناد اللف.
5- التقديم والتأخير:
ظاهر الكلام يقتضي تأخير قوله «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» عن قوله:
«وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً» لأن إرادة العيب مسببة عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب والجواب على ذلك أنه سبحانه قدم المسبب على السبب للعناية به ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده ولكن مع كونها للمساكين.
وفي الآية والتي بعدها أيضا أسرار عجيبة أخرى وذلك بمخالفة الضمائر فيهما فقد أسند في الأولى الفعل الى ضميره خاصة بقوله «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» وأسنده في الثانية الى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله «فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما» و «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما» ولعل إسناد الأول الى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى لأن المراد أن ثمة عيبا فتأدب بأن نسب الإعابة الى نفسه وأما إسناد الثاني الى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا(6/17)
أو دبرنا كذا وإنما يعنون بأمر الملك أو دبر ويؤيد ذلك قوله في الثالثة «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما» فلم تأت الضمائر على نمط واحد وهذا من أرقى الأساليب وأحفلها بالمعاني الخصبة التي لا يمجها السمع وتحتويها الآذان.
الفوائد:
1- الأفعال التي تنصب مفاعيل ثلاثة هي أعلم وأرى وأنبأ ونبأ وأخبر وخبر وحدث والأصل في هذه الأفعال أعلم وأرى اللذان كان أصلهما قبل دخول همزة النقل عليهما علم ورأى المتعديان لاثنين وأما الخمسة الباقية فليس لها ثلاثي يستعمل في العلم إلا خبر ولكنها ألحقت في بعض استعمالاتها بأعلم المتعدي الى ثلاثة لأن الإنباء والتنبيء والإخبار والتخبير والتحديث بمعنى الإعلام، هذا وتستعمل الخمسة متعدية الى واحد بأنفسها والى مضمون الثاني والثالث أو مضمون الثالث وحده بالباء نحو حدثتك بخروج زيد وعليه يحمل قوله تعالى «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» وسيأتي مزيد بحث عن هذه الأفعال في موضعه إن شاء الله.
2- وراء:
هو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام ومعناها هنا أمامهم وكون وراءهم بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت والزجاج ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام وجاء في التنزيل والشعر، قال الله تعالى: «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ» وقال «وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» وقال «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» وقال لبيد:(6/18)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا يحنى عليها الأصابع
وقال سوار بن المضرب السعدي:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر:
أليس ورائي أن أدب على العصا ... فتأمن أعداء وتسأمني أهلي
وقال الفراء: «لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول وراءك برد شديد وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك وكأنك إذا بلغته صار بين يديك» قال: «إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك» وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد.
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 88]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88)(6/19)
اللغة:
(ذِي الْقَرْنَيْنِ) : اضطربت الأقوال فيه كثيرا فبينما يزعم مفسرو القرآن أنه غير الإسكندر المقدوني الكبير يقولون انه هو الذي بنى الاسكندرية مع أن الإسكندر الكبير هو بانيها ومعنى ذي القرنين انه لقب لقب به لأنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقيها وغربيها أو لأنه كان له قرنان أي ضفيرتان، والعرب تسمي الذؤابة قرنا وجمعها قرون. قال مجنون ليلى لزوجها صبيحة عرسه:
بعيشك هل ضممت إليك ليلى ... قبيل الفجر أو قبلت فاها
وهل رفّت عليك قرون ليلى ... رفيف الأقحوانة في شذاها
وقيل كان على رأسه ما يشبه القرنين ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه واختلف في زمنه ومكانه اختلافا يمكن الرجوع اليه في المطولات لأن هذا البحث غير داخل في نطاق كتابنا.
(حَمِئَةٍ) : أي كثيرة السواد من الحمأة أي الطين وفي المصباح والحمأة بسكون الميم طين أسود وقد حمئت البئر حمأ من باب تعب صار فيها الحمأة والعين الحمئة ماء يجري على الطين الأسود، وقد(6/20)
فرىء عين حامية أي حارة ويروى أن ابن عباس قرأ حمئة وكان عند معاوية فقرأ معاوية حامية فقال ابن عباس حمئة فقال معاوية لعبد الله ابن عمر كيف تقرأ؟ قال: كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه الى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب فقال: في ماء وطين فوافق قول ابن عباس، وكان ثمة رجل فأنشد قول تبع:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي ... أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغار الشمس عند مآبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد
والخلب بضمتين الحمأة وهي الطين والثأط الحمأة المختلطة بالماء فتزيد رطوبة وتفسد والحرمد الطين الأسود. مدح تبع ذا القرنين ثم قال انه بلغ مواضع غروب الشمس ومواضع شروقها يبتغي من الله أسبابا توصله لمقصده فرأى محل غبار الشمس عند مآبها أي رجوعها وفي عين متعلق بمغار وحال منه وقد أوّل أبو علي الجبائي ذلك تأويلا طريفا بأن ذلك على سبيل التخييل كما أن من ير الشاطئ الغربي من البحر المتسع ير الشمس تغرب فيه وفي الحقيقة تغرب في ظلمة وراء الأرض لدورانها كما يقرر ذلك بدائه العلم.(6/21)
الإعراب:
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) الواو استئنافية ويسألونك فعل مضارع وفاعل ومفعول به وعن ذي القرنين متعلقان بيسألونك.
(قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) جملة سأتلو مقول القول وعليكم متعلقان بأتلو ومنه متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لذكر أو تقدم عليه وذكرا مفعول به. (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) إن واسمها وجملة مكنا خبرها وله متعلقان بمكنا وفي الأرض متعلقان بمكنا أيضا وآتيناه عطف على مكنا وهو فعل وفاعل ومفعول به ومن كل شيء متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لسببا وسببا مفعول به ثان لآتيناه. (فَأَتْبَعَ سَبَباً) الفاء عاطفة وأتبع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وسببا مفعول به وقيل هو يتعدى لاثنين حذف أحدهما وتقديره فأتبع سببا سببا آخر أو فأتبع أمره سببا قال يونس وأبو زيد: أتبع بالقطع عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب وبالوصل إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات. (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف لما يستقبل من الزمن وجملة بلغ مضافة الى الظرف ومغرب الشمس مفعول به وجملة وجدها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وفي عين متعلقان بتغرب وحمئة صفة لعين. (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) ووجد عطف على وجدها وعندها ظرف متعلق بوجد وقوما مفعول به وقلنا فعل وفاعل وذا القرنين منادى مضاف وإما حرف شرط وتفصيل وأن تعذب مصدر مؤول في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي هو تعذيبك أو الرفع على انه مبتدأ والخبر محذوف أي إما تعذيبك واقع، ومن شواهد الرفع(6/22)
قول الشاعر:
فسيروا فإما حاجة تقضيانها منها ... وإما مقيل صالح وصديق
أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف أي إما أن تفعل التعذيب وإما أن تتخذ عطف على إما أن تعذب وفيهم متعلقان بتتخذ أو مفعول به ثان لتتخذ وحسنا مفعول به أول أي أمرا ذا حسن.
(قالَ: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أما حرف شرط وتفصيل ومن ظلم مبتدأ وجملة ظلم صلة فسوف الفاء رابطة وسوف حرف استقبال ونعذبه فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول والجملة خبر من.
(ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) ثم حرف عطف وتراخ ويرد فعل مضارع مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والى ربه متعلقان بيرد فيعذبه الفاء عاطفة ويعذبه فعل وفاعل ومفعول به وعذابا مفعول مطلق ونكرا صفة. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) وأما عطف على أما السابقة ومن مبتدأ وآمن صلة وعمل صالحا فعل وفاعل مستتر ومفعول به أو صالحا صفة لمفعول مطلق محذوف أي عملا صالحا فله الفاء رابطة وله خبر مقدم وجزاء تمييز وأعربها أبو حيان مصدرا في موضع الحال أي مجازى كقولك في الدار قائما زيد وقيل انتصب على المصدر أي يجزى جزاء، والحسنى مبتدأ مؤخر أي فله الفعلة الحسنى جزاء. قال الفراء ونصب جزاء على التفسير أي لجهة النسبة أي نسبة الخبر المقدم وهو الجار والمجرور إلى المبتدأ المؤخر وهو الحسنى والتقدير فالفعلة الحسنى كائنة له من جزاء الجزاء (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) وسنقول فعل مضارع مرفوع وفاعله ضمير مستتر تقديره نحن وله متعلقان بنقول ومن أمرنا متعلقان(6/23)
بمحذوف حال لأنه كان صفة ليسرا وتقدم عليه ويسرا مفعول به أو مفعول مطلق أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسر.
الفوائد:
بحث طريف يتعلق ب «في» :
ذهب ابن قتيبة إلى أن «في» بمعنى «عند» لأنها قد ترد بمعنى «في» وبمعنى «مع» قال الشاعر:
حتى إذا ألقت يدا في كافر معناه عند كافر، وقال الشاعر:
وفي الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان معناه ومع الشر، وتكون في الآية بمعنى على كقوله تعالى:
«وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» أي على جذوع النخل وقال عنترة:
بطل كأن ثبابه في سرحة أي على سرحة، وكما أن في تقع موقع على كذلك تعكس القضية كقول الشاعر:
ولقد سريت على الزمان بمعشر أي في الظلام.
هذا ونقول إن الخطاب على حكم الحس في رأي العين لأن من وقف على شاطىء البحر المحيط أو قريبا من جبل عال رأى الشمس عند الغروب كأنها تدلت في نفس البحر أو خلف الجبل، قال الله تعالى:(6/24)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
«حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» أي وراء الجبل ولولا أن اللفظ جاء على حكم الحسّ في الظاهر لما قال الله تعالى: «وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً» ومن المعلوم عقلا أن القوم لا يجلسون في قرن الشمس ولا هم عندها ولكن لما كان ذو القرنين قد توغل في جوب الأرض حتى انتهى الى البحر المحيط من جهة الغرب كان الناظر يخيل اليه أن الشمس تغرب هناك وإذن فالخطاب ورد على حكم الحسّ في الظاهر وما أكثر ما تكذب الحواس وله مباحث تؤخذ من مظانها وليس من شرطنا البحث في هذه الموضوعات على جلالتها ويروي التاريخ أن لابن الهيثم كتابا جليل القدر يقع في سبعة مجلدات في هذا العلم ولكنه فقد مع ما فقد من تراثنا العربي.
هذا وقد تظرف الشعراء فأشاروا الى خداع الحس، قال أبو العلاء المعري:
والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر
وقال الخفاجي:
ولا ينال كسوف الشمس طلعتها ... وإنما هو فيما يزعم البصر
[سورة الكهف (18) : الآيات 89 الى 98]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93)
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)(6/25)
اللغة:
(بَيْنَ السَّدَّيْنِ) : بين الجبلين يروى أن ذا القرنين سدّ ما بينهما، وإطلاق السد على الجبل لأنه سد في الجملة، وفي القاموس: السدّ الجبل والحاجز، أو لكونه ملاصقا للسد فهو مجاز بعلاقة المجاورة والقول الثاني هو المناسب لما قبله والتفاصيل في المطولات.
(يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) : اسمان أعجميان بدليل منع الصرف فيهما للعلمية والعجمة وقيل بل هما عربيان واختلف في اشتقاقهما فقيل من(6/26)
أجيج النار وهو التهابها وشدة توقدها وقيل من الأوجة وهي الاختلاط أو شدة الحر وقيل من الأوج وهو سرعة العدو، وإنما منعا من الصرف للعلمية والتأنيث وكلاهما من أج الظليم إذا أسرع أو من أجت النار إذا التهبت والأقوال في حقيقتهما كثيرة يمكن الرجوع إليها في المطولات.
(خَرْجاً) : جعلا من المال أو الخراج بتثليث الخاء وقد قرىء بها ومنه «الخراج بالضمان» ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجا ويقال للجزية الخراج فيقال أدى خراج أرضه، ومن المجاز خرج فلان في العلم والصناعة خروجا إذا نبغ وخرّجه فلان فتخرج وهو خريج المدرسة، قال زهير يصف الخيل:
وخرّجها صوارخ كل يوم ... فقد جعلت عرائكها تلين
أي وأدبها كما يخرّج المتعلم.
(رَدْماً) : حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السدّ من قولهم ثوب مردم. ومنه قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم
المتردم الموضع الذي يسترقع ويستصلح لما اعتراه من الوهن والوهي والتردم أيضا مثل الترنم وهو ترجيح الصوت مع تحزين ومعنى قول عنترة: لم يترك الأول للآخر شيئا أي سبقني من الشعراء قوم لم يتركوا لي مسترقعا أرقعه ومستصلحا أستصلحه.
(زُبَرَ الْحَدِيدِ) : جمع زبرة كغرفة أي قطعة.
(الصَّدَفَيْنِ) بفتحتين، وضمتين أيضا، وضم الأول وسكون الثاني، وقد قرىء بالثلاث جميعا مثنى صدف بفتحتين وصدف بضمتين(6/27)
وصدف بضم الأول وفتح الثاني وبالعكس: منقطع الجبل أو ناصيته وقد سميا بذلك لأنهما يتقابلان.
(قِطْراً) بكسر فسكون النحاس المذاب على الحديد المحمى.
(يَظْهَرُوهُ) يعلوا ظهره لارتفاعه وانملاسه.
(نَقْباً) خرقا لصلابته وثخانته.
(دَكَّاءَ) بالمد أرض مستوية من قولهم ناقة دكاء أي لا سنام لها، ذللت بالدك وقرىء دكا مصدر دك.
الإعراب:
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) عطف على نظائرها وقد تقدم إعرابها. (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) حتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وجملة بلغ مضافة الى الظرف ومطلع بكسر اللام مكان الطلوع وسيأتي القول فيه في باب الفوائد وجملة وجدها لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم وجملة تطلع مفعول ثان لوجدها وعلى قوم متعلقان بتطلع وجملة لم نجعل صفة لقوم ولهم في موضع نصب مفعول ثان لنجعل ومن دونها حال وسترا مفعول نجعل الأول لأن أرضهم لا أبنية فيها بل فيها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها وإذا ارتفع النهار خرجوا الى معايشهم وقيل المراد بالستر اللباس فهم عراة أبدا. (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقد الواو عاطفة أو حالية وقد حرف تحقيق وأحطنا فعل وفاعل وبما متعلقان بأحطنا ولديه صلة الموصول وخبرا تمييز أو مفعول به وقد تقدم. (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) تقدم إعرابه. (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) بين السدين: انتصب بين على أنه مفعول به مبلوغ(6/28)
كما انجر على الاضافة في قوله تعالى «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» وكما ارتفع في قوله «لقد تقطع بينكم» لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفا وسيأتي تفصيل ذلك في باب الفوائد وجملة وجد لا محل لها لأنها جواب إذا ومن دونهما مفعول وجد الثاني وقوما مفعول وجد الأول وجملة لا يكادون صفة لقوما والواو اسم يكاد وجملة يفقهون خبرها وقولا مفعول به. (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) يا أداة نداء وذا القرنين منادى مضاف وإن واسمها ومأجوج عطف على يأجوج ومفسدون خبر إن وفي الأرض متعلقان بمفسدون. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) الفاء عاطفة وهل خرف استفهام ونجعل فعل مضارع وفاعل مستتر ولك مفعول نجعل الثاني وخرجا مفعول نجعل الأول وعلى ومدخولها متعلقان بمحذوف صفة لخرجا أي قائما على هذا الشرط فعلى هنا على بابها أي للاستعلاء وبيننا الظرف متعلق بمحذوف مفعول تجعل الثاني وبينهم عطف على بيننا وسدا مفعول تجعل الأول.
(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) ما اسم موصول في محل رفع مبتدأ وجملة مكني صلة وفيه متعلقان بمكني وربي فاعل مكني وخير خبر المبتدأ. (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) الفاء الفصيحة وأعينوني فعل أمر وفاعل ومفعول به وبقوة متعلقان بأعينوني واجعل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وبينكم الظرف مفعول اجعل الثاني وبينهم عطف عليه وردما مفعول أجعل الاول ومعنى أعينوني بقوة أي بفعلة وصنّاع يحسنون البناء وبآلة وسيأتي تفسيرها.
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) آتوني فعل أمر وفاعل ومفعول به أول وزبر الحديد مفعول به ثان وحتى حرف غاية وجر وإذا ظرف مستقبل وساوى فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو(6/29)
ولا بد من تقدير محذوف للغاية أي فجاءوه بما طلب فبنى، وجعل بين الصدفين الفحم والحطب حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما والظرف متعلق بساوى (قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) جملة انفخوا مقول القول وجملة قال لا محل لها لأنها جواب إذا وحتى غاية للنفخ وجملة جعله نارا مضافة الى الظرف ونارا مفعول جعل الثاني وجملة آتوني مقول القول وأفرغ مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وفاعله أنا وعليه متعلقان بأفرغ وقطرا مفعول به لأفرغ والتقدير وآتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف الأول لدلالة الثاني عليه والمسألة من باب التنازع، فقد أعمل الثاني ولو أعمل الأول لقالوا آتوني أفرغه عليه قطرا إذ التقدير آتوني قطرا أفرغه عليه ومثله قوله تعالى: «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» أعمل الثاني ولو أعمل الأول لقال «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» وسيأتي القول فيه في حينه.
(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) الفاء عاطفة على محذوف أي فجاء قوم يأجوج بعد أن أنهى بناءه وتسويته يحاولون أن يعلوه أو يثقبوه فما اسطاعوا، واسطاعوا فعل وفاعل وأن وما بعدها مصدر مؤول في محل نصب مفعول اسطاعوا، وما استطاعوا عطف على فما اسطاعوا وله متعلقان بنقبا ونقبا مفعول به. (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) جملة هذا مقول القول وهذا مبتدأ ورحمة خبر والاشارة الى السد لأنه مانع من خروجهم ومن ربي صفة لرحمة، فاذا الفاء استئنافية وإذا ظرف مستقبل وجملة جاء وعد ربي مضافة للظرف وجملة جعله لا محل لها ودكاء مفعول به ثان لجعل وكان الواو عاطفة أو حالية وكان وعد ربي كان واسمها وحقا خبرها.(6/30)
الفوائد:
1- أسماء الزمان والمكان تفيد زمان الفعل ومكانه
وتصاغ من الثلاثي المجرد على وزن مفعل بفتح العين وعلى وزن مفعل بكسرها فوزن مفعل بفتح العين للثلاثي المجرد المأخوذ من يفعل المضموم العين أو يفعل المفتوح العين في المضارع أو من الفعل المعتل الآخر مطلقا فالأول مثل مكتب ومحضر ومحل من حل بالمكان والثاني مثل ملعب ومزرع والثالث مثل ملهى ومثوى وموقى وشذت ألفاظ جاءت بالكسر مع أنها مبنية من مضموم العين في المضارع وهي أحد عشر وهي المطلع والمنسك لمكان النسك أي العبادة والمجزر لمكان جزر الإبل وهو نحرها يقال جزرت الجزور أجزرها بالضم إذا نحرتها وجلدتها والمنبت لموضع النبات والمشرق والمغرب لمكان الشروق والغروب والمفرق لوسط الرأس لأنه موضع فرق الشعر وكذلك مفرق الطريق للموضع الذي يتشعب منه طريق آخر والمسكن موضع السكنى والمسقط موضع السقوط يقال هذا مسقط رأسي أي حيث ولدت وسقط رأسي والمرفق موضع الرفق والمسجد وهو اسم للبيت وليس المراد موضع السجود فقد كسروا هذه الألفاظ والقياس فيها الفتح.
ووزن مفعل بكسر العين للثلاثي المجرد المأخوذ من يفعل الصحيح المكسور العين أو من المثال الواوي فالأول مثل مجلس ومحبس ومضرب ومبيت ومضيف والثاني مثل مورد وموعد.
وقد تدخل تاء التأنيث على أسماء المكان كالمزلة بفتح الزاي وكسرها فالمفتوح من باب فرح والمكسور من باب ضرب وهي اسم مكان من زل إذا سقط والمظنة لموضع الظن ومألفه وهو بفتح الظاء لأنه من ظن يظن بالضم والمقبرة لموضع القبر والمعبرة لموضع الشط(6/31)
المهيأ للعبور والمشرقة مثلثة الراء والمدرجة الطريق من درج يدرج دروجا إذا مشى والموقعة بفتح القاف وكسرها الموضع الذي يقع عليه والمشربة بفتح الراء وضمها أي موضع الشرب وتطلق أيضا على الغرفة لأنهم كانوا يشربون فيها وهي أيضا الأرض اللينة الدائمة النبات وإذا كثر الشيء بالمكان قيل فيه مفعلة بالفتح فيبنى اسم المكان من الأسماء مثل أرض مسبعة أي كثيرة السباع ومذأبة أي كثيرة الذئاب ومأسدة أي كثيرة الأسود ومبطخة أي كثيرة البطيخ ومقثأة أي كثيرة القثاء ومحياة أي كثيرة الحيات ومفعاة أي كثيرة الأفاعي ومدرجة أي كثيرة الدراج بضم الدال وتشديد الراء وهو طائر جميل ملون الريش ويطلق على الذكر والأنثى.
أما وزنهما مما فوق الثلاثي فبكون على وزن المضارع بضم الميم المبدلة من حرف المضارعة وفتح ما قبل الآخر نحو مجتمع ومنتدى ومنتظر ومستشفى فهما يشبهان اسم المفعول والمصدر الميمي والتفرقة بينها بالذوق والقرينة.
2- الظرف:
الظرف قسمان: متصرف وغير متصرف:
فالمتصرف ما يستعمل ظرفا وغير ظرف فهو يفارق الظرفية الى حال لا تشبهها كأن يستعمل مبتدأ أو خبرا أو فاعلا أو مفعولا به أو نحو ذلك مثل شهر ويوم وسنة وليل. والظرف غير المتصرف ما يلازم النصب على الظرفية فلا يستعمل إلا ظرفا منصوبا مثل قط وعوض وبينا وبينما وإذا وأيان وأنى وذا صباح وذات ليلة ومنه ما ركب من الظروف مثل صباح مساء وليل ليل ومنه ما يلزم النصب على الظرفية أو الجر(6/32)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
بمن نحو قبل وبعد والجهات الست ولدي ولدن وعند ومتى وأين وهنا وثم وحيث والآن وتفصيل ذلك في المطولات.
3- استطاع واسطاع:
قالوا: الأصل في اسطاع استطاع وان التاء حذفت تخفيفا وفتحت همزة الوصل وقطعت وهو قول الفراء وفي استطاع لغات: اسطاع يسطيع بفتح الهمزة في الماضي وضم حرف المضارعة فهو من أطاع يطيع وأصله يطوع بقلب الفتحة من الواو الى الطاء في أطوع إعلالا له حملا على الماضي فصار أطاع ثم دخلت السين كالعوض من عين الفعل هذا مذهب سيبويه واللغة الثانية استطاع يستطيع بكسر الهمزة في الماضي ووصلها وفتح حرف المضارعة وهو استفعل نحو استقام واستعان.
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 106]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106)(6/33)
اللغة:
(يَمُوجُ) : يختلط.
(الصُّورِ) : القرن ينفخ فيه والبوق.
الإعراب:
(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) وتركنا فعل وفاعل وبعضهم مفعول به ويومئذ ظرف مضاف الى مثله متعلق بيموج وجملة يموج في بعض مفعول به ثان والتنوين في إذ عوض عن جملة كما تقدم، وقد جعل بعضهم ترك متعديا الى واحد فتكون جملة يموج في محل نصب على الحال. (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) ونفخ فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر وفي الصور متعلقان بنفخ فجمعناهم الفاء عاطفة وجمعناهم فعل وفاعل ومفعول به وجمعا مفعول مطلق.
(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) وعرضنا عطف على ما تقدم وجهنم مفعول به ويومئذ ظرف مضاف الى مثله متعلق بعرضنا وللكافرين متعلقان بعرضنا أيضا وعرضا مفعول مطلق. (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) الذين صفة للكافرين أو(6/34)
بدل منهم وجملة كانت صلة وأعينهم اسم كانت وفي غطاء خبر كانت وعن ذكري صفة لغطاء وكانوا كان واسمها وجملة لا يستطيعون سمعا خبرها. (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) الهمزة للاستفهام الانكاري التوبيخي والذين فاعل وجملة كفروا صلة وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي حسب ومن دوني مفعول ثان ليتخذوا وأولياء مفعول به أول. (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا) إنا إن واسمها وجملة أعتدنا خبر وجهنم مفعول به وللكافرين حال لأنه كان صفة لنزلا ونزلا حال أي مغدة لهم كالنزل يعد للضيف.
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا) جملة هل ننبئكم مقول القول وبالأخسرين دخلت الباء على مضمون المفعولين الثاني والثالث وأعمالا تمييز وجمع التمييز وهو أصيل في الافراد لمشاكلة المميز وللايذان بأن خسرانهم إنما كان من جهات شتى لا من جهة واحدة. (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) الذين صفة للأخسرين أو بدل ويرجح أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كأنه جواب لسؤال سائل ومن هم الأخسرون أعمالا وجملة ضل صلة وسعيهم فاعل وفي الحياة متعلقان بضل والواو حالية وهم مبتدأ وجملة يحسبون خبر وان وما في حيزها سدت مسد مفعولي يحسبون وجملة يحسنون خبر أنهم وصنعا مفعول ويجوز أن يعرب تمييزا وجملة وهم يحسبون حال من فاعل ضل. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أولئك اسم اشارة مبتدأ والذين خبره وجملة كفروا صلة وبآيات ربهم جار ومجرور متعلقان بكفروا ولقائه عطف على آيات فحبطت عطف على كفروا وأعمالهم فاعل حبطت. (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) فلا نقيم عطف على ما تقدم والفاعل مستتر تقديره نحن ولهم متعلقان بنقيم ويوم القيامة متعلق بنقيم أيضا ووزنا مفعول به أي(6/35)
فلا يكون لهم عندنا وزن أو مقدار. (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) ذلك مبتدأ وجزاؤهم خبر وجهنم بدل أو عطف بيان لقوله جزاؤهم ويجوز أن يعرب ذلك خبرا لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وجزاؤهم جهنم مبتدأ وخبر فتكون كل من الجملتين جملة برأسها ويجوز أن يعرب ذلك مبتدأ وجزاؤهم مبتدأ ثان وجهنم خبر جزاؤهم والجملة خبر المبتدأ الأول وهو ذلك وهذه الاوجه متساوية الرجحان، وبما كفروا يجوز أن يتعلق بمحذوف خبر ذلك في أحد وجوهه أو بمحذوف حال أي بسبب كفرهم وما مصدرية واتخذوا عطف على كفروا وآياتي مفعول به أول ورسلي عطف على آياتي وهزوا مفعول به ثان.
البلاغة:
1- الاستعارة المكنية:
في قوله تعالى «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» استعارة محسوس لمحسوس كما قسمنا أنواع الاستعارة فإن أصل الموج تحريك المياه فاستعير لحركة يأجوج ومأجوج لاشتراك المستعار والمستعار له في الحركة وهي استعارة مكنية تبعية أوهم الخلق يموجون.
2- جناس التصحيف:
وفي قوله تعالى «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» جناس التصحيف وهو أن يكون النقط فيه فارقا بين الكلمتين على حد قول البحتري:
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه(6/36)
الجناس وأقسامه:
الجناس ويقال له التجنيس والمجانسة والتجانس وكلها ألفاظ مشتقة من الجنس، وحدّه في الاصطلاح تشابه الكلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى وفائدته أن يميل بالسامع الى الإصغاء فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلا وإصغاء إليها ولأن اللفظ المذكور إذا حمل على معنى ثم جاء والمراد به معنى آخر كان للنفس تشوق إليه.
وفيما يلي أقسام الجناس باختصار:
1- الجناس المركب: وهو أن يتألف من ركنين وهو قسمان:
آ- أن يتشابه ركناه لفظا لا خطأ كقول العماد الاصفهاني وكان يسير مع القاضي الفاضل في موكب السلطان وقد ثار الغبار:
أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك
والجوّ منه مظلم ... لكن أنار به السنابك
يا دهر لي عبد الرحي ... م فلست أخشى مسّ نابك
ويحكى أنه لما كان المعتمد بن عباد في سجن أغمات وطال عليه الحال قالت له جاريته لقد هنّا هنا فأنشد على قولها:
قالت لقد هنّا هنا ... مولاي أين جاهنا
قلت لها: إلهنا ... صيرنا إلى هنا
ب- أن يتشابه ركناه لفظا وخطا ومن أمثلته:
عضنا الدهر بنابه ... ليت ما حل بنابه(6/37)
ولأبي الفتح البستي:
إذا لم يكن ملك ذا هبه ... فدعه فدولته ذاهبه
2- الجناس الملفق:
وحدّه أن يكون كل من الركنين مركبا من كلمتين كقول بعضهم:
رعى الله دهرا بكم قد مضى ... بلغت الأماني به في أمان
وأيام أنس تولت لنا ... بأحلام عان بأحلى معان
3- الجناس المعنوي:
وهو مجرد صناعة مضنية وقد يأتي حسنا، وهو أن يضمر المتكلم ركني التجنيس ويذكر ألفاظا مرادفة لأحدهما فيدل المظهر على المضمر وأحسن ما سمعناه منه قول أبي بكر بن عبدون وقد اصطبح بخمرة وترك بعضها الى الليل فصارت خلا:
ألا في سبيل الله كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت
حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأضحت كجسم الشنفري بعد ثابت
فصح معه جناسان مضمران في صدر البيت وعجزه لأن بنت بسطام بن قيس كان اسمها الصهباء والشنفري اسمه ثابت وجعل جسمه خلا في مرثية خاله تأبط شرا حيث قال:
فاسقنيها يا سواد بن عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخل(6/38)
والخل المهزول، وأما الجناس المضمر فهو بنت بسطام التي هي الصهباء وأما الذي في العجز فهو جسم ثابت الشنفري الذي هو الخل والمعنى أن الخمر التي حكت سميتها بنت بسطام صباحا وحكت جسم الشنفري مساء أي كانت صهباء فصارت خلا فظهر من كناية اللفظ جناسان مضمران الصهباء وهي الخمرة والصهباء وهي بنت بسطام وخل وهو المهزول وخل وهو ما يؤتدم به.
4- الجناس المطرف:
وهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفا في طرفه الأول كقول عبد الله بن المعتز:
زارني والدجى أحمّ الحواشي ... والثريا في الغرب كالعقود
وكأن الهلال طوق عروس ... بات يجلى على غلائل سود
ليلة الوصل ساعدينا بطول ... طول الله فيك غيظ الحسود
فإن قوله الحسود زاد حرفا على سود.
5- الجناس المحرف:
وهو ما اتفق ركناه في أعداد الحروف وترتيبها واختلفا في هيئة الحروف فقط، سمي بذلك لانحراف هيئة عن هيئة الآخر قال أبو العلاء:
والحسن يظهر في شيئين رونقه ... بيت من الشعر أو بيت من الشعر
6- الجناس اللفظي:
وهو ما تماثل ركناه لفظا واختلف أحد ركنيه عن الآخر خطا،(6/39)
قال أبو تمام:
يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب
وقال البحتري:
من كل ساجي الطرف أغيد أجيد ... ومهفهف الكشحين أحوى أحور
7- الجناس المطلق:
وهو ما اختلف ركناه في الحركات والحروف فاشتبه بالمشتق الراجع معناه الى أصل واحد وليس كذلك وهو جميل غير متكلف، ومنه قول أبي فراس:
سكرت من لحظه لا من مدامته ... ومال بالنوم عن عيني تمايله
فما السلاف دهتني بل سوالفه ... ولا الشمول ازدهتني بل شمايله
ألوى بعزمي أصداغا لوين له ... وغال صبري بما تحوي غلايله
وقد ولع أبو فراس بهذا اللون من الجناس فقال:
عذيري من طوالع في عذاري ... ومن برد الشباب المستعار(6/40)
وثوب كنت ألبسه أنيق ... أجرّر ذيله بين الج
واري وما زادت على العشرين سني ... فما عذر المشيب إلى عذاري
ومنه الحديث النبوي وهو «الظلم ظلمات يوم القيامة» .
8- الجناس المذيل:
وهو ما زاد أحد ركنيه على الآخر بحرف أو أكثر في طرفه الأخير فكان له بمثابة الذيل اللاحق بالثوب، ومنه قول أبي تمام:
يمدون من أيد عواص عواصم ... تصول بأسياف قواض قواضب
ولحسان بن ثابت منه:
وكنا متى يغز النبي قبيلة ... نصل جانبيها بالقنا والقنابل
9- الجناس اللاحق:
وهو ما أبدل من أحد ركنيه حرف واحد بغيره من غير مخرجه سواء كان الابدال في الأول أو الوسط أو الآخر، قال البحتري:
عجب الناس لاغترابي وفي الأط ... ... ... راف تلقى منازل الأشراف(6/41)
وقعودي عن التقلب والأر ... ض لمثلي رحيبة الأ
كناف ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير أني امرؤ كفاني كفافي
ولأبي فراس الحمداني:
تعس الحريص وقلّ ما يأتي به ... عوضا عن الإلحاح والإلحاف
إن الغني هو الغني بنفسه ... ولو انه عاري المناكب حافي
ما كلّ ما فوق البسيطة كافيا ... فإذا قنعت فكل شيء كافي
10- الجناس المصحف:
وقد تقدم عند الكلام على الآية، ولأبي فراس فيه روائع، استمع الى هذه المقطوعة:
ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني ... ليست مؤاخذة الاخوان من شاني
يجني الخليل فأستحلي جنايته ... حتى أدل على عفوي واحساني(6/42)
إذا خليلي لم تكثر إساءته ... فأين موقع إحساني وغف
راني يجني عليّ وأحنو صافحا أبدا ... لا شيء أحسن من حان على جاني
11- الجناس التام:
وهو أن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها وهو قسمان:
آ- الجناس التام المتماثل: وهو أن يكون اللفظان من نوع واحد كاسمين أو فعلين أو حرفين كقوله تعالى «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» .
وقول أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حدّه الحد بين الجد واللعب
فجانس بين حد السيف والحد الفاصل بين الشيئين وهما اسمان، وقد تفنن الشعراء فيه ولا سيما في عصور الانحطاط كقول الملك الصالح داود:
عيون من السحر المبين تبين ... لها عند تحريك الجفون سكون(6/43)
تصول ببيض وهي سود فرندها ... ذبول فتور والجفون
جفون إذا أبصرت قلبا خليا من الهوى ... تقول له: كن مغرما فيكون
ب- وان كانا من نوعين كاسم وفعل أو اسم وحرف أو فعل وحرف سمي الجناس المستوفى كقول أبي الفضل الميكالي:
يا من يضيع عمره في اللهو أمسك ... واعلم بأنك ذاهب كذهاب أمسك
فجانس بين أمسك وهو فعل أمر وأمسك وهو اليوم الذي قبل يومك.
أبو تمام والتجنيس:
وقد بالغ أبو تمام في استعمال التجنيس وفيما يلي طائفة منها:
قال:
فأصبحت غرر الأيام مشرقة ... بالنصر تضحك عن أيامك الغرر
فالغرر الأولى استعارة من غرر الوجه والغرر الثانية مأخوذة من غرة الشيء أكرمه. وقال في قصيدته فتح عمورية:
عداك حر الثغور المستضامة عن ... برد الثغور وعن سلسالها الخصب(6/44)
فالثغور جمع ثغر وهو واحد الأسنان، وهو أيضا البلد الذي على تخوم العدو، ثم قال فيها:
كم أحرزت قضب الهندي مصلتة ... تهتز من قضب تهتز في كثب
بيض إذا انتفيت من حجبها رجعت ... أحق بالبيض أبدانا من الحجب
فالقضب السيوف، والقضب القدود على حكم الاستعارة وكذلك البيض السيوف والبيض النساء وهذا من نادر أبي تمام الذي لا يتعلق به أحد.
وقد أكثر أبو تمام من التجنيس في شعره فمنه ما أغرب فيه وأحسن ومنه ما أتى مستثقلا نابيا كقوله:
قرّت بقرّان عين الدين واشتترت ... بالأشترين عيون الشرك فاصطلما
فجانس بين قرت من قرت العين أي بردت سرورا وقران اسم مكان واشتترت: انشقت والأشترين اسم مكان أيضا واصطلم: قطع من أصله.
وأقبح من ذلك قوله:
فاسلم سلمت من الآفات ما سلمت ... سلام سلمى ومهما أورق السلم(6/45)
جناس البحتري: أما البحتري فلم يسف الى الحضيض الذي أسف إليه أبو تمام ولم يأت بالتجنيس إلا جميلا مطبوعا غير متكلف كقوله:
إذا العين راحت وهي عين على الهوى ... فليس بسرّ ما تسر الأضالع
فالعين الجاسوس والعين معروفة.
وما أجمل قول أبي العلاء المعري:
لم يبق غيرك إنسانا يلاذ به ... فلا برحت لعين الدهر إنسانا
ولأبي تمام تجنيس متكرر في البيت الواحد قال:
ليالينا بالرقمتين وأهلنا ... سقى العهد منك العهد والعهد والعهد
فالعهد الأول المسقى هو الوقت والعهد الثاني هو الحفاظ من قولهم فلان ما له عهد، والعهد الثالث الوصية من قولهم عهد فلان الى فلان وعهدت اليه أي وصاني وصيته، والعهد الرابع: المطر وجمعه عهاد، قال ابن رشيق: «استثقل قوم هذا التجنيس وحق لهم» .
الفوائد:
1- أفعال التصيير هي التي تدل على التحويل والانتقال من حالة الى أخرى وهي تنصب مفعولين أصلهما مبتدأ وخبر هكذا قال النحاة واعترض بعضهم ذلك بقوله ان معمولي هذه الأفعال متغايران(6/46)
مفهوما وخارجا فلا يصح أن يدعى كونهما مبتدأ وخبرا لوجود اتحادهما خارجا يبين لك ذلك انك تقول صيرت الفقير غنيا والمعدوم موجودا ولا يخفى أن صدق أحدهما على الآخر ممتنع ويجاب بأن نحو الفقير غني صحيح أي الفقير فيما مضى تجدد له الغنى وكذا المعدوم موجود إذ الوصف العنواني لا يشترط وجوده دائما بل يكفي وجوده في بعض الأوقات. وقال الشهابي القاسمي: ويمكن أن يجاب عن البحث بأن أريد أن أفعال التصيير لا يكون معمولاها متغايرين مفهوما وخارجا فهو ممنوع نحو قوله تعالى «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فإن ترك هنا من أفعال التصيير مع صدق أحد مفعوليها على الآخر وإيجاده معه خارجا فإن المائج يصدق على بعضهم ويتحد معه خارجا وان أريد انه قد يكون معمولاها كذلك فمسلم ولا يضير لأن أفعال الباب لا يجب أن تدخل على المبتدأ والخبر بل قد تدخل على غيرهما.
2- اعلم أن المميز يكون واحدا ويكون جمعا فإذا وقع بعد عدد نحو عشرين وثلاثين ونحوهما لم يكن المميز إلا واحدا نحو قولك:
عندي عشرون ثوبا وثلاثون عمامة لأن العدد قد دل على الكمية ولم يبق بنا حاجة إلا الى بيان نوع ذلك المبلغ وكان ذلك مما يحصل بالواحد وهو أخف وأما إذا وقع مفسرا لغير عدد نحو: هذا أفره منك عبدا وخير منك عملا جاز الافراد والجمع لاحتمال أن يكون له عبد واحد وعبيد فاذا قلت: هو أفره منك عبيدا أو خير منك أعمالا دللت بلفظ الجمع على معنيين: النوع وانهم جماعة. قال الله تعالى:
«قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا» ، فهم من ذلك النوع وانه كان من جهات شتى لا من جهة واحدة وإذا أفردت فهم منه النوع لا غير.(6/47)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
[سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 110]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
اللغة:
(الْفِرْدَوْسِ) : الجنة من الكرم خاصة، وقيل: بل ما كان غالبها كرما. وقيل: كل ما حوط فهو فردوس والجمع فراديس، وقال المبرد:
والفردوس فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه من العنب، وحكى الزجاج انها الأودية التي تنبت ضروبا من النبت، واختلف فيه فقيل هو عربي وقيل أعجمي، وقيل هو رومي، وقيل فارسي، وقيل سرياني، وفي القاموس والتاج: الفردوس: بالكسر الأودية التي تنبت ضروبا من النبت والبستان يجمع كل ما يكون في البساتين تكون فيه الكروم وقد يؤنث، عربية أو رومية نقلت أو سريانية، وروضة دون اليمامة لبني يربوع، وماء لبني تميم قرب الكوفة، وقلعة فردوس بقزوين. الى أن يقول والفردسة السعة وصدر مفردس واسع أو ومنه الفردوس قال شارحه قوله: أو ومنه الفردوس أي(6/48)
اشتقاقه كما نقله ابن القطاع وهذا يؤيد كونه عربيا ويدل له أيضا قول حسان:
وان ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد
(حِوَلًا) : الحول التحول يفال حال من مكانه حولا كقولك عادني حبها عودا يعني لا مزيد عليه والحول بكسر الحاء وفتح الواو مصدر بمعنى التحول يقال حال عن مكانه حولا فهو مصدر كالعوج والصغر.
(المداد) : اسم ما تمد به الدواة من الحبر وما يمد به السراج من السليط، ويقال السماد مداد الأرض.
الإعراب:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) ان واسمها وجملة آمنوا صلة وجملة وعملوا الصالحات عطف على الصلة وجملة كانت خبر إن ولهم حال من نزلا لأنه كان صفة وتقدم عليه وجنات الفردوس اسم كانت ونزلا خبرها ويجوز أن يكون لهم الخبر ونزلا حال. (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا) خالدين حال من الضمير في لهم وفيها متعلقان بخالدين وجملة لا يبغون حالية وعنها متعلقان بحولا وحولا مفعول يبغون. (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) لو شرطية وكان البحر كان واسمها ومدادا خبرها ولكلمات صفة لمداد واللام واقعة في جواب لو وجملة نفد البحر جواب شرط غير جازم لا محل لها وقيل ظرف متعلق بنفد وأن تنفد المصدر مضاف لقبل(6/49)
وكلمات ربي فاعل والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجيء بمثله مددا، ولو شرطية وجئنا فعل الشرط وجواب لو محذوف تقديره لنفد ولم تفرع، وبمثله متعلقان بجئنا ومددا تمييز كقولك لي مثله رجلا وسيأتي مزيد بحث في الفوائد عن جواب لو. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ وبشر خبر ومثلكم صفة. (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) جملة يوحى صفة لبشر وإليّ متعلقان بيوحى وانما كافة ومكفوفة ولكنها لم تخرج عن المصدرية فهي وما بعدها في محل رفع نائب فاعل وإلهكم مبتدأ وإله خبر وواحد صفة. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) الفاء استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ وكان فعل ماض ناقص واسمها يعود على من وجملة يرجو خبرها ولقاء ربه مفعول به، فليعمل الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويعمل فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعملا مفعول مطلق أو مفعول به وصالحا صفة ولا يشرك لا ناهية ويشرك فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وبعبادة ربه متعلقان بيشرك وأحدا مفعول يشرك.
الفوائد:
جواب لو:
سيأتي المزيد من أبحاث لو في هذا الكتاب فهي من الأدوات التي يكثر فيها القول ولذلك جعلناه موزعا على الآيات ونتكلم الآن عن جواب لو فنقول: إن جوابها إما ماض معنى نحو نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أو ماض وضعا وهذا إما مثبت فاقترانه باللام نحو «لو نشاء لجعلناه حطاما» أكثر من تركها نحو «لو نشاء جعلناه(6/50)
أجاجا» وهذه اللام تسمى لام التسويف لأنها تدل على تأخير الجواب عن الشرط وتراخيه عنه كما أن إسقاطها يدل على التعجيل أي أن الجواب يقع عقيب الشرط من غير مهلة ولهذا دخلت في «لو نشاء لجعلناه حطاما» وحذفت في نحو «لو نشاء جعلناه أجاجا» أي لوقته في المزن من غير تأخير والفائدة في تأخير جعله حطاما وتقديم جعله أجاجا تشديد العقوبة أي إذا استوى الزرع على سوقه وقويت به الاطماع جعلناه حطاما، أو لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطاما مما يحتمل انه من فعل الزراع ولهذا قال تعالى: «أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» أو أنه من سقي الماء وجفافه من عدم السقي وحرارة الشمس أو مرور الأعصار فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك على الحقيقة وانه قادر على جعله حطاما في حال نموه لو شاء وإنزال الماء من السماء مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه غير الله تعالى وهذا من عيون النكت فاعرفه وتدبره.
وإما أن يكون جواب لو منفيا بما فالأكثر تجرده من اللام ويقل اقترانه بها فالاول نحو «ولو شاء ربك ما فعلوه» والثاني نحو قوله:
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الليالي
فأدخل اللام على ما النافية ولا تدخل اللام على ناف غيرها وقيل قد تجاب لو بجملة اسمية مقترنة باللام نحو «ولو انهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير» فاللام في لمثوبة جواب لو وان بين الماضي والاسم تشابها من هذه الجهة وقال الزمخشري وانما جعل جوابها جملة اسمية دلالة على استمرار مضمون الجزاء ورد أبو حيان هذا في البحر فقال اللام في لمثوبة لام الابتداء لا الواقعة في جواب لو وهو(6/51)
أحد احتمالي الزمخشري وقد تقدم ذلك في البقرة أي فتكون الجملة مستأنفة أو جواب لقسم مقدم وقال ابن هشام في المغني: «والأولى أن تكون لام لمثوبة لام جواب قسم مقدر بدليل كون الجملة اسمية وأما القول بأنها لام جواب لو وأن الاسمية استعيرت مكان الفعلية تعسف» وأقول التعسف في تقديرها للقسم أكثر من جعل الجواب جملة اسمية.(6/52)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
(19) سورة مريم مكيّة وآياتها ثمان وتسعون
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
اللغة:
(وَهَنَ) : في المصباح: «وهن يهن من باب وعد ضعف فهو واهن في الأمر والعمل والبدن، ووهنته أضعفته يتعدى ولا يتعدّى في لغة فهو موهون البدن والعظم والأجود أن يتعدى بالهمزة فيقال:
أوهنته والوهن بفتحتين لغة في المصدر ووهن يهن بكسرتين لغة قال أبو زيد: سمعت من الأعراب من يقرأ فما وهنوا» وفي القاموس وغيره: وهنه يهنه وهنا وأوهنه أضعفه ووهن وأوهن الرجل دخل في الوهن من الليل ووهن ووهن يهن ووهن يوهن وهنا ووهنا ووهن يوهن وهنا ضعف في الأمر أو العمل أو البدن وتوهّن البعير(6/53)
اضطجع والطائر أثقل من أكل الجيف فلم يقدر على النهوض والوهن مصدر ومن الرجال أو الإبل: الغليظ القصير والوهن من الليل نحو منتصفه أو بعد ساعة منه والموهن من الليل كالوهن، والوهنانة من النساء الكسلى عن العمل تنعما.
(الْمَوالِيَ) : الذين يلونني في النسب كبني العم والموالي جمع مولى وهو العاصب.
(عاقِراً) : لا تلد، قال في القاموس: عقرت تعقر عقرا وعقرا وعقارا وعقرت تعقر عقرا وعقارة وعقارة وعقرت المرأة أو الناقة صارت عاقرا أي حبس رحمها فلم تلد وعقر عقرا الأمر لم ينتج عاقبة وعقر عقرا الرجل دهش» .
(وَلِيًّا) : ابنا وهو أحد معانيه الكثيرة.
الإعراب:
(كهيعص،) (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) كهيعص تقدم القول في فواتح السور واعرابها ومعانيها فارجع اليه وذكر خبر لمبتدأ محذوف أي هذا المتلو عليك من القرآن أو مبتدأ محذوف الخبر أي فيما يتلى عليك ذكر، ورحمة ربك مضافة لذكر من اضافة المصدر لمفعوله والفاعل مستتر أي ذكر الله رحمة عبده زكريا وعبده مفعول به لرحمة وزكريا بدل من عبده أو عطف بيان له. (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) إذ ظرف لما مضى من الزمن وهو متعلق برحمة ربك أي رحمة الله إياه وقت أن ناداه وقيل العامل فيه ذكر وقيل هو بدل اشتمال من زكريا، وجملة نادى مضاف إليها الظرف والفاعل مستتر تقديره هو ونداء(6/54)
مفعول مطلق وخفيا صفة. (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) ربي منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وان واسمها وجملة وهن العظم خبرها ومني حال واشتعل عطف على وهن والرأس فاعل وشيبا تمييز محول عن الفاعل أي انتشر الشيب في رأسي وسيأتي سر هذه الاستعارة في باب البلاغة. (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم وأكن فعل مضارع ناقص مجزوم بلم واسمها مستتر تقديره أنا وشقيا خبرها وبدعائك متعلقان بشقيا ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة. (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) وإني عطف على إني وهن والياء اسم ان وجملة خفت خبرها والموالي مفعول به ومن ورائي متعلقان بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي ولا يجوز أن يتعلق بخفت لفساد المعنى ووجه فساده أن الخوف واقع في الحال لا فيما يستقبل فلو جعل من ورائي متعلقا بخفت لزم أن يكون الخوف واقعا في المستقبل أي بعد موته وهو كما ترى، ظاهر الفساد وعبارة الزمخشري: «من ورائي بعد موتي وقرأ ابن كثير من وراي بالقصر وهذا الظرف لا يتعلق بخفت لفساد المعنى ولكن بمحذوف أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي، وقرأ عثمان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم خفت الموالي من ورائي وهذا على معنيين أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي وبعدي فيتعلق الظرف بالموالي أي قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين. فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولي يرزقه، والثاني أن يكون بمعنى قدّامي فيتعلق بخفت ويريد أنهم خفّوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد. وقال ابن هشام في المغني «الثاني قوله تعالى: وإني خفت الموالي من ورائي،(6/55)
فإن المتبادر تعلق من بخفت وهو فاسد في المعنى والصواب تعلقه بالموالي لما فيه من معنى الولاية أي وخفت ولايتهم من بعدي وسوء خلافتهم أو بمحذوف هو حال من الموالي أو مضاف إليهم أي كائنين من ورائي أو فعل الموالي من ورائي وأما من قرأ خفت بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء فمن متعلقة بالفعل المذكور. وكانت امرأتي عاقرا الواو عاطفة وكان واسمها وخبرها. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) الفاء الفصيحة أي وإلا فهب لي، وهب فعل أمر ولي متعلقان بهب ومن لدنك حال ووليا مفعول به لهب. (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) جملة يرثني صفة لوليا ولذلك رفعت وقرئ بالجزم على أنه جواب الطلب ويرث عطف على يرثني ومن آل يعقوب متعلقان بيرث ومفعول يرث محذوف تقديره الشرع والحكمة والعلم لأن الأنبياء لا تورث المال وقيل يرثني الحبورة وكان حبرأ ويرث من آل يعقوب الملك فعلى هذا تكون الياء في يرثني منصوبة بنزع الخافض أي يرث مني الحبورة، واجعله فعل دعاء وفاعل مستتر ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ورضيا مفعول به ثان لا جعله.
وقد استشكل بعضهم جملة يرثني صفة بناء على أن نبي الله يحيى مات قبل والده بأن دعاء النبي قد يتخلف وذلك لأنه بموته قبله لم يرثه ومعلوم ما يورث من الأنبياء ورأى هذا المستشكل أن الجملة مستأنفة لا صفة وأجيب بأن دعاء الأنبياء قد يتخلف وقد وقع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنه سأل في ثلاثة أمور فاستجيب له في اثنين وتأخرت الاجابة في الثالث وقد اعترض القول بالاستئناف بأن مفاد الجملة حينئذ الإخبار واخبار الأنبياء لا يتخلف قطعا وأجيب بأن هذا الاخبار باعتبار غلبة الظن لأن نبي الله زكريا لما كان مسنا غلب على(6/56)
ظنه أنه متى وهب له ولد يرثه. هذا وقد ذكر الجلال السيوطي الإشكال في كتاب شرح عقود الجمان وذكر مثل الجواب الذي أوردناه آنفا ثم قال: «وأجاب الشيخ بهاء الدين بأن المراد إرث النبوة والعلم وقد حصل في حياته» . قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» ورواه البزاز بلفظ نحن معاشر إلخ وتمام الحديث:
«ما تركناه صدقة» ونصب معاشر على الاختصاص بفعل محذوف وجوبا تقديره أخص وما تركناه ما موصولة في محل رفع بالابتداء وتركنا صلته والعائد محذوف أي تركناه وصدقة خبر ما، والحكمة في أن الأنبياء لا يورثون انه وقد وقع في قلب الإنسان شهوة موت مورثه ليأخذ ماله فنزّه الله أنبياءه وأهاليهم عن ذلك ولئلا يظن بهم مبطل انهم يجمعون المال لورثتهم ولأنهم كالآباء لأمتهم فيكون مالهم لجميع الأمة وهو معنى الصدقة العامة وأما قوله تعالى «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» وقوله «وورث سليمان» فالمراد الوراثة في العلم والنبوة وبهذا يندفع أن عدم الإرث مختص بنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن قيل إن الله أخبر عن بعضهم بقوله:
«واني خفت الموالي» إذ لا تخاف الموالي على النبوة أجيب بأنه خاف من الموالي الاختلاف من بعده الرجوع عن الحق فتمنى ولدا نبيا يقوم فيهم. بقي هنا شيء لا بد من التنويه به وهو أن الأنبياء هل يرثون؟
قال صاحب التتمة: إن النبوة مانعة من الإرث وذكر البزاز الواعظ أنه روي: نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث ويعارضه ما ذكر الماوردي في الاحكام السلطانية أنه صلى الله عليه وسلم ورث من أبيه أم أيمن الحبشية واسمها بركة وخمسة جمال وقطعة من غنم ومولاه شقران واسمه صالح وقد شهد بدرا وورث من أمه دارها ومن خديجة دارها.(6/57)
البلاغة:
في هذه الآيات فنون عديدة نوجز القول فيها:
1- الاختراس في قوله «نِداءً خَفِيًّا»
وقد تقدم القول فيه وانه عبارة عن أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه فيه دخل أو لبس أو إيهام فيفطن لذلك حال العمل فيأتي في صلب الكلام بما يخلصه من ذلك كله وقد تقدمت أمثلة عديدة منه كما ستأتي له نظائر مشبهة وهو هنا في كلمة خفيا فقد أتى بها مراعاة لسنة الله في إخفاء دعوته لأن الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الأولى به أن يحترس مما يوهم الرياء أمام الناس الذين يحكمون على الظاهر ويجهلون حقيقة الدخائل أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة ودفعا للفضول الذي يطلق الألسنة بمختلف أنواع الملام وقيل احترس من مواليه الذين خافهم وقيل ليس في الأمر احتراس وانما الكلام جار على حقيقته لأن خفوت صوته ناتج عن ضعفه وهرمه حيث يخفت الصوت ويكل اللسان وتعشى العينان وتثقل الآذان على حدّ قول عوف بن محلم الخزاعي:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي الى ترجمان
وقد قيل في صفات الشيخ «صوته خفات، وسمعه تارات» .
2- الاستعارة المكنية:
في قوله تعالى «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» شبّه الشيب بشواظ النار في بياضه وإثارته وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ ثم أخرجه مخرج الاستعارة المكنية وأسند الاشتعال الى(6/58)
مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس أي أم يقل رأسي اكتفاء بعلم المخاطب انه رأس زكريا فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة ونزيد على ذلك وجوه الشبه الأربعة الكامنة في هذا الخيال البعيد، وهي:
آ- السرعة: وذلك أن النار حين تشتعل وتندلع أسنتها فإنها تسرع في التهام ما تمتد اليه وهكذا الشيب لا يكاد يخط الرأس حتى بمتد بسرعة عجيبة.
ب- تعذر التلافي: وذلك أن النار إذا شبت وتدافع شؤبوبها وتطاير لهيبها اجتاحت كل ما تصادفه وذل لها الصخر والخشب على حد قول أبي تمام:
لقد تركت أمير المؤمنين بها ... للنار يوما ذليل الصخر والخشب
فيعنو لها الصخر ويذل الخشب ويستلسم لشؤبوبها كل ما يناله دون أن تجدي في ذلك حيلة وقد يتعذر على رجل الإطفاء إخماد لهيبها وكثيرا ما يصبح الماء بمثابة الحطب الذي يذكيها وكذلك الشيب ينتشر بسرعة غريبة في أجزاء الرأس ويتمادى في سرعته بحيث يتعذر بل يستحيل تلافيه، وكثيرا ما يجنح الذين أصيبوا بالشيب الى تغطية شيبهم بالأصابيغ الكاذبة ليخفوا حقيقتهم وليستهووا قلوب الغانيات فلن يبدل ذلك شيئا من الواقع الراهن.
ج- الألم: وكما أن النار لذاعة كواءة تؤلم من تلامسه فكذلك الشيب يؤلم الأشيب وقد صدت عنه الغواني واقتحمته العيون على حد قول ابن الرومي:(6/59)
وكنت جلاء للعيون من القذى ... فقد أصبحت تقذي بشيبي وترمد
هي الأعين النجل التي كنت تشتكي ... مواقعها في القلب والرأس أسود
وقول أبي تمام:
يا نسيب الثغام ذنبك أبقى ... حسناتي عند الحسان ذنوبا
لو رأى الله أن في الشيب خيرا ... جاورته الأبرار في الخلد شيبا
وجميع ذلك منقول عن عمر بن أبي ربيعة:
رأين الغواني الشيب لاح بعوارضي ... فأعرضن عني بالخدود النواضر
ويرحم الله شوقيا عند ما جلس على ضفاف البردوني في زحلة واستمع الى وشوشات الحلي ووسوسات الأساور وألفى نفسه يرتقي الى السبعين فصرخ:
شيعت أحلامي بقلب باك ... ولمت من طرق الملاح شباكي
ورجعت أدراج الشباب وورده ... أمشي مكانهما على الأشواك(6/60)
وبجانبي واه كأن خفوقه ... لمّا تلفت جهشة المتباكي
د- المصير: وكما أن مصير النار بعد أن تفعل أفاعيلها وتبلغ غايتها الخمود والانطفاء فالرماد كذلك مصير الإنسان وناهيك بهذا المصير إيلاما للنفس وارتماضا للقلب فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبه والمشبه به فتأمل هذا الفصل، فله على سائر الفصول الفضل.
هذا وقد أوجزنا القول في عدم إضافة الرأس بالاكتفاء بعلم المخاطب ولا بد من إيضاحه الآن فنقول أن للاستعارة مطلوبات ثلاثة:
المبالغة في التشبيه والظهور والإيجاز وكل استعارة تتناول واحدا من هذه المطلوبات أما هذه الاستعارة فقد تناولت المطلوبات الثلاثة بكاملها فإن الكلام أن يقال: شيب الرأس ولو جاء الكلام كذلك لأفاد الظهور فقط دون المبالغة واللفظ الأول يعطى عموم الشيب جميع نواحي الرأس كما انك إذا قلت: اشتعلت نار البيت صدق ذلك على اشتعال النار في بعض نواحيه دون بقيته بخلاف ما إذا قلت اشتعل البيت نارا فإن مفهوم ذلك اشتمال النار على كل البيت بجميع أجزائه فتنبه لهذا الفصل وإن طال بعض الطول فإنه كالحسن غير مملول.
هذا وقد اقتبس ابن دريد اشتعال الرأس شيبا فقال في مقصورته:
واشتعل المبيض في مسودّه ... مثل اشتعال النار في جزل الغضا
هذا ولما كان الشيب عندهم عيبا قالوا: هو أشيب أي وصفا على غير قياس لأن الوصف على أفعل انما يكون من فعل كفرح وشرطه(6/61)
الدلالة على العيوب أو الألوان وقال الشهاب الخفاجي انه على وزن الوصف من المصائب الخلقية فعدوه من العيوب، ولأبي الحسن الزوزني:
كفى الشيب عيبا ان صاحبه إذا ... أردت به وصفا له قلت أشيب
وكان قياس الأصل لو قلت شائبا ... ولكنه في جملة العيب يحسب
فشائب خطأ لم يستعمل.
هذا وفي قوله واشتعل الرأس شيبا فن الإطناب فقد انتقل أولا من شخت الدال على ضعف البدن وشيب الرأس إجمالا الى هذا التفصيل لمزيد التقرير، وثانيا من هذه المرتبة إلى ثالثة أبلغ منها وهي الكناية التي هي أبلغ من التصريح، وثالثا من هذه المرتبة الى رابعة أبلغ في التقرير وهي بناء الكناية على المبتدأ أي قولك: أنا وهنت عظام بدني، ورابعا من هذه المرتبة الى خامسة أبلغ وهي إدخال إن على المبتدأ أعني قولك إني وهنت عظام بدني، وخامسا الى مرتبة سادسة وهي سلوك طريق الإجمال ثم التفصيل أعني إني وهنت العظام من بدني، وسادسا الى مرتبة سابعة وهي ترك توسيط البدن لا دعاء اختصاصها بالبدن بحيث لا يحتاج الى التصريح بالبدن، وسابعا الى مرتبة ثامنة وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لشمول الوهن العظام فردا فردا.
3- التجريد:
وذلك في قوله تعالى «فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ(6/62)
آلِ يَعْقُوبَ»
وقد قدمنا القول فيه مختصرا وسنورده الآن مستوفى:
فنقول ان التجريد هو أن ينتزع المتكلم من أمر ذي صفة أمرا آخر بمثاله له فيها مبالغة لكمالها فيه كأنه بلغ من الاتصاف بتلك الصفة الى حيث يصح أن ينتزع منه موصوف آخر بتلك الصفة وهو أقسام:
أ- أن يكون بمن التجريدية كقولهم لي من فلان صديق حميم ومنه الآية الكريمة ومثله للقاضي الفاضل في وصف السيوف:
تمدا إلى الأعداء منها معاصسا ... فترجع من ماء الكلي بأساور
ب- أن يكون بالباء التجريدية الداخلة على المنتزع منه نحو قول ابن هانىء:
وضربتم هام الكماة ورعتم ... بيض الخدور بكل ليث مخدر
وقال أبو تمام:
هتك الظلام أبو الوليد بغرة ... فتحت لنا باب الرجاء المقفل
بأتم من قمر السماء وإن بدا ... بدرا وأحسن في العيون وأجمل
وأجل من قس إذا استنطقته ... رأيا وألطف في الأمور وأجزل
والمراد بأتم من قمر السماء نفس أبي الوليد.
ح- أن يكون بدخول في على المنتزع منه أو مدخول ضميره كقوله تعالى «لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ» أي في جهنم وهي دار الخلد ولكنه انتزع منها دارا أخرى للمبالغة وقال المتنبي:(6/63)
تمضي المواكب والأبصار شاخصة ... منها الى الملك الميمون طائر
قد حرن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمى أظافره
فإن الأسد هو نفس الممدوح ولكنه انتزع منه أسدا آخر تهويلا لأمره ومبالغة في اتصافه بالشجاعة والصولة.
د- أن يكون بدخول بين كقول ابن النبيه:
يهتز بين وشاحيها قضيب نقا ... حمائم الحلي في أفنانه صدحت
هـ- ومنها أن يكون بدون توسط شيء كقول قتادة بن سلمة الحنفي:
فلئن بقيت لأرحلن بعزة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم
عني بالكريم نفسه فكأنه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ولذا لم يقل أو أموت، ولأبي تمام:
ولو تراهم وإيانا وموقفنا ... في موقف البين لاستهلالنا زجل
من حرقة أطلقتها فرقة أسرت ... قلبا ومن غزل في نحره عذل(6/64)
وقد طوى الشوق في أحشائنا بقرا ... عينا طوتهن في أحشائها الكلل
ومراده بالبقر العين الذين أخبر عنهم أولا بقوله ولو تراهم فكأنه انتزع منهم موصوفين بهذه الصفة مبالغة فيها.
ز- ومنها أن ينتزع الإنسان من نفسه شخصا آخر مثله في الصفة التي سيق الكلام لها ثم يخاطبه كقول أبي الطيب:
لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
فكأنه انتزع من نفسه شخصا آخر مثله في فقد الخيل والمال ومنه قول الأعشى:
ودّع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وقال أبو نواس وأبدع متغزلا:
يا كثير النوح في الدمن ... لا عليها بل على السكن
سنة العشّاق واحدة ... فإذا أحببت فاستنن(6/65)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
ومراده الخطاب مع نفسه ولذلك قال بعده:
ظن بي من قد كلفت به ... فهو يجفوني على الظنن
بات لا يعنيه ما لقيت ... عين ممنوع من الوسن
رشأ لولا ملاحته ... خلت الدنيا من الفتن
هذا والتجريد كثير في الشعر وستأتي أمثلة منه في مواضع أخرى من هذا الكتاب.
[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 15]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)(6/66)
اللغة:
(سَمِيًّا) : السمي: المسمّى وهو فعيل بمعنى مفعول وأصله سميو اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء أي مسمى بيحيى قال الزمخشري: «وهذا شاهد على أن الاسامي السنع جديرة بالاثرة وإياها كانت العرب تنتحي في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم:
سنع الأسامي مسبلي أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب
انتهى كلام الزمخشري وسنع الاسامي أي أسماؤهم حسنة يقال سنع الرجل كظرف فهو سنيع أي جميل وأسنع والمرأة سنعاء وسنع جمع أسنع كحمر في جمع أحمر من السناعة وهي الجمال كما أفاده في الصحاح أي أسماؤهم حسنة فهي أنبه وأنوه وأنزه عن النبز والحمر صفة الأزر وتمس صفة أخرى لها وهدب الشيء طرفه والمناسب للمعنى أن المراد به الجمع ويمكن أن تكون ضمته مفردا كقفل وجمعا كفلك ويجوز أنه اسم جمع ولذلك جاء في واحده هدبه، ومس الأرض بالأطراف كناية عن طولها بل عن غناهم وقيل معنى السمي المثل والشبيه والشكل والنظير كما في القاموس وغيره فكل واحد منهما سمي لصاحبه ونحو يحيى في أسمائهم يعمر ويعيش إن كانت التسمية عربية وقد سموا بيموت أيضا وهو يموت بن المزرع وقيل هو ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة.
(عِتِيًّا) : في المختار: «عتا من باب سما وعتيا أيضا بضم العين وكسرها وهو عات فالعاتي المجاوز للحد في الاستكبار وعتا الشيخ(6/67)
يعتو عتوا بضم العين وكسرها كبر وولى» وقال الزمخشري: «أي بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل يقال عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا» (آيَةً) : علامة على حمل امرأتي.
(الْمِحْرابِ) : في القاموس: «المحراب: الغرفة، وصدر البيت وأكرم مواضعه ومقام الامام من المسجد والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس» وأما المحراب المعروف الآن وهو طاق مجوف في حائط المسجد يصلي فيه الامام فهو محدث لا تعرفه العرب فتسميته محرابا اصطلاح للفقهاء، هذا ما قاله الشهاب في حاشيته على البيضاوي ولكن المغني اللغوي الذي ذكره الفيروز بادي ينطبق عليه وهو «مقام الإمام في المسجد» .
(الْحُكْمَ) : الحكمة ومنه قول النابغة:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... الى حمام شراع وارد الثمد
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد
فحسّبوه فألفوه كما ذكرت ... ستا وستين لم تنقص ولم تزد(6/68)
والفتاة التي حكمت هي زرقاء اليمامة التي يضرب بها المثل في حدة البصر نظرت الى حمام مسرع الى الماء فقالت:
ليت الحمام ليه ... إلى حمامتيه
ونصفه قديه ... تم الحمام ميه
فوقع في شبكة صياد فحسبوه فوجدوه ستا وستين حمامة ونصفه ثلاث وثلاثون فإذا ضم الجميع إلى حمامتها صار مائة وشراع بكسر الشين ما يرفع وبه سمي الشراع وهو مثل الملاءة الواسعة يشرع وينصب على السفينة فتهب فيه الرياح فتمضي بالسفينة، ويروى سراع جمع سريع وصفه به لأنه جمع في المعنى كما وصفه بوارد وهو مفرد لأنه مفرد في اللفظ وروى الحمام أو نصفه بالرفع على إهمال ليتما وبالنصب على أعمالها لأن ما الزائدة تكف ان وأخواتها ما عدا ليت فيجوز أعمالها وإلغاؤها وأو بمعنى الواو وقد بمعنى حسب فهي اسم أضيفت الى ياء المتكلم بغير نون الوقاية كما يقال حسبي والفاء زائدة لتحسين اللفظ كفاء فقط وكلاهما بمعنى انته، وحسبوه بتشديد السين ليسلم البيت من الخبن وهو نوع من الزحاف معيب وقيل الحكم العقل وقيل النبوة لأن الله أحكم عقله في صباه وأوحى اليه.
(وَحَناناً) : أي رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة وأنشد:
وقالت حنان ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف
وهذا البيت لمنذر الكلبي وقبله ليتسق معناه:
وأحدث عهد من أمينة نظرة ... على جانب العلياء إذ أنا واقف(6/69)
يقول: وأقرب عهد أي لقاء ورؤية لأمينة محبوبتي تصغير آمنة هو نظرة مني لها بجانب تلك البقعة إذ أنا واقف هناك أي حين وقوفي بها وفيه إشعار بأنه كان وافقا يترقب رؤيتها فلما رأته قالت له: حنان أي أمري حنان ورحمة لك وهو من المواضع التي يجب فيها حذف المبتدأ لأنه مصدر محول عن النصب وقولها: ما أتى بك هاهنا؟
استفهام تعجبي أذو نسب أي أأنت ذو نسب أم أنت عارف بهذا الحي ويجوز أن يكون أذو نسب بدلا من ما الاستفهامية أي ما الذي حملك على المجيء هنا أو الذي دلّك عليه صاحب قرابة من الحي أي معرفتك به ويجوز أن الاستفهام حقيقي حكته على لسان غيرها لتلقنه الجواب بقولها: أذو نسب مع معرفتها سبب مجيئه وهو حبها فربما سأله أحد من أهلها فيجيبه بأحد هذين الجوابين وقيل حنانا من الله عليه، وحنّ بمعنى ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرأفة والعطف وقيل لله حنان كما قيل رحيم على سبيل الاستعارة.
(عَصِيًّا)
: صيغة مبالغة وأصل عصيا عصييا بوزن فعيل أدغمت الياء فيه وأتى بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل لأن المنفي أصل العصيان لا المبالغة فيه.
الإعراب:
(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) يا حرف نداء وزكريا منادى مفرد علم مبني على الضم وقرىء زكرياء بالهمز على الأصل وإنا ان واسمها وجملة نبشرك خبرها والكاف مفعول به وبغلام جار ومجرور متعلقان بنبشرك واسمه مبتدأ ويحيى خبره والجملة الاسمية صفة لغلام. (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) الجملة صفة ثانية لغلام وله مفعول(6/70)
نجعل الثاني ومن قبل حال وسميا مفعول نجعل الأول. (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) رب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وأنى اسم استفهام في محل نصب على الظرفية المكانية وهو متعلق بالاستقرار في خبر يكون ولي جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر يكون المقدم وغلام اسمها المؤخر وكانت الواو للحال وكانت امرأتي عاقرا كان واسمها وخبرها والجملة حالية وقد بلغت من الكبر جملة حالية أيضا ومن الكبر متعلقان ببلغت أو بمحذوف حال من عتيا لأنه كان صفة له وتقدم عليه وعتيا مفعول بلغت ولا تلتفت الى الأعاريب التي تكلفها المعربون كاعرابها حالا وتمييزا ومن زائدة وهذا لا يليق بكتاب الله. (قالَ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) قال فعل ماض وفاعله مستتر قيل يعود على الله تعالى وقيل على جبريل وكذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أو نصب بقال أو بفعل محذوف تقديره أفعل كذلك والاشارة الى مبهم يفسره هو على هين، وقال ربك فعل وفاعل وهو مبتدأ وعلي متعلقان بهين وهين خبر هو ولقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخلقتك فعل وفاعل ومفعول به ومن قبل متعلقان بخلقتك والواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتك فعل مضارع ناقص مجزوم بلم وعلامة جزمه السكون المقدر على النون المحذوفة للتخفيف واسم تك مستتر وشيئا خبر تك وجملة ولم تك شيئا حال متداخلة وسوف يأتي بحث الشيء بين أهل السنة والمعتزلة وبراعة المتنبي في هذا الباب. (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) رب منادى وقد تقدم إعرابه واجعل فعل أمر ولي مفعول به ثان وآية مفعول به أول. (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) آيتك مبتدأ وأن وما في حيزها خبر(6/71)
والناس مفعول به وثلاث ليال نصب على الظرف والظرف متعلق بتكلم وسويا حال من فاعل تكلم أي حالة كونك بلا علة وسليم الأعضاء وقيل سويا نسب على الصفة لثلاث بمعنى أنها كاملات. (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) الفاء استئنافية وخرج فعل وفاعل مستتر وعلى قومه متعلقان بمحذوف حال ومن المحراب متعلقان بخرج فأوحى عطف على خرج وأن تفسيرية لأنها وقعت بعد جملة فيها معنى القول وسبحوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وبكرة ظرف زمان متعلق بسبحوه وعشيا عطف على بكرة ويجوز أن تكون أن مصدرية مفعولة بالإيحاء. (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يا يحيى منادى مفرد علم وخذ الكتاب فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به وبقوة حال من فاعل خذ والباء للملابسة أي حال كونك ملتبسا بقوة واجتهاد وآتيناه الواو استئنافية وآتيناه فعل وفاعل ومفعول به أول والحكم مفعول به ثان وصبيا حال من الهاء.
(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) وحنانا عطف على الحكم أي وآتيناه حنانا أي رحمة ورقة في قلبه وعطفا على الآخرين وقيل مفعول مطلق لفعل محذوف وهو بعيد ومن لدنا متعلقان بمحذوف صفة لحنان وزكاة عطف على حنانا وكان تقيا عطف على آتيناه وكان واسمها المستتر وتقيا خبرها. (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا)
وبرا عطف على تقيا وبوالديه متعلقان ببرا ولم يكن عطف على وكان تقيا واسم يكن مستتر تقديره هو وجبارا خبرها وعصيا نعت. (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)
الواو استئنافية وسلام مبتدأ وساغ الابتداء به مع أنه نكرة لتضمنه معنى الدعاء وعليه خبر ويوم ظرف متعلق بسلام وجملة ولد مضافة للظرف وما بعده عطف عليه وحيا حال.(6/72)
البلاغة:
الإيجاز في قوله تعالى «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ» فظاهر الكلام يوهم أنه استبعد ما وعده الله عز وجل بوقوعه ولا يجوز لأحد بله النبي النطق بما لا يسوغ أو بما في ظاهره الإيهام فجاء الكلام موجزا وتقديره هل تعاد لنا قوتنا وشبابنا فنرزق بغلام؟ أو هل يكون الولد لغير الزوجة العاقر؟ وإذن فالمستبعد هو مجيء الولد منهما بحالهما ولكن الجواب أزال الاشكال إذ قيل له سيكون لكما الولد وأنتما بحالكما.
الفوائد:
اختلف أهل السنة والمعتزلة في الشيء فالمعتزلة يعتقدون أن الشيء يتناول الموجود والمعدوم الذي يصح وجوده فلا يتناول المستحيل إذن أما أهل السنة فلا يتناول الشيء عندهم إلا الموجود، والآية تشهد لأهل السنة لأن قوله «وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» صريحة في ذلك، وقد رمق المتنبي من طرف خفي بعيد هذا الخلاف، فاستعمله في وصف الجبان وذلك في قصيدة مستجادة له في مديح سعيد بن عبد الله بن سعيد الكلابي المنبجي وهي مما قاله في صباه قال:
وضاقت الأرض حتى كادها ربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وقد غفل شراحه عن حقيقة الخلاف المشتجر بين أهل السنة والاعتزال فذهبوا في تفسير هذا البيت كل مذهب قال ابن القطاع:
«قد أوخذ في هذا البيت فقيل: كيف يرى غير شيء، وغير شيء(6/73)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
معدوم والمعدوم لا يرى؟ وفيه تناقض. وليس الأمر كما قالوا بل أراد غير شيء يعبأ به» وقال أبو بكر الخوارزمي: «رأى في هذا البيت ليست من رؤية العين وإنما هو من رؤية القلب يريد به التوهم وغير الشيء يجوز أن يتوهم ومثله كثير» وقال الواحدي: «إذا رأى غير شيء يعبأ به أو يفكر في مثله ظنه إنسانا يطلبه وكذلك عادة الخائف الهارب كقول جرير:
ما زال يحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا
قال أبو عبيد: لما أنشد الأخطل قول جرير هذا قال: سرقه والله من كتابهم «يحسبون كل صيحة عليهم» ويجوز حذف الصفة وترك الموصوف دالا عليها كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» أجمعوا على أن المعنى لا صلاة كاملة فاضلة، ويقولون: هذا ليس بشيء يريدون شيئا جيدا. وقال بعض المتكلمين:
إن الله خلق الأشياء من لا شيء فقيل هذا خطأ لأن لا شيء لا يخلق منه شيء ومن قال إن الله يخلق من لا شيء جعل لا شيء يخلق منه والصحيح أن يقال يخلق لا من شيء لأنه إذا قال لا من شيء نفى أن يكون قبل خلقه شيء يخلق منه الأشياء» والصحيح ما قاله: أي إذا رأى غير شيء يخاف منه، ومن هذا الوادي «حتى إذا جاءه أم يجده شيئا» معناه يريده أو يطلبه أو يغنيه عن الماء أي شيئا نافعا مغنيا.
[سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 21]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)(6/74)
اللغة:
(انْتَبَذَتْ)
: الانتباذ الاعتزال والانفراد فقد تخلت مريم للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس الناس وقيل غير ذلك والتفاصيل في المطولات وفي المصباح: «وانتبذت مكانا اتخذته بمعزل يكون بعيدا عن القوم» .
(بَغِيًّا) : البغي: الفاجرة التي تبغي الرجال وهي فعول عند المبرد أي بغوي فأدغمت الواو في الياء وقال ابن جني في كتاب التمام «هي فعيل ولو كانت فعولا لقيل بغوّ كما قيل فلان نهوّ عن المنكر» وبغت فلانة بغاء بكسر الباء ومنه قيل للإماء البغايا لأنهن كنّ يباغين في الجاهلية بقال: قامت البغايا على رؤوسهم قال الأعشى:
والبغايا يركضن أكسية الاضر ... يج والشرعبيّ ذا الأذيال
وفي القاموس وشرحه: «بغى يبغي من باب ضرب الشيء بغاء بضم الباء وبغيا بفتحها وبغى وبغية طلبه وبغى الرجل عدل عن الحق وعصى وبغى عليه استطال عليه وظلمه فهو باغ» فلعل إطلاقهم كلمة البغاء على العهر والزنا مأخوذ من هذا المعنى لأنه من دواعي ما يطلبه أهل الخنا والفجور.(6/75)
الإعراب:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا)
واذكر الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعل مستتر تقديره أنت وفي الكتاب جار ومجرور متعلقان باذكر ومريم مفعول به وإذ: قال أبو البقاء ما نصه: في إذ أربعة أوجه أحدها أنها ظرف والعامل فيه محذوف تقديره واذكر خبر مريم إذ انتبذت والثاني أن تكون حالا من المضاف المحذوف والثالث أن يكون منصوبا بفعل محذوف أي وبيّن إذ انتبذت فهو على كلام آخر كما قال سيبويه في قوله تعالى «انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» وهو في الظرف أقوى وان كان مفعولا به والرابع أن يكون بدلا من مريم بدل اشتمال لأن الأحيان تشتمل على الجثث ذكره الزمخشري وهو بعيد لأن الزمان إذا لم يكن حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا وصفا لها لم يكن بدلا منها وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كقولك لا أكرمك إذ لم تكرمني أي لأنك لم تكرمني فعلى هذا يصح بدل الاشتمال أي واذكر مريم انتباذها.
واضطرب قول ابن هشام فيها فبينما يقول في صدد بحثه عن إذ «الوجه الثالث أن تكون بدلا من المفعول نحو «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ»
فإذ بدل اشتمال من مريم على حد البدل في:
«يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» يعود فيقول: «وزعم الجمهور أن إذ لا تقع إلا ظرفا أو مضافا إليها وأنها في نحو «واذكروا إذ كنتم قليلا» ظرف لمفعول محذوف أي واذكروا نعمة الله إذ كنتم قليلا، وفي نحو إذ انتبذت ظرف لمضاف الى مفعول محذوف أي واذكر قصة مريم.(6/76)
وقال شهاب الدين الحلبي المعروف بالسمين: «في إذ أوجه أحدها أنها منصوبة باذكر على أنها خرجت عن الظرفية إذ يستحيل أن تكون باقية على مضيها والعامل فيها ما هو نصّ في الاستقبال والثاني أنها منصوبة بمحذوف مضاف لمريم تقديره واذكر خبر مريم أو نبأها إذ انتبذت فإذ منصوبة بذلك الخبر أو النبأ، الثالث أنها بدل من مريم بدل اشتمال قال الزمخشري: لأن الأحيان مشتملة على ما فيها لأن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها لوقوع هذه القصة العجيبة فيه» وجملة انتبذت مضافة إلى إذ ومن أهلها حال ومكانا ظرف متعلق بانتبذت أي في مكان وشرقيا نعت ويجوز أن يعرب مكانا مفعولا به على أن معنى انتبذت أتت، ونص المصباح يؤيد كونه مفعولا به فتأمله في باب اللغة. (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)
الفاء عاطفة واتخذت فعل ماض وفاعل مستتر ومن دونهم مفعول به ثان وحجابا مفعول به أول فأرسلنا عطف على فاتخذت وإليها متعلقان بأرسلنا وروحنا مفعول به، فتمثل عطف أيضا ولها متعلقان بتمثل وبشرا حال وسويا نعت وسوغ وقوع الحال جامدة وصفها وسيأتي مزيد بحث عنها في باب الفوائد. (قالَتْ: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)
ان واسمها وجملة أعوذ خبرها والجملة مقول القول وبالرحمن متعلقان بأعوذ ومنك متعلقان بأعوذ أيضا وإن حرف شرط جازم وكنت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وتقيا خبرها وجواب الشرط محذوف والمعنى إن كان يرجى منك أن تتقي الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك. (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا)
إنما كافة ومكفوفة وأنا مبتدأ ورسول ربك خبر واللام للتعليل وأهب فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام ولك متعلقان بأهب وغلاما مفعول به وزكيا صفة. (قالَتْ: أَنَّى يَكُونُ(6/77)
لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا)
أنى اسم استفهام بمعنى كيف وقد تقدم إعرابه في قصة زكريا ولم يمسسني الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويمسسني مضارع مجزوم بلم والياء مفعول به وبشر فاعل، ولم أك بغيا: لم حرف نفي وقلب وجزم وأك مضارع مجزوم وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف واسم أك مستتر وبغيا خبرها. (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) كذلك خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم إعراب نظيرها. (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) لنجعله تعليل معلله محذوف أي فعلنا ذلك أو هو معطوف على مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية وآية مفعول به ثان لنجعله وللناس صفة لآية ورحمة منا عطف على آية وكان أمرا مقضيا كان واسمها المستتر وخبرها ومقضيا صفة.
الفوائد:
معنى بشرا سويا:
تقدم بحث الحال الموطئة وانها ان تكون جامدة موصوفة وهذا أحد شروطها التي تبرر كونها جامدة وهو في الآية بشرا فهو حال من فاعل تمثل وهو الملك والاعتماد فيها على الصفة وهي سويا وهو اسم مشتق لأنه صفة مشبهة، وعبارة ابن هشام: «الثاني انقسامها بحسب قصدها لذاتها وللتوطئة بها الى قسمين مقصودة وهو الغالب وموطئة وهي الجامدة الموصوفة نحو فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
» واعترض بعضهم على هذا الإعراب فقال: ان دعوى الحال تقتضي أن المعنى متمثل لها في حال كونها بشرا ولا يخفى انه وقت التمثيل ملك لا بشر فالأقرب انه منصوب بنزع الخافض أي فتمثل لها ببشر أي تشبه به وتصور بصورته.(6/78)
واعلم أنه وقع هنا للبيضاوي ما لا يليق حيث قال: «أتاها جبريل عليه السلام بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه ولعله ليهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها» فقوله ليهيج إلخ عبارة غير لائقة بمريم مع التحقيق أن عيسى عليه السلام كان من عالم الأمر أي أمر التكوين الممثل بقوله تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» إذ ليس ثم قول ولا كان ولا يكون وهذا وجه المماثلة بين عيسى وآدم في قوله تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» أي في التكوين بالأمر من غير واسطة ولا نطفة والنفخ المدلول عليه بقوله تعالى «فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» من قبيل التمثيل استعير لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها. لا حقيقة النفخ التي هي إجراء الريح الى جوف صالح لإمساكها والامتلاء بها.
ولا يصح الاعتذار للقاضي البيضاوي بأنه نظر الى العادة الإلهية الجارية بخلق المسببات عقب الأسباب لأن السبب لا بد أن يكون تاما ونطفة المرأة وحدها ليست بسبب تام لحصول الولد وإنما تمثل لها بصورة حسنة لتأنس به ولا تنفر منه وتصغي اليه وترهف السمع لسماع البشرى وكان بصورة أمرد لإلف النساء الى الأطفال ومن قرب منهن وعدم الاحتشام منهن. أما رواية الزمخشري فهي: «وقيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت الى بيت خالتها فإذا طهرت عادت الى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب وضيء الوجه، جعد الشعر، سوي الخلق، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا أو حسن الصورة مستوي الخلق وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر منه ولو بدا لها في(6/79)
الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه» واستأنف الزمخشري كلامه فقال: «ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة، الفائقة الحسن، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها، وسبرا لعفتها، وقيل: كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك» .
ونختم هذا الفصل الذي خالفنا فيه شرط كتابنا لأهميته بتذييل للشيخ عبد الرزاق الكاشي وهذا هو نصه: «إنما تمثل لها بشرا سوي الخلق حسن الصورة، لتتأثر نفسها به فتتحرك على مقتضى الجبلة أو يسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام، وانما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية: أن مني الذكر في تولد الجنين بمنزلة الإنفحة من الجبن، ومني الأنثى بمنزلة اللبن: أي العقد من مني الذكر والانعقاد من مني الأنثى، لا على معنى أن مني الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومني الأنثى ينفرد بالقوة المنعقدة بل على معنى أن القوة العاقدة في مني الذكر أقوى، وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئا واحدا ولم ينعقد مني الذكر حتى يصير جزءا من الولد فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس القوية القوى وكان مزاج كبدها حارا كان المني الذي ينفصل عن كليتها اليمنى أحر كثيرا من المني الذي ينفصل عن كليتها اليسرى فإذا اجتمعا في الرحم كان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام مني الرجل في شدة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام مني الأنثى في قوة الانعقاد فيخلق الولد.(6/80)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
هذا وخصوصا إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس متقوية به يسري أثر اتصالها به الى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمد جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فتصير أقدر على أفعالها بما لا يضبط في القياس» .
[سورة مريم (19) : الآيات 22 الى 33]
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)(6/81)
اللغة:
(قَصِيًّا) : بعيدا من أهلها.
(فَأَجاءَهَا) : يقال: جاء وأجاء لغتان بمعنى واحد والأصل في جاء أن يتعدى لواحد بنفسه فإذا دخلت عليه الهمزة كان القياس يقتضي تعديته لاثنين إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل فصار بمعنى ألجأه الى كذا ألا تراك لا تقول: جئت المكان وأجاءنيه زيد كما تقول بلغته وأبلغنيه ونظيره آتى حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم تقل أتيت المكان وآتانيه فلان.
(الْمَخاضُ) : وجع الولادة، وفي القاموس: مخض يمخض بتثليث الخاء في المضارع مخضا اللبن استخرج زبده فهو لبن مخيض وممخوض ومخض الشيء حركه شديدا ومخض الرأي قلبه وتدبر عواقبه حتى ظهر له الصواب ومخضت بكسر الخاء تمخض بفتحها الحامل مخاضا بكسر الميم ومخاضا بفتحها ومخضت بالبناء للمجهول، ومخضت بتشديد الخاء وتمخضت الحامل دنا ولادها وأخذ الطلق فهي ماخض والجمع مخض بضم الميم وتشديد الخاء ومواخض. وللميم والخاء مجتمعتين معنى يكاد يكون متقاربا فهي تشير الى الانزلاق ومنه مخر البحر والماء أي شقه مع صوت ومخط وامتخط معروفة.
(مِتُّ) : بكسر الميم وضمها يقال مات يمات ومات يموت.
(نَسْياً) : النسي بفتح النون وكسرها بمعنى المنسي كالذبح بمعنى المذبوح وكل ما من حقه أن يطرح ويرمى وينسى.(6/82)
(سَرِيًّا) : السري فيه قولان: أحدهما أنه الرجل المرتفع القدر من سرو يسرو كشرف يشرف فهو سري فأعل إعلال سيد فلامه واو يقال هو سري من السراة والسروات، قال بشامة بن حزن النهشلي:
وإن دعوت إلى جلّى ومكرمة ... يوما سراة كرام الناس فادعينا
والثاني أنه النهر الصغير ويناسبه فكلي واشربي، واشتقاقه من سرى يسري لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا ياء، قال لبيد يصف حمارا وحشيا:
فمضى وقدّمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها
فتوسّطا عرض السري فصدعا ... مسجورة متجاورا أقلامها
يقول إنه مضى خلف أتانه نحو الماء وقدمها أمامه وأقدامها اسم كان وألحقها التاء لأنها بمعنى التقدمة وعادة خبر كانت والتعريد التأخر والجبن فتوسطا أي الحمار والأتان عرض السري أي ناحية النهر الصغير فصدعا أي شقا عينا مسجورة أي مملوءة.
(رُطَباً جَنِيًّا) : الرطب بضم ففتح ما نضج من البسر قبل أن يصير تمرا والجني فعيل بمعنى فاعل أي صار طريا صالحا للاجتناء.
(وَقَرِّي عَيْناً) : أي طيبي نفسا ولا تغتمي وارفضي ما أحزنك يقال قرت عينه تقر بفتح العين وكسرها في المضارع وفي وصف العين بذلك تأويلان أولهما أنه مأخوذ من القر وهو البرد وذلك أن العين إذا فرح صاحبها كان دمعها باردا وإذا حزن كان دمعها حارا ولذلك قالوا في الدعاء عليه أسخن الله عينك والثاني انه من الاستقرار والمعنى أعطاه(6/83)
الله ما يسكن عينه فلا تطمح الى غيره وفي المصباح: وقرت العين من باب ضرب قرة بالضم وقرورا بردت سرورا وفي لغة أخرى من باب تعب.
(صَوْماً) : صمتا وخيل صائمة وصيام قال:
خيل صيام وخيل غير صامتة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
وقيل المراد بصائمة وغير صائمة واقفة وغير واقفة.
وصامت الريح ركدت وصام النهار وصامت الشمس كبّدت وجئته والشمس في مصامها وشاخ فصامت عنه النساء.
(فَرِيًّا) : الفري البديع من فرى الجلد، والفري العظيم من الأمر يقال في الخير والشر وقيل الفري العجيب وقيل المفتعل ومن الأول الحديث في وصف عمر بن الخطاب: فلم أرى عبقريا يفرى فريه، والفري قطع الجلد للخرز والإصلاح، وفي المختار: «فرى الشيء قطعه لاصلاحه وبابه رمى وفرى كذبا خلقه وافتراه واختلقه والاسم الفرية وقوله تعالى: «شَيْئاً فَرِيًّا» أي مصنوعا مختلقا وقيل عظيما وأفرى الأوداج قطعها وأفرى الشيء شقه فانفرى وتفرى أي انشق، وقال الكسائي: أفرى الأديم قطعه على جهة الإفساد وفراه قطعه على جهة الإصلاح» .
الإعراب:
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) الفاء عاطفة على محذوف، تقديره فنفخ جبريل في جيب درعها فحملته وسيأتي سر هذا التعقيب(6/84)
في باب الفوائد فانتبذت عطف على فحملته وبه جار ومجرور في موضع نصب على الحال وقد رمق سماءه أبو الطيب المتنبي في قصيدة يمدح بها علي بن مكرم بن سيار التميمي ويصف الخيل:
كأن خيولنا كانت قديما ... تسقّى في قحوفهم الحليبا
فمرّت غير نافرة عليهم ... تدوس بنا الجماجم والتريبا
يريد أن خيولهم لم تنفر منهم كأنها كانت في صغرها تسقى في قحوف رءوسهم اللبن يعنى قحوف رءوس الأعداء والعرب كان من عادتها أن تسقي كرام خيولها اللبن وقحف الرأس ما انضم على أم الدماغ، والجمجمة العظم الذي فيه الدماغ فوطئت رءوسهم وصدورهم ولم تنفر عنهم فكأنها ألفتهم والتريب والتريبة واحدة الترائب وهو موضع القلادة ومن طريف الأخطاء أن بعضهم تصدى لشرح هذا البيت ولما لم يعرف معنى التريب قال بالحرف: والتريب والتراب لغة في التراب.
زاده الله فهما!!.
ومكانا مفعول فيه أو مفعول به وقد تقدم وقصيا صفة.
(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) الفاء عاطفة للتعقيب وأجاءها فعل ماض ومفعول به مقدم والمخاض فاعل مؤخر والى جذع النخلة متعلقان بمحذوف حال وسيأتي السر في تعريف النخلة في باب البلاغة.
(قالَتْ: يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) يا حرف نداء والمنادى محذوف أو يا لمجرد التنبيه وليت واسمها وجملة مت خبرها وهي فعل وفاعل والظرف منصوب لأنه أضيف وهو متعلق بمت وهذا مضاف اليه وكنت الواو عاطفة وكان واسمها ونسيا خبرها ومنسيا تأكيد لنسيا لأنه بمعناه ولك أن تعربه نعتا. (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) الفاء عاطفة وناداها فعل ومفعول(6/85)
به وفاعل مستتر يعود على الملك أو عيسى ومن تحتها متعلقان بناداها أي في مكان أسفل من مكانها أو بمحذوف حال من فاعل أي ناداها وهو تحتها وأن مفسرة لأن النداء فيه معنى القول دون حروفه ولا ناهية وتحزني مجزوم بلا ويجوز أن تكون مصدرية، ولا نافية وتحزني منصوب بها وأن وما بعدها نصب بنزع الخافض المتعلق بالنداء والأول أسهل وقد حرف تحقيق وجعل ربك فعل وفاعل وتحتك ظرف متعلق بمحذوف هو المفعول الثاني لجعل وسريا هو المفعول الأول وسيأتي السرّ في علة انتزاع الحزن عنها بسبب وجود الطعام والشراب.
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) : الواو عاطفة وهزي فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والياء هي الفاعل وإليك متعلقان بهزي وبجذع النخلة أورده بن هشام في مغني اللبيب شاهدا على زيادة الباء في المفعول به وأكثر المعربين على ذلك ولكن الزمخشري قال بعد ذكر وجه الزيادة ما معناه: يحتمل انه نزل هزي منزلة اللازم وإن كان متعديا ثم عداه بالباء كما يعدى اللازم والمعنى افعلي به الهز وتساقط مجزوم لأنه جواب الطلب وعليك متعلقان بتساقط ورطبا مفعول به وجنيا صفة، وتساقط يتعدى بنفسه ومن أمثلته لا من شواهده لأن البحتري غير محتج بكلامه.
فمن لؤلؤ تجلوه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
وعن المبرد أن رطبا مفعول هزي وباء بجذع النخلة للاستعانة ولا يخفى ما فيه من التكلف بتأخير ما في حيز الأمر عن جوابه وستأتي أوجه زيادة الباء في باب الفوائد. (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) الفاء الفصيحة أي إذا تم لك هذا كله فكلي، وكلي فعل أمر والياء فاعل(6/86)
وما بعده عطف عليه وعينا تمييز من الفاعل لأنه منقول عنه إذ الأصل لتقر عينك. (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) الفاء عاطفة وإن شرطية أدغمت نونها بما الزائدة وترين فعل الشرط وأصله ترأيين بهمزة هي عين الفعل وياء مكسورة هي لامه وأخرى ساكنة هي ياء الضمير والنون علامة الرفع وقد حذفت لام الفعل لتحركها وانفتاح ما قبلها فقلبت ألفا فالتقت ساكنة مع ياء الضمير فحذفت لالتقاء الساكنين، ومن البشر حال لأنه كان في الأصل صفة لأحدا وأحدا مفعول به. (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) الفاء رابطة لجواب الشرط وقولي فعل أمر مبني على حذف النون والياء فاعل وإن واسمها وجملة نذرت خبرها والجملة مقول القول وسيرد إشكال أجبنا عنه في باب الفوائد، وللرحمن متعلقان بنذرت وصوما مفعول به، فلن الفاء استئنافية ولن حرف نفي ونصب واستقبال وأكلم منصوب بلن واليوم ظرف متعلق بأكلم وإنسيا مفعول به. (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) الفاء استئنافية وأتت فعل وفاعل مستتر والتاء للتأنيث وبه علقه أبو البقاء بمحذوف حال أي مصحوبة به وهو جميل ولا نرى مانعا بتعلقه بأتت وقومها مفعول به وجملة تحمله حال ثانية إما من ضمير مريم وإما من ضمير عيسى في به، قالوا فعل وفاعل ويا حرف نداء ومريم منادى واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وجئت فعل وفاعل وشيئا مفعول به أي فعلت شيئا وفريا نعت ويجوز إعراب شيئا على المصدرية أي نوعا من المجيء غريبا.
(يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) يا حرف نداء وأخت هارون منادى مضاف أي يا شبيهته، وهارون رجل صالح شبهوها به في عفتها وصلاحها وليس المراد منه أخوة النسب وقيل إنما عنوا هارون أخا موسى لأنها كانت من نسله والعرب تقول للتميمي(6/87)
يا أخا تميم وقيل غير ذلك مما تراه في المطولات وما نافية وكان أبوك امرأ سوء كان واسمها وخبرها وما كانت أمك بغيا عطف على الجملة التي سبقتها أي ما دمت بهذه المثابة من مظنة العفة والصلاح فمن أين لك هذا الولد؟ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) الفاء عاطفة وأشارت فعل وفاعل مستتر وإليه متعلقان بأشارت، قالوا فعل وفاعل وكيف اسم استفهام في محل نصب حال ونكلم فعل مضارع وفاعل مستتر تقديره نحن ومن اسم موصول مفعول به وجملة كان صلة واسم كان مستتر تقديره هو وفي المهد جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال وصبيا خبر كان وقد اعتبرنا كان على بابها من النقصان ودلالتها على اقتران مضمون الجملة في الزمن الماضي من غير تعرض للانقطاع كقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» وقد نشب بين علماء العربية خلاف حول «كان» هنا نذكره مبسوطا في باب الفوائد لما تضمنه من فوائد. (قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) جملة إني عبد الله مقول القول ولذلك كسرت همزة إن لوقوعها بعد القول وان واسمها وعبد الله خبرها وقد وصف نفسه بثماني صفات أولها العبودية وجملة آتاني الكتاب حالية وهذه هي الصفة الثانية والكتاب مفعول به ثان وجعلني نبيا فعل ماض وفاعل مستتر ومفعولاه وهذه هي الصفة الثالثة. (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) وجعلني مباركا عطف على وجعلني نبيا وهذه هي الصفة الرابعة وأينما اسم شرط جازم في محل نصب على الظرفية المكانية والجواب محذوف مدلول عليه بما تقدم أي أينما كنت جعلني مباركا وهو متعلق بالجواب المحذوف وكان تامة والتاء فاعلها ويجوز أن تكون الناقصة وأينما متعلق بمحذوف خبرها المقدم. (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) ما دمت ما مصدرية ظرفية ودمت فعل ماض ناقص والتاء اسمها وحيا خبرها(6/88)
والمصدر المؤول نصب على الظرفية والظرف متعلق بأوصاني وهذه هي الصفة الخامسة. (وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) وبرا بفتح الباء معطوف نسقا على مباركا أي وجعلني برا. جعل ذاته برا لفرط بره ولك أن تنصبه بفعل مقدر بمعنى أوصاني تفاديا للفصل الطويل وهذه هي الصفة السادسة وبوالدتي متعلقان ببرا ولم يجعلني عطف على وجعلني وجبارا مفعول به ثان وشقيا صفة وهذه هي الصفة السابعة.
(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) السلام مبتدأ وعلي خبره واختلف في معنى إلى الداخلة على السلام فقيل هي للعهد لأنه تقدم ذكر السلام الموجه الى يحيى فهو موجه إليه أيضا، وقال الزمخشري: «والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللغة على متهمي مريم عليها السلام وأعدائها من اليهود وتحقيقه أن اللام للجنس وإذا قال وجنس السلام عليّ خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم ونظيره قوله تعالى: والسلام على من اتبع الهدى يعني أن العذاب على من كذب وتولى وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنته لنحو هذا من التعريض» ويوم متعلق بمعنى الاستقرار المتعلق به عليّ ولا يجوز نصبه للسلام للفصل بين المصدر ومعموله وجملة ولدت مضافا إليها الظرف ويوم أبعث عطف على يوم ولدت وكذلك يوم أبعث وحيا حال وهذه هي الصفة الثامنة والأخيرة.
البلاغة:
التعريف:
وذلك في تعريف النخلة التي جاءها المخاض عندها وهذا التعريف لا يخلو إما أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس فإذا قيل(6/89)
جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخيل وإما أن يكون من تعريف الجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة كأن الله تعالى إنما أرشدها الى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد وثمارها إنما هي من جمارها فلموافقتها لها مع جميع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها.
الفوائد:
1- خلاصة قصة ميلاد عيسى في القرآن الكريم:
هذا ولم يعن كتاب من الكتب الدينية بميلاد المسيح والدفاع عن طهارة والدته العذراء والإشادة بفضلها وتفضيلها على سائر النساء كما عني القرآن الكريم فقد وردت فيه عن ميلاد المسيح عليه السلام، وحياته وجهاده في سبيل الدعوة الى الله وإصلاح البشر عدة آيات في عدد من السور وقد أتى في براءة العذراء وقنوتها بما لم تأت به كتب أخرى بل كانت السورة الثانية الكبرى من القرآن الكريم وهي سورة آل عمران، وعمران هو والد العذراء وكان عالما من علماء الدين ولم تأت سورة من السور باسم سيدة من سيدات التاريخ غير اسم مريم وهي تحتوي على عدة آيات في ميلاد المسيح كما وردت آيات أخرى في هذا الحادث الجليل.
ولقد اصطفى الله آل عمران كما اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين، وكان عمران أبو مريم رجلا تقيا ورعا، كما كانت زوجته صالحة تقية فلما حملت نذرت الى الله أن يكون حملها خادما للهيكل فلما وضعت وتبين لها أنها أنثى، وليس الذكر كالأنثى، سمتها أمها مريم ولكن الله تقبلها في الهيكل بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا.(6/90)
ولم يعش عمران حتى تشب مريم وتكبر فتوفي وهي صغيرة فكفلها زوج خالتها النبي زكريا وكانت مريم صادقة مباركة يفيض الله عليها من رزقه من حيث تعلم ولا تعلم فكان زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا كثيرا فيسألها قائلا: يا مريم أنّى لك هذا فتجيبه: هو من عند الله.
وكانت مريم تتعبد في الهيكل بعيدا عن أهلها وعن الناس، قد انتبذت مكانا شرقيا في الناصرة من مدينة الجليل، وكانت مخطوبة لرجل من أبناء عمومتها اسمه يوسف النجار ولكن لم يتم زواجهما لأنها وهبت نفسها الى الله ولكن الله تعالى شاء أن يهب الى البشر من هذه الفتاة الطاهرة الكريمة التقية نبيا كريما، ورسولا عظيما، ويجعل منها ومن ابنها آية للناس كما قال تعالى «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» لم يتم زواج يوسف بمريم وبعث الله جبريل فبشرها بحملها بالسيد المسيح وهي في عزلتها تعبد الله وتخلص له العبادة والتقوى فعجبت لذلك وأجفلت وقالت: كيف يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، فكان الجواب عليها كما جاء في القرآن، كما صور القرآن فزع مريم في سورة «مريم» حين جاءها الملك بهذه البشارة متمثلا لها في صورة إنسان ظهر لها في عزلتها، على حين غرة من أمرها فاستعاذت بالله منه فهدأ من روعها وأنبأها أنه مرسل من السماء ليهب لها غلاما زكيا فجاء في هذه السورة «واذكر في الكتاب مريم إلخ الآيات» وقد اتفق إنجيل لوقا وإنجيل برنابا والقرآن الكريم في حادث ولادة المسيح على أنه آية للناس ولم يكن نتيجة اتصال مريم بخطيبها يوسف النجار، كما جاء في بعض الأناجيل الاخرى كإنجيل متى الذي نصّ على أن «يسوع بن يوسف النجار(6/91)
ابن يعقوب بن متان بن اليعازر، ابن اليهود بن أخيم» الى آخر هذا النسب الذي يصل الى يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهم السلام.
فالقرآن الكريم نزل بأن مريم عذراء وانه بعد بشارة الملك لها بهذا الغلام الزكي حملت به وانتبذت مكانا بعيدا عن الناس، وعانت وحدها آلام وضعه حتى تمنت الموت قبل هذا كما جاء في القرآن الكريم «فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ» إلخ الآيات. خاطبها هذا الوليد الكريم في مهده وهدأ من روعها، وطلب إليها أن تستعين على ضعفها بالرطب الجني، والماء الهني أو خاطبها الملك.
وكان أن وقع ما خشيته مريم من اتهامها بالسوء، فلما جاءت به الى قومها أنكروا عليها، واتهموها بما هي براء منه، فصامت عن الكلام وتولى الطفل الصغير في مهده الدفاع عن أمه الطاهرة النقية كما جاء في القرآن الكريم.
2- أسرار الفاءات:
وعدناك أن نتحدث عن أسرار الفاءات في قوله تعالى «فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ» في هذه الفاءات دليل على أن حملها به ووضعها إياه لأنه عطف الحمل والانتباذ الى المكان الذي مضت اليه والمخاض الذي هو الطلق بالفاء وهي للفور ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: «قتل الإنسان ما أكفره، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره، ثم السبيل يسره» فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه مدة متراخية عطف ذلك بثم وهذا بخلاف قصة مريم عليها(6/92)
السلام، فانها عطفت بالفاء وقد اختلف الناس في مدة حملها فقيل:
انه كحمل غيرها من النساء وقيل: لا بل كان مدة ثلاثة أيام، وقيل:
أقل، وقيل: أكثر، وهذه الآية مزيلة للخلاف لأنها دلت صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل أخذا بما دلت عليه الآية. هذا ما ورد في المثل السائر لابن الأثير، وقد رد ابن أبي الحديد في الفلك الدائر على ذلك بما أوردناه في سورة النحل من أن التعقيب على حسب ما يصح إما عقلا وإما عادة الى أن يقول: وليست الفاء للفور الحقيقي الذي معناه حصول هذا بعد هذا بغير فصل ولا زمان كما توهمه هذا الرجل ألا ترى الى قوله تعالى: «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ»
فإن العذاب متراخ عن الافتراء فلا يدل قوله تعالى في قصة مريم على أن الحمل والمخاض كانا في يوم واحد.
قلت:
قلت: بحث ابن أبي الحديد متجه والذي قاله ابن الأثير لا يخلو من ضعف وقد اختلف المفسرون في مدة حملها فقال ابن عباس تسعة أشهر كما في سائر النساء وقال عطاء وأبو العالية والضحاك سبعة أشهر وقال ابن عباس أيضا في ساعة واحدة وقال آخر لثمانية أشهر وقال آخرون ستة أشهر وقال آخرون ثلاث ساعات ورجح الامام الرازي انه في ساعة وقال: «ويمكن الاستدلال له بوجهين» وذكر في الوجه الاول ما قاله ابن الأثير وذكر في الوجه الثاني: «ان الله تعالى قال في وصفه: ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فثبت أن عيسى عليه السلام لما قال الله له كن فكان وهذا مما(6/93)
لا يتصور فيه مدة الحمل انما تعقل تلك المدة في حق من يتولد من النطفة» .
ومذهب الشافعية أن أكثر مدة الحمل أربع سنين وأقله ستة أشهر وقد ولد الضحاك بن مزاحم لستة عشر شهرا وشعبة ولد لسنتين وهرم بن سنان ولد لأربع سنين ولذلك سمي هرما ومالك بن أنس حمل به أكثر من ثلاث سنين، والحجاج بن يوسف ولد لثلاثين شهرا، ويقال انه كان يقول: اذكروا ليلة ميلادي، ويقال: إن عبد الملك بن مروان حمل به ستة أشهر والشافعي حمل به أربع سنين أو أقل، والحنفية يقولون للشافعية: ما جسر إمامكم أن يظهر الى الوجود حتى توفي إمامنا، ويجيبهم الشافعية بقولهم: بل إمامكم ما ثبت لظهور إمامنا.
القول الفصل في الفاء العاطفة:
والفاء في أصل وضعها للترتيب المتصل، والترتيب على ضربين:
1- الترتيب في المعنى: هو أن يكون المعطوف بها لاحقا متصلا بلا مهلة كقوله تعالى «خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ» والأكثر كون المعطوف بها متسببا عما قبله كقولك: أملته فمال وأقمته فقام.
2- الترتيب في الذكر: وهو نوعان: أحدهما عطف مفصل على مجمل هو هو في المعنى كقولك توضأ فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه ومنه قوله تعالى: «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ... » الآية.
وتكون عطفا لمجرد المشاركة في الحكم بحيث يحسن بالواو كقول امرئ القيس: «بين الدخول فحومل» .(6/94)
وتخنص الفاء بعطف ما لا يصلح كونه صلة على ما هو صلة كقولك الذي يطير فيغضب زيد الذباب فلو جعلت موضع الفاء واوا أو غيرها فقلت الذي يطير ويغضب زيد، أو ثم يغضب زيد الذباب لم تجز المسألة لأن يغضب زيد جملة لا عائد فيها على الذي فلا يصلح أن يعطف على الصلة لأن شرط ما يعطف على الصلة أن يصلح وقوعه صلة فإن كان العطف بالفاء لم يشترط دلك لأنها تجعل ما بعدها مع ما قبلها في حكم جملة واحدة لإشعارها بالسببية كأنك قلت: الذي ان يطر يغضب زيد الذباب وقد يعطف بالفاء متراخيا كقوله تعالى: «وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» إما لتقدير متصل قبله وإما لحمل الفاء على ثم.
الفاء الفصيحة:
وقد تحذف الفاء مع المعطوف بها إذا أمن اللبس وكذلك الواو فمن حذف الفاء قوله تعالى: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ» التقدير فامتثلتم فتاب عليكم وقوله تعالى: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» معناه فأفطر فعليه عدة وهذه العاطفة على الجواب المحذوف يسميها أرباب المعاني «الفاء الفصيحة» قال صاحب الكشاف في قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ» تقديره فعملا به وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا الحمد لله.
وقال صاحب المفتاح: «هو إخبار عما صنع بهما وعما قالاه كأنه قيل: نحن فعلنا الإيتاء وهما فعلا الحمد وهذا الباب كثير في القرآن وهو من جملة فصاحته ولهذا أسماها أرباب المعاني الفاء الفصيحة.(6/95)
أما ابن الحاجب فقد قال: ان المعتبر ما يعد في العادة مرتبا من غير مهلة فقد يطول الزمان والعادة تقضي في مثله بانتفاء المهلة وقد تقصر والعادة تقضي بالعكس فإن الزمن الطويل قد بستغرب بالنسبة الى عظم الأمر فتستعمل الفاء وقد يستبعد الزمن القريب بالنسبة الى طول أمر يقضي العرف بحصوله في زمان أقل منه، والذي يظهر من كلام الجماعة أن استعمال الفاء فيما تراخى زمانه ووقوعه من الأول سواء قصر في أولا وإنما هو بطريق المجاز» .
وقال الجرمي: لا تفيد الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل «بين الدخول فحومل» مطرنا مكان كذا فمكان كذا إذا كان وقوع المطر فيهما في وقت واحد واعترض على معنى التعقيب بقوله تعالى:
«الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» فإن إخراج المرعى لا يعقبه جعله غثاء أحوى أي يابسا أسود والجواب من وجهين:
آ- ان جملة فجعله غثاء أحوى معطوفة على جملة محذوفة وان التقدير فمضت مدة فجعله غثاء.
ب- ان الفاء نابت عن ثم والمعنى جعله غثاء وسيأتي تفصيل ذلك في حينه.
3-لماذا انقشع الحزن عنها بسبب وجود الطعام والشراب؟
ولا بد هنا من الاجابة على سؤال قد يرد فإن ظاهر الكلام يدل على أن حزنها سينقشع بسبب وجود الطعام والشراب وذلك في قوله تعالى: «فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً» ومعلوم بأن حزنها لم يكن بسبب ذلك، ولا هو ناجم عن فقدان الطعام والشراب ولكن السر في(6/96)
ذلك أن التسلية ونسيان الحزن لم يقعا بها من حيث أنهما طعام وشراب ولكن من حيث أنهما معجزة باهرة ترهص لها، وتدحض باطل القوم وتثبت كذبهم وإرجافهم، كما تثبت أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة وأنها بمعزل عما قرفوها به ثم ان الأمور الخارجة عن العادات لا يمكن إلا أن تكون إلهية ولحكمة نجهلها ومن ذلك ولادتها عيسى من غير فحل وهذا من عجائب الاساليب.
لماذا منعت من الكلام؟
وهناك سؤال آخر قد يثب الى الذهن بعد هذا كله وهو: ان الله أمرها بأن تمتنع من الكلام لأمرين:
آ- أن يكون عيسى عليه السلام هو المتكلم عنها ليكون أقوى لحجتها وأرهص للمعجزة وبالتالي لإزالة عوامل الريبة المؤدية الى اتهامها بما يشين.
ب- تشريع الكراهية لأية مجادلة مع السفهاء وقد رمق الشاعر سماء هذا المعنى فقال:
يخاطبني السفيه بكل قبح ... وأكره أن أكون له مجيبا
4- مواضع زيادة الباء:
آ- في الفاعل وزيادتها تكون واجبة في فعل التعجب الوارد على صيغة الأمر نحو أحسن بزيد وعلة الزيادة إصلاح اللفظ وإعرابه أحسن فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره منع من ظهوره اشتغال المحل بالسكون العارض لأجل الصيغة وبزيد الباء حرف جر زائد وزيد فاعل(6/97)
مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد وتكون غالبة وذلك في فاعل كفى التي بمعنى حسب والتي هي فعل لازم نحو كفى بالله شهيدا ولا تزاد الباء في فاعل كفى التي بمعنى أجزأ أو أغنى ولا التي بمعنى وقى والأولى متعدية لواحد نحو:
قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل
والثانية متعدية لاثنين كقوله تعالى «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» .
قال ابن هشام: «ووقع في شعر المتنبي زيادة الباء في فاعل كفى المتعدية لواحد قال:
كفى ثعلا فخرا بأنك منهم ... ودهر لأن أمسيت من أهله أهل
ولم أر من انتقد عليه» وقد استعجل ابن هشام بهذا الحكم فقد انتقد عليه ذلك أبو البقاء في شرحه الممتع للديوان وأفاض في إعراب البيت كما انتقد المعري أيضا ولسنا بصدد التحقيق في ذلك فلعلك ترجع الى شرح أبي البقاء والى مغني اللبيب.
ب- في المفعول به نحو قوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ» وقول أبي الطيب:
كفى بجسمي نحولا انني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني(6/98)
ج- في المبتدأ نحو بحسبك درهم وخرجت فإذا بزيد وكيف بك فكيف اسم استفهام خبر مقدم وبك الباء حرف جر زائد والكاف في محل جر بالباء وفي محل رفع بالابتداء وقد نابت الكاف عن أنت لدخول حرف الجر والمعنى كيف أنت إذا كان الأمر حاصلا.
د- في الخبر وهو ينقاس في غير الموجب نحو ليس زيد بقائم وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون وفي غير الموجب متوقف على الساع.
هـ- في الحال المنفي عاملها كقوله:
فما رجعت بخائبة ركاب ... حكيم بن المسيّب منتهاها
وفي التوكيد بالنفس والعين نحو جاء زيد بنفسه وبعينه.
5- مبحث هام حول كان:
قوله تعالى «كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا» جرينا في اعرابها على أنها ناقصة واسمها مستتر تقديره هو وصبيا خبرها وممن أعربها كذلك الزمخشري ووعدنا أن ننقل الخلاف الذي ثار حولها لطرافته ولما فيه من رياضة ذهنية:
أما أبو البقاء فقد أعربها زائدة أي من هو في المهد وصبيا حال من الضمير في الجار والضمير المنفصل المقدر كان متصلا بكان وقيل كان الزائدة لا يستتر فيها ضمير فعلى هذا لا تحتاج الى تقدير هو بل يكون الظرف صلة من وقيل ليست زائدة بل هي كقوله «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» وقيل هي بمعنى صار وقيل هي التامة ومن بمعنى الذي وقيل شرطية وجوابها كيف.(6/99)
وقال الشهاب الحلبي المعروف بالسمين: في كان هذه أقوال:
آ- انها زائدة وهو قول أبي عبيد أي كيف نكلم من في المهد، وصبيا على هذا نصب على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والواقع صلة.
ب- انها تامة بمعنى حدث ووجد والتقدير كيف نكلم من وجد صبيا وصبيا حال من الضمير في كان.
ح- انها بمعنى صار أي كيف نكلم من صار في المهد صبيا، وصبيا على هذا خبرها.
د- انها الناقصة على بابها من دلالتها على اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي من غير تعرض للانقطاع كقوله تعالى «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» ولذلك يعبر عنها بأنها ترادف لم يزل.
وقال ابن الأنباري في «أسرار العربية» كان هنا تامة وصبيا منصوب على الحال ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا اختصاص لعيسى عليه السلام في ذلك لأن كلا كان في المهد صبيا ولا عجب في تكليم من كان فيما مضى في حال الصبا.
وبعد كتابة ما تقدم وقعت على ما قاله أبو طاهر حمزة في رسالة له سماها «المنيرة المعربة عن شرف الاعراب» وأنقل لك خلاصته ففيه وجاهة وطرافة وهي تؤيد ما ذهبنا اليه من بقاء كان على وجهها قال:
«لكن الوجه ان كان من قصد الخبر الآن عن حالهم لأنهم أكبروا ذلك(6/100)
في وقت كونه في المهد فكأنه قال: أكبروا تكليم صبي كائن في المهد طفلا فيكون الكون من لفظ المخبر لا من لفظهم كقول الحطيئة يصف الرياض:
يظل بها الشيخ الذي كان فانيا ... يدب على عوج له نخرات
فلم يك فانيا قبل دبيبه بل وقت دبيبه فذكر الكون من لفظ المخبر» .
قلت:
قلت: وهذا كله دندنة في غير طائل والأجود ما اخترناه واختاره الزمخشري ويأتي في المرتبة بعده أن تكون زائدة أما تقديرها تامة فبعيد جدا لأن عيسى لم يخلق ابتداء في المهد.
6- بغيا:
أصله بغويا اجتمعت فيه الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء ثم أدغم الياء في الياء وإلا لو كان فعيلا بمعنى فاعل لحقته التاء وقال البيضاوي: «وهو فعول من البغي قلبت واوه وأدغمت ثم كسرت العين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء أو فعيل بمعنى فاعل لم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسب كطالق» وقال بعضهم: البغي خاص بالمؤنث فلا يقال رجل بغي انما يقال امرأة بغي لكن نقل بعضهم عن المصباح انه يقال رجل بغي كما يقال امرأة بغي.(6/101)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40)
الإعراب:
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) ذلك اسم اشارة مبتدأ وعيسى خبره وابن مريم بدل وقول الحق مفعول مطلق لفعل محذوف أي قلت، أو مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا واختار الزمخشري أن يكون منصوبا على المدح بفعل محذوف تقديره امدح، هذا وقد فرق أبو حيان بين الاعرابين فقال:
«وانتصاب قول على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذه الأخبار عن عيسى بن مريم ثابت صدق ليس منسوبا لغيرها أي انها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل أي أقول الحق وأقول قول الحق فيكون الحق هو الصدق وهو من إضافة(6/102)
الموصوف الى الصفة» ، والذي نعت للقول إن أريد به عيسى وسمي قولا كما سمي كلمة لأنه عنها نشأ أو صفة للحق نفسه وفيه متعلقان بيمترون وجملة يمترون صلة الموصول. (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولله خبرها المقدم وأن يتخذ مصدر مؤول اسم كان ومن زائدة وولد مجرور بمن لفظا مفعول به منصوب محلا وسبحانه مفعول مطلق لفعل محذوف. (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تقدم اعراب أمثالها كثيرا ونعيد اعراب فيكون الفاء استئنافية ويكون مرفوع أي فهو يكون وكان هنا تامة وقرئ بنصب فيكون بأن مضمرة بعد فاء السببية الواقعة بعد الطلب.
(وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الواو استئنافية والجملة مستأنفة ولذلك كسرت همزة إن وقرئ بفتحها بحذف حرف الجر وان واسمها وربي خبرها وربكم عطف على ربي فاعبدوه الفاء الفصيحة وقد تقدم بحثها واعبدوه فعل أمر وفاعل ومفعول به وهذا مبتدأ وصراط خبر ومستقيم صفة لصراط والجملة حالية وسمي القول صراطا مستقيما تشبيها له بالطريق الآيل للنجاة. (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الفاء استئنافية واختلف الأحزاب فعل وفاعل ومن بينهم حال من الأحزاب والمعنى حال كون الأحزاب بعضهم وتفصيل اختلافهم وأنواع فرقهم يرجع إليها في الملل والنحل للشهرستاني وفي الفصل بين الملل والنحل لابن حزم الاندلسي وفي المطولات. (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) الفاء عاطفة وويل مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لتضمنها معنى الدعاء وللذين خبر ويل وجملة كفروا صلة ومن مشهد متعلقان بويل ومشهد مصدر ميمي أي من شهودهم بمعنى حضورهم ويجوز أن يكون اسم زمان أو مكان. (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أسمع فعل ماض أتى على صيغة الأمر أو مبني على(6/103)
الفتح المقدر على الآخر الساكن والباء حرف جر زيدت في الفاعل الذي أتى ضمير نصب أو جر لمناسبة الباء وقد تقدم بحث التعجب مفصلا والتعجب هنا مصروف الى المخاطبين، لكن مخففة مهملة والظالمون مبتدأ وفي ضلال خبر ومبين صفة وأوقع الظاهر موقع المضمر اشعارا بأن ظلمهم بلغ الغاية وأربى على النهاية ويوم يأتوننا متعلق بأسمع وأبصر. (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أنذرهم فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول ويوم الحسرة ظرف متعلق بأنذرهم والأحسن أن يكون مفعولا به أي خوّفهم نفس اليوم وإذ متعلق بالحسرة والمصدر المعرف بأل يعمل في المفعول الصريح فكيف بالظرف ويجوز أن يكون بدلا من يوم الحسرة فيكون معمولا لأنذر وبذلك يتأكد أن يوم الحسرة مفعول به لا ظرف، وهم الواو حالية وهم مبتدأ وفي غفلة خبر وهم لا يؤمنون جملة حالية منتظمة مع سابقتها والحالان إما من الضمير المستتر في قوله في ضلال مبين أي استقروا في ضلال مبين على هاتين الحالين السيئتين فتكون جملة وأنذرهم اعتراضا واما من المفعول في أنذرهم على هاتين الحالين السيئتين، (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) إن واسمها ونحن تأكيد لاسم نا الذي هو بمعنى نحن لأنه بمعناه وجملة نرث الأرض خبر إنا ومن عطف على الأرض وعليها متعلقان بمحذوف صلة من وإلينا متعلقان بيرجعون ويرجعون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل ولك في الواو بقوله وإلينا أن تجعلها حالية أو عاطفة.
البلاغة:
المجاز المرسل في قوله «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» والعلاقة الحالية والمراد جهنم فأطلق الحال وأريد المحل لأن الضلال لا يحل فيه(6/104)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
وإنما يحل في مكانه وكذلك قوله: وهم في غفلة والغفلة لا يحل فيها أيضا وإنما يحل بالمتالف التي توقع الغفلة أصحابها فيها.
[سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)(6/105)
اللغة:
(الصِّدِّيقُ) : من أبنية المبالغة ونظيره الضحيّك والنّطّيق والمراد أنه بليغ الصدق في أقواله وأفعاله وفي تصديق غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله.
(مَلِيًّا) : دهرا طويلا.
(حَفِيًّا) :
في المختار: «وحفي به بالكسر حفاوة بفتح الحاء فهو حفي أي بالغ في إكرامه وإلطافه والعناية بأمره، والحفي أيضا المستقصي في السؤال ومن الأول قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» ومن الثاني قوله تعالى: «كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» .
الإعراب:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) الواو استئنافية واذكر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وفي الكتاب متعلقان باذكر وابراهيم مفعول به وان واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وصديقا خبر كان الأول ونبيا خبرها الثاني. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)
إذ اختلف المعربون فيها فعلقها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما بكان أو بصديقا نبيا أي كان جامعا لخصائص النبيين والصديقين حين خاطب أباه تلك المخاطبات وهذا مبني على عمل كان الناقصة وأخواتها في الظرف غير خبرها واسمها وفيه خلاف وأعربها الزمخشري وأبو البقاء وغيرهما أيضا بدلا من ابراهيم بناء على حذف مضاف أي نبأ ابراهيم فتكون جملة إنه كان صديقا نبيا معترضة وفيه أيضا انه مبني على تصرف إذ(6/106)
وقد تقدم بحثها والقول بأنها لا تتصرف وجملة قال مضافة إليها الظرف ولأبيه متعلقان بقال ويا حرف نداء وأبت منادى مضاف لياء المتكلم المعوض عنها بالتاء وقد تقدمت الاشارة الى ذلك ولا يجوز الجمع بين المعوض والمعوض عنه فلا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء وشبه ذلك سيبويه بأينق وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة وسيرد المزيد من هذا البحث في باب الفوائد مع ترجمة مستفيضة لسيبويه. ولم أصلها اللام الجارة وما الاستفهامية وقد تقدم أن ألفها تحذف إذا سبقها حرف جر وتنزل اللام معها منزلة الكلمة الواحدة فتكتب الألف ياء فتقول إلام وعلام وحتام وهي متعلقة مع مجرورها بتعبد وفاعل تعبد ضمير مستتر تقديره أنت وما اسم موصول مفعول به وجملة لا يسمع صلة وما بعدها معطوفة عليها وشيئا مفعول به أو مفعول مطلق وقد تقدم تقريره. (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) يا أبت تقدم اعرابها وان واسمها وجملة قد جاءني خبرها ومن العلم متعلقان بجاءني ومن للتبعيض وما اسم موصول فاعل وجملة لم يأتك صلة فاتبعني الفاء الفصيحة أي ان شئت الهداية والنجاة واتبعني فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول به واهدك جواب الطلب ولذلك جزم والكاف مفعول به وصراطا مفعول به ثان أو منصوب بنزع الخافض وسويا صفة لصراطا. (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) لا ناهية وتعبد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت والشيطان مفعول به وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر وللرحمن متعلقان بعصيا وعصيا خبر كان. (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) إن واسمها وجملة أخاف خبرها وأن يمسك ظرف مؤول مفعول به لأخاف وعذاب فاعل يمسك ومن(6/107)
الرحمن صفة لعذاب فتكون عطف على أن يمسك واسم تكون مستتر تقديره أنت وللشيطان متعلقان بوليا، ووليا خبر تكون ومعنى الولي هنا القرين. (قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) الهمزة للاستفهام الانكاري وراغب مبتدأ وسوغ الابتداء اعتماده على أداة الاستفهام وأنت فاعل سد مسدّ الخبر وأعربه الزمخشري خبرا مقدما وأنت مبتدأ مؤخرا ولا موجب لذلك بعد وجود القاعدة وسيأتي تقريرها في باب الفوائد وما تخللها من أبحاث تذهل الألباب، ويا حرف نداء وابراهيم منادى مفرد علم مبني على الضم. (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) اللام موطئة للقسم وإن شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتنته فعل مضارع مجزوم بلم ولأرجمنك اللام واقعة في جواب القسم كما هي القاعدة في اجتماع القسم والشرط وأرجمنك فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به واهجرني الواو عاطفة واهجرني معطوف على محذوف عند من يمنع عطف الانشائية على الخبرية والتقدير فاحذرني واهجرني، على أن سيبويه يجيز عطف الجملة الخبرية على الجملة الانشائية فليس هذا التقدير بلازم ومليا ظرف زمان متعلق باهجرني وقيل هو حال من فاعل اهجرني ومعناه سالما سويا لا يصيبك من معرة. (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) سلام مبتدأ وسوغ
الابتداء به ما فيه من معنى الدعاء والمراد بالدعاء هنا التوديع والازماع على الفراق وعليك خبر وسأستغفر السين للاستقبال وأستغفر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا وإنما جاز له الاستغفار للكافر الرجاء بأن يوفق الى الايمان الموجب لغفران الذنوب ولك متعلقان بأستغفر وربي مفعول به وجملة إنه تعليلية لا محل لها وإن واسمها وجملة كان خبرها واسم كان مستتر تقديره هو وحفيا خبرها وبي متعلقان بحفيا. (وَأَعْتَزِلُكُمْ(6/108)
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)
الواو عاطفة وأعتزلكم أي أترككم مرتحلا من بلادكم والفاعل مستتر والكاف مفعول به وما الواو حرف عطف وما يجوز أن تكون موصولة أو مصدرية. وعلى كل حال موضعها نصب عطف على الكاف أو مفعول معه وجملة تدعون صلة ومن دون الله حال. (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) وأدعو عطف على أعتزلكم وفاعله مستتر تقديره أنا وربي مفعول به وعسى فعل ماض من أفعال الرجاء واسمها مستتر وأن وما في حيزها هي الخبر واسم أكون مستتر تقديره أنا وبدعاء متعلقان بشقيا وربي مضاف لدعاء وشقيا خبر أكون. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) لما ظرفية حينية أو رابطة واعتزلهم فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به وما يعبدون من دون الله تقدم اعرابها أي تركهم فعلا من بابل الى الأرض المقدسة وجملة وهبنا لا محل لها لأنها جواب لما وله متعلقان بوهبنا واسحق مفعول وهبنا ويعقوب عطف على اسحق وكلا مفعول به أول لجعلنا ونبيا هو المفعول الثاني. (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) ووهبنا عطف على وهبنا الأولى ولهم متعلقان بوهبنا أي لابراهيم وولديه ومن رحمتنا متعلقان بوهبنا أيضا وجعلنا عطف على وهبنا ولهم في موضع المفعول الثاني لجعلنا ولسان صدق هو المفعول الاول وعليا صفة للسان وهو الثناء الحسن كما سيأتي في باب البلاغة.
البلاغة:
1- فن الاستدراج:
بلغت هذه الآيات ذروة البلاغة، وانطوت على معاجز تذهل العقول فأول ما يطالعنا منها فن يعرف بالاستدراج وهو يقوم على(6/109)
مخادعة المخاطب تقوم فيه الأقوال مقام الأفعال فلا يزال يترفق بالمخاطب ويداوره ويلاينه حتى يسقط في يده ويستلين ويعلن استسلامه وهو يشبه أصحاب الجدل في الكلام والمنطق والفلسفة ولكن أولئك يتصرفون في المغالطات القياسية أما الشاعر أو الكاتب فهو في استدراجه يتصرف في المغالطات الخطابية. وقد أحسن الامام الزمخشري في تحليل هذا الفن وان لم يسمه فحلل هذا الفصل تحليلا عجيبا وقد شاء ضياء الدين بن الأثير الذي استخرج هذا الفن أن يغير على فصل الزمخشري فنسفه برمته ونسبه اليه وسننصف الزمخشري من سالبيه فننقل فصله برمته وعلى طوله فهو كالحسن غير مملول.
«انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا ... وذلك أنه طلب منه أولا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه، موقظ لإفراطه وتناهيه لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب، نافعا ضارا، إلا أنه بعض الخلق لاستخفّ عقل من أهلّه للعبادة ووصفه بالربوبية، ولسجل عليه بالغي المبين والظلم العظيم وان كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة ... فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور فلا يسمع يا عابده ذكرك له، وثناءك عليه، ولا يرى هيئات خضوعك وخشوعك له فضلا أن يغني عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه أو تسنح لك حاجة فيكفيكها، ثم ثنّى بدعوته الى الحق مترفقا به متلطفا فلم يسم إياه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال:(6/110)
إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضلّ وتتيه، ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن، الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال، وعدو أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان إلا أن ابراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ولم يلتفت الى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه، ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال ولم يخل ذلك من حسن الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به ولكنه قال: أخاف أن يمسك عذاب، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه وسماه الله تعالى المشهود له بالفوز العظيم ... فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله أكبر من العذاب نفسه وأعظم، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله «يا أبت» توسلا إليه واستعطافا ... أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله با أبت بقوله يا بني وقدم الخبر على المبتدأ في قوله «أراغب أنت» لأنه كان أهم عنده وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبة ابراهيم عن آلهته» .(6/111)
2- المجاز المرسل:
وفي قوله تعالى «وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» مجاز مرسل من إطلاق اسم الآلة وهي اللسان لأنها آلة الكلام وإرادة ما ينشأ عنها فعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهو العطاء فهو مجاز علاقته السببية.
الفوائد:
1- المبتدأ الصفة:
قد يرفع الوصف بالابتداء إن لم يطابق موصوفه تثنية أو جمعا فلا يحتاج الى خبر بل يكتفي بالفاعل أو نائبه فيكون مرفوعا به سادا مسدّ الخبر بشرط أن يتقدم الوصف نفي أو استفهام وتكون الصفة حينئذ بمنزلة الفعل فلا تثنى ولا تجمع ولا توصف ولا تصغر ولا تعرف ويتناول الوصف اسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة واسم التفضيل والمنسوب ولا فرق بين أن يكون الوصف مشتقا نحو:
ما ناجح الكسولان وهل محبوب المجتهدون أو اسما جامدا فيه معنى الصفة نحو هل صخر هذان المعاندان فصخر مبتدأ وهو اسم جامد بمعنى الوصف لأنه بمعنى صلب قاس وهذان فاعل لصخر أغنى عن الخبر، وما وحشي أخلاقك فوحشي مبتدأ وهو اسم جامد فيه معنى الصفة لأنه اسم منسوب فهو بمعنى اسم المفعول وأخلاقك نائب فاعل له أغنى عن الخبر ولا فرق بين أن يكون النفي والاستفهام بالحرف أو بغيره نحو: ليس كسول ولداك وغير كسول أبناؤك وكيف سائر أخواك غير انه مع ليس يكون الوصف اسما لها والمرفوع بعده مرفوعا(6/112)
به سادا مسد الخبر ومع غير ينتقل الابتداء إليها ويجر الوصف بالاضافة إليها ويكون ما بعد الوصف مرفوعا به سادا مسد الخبر وبذلك ينحل الإشكال الوارد في بيت أبي نواس:
غير مأسوف على زمن ... ينقضي بالهم والحزن
فغير مبتدأ لا خبر له بل لما أضيف اليه مرفوع يغني عن الخبر وذلك لأنه في معنى النفي والوصف بعده مجرور لفظا وهو في قوة المرفوع بالابتداء أي فحركة الرفع التي على غير هي التي يستحقها هذا الاسم بالاصالة لكنه لما كان مشغولا بحركة الجر لأجل الاضافة جعلت حركته التي كانت له بطريق الأصالة من حيث هو مبتدأ على بطريق العارية وعلى زمن في محل رفع نائب فاعل لمأسوف سد مسد الخبر وجملة ينقضي بالهم والحزن صفة لزمن وقد أورد بن هشام هذا البيت في مغني اللبيب وأورد وجهين آخرين تراهما بعيدين كل البعد وخاصة الثالث الذي اعترف ابن هشام بتصفه فليرجع إليهما.
فإن لم يقع الوصف بعد نفي أو استفهام فلا يجوز هذا الاستعمال فلا يقال مجتهد غلاماك بل تجب المطابقة نحو مجتهدان غلاماك وحينئذ يكون خبرا مقدما وما بعده مبتدأ مؤخرا وأجازه الكوفيون لأنهم لم يشترطوا اعتماد الصفة على النفي والاستفهام واستشهدوا بقوله:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت
فأعربوا قوله بنو لهب فاعلا لخبير دون أن يعتمد على نفي أو استفهام واعتذر البصريون عن البيت بأن خبيرا على وزن فعيل وفعيل على وزن المصدر كصهيل وزئير والمصدر يخبر به عن المفرد أو المثنى(6/113)
والجمع فأعطي حكم ما هو على زنته فهو على حد قوله تعالى «وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» ، وقد شايع أبو الطيب الكوفيين لأنه من الكوفة ولأن له كلفا بمراغمة النحاة كما أشرنا الى ذلك غير مرة فقال بيته الممتع:
دع النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما العمر
فمفترق مبتدأ وجاران فاعل سد مسد الخبر ولا يجوز أن تقول إن مفترقا خبر مقدم لأنه كان يجب أن يطابق قوله جاران والحاصل:
انه إذا رفع الوصف ما بعده فله ثلاثة أحوال:
1- وجوب الابتداء إذا لم يطابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائم أخواك.
2- وجوب الخبرية إذا طابق ما بعده في التثنية والجمع نحو أقائمان أخواك.
3- جواز الوجهين إذا طابق ما بعده في التذكير والتأنيث نحو:
أقائم أخوك وأ قائمة أختك.
ومحل جواز الوجهين ما لم يوجد مانع وجعل بعض العلماء من الموانع في قوله تعالى «أراغب أنت عن آلهتي» فتتعين الابتدائية للزوم الفصل إذا جعلته خبرا بينه وبين معموله وهو الجار والمجرور وردّ ذلك آخرون مدافعين عن الزمخشري بأن قوله عن آلهتي متعلق آخر أما الزمخشري وابن الحاجب فقد اشترطا في الأصل أن يكون المرفوع اسما ظاهرا ولكن الزمخشري نفسه أجاز إعراب أنت فاعلا لراغب.(6/114)
2- عود إلى «يا أبت» :
تحدثنا عن اللغات في المنادى المضاف الى ياء المتكلم فأما التاء في يا أبت ويا أمت فتاء التأنيث بمنزلة التاء في قائمة وامرأة، قال سيبويه:
سألت الخليل عن التاء في يا أبت لا تفعل ويا أمت فقال هذه التاء بمنزلة الهاء في خالة وعمة يعني أنها للتأنيث والذي يدل على أنها للتأنيث أنك تقول في الوقف يا أبه ويا أمه فتبدلها هاء في الوقف كقاعد وقاعده على حد خال وخاله وعم وعمه ودخلت هذه التاء كالعوض من ياء الاضافة والأصل يا أبي ويا أمي فحذفت الياء اجتزاء بالكسرة قبلها ثم دخلت التاء عوضا عنها ولذلك لا تجتمعان فلا تقول يا أبتي ولا يا أمتي لئلا يجمع بين المعوض والمعوض عنه ولا تدخل هذه التاء فيما له مؤنث من لفظه فلو قلت في يا خالي ويا عمي يا خالت ويا عمت لم يجز لأنه كان يلتبس بالمؤنث فأما دخول التاء على الأم فلا إشكال فيها لأنها مؤنثة.
وأما دخولها على الأب فلمعنى المبالغة كما في راوية وعلامة.
3- من هو سيبويه:
وقد تردد اسم سيبويه كثيرا ولا بد لنا من إلقاء نظرة عاجلة على قصة حياته لأن فيها فائدة ولأنه ترك لنا في نحو البصريين الكتاب الذي خلد الى يومنا هذا، وكان كتاب النحو الجامع حتى قيل فيه قرآن النحو.
فهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي وهي نسبة الى الحارث بن كعب قبيلة يمنية وهذه النسبة بالولاء فقد كان سيبويه فارسيا فأما لقبه فسيبويه وقد غلب عليه وهو فارسي مركب مزجي من سيب أي التفاح وبوى أي الرائحة فمعناه رائحة التفاح على قاعدة(6/115)
الأوصاف باللغة الفارسية سمي بذلك لطيب رائحته أو لجماله وحسن خلقه وقيل مركب من سيب وويه اسم صوت ويذكر بعض العارفين باللسان الفارسي ان ويه في هذا اللسان معناها مثل وشبه، فمعنى التركيب مثل التفاح وهكذا نفطويه: مثل النفط وعمرويه: مثل عمرو.
حكم سيبويه:
والجاري على الألسنة سيبويه بفتح الباء والواو والهاء مكسورة وهذا حكم شائع في الاعلام المختومة بويه جاء في الكتاب قول سيبويه:
«وعمرويه عندهم بمنزلة حضر موت في انه ضم الآخر الى الأول وعمرويه في المعرفة مكسور في حال الجر والرفع والنصب غير منون وفي النكرة تقول هذا عمرويه آخر ورأيت عمرويه آخر» وتراه في الكتاب اقتصر على المشهور عند الناس وقد ينطق سيبويه بضم الباء وفتح الياء وسكون الهاء ويعزى هذا الى العجم تجنبوا الصورة الأولى لأن ويه صوت ندبة.
مولده ونشأته:
ولد سيبويه في البيضاء من كورة إصطخر بفارس من أبوين فارسيين ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ ولادته وقد انتقل الى البصرة فتلقى العلم فيها وكانت هي والكوفة المصرين المبرزين في علوم العربية والدين ولا يعرف شيئا عن أسرته إلا ما ذكر أنه مات بين يدي أخيه ولا ندري هل انتقلت معه الى البصرة أسرته ونحن لا نرى لأبيه ذكرا ونرى بشارا يهجوه حين اشتهر أمره فيقول:
ظللت تغني سادرا في مساءتي ... وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ(6/116)
ويظهر من هذا أن أمه كانت معه في العراق ولا ندري هل تزوج وفي حديث للفراء أن سيبويه كانت له جارية تخدمه وفي طبقات النحاة أن جاريته مزقت جزازات كتابه فطلقها فهل يريد بجاريته زوجته أو يريد بتطليقها إخراجها من بيته؟ والظاهر انه لم يكن له زوج ولا ولد وآية ذلك انه بعد أن أخفق في بغداد في قصته مع الكسائي- على ما يأتي- أم يعد الى منزله بالبصرة.
كيف طلب النحو؟
اختلف سيبويه الى حماد بن سلمة شيخ الحديث والرواية في البصرة في عصره فألقى عليه حماد الحديث: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد من أصحابي إلا أخذت عليه ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه، وكان قد شدا شيئا من النحو: ليس أبو الدرداء فقال حماد لحنت يا سيبويه، فقال سيبويه: لا جرم لأطلبن علما لا تلتحنني فيه أبدا، واتجه لدرس النحو فلزم الخليل وقد ظن سيبويه أن الواجب رفع ما بعد ليس ليكون اسما لها ولم يكن عرف أسلوب ليس في الاستثناء وقد عرض سيبويه لذلك في الكتاب وأشبعه بيانا وتعليلا.
بوادر نبوغه وحرية فكره:
وكان أكثر تلقيه عن الخليل حتى انه إذا قال: قال أو سألته فإنه يعني الخليل، وكان الخليل قد عرف له قدره وثقابة ذهنه وقوة فطنته فأبثه علمه ونصح له في التعليم، وأخذ عن غير الخليل: أخذ عن عيسى ابن عمر ويونس بن حبيب والأخفش الكبير أبي الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد ويذكر أبو زيد الأنصاري انه إذا قال سيبويه: أخبرني الثقة فإنما يعنيه وأول ما ظهر من بوادر نبوغه ما حدث به الأخفش قال: كنت عند يونس(6/117)
فقيل له: قد جاء سيبويه فقال أعوذ بالله منه فجاء فسأله فقال: كيف تقول:
مررت به المسكين؟ فقال جائز أن أجره على البدل من الهاء فقال له:
فمررت به المسكين بالرفع على معنى المسكين مررت به فقال هذا خطأ لأن المضمر قبل الظاهر فقال له: إن الخليل أجاز ذلك وأنشد فيه أبياتا فقال: هو خطأ، قال فمررت به المسكين بالنصب؟ فقال جائز، فقال على أي شيء؟ فقال على الحال، فقال أليس أنت أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام، فقال: صدقت ثم قال لسيبويه: فما قال صاحبك فيه؟ يعني الخليل، فقال سيبويه: قال انه ينصب على الترحم، فقال: ما أحسن هذا، ورأيته مغموما بقوله نصبته على الحال. وكان سيبويه مع إجلاله للخليل يزيف قوله ففي الكتاب: «وزعم الخليل انه يجوز أن يقول الرجل: هذا رجل أخو زيد إذا أردت أن تشبهه بأخي زيد وهذا قبيح لا يجوز إلا في موضع الاضطرار ولو جاز هذا لقلت هذا قصير الطويل تريد مثل الطويل فلم يجز هذا كما قبح أن تكون المعرفة حالا كالنكرة إلا في الشعر» .
بين سيبويه والكسائي:
وأتى الحظ والسعادة الكسائي وأصحابه فحلوا في بغداد محلا رفيعا وكان منهم مؤدبو أولاد الخلفاء وكانوا عند البصريين في النحو والأدب أقل منهم معرفة وأضعف أسبابا وقد رأى سيبويه- وهو إمام البصريين- أن يزاحمهم في مركزهم فقصد بغداد وعرض على البرامكة أن يجمعوا بينه وبين الكسائي ويناظره وكان واثقا انه سيكون له الفلح والظفر وبلغ الكسائي مقدم سيبويه وخشي مغبة المناظرة أن يزول سلطانه في بغداد فأتى جعفر بن يحيى بن برمك والفضل أخاه وقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل إنما قدم ليذهب محلي قالا(6/118)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما ويبدو أن فارسية سيبويه يقابلها فارسية الكسائي فهو أيضا فارسي من ولد بهمن بن فيروز وكان أسديا بالولاء فلم يكن لسيبويه ما يجعله أقرب الى قلوب البرامكة من الكسائي فدبر هو وأصحابه خطة كان لها ما توقعوه وهي: أن يتقدمه في مجلس المناظرة أصحابه فيسألوا سيبويه أسئلة ويتألبوا فيها عليه حتى إذا فترت همته وبان كلاله جاء الكسائي فوجد قرنا ذهب حده وعزب نشاطه فكان له ما أراد من صرعه وقد تقدمت قصة المسألة الزنبورية في موضع آخر من هذا الكتاب.
[سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 58]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58)(6/119)